أن الأصل في القانون هو وجها القيم الخمس الموجب منها أو السالب من حيث هي مكيفة قيميا للمقومات الخمسة.ومعنى ذلك أن مقومات الإنسان الخمسة (الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود) لايمكن ألا تكون مكيفة قيميا إما بالإيجاب فتكون الإرادة حرة والعلم صادقا والقدرة خيرةوالحياة جميلة والوجود جليلا أو تكون العكس فيكون الإنسان خاضعا للعبودة والباطل والشر والقبح والذل :والقانون على نوعين.القانون الذي ينبع من الأمانة والعدل والقانون الذي ينبع من خيانة الأمانة والظلم.وجرت العادة أن يوصف الأول بالخلقي والثاني بنفيها .لكن الوصفين خلقيان أحدهماموجب والثاني سالب .والأول يمثل معاني الإنسانية والثاني يمثل فساد معاني الإنسانية. لكن ما يفسد هذه المعاني هو غياب الكونية.ويمكن أن نشرح غياب الكونية بما يشبه نكتة جحا عندما قيل له يا جحا اشتعلت النار فيبلدكم فرد هل وقع في مدينتنا؟ قالوا له نعم .هل وقعت في حينا؟ قالوا نعم .هل وقعت فيبينتنا؟ قالوا نعم .فقال \"اخطى رأسي واضرب\" .الحمد لله أنا سالم ولا يعنيني في غيري. المشكل هو الأنائية والغيرية.ولأن الإنسان له هذه الخاصية التي تجعله يحدد مستويات ما يحرص عليه فهو بالتدريجينتهي إلى أنه يقدم نفسه على كل ما عداه بدرجات تشبه ما وصفنا .ولهذه العلة فهويحاسب يوم الدين بنفس المعيار أي على افعاله التي يفسدها هذا الموقف النافي لوحدة المصير بين البشر بل وبينهم وبين العالم.فكان الرمز في الحساب على الأفعال التي هي شخصية {يوم يفر المرء من أخيه وأمهوأبيه وصاحبته وبنيه لكل أمرئ منهم يومئذ شأن يغنيه} .لكنه يحاسب كفرد بسبب ما فرطفيه من الكلية بمعنى أنه لم يعامل الآخرين كما يأمل ذاته في معاملاته الدنيوية .ومن هنا نجد درجات تحرر القانون من الأنانية.وهي درجات السمو إلى الكونية حتى يصبح الإنسان يتعامل مع كل المجودات بمعيارالامانة والعدل وهذه الدرجات خمسة :الأسرة الصغرى والأسرة الكبرى ثم الأمةأبو يعربالمرزوقي 48 الأسماء والبيان
والإنسانية ثم العالم .فتجاوز الذات يزداد عسرا بحسب هذه الدرجات طردا ويسرا عكسا .وهذا هو السند الفطري للقانونية ودرجاتها.فالإنسان أناني بالطبع وأدنى درجة لعدم الأمانة والعدل في الأسرة الضيقة وتتزايدالأنانية وقلة الأمانة والعدل في الأسرة الواسعة ثم في الأمة ثم في الإنسانية كلها ثم فيالعالم .فيكون قانون حفظ الأسرة وقانون لحفظ صلة الرحم وقانون لحفظ الأمة وقانون لحفظ الإنسانية وقانون لحفظ العالم.وسأسمي هذه القوانين الخمسة قوانين حقوق الإنسان وواجباته وهي التي ينبغي أنيراعي فيها طلب الكلية التي يكون فيها الإنسان في تعامله مع اسرته الصغرى وأسرتهالكبرى وأمته والإنسانية والعالم كما يريد أن يتعامل معه بمعياري الأمانة والعدل .وهذا هو ما يستنتج من رؤية القرآن لقانون القانون.وقانون القانون يعني القانون الذي يحدد شروط شرعية أي قانون ومن ثم فهو جوهرالشريعة التي ظنها الفقهاء الأحكام .الشريعة هي قانون القانون وليست القانون .وهيما إذا توفر في أي قانون كان شرعيا .وبذلك فأساسه حرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود أو تجاوز الذات.ولما كان تجاوز الذات ليس مضمونا لغلبة الأنانية على الإنسان -كلهم كجحا في الطرفة-فإنه لا بد من وجود قانون للعلاقة بالأسرة الصغرى (الأحوال الشخصية) وقانون للعلاقةبالأسرة الكبرى (القانون الوطني) وقانون للأمة (قانون للأمة) وقانون للإنسانية (القانون الدولي) وقانون للعالم.والمثال الأعلى هو أن تكون كل هذه القوانين خاضعة للأمانة والعدل فتتحقق فيهاالكونية .لكن المشكل هو أن الكونية هذه قد تتعارض مع مدى فاعلية الحب والرحمةاللذين يتضاءلان كلما صعدنا في الكلية فهما أقوى ما يكون في الأسرة الصغرى ثم ينقص مفعولهما بالتوالي حسب هذه الترتيب.فالنساء-1جمعت بين نوعين من الرحم الكوني والجزئي :فالآية بدأت بأن تكلمت علىالرحم الكوني (كل البشر من نفس واحدة) والربوبية ثم ثنت بالكلام على الرحم الجزئيأبو يعربالمرزوقي 49 الأسماء والبيان
(والارحام) والألوهية للعلم بأن الثانين أقل كلية من الاولين :الإنسانية والربوبية واحدة لكن الأمم والألوهية متعددة.وهدف الرسالة الخاتمة هو أن يرتقي الثانيان إلى مستوى الأولين :أي أن تصبح الألوهيةواحدة مثل الربوبية وأن يصبح الرحم الجزئي واحد مثل الإنسانية .لكن الله يعلم أنذلك يحصل بالتدريج وهو لا يوجد كهدف خلقي وقانوني إلا في الرسالة الخاتمة :لذلك فالقانون فيها كوني.وغالبا ما يكون اللجوء إلى التعامل بالقانون بمعناه المجرد الفاقد للترافق بداية خصومةفي العلاقاتَ :ولَا َت ْأ ُك ُلوا أَمْوَالَ ُكم َبيْنَكُم بِالْ َبا ِط ِل وَتُ ْدلُوا بِ َها ِإ َلى الْ ُح َّكا ِم لِ َتأْ ُكلُوا فَرِيقًا َِّمنْ أَ ْم َوا ِل النَّاسِ بِا ْل ِإ ْثمِ وَ َأن ُتمْ َتعْ َل ُمونَ( 188البقرة)وذلك خاصة في أقرب العلاقات والمثال هو الاسرة التي هي تعاقد بين شخصين لكنها فيآن تآنس وتراحم بينهما وهي أكثر من عقد في العلاقة بين الأهل والابناء وخاصة قبل بلوغمرحلة تحمل مسؤولية القيام بالذات لأن اطفال البشر أقل صغار الأحياء قدرة على بلوغ مرحلة الاستقلال عن رعاية الاهل.فأضاف نظام الآفاق القانونية القرآنية مرحلة سابقة عن اللجوء إلى القانون والمحاكمهي مرحلة الصلح بالتحكيم الأسري (من الأسرتين الأصلين للأسرة التي فيها خصومة)ويمكن تعميم ذلك على القانون المدني والقانون الجنائي والقانون الإداري وحتى القانون الدستوري وفي المستويين الوطني والدولي.ذلك أن التبكيتات القانونية إذا بدأت قد لا تتوقف ونهايتها هي حل الأسرة والشركةوكل ما كان يسير بمقتضى التوافقات الودية بين الأطراف التي تتألف منها المؤسسة المهددةبالخصومات .وبهذا المعنى فالقانون رغم ضرورته للأنظمة وللعمل فهو شبه الحل \"ب\" في كل أعمال البشر عندما يدب فيها الخلاف.فتكون وظيفة القانون شبه الحل الثاني للمحافظة على الحد الادنى من العمل المشتركأي عمل بمعيار الأمانة والعدل في الحسم الذي قد ينتهي إلى الصلح أو قد يفض الشراكة.أبو يعربالمرزوقي 50 الأسماء والبيان
لكن بعض الشراكات لا تفض :فالشراكة في الوطن وفي الامة وفي الإنسانية وفي العالم لا يمكن أن تفض .إذن للقانون فيها وجه ثان.إنه وجه ما سماه ابن خلدون الوزع الأجنبي في حالة غياب الوزع الذاتي أي إن القانونيتدخل عندما يغيب الضمير الخلقي .وهو تدخل وقائي بمجرد وجوده لأن الإنسان منالمفترض أن يكون عالما به وهو ليس معذورا إذا جهله وعلاجي عندما يحصل ما لم تحل دونه الوقاية .وذلك في كل المستويات القانونية.يمكننا الآن أن نعود فندرس النوعين الاخيرين من القانون أعني القانون الإداري (وقددرسته عند أكبر علمائه الفرنسيين :جورج فودال) ثم القانون الدستوري وهما في الرؤيةالقرآنية ينتسبان إلى أدبيات الاحكام السلطانية التي قلاها ابن خلدون قلوه للمدن الفاضلة لطلبه ما غاب فيهما :طبائع الأشياء.وهما موضوع الفصل العاشر من المحاولة وسيليه الفصل العادي عشر والاخير للكلام فيالعمل وعلة حاجته الشرع حاجة النظر للعقد .وبذلك أكون إن شاء الله قد فرغت منالبحث المتعلق بمنزلة القرآن من حيث هو رؤية للوجود والعالم وشروط التعامل معهما بنظام الآفاق المحققة لمهمتي الإنسان.وهي إشكالية اعتقد جازما أن التأصيلي والتحديثي كلاهما يجانب الصواب ليس بسببخطأ ذاتي بل لأن الاول يعتمد على علوم الملة التي حرفت الرؤية القرآنية والثاني يعتمدموقف من الأديان من منطلق القول بنظرية المعرفة المطابقة ويتوهم حيازته الحقيقة المطلقة بعلمه المبتور.أبو يعربالمرزوقي 51 الأسماء والبيان
بوسعنا الآن أن نتكلم على النوعين الاخيرين من القانون أعني الإداري والدستوري.ولكن لا بد من تقديم الدستوري على الإداري لأن ما يتضمنه الإداري (والنوعان الأولانيقتضيانه أيضا إلا أن التأثير في الإداري أكبر من التأثير فيهما) بسبب علاقته المباشرة بطبيعة نظام الحكم وأسلوبه.فالقضاء الإداري لا يوجد في كل الأنظمة في حين أن النوعين الاولين من القضاء لا يمكنأن يخلو منهما نظام .وهو لم يوجد في الدولة الإسلامية بسبب عدم وضع نظرية في الرؤيةالإسلامية التي ينبع منها ما سميناه أنظمة الآفاق المحددة لخصائص النظر والعقد ولخصائص العمل والشرع.فصحيح أن رجالات الدولة كانوا يقاضون لكن بصفتهم الشخصية في المدني والجنائيوليس بوصفهم ممثلين للدولة وينوبونها في تحمل مسؤولية الدولة في المدني والجنائي رغمأن الرؤية الإسلامية تقتضي ذلك لأنه كان ينبغي أن يكون أحد أهم عناصر مفهوم الحسبة.مفهوم القانون الإداري يعني أن الدولة نفسها خاضعة للقانون ومن ثم فهي تتحملمسؤولية أفعالها وعدمها ويمثلها أشخاص القيمين عليها والفرق واضح بين محاكمة الحكاممدنيا وجنائيا في تعديهم على ما ينتسب إلى مجالي المدني والجنائي بصفتهم الشخصية وبين العدوان بصفتهم ممثلين للدولة.كما أنه يوجد فرق بين أن أشكو الدولة بسب مسها بحقوقي مدنيا أو حتى جنائيا وبين أنأشكوها لأنها تجاوزت القانون بما فعلته أو بما لم تفعله وكان عليها ألا تفعله حتى لو لمأكن المتضرر المباشر بفعلها أو بعدمه إذ حينها أكون شاكيا بصفتي مواطنا ليس بصفي المتضرر المباشر :وهذا هو جوهر الحسبة.لكن هذا المعنى غاب لعلتين رغم أنه كان ينبغي أن يكون من مشمولات نظام افق العمل والشرع الذي تقتضيه الرؤية القرآنية:أبو يعربالمرزوقي 52 الأسماء والبيان
.1غاب أولا لأن الراشدين كانوا يقومون به بأنفسهم إذ لم يكن ضميرهم الدينييسمح لهم باستغلال السلطة أو بالسماح للدولة التي يمثلونها بأن تفعل أو لا تفعل ما يخالف الشرع.ثم بعد أن انتقلنا من الشرعية المتقدمة على الشوكة إلى العكس أو من الخلافة إلى الملك العضوض جاءت العلة الثانية: .2صارت الدولة فوق القانون والمساءلة لأنها ليست مبنية على الشرعية بل على التغلب .فلم يعد أحد يجرؤ على مساءلة الحاكم فضلا عن محاكمة الدولة في شخصه.فكان حضور الشرعية وغيابها علة لنفس الامر :الدولة مرت من وضع الخاضعة للقانونإلى وضع المخضعة للقانون .ومنذئذ إلى اليوم ما زالت الدول في بلاد الإسلام مخضعةللقانون ومتلاعبه به وليست قابلة للمساءلة بل هي صارت أداة التعدي على ما سميناه أصلا للقانون وشرحناه بإفاضة.ولذلك فكم أعجب من سخافات الحداثيين الذين يتصورون الإسلاميين عندما يتكلمونعلى الراشدين رجعيون يريدون العودة إلى الماضي والظلمات كما يزعمون .وما يفعلونإلا لأنهم لا يفهمون هذه المعاني اللطيفة التي قد يكون الكثير من الإسلاميين أنفسهم لا يدركونها بوعي ودافعهم منزلة الراشدين فحسب.وبوسعي أن أزعم دون فخر بمبدأ و\"أما بنعمة ربك\" أن أقول إن الرؤية الإسلامية فيهانظام آفاق في كل مجالات الحياة الإنسانية يمكن أن تكون منطلقا للحلول وهو أمر مختلفتماما عن الزعم بأن الحلول موجودة فيها بل الموجودة فيها هو نظام الآفاق التي يمكن للمجتهدين أن يتسمدوا منها الحلول.أما دعوى استمدادها من مجرد الشرح اللغوي لنص القرآن فهو أمر مناف تماما لما يشير به القرآن نفسه: .1فهو أولا يقول إن تبين حقيقته لا يكون بشرح ألفاظه بل برؤية آيات الله في الآفاق والانفس.أبو يعربالمرزوقي 53 الأسماء والبيان
.2وهو ينهى نهيا مجرما عن تأويل المتشابه أي المتعلق بالغيب المحجوب على الجميع بمن فيهم النبي.فما حرف علوم الملة هو قلب هذين الآيتين فجعلوا الأمر (فصلت )53نهيا فأهملوا مايعلم لم يروا آيات الله في الآفاق والانفس فلم تتبين لهم طبيعة الرؤية القرآنية وما يترتبعليها من أنظمة الآفاق وجعلوا النهي (آل عمران )7أمرا فانشغلوا بما لا يعلم :فكانت علومهم وأعمالهم كلاما على كلام.فعلوم الشاهد لم تكن قادرة على علاج العلاقتين العمودية مع الطبيعة لأنها لم تكنهادفة لاكتشاف قوانينها والافقية مع التاريخ لأنها لم تكن هادفة لاكتشاف سننها .ومندون قوانين الطبيعة وسنن التاريخ لا يمكن أن تبنى حضارة قادرة على إعالة نفسها وحمايتها بل هي تصبح عالة على غيرها فيهما.ومن يكون عالة على غيره لا يمكن أن يعمر الارض ولا أن يستخلف فيها فيفقد ما يسميهابن خلدون \"الرئاسة بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" وهو معنى فساد معانيالإنسانية .لذلك يمكنني القول إن التربية التي صارت وساطة والحكم الذي صار وصاية لم يعد همها إلا السلطان لاستعباد الإنسان.واجتمع ذلك كله في تحريف الدستور الذي وضعه القرآن وضعا صريحا وفصيحا رغم أنكلتا النخبتين ما تزال تجادل في وجوده وفي وجود نظرية الدولة في الإسلام متصورين أنالقرآن الذي هو استراتيجية تربوية وسياسية يمكن أن تكون رؤيته خالية من أهم أدوات هذه الاستراتيجية الثورية.فالدولة بمقوميها من حيث هي تعين الرؤية العامة التي يترتب عليها نظام الآفاق هينظام كل النظم النظرية والعملية كما وصفناها أي نظام العمل والشرع الذي يحتوي ذاتهوغيره من الانظمة الأخرى وخاصة نظام النظر والعقد لأن ما صدق مفهوم الدولة في العمل يطابق ما صدق مفهوم ارادة الجماعة كذات.إرادة الجماعة لما تصبح ذاتا في دولة فإنها تتعين في ما يترتب على الرؤية من مقوماتالعقد والشرع ومن مقومات الدولة كنظر وعمل ويجتمعان في العمل على علم بأنظمة الآفاقأبو يعربالمرزوقي 54 الأسماء والبيان
وما يستنتج منها من علاج للعلاقتين العمودية والأفقية .وهذا هو ما يجعله القرآن \"امر الجماعة\" وحدده في آية حرفت مفاهيمها.ولأورد الآية مميزا بين عناصرها ثم سأكتبها لاحقا بتعويض الضمائر فيها بما تعود عليهحتى يتبين التحريف الذي حصل-1\":وَا َّل ِذي َن ا ْس َت َجابُوا ِلرَ ِبَّهِمْ -2وَ َأقَامُوا ال َّصلَاةَ َ -3وأَمْ ُرهُمْ -4شُو َر ٰى بَيْ َنهُمْ َ -5و ِممَّا رَ َز ْق َناهُمْ يُن ِف ُقو َن\" الشورى (:)38فما دلالة عناصرها؟نكتب الآية بتعويض الضمائر-1 \":والذين استجابوا لربهم -2وأقاموا الصلاة -3وأمرهم=أمر المستجيبين لربهم -4شورى بينهم =شورى بين المستجيبين لربهم -5وممارزقناهم ينفقون= ومما رزقنا المستجيبين لربهم ينفقون\" .عندنا تحديد جماعة بمعيار الربوبية وليس الألوهية ما يعني أن الدولة كونية.فلو كانت الاستجابة لله وليس للرب لكانت خاصة بالمسلمين رغم أن المسلمين إلههم وربهمواحد .لكن في الاديان المحرفة الإله ليس الرب بمقتضى تحريف مفهومه إذ يصبح إلهجماعة بعينها وليس رب العالمين .ثم يأتي علامة الاستجابة الاولى وهي الصلاة رمزا لكل العبادات كعلامات مشعرية على الاستجابة.ثم تأتي نظرية الدولة طبيعتها وطبيعة شرعيتها :هي أمر المستجيبين لربهم أي أمرالجماعة التي تذوتت في الدولة فصارت ذاتا فاعلية لها إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود.ومنها تستنتج طبيعة نظام الحكم :أمر الجماعية= جمهورية (راس بوبليكيا=أمر الجماعة) ثم تأتي طبيعة أسلوب الحكم فيها.فأسلوب حكم جماعة الاستجابة للرب لأمرها هو الشورى بين الجماعة (شورى الجماعة=ديموقراطية أو حكم الشعب كجماعة) .فيكون نظام الحكم وأسلوبه في دولة الإسلامجمهورية ديموقراطية بالاصطلاح الفلسفي الحديث .ويكون موضوعها رؤية أساسها الاستجابة للرب وغايتها علاج المشكل الاقتصادي الاجتماعي.وقد رمزت الآية للمشكل الاقتصادي الاجتماعي بعبارة \"ومما رزقناهم ينفقون\" وأبوابالانفاق معلومة من كثير من نصوص القرآن لعل أهمها البقرة 177وهي قد جعلتها منأبو يعربالمرزوقي 55 الأسماء والبيان
شروط الإيمان أو الاستجابة إلى الرب وفيها إحالة إلى ضمير المتكلم أي إلى لله في رزقناهم ما يعني العرفان للرب المستجاب له.لكن كل هذه المفهومات حرفت .صار الأمر ليس أمر الجماعة بل أمر ولاة الامر .وصارتالشورى ليست شورة الجماعة في أمرها بل نصائح الدجالين لولاة الأمر من المتغلبين وليسحتى من ذوي الشرعية وأصبح الرزق ليس بيد الرب بل بيد أصحاب المكرمات من اللصوص المستبدة بالأمر.ثم يزعم \"العلماء\" أنهم ورثة الانبياء ويحكم \"الامراء\" أنهم يحكمون بشرع الله .فمنيحق له بعد كل هذا التحريف أن يعجب من وضع الامة الحالي ومن فساد معاني الإنسانيةفي جميع طبقاتها حتى بلغ الأمر إلى فقدان مقومي السيادة أعني الرعاية والحماية الذاتيتين والتبعية المطلقة للأعداء؟ولما كنت أومن بما قاله أفلاطون من أن النظرية هي النظام الفرضي الاستنتاجي الذييضع نموذجا يصاغ بلغة شبه رياضية ليترجم ما يعتبره البنية القانونية لموضوع النظريةوظيفتها تعليل كل ما يتجلى فيه من مظاهر فعلا وانفعالا فإني اعتبر ذلك قد كان معدوما في علوم الملة وهو ما أحاول تداركه.وفي مثل هذه الحالات فإن دليل النظرية ليس فيها وإن كان لتناسقها ما يعتبر من قرائنصحتها لكن الدليل الحقيقي هو بقدر المستطاع تفسير أكبر قدر ممكن من تجليات الموضوع.والموضوع هنا هو مدى نجاح الأمة أو فشلها في علاج العلاقتين بالتجهيزين النظري العقدي والعملي الشرعي لتحقيق مهمتي الإنسان.وأعتقد ولا فخر أني أوضحت أمرين يبدوان دالين على وجاهة التحليل والتأويل:الوصف الموضوعي لوضعنا والتعليل المعقول لما حدث في علوم الملة وأعمالها مما جعله يكونعلى ما هو عليه من انحطاط وفقدان لشرطي السيادة رعاية وحماية وما ترتب عليهما من فساد لمعاني الإنسانية وتبعية عيال.أبو يعربالمرزوقي 56 الأسماء والبيان
وصلنا إلى الفصل الحادي عشر والأخير من المحاولة لنعرف قدر المستطاع أعقد مفهومعلى الأطلاق في شبكة المفهومات الضرورية لعلاج المسألة مسألة ما يترتب على الرؤيةالقرآنية بوصفها استراتيجية توحيد البشرية بمشروع نقدي بنائي للتجربة البشرية في تحقيق شروط تعمير الارض بقيم الاستخلاف.تلك هي فرضية العمل التي اعتمدتها لقراءة القرآن قراءة فلسفية تحرره من اعتباره\"صندوق أدوات\" مباشرة فيها كل شيء بدلا من أن تكون رؤية تؤسس لنظام الآفاق المجهزة للإنسان: .1ليقدر على تحقيق مهمتيه تعميرا للأرض واستخلافا عليها. .2بإرادة حرة وعقل عالم وقدرة خيرة وحياة جميلة ووجود جليل.والرسالة الخاتمة لا تدعي الإتيان بالجديد بل التذكير بما هو مرسوم في كيان الإنسانالعضوي والروحي وإزالة ما شابه من تحريف إما بالنسيان أو بتحريف محاولات التذكيرالسابقة لأن كل الرسالات لها نفس المضمون العقدي الذي يحدده القرآن حتى وإن تعدد الشرعات والمنهاجات.وتعددها مقصود لأنه هو فرصة التسابق في الخيرات حتى يتذكر الناسون ما فطروا عليهإما بأنفسهم أو خلال هذا التسابق عندما يتبين لهم تفاضل الشرعات وكأنها متوالية منمراحل التربية لتنمية الوازع الذاتي (الضمير) ولتنمية الوازع الاجنبي (القانون) مسارا لقانون القانون :الأمانة والعدل.وأولى علل تعريف العمل تعريفا جامعا مانعا هو أن اسمه الحقيقي هو \"العمل على علم\"لأن كل ما ليس على علم لا يسمى عملا بل هو اضطراب بايولوجي مثل الصرع أو حركاتمن هو في غيبوبة أو ترنحات السكير أو المريض بالرعشة .ومعنى العمل على علم الجمع بين خمس معان دقيقة.أبو يعربالمرزوقي 57 الأسماء والبيان
فلا بد في العمل على علم من: .1غاية محددة .2أدوات محددة ضرورية لتحقيقها .3استراتيجية تصورية لمراحل الانتقال من البداية إلى الغاية .4قدرة مادية لترجمتها إلى استراتيجية إنجاز متكيف مع الطواري في مدته .5ما يعني قدرة خلقية للصبر والمواظفة والمراجعة الدائمة للعمل لأنه على علم.والشرط الأعسر هو الأخير :فكم من أهداف واستراتيجيات تصورية وأدوات وقدراتمادية تبذل ثم تذهب سدى فلا يتحقق الهدف ولا تثمر الاستراتيجية التصورية ولا تصلحالادوات ولا تفيد القدرات المادية إذا لم تكون مستندة إلى قدرة روحية عقلية تتكيف مع الطواري وتصابر وتثابر لتحقيق الهدف.وكان العمل مع لك قابلا لأن يكون أقل عسرا لو كان يمكن أن يحصل للفرد بل هو بالجوهرجماعي دائما .لا يوجد عمل مهما كان تافها يمكن أن ينجزه فرد مفرده ولهذه العلة لايوجد مجتمع ليست الأعمال فيه مقسمة ومن ثم فهي متكاملة بالضرورة وخاصة في ما يتعلق بشأن جماعي وليس فرديا.والعمل الجماعي في كل أنواع العمل هو الأسمى سواء في النظر والعقد أو في العملوالشرع في تحقيق مطالب الإرادة أو مطالب العلم أو مطالب القدرة أو مطالب الحياة أومطالب الوجود .والأول هو عمل السياسة والثاني هو عمل العلم والثاني هو عمل الاقتصاد والثالث هو عمل الفن والأخير هو عمل الرؤى.ورغم أن الإبداع لا يكون إلا فرديا فإن شروطه جماعية وثمرته للجماعة .وسأكتفيببعض الامثلة وهي مناسبة للحسم مع خرافة المنطق الجدلي المبني على التناقض والصراعبدل التناغم والوفاق .وليكن مثالانا الأولان من فن الرسم وفن الموسيقى وهما أساس كل فن لأن مادتيهما هما أصل كل الوجود المحسوس.فالفن رغم كونه جوهر الروحي عند الإنسان لا يقوم إلا في محسوس متعين في المكان أوفي الزمان .والأول هو حيز الرسم أو الأشكال السطحية أو ذات التضاريس غير الملونة أوأبو يعربالمرزوقي 58 الأسماء والبيان
الملونة .والثاني هو حيز الموسيقى الصامتة أو المصوتة غير الناطقة (أي صوت) أو الناطقة (صوت الإنسان :الشعر والغناء).ولنضرب الآن مثال الرسم المسطح الملون :هبنا أخذنا لونين الابيض والأسود بالتناظرمع الوضع والنفي بالمعنى الجدلي .السؤال :هل اللونان في الرسم يؤديان الوظيفةبالتناقض فيكون التقابل بين ناصح الابيض وظلام الأسود هو المؤدي لوظيفة الرسم أم الدرجات المتكاملة من اللونين وتناغمهما؟الرسوم البديعة ليست ناتجة عن تناقض اللونين بل هي التي يتكامل فيها اللونان بصورةيكون تمازج النور والظل وتكاملهما فيها هو الذي يحققها ويبرز ملامح الرسم المحاكي أوالمجرد في كل لوحة مكتفية بهما .وإذا تعددت الألوان أكثر من اثنين فالأمر يصبح أشد وضوحا ودلالة.أما في الموسيقى فلا حاجة لطويل الاستدلال :فالمستوى الارقى من الفن الموسيقي هو دونشك السنفونيات وهي لا تتألف من نشاز التناقض بين الأصوات بل هي تتألف من تناغمها.ولا أظن أنه يوجد دليل على سخف الرؤية الجدلية والصراعية في الوجود الطبيعي وفي الوجود التاريخ من هذين الدليلين.والعمارة رسم في أبعاد المكان الخمسة والآداب موسيقى في أبعاد الزمان الخمسة .سبق أنشرحت أبعاد الزمان الخمسة :الماضي له بعدان حدثه وحديثه حول حدثه الذي سبقهوالمستقبل له بعدان حدثه عن احداث المستقبل التي ستليه والحاضر هو بؤرة الابداع الأدبي المؤلف منها خمستها خارجها.ولأول مرة سأتكلم على أبعاد المكان الخمسة في العمارة .فهي أولا تحتاج إلى أبعاد المكانالثلاثة التي هي الطول والعرض والارتفاع (وما دون الأرض لا يحسب لأنها المنزل مثلايكون قد بدأ منه) والمشكل في البعدين الآخرين المناظرين للحديثين اللذين ينقلانا من الزمان الطبيعي إلى الزمان التاريخي.وهما في الحقيقة بعدان يشترك فيهما المكان مع الزمان عندما ينتقلان من كونهما بعديالطبيعة إلى بعدي التاريخ .فالزمان يمر من ثلاثة أبعاد إلى خمسة بسبب الحديث حولأبو يعربالمرزوقي 59 الأسماء والبيان
الحدث السابق والحدث اللاحق والمكان كذلك يعد ذا صلة بالحدث السابق وبالحدث اللاحق .فكل منزل له هذان البعدان في العمارة.فهو بحد ذاته ثمرة الحديث عن العمارة السابقة بل هو بدوره حديث عن العمارةالسابقة لكنه في آن حديث عن العمارة اللاحقة لأن صاحب المنزل تجده دائما متلهفا لجعلمنزله يكون نموذجا للعمار اللاحقة فيكون عند من لم يحقق منزله ويبحث عن نماذج يحاكيها قبلة تحكي عن المستقبل المعماري.ولو أضفت مثالا آخر هو ذروة الفن وأجمل الفنون على الإطلاق وفيه ما هو مطبوع وماهو مصنوع .فالمطبوع هو الطبيعة وبدن الإنسان وما هو مصنوع هو ما يدخله الإنسان علىالطبيعي خارجه وفي بدنه .فلا توجد امرأة لا تجمع بين المطبوع والمصنوع ولا توجد حديقة ليست جامعة بين المطبوع المصنوع.وما يزيد هذا المزيج بين المطبوع والمصنوع في بدن الإنسان رجلا كان أو امرأة أكثر ممايجعله يجمع بين رسم يجمع بين شكل المكان وحركة الزمان أعني الرقص .فالرقص حركة فيالزمان ترسم أشكالا في المكان بكيان هو بدوره مشكل بتضاريس بدنه فهو إذن نحت متحركة وموسيقى صامتة.العجولون سيعتبرون هذا خروجا عن الموضوع .في الحقيقة لو لاحظوا أن الأمم التيتعمل بحق أي تعمل على علم بالمعنى الذي عرفناه في بداية هذا الفصل هي التي عرفتبالأبداع في الفنون التي ضربتها أمثلة لمعنى التناغم في العمل الفني والذي هو مشروط في كل عمل لأن كل عم ٍل عملٌ فني بالجوهر.فإذا وجدت أمة \"علماؤها\" يحرمون هذه الفنون الخمسة التي ضربتها أمثلة تتعين فيهاشروط العمل على علم -الرسم أساسه هندسة النسب المكانية والموسيقى اساسها عدد النسبالزمانية-فأعلم أنها أمة لا يمكن أن تبدع في أي مجال من مجالات العمل بل تكتفي بتقليد الموجود .وهو مناف الرؤية القرآنية.والأدلة كثيرة .فمنها ما هو ذو صلة بنمط الحياة الجاهلية التي لم يحرمها الإسلام بلاستفاد منها وهي متعلقة خاصة بفنون الحرب والفروسية وفيها أهم خاصية يتعلق بها الامرأبو يعربالمرزوقي 60 الأسماء والبيان
وهي شروط النظام وتناغم الأفعال المتعددة المشروطة في العمل على علم لأن النظام فيه هو علامة كونه عملا على علم.ومنها ما له صلة بالعبادات نفسها .فالصلاة عامة وصلاة الجماعة خاصة من أهم رموزالنظام والتناغم حتى إن أحد قادة الفرس عجب من كون العرب صاروا قادرين على العملالمنظم بهذه الصورة التي بهرته فقال ما لا يزال يقوله الفرس إلى اليوم محافظين على موقفهم ممن فوضوهم قبل الإسلام.ومنها ما هو أكثر دلالة على أن الموسيقى حتى وإن لم تكن خالصة قد مثلت العلاقةالمباشرة مع أسمى عبادة وهي قراء القرآن .فتجويد القرآن موسيقى ناطقية بأفضل نطقوأفضل خطاب رسالة رب العالمين لخليقته .لكن علماء الانحطاط أهملوا كل هذه الإشارة فقتلوا الذوق خاصة والشعر انحط إلى التكدي.فالشعر كان من المفروض ألا يقتصر تأثره بأسلوب القرآن في مستواه الأول -وقد فعل-بل كان ينبغي أن يتأثر بمستوى أسلوبه الثاني وبروحه التي تتجاوز المادية الفجة للشعرالجاهلي .فالمستوى الثاني من الأسلوب القرآني أقرب إلى اساليب الأدب اليوناني منها إلى أساليب الشعر الجاهلي.ففيه التصوير الشعري لا يكون بالكلام بل بـ\"المشاهد التمثيلة\" التي تشبه التراجيديا(مدح الأبطال دراميا أي بالأفعال وليس بالأقوال) والكوميدينا (دم نقيض الأبطالدراميا كذلك) فضلا عن الابعاد الروحية ذات الرمزية الكونية بخلاف دوران الشعر الجاهلي على الذاتيات الفردية والفخر المقيت.وكان ابن رشد-وهذه من محامده-قد تنبه إلى هذه الخاصية في أسلوب القرآن لكنها لميجرؤ لقول ذلك مباشرة فنسب الأمر إلى الكتب الدينية خلال شرحه لكتاب أرسطو فيالشعر .ولا ضير في ما قاله لأن المقارنة لا تعني المساواة بين طرفيها .فالله يتكلم على نفسه بما يبدو تشبيها بالملوك وهو ملك الملوك.والتحدي بالقرآن كان ضد الكافرين به لكنه لا يعني منع محاكاة أساليبه في التعبير لأنكل ما يبدعه الإنسان هو محاكاة لأساليب الله في الخلق .فما من ابتكار إنساني وخاصة فيأبو يعربالمرزوقي 61 الأسماء والبيان
التقنيات ليس هو مجرد محاكاة قاصرة لآيات الخلق .وكل ما نسميه فنون الذكاء محاكاة للعقل الإنسان وإذن محاكاة للخلق.وإذا كان القرآن لا يحتج على شيء إلا بالإحالة إلى نظام العالم الطبيعي وقوانينهونظام العالم التاريخي وقوانينه ويعتبر ذلك من آيات الله والأدلة على وجوده وعل عملهعلى علم محيط فمن باب أولى أن تكون التربية والحكم محاكاة لهذين النظامين دليل عرفان لا عبارة عن الكفران.فهذا هو معنى الاستخلاف :فما كان الله قد اختار الإنسان ليكون خليفته لو لم يكن قدجهزه بما يمكنه من أن يحاكي أفضل ما في الوجود فيخلص ما يماثلها مع النسبية طبعا والمؤمنالصادق لا يعتبر ذلك تألها وكفرانا بل هو يعتبره جوهر العبادة لأن محاكاة أخلاق القرآن وهي أسمى مخلوقات الله إيمانكنت أنوي ترك هذه البقية للغد لكن الكاتب شجعني على إتمامها رغم أن سرحته خوفاعليه من الإرهاق فبارك الله فيه والحمد لله أن المحاولة وصلت إلى غايتها حتى وإن كانكل مسائلها بحاجة إلى المزيد لكن لا بد من شد الزمام ومسك اللجام .ويكفي ما قلنا ولله الحمد والشكر على نعمائه.أبو يعربالمرزوقي 62 الأسماء والبيان
رغم أني ختمت البحث في الفصل الحادي عشر إلا أن النفس ما زال فيها شيء من حتى.لم أتكلم على عمل الدولة التي هي ذات الجماعة أو جهازها العصبي الناظم لعملها علىعلم .والغاية من البحث كله هي تحرير هذا العمل من عقد النقص التي يعاني منها نوعا النخب التأصيلي والتحديثي.والمثال المعروف في تقاليدنا ليس مقارنة الجماعة وعملها كذات على علم بالبدن ووحدتهبل مقارنة العملين من حيث الانتظام بين الوظائف وخاصة علم وكل وظيفة بالبقية وتفاعلهامعها فعلا وانفعالا .لكن ذلك لا ينفي أن كل عضو من الأعضاء العاملة معها والمتعاملة له اختصاصه ونجاحه يكون في أدائها.وقد سبق فبينت أن اعضاء الدولة العاملة بتناغمها وبقيام كل منها بوظيفته بحسبمقتضياتها هي النخب الخمسة وهي نخبة الإرادة أو الساسة بنوعيهم ونخبة العلم أو منتجوالمعرفة بنوعيهم ونخبة القدرة أومنتجو شروط القيام بنوعيهم ونخبة الحياة أو الفنانون بنوعيهم ونخبة الوجود أو اصحاب الرؤى بنوعيهم.وسأضرب مثال من الفنون مرة أخرى للدلالة بمعنى \"تؤدي وظيفتها كل بمقتضىاختصاصها\" .وسأسمي هذا المثال من الفنون بالحاسة التي تؤديها :فعندنا عين الرسام وأذنالموسيقار وأنف العطار ولسان الطعام واللماس فيها جميعا لأنها كلها تدرك بالملامسة من العين إلى اللسان.فهذه الأعضاء تجمع بين الموهبة الإلهية في أعضاء الإدراك الحسي وتكوين صارم لهذهالموهبة للحصول على هذا النوع من الفنيين في أهم الفنون التي وصفت :عين الرسام وأذنالموسيقار وأنف العطار ولسان الذواق للسوائل وخاصة الخمور وكلها مصحوبة كما أسلفت بالملامسة بين الإنسان والمواد الخارجية.ويمكن أن نقول إن هذه الاختصاصات هي من جنس \"الهوائيات الوجودية\" التي لها منالدقة واللطافة ما يجعلها أسمى ما لنا من علاقة بالوجود الخارجي تجعل الجماعة بفضلهمأبو يعربالمرزوقي 63 الأسماء والبيان
قادرة على تحديد أرقى مستويات الذوق الفني للمرئي والمسموع والمشموم والمذوق والملموس مما حولنا من الطبيعة ومحاكاته بتقنياتنا.فالرسام والنحات يمكنهم أن يبدعوا بتقنياتهم ما يحاكي كل شيء بل وإبداع ما لا مثيلله في الوجود الخارجي ونفس الشيء يقال عن الموسيقار وعن العطار والذواق في الطعوموكلهم من لطيفي اللمس بحواسهم الرهيفة .ونموذج الفنون تقاس عليه حاسة السياسي والعالم والمنت لشروط القيام وللرؤى.مشكل عمل الدولة هو إذن مشكل مضاعف :كيف تنتخب الجماعة هذه النخب في العملكما تنتخب عين الرسام وأذن الموسيقار وأنف العطار ولسان الطعام بحاسة لمس أو تلق مباشرللمعطيات التي يتحدد بها قيام الدولة ونجاحها في تحقيق شرطي السياسة أعني الرعاية والحماية الذاتيتين.ثم كيف تعمل هذه النخب الخمسة بصورة تجعل عملها يكون مثل السمفونية في الموسيقىأو مثل البدن السليم في الحياة بصورة يتحقق فيها شرطان :أن تعمل كل نخبة بمقتضىوظيفتها بكامل الحرية وأن يكون الحاصل من عملها هو التناغم المجانس لتناغم الآلات الموسيقية في السنفونية المبدعة.فلأشرح أولا معنى \"بنوعيهم\" في الحالات الخمس :فكل واحدة من النخب هي كل الجماعةوالمختصون منها بحسب المجال والاول فرض عين والثاني فرض كفاية بمعنى ان الجميعساسة حكما ومعارضة ومنتجو معرفة إنسانية وطبيعية ومنتجو قدرة مادية أو رمزية ومنتجو فن بمواد خارجية أو بكيان الإنسان.وقبل ذلك وبعده منتجو الرؤى الدينية والفلسفية وهم نوع عجيب في كل الحضارات لأناختصاصهم هو اللا اختصاص لكون الرؤى متقدمة على الاختصاصات ومرتبة لها وهي منجنس رئيس الفرقة الموسيقية في مستوى التصور وليس في مستوى الانجاز الذي يؤديه بنفس المعنى السياسي.فإذا تم انتخاب هذه الأصناف من النخب على أحسن وجه وأدت كل واحدة منهم دورهابمقتضى معاييره وقيمه فإن السنفونية تكون موجودة بينهم بالقوة خاصة إذا عملت النخبةأبو يعربالمرزوقي 64 الأسماء والبيان
السياسية بما آمنت به من الرؤى التي هي عين فهوم الجماعة في لحظات تاريخها المتوالية لمرجعياتها الروحية والعقلية.فالرؤى هي في الحقيقة استراتيجيات عمل على علم في أي جماعة .وطبعا فلا السياسيولا العالم والقادر ولا الفنان هم مجرد آلات ناسخة للرؤى المعبرة عن المرجعيات الروحيةوالعقلية للجماعة بل هم بدورهم بحكم تربيتهم عليها بحرية خالية من الوساطة والوصاية لهم اجتهاداتهم الخاصة بهم.ولذلك فكلما كانت النخب حرة ومعبرة بكامل الحرية على فهومها كلما اقتربنا من تحقيقشروط الطابع السنفوني للعمل الجماعي وهو من طبع هدف عسير التحقيق لكنه شيئا فشيئايتحقق فتصح الدولة وكأنها ساعة سويسرية تعمل بتناغم تام بمقوماتها الـخمسة:إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود.وليس هذا إلا قاعدة الأساس في عمل الدولة لأن امتحان فاعليتها هي في تطبيقاتها فيوظائف الدولة المباشرة لحياة الجماعة اليومية في كل أنشطتها التي تعود بالأساس إلى علاجالعلاقتين العمودية مع الطبيعة لإنتاج شروط الحياة العضوية والعلاقة الأفقية مع التاريخ لإنتاج شروط الحياة الروحية.وهذا هو المستوى الثاني من وظائف الدولة والذي هو في علاقته بالمستوى السابق منجنس التجربة الطبيعية في علاقتها بالنظر والعقد ومن جنس التجربة التاريخية ي علاقتهابالعمل والشرع .والمستوى الثاني يتألف من خمسة وظائف للحماية وخمسة وظائف للرعاية.فالجماعة لا تعمل بسلام في ما بينها -وهو شرط تقاسم الأعمال والتعاون ثم التبادلبالتعاوض العادل -من دون حماية داخلية وهي مضاعفة قضاء وأمنا ومن دون حمايةخارجية وهي مضاعفة دبلوماسية ودفاعا وهذه الحماية بحاجة لأن تعمل على علم وذلك هو دور الاستعلام والإعلام السياسي في كل دولة.لكن قبل ذلك فالجماعة لا توجد ولا تبقى أصلا من دون القيام المتجدد دائما بإنتاجالإنسان نفسه تكوينا بالتربية النظامية والتربية الاجتماعية وتغذية لبدنه بالإنتاجأبو يعربالمرزوقي 65 الأسماء والبيان
الاقتصادي ولروحه الانتاج الثقافي وشرط ذلك عمل على العلم هو البحث والإعلام العلميين حول الطبيعة والتاريخ وحول الإنسان.ويكفي أن تنخرم واحدة من هذه الوظائف حتى تفسد البقية ما لم يقع تداركها أولاوتدارك السنفونية الحاصلة من عملها المشترك على علم تماما كما تعمل الجوقة الموسيقيةبآلات أعضائها المختلفة بقيادة رئيس الجوقة الذي يراقب الإنجاز ويسيره .وهذا تقريبا هو دور الحكومة مع مراقبة المعارضة للأداء.وطبيعي أن يكون الامر شديد العسر لكن القاعدة الأساسية هي أنه كلما كانت النخبحرة ومتحاورة كان ذلك بخلاف أوهام المستبدين والفاسدين كلما تحقق التناغم أما إذااستبد أحد وخاصة رئيس الجوقة فأراد أن يصبح هو صاحب القرار في كل هذه الاختصاصات فإن النتيجة هي الانخرام والعقم الملقين.وهنا يأتي مثال عمل البدن .فإن لم يعمل جهاز الدورة الدموية وجهاز الدورة الغذائيةوجهاز الدورة العصبية وجهاز المدارك الحسية كل بمقتضى وظيفته ولم يكن سليما فإنالبدن يمرض ويصبح معوقا .وكذلك الامر بالنسبة إلى السنفونية فأي آله تفسد تدخل النشاز فيها فتفسد .وكذلك الدولة. والفساد يصيب العمل على علم الذي هو جوهر قيام الدولة بوظائفها من مدخلين: .1مدخل الآلة المجردة التي هي نظام المؤسسات التي يتكون منها صورة الجماعة أوالدولة وهي جهاز آلي خال ممن القيمين عليه وهو المدخل البنيوي الآلي وفيه تكون الدولة شبه مكنة \"قطعها\" هي المؤسسات. كما يصيبها الخلل من: .2من تتعين فيهم المؤسسات بوصفهم قيمين عليها وممثلين لدورها فيملؤون خاناتلجهاز أو المكنة التي تتألف من منظومة المؤسسات ليجعلوها كائنا حيا وكل من يقوم علىمؤسسة يكون ممثلا للجماعة وهو المقصود بالأمانة في مستويات القانون الشرط الاول فيه مع العدل شرطه الثاني.أبو يعربالمرزوقي 66 الأسماء والبيان
وهذا المستوى الثاني هو مناط البعد الخلقي من الدولة .الأول هو البعد التقني منالدولة والثاني هو البعد الخلقي من الدولة ويمكن قياس ذلك على علاقة نظام المكنة فيالسيارة والسائق .فالقيم على إحدى المؤسسات سائق لها وكأنه سيارة يمكن أن تفسد تقنيا كمكنة ويمكن أن تفسد خلقيا كسياقة.لكن المكنة تسهم في أخلاق الدولة إذا هي تطورت فتعضت أجهزتها بصورة تحول دونأخطاء السائق وتمكن من اكتشافها ومحاسبته على سوء سياقته وهذا هو دور القانون فيالدول لأن مساءلة القيمين على المؤسسات لا تكون ممكنة من دون تجهيز المؤسسات بأدوات مراقبة القيمين :وهو دور خلقي كذلك.والقيمون لهم كذلك بعد تقني .فالقيم له كفاءة تقنية وله سلامة خلقية .فلا الاولىوحدها تكفي ولا الثانية بكافية بل لا بد من الاثنين :من هنا ضرورة تكوين القيمين علىالمؤسسات تقنيا وخلقيا .وبذلك وفيت بالمطلوب علما وأن ما في النفس من حتى لن يوقفه إلى مفارقة الحياة .والله هو الموفق. والثابت أمران:أن العمل على علم أي عمل على علم عمل جماعي حتى وإن بدا فرديا وخاصة عندمايتألف من شروط تمامه .فلا يوجد عمل فني كامل من دون المستويات الخمسة التي بينتهافي إنتاج الثروة بضاعة كانت أو خدمة .فلا بد أولا من الفكرة ولا بد من المستثمر والممول والعمل والمستهلك.وذلك العمل الفني :فمثلا لو أخذنا أفلام السينما فلا بد فيها من صاحب العمل الأدبيوالمستثمر الذي يكلف من يصوغها في سيناريو وممول للعمل ثم الممثلين وكل الطاقم المنجزللعمل ثم المستهلكين وهم في المقام الأول لأن المستعمر والممول لم يختاروا الفكرة إلا بعلم من حاجة المستهلك للمنتج.وكذلك الأمر في كل عمل يبدو فرديا حتى في إطار حياة الأسرة أو حتى في أقصى حالةوهي حالة الفرد المنعزل فهو لا يكون عملا إلى على علم بفكرة يستثمرها ويمولها ويستهلكهاأبو يعربالمرزوقي 67 الأسماء والبيان
نفس الشخص في الظاهر لكن الفكرة والاستثمار والتمويل والاستهلاك كلها جماعية في شروطها وفي ثمراتها.لكن هذه الأبعاد تصبح بارزة حتى لفاقدي البصيرة في العمل الجماعي أي في الدول لأنالرؤية والسياسة والعلم والذوق والقدرة ببعدي كل واحدة منها مشاركة في أي منجزجماعي وخاصة في بعدي السيادة التي هي ممتنعة إذا لم تكن الجماعة قادرة على الرعاية والحماية الذاتيتين.أبو يعربالمرزوقي 68 الأسماء والبيان
أبو يعربالمرزوقي 69 الأسماء والبيان
Search