Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore منزلة القرآن،عقد التأصيلي والتحديثي في فهمها - ابو يعرب المرزوقي

منزلة القرآن،عقد التأصيلي والتحديثي في فهمها - ابو يعرب المرزوقي

Published by فريق مكتب أبي يعرب المرزوقي, 2018-06-11 09:42:06

Description: منزلة القرآن،عقد التأصيلي والتحديثي في فهمها - ابو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أن الأصل في القانون هو وجها القيم الخمس الموجب منها أو السالب من حيث هي مكيفة‬ ‫قيميا للمقومات الخمسة‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن مقومات الإنسان الخمسة (الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود) لا‬‫يمكن ألا تكون مكيفة قيميا إما بالإيجاب فتكون الإرادة حرة والعلم صادقا والقدرة خيرة‬‫والحياة جميلة والوجود جليلا أو تكون العكس فيكون الإنسان خاضعا للعبودة والباطل‬ ‫والشر والقبح والذل‪ :‬والقانون على نوعين‪.‬‬‫القانون الذي ينبع من الأمانة والعدل والقانون الذي ينبع من خيانة الأمانة والظلم‪.‬‬‫وجرت العادة أن يوصف الأول بالخلقي والثاني بنفيها‪ .‬لكن الوصفين خلقيان أحدهما‬‫موجب والثاني سالب‪ .‬والأول يمثل معاني الإنسانية والثاني يمثل فساد معاني الإنسانية‪.‬‬ ‫لكن ما يفسد هذه المعاني هو غياب الكونية‪.‬‬‫ويمكن أن نشرح غياب الكونية بما يشبه نكتة جحا عندما قيل له يا جحا اشتعلت النار في‬‫بلدكم فرد هل وقع في مدينتنا؟ قالوا له نعم‪ .‬هل وقعت في حينا؟ قالوا نعم‪ .‬هل وقعت في‬‫بينتنا؟ قالوا نعم‪ .‬فقال \"اخطى رأسي واضرب\"‪ .‬الحمد لله أنا سالم ولا يعنيني في غيري‪.‬‬ ‫المشكل هو الأنائية والغيرية‪.‬‬‫ولأن الإنسان له هذه الخاصية التي تجعله يحدد مستويات ما يحرص عليه فهو بالتدريج‬‫ينتهي إلى أنه يقدم نفسه على كل ما عداه بدرجات تشبه ما وصفنا‪ .‬ولهذه العلة فهو‬‫يحاسب يوم الدين بنفس المعيار أي على افعاله التي يفسدها هذا الموقف النافي لوحدة‬ ‫المصير بين البشر بل وبينهم وبين العالم‪.‬‬‫فكان الرمز في الحساب على الأفعال التي هي شخصية {يوم يفر المرء من أخيه وأمه‬‫وأبيه وصاحبته وبنيه لكل أمرئ منهم يومئذ شأن يغنيه}‪ .‬لكنه يحاسب كفرد بسبب ما فرط‬‫فيه من الكلية بمعنى أنه لم يعامل الآخرين كما يأمل ذاته في معاملاته الدنيوية‪ .‬ومن هنا‬ ‫نجد درجات تحرر القانون من الأنانية‪.‬‬‫وهي درجات السمو إلى الكونية حتى يصبح الإنسان يتعامل مع كل المجودات بمعيار‬‫الامانة والعدل وهذه الدرجات خمسة‪ :‬الأسرة الصغرى والأسرة الكبرى ثم الأمة‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪48‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫والإنسانية ثم العالم‪ .‬فتجاوز الذات يزداد عسرا بحسب هذه الدرجات طردا ويسرا‬ ‫عكسا‪ .‬وهذا هو السند الفطري للقانونية ودرجاتها‪.‬‬‫فالإنسان أناني بالطبع وأدنى درجة لعدم الأمانة والعدل في الأسرة الضيقة وتتزايد‬‫الأنانية وقلة الأمانة والعدل في الأسرة الواسعة ثم في الأمة ثم في الإنسانية كلها ثم في‬‫العالم‪ .‬فيكون قانون حفظ الأسرة وقانون لحفظ صلة الرحم وقانون لحفظ الأمة وقانون‬ ‫لحفظ الإنسانية وقانون لحفظ العالم‪.‬‬‫وسأسمي هذه القوانين الخمسة قوانين حقوق الإنسان وواجباته وهي التي ينبغي أن‬‫يراعي فيها طلب الكلية التي يكون فيها الإنسان في تعامله مع اسرته الصغرى وأسرته‬‫الكبرى وأمته والإنسانية والعالم كما يريد أن يتعامل معه بمعياري الأمانة والعدل‪ .‬وهذا‬ ‫هو ما يستنتج من رؤية القرآن لقانون القانون‪.‬‬‫وقانون القانون يعني القانون الذي يحدد شروط شرعية أي قانون ومن ثم فهو جوهر‬‫الشريعة التي ظنها الفقهاء الأحكام‪ .‬الشريعة هي قانون القانون وليست القانون‪ .‬وهي‬‫ما إذا توفر في أي قانون كان شرعيا‪ .‬وبذلك فأساسه حرية الإرادة وصدق العلم وخير‬ ‫القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود أو تجاوز الذات‪.‬‬‫ولما كان تجاوز الذات ليس مضمونا لغلبة الأنانية على الإنسان ‪-‬كلهم كجحا في الطرفة‪-‬‬‫فإنه لا بد من وجود قانون للعلاقة بالأسرة الصغرى (الأحوال الشخصية) وقانون للعلاقة‬‫بالأسرة الكبرى (القانون الوطني) وقانون للأمة (قانون للأمة) وقانون للإنسانية‬ ‫(القانون الدولي) وقانون للعالم‪.‬‬‫والمثال الأعلى هو أن تكون كل هذه القوانين خاضعة للأمانة والعدل فتتحقق فيها‬‫الكونية‪ .‬لكن المشكل هو أن الكونية هذه قد تتعارض مع مدى فاعلية الحب والرحمة‬‫اللذين يتضاءلان كلما صعدنا في الكلية فهما أقوى ما يكون في الأسرة الصغرى ثم ينقص‬ ‫مفعولهما بالتوالي حسب هذه الترتيب‪.‬‬‫فالنساء‪-1‬جمعت بين نوعين من الرحم الكوني والجزئي‪ :‬فالآية بدأت بأن تكلمت على‬‫الرحم الكوني (كل البشر من نفس واحدة) والربوبية ثم ثنت بالكلام على الرحم الجزئي‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪49‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫(والارحام) والألوهية للعلم بأن الثانين أقل كلية من الاولين‪ :‬الإنسانية والربوبية واحدة‬ ‫لكن الأمم والألوهية متعددة‪.‬‬‫وهدف الرسالة الخاتمة هو أن يرتقي الثانيان إلى مستوى الأولين‪ :‬أي أن تصبح الألوهية‬‫واحدة مثل الربوبية وأن يصبح الرحم الجزئي واحد مثل الإنسانية‪ .‬لكن الله يعلم أن‬‫ذلك يحصل بالتدريج وهو لا يوجد كهدف خلقي وقانوني إلا في الرسالة الخاتمة‪ :‬لذلك‬ ‫فالقانون فيها كوني‪.‬‬‫وغالبا ما يكون اللجوء إلى التعامل بالقانون بمعناه المجرد الفاقد للترافق بداية خصومة‬‫في العلاقات‪َ :‬ولَا َت ْأ ُك ُلوا أَمْوَالَ ُكم َبيْنَكُم بِالْ َبا ِط ِل وَتُ ْدلُوا بِ َها ِإ َلى الْ ُح َّكا ِم لِ َتأْ ُكلُوا فَرِيقًا َِّمنْ‬ ‫أَ ْم َوا ِل النَّاسِ بِا ْل ِإ ْثمِ وَ َأن ُتمْ َتعْ َل ُمونَ(‪ 188‬البقرة)‬‫وذلك خاصة في أقرب العلاقات والمثال هو الاسرة التي هي تعاقد بين شخصين لكنها في‬‫آن تآنس وتراحم بينهما وهي أكثر من عقد في العلاقة بين الأهل والابناء وخاصة قبل بلوغ‬‫مرحلة تحمل مسؤولية القيام بالذات لأن اطفال البشر أقل صغار الأحياء قدرة على بلوغ‬ ‫مرحلة الاستقلال عن رعاية الاهل‪.‬‬‫فأضاف نظام الآفاق القانونية القرآنية مرحلة سابقة عن اللجوء إلى القانون والمحاكم‬‫هي مرحلة الصلح بالتحكيم الأسري (من الأسرتين الأصلين للأسرة التي فيها خصومة)‬‫ويمكن تعميم ذلك على القانون المدني والقانون الجنائي والقانون الإداري وحتى القانون‬ ‫الدستوري وفي المستويين الوطني والدولي‪.‬‬‫ذلك أن التبكيتات القانونية إذا بدأت قد لا تتوقف ونهايتها هي حل الأسرة والشركة‬‫وكل ما كان يسير بمقتضى التوافقات الودية بين الأطراف التي تتألف منها المؤسسة المهددة‬‫بالخصومات‪ .‬وبهذا المعنى فالقانون رغم ضرورته للأنظمة وللعمل فهو شبه الحل \"ب\" في‬ ‫كل أعمال البشر عندما يدب فيها الخلاف‪.‬‬‫فتكون وظيفة القانون شبه الحل الثاني للمحافظة على الحد الادنى من العمل المشترك‬‫أي عمل بمعيار الأمانة والعدل في الحسم الذي قد ينتهي إلى الصلح أو قد يفض الشراكة‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪50‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫لكن بعض الشراكات لا تفض‪ :‬فالشراكة في الوطن وفي الامة وفي الإنسانية وفي العالم لا‬ ‫يمكن أن تفض‪ .‬إذن للقانون فيها وجه ثان‪.‬‬‫إنه وجه ما سماه ابن خلدون الوزع الأجنبي في حالة غياب الوزع الذاتي أي إن القانون‬‫يتدخل عندما يغيب الضمير الخلقي‪ .‬وهو تدخل وقائي بمجرد وجوده لأن الإنسان من‬‫المفترض أن يكون عالما به وهو ليس معذورا إذا جهله وعلاجي عندما يحصل ما لم تحل‬ ‫دونه الوقاية‪ .‬وذلك في كل المستويات القانونية‪.‬‬‫يمكننا الآن أن نعود فندرس النوعين الاخيرين من القانون أعني القانون الإداري (وقد‬‫درسته عند أكبر علمائه الفرنسيين‪ :‬جورج فودال) ثم القانون الدستوري وهما في الرؤية‬‫القرآنية ينتسبان إلى أدبيات الاحكام السلطانية التي قلاها ابن خلدون قلوه للمدن‬ ‫الفاضلة لطلبه ما غاب فيهما‪ :‬طبائع الأشياء‪.‬‬‫وهما موضوع الفصل العاشر من المحاولة وسيليه الفصل العادي عشر والاخير للكلام في‬‫العمل وعلة حاجته الشرع حاجة النظر للعقد‪ .‬وبذلك أكون إن شاء الله قد فرغت من‬‫البحث المتعلق بمنزلة القرآن من حيث هو رؤية للوجود والعالم وشروط التعامل معهما‬ ‫بنظام الآفاق المحققة لمهمتي الإنسان‪.‬‬‫وهي إشكالية اعتقد جازما أن التأصيلي والتحديثي كلاهما يجانب الصواب ليس بسبب‬‫خطأ ذاتي بل لأن الاول يعتمد على علوم الملة التي حرفت الرؤية القرآنية والثاني يعتمد‬‫موقف من الأديان من منطلق القول بنظرية المعرفة المطابقة ويتوهم حيازته الحقيقة‬ ‫المطلقة بعلمه المبتور‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪51‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫بوسعنا الآن أن نتكلم على النوعين الاخيرين من القانون أعني الإداري والدستوري‪.‬‬‫ولكن لا بد من تقديم الدستوري على الإداري لأن ما يتضمنه الإداري (والنوعان الأولان‬‫يقتضيانه أيضا إلا أن التأثير في الإداري أكبر من التأثير فيهما) بسبب علاقته المباشرة‬ ‫بطبيعة نظام الحكم وأسلوبه‪.‬‬‫فالقضاء الإداري لا يوجد في كل الأنظمة في حين أن النوعين الاولين من القضاء لا يمكن‬‫أن يخلو منهما نظام‪ .‬وهو لم يوجد في الدولة الإسلامية بسبب عدم وضع نظرية في الرؤية‬‫الإسلامية التي ينبع منها ما سميناه أنظمة الآفاق المحددة لخصائص النظر والعقد ولخصائص‬ ‫العمل والشرع‪.‬‬‫فصحيح أن رجالات الدولة كانوا يقاضون لكن بصفتهم الشخصية في المدني والجنائي‬‫وليس بوصفهم ممثلين للدولة وينوبونها في تحمل مسؤولية الدولة في المدني والجنائي رغم‬‫أن الرؤية الإسلامية تقتضي ذلك لأنه كان ينبغي أن يكون أحد أهم عناصر مفهوم‬ ‫الحسبة‪.‬‬‫مفهوم القانون الإداري يعني أن الدولة نفسها خاضعة للقانون ومن ثم فهي تتحمل‬‫مسؤولية أفعالها وعدمها ويمثلها أشخاص القيمين عليها والفرق واضح بين محاكمة الحكام‬‫مدنيا وجنائيا في تعديهم على ما ينتسب إلى مجالي المدني والجنائي بصفتهم الشخصية وبين‬ ‫العدوان بصفتهم ممثلين للدولة‪.‬‬‫كما أنه يوجد فرق بين أن أشكو الدولة بسب مسها بحقوقي مدنيا أو حتى جنائيا وبين أن‬‫أشكوها لأنها تجاوزت القانون بما فعلته أو بما لم تفعله وكان عليها ألا تفعله حتى لو لم‬‫أكن المتضرر المباشر بفعلها أو بعدمه إذ حينها أكون شاكيا بصفتي مواطنا ليس بصفي‬ ‫المتضرر المباشر‪ :‬وهذا هو جوهر الحسبة‪.‬‬‫لكن هذا المعنى غاب لعلتين رغم أنه كان ينبغي أن يكون من مشمولات نظام افق العمل‬ ‫والشرع الذي تقتضيه الرؤية القرآنية‪:‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪52‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪ .1‬غاب أولا لأن الراشدين كانوا يقومون به بأنفسهم إذ لم يكن ضميرهم الديني‬‫يسمح لهم باستغلال السلطة أو بالسماح للدولة التي يمثلونها بأن تفعل أو لا تفعل ما يخالف‬ ‫الشرع‪.‬‬‫ثم بعد أن انتقلنا من الشرعية المتقدمة على الشوكة إلى العكس أو من الخلافة إلى الملك‬ ‫العضوض جاءت العلة الثانية‪:‬‬‫‪ .2‬صارت الدولة فوق القانون والمساءلة لأنها ليست مبنية على الشرعية بل على‬ ‫التغلب‪ .‬فلم يعد أحد يجرؤ على مساءلة الحاكم فضلا عن محاكمة الدولة في شخصه‪.‬‬‫فكان حضور الشرعية وغيابها علة لنفس الامر‪ :‬الدولة مرت من وضع الخاضعة للقانون‬‫إلى وضع المخضعة للقانون‪ .‬ومنذئذ إلى اليوم ما زالت الدول في بلاد الإسلام مخضعة‬‫للقانون ومتلاعبه به وليست قابلة للمساءلة بل هي صارت أداة التعدي على ما سميناه أصلا‬ ‫للقانون وشرحناه بإفاضة‪.‬‬‫ولذلك فكم أعجب من سخافات الحداثيين الذين يتصورون الإسلاميين عندما يتكلمون‬‫على الراشدين رجعيون يريدون العودة إلى الماضي والظلمات كما يزعمون‪ .‬وما يفعلون‬‫إلا لأنهم لا يفهمون هذه المعاني اللطيفة التي قد يكون الكثير من الإسلاميين أنفسهم لا‬ ‫يدركونها بوعي ودافعهم منزلة الراشدين فحسب‪.‬‬‫وبوسعي أن أزعم دون فخر بمبدأ و\"أما بنعمة ربك\" أن أقول إن الرؤية الإسلامية فيها‬‫نظام آفاق في كل مجالات الحياة الإنسانية يمكن أن تكون منطلقا للحلول وهو أمر مختلف‬‫تماما عن الزعم بأن الحلول موجودة فيها بل الموجودة فيها هو نظام الآفاق التي يمكن‬ ‫للمجتهدين أن يتسمدوا منها الحلول‪.‬‬‫أما دعوى استمدادها من مجرد الشرح اللغوي لنص القرآن فهو أمر مناف تماما لما يشير‬ ‫به القرآن نفسه‪:‬‬‫‪ .1‬فهو أولا يقول إن تبين حقيقته لا يكون بشرح ألفاظه بل برؤية آيات الله في‬ ‫الآفاق والانفس‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪53‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪ .2‬وهو ينهى نهيا مجرما عن تأويل المتشابه أي المتعلق بالغيب المحجوب على الجميع‬ ‫بمن فيهم النبي‪.‬‬‫فما حرف علوم الملة هو قلب هذين الآيتين فجعلوا الأمر (فصلت ‪ )53‬نهيا فأهملوا ما‬‫يعلم لم يروا آيات الله في الآفاق والانفس فلم تتبين لهم طبيعة الرؤية القرآنية وما يترتب‬‫عليها من أنظمة الآفاق وجعلوا النهي (آل عمران ‪ )7‬أمرا فانشغلوا بما لا يعلم‪ :‬فكانت‬ ‫علومهم وأعمالهم كلاما على كلام‪.‬‬‫فعلوم الشاهد لم تكن قادرة على علاج العلاقتين العمودية مع الطبيعة لأنها لم تكن‬‫هادفة لاكتشاف قوانينها والافقية مع التاريخ لأنها لم تكن هادفة لاكتشاف سننها‪ .‬ومن‬‫دون قوانين الطبيعة وسنن التاريخ لا يمكن أن تبنى حضارة قادرة على إعالة نفسها‬ ‫وحمايتها بل هي تصبح عالة على غيرها فيهما‪.‬‬‫ومن يكون عالة على غيره لا يمكن أن يعمر الارض ولا أن يستخلف فيها فيفقد ما يسميه‬‫ابن خلدون \"الرئاسة بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" وهو معنى فساد معاني‬‫الإنسانية‪ .‬لذلك يمكنني القول إن التربية التي صارت وساطة والحكم الذي صار وصاية‬ ‫لم يعد همها إلا السلطان لاستعباد الإنسان‪.‬‬‫واجتمع ذلك كله في تحريف الدستور الذي وضعه القرآن وضعا صريحا وفصيحا رغم أن‬‫كلتا النخبتين ما تزال تجادل في وجوده وفي وجود نظرية الدولة في الإسلام متصورين أن‬‫القرآن الذي هو استراتيجية تربوية وسياسية يمكن أن تكون رؤيته خالية من أهم أدوات‬ ‫هذه الاستراتيجية الثورية‪.‬‬‫فالدولة بمقوميها من حيث هي تعين الرؤية العامة التي يترتب عليها نظام الآفاق هي‬‫نظام كل النظم النظرية والعملية كما وصفناها أي نظام العمل والشرع الذي يحتوي ذاته‬‫وغيره من الانظمة الأخرى وخاصة نظام النظر والعقد لأن ما صدق مفهوم الدولة في‬ ‫العمل يطابق ما صدق مفهوم ارادة الجماعة كذات‪.‬‬‫إرادة الجماعة لما تصبح ذاتا في دولة فإنها تتعين في ما يترتب على الرؤية من مقومات‬‫العقد والشرع ومن مقومات الدولة كنظر وعمل ويجتمعان في العمل على علم بأنظمة الآفاق‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪54‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وما يستنتج منها من علاج للعلاقتين العمودية والأفقية‪ .‬وهذا هو ما يجعله القرآن \"امر‬ ‫الجماعة\" وحدده في آية حرفت مفاهيمها‪.‬‬‫ولأورد الآية مميزا بين عناصرها ثم سأكتبها لاحقا بتعويض الضمائر فيها بما تعود عليه‬‫حتى يتبين التحريف الذي حصل‪-1\":‬وَا َّل ِذي َن ا ْس َت َجابُوا ِلرَ ِبَّهِمْ ‪-2‬وَ َأقَامُوا ال َّصلَاةَ ‪َ -3‬وأَمْ ُرهُمْ‬ ‫‪-4‬شُو َر ٰى بَيْ َنهُمْ ‪َ -5‬و ِممَّا رَ َز ْق َناهُمْ يُن ِف ُقو َن\" الشورى (‪:)38‬فما دلالة عناصرها؟‬‫نكتب الآية بتعويض الضمائر‪-1 \":‬والذين استجابوا لربهم ‪-2‬وأقاموا الصلاة ‪-3‬‬‫وأمرهم=أمر المستجيبين لربهم ‪-4‬شورى بينهم =شورى بين المستجيبين لربهم ‪ -5‬ومما‬‫رزقناهم ينفقون= ومما رزقنا المستجيبين لربهم ينفقون\"‪ .‬عندنا تحديد جماعة بمعيار‬ ‫الربوبية وليس الألوهية ما يعني أن الدولة كونية‪.‬‬‫فلو كانت الاستجابة لله وليس للرب لكانت خاصة بالمسلمين رغم أن المسلمين إلههم وربهم‬‫واحد‪ .‬لكن في الاديان المحرفة الإله ليس الرب بمقتضى تحريف مفهومه إذ يصبح إله‬‫جماعة بعينها وليس رب العالمين‪ .‬ثم يأتي علامة الاستجابة الاولى وهي الصلاة رمزا لكل‬ ‫العبادات كعلامات مشعرية على الاستجابة‪.‬‬‫ثم تأتي نظرية الدولة طبيعتها وطبيعة شرعيتها‪ :‬هي أمر المستجيبين لربهم أي أمر‬‫الجماعة التي تذوتت في الدولة فصارت ذاتا فاعلية لها إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود‪.‬‬‫ومنها تستنتج طبيعة نظام الحكم‪ :‬أمر الجماعية= جمهورية (راس بوبليكيا=أمر الجماعة)‬ ‫ثم تأتي طبيعة أسلوب الحكم فيها‪.‬‬‫فأسلوب حكم جماعة الاستجابة للرب لأمرها هو الشورى بين الجماعة (شورى الجماعة=‬‫ديموقراطية أو حكم الشعب كجماعة)‪ .‬فيكون نظام الحكم وأسلوبه في دولة الإسلام‬‫جمهورية ديموقراطية بالاصطلاح الفلسفي الحديث‪ .‬ويكون موضوعها رؤية أساسها‬ ‫الاستجابة للرب وغايتها علاج المشكل الاقتصادي الاجتماعي‪.‬‬‫وقد رمزت الآية للمشكل الاقتصادي الاجتماعي بعبارة \"ومما رزقناهم ينفقون\" وأبواب‬‫الانفاق معلومة من كثير من نصوص القرآن لعل أهمها البقرة ‪ 177‬وهي قد جعلتها من‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪55‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫شروط الإيمان أو الاستجابة إلى الرب وفيها إحالة إلى ضمير المتكلم أي إلى لله في رزقناهم‬ ‫ما يعني العرفان للرب المستجاب له‪.‬‬‫لكن كل هذه المفهومات حرفت‪ .‬صار الأمر ليس أمر الجماعة بل أمر ولاة الامر‪ .‬وصارت‬‫الشورى ليست شورة الجماعة في أمرها بل نصائح الدجالين لولاة الأمر من المتغلبين وليس‬‫حتى من ذوي الشرعية وأصبح الرزق ليس بيد الرب بل بيد أصحاب المكرمات من اللصوص‬ ‫المستبدة بالأمر‪.‬‬‫ثم يزعم \"العلماء\" أنهم ورثة الانبياء ويحكم \"الامراء\" أنهم يحكمون بشرع الله‪ .‬فمن‬‫يحق له بعد كل هذا التحريف أن يعجب من وضع الامة الحالي ومن فساد معاني الإنسانية‬‫في جميع طبقاتها حتى بلغ الأمر إلى فقدان مقومي السيادة أعني الرعاية والحماية‬ ‫الذاتيتين والتبعية المطلقة للأعداء؟‬‫ولما كنت أومن بما قاله أفلاطون من أن النظرية هي النظام الفرضي الاستنتاجي الذي‬‫يضع نموذجا يصاغ بلغة شبه رياضية ليترجم ما يعتبره البنية القانونية لموضوع النظرية‬‫وظيفتها تعليل كل ما يتجلى فيه من مظاهر فعلا وانفعالا فإني اعتبر ذلك قد كان معدوما‬ ‫في علوم الملة وهو ما أحاول تداركه‪.‬‬‫وفي مثل هذه الحالات فإن دليل النظرية ليس فيها وإن كان لتناسقها ما يعتبر من قرائن‬‫صحتها لكن الدليل الحقيقي هو بقدر المستطاع تفسير أكبر قدر ممكن من تجليات الموضوع‪.‬‬‫والموضوع هنا هو مدى نجاح الأمة أو فشلها في علاج العلاقتين بالتجهيزين النظري العقدي‬ ‫والعملي الشرعي لتحقيق مهمتي الإنسان‪.‬‬‫وأعتقد ولا فخر أني أوضحت أمرين يبدوان دالين على وجاهة التحليل والتأويل‪:‬‬‫الوصف الموضوعي لوضعنا والتعليل المعقول لما حدث في علوم الملة وأعمالها مما جعله يكون‬‫على ما هو عليه من انحطاط وفقدان لشرطي السيادة رعاية وحماية وما ترتب عليهما من‬ ‫فساد لمعاني الإنسانية وتبعية عيال‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪56‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وصلنا إلى الفصل الحادي عشر والأخير من المحاولة لنعرف قدر المستطاع أعقد مفهوم‬‫على الأطلاق في شبكة المفهومات الضرورية لعلاج المسألة مسألة ما يترتب على الرؤية‬‫القرآنية بوصفها استراتيجية توحيد البشرية بمشروع نقدي بنائي للتجربة البشرية في‬ ‫تحقيق شروط تعمير الارض بقيم الاستخلاف‪.‬‬‫تلك هي فرضية العمل التي اعتمدتها لقراءة القرآن قراءة فلسفية تحرره من اعتباره‬‫\"صندوق أدوات\" مباشرة فيها كل شيء بدلا من أن تكون رؤية تؤسس لنظام الآفاق المجهزة‬ ‫للإنسان‪:‬‬ ‫‪ .1‬ليقدر على تحقيق مهمتيه تعميرا للأرض واستخلافا عليها‪.‬‬ ‫‪ .2‬بإرادة حرة وعقل عالم وقدرة خيرة وحياة جميلة ووجود جليل‪.‬‬‫والرسالة الخاتمة لا تدعي الإتيان بالجديد بل التذكير بما هو مرسوم في كيان الإنسان‬‫العضوي والروحي وإزالة ما شابه من تحريف إما بالنسيان أو بتحريف محاولات التذكير‬‫السابقة لأن كل الرسالات لها نفس المضمون العقدي الذي يحدده القرآن حتى وإن تعدد‬ ‫الشرعات والمنهاجات‪.‬‬‫وتعددها مقصود لأنه هو فرصة التسابق في الخيرات حتى يتذكر الناسون ما فطروا عليه‬‫إما بأنفسهم أو خلال هذا التسابق عندما يتبين لهم تفاضل الشرعات وكأنها متوالية من‬‫مراحل التربية لتنمية الوازع الذاتي (الضمير) ولتنمية الوازع الاجنبي (القانون) مسارا‬ ‫لقانون القانون‪ :‬الأمانة والعدل‪.‬‬‫وأولى علل تعريف العمل تعريفا جامعا مانعا هو أن اسمه الحقيقي هو \"العمل على علم\"‬‫لأن كل ما ليس على علم لا يسمى عملا بل هو اضطراب بايولوجي مثل الصرع أو حركات‬‫من هو في غيبوبة أو ترنحات السكير أو المريض بالرعشة‪ .‬ومعنى العمل على علم الجمع‬ ‫بين خمس معان دقيقة‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪57‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫فلا بد في العمل على علم من‪:‬‬ ‫‪ .1‬غاية محددة‬ ‫‪ .2‬أدوات محددة ضرورية لتحقيقها‬ ‫‪ .3‬استراتيجية تصورية لمراحل الانتقال من البداية إلى الغاية‬ ‫‪ .4‬قدرة مادية لترجمتها إلى استراتيجية إنجاز متكيف مع الطواري في مدته‬ ‫‪ .5‬ما يعني قدرة خلقية للصبر والمواظفة والمراجعة الدائمة للعمل لأنه على علم‪.‬‬‫والشرط الأعسر هو الأخير‪ :‬فكم من أهداف واستراتيجيات تصورية وأدوات وقدرات‬‫مادية تبذل ثم تذهب سدى فلا يتحقق الهدف ولا تثمر الاستراتيجية التصورية ولا تصلح‬‫الادوات ولا تفيد القدرات المادية إذا لم تكون مستندة إلى قدرة روحية عقلية تتكيف مع‬ ‫الطواري وتصابر وتثابر لتحقيق الهدف‪.‬‬‫وكان العمل مع لك قابلا لأن يكون أقل عسرا لو كان يمكن أن يحصل للفرد بل هو بالجوهر‬‫جماعي دائما‪ .‬لا يوجد عمل مهما كان تافها يمكن أن ينجزه فرد مفرده ولهذه العلة لا‬‫يوجد مجتمع ليست الأعمال فيه مقسمة ومن ثم فهي متكاملة بالضرورة وخاصة في ما يتعلق‬ ‫بشأن جماعي وليس فرديا‪.‬‬‫والعمل الجماعي في كل أنواع العمل هو الأسمى سواء في النظر والعقد أو في العمل‬‫والشرع في تحقيق مطالب الإرادة أو مطالب العلم أو مطالب القدرة أو مطالب الحياة أو‬‫مطالب الوجود‪ .‬والأول هو عمل السياسة والثاني هو عمل العلم والثاني هو عمل الاقتصاد‬ ‫والثالث هو عمل الفن والأخير هو عمل الرؤى‪.‬‬‫ورغم أن الإبداع لا يكون إلا فرديا فإن شروطه جماعية وثمرته للجماعة‪ .‬وسأكتفي‬‫ببعض الامثلة وهي مناسبة للحسم مع خرافة المنطق الجدلي المبني على التناقض والصراع‬‫بدل التناغم والوفاق‪ .‬وليكن مثالانا الأولان من فن الرسم وفن الموسيقى وهما أساس كل‬ ‫فن لأن مادتيهما هما أصل كل الوجود المحسوس‪.‬‬‫فالفن رغم كونه جوهر الروحي عند الإنسان لا يقوم إلا في محسوس متعين في المكان أو‬‫في الزمان‪ .‬والأول هو حيز الرسم أو الأشكال السطحية أو ذات التضاريس غير الملونة أو‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪58‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الملونة‪ .‬والثاني هو حيز الموسيقى الصامتة أو المصوتة غير الناطقة (أي صوت) أو الناطقة‬ ‫(صوت الإنسان‪ :‬الشعر والغناء)‪.‬‬‫ولنضرب الآن مثال الرسم المسطح الملون‪ :‬هبنا أخذنا لونين الابيض والأسود بالتناظر‬‫مع الوضع والنفي بالمعنى الجدلي‪ .‬السؤال‪ :‬هل اللونان في الرسم يؤديان الوظيفة‬‫بالتناقض فيكون التقابل بين ناصح الابيض وظلام الأسود هو المؤدي لوظيفة الرسم أم‬ ‫الدرجات المتكاملة من اللونين وتناغمهما؟‬‫الرسوم البديعة ليست ناتجة عن تناقض اللونين بل هي التي يتكامل فيها اللونان بصورة‬‫يكون تمازج النور والظل وتكاملهما فيها هو الذي يحققها ويبرز ملامح الرسم المحاكي أو‬‫المجرد في كل لوحة مكتفية بهما‪ .‬وإذا تعددت الألوان أكثر من اثنين فالأمر يصبح أشد‬ ‫وضوحا ودلالة‪.‬‬‫أما في الموسيقى فلا حاجة لطويل الاستدلال‪ :‬فالمستوى الارقى من الفن الموسيقي هو دون‬‫شك السنفونيات وهي لا تتألف من نشاز التناقض بين الأصوات بل هي تتألف من تناغمها‪.‬‬‫ولا أظن أنه يوجد دليل على سخف الرؤية الجدلية والصراعية في الوجود الطبيعي وفي‬ ‫الوجود التاريخ من هذين الدليلين‪.‬‬‫والعمارة رسم في أبعاد المكان الخمسة والآداب موسيقى في أبعاد الزمان الخمسة‪ .‬سبق أن‬‫شرحت أبعاد الزمان الخمسة‪ :‬الماضي له بعدان حدثه وحديثه حول حدثه الذي سبقه‬‫والمستقبل له بعدان حدثه عن احداث المستقبل التي ستليه والحاضر هو بؤرة الابداع‬ ‫الأدبي المؤلف منها خمستها خارجها‪.‬‬‫ولأول مرة سأتكلم على أبعاد المكان الخمسة في العمارة‪ .‬فهي أولا تحتاج إلى أبعاد المكان‬‫الثلاثة التي هي الطول والعرض والارتفاع (وما دون الأرض لا يحسب لأنها المنزل مثلا‬‫يكون قد بدأ منه) والمشكل في البعدين الآخرين المناظرين للحديثين اللذين ينقلانا من‬ ‫الزمان الطبيعي إلى الزمان التاريخي‪.‬‬‫وهما في الحقيقة بعدان يشترك فيهما المكان مع الزمان عندما ينتقلان من كونهما بعدي‬‫الطبيعة إلى بعدي التاريخ‪ .‬فالزمان يمر من ثلاثة أبعاد إلى خمسة بسبب الحديث حول‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪59‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الحدث السابق والحدث اللاحق والمكان كذلك يعد ذا صلة بالحدث السابق وبالحدث‬ ‫اللاحق‪ .‬فكل منزل له هذان البعدان في العمارة‪.‬‬‫فهو بحد ذاته ثمرة الحديث عن العمارة السابقة بل هو بدوره حديث عن العمارة‬‫السابقة لكنه في آن حديث عن العمارة اللاحقة لأن صاحب المنزل تجده دائما متلهفا لجعل‬‫منزله يكون نموذجا للعمار اللاحقة فيكون عند من لم يحقق منزله ويبحث عن نماذج‬ ‫يحاكيها قبلة تحكي عن المستقبل المعماري‪.‬‬‫ولو أضفت مثالا آخر هو ذروة الفن وأجمل الفنون على الإطلاق وفيه ما هو مطبوع وما‬‫هو مصنوع‪ .‬فالمطبوع هو الطبيعة وبدن الإنسان وما هو مصنوع هو ما يدخله الإنسان على‬‫الطبيعي خارجه وفي بدنه‪ .‬فلا توجد امرأة لا تجمع بين المطبوع والمصنوع ولا توجد حديقة‬ ‫ليست جامعة بين المطبوع المصنوع‪.‬‬‫وما يزيد هذا المزيج بين المطبوع والمصنوع في بدن الإنسان رجلا كان أو امرأة أكثر مما‬‫يجعله يجمع بين رسم يجمع بين شكل المكان وحركة الزمان أعني الرقص‪ .‬فالرقص حركة في‬‫الزمان ترسم أشكالا في المكان بكيان هو بدوره مشكل بتضاريس بدنه فهو إذن نحت متحركة‬ ‫وموسيقى صامتة‪.‬‬‫العجولون سيعتبرون هذا خروجا عن الموضوع‪ .‬في الحقيقة لو لاحظوا أن الأمم التي‬‫تعمل بحق أي تعمل على علم بالمعنى الذي عرفناه في بداية هذا الفصل هي التي عرفت‬‫بالأبداع في الفنون التي ضربتها أمثلة لمعنى التناغم في العمل الفني والذي هو مشروط في‬ ‫كل عمل لأن كل عم ٍل عملٌ فني بالجوهر‪.‬‬‫فإذا وجدت أمة \"علماؤها\" يحرمون هذه الفنون الخمسة التي ضربتها أمثلة تتعين فيها‬‫شروط العمل على علم ‪-‬الرسم أساسه هندسة النسب المكانية والموسيقى اساسها عدد النسب‬‫الزمانية‪-‬فأعلم أنها أمة لا يمكن أن تبدع في أي مجال من مجالات العمل بل تكتفي بتقليد‬ ‫الموجود‪ .‬وهو مناف الرؤية القرآنية‪.‬‬‫والأدلة كثيرة‪ .‬فمنها ما هو ذو صلة بنمط الحياة الجاهلية التي لم يحرمها الإسلام بل‬‫استفاد منها وهي متعلقة خاصة بفنون الحرب والفروسية وفيها أهم خاصية يتعلق بها الامر‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪60‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وهي شروط النظام وتناغم الأفعال المتعددة المشروطة في العمل على علم لأن النظام فيه‬ ‫هو علامة كونه عملا على علم‪.‬‬‫ومنها ما له صلة بالعبادات نفسها‪ .‬فالصلاة عامة وصلاة الجماعة خاصة من أهم رموز‬‫النظام والتناغم حتى إن أحد قادة الفرس عجب من كون العرب صاروا قادرين على العمل‬‫المنظم بهذه الصورة التي بهرته فقال ما لا يزال يقوله الفرس إلى اليوم محافظين على‬ ‫موقفهم ممن فوضوهم قبل الإسلام‪.‬‬‫ومنها ما هو أكثر دلالة على أن الموسيقى حتى وإن لم تكن خالصة قد مثلت العلاقة‬‫المباشرة مع أسمى عبادة وهي قراء القرآن‪ .‬فتجويد القرآن موسيقى ناطقية بأفضل نطق‬‫وأفضل خطاب رسالة رب العالمين لخليقته‪ .‬لكن علماء الانحطاط أهملوا كل هذه الإشارة‬ ‫فقتلوا الذوق خاصة والشعر انحط إلى التكدي‪.‬‬‫فالشعر كان من المفروض ألا يقتصر تأثره بأسلوب القرآن في مستواه الأول ‪-‬وقد فعل‪-‬‬‫بل كان ينبغي أن يتأثر بمستوى أسلوبه الثاني وبروحه التي تتجاوز المادية الفجة للشعر‬‫الجاهلي‪ .‬فالمستوى الثاني من الأسلوب القرآني أقرب إلى اساليب الأدب اليوناني منها إلى‬ ‫أساليب الشعر الجاهلي‪.‬‬‫ففيه التصوير الشعري لا يكون بالكلام بل بـ\"المشاهد التمثيلة\" التي تشبه التراجيديا‬‫(مدح الأبطال دراميا أي بالأفعال وليس بالأقوال) والكوميدينا (دم نقيض الأبطال‬‫دراميا كذلك) فضلا عن الابعاد الروحية ذات الرمزية الكونية بخلاف دوران الشعر‬ ‫الجاهلي على الذاتيات الفردية والفخر المقيت‪.‬‬‫وكان ابن رشد‪-‬وهذه من محامده‪-‬قد تنبه إلى هذه الخاصية في أسلوب القرآن لكنها لم‬‫يجرؤ لقول ذلك مباشرة فنسب الأمر إلى الكتب الدينية خلال شرحه لكتاب أرسطو في‬‫الشعر‪ .‬ولا ضير في ما قاله لأن المقارنة لا تعني المساواة بين طرفيها‪ .‬فالله يتكلم على‬ ‫نفسه بما يبدو تشبيها بالملوك وهو ملك الملوك‪.‬‬‫والتحدي بالقرآن كان ضد الكافرين به لكنه لا يعني منع محاكاة أساليبه في التعبير لأن‬‫كل ما يبدعه الإنسان هو محاكاة لأساليب الله في الخلق‪ .‬فما من ابتكار إنساني وخاصة في‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪61‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫التقنيات ليس هو مجرد محاكاة قاصرة لآيات الخلق‪ .‬وكل ما نسميه فنون الذكاء محاكاة‬ ‫للعقل الإنسان وإذن محاكاة للخلق‪.‬‬‫وإذا كان القرآن لا يحتج على شيء إلا بالإحالة إلى نظام العالم الطبيعي وقوانينه‬‫ونظام العالم التاريخي وقوانينه ويعتبر ذلك من آيات الله والأدلة على وجوده وعل عمله‬‫على علم محيط فمن باب أولى أن تكون التربية والحكم محاكاة لهذين النظامين دليل‬ ‫عرفان لا عبارة عن الكفران‪.‬‬‫فهذا هو معنى الاستخلاف‪ :‬فما كان الله قد اختار الإنسان ليكون خليفته لو لم يكن قد‬‫جهزه بما يمكنه من أن يحاكي أفضل ما في الوجود فيخلص ما يماثلها مع النسبية طبعا والمؤمن‬‫الصادق لا يعتبر ذلك تألها وكفرانا بل هو يعتبره جوهر العبادة لأن محاكاة أخلاق القرآن‬ ‫وهي أسمى مخلوقات الله إيمان‬‫كنت أنوي ترك هذه البقية للغد لكن الكاتب شجعني على إتمامها رغم أن سرحته خوفا‬‫عليه من الإرهاق فبارك الله فيه والحمد لله أن المحاولة وصلت إلى غايتها حتى وإن كان‬‫كل مسائلها بحاجة إلى المزيد لكن لا بد من شد الزمام ومسك اللجام‪ .‬ويكفي ما قلنا ولله‬ ‫الحمد والشكر على نعمائه‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪62‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫رغم أني ختمت البحث في الفصل الحادي عشر إلا أن النفس ما زال فيها شيء من حتى‪.‬‬‫لم أتكلم على عمل الدولة التي هي ذات الجماعة أو جهازها العصبي الناظم لعملها على‬‫علم‪ .‬والغاية من البحث كله هي تحرير هذا العمل من عقد النقص التي يعاني منها نوعا‬ ‫النخب التأصيلي والتحديثي‪.‬‬‫والمثال المعروف في تقاليدنا ليس مقارنة الجماعة وعملها كذات على علم بالبدن ووحدته‬‫بل مقارنة العملين من حيث الانتظام بين الوظائف وخاصة علم وكل وظيفة بالبقية وتفاعلها‬‫معها فعلا وانفعالا‪ .‬لكن ذلك لا ينفي أن كل عضو من الأعضاء العاملة معها والمتعاملة له‬ ‫اختصاصه ونجاحه يكون في أدائها‪.‬‬‫وقد سبق فبينت أن اعضاء الدولة العاملة بتناغمها وبقيام كل منها بوظيفته بحسب‬‫مقتضياتها هي النخب الخمسة وهي نخبة الإرادة أو الساسة بنوعيهم ونخبة العلم أو منتجو‬‫المعرفة بنوعيهم ونخبة القدرة أومنتجو شروط القيام بنوعيهم ونخبة الحياة أو الفنانون‬ ‫بنوعيهم ونخبة الوجود أو اصحاب الرؤى بنوعيهم‪.‬‬‫وسأضرب مثال من الفنون مرة أخرى للدلالة بمعنى \"تؤدي وظيفتها كل بمقتضى‬‫اختصاصها\"‪ .‬وسأسمي هذا المثال من الفنون بالحاسة التي تؤديها‪ :‬فعندنا عين الرسام وأذن‬‫الموسيقار وأنف العطار ولسان الطعام واللماس فيها جميعا لأنها كلها تدرك بالملامسة من‬ ‫العين إلى اللسان‪.‬‬‫فهذه الأعضاء تجمع بين الموهبة الإلهية في أعضاء الإدراك الحسي وتكوين صارم لهذه‬‫الموهبة للحصول على هذا النوع من الفنيين في أهم الفنون التي وصفت‪ :‬عين الرسام وأذن‬‫الموسيقار وأنف العطار ولسان الذواق للسوائل وخاصة الخمور وكلها مصحوبة كما أسلفت‬ ‫بالملامسة بين الإنسان والمواد الخارجية‪.‬‬‫ويمكن أن نقول إن هذه الاختصاصات هي من جنس \"الهوائيات الوجودية\" التي لها من‬‫الدقة واللطافة ما يجعلها أسمى ما لنا من علاقة بالوجود الخارجي تجعل الجماعة بفضلهم‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪63‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫قادرة على تحديد أرقى مستويات الذوق الفني للمرئي والمسموع والمشموم والمذوق‬ ‫والملموس مما حولنا من الطبيعة ومحاكاته بتقنياتنا‪.‬‬‫فالرسام والنحات يمكنهم أن يبدعوا بتقنياتهم ما يحاكي كل شيء بل وإبداع ما لا مثيل‬‫له في الوجود الخارجي ونفس الشيء يقال عن الموسيقار وعن العطار والذواق في الطعوم‬‫وكلهم من لطيفي اللمس بحواسهم الرهيفة‪ .‬ونموذج الفنون تقاس عليه حاسة السياسي‬ ‫والعالم والمنت لشروط القيام وللرؤى‪.‬‬‫مشكل عمل الدولة هو إذن مشكل مضاعف‪ :‬كيف تنتخب الجماعة هذه النخب في العمل‬‫كما تنتخب عين الرسام وأذن الموسيقار وأنف العطار ولسان الطعام بحاسة لمس أو تلق مباشر‬‫للمعطيات التي يتحدد بها قيام الدولة ونجاحها في تحقيق شرطي السياسة أعني الرعاية‬ ‫والحماية الذاتيتين‪.‬‬‫ثم كيف تعمل هذه النخب الخمسة بصورة تجعل عملها يكون مثل السمفونية في الموسيقى‬‫أو مثل البدن السليم في الحياة بصورة يتحقق فيها شرطان‪ :‬أن تعمل كل نخبة بمقتضى‬‫وظيفتها بكامل الحرية وأن يكون الحاصل من عملها هو التناغم المجانس لتناغم الآلات‬ ‫الموسيقية في السنفونية المبدعة‪.‬‬‫فلأشرح أولا معنى \"بنوعيهم\" في الحالات الخمس‪ :‬فكل واحدة من النخب هي كل الجماعة‬‫والمختصون منها بحسب المجال والاول فرض عين والثاني فرض كفاية بمعنى ان الجميع‬‫ساسة حكما ومعارضة ومنتجو معرفة إنسانية وطبيعية ومنتجو قدرة مادية أو رمزية ومنتجو‬ ‫فن بمواد خارجية أو بكيان الإنسان‪.‬‬‫وقبل ذلك وبعده منتجو الرؤى الدينية والفلسفية وهم نوع عجيب في كل الحضارات لأن‬‫اختصاصهم هو اللا اختصاص لكون الرؤى متقدمة على الاختصاصات ومرتبة لها وهي من‬‫جنس رئيس الفرقة الموسيقية في مستوى التصور وليس في مستوى الانجاز الذي يؤديه بنفس‬ ‫المعنى السياسي‪.‬‬‫فإذا تم انتخاب هذه الأصناف من النخب على أحسن وجه وأدت كل واحدة منهم دورها‬‫بمقتضى معاييره وقيمه فإن السنفونية تكون موجودة بينهم بالقوة خاصة إذا عملت النخبة‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪64‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫السياسية بما آمنت به من الرؤى التي هي عين فهوم الجماعة في لحظات تاريخها المتوالية‬ ‫لمرجعياتها الروحية والعقلية‪.‬‬‫فالرؤى هي في الحقيقة استراتيجيات عمل على علم في أي جماعة‪ .‬وطبعا فلا السياسي‬‫ولا العالم والقادر ولا الفنان هم مجرد آلات ناسخة للرؤى المعبرة عن المرجعيات الروحية‬‫والعقلية للجماعة بل هم بدورهم بحكم تربيتهم عليها بحرية خالية من الوساطة والوصاية‬ ‫لهم اجتهاداتهم الخاصة بهم‪.‬‬‫ولذلك فكلما كانت النخب حرة ومعبرة بكامل الحرية على فهومها كلما اقتربنا من تحقيق‬‫شروط الطابع السنفوني للعمل الجماعي وهو من طبع هدف عسير التحقيق لكنه شيئا فشيئا‬‫يتحقق فتصح الدولة وكأنها ساعة سويسرية تعمل بتناغم تام بمقوماتها الـخمسة‪:‬إرادة‬ ‫وعلم وقدرة وحياة ووجود‪.‬‬‫وليس هذا إلا قاعدة الأساس في عمل الدولة لأن امتحان فاعليتها هي في تطبيقاتها في‬‫وظائف الدولة المباشرة لحياة الجماعة اليومية في كل أنشطتها التي تعود بالأساس إلى علاج‬‫العلاقتين العمودية مع الطبيعة لإنتاج شروط الحياة العضوية والعلاقة الأفقية مع التاريخ‬ ‫لإنتاج شروط الحياة الروحية‪.‬‬‫وهذا هو المستوى الثاني من وظائف الدولة والذي هو في علاقته بالمستوى السابق من‬‫جنس التجربة الطبيعية في علاقتها بالنظر والعقد ومن جنس التجربة التاريخية ي علاقتها‬‫بالعمل والشرع‪ .‬والمستوى الثاني يتألف من خمسة وظائف للحماية وخمسة وظائف‬ ‫للرعاية‪.‬‬‫فالجماعة لا تعمل بسلام في ما بينها ‪-‬وهو شرط تقاسم الأعمال والتعاون ثم التبادل‬‫بالتعاوض العادل‪ -‬من دون حماية داخلية وهي مضاعفة قضاء وأمنا ومن دون حماية‬‫خارجية وهي مضاعفة دبلوماسية ودفاعا وهذه الحماية بحاجة لأن تعمل على علم وذلك‬ ‫هو دور الاستعلام والإعلام السياسي في كل دولة‪.‬‬‫لكن قبل ذلك فالجماعة لا توجد ولا تبقى أصلا من دون القيام المتجدد دائما بإنتاج‬‫الإنسان نفسه تكوينا بالتربية النظامية والتربية الاجتماعية وتغذية لبدنه بالإنتاج‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪65‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الاقتصادي ولروحه الانتاج الثقافي وشرط ذلك عمل على العلم هو البحث والإعلام‬ ‫العلميين حول الطبيعة والتاريخ وحول الإنسان‪.‬‬‫ويكفي أن تنخرم واحدة من هذه الوظائف حتى تفسد البقية ما لم يقع تداركها أولا‬‫وتدارك السنفونية الحاصلة من عملها المشترك على علم تماما كما تعمل الجوقة الموسيقية‬‫بآلات أعضائها المختلفة بقيادة رئيس الجوقة الذي يراقب الإنجاز ويسيره‪ .‬وهذا تقريبا‬ ‫هو دور الحكومة مع مراقبة المعارضة للأداء‪.‬‬‫وطبيعي أن يكون الامر شديد العسر لكن القاعدة الأساسية هي أنه كلما كانت النخب‬‫حرة ومتحاورة كان ذلك بخلاف أوهام المستبدين والفاسدين كلما تحقق التناغم أما إذا‬‫استبد أحد وخاصة رئيس الجوقة فأراد أن يصبح هو صاحب القرار في كل هذه الاختصاصات‬ ‫فإن النتيجة هي الانخرام والعقم الملقين‪.‬‬‫وهنا يأتي مثال عمل البدن‪ .‬فإن لم يعمل جهاز الدورة الدموية وجهاز الدورة الغذائية‬‫وجهاز الدورة العصبية وجهاز المدارك الحسية كل بمقتضى وظيفته ولم يكن سليما فإن‬‫البدن يمرض ويصبح معوقا‪ .‬وكذلك الامر بالنسبة إلى السنفونية فأي آله تفسد تدخل‬ ‫النشاز فيها فتفسد‪ .‬وكذلك الدولة‪.‬‬ ‫والفساد يصيب العمل على علم الذي هو جوهر قيام الدولة بوظائفها من مدخلين‪:‬‬‫‪ .1‬مدخل الآلة المجردة التي هي نظام المؤسسات التي يتكون منها صورة الجماعة أو‬‫الدولة وهي جهاز آلي خال ممن القيمين عليه وهو المدخل البنيوي الآلي وفيه تكون الدولة‬ ‫شبه مكنة \"قطعها\" هي المؤسسات‪.‬‬ ‫كما يصيبها الخلل من‪:‬‬‫‪ .2‬من تتعين فيهم المؤسسات بوصفهم قيمين عليها وممثلين لدورها فيملؤون خانات‬‫لجهاز أو المكنة التي تتألف من منظومة المؤسسات ليجعلوها كائنا حيا وكل من يقوم على‬‫مؤسسة يكون ممثلا للجماعة وهو المقصود بالأمانة في مستويات القانون الشرط الاول فيه‬ ‫مع العدل شرطه الثاني‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪66‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وهذا المستوى الثاني هو مناط البعد الخلقي من الدولة‪ .‬الأول هو البعد التقني من‬‫الدولة والثاني هو البعد الخلقي من الدولة ويمكن قياس ذلك على علاقة نظام المكنة في‬‫السيارة والسائق‪ .‬فالقيم على إحدى المؤسسات سائق لها وكأنه سيارة يمكن أن تفسد تقنيا‬ ‫كمكنة ويمكن أن تفسد خلقيا كسياقة‪.‬‬‫لكن المكنة تسهم في أخلاق الدولة إذا هي تطورت فتعضت أجهزتها بصورة تحول دون‬‫أخطاء السائق وتمكن من اكتشافها ومحاسبته على سوء سياقته وهذا هو دور القانون في‬‫الدول لأن مساءلة القيمين على المؤسسات لا تكون ممكنة من دون تجهيز المؤسسات بأدوات‬ ‫مراقبة القيمين‪ :‬وهو دور خلقي كذلك‪.‬‬‫والقيمون لهم كذلك بعد تقني‪ .‬فالقيم له كفاءة تقنية وله سلامة خلقية‪ .‬فلا الاولى‬‫وحدها تكفي ولا الثانية بكافية بل لا بد من الاثنين‪ :‬من هنا ضرورة تكوين القيمين على‬‫المؤسسات تقنيا وخلقيا‪ .‬وبذلك وفيت بالمطلوب علما وأن ما في النفس من حتى لن يوقفه‬ ‫إلى مفارقة الحياة‪ .‬والله هو الموفق‪.‬‬ ‫والثابت أمران‪:‬‬‫أن العمل على علم أي عمل على علم عمل جماعي حتى وإن بدا فرديا وخاصة عندما‬‫يتألف من شروط تمامه‪ .‬فلا يوجد عمل فني كامل من دون المستويات الخمسة التي بينتها‬‫في إنتاج الثروة بضاعة كانت أو خدمة‪ .‬فلا بد أولا من الفكرة ولا بد من المستثمر والممول‬ ‫والعمل والمستهلك‪.‬‬‫وذلك العمل الفني‪ :‬فمثلا لو أخذنا أفلام السينما فلا بد فيها من صاحب العمل الأدبي‬‫والمستثمر الذي يكلف من يصوغها في سيناريو وممول للعمل ثم الممثلين وكل الطاقم المنجز‬‫للعمل ثم المستهلكين وهم في المقام الأول لأن المستعمر والممول لم يختاروا الفكرة إلا بعلم‬ ‫من حاجة المستهلك للمنتج‪.‬‬‫وكذلك الأمر في كل عمل يبدو فرديا حتى في إطار حياة الأسرة أو حتى في أقصى حالة‬‫وهي حالة الفرد المنعزل فهو لا يكون عملا إلى على علم بفكرة يستثمرها ويمولها ويستهلكها‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪67‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫نفس الشخص في الظاهر لكن الفكرة والاستثمار والتمويل والاستهلاك كلها جماعية في‬ ‫شروطها وفي ثمراتها‪.‬‬‫لكن هذه الأبعاد تصبح بارزة حتى لفاقدي البصيرة في العمل الجماعي أي في الدول لأن‬‫الرؤية والسياسة والعلم والذوق والقدرة ببعدي كل واحدة منها مشاركة في أي منجز‬‫جماعي وخاصة في بعدي السيادة التي هي ممتنعة إذا لم تكن الجماعة قادرة على الرعاية‬ ‫والحماية الذاتيتين‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪68‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪69‬‬ ‫الأسماء والبيان‬