Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore e-book-كتاب فقه البيان النبوي .. دراسة تحليلية في ضوء أسباب النزول والورود

e-book-كتاب فقه البيان النبوي .. دراسة تحليلية في ضوء أسباب النزول والورود

Published by anhuns, 2022-11-18 03:02:30

Description: كتاب فقه البيان النبوي .. دراسة تحليلية في ضوء أسباب النزول والورود
إعداد وتأليف : محمد سماوره

Keywords: figh,islamic

Search

Read the Text Version

‫فـقـه الـبيــان الـ ّنبــــوي‬ ‫«درا�سة تحليل ّيـة في �ضوء أ��سباب ال ّنزول والورود»‬ ‫مح ّمد بن داود �سماروه‬ ‫ا إل�صدار‪( 80 :‬فبراير ‪2014‬م ‪ /‬ربيع أ�ول ‪1435‬هـ)‬

‫ا إلخراج الفني‪ :‬محمود محمد �أبو الف�ضل‬

‫مح ّمد بن داود �سماروه‬ ‫مفكر تايلاندي‪ ،‬من مواليد م ّكة المك ّرمة‪ ،‬ح�صل على درج�ة اللي�سان�س في‬ ‫الحديث ال�ن�ب�وي وع�ل�وم�ه م�ن دار الح�دي�ث بمكة الم�ك�رم�ة‪ ،‬ون�ال درجة‬ ‫الماج�ستير في ال ّدرا�سات الإ�سلام ّية بالمعهد العالي إلعداد ا ألئمة وال ّدعاة التابع‬ ‫لرابطة العالم ا إل�سلامي‪ ،‬يعمل‪  ‬أ��ستا ًذا م�ساع ًدا في كلية الدرا�سات ا إل�سلامية‬ ‫بجامعة جالا الإ�سلامية‪ – ‬جنوب تايلاند‪.‬‬ ‫‪ ‬له مجموعة من ا ألبحاث‪� ،‬أهمها‪« :‬من الفهم‪ ...‬نبد�أ»‪ ‬و‪« ‬الدعوة الإ�سلامية‪:‬‬ ‫واقع‪ ..‬و�آفاق»‪ ‬و«خطاب ا ألقلية الم�سلمة» و«�صفات العالم الرباني‪ :‬درا�سة و�صف ّيـة‬ ‫ل�سلوكيات ا إلمام البخاري ال�شخ�صي ّـة»‪..‬‬ ‫نهــر متـعـــدد‪ ...‬متـجــــدد‬ ‫م�شروع فكري وثقافي و�أدبي يهدف �إلى الإ�سهام النوعي في �إثراء المحيط الفكري والأدبي‬ ‫والثقافي ب�إ�صدارات دورية وبرامج تدريبية وفق ر�ؤية و�سطية تدرك الواقع وت�ست�شرف الم�ستقبل‪.‬‬ ‫وزارة الأوقاف وال�ش�ؤون الإ�سلامية‬ ‫قطاع ال�ش�ؤون الثقافية‬ ‫�إدارة الثقافة الإ�سلامية‬ ‫�ص‪.‬ب‪ 13 :‬ال�صفاة ‪ -‬رمز بريدي‪ 13001 :‬دولة الكويت‬ ‫الهاتف‪ - )+965( 22487310 :‬فاك�س‪)+965( 22445465 :‬‬ ‫نقال‪)+965( 99255322 :‬‬ ‫البريد الإلكتروني‪[email protected] :‬‬ ‫موقع «روافد»‪www.islam.gov.kw/rawafed :‬‬ ‫‪3‬‬

‫تم طبع هذا الكتاب في هذه ال�سل�سلة للمرة ا ألولى‪،‬‬ ‫ولا يجوز �إعادة طبعه أ�و طبع أ�جزاء منه ب أ�ية و�سيلة �إلكترونية �أو غير‬ ‫ذلك �إلا بعد الح�صول على موافقة خطية من النا�شر‬ ‫الطبعة الأولى ‪ -‬دولة الكويت‬ ‫فبراير ‪ 2014‬م ‪ /‬ربيع �أول ‪1435‬هــ‬ ‫الآراء المن�شورة في هذه ال�سل�سلة لا تعبر بال�ضرورة عن ر�أي الوزارة‬ ‫كافة الحقوق محفوظـة للنا�شر‬ ‫وزارة الأوقاف وال�ش ؤ�ون الإ�سلامية‬ ‫الموقع ا إللكتروني‪www.islam.gov.kw :‬‬ ‫رقم الإيداع بمركز المعلومات‪2013 / 117 :‬‬ ‫تم الحفظ والت�سجيل بمكتبة الكويت الوطنية‬ ‫رقم الإيداع‪099 / 2013 :‬‬ ‫ردمك‪978-99966-50-76-5 :‬‬ ‫‪4‬‬

‫فهر�س المحتويات‬ ‫ت�صدير ‪9‬‬ ‫مدخل ‪11‬‬ ‫الف�صل الأول‬ ‫منهج الوحيين في البيان والتبيين ‪15‬‬ ‫الف�صل الثاني‬ ‫خاتمية الر�سالة‪ :‬إ��شكاليات الفهم والتنزيل ‪27‬‬ ‫الف�صل الثالث‬ ‫فقه البيان النبوي بين أ��سباب النزول والورود ‪39‬‬ ‫‪ -‬المبحث ا أل ّول ‪� :‬أ�سباب النزول والورود‪ ..‬وفقه البيان ‪43‬‬ ‫‪ -‬المبحث الثاني ‪ :‬فهم ال ّن�ص في �ضوء أ��سبابه وملاب�ساته ‪45‬‬ ‫‪ -‬المبحث الثالث ‪ :‬منهج ال�سياق في فهم القر�آن الكريم وتف�سيره ‪48‬‬ ‫‪ -‬المبحث الرابع ‪� :‬أ�سا�س التعامل مع ا ألحاديث النبو ّية ‪50‬‬ ‫الف�صل الرابع‬ ‫درا�سة تطبيقية لفقه البيان النبوي في �ضوء �سبب النزول ‪55‬‬ ‫‪ -‬المبحث الأ ّول‪ :‬المعنى ا إلجمالي للآية الأنموذجية ‪59‬‬ ‫‪ -‬المبحث الثاني‪� :‬سبب نزول ا آلية الأنموذجية ‪60‬‬ ‫‪ -‬المبحث الثالث‪ :‬التف�سير المو�ضوعي للآية ا ألنموذجية ‪63‬‬ ‫‪ -‬المبحث الرابع ‪ :‬تحليل الآية ا ألنموذجية في �ضوء �سبب النزول ‪66‬‬ ‫‪5‬‬

‫الف�صل الخام�س‬ ‫درا�سة تطبيقية لفقه البيان النبوي في �ضوء �سبب الورود ‪89‬‬ ‫‪ -‬المبحث الأ ّول‪ :‬التخريج المجمل لل ّن�ص النبوي الأنموذج ومظانه ‪92‬‬ ‫‪ -‬المبحث الثاني‪ :‬المفهوم العام للن�ص النبوي ا ألنموذج ‪95‬‬ ‫‪ -‬المبحث الثالث‪� :‬سبب ورود ال ّن�ص النبوي الأنموذج ‪98‬‬ ‫‪ -‬المبحث الرابع‪ :‬تحليل ال ّن�ص النبوي في �ضوء �سبب الورود ‪109‬‬ ‫‪ -‬المبحث الخام�س‪ :‬انفتاحية الدعوة الإ�سلامية ‪111‬‬ ‫الخاتـمـة ‪134‬‬ ‫الم�صادر والمراجع ‪141‬‬ ‫‪6‬‬





‫ت�صدير‬ ‫الحمد لله رب العالمين وال�صلاة وال�سلام على �سيد المر�سلين وعلى �آله‬ ‫و�صحبه �أجمعين ‪.‬‬ ‫بين حين و آ�خر‪ ،‬تعر�ُض للأمة الم�سلمة تحديا ٌت �ُش َب ِه َّي ٌة من جانب خ�صومها‬ ‫في محاولة لتعويق م�سيرة ال�دع�وة‪ ،‬وت�ضييق المجال الدعوي الإ�سلامي‪،‬‬ ‫وت�شكيك الم�ؤمنين في عدالة ق�ضيتهم وبراءتها من الج�رب وا إلك��راه على‬ ‫اعتناق هذا الدين الحنيف!‪..‬‬ ‫ولعل ما ُمي ّيز هذه الدرا�سة الا�ستقرائية الواعية التي بين �أيدينا‪� :‬أنها‬ ‫ا�ستب�صرت موا�ضع اللب�س حول الإ�سلام وق�ضية ا إلكراه في الدين‪ ..‬فك َّث َف ْت‬ ‫حولها �أ��ض�واء البحث والتحليل العلمي الر�صين‪ ،‬لت�ستبين وج�وه الحق‬ ‫وال�صواب فيها‪ ..‬م�ست�أن�سة بن�صو�ٍص �شرعية و أ�د ّل ٍة وبراهين وحجج علمية‪..‬‬ ‫رابطة بطريقة منهجية بين �أ�سباب نزول ا آليات‪ ،‬وبين أ��سباب ورود ا ألحاديث‬ ‫ال�شريف‪ ..‬وذلك في ُمقاربة بيانية ت�سبرِ غور هذه الق�ضية التي لم تزل مثار‬ ‫�أ ْخ ٍذ َو َر ٍّد في الأو�ساط العلمية‪ ،‬منتهية إ�لى وجوب توفير الحرية بين النا�س‬ ‫وبين ما يختارون‪ ،‬و إ�قرار مبد أ� تحرير الاعتقاد من وهم الإكراه في الدين‪.‬‬ ‫و َي�ُس ُّر�إدار َةالثقافةالإ�سلاميةبوزارةا ألوقافوال�ش�ؤونالإ�سلامية أ�نتقدم‬ ‫ل ُق ّرائها الكرام هذه الدرا�سة المتميزة للباحث محمد داود �سماروه‪� ،‬إ�سهاما‬ ‫منها في تغذية العقل الم�سلم بيقين الموقف الم�ستند �إلى الدليل ال�شرعي المعتبر‪،‬‬ ‫وتح�صينه بهدايات الوحي في ِخ َ�ض ِّم ال�سجال الفكري والح�ضاري ال�ساخن!‪..‬‬ ‫�سائلة المولى أ�ن ينفع بها و أ�ن يجعلها في ميزان ح�سنات كاتبها!‪..‬‬ ‫والله من وراء الق�صد‪...‬‬ ‫‪9‬‬



‫مدخل‬



‫الحمد لله رب العالمين‪ ،‬وال ّ�صلاة وال�ّسلام على من أ�ر�سله الله رحمة‬ ‫للعالمين‪ ،‬ونعمة على الم�ؤمنين‪ ،‬يتلو عليهم آ�ياته ويز ّكيهم ويع ّلمهم الكتاب‬ ‫والحكمة و�إن كانوا من قبل لفي �ضلال مبين‪ .‬ور�ضي الله عن آ�له و�صحبه‬ ‫ومن اتبعهم ب�إح�سا ٍن �إلى يوم الدين‪.‬‬ ‫الحمد لله ر ّب العالمين القائل‪} :‬ﯿﰀﰁ ﰂﰃﰄﰅﰆ‬ ‫ﰇﰈﰉﰊ ﰋﰌ{((( فالتك ّفل بالحفظ لل ّن�ص الإلهي‪ ،‬والحفظ‬ ‫والحرا�سة لبيانه عن طريق النب ّوة‪ ،‬يعتبر من أ�برز �سمات ال ّر�سالة الخاتمة‪،‬‬ ‫و أ�خ�ّص خ�صائ�صها‪.‬‬ ‫وال ّ�صلاة وال�ّسلام على ر�سوله المبعوث رحمة للعالمين‪ ،‬ا ّلذي مه ّمته ا ألولى‪:‬‬ ‫�أن يبينّ لل ّنا�س ما ن� ّزل إ�ليهم‪ ،‬ق�ال تعالى‪} :‬ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ‬ ‫ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ{(((‪ ،‬و�أن يب ّلغهم ر�سالة الله �إلى‬ ‫ا إلن�سان‪ ،‬ويق ّدم لهم من �شخ�صه [ ا ألنموذج ومح ّل الاقتداء ا ّلذي تتح ّقق‬ ‫فيه المعارف والمقا�صد والخ�صائ�ص‪ ،‬التي جاءت بها ال ّر�سالة الخاتمة‪.‬‬ ‫وبعد‪،،‬‬ ‫فقد تكون الحكمة من أ� ّن القر�آن جاء ترتيب �آياته و�سوره توقيف ّي ًا من الله‪،‬‬ ‫ولم ير ّتب بح�سب تاريخ و أ��سباب ال ّنزول –والله �أعلم– �إنمّ ا هي لتحقيق‬ ‫الخلود وتحرير ال ّن�ص ا إللهي الخاتم‪ ،‬من قيد ال ّزمان والمكان والمنا�سبة‪،‬‬ ‫وت�ق�ديم ال� ّر�ؤي�ة ال�ّشاملة التي ت�صلح لك ّل ا ألح��وال وا ألزم��ان والأماكن‬ ‫والمتغيرّ ات‪.‬‬ ‫ولع ّل �سبب ال ّنزول لل ّن�ص الإلهي‪ ،‬و�سبب الورود لل ّن�ص النبوي ي�أتيان في‬ ‫‪� -1‬سورة القيامة ‪. 19 -17 :‬‬ ‫‪� -2‬سورة النحل ‪. 44 :‬‬ ‫‪13‬‬

‫�سياق ما يمكن ت�سميته «فقه المح ّل»‪ ،‬و�إعانة للمجتهد على �إدراك �أهم ّية تو ّفر‬ ‫ال�شروط والظروف نف�سها‪ ،‬للتنزيل؛ لهذا ت�أتي أ�هم ّية هذا البحث العلمي‬ ‫الذي يهدف إ�لى معرفة أ�بعاد �سبب النزول وال�ورود‪ ،‬و�أهميتهما في عمل ّية‬ ‫الاجتهاد والتجديد‪� ،‬أو فقه التنزيل؛ لغاية الب�صارة والفقه العملي الميداني‪،‬‬ ‫ومدى خطورة تنزيل ال ّن�ص‪� ،‬أو الحكم ال�شرعي‪ ،‬على غير مح ّله‪ ،‬بالتو ّهم‬ ‫أ� ّن كل حكم ي�صلح لك ّل الأحوال‪ ،‬أ�و أ� ّنه ُين ّزل ب�إطلاق‪ ،‬دون مراعاة ال�شروط‬ ‫والظروف وملاب�سات الحال‪ ،‬حتى أ��صبحنا نتوقع ال َّن�سخ في غير موقعه‪،‬‬ ‫وغيرها من الم�شكلات المنهجية‪.‬‬ ‫وق�د اتبعت في �سياق ه�ذه ال�درا��س�ة المنهج الا�ستقرائي الا�ستنباطي‬ ‫التحليلي‪ ،‬على �أمل �أن نتو�صل من خلاله �إلى مرتكزات منهجية ومعرفية‬ ‫ت�ش ّكل مق ّومات فقه مح ّل التنزيل‪ ،‬وفي مقدمتها �أن حرية الاعتقاد قاعدة‬ ‫عظيمة من قواعد ال ّدين‪ ،‬و�أن ورود �سبب خا�ص لل ّن�ص لا يق ّيد عمومه‪ ،‬و أ�نه‬ ‫لا يجوز القول بال ّن�سخ بلا برهان‪ ،‬كما لا ي�ص ّح الأخذ بمفهوم ن�ّص �آخر في‬ ‫وجود ن�ّص �صريح في المو�ضوع‪ ،‬مع التنبيه على خطورة تنزيل ال ّن�ص النبوي‬ ‫على المح ّل من غير الفقه أ�و التنويه ب�سياقه ومنا�سبته‪.‬‬ ‫والله �أ�س�أل أ�ن ينفع بهذه الدرا�سة وهو من وراء الق�صد‪.‬‬ ‫‪14‬‬

‫الف�صل ا ألول‬ ‫منهج الوحيين‬ ‫في البيان والتبيين‬



‫اخ�ت�ار الله تعالى العرب ّية لتكون لغة خطاب ال�وح�ي الخ�اتم للعالمين‪،‬‬ ‫ف أ��صبحت بذلك لغة الوحي‪ ،‬وخطاب الله لعباده جميع ًا حتى ي�رث الله‬ ‫الأر�ض ومن عليها‪ ..‬وهذا الاختيار ‪-‬والله أ�علم حيث يجعل ر�سالته‪-‬‬ ‫أ�و هذا الج ْعل لل ّر�سالة‪ ،‬لا يقت�صر على اختيار ا إلن�سان‪ ،‬أ�و لا ي�صدق فقط‬ ‫على ا�صطفاء ال ّر�سول [ من بين �سائر الب�شر‪ ،‬و�إنمّ ا ي�صدق كذلك على‬ ‫أ�ر�ض النب ّوة ‪ :‬الجزيرة العرب ّية‪ ،‬وقوم النب ّوة ا ألوائل‪ :‬العرب الباقية‪ ،‬ولغة‬ ‫النب ّوة ‪ :‬اللغة العرب ّية‪ ،‬وما �إلى ذلك من �آفاق و أ�بعاد �أخرى‪ ،‬ويكفي العرب ّية‬ ‫بذلك ت�شريف ًا‪ ،‬كما يكفيها دليل ًا على قدرتها و إ�مكاناتها‪ ،‬وا�ستيعابها ل ُب ْع َدي‬ ‫ال ّزمان (الما�ضي والحا�ضر والم�ستقبل)‪ ،‬والمكــان (الجغرافيا)‪ ،‬وما يكــون‬ ‫في ذلك من تط ّور الب�شر ّية ونم ّو فكرها ‪.‬‬ ‫ولع ّل من ا ألمور اللافتة ح ًّقا‪ ،‬على م�ستوى الأ ّمة‪� ،‬أ ّن القر�آن الكريم ا ّلذي‬ ‫ن�زل بل�سان عربي مبين‪ ،‬وتعامل مع معهود العرب في الخطاب‪ ،‬هو �أ ّول‬ ‫كتاب ُيكتب و ُيقر�أ و ُيحفظ و ُيتداول ‪ .‬ومن هذا القر�آن‪ ،‬كتاب العرب ّية ا أل ّول‪،‬‬ ‫ا ّلذي بد أ� نزوله بطلب القراءة ‪ }:‬ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ‬ ‫ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ ﮍﮎﮏﮐﮑ‬ ‫ﮒ{ (العلق‪ ، )5 - 1 :‬وفر�ض ّية التع ّلم ‪ } :‬ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ{‬ ‫(البقرة ‪ } ،)31 :‬ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ‬ ‫ﰓﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ{ ( مح ّمد ‪ )19 :‬واعتبر ذلك‬ ‫مفتاح الح�ضارة‪ ،‬و�سبيل المعرفة وو�سيلة الثقافة‪ ،‬انطلقت الحركة العقل ّية‬ ‫والل�سان ّية واللغو ّية ففيه بد�أت القراءة وامت ّدت الكتابة للأ ّمة‪ ،‬فكان القر آ�ن‪،‬‬ ‫بما ب َّينه ودعا �إليه وما أ� ّ�صله و أ��ّس�سه‪ :‬محور المعرفة وا إلنتاج الثقافي جميعه‪،‬‬ ‫ومدار الحركة الفكر ّية ‪.‬‬ ‫وقد يكون �إعجاز القر آ�ن البياني والتح ّدي بالإتيان بمثله‪ ،‬من بع�ض‬ ‫الوجوه‪ :‬نوع ًا من التحري�ض العقلي والثقافي لإدراك �أبعاد هذا الإعجاز‪،‬‬ ‫‪17‬‬

‫والتدليل على ق�درة العرب ّية على �أن تت�ش ّكل منها معجزة‪ ،‬ببيان وجوه‬ ‫ا إلعجاز‪ ،‬ومحاولة محاكاته ‪.‬‬ ‫كما �أ ّنه ي�شير من جانب آ�خر �إلى الطاقات الهائلة والمخزون ال ّ�ضخم ا ّلذي‬ ‫تمتلكه اللغة العرب ّية‪ ،‬التي و�سعت من دلالات هذا القر آ�ن بك ّل آ�فاقه و أ�بعاده‪،‬‬ ‫�ضمن إ�طار �أبجد ّيتها ومرونتها و�سعة مفرداتها وكثرة مترادفاتها التي تعبرّ‬ ‫عن أ�د ّق الحالات ال�شعور ّية المتداخلة والمتجاورة‪ ،‬وقدرتها على تقديم القيم‬ ‫التعبير ّية لك ّل �إح�سا�سات الإن�سان وقيمه ال�شعور ّية‪ ،‬قال تعالى ‪ } :‬ﭑ ﭒ‬ ‫ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ{(البقرة ‪ } ،)2-1 :‬ﮀ ﮁ‬ ‫ﮂ ﮃ{ (الزخرف ‪.) 3-1 :‬‬ ‫وهذه الحروف الأبجد ّية تلفت ال ّنظر العقلي �إلى �أ ّن �آي القر آ�ن م�صوغة‬ ‫من هذه الحروف‪ ،‬ا ّلتي ي�ستعملها العرب في معهودهم للخطاب دون زيادة‬ ‫عليها‪ ،‬ومع ذلك يعجزون عن ا إلتيان بمثل هذا القر آ�ن ‪.‬‬ ‫و�إذا كان القر�آن معيار ال ّت�صويب والفهم لر�سالات الأنبياء‪ ،‬ف�إ ّن اللغة‬ ‫العرب ّية هي معيار ال ّت�صويب والفهم لكتاب الله‪ ،‬وما تمتلكه من الإمكانات‬ ‫ي�ؤ ّهلها للهيمنة على �سائر ال ّلغات ‪.‬‬ ‫و�إذا كان الاختيار يعني ال ّت�شريف وال� ّدلال�ة على �شرف وقيمة ومكانة‬ ‫المختار‪ ،‬ف�إ ّنه من وجه آ�خر يعني التكليف‪ ،‬ووجود الإمكان ّية والم�ؤهل للقيام‬ ‫بالمه ّمة‪ ،‬وحمل ا ألمانة‪ ،‬والقدرة على ح�سن �أدائها ‪.‬‬ ‫‪ -‬الوحيان وق�ضيتا التي�سير في البيان والتبيين‪:‬‬ ‫ي�ّسر الله عز وجل القر�آن لل ّذكر‪ ،‬فقال تعالى‪ :‬ﭽﮞﮟﮠﮡ‬ ‫ﮢ ﮣﮤﭼ (القمر ‪ ،)17 :‬وكان القر آ�ن بهذا ال ّتي�سير الهادف خطاب ًا‬ ‫عا ّم ًا للأ ّمة جميع ًا‪ ،‬و�ِس ْفر ًا مفتوح ًا لك ّل الع�صور وا ألجيال‪ ،‬ون ّ�ص ًا مي�ّسر ًا لك ّل‬ ‫ال ّنا�س‪ ،‬مهما اختلفت م�ستوياتهم وتخ ّ�ص�صاتهم ومناهجهم ‪.‬‬ ‫‪18‬‬

‫ولع ّل هذا التي�سير‪ ،‬الذي ي�ش ّكل بع�ض ملامح الإعجاز‪ ،‬هو الذي ح ّرك‬ ‫الهمم‪ ،‬و أ� ّهل ال ُّنفو�س‪ ،‬و�ش ّحذ العقول لمحاولة فهم أ��سرار ال ّن�ص القر آ�ني‬ ‫وا�ستكناه أ�بعاده ومقا�صده‪ ،‬ومقاربة أ��سلوبه‪ ،‬وك�شف وجوهه‪ ،‬والتع ّرف �إلى‬ ‫كنوزه‪ ،‬فكان ال ّن�ص القر�آني المُ ْع ِجز المي�ّسر لل ّذكر �سبيل ًا للارتقاء بال ّلغة‬ ‫والأ�سلوب والتط ّور وال ّنظر والاجتهاد والعطاء‪.‬‬ ‫ولئن ك�ان المعنى المتبادر لقوله تعالى ‪ :‬ﭽﮞ ﮟ ﮠ ﮡ‬ ‫ﮢ ﮣﮤﭼ هو �سهولة تلاوة و�إمكان ّية تداول وتناول ال ّن�ص القر�آني‬ ‫وتح�صيل المدركات والمقا�صد لك ٍّل بح�سب م ؤ� ّهله‪ ،‬ف إ�نه بهذا التي�سير ي�ش ّكل‬ ‫مائدة العقل وال ّنف�س لل ّنا�س جميع ًا ‪.‬‬ ‫ومن م�ؤ�ّشرات تي�سير القر آ�ن لل ّذكر �أ ّن مح ّل التل ّقي ا أل ّول وا ألنموذج‬ ‫الكامل للت�أ�ّسي كان أ�م ّي ًا‪ ،‬و�إ ّن�ه إ�نمّ ا ُب ِع َث في ا ألم ّيين أ�ي�ض ًا‪ ،‬يقول تعالى ‪:‬‬ ‫ﭽﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ‬ ‫ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ‬ ‫ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ‬ ‫ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ‬ ‫ﮞﮟﮠﭼ ( ا ألع�راف ‪ ،)157 :‬ويقول تعالى ‪ :‬ﭽﭞﭟ‬ ‫ﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫ‬ ‫ﭬﭭ ﭮ ﭯﭰﭱﭲﭼ (الجمعة ‪ ،)2 :‬وال ّر�سول [ ‪ -‬ي�ؤ ّكد تلك‬ ‫الأم ّية بقوله ‪ « :‬إ� ّنا �أ ّمة أ�م ّية لا نك ُتب ولا ن ْح�ُسب»(((‪.‬‬ ‫وق�ض ّية�أنتكونا أل ّمةا ألم ّية‪،‬التيلاتك ُتبولاتح�ُسب‪،‬محل ًّالل ّن�صالقر آ�ني‪،‬‬ ‫و أ� ّن حامل الوحي إ�ليها ُو�صف ب�أ ّنه النب ّي الأ ّمي‪ ،‬قد تحتاج ل�شيء من التد ّبر‬ ‫والا�ستب�صار‪ ..‬فالو�صف بالأ ّمي والأم ّية‪ ،‬ن�سبة �إلى ا ألم‪� ،‬أي البقاء على �أ�صل‬ ‫)‬ ‫‪1814‬‬ ‫لانكتب ولا نح�سب )‪ ،‬برقم (‬ ‫النبي [ ‪( :‬‬ ‫‪-1‬و�أ�أخخررججههمال�بسلخما‪،‬ركيت‪،‬اكبتاالب ّ�اصليا ّ�مص‪،‬وبما‪ ،‬بباوبجقووبل‬ ‫)‪.‬‬ ‫لر ؤ�ية الهلال‪ ،‬برقم ( ‪1080‬‬ ‫�صوم رم�ضان‬ ‫‪19‬‬

‫ولادةا ألم‪،‬لمتتع ّلمكتاب ًاولاغيرهمنقبل‪،‬يعتبرو�صف ًاللحالالتي ُب ِع َثعليها‬ ‫ال ّنبي [‪ ،‬والمرحلة أ�و الحالة التي عليها الأ ّم�ة مح ّل البعثة حيث جاءت‬ ‫النب ّوة الخاتمة ل ُت َغ ِرّي الحال‪ ،‬وتنطلق بها إ�لى معارج التع ّلم والتح ّ�ضر‬ ‫والتر ّقي‪ ،‬ولا �أد ّل على ذلك من �أ ّن مع خطوات النب ّوة الأولى بد أ�ت رحلة‬ ‫التع ّلم بالو�سائل الممكنة والم�شافهة ‪.‬‬ ‫وفي ق ّ�صة بدء الوحي ‪ :‬كيف �أ ّن الوحي بد�أ بطلب القراءة‪ ،‬فكان ر ّد ال ّر�سول‬ ‫[ وا�صف ًا حاله التي هو عليها ‪« :‬ما أ�نا بقارئ»‪ ،‬ف�أخذه جبريل عليه ال�سلام‪،‬‬ ‫و�ض ّمه �إليه ث ّم أ�ر�سله وقال ‪ ( :‬اقر�أ ) فر ّد ال ّر�سول [ ‪« :‬ما �أنا بقارئ»‪،‬‬ ‫ف أ�خذه جبريل ف�ض ّمه الثانية والثالثة‪ ،‬م ّما ي�شير إ�لى �أ ّن الوحي وال ّر�سالة‪،‬‬ ‫هما جماع منهاج بما يو�صف بـ ( الوحيين )‪ ،‬إ�نمّ ا لتغيير الحال أ�و الحالة‬ ‫الأم ّية‪ ،‬والارتقاء بالأ ّمة �إلى م�ستوى التلاوة والتعليم والتزكية وتع ّلم الكتابة‬ ‫والحكمة‪ ،‬لأ ّن الحالة الأم ّية التي �سبقت ال ّر�سالة كانت حالة �ضياع و�ضلال‬ ‫وعجز عن اكت�شاف الهدف ال ّ�صحيح للحياة ﭽﭬﭭ ﭮ ﭯﭰﭱ‬ ‫ﭲﭼ ‪.‬‬ ‫كما ي�شي ال�سياق ب أ� ّن العلم والمعرفة مفتاح هذا ال ّدين الوحيد‪ ،‬و�سبيل‬ ‫بناء ح�ضارته‪ ،‬و�أ ّن ا أل ّم ّية حالة مرحل ّية‪ ،‬و أ� ّن من �إعجاز هذه ال ّر�سالة أ�ن‬ ‫تكون قادر ًة على تغيير هذه الأ ّمة ا ألم ّية وت�أهيلها لبناء ح�ضارة إ�ن�سان ّية‪،‬‬ ‫وهذه تكاد تكون معجزة القيم الإ�سلام ّية الأ�سا�س‪ ،‬التي تتح ّقق من خلال‬ ‫عزمات الب�شر‪ ،‬وتملك من ا إلمكان الح�ضاري والثقافي ما يجعلها قادر ًة على‬ ‫النهو�ض بالأ ّمة ح ّتى �ضمن مرحلة ا ألم ّية‪ ،‬وح ّتى مرحلة الكمال‪ ،‬كما �أ ّن أ�م ّية‬ ‫ال�شريعة �أو ال ّر�سالة ا إل�سلام ّية تعني أ�نها م�ؤ ّهلـة للتن ّزل على ا ألم ّيين وتغيير‬ ‫واقعهم وحالهم‪ ،‬و�أ ّن ا ألم ّيين ب�إمكانهم تل ّقي هذه ال�شريعة والتعامل معها‬ ‫والالتزام بتكاليفها ‪.‬‬ ‫فالقر آ�ن مي�ّس ٌر لل ّذكر‪ ،‬وبذلك فهو خطاب أ� ّمة بك ّل �شرائحها‪ ،‬ابتدا ًء من‬ ‫‪20‬‬

‫ا ألم ّي وانتها ًء بالعالم المتخ ّ�ص�ص‪ ،‬والمبعوث بالقر آ�ن الكريم كان وراء بعث‬ ‫الأ ّمة الأم ّية‪ ،‬ا ألمر الذي ي ؤ� ّكد أ� ّن معاودة الانبعاث إ�نمّ ا يكمن بفقه كيف ّية‬ ‫العودة للات�صال بالقر�آن الكريم‪ ،‬وتجديد أ�مر ال ّدين‪ ،‬ومراجعة ت�صميم‬ ‫الذهن ّية الثقاف ّية للم�سلم المعا�صر في �ضوء الكتاب وال�ّسنة‪ ،‬و�إعادة الاعتبار‬ ‫لمعرفة الوحي لت�أخذ موقعها من حياتنا و�سلوكنا ونظرتنا للأمور‪ ،‬و�إ�شاعتها‬ ‫في �إطار الأ ّمة جميع ًا‪ ،‬و إ��شراكها بالعودة للقر آ�ن والا ّدكار لآياته‪ ،‬وقد ي�ّسره‬ ‫الله لل ّنا�س جميع ًا‪ ،‬ك ٌّل بقدر ك�سبه‪ ،‬و�أنزله للأم ّيين ‪.‬‬ ‫والمطلوب اليوم �إعادة الاعتبار ل أل ّمة بك ّل �شرائحها أل ّنها مح ُّل القر آ�ن‪،‬‬ ‫حيث إ�عجاز القر آ�ن‪ ،‬من بع�ض وجوهه‪ ،‬هو امتلاك القدرة بالقر�آن – قراء ًة‬ ‫وكتاب ًة وتل ّفظ ًا وت�الو ًة وتح ّدث ًا ‪ -‬على ال ّنهو�ض بالأ ّمة إ�لى مراقي التق ّدم‬ ‫والفهم والمعرفة والتربية وا إلدراك‪ ،‬و�أ ّن ا ألم ّية حالة م ؤ� ّهلة دائم ًا للتغيير‬ ‫والتغيرّ والارتقاء‪ ،‬و�إ ّن ما ح�صل من الارتقاء بالأ ّمة ا ألم ّية دليل على أ� ّن‬ ‫المعجزة القر�آن ّية إ�نمّ ا تتح ّقق من خلال عزمات الب�شر ‪.‬‬ ‫�إ ّن تحويل القر آ�ن من �أن يكون خطاب أ� ّم�ة بك ّل �شرائحها وم�ستوياتها‬ ‫و إ�غ�الق�ه على فئة أ�و طائفة �أو جماعة‪� ،‬أو زم�ن �أو مكان ليكون خطاب‬ ‫نخبة �أو طائفة أ�و ع�صر أ�و جماعة و�إق�صا َءه عن حياة ا أل ّمة والانتهاء �إلى‬ ‫هجره ‪:‬ﭽﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﭼ‬ ‫(الفرقان‪� ،) 30 :‬أو عزله عن حياة ا أل ّم�ة ومجتمعها‪ ،‬يحمل الكثير من‬ ‫المخاطر ال�شرع ّية والفكر ّية والثقاف ّية والح�ضار ّية والم�ساهمة ال�ّسلب ّية‬ ‫بالفراغات الفكر ّية‪ ،‬والفجوات ا ّلتي �سوف تم أل بـ «الآخر»‪ ،‬ولي�س أ�ق ّل من‬ ‫ذلك خطورة « َط ْو�أ َفة ال ّن�ص ال�ق�ر آ�ني» أ�ن تح ّل آ�راء الب�شر واجتهاداتهم‬ ‫و أ�قوالهم مح ّل ال ّن�ص القر آ�ني‪ ،‬ح ّتى ولو ا ّدعى أ��صحابها �أ ّنها إ�نمّ ا انطلقت‬ ‫من ال ّن�ص القر آ�ني‪ ،‬وا ّدعت مرجع ّيته ‪!! ..‬‬ ‫لقد تع ّددت مناهج ال ّنظر في ال ّتعامل مع ال ّن�ص ال�ق�ر�آني‪ ،‬من المنهج‬ ‫‪21‬‬

‫الت�شريعي (علم أ��صول الفقه) لا�ستنباط الأحكام الفقه ّية‪ ،‬إ�لى المنهج‬ ‫البياني بك ّل متط ّلباته وا�ستحقاقاته البلاغ ّية‪� ،‬إلى المنهج الترّ بوي بك ّل �أدواته‬ ‫ومقا�صده ومعطياته‪� ،‬إلى المنهج التاريخي في رحلة البحث والك�شف عن‬ ‫قوانين الحركة الاجتماع ّية وعوامل ال ّنهو�ض وال�ّسقوط‪� ،‬إلى المنهج ال�ّسنني‪،‬‬ ‫�إلى المنهج ال ّنف�سي‪ ،‬والمنهج ال ّتوحيدي‪ ،‬وحتى المنهج الجغرافي‪ ،‬ومنهج‬ ‫الت�صوير الفني‪ ،‬وعلى ر�أ��س ذلك ك ّله منهج ال�ّسياق الإعجازي‪ ،‬وطريقة‬ ‫ر�صف الكلمات في الجملة وال ُجمل في �صياغة ا أل�سلوب الم�ؤثر ذي الجر�س‬ ‫المو�سيقي الإيقاعي‪ ،‬وارتباط الألفاظ بالمعاني‪ ،‬وبناء الكلمات من الحروف‬ ‫المنا�سبة للجر�س ول إليقاع والمق�صد‪ ،‬بك ّل أ��صواتها و أ�نواعها‪ ،‬فيما يمكن أ�ن‬ ‫ي�س ّمى «المنهج البنيوي» حيث ر�صف الكلمات في جملة‪ ،‬والجمل في �أ�سلوب‬ ‫و�سياق‪ ،‬أ�و المنهج ال ّتحليلي‪ ،‬ودور ك ّل حرف في بناء معنى الكلمة ولفظها‬ ‫و إ�يقاعها‪ ،‬والمنهج المنطقي الفل�سفي‪ ،‬والمنهج المق�صدي‪ ،‬ومنهج التف�سير‬ ‫المو�ضوعي ‪ ...‬الخ ‪.‬‬ ‫ولع ّل من ملامح الإعجاز أ�ي�ض ًا أ� ّن المناهج‪ ،‬على تع ّددها وتن ّوع وجهتها‬ ‫واختلاف �أدواتها في النظر والا�ستنتاج‪ ،‬وجدت في ال ّن�ص القر آ�ني محل ًّا‬ ‫لفعلها‪،‬و ُملهم ًا لها‪،‬كماوجد �أ�صحابتلكالمناهجالمتن ّوعة�ضا ّلتهمفيال ّن�ص‬ ‫القر آ�ني‪ ،‬بل أ�كثر من ذلك ا�ستخل�صوا مناهجهم من ال ّن�ص القر�آني‪ ،‬ووجد‬ ‫ك ّل �صاحب منهج عطاء منهجه أ�ي�ض ًا فكان ال ّن�ص القر�آني مي�ّسر ًا لل ّذكر‬ ‫لك ّل الم�ستويات‪ ،‬وفر�صة ت�أ ّمل لك ّل م ّدكر‪ ،‬ومحل ًّا للنظر لك ّل المناهج(((‪.‬‬ ‫ولم تتناق�ض هذه المناهج ولم تتناكر‪ ،‬على تن ّوعها واختلافها‪ ،‬ابتدا ًء من‬ ‫المنهج اللغوي ال ّل�ساني والبحث البنيوي ومفردات القر�آن وانتها ًء بالمنهج‬ ‫المق�صدي‪ ،‬حيث ال ّن�ص القر آ�ني �إ�ضافة إ�لى �أ ّنه مي�ّسر لل ّذكر‪ ،‬ف إ� ّنا نجد أ�ي�ض ًا‬ ‫‪ -1‬ف�ضيلة ال�شيخ عمر عبيد ح�سنه‪� ،‬سل�سلة على ب�صيرة ‪ ،‬العربية ل�سان النبوة الخاتمة‪ ،‬المكتب‬ ‫الإ�سلامي‪� ،‬ص ‪ ( 119 -117 :‬بت�ص ّرف )‪.‬‬ ‫‪22‬‬

‫�أن المناهج الم�ستخدمة جميع ًا‪ ،‬بما في ذلك من ذهبوا �إلى المنهج العلمي‪،‬‬ ‫�أو ما يطلق عليه «الإعجاز العلمي»‪ ،‬لم تجر�أ �أن ت�سجل ملحظا واحد ًا على‬ ‫ال ّن�ص القر آ�ني‪ ،‬م�صداق ًا لقوله تعالى ‪ :‬ﭽﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮚ‬ ‫ﮛﮜﭼ ( ف�صلت ‪. ) 42 :‬‬ ‫فكما �أ ّن القر�آن خطاب ل إلن�سان ا ألم ّي البدائي الب�سيط‪ ،‬ف�إ ّنه �ش ّكل خطاب ًا‬ ‫�أي�ض ًا للإن�سان في �أرقى المجتمعات و�أكثرها رق ّي ًا وتق ّدم ًا في �س ّلم التح ّ�ضر‪،‬‬ ‫وجاءت دعوته للنظر والتد ّبر �سبيل ًا للبناءات المنهج ّية المتع ّددة التي تم ّكن‬ ‫من النظر‪ ،‬وترجع من ال ّن�ص القر آ�ني بزا ٍد وعطا ٍء يد ّل على �أبعاد ال ّن�ص‬ ‫اللامتناهية ح ّتى تنتهي الدنيا‪ ،‬يد ّل على الخلود قوله تعالى ‪ :‬ﭽﯱﯲ ﯳ‬ ‫ﯴ ﯵﯶﯷ ﯸﯹ ﯺﯻﯼﯽ ﯾﯿ ﰀﰁ ﰂﭼ‬ ‫( الكهف ‪ ،) 109 :‬وقوله تعالى ‪ :‬ﭽﯳﯴﯵﯶ ﯷﯸﯹ‬ ‫ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ‬ ‫ﰈﭼ( لقمان ‪.) 27 :‬‬ ‫�إ ّن مناهج النظر‪ ،‬على تع ّددها وتن ّوعها واختلافها‪ ،‬وج�دت في ال ّن�ص‬ ‫القر آ�ني مجالها‪ ،‬بل لع ّل دعوة القر�آن للنظر والت�أ ّمل والتبينّ والتب ّ�صر هو‬ ‫الذي ح ّر�ض العقول‪ ،‬فانطلقت من دعوة القر�آن لبناء المناهج‪ ،‬وعادت إ�لى‬ ‫القر�آن لاختبار هذه المناهج (((‪.‬‬ ‫ولحكمة يريدها الله �أ ّن الكثير من آ�يات الأنف�س وا آلفاق وردت في القر آ�ن‬ ‫مجملة ‪ :‬ﭽﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ‬ ‫ﯷﯸﯹﭼ ( ف ّ�صلت ‪ ،) 53 :‬لينطلق الفكر والفعل في آ�فاقها و�آمادها‬ ‫وف�ضاءاتها الوا�سعة‪ ،‬يك�شف عن موجوداتها‪ ،‬ويكت�شف قوانينها‪ ،‬ويعمل على‬ ‫محاكاتها ومقاربتها وابتكار و�سائل �إب�صارها ‪.‬‬ ‫والقر آ�ن‪ ،‬على الجملة‪ ،‬هو كتاب حياة كاملة‪ ،‬وهداية للإن�سان‪ ،‬فهو لي�س‬ ‫‪ -1‬ف�ضيلة ال�شيخ عمر عبيد ح�سنه‪ ،‬المرجع ال�ّسابق‪� ،‬ص ‪ ( 119 -117 :‬بت�ص ّرف ) ‪.‬‬ ‫‪23‬‬

‫كتاب لغة وبيان و أ�دب وتربية وعلم وتاريخ وفنون وعلوم‪ ،‬و إ�نمّ �ا هو كتاب‬ ‫يمثل القيم المرجع ّية لذلك ك ّله‪ ،‬حيث ي ؤ� ّهل الإن�سان‪ ،‬وي�ضعه في مناخ ذلك‪،‬‬ ‫ويدفعه للإنتاج النافع في �شتى هذه الميادين‪ ،‬ويق ّدم له ال ّنماذج في المجالات‬ ‫المتن ّوعة للاهتداء‪ ،‬لكن ذلك جميعه لا ُي ْخ ِرجه عن مق�صده وهدفه ‪ ،‬و�صناعة‬ ‫الإن�سان الم�ستخلف ل�صنع التق ّدم والح�ضارة‪ ،‬وفق منهج القر آ�ن‪ ،‬و أ� ّن هذه‬ ‫ال ّروافد والج�داول من ال� ّر ؤ�ى والمناهج تخرج من القر آ�ن‪ ،‬وتعاود ال ّ�صب‬ ‫فيه‪ ،‬وتعين على فهمه (((‪.‬‬ ‫وهنا ق�ض ّية‪ ،‬ق�د يكون م�ن المفيد الإت�ي�ان عليها ول�و �سريع ًا‪ ،‬وهي‬ ‫أ� ّن بع�ض العاملين للإ�سلام‪ ،‬قد ي�رى فائدة من ا�ستعارة م�صطلحات‬ ‫ا آلخرين‪ ،‬وا�ستخدامها كمفاتيح فكر ّية‪ ،‬ومداخل ثقاف ّية للتعامل معهم‪،‬‬ ‫و�إي���ص�ال بع�ض الم�ع�اني الإ��س�الم� ّي�ة �إل�ي�ه�م‪ ،‬م�ن خ�الل م�صطلحاتهم‪،‬‬ ‫بنوع من المقاربة‪ ،‬وقد أ�ج�از كثير من العلماء ترجمة معاني القر�آن إ�لى‬ ‫اللغات ا ألخ��رى‪ ،‬لتعريف أ�هلها ب�ا إل��س�الم وكتابه ‪ ..‬وه�ذا إ�ن �ص ّح في‬ ‫البدايات‪ ،‬لا يجوز أ�ن ي�ص ّح في النهايات‪ ،‬لأ ّن الله اختار العرب ّية لتكون‬ ‫وعاء التنزيل‪ ،‬و أ�داة ا إلبانة‪ ،‬فلا نن ّزله في غير وعائه‪ ،‬ولا نب ّينه بغير �أداته‪،‬‬ ‫خا ّ�صة و�أن من الم�س َّلم به لغو ًّيا وفكر ًّيا‪ ،‬أ� ّن �إدراك �أبعاد ال ّن�ص تمام ًا‬ ‫لا يمكن �أن يكون بغير لغته ا أل�صل ّية‪ ،‬و أ�ن عجمة ال ّل�سان يمكن أ�ن ت�ؤ ّدي إ�لى‬ ‫عجمة العقل والقلب‪ ،‬وعجمة التعبير �سوف تقود �إلى عجمة التفكير ‪.‬‬ ‫و�شيخ ا إل�سلام ابن تيم ّية رحمه الله (‪728 -661‬هـ ) يقول ‪« :‬ف إ� ّن نف�س‬ ‫اللغة العرب ّية من ال ّدين‪ ،‬ومعرفتها فر�ض واجب‪ ،‬ف�إ ّن فهم الكتاب وال�سنة‬ ‫فر�ض‪ ،‬ولا يفهم �إل ّا بفهم اللغة العرب ّية‪ ،‬وم�ا لا يت ّم الواجب �إل ّا به فهو‬ ‫واجب‪(((.»...‬‬ ‫‪.69/1‬‬ ‫العقل‪،‬‬ ‫نا�صر‬ ‫د‪.‬‬ ‫تحقيق‬ ‫�اشلميرخ اجعلإ�نسفل�اسهم‪،‬اب�نصت‪:‬يم‪ّ 0‬ي‪2‬ة‪ 1،‬ا‪-‬قت‪�22‬ض‪1‬اء(ابلت��صص ّررافط)ا‪.‬لم�ستقيم‪،‬‬ ‫‪-1‬‬ ‫‪-2‬‬ ‫‪24‬‬

‫فاختيار العرب ّية لتكون لغة التنزيل للخطاب ال�ّسماوي‪� ،‬أو لتكون لغة خطاب‬ ‫الله الأخير إ�لى الب�شر له دلالته من أ�كثر من وجه ‪.‬‬ ‫ف إ�ذا �س ّلمنا أ� ّن من مقت�ضى الخاتم ّية‪ ،‬أ�و من لوازمها‪ ،‬الخلود – والخلود‬ ‫يعني ‪ :‬التج ّرد عن قيود الزمان والمكان‪ ،‬والقدرة على العطاء والإنتاج العلمي‬ ‫والمعرفي‪ ،‬في ك ّل زمان ومكان – أ�دركنا خلود اللغة العرب ّية‪ ،‬و�سعتها ومرونتها‬ ‫وقدرتها على تقديم ا ألوعية التعبير ّية‪ ،‬والا�ستجابة لكل الظروف والأحوال‪،‬‬ ‫التي يكون عليها النا�س‪ ،‬والا�ستجابة ل إلنتاج الح�ضاري‪ ،‬في �سائر العلوم‬ ‫والفنون‪ ،‬حتى يرث الله ا ألر�ض ومن عليها(((‪.‬‬ ‫لهذا ف� إ� ّن اعتماد الح�رف القر آ�ني في الت�صنيف والت�أليف والكتابات‬ ‫والمكاتبات �إ�سهام ًا لخلود البيان في خلود القر�آن‪ ،‬ومحاولة على ا ألقل دون‬ ‫هجر القر�آن من بع�ض الجوانب ‪.‬‬ ‫العرب ّية‪،‬‬ ‫�شرف‬ ‫في‬ ‫‪،‬‬ ‫الأ ّمة‬ ‫كتاب‬ ‫�سل�سلة‬ ‫(‪)42‬‬ ‫ف�ضيلة ال�شيخ عمر عبيد ح�سنه‪ ،‬للعدد‬ ‫‪ -1‬تقديم‬ ‫ال�ّسامرائي‪� ،‬ص ‪( 19 -15 :‬بت�ص ّرف)‪.‬‬ ‫د‪ .‬إ�براهيم‬ ‫‪25‬‬



‫الف�صل الثاني‬ ‫خاتمية الر�سالة‪..‬‬ ‫إ��شكاليات الفهم والتنزيل‬



‫لع ّل من مقت�ضيات الخاتم ّية لل ّر�سالة الخاتمة �أ َّن الله تعالى تك ّفل بـحفظ‬ ‫كتابه الكريم من أ� ّي تحريف �أو تبديل‪� ،‬سواء في ذلك تحريف الكلم عن‬ ‫موا�ضعه‪ ،‬أ�و تحريفه بالت�أويل‪ ،‬وهو الخروج بالمعنى ع ّما ُو�ضع له اللفظ‪.‬‬ ‫ولقد جاء حفظ ال�سنة والبيان النبوي‪ ،‬والعناية بهما‪ ،‬ثمرة لازمة لحفظ‬ ‫القر�آن‪ .‬وامتازت ا أل ّمة الم�سلمة عن غيرها من الأمم ال�ّسابقة واللاحقة‪،‬‬ ‫بال ّرواية وا إل�سناد‪ ،‬تلك الو�سيلة التي لاب ّد منها لحفظ القيم‪ ،‬والقيام بمه ّمة‬ ‫البلاغ المبين‪ ،‬وال ّتـو�صيـل‪ ،‬والنقل الثـقـافي على الوجـه ال ّ�صحيح‪ ،‬ا ّلـتي‬ ‫اعتبرها الله عز وجل �سبيل ال ّنجاة‪ ،‬بقوله ‪}:‬ﮝﮞ ﮟﮠﮡﮢﮣ‬ ‫ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮬﮭﮮ{(((‪ ،‬و�أمر بها ال ّر�سول‬ ‫[ في ح ّجة الوداع بقوله ‪ « :‬ليب ّلغ ال�شاهد الغائب‪ ،‬ف إ� ّن ال�شاهد ع�سى �أن‬ ‫يب ِّلغ من هو �أوعى له منه »(((‪ .‬وفي رواية ‪ « :‬فر ّب مب َّلغ أ�وعى من �سامع»(((‪.‬‬ ‫وبذلك لم يقت�صر ال ّر�سول [ على أ�هم ّية الن ّـقل (ال ّرواية)‪ ،‬و إ�نمّ ا ن ّبه �أي�ض ًا‬ ‫على فقه ال ّرواية ووعيها (ال ّدراية)‪ ،‬وبهذا ا�ستح ّق الم�سلمون وراثة القيادة‬ ‫الدين ّية بعد نق�ض بني �إ�سرائيل للميثاق‪ ،‬وتحريفهم للقيم ال�سماوية(((‪.‬‬ ‫ولع ّل من الأمور الأ�سا�س ّية التي لاب ّد من مداومة الت�أكيد عليها �أ ّن من لوازم‬ ‫الخاتم ّية وتو ّقف النب ّوة‪� :‬سلامة خطاب التكليف من التحريف والتبديل‬ ‫والانتحال والغلو والت أ�ويل‪ ،‬حتى يكون التكليف �صحيح ًا‪ ،‬ويتر ّتب عليه الثواب‬ ‫والعقاب‪ ،‬ويتح ّقق العدل الإلهي‪ ..‬و أ� ّن من لوازم الخاتم ّية أ�ي�ض ًا‪ :‬الخلود‪،‬‬ ‫وتج ّرد ال ّن�ص الإلهي في الكتاب وال�سنة عن حدود ال ّزمان والمكان‪ ،‬و�أ�سباب‬ ‫النزول والورود لأ ّن العبرة بعموم اللفظ لا بخ�صو�ص ال�ّسبب‪ ،‬كما هو مق ّرر‬ ‫‪� -1‬سورة الجن ‪. 23 - 22 :‬‬ ‫‪ -2‬البخاري‪� ،‬صحيح‪ ،‬كتاب العلم‪ ،‬رقم ‪ ،67 :‬عن أ�بي بكرة‪.‬‬ ‫بكرة‪.‬‬ ‫‪43‬عب‪--‬يداملبحح ّخ�ماسدنرةري‪ .‬أ�‪،‬ف�صتح�يسعحي‪،‬دك‪.‬تا أ��بسباالحب ّجو‪،‬رروقدما‪:‬ل‪1‬ح‪4‬دي‪17‬ث‪..،‬عتنحأ�لبييل‬ ‫عمر‬ ‫الأ�ستاذ‬ ‫تقديم‬ ‫‪،10-9‬‬ ‫‪:‬‬ ‫وت أ��سـي�س‬ ‫‪29‬‬

‫عند علماء الأ�صول‪ .‬فالخلود يعني ‪ :‬القدرة على العطاء‪ ،‬والامتداد‪ ،‬وتوليد‬ ‫ا ألحكام‪ ،‬والبرامج‪ ،‬والا�ستجابة لمعالجة الم�شكلات‪ ،‬ومواجهة المتغيرّ ات‪،‬‬ ‫في ك ّل زمان ومكان‪ ،‬والقدرة على �إنتاج ال ّنماذج التي تظهر بالحق‪ ،‬وتثير‬ ‫الاقـتداء في ك ّل زمان ومكان أ�ي�ض ًا (((‪.‬‬ ‫وقد تكون الم�شكلة بالن�سبة للم�سلمين �أو احتمالات ال ّتحريف هي ‪ :‬الخروج‬ ‫بالمعنى ع ّمـا ُو�ضع له ال ّلفظ‪ ،‬لذلك كان من الأهم ّيـة بمكان – �إلى جانب‬ ‫حفظ ال ّن�ص ا إللهي‪ ،‬ا ّل�ذي تع ّهد الله بحفظه‪ ،‬وقراءته – حفظ ال�سنة‪،‬‬ ‫والتع ّهد بحفظ البيان النبوي أ�ي�ض ًا ‪} :‬ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ{(((‪ ،‬ا ّلذي يحول‬ ‫دون ال ّتحريف‪ ،‬أ�و الت�أويل‪ ،‬ا ّل�ذي يعني عدم م� ّس �ألفاظ وح�روف ال ّن�ص‪،‬‬ ‫بمقدار ما يعني الخروج بالمعنى ت أ�ويل ًا ع ّما ُو�ضع لها اللفظ‪.‬‬ ‫قال ابن عبا�س في تف�سيره ل آلية‪ « :‬أ�ن نب ّينه على ل�سانك»(((‪.‬‬ ‫إ� ّن تو ّجه التحريف �صوب ال ّن�ص الإل�ه�ي واللفظ ال�ق�ر آ�ني يكاد يكون‬ ‫م�ستحيل ًا‪ ،‬لكن الت أ�ويل والتف�سير وم�سالك الفهم يبقى موطن الخطر الذي‬ ‫يجب التن ّبه �إليه‪.‬‬ ‫وقد يكون هذا من بع�ض مدلولات قول ال ّر�سول [‪ ،‬ودعوته لليقظة لهذا‬ ‫الأمر الخطير وا�ضحة‪ ،‬وفي ذلك يقول [ ‪« :‬يحمل هذا العلم من ك ّل خلف‬ ‫عدوله‪ ،‬ينفون عنه ت أ�ويل الجاهلين‪ ،‬وانتحال المبطلين‪ ،‬وتحريف الغالين»(((‪،‬‬ ‫وبلفظ ‪ « :‬يرث هذا العلم من ك ّل خلف عدوله‪ ،‬ينفون عنه ت أ�ويل الجاهلين‪،‬‬ ‫وانتحال المبطلين‪ ،‬وتحريف الغالين»(((‪.‬‬ ‫‪ -1‬مح ّمد ر�أفت �سعيد‪� .‬أ�سباب ورود الحديث‪ ..‬تحليل وت أ��سـي�س‪ ،13:‬تقديم الأ�ستاذ عمر عبيد ح�سنة‪.‬‬ ‫‪� -2‬سورة القيامة ‪.19 :‬‬ ‫‪ -3‬البخاري‪� ،‬صحيح‪ ،‬كتاب التف�سير‪ ،‬رقم ‪ ،4928 :‬عن ابن عبا�س‪.‬‬ ‫‪ -4‬الأ�صبهاني‪ ،‬معرفة ال�صحابة ‪. 322/ 2 :‬‬ ‫‪ -5‬البيهقي‪ ،‬ال�سنن الكبرى‪ ،‬رقم ‪ ،20911 :‬عن إ�براهيم بن عبد الرحمن العذري‪.‬‬ ‫‪30‬‬

‫لذلك يبقى المطلوب دائم ًا حرا�سة مدلولات الن�ص‪ ،‬والتن ّبه إ�لى محاولة‬ ‫تحريفه‪ ،‬كحماية �ألفاظ الن�ص ومنهج نقله‪ ،‬إ�ن لم يكن �أكثر و�أه ّم ‪.‬‬ ‫ف إ��شكال ّيـة التحريف تبقى قائمة‪ ،‬والحواجز الكبيرة �أمامها تبقى �صعبة‬ ‫التجاوز طالما �أ ّن ال�سنة لها ح�ضورها ووظيفتها المت أ�تية عن الإيمان بها‪ .‬ولع ّل‬ ‫هذا ي�ش ّكل بع�ض ملامح قوله تعالى ‪} :‬ﯿﰀﰁ ﰂﰃﰄﰅ‬ ‫ﰆﰇ ﰈﰉﰊ ﰋﰌ {(((‪.‬‬ ‫ولع ّل مما يلفت النظر أ� ّن ال�ذي يناط بهم نفي التحريف والانتحال‬ ‫والت�أويل الفا�سد عن قيم الدين هم العلماء العدول «يحمل هذا العلم‬ ‫من ك ّل خلف عدوله‪ ،‬ينفون عنه ت�أويل الجاهلين‪ ،‬وانتحال المبطلين‪ ،‬وتحريف‬ ‫الغالين»‪ ،‬على أ�هم ّية التنبه في البيان النبوي �إلى م�صطلح (العدول)‬ ‫بكل ما يحمل من معنى‪ ،‬فالحجة لا تقارع إ�ل ّا بالح ّجة‪ ،‬ولي�س الأمر الفكري‬ ‫منوط ًا بالجبارين والطغاة وحاملي ال�ّسـياط‪.‬‬ ‫فالعلم هو الذي يهزم الجهل‪ ،‬والحقيقة هي التي تهزم الخرافة‪ ،‬وال�سنة‬ ‫هي التي تقمع البدعة‪ ،‬وميدان المعركة لذلك جميعه هو الحر ّية‪ ،‬ولي�س القهر‬ ‫وال�سيطرة وا إلجبار‪ ،‬أل ّن الفكر والعقيدة مق ّره القلب‪ ،‬ولا �سلطان ألحد عليه‬ ‫إ�ل ّا �سلطان الدليل والبرهان(((‪.‬‬ ‫وتبقى ال�سنة الفعل ّية وال�ّسيرة النبو ّية هما البيان العملي‪ ،‬ا ّلذي يحول دون‬ ‫الت أ�ويل المنحرف‪ ،‬وا ّلذي يمنح ملكة فقه التنزيل لل ّن�ص على الواقع‪ ،‬لذلك‬ ‫فالاجتهاد يعني‪ :‬تجريد ال ّن�ص من قيد ال ّزمان والمكان والمنا�سبة (�سبب‬ ‫النزول والورود)‪ ،‬والامتداد به‪ ،‬وتعدية ال ّر�ؤية‪ ،‬وامتلاك القدرة في التنزيل‬ ‫على الواقع‪ ،‬بوا�سطة العقل القائ�س‪ ،‬والعقل الذي أ�طلقه ا إل�سلام لتحقيق‬ ‫‪� -1‬سورة القيامة ‪. 19 -17 :‬‬ ‫‪ -2‬حامدي‪� .‬ضوابط في فهم الن�ص ‪ ،28 - 16 :‬تقديم الأ�ستاذ عمر عبيد ح�سنه‪ ،‬بت�صرف ‪.‬‬ ‫‪31‬‬

‫خلود ال ّن�ص‪ ،‬بالاجتهاد‪ ،‬وف�سح أ�مامه �آفاق ًا رحبة للامتداد به‪ ،‬له أ�ن يمت ّد‪،‬‬ ‫ويمت ّد ويلمح آ�فاق ًا بعيدة‪ ،‬ويو ّلد �أحكام ًا ور�ؤى‪ ،‬وي�ضع من البرامج‪ ،‬في �ضوء‬ ‫قيم ومقا�صد الن�ص الإلهي‪ ،‬ما �شاء الله له الامتداد؛ ليح ّقق الا�ستجابة لك ّل‬ ‫جديد ومتغيرّ ‪ ..‬لكن لا يجوز للعقل‪� ،‬أو الاجتهاد‪ ،‬والتف�سير بالر�أي‪ ،‬بحا ٍل‬ ‫من ا ألحوال‪� ،‬أن يخرج‪� ..‬أو يغاير‪� ..‬أو ُيلغي الإطار العام للتف�سير بالم�أثور‪،‬‬ ‫أ�و البيان النبوي و إ�ل ّا كان الخ�روج والت أ�ويل الفا�سد وتحريف الكلم عن‬ ‫موا�ضعه‪.‬‬ ‫لذلك يمكن �أن نقول‪� :‬إ ّن البيان النبوي‪� ،‬أو التف�سير بالم�أثور (ا ّلذي‬ ‫ي�ش ّكل �سبب النزول والورود و�سيلته المعينة)‪ ،‬هو الإطار المرجعي‪ ،‬وال ّ�ضابط‬ ‫المنهجي‪ ،‬وال ّن�سق المعرفي لأ ّي بيان أ�و ا�ستنباط‪ ،‬أ�و تف�سير بال ّر�أي لل ّن�ص‪،‬‬ ‫كما يعتبر من عوا�صم العقل من ال ّتجاوز‪ ،‬والانحراف‪ ،‬وا إللغاء‪ ،‬والقطيعة‪،‬‬ ‫�أو التقطيع لل ّن�ص‪ ..‬فللمجتهد أ�ن يكت�شف �آفاق ًا و�أبعاد ًا لمقا�صد ال ّن�ص‪،‬‬ ‫ومراميه‪ ،‬في �ضوء ال ّظروف الم�ستج ّدة‪ ،‬لكن لي�س له أ�ن يتجاوز البيان النبوي‪،‬‬ ‫أ�و يخرج عليه‪ ،‬با�سم التف�سير‪� ،‬أو الت�أويل‪ ،‬ا ّلذي يقود‪ ،‬إ�ذا ما تجاوز الم�أثور‪،‬‬ ‫إ�لى التحريف في المقا�صد‪ ،‬والانحراف في ال�ّسلوك(((‪.‬‬ ‫‪ -‬فقه البيان النبوي‪ ..‬إ��شكالات فهمية‪:‬‬ ‫أ��سباب ال ّنزول والورود – وهي من البيان النبوي ‪ -‬هي أ��شبه ما تكون‬ ‫بو�سائل إ�ي�ضاح‪ ،‬لتنزيل ال ّن�ص على الواقع‪ ،‬ولتكون أ�داة معينة على التنزيل‬ ‫في ك ّل زمان ومكان‪ .‬لكن هذه الو�سائل من أ��سباب ال ّنزول والورود‪ ،‬لا تعتبر‬ ‫قيود ًا لل ّن�ص‪ ،‬تج ّمده في نطاق المنا�سبة‪ ،‬بمقدار ما تمنح من فق ٍه للتنزيل‬ ‫على الواقع‪.‬‬ ‫‪1‬ح�‪-‬سنمةح‪ّ ،‬مبتد ر� أ�ص ّفرتف‪�.‬سعيد‪ .‬أ��سباب ورود الحديث‪ ..‬تحليل وت�أ�سـي�س ‪ ،15 -14 :‬تقديم الأ�ستاذ عمر عبيد‬ ‫‪32‬‬

‫و�إ�شكالات الهرج في زمن الفتن‪ ،‬هي الإ�شكال ّية التي يعاني منها العقل‬ ‫الم�سلم‪ ،‬ب�شك ٍل عام‪� ،‬أو المعادلة ال ّ�صعبة ا ّلتي لاب ّد من ح ّلها وت�صويـبها‪ ،‬ح ّتى‬ ‫ي�ستقيم الحال فالكثير من ا ّلذين يفقهون ال ّن�ص‪ ،‬يجهلون الع�صر‪ ،‬و ُج ّل‬ ‫ا ّلذين يفهمون الع�صر يجهلون فقه ال ّن�ص‪ ،‬وعلى ال ّرغم من �أ ّن خطاب‬ ‫التكليف في الكتاب وال�سنة �إنمّ ا يتن ّزل من خالق الإن�سان‪ ،‬العالمِ ب أ�حواله‬ ‫وحاجاته الأ�صل ّيـة‪ ،‬التي ُف ِطر عليها‪ ،‬ف�إ ّن فهم الع�صر‪ ،‬مح ّل تنزيل الحكم‪،‬‬ ‫هو من فقه ال ُحـكم أ�ي�ض ًا‪ ..‬و�إ ّن فهم أ��سباب النزول والورود‪ ،‬ي�ش ّكل مدخل ًا‬ ‫أ�و منهج ًا للفقيه والباحث لإدراك أ�هم ّيـة فهم الع�صر‪ ،‬والظروف والملاب�سات‬ ‫التي تحيط بالحكم ال�شرعي‪ ،‬ولي�س فقط فهم أ�بعاد ال ّن�ص‪.‬‬ ‫ق�ال اب�ن ع�ون ‪« :‬ث�ال ٌث أ�ح ّبه ّن لنف�سي ولإخ��واني ‪ :‬ه�ذه ال�سنة �أن‬ ‫يتع ّلموها وي�س أ�لوا عنها‪ ،‬وال�ق�ر�آن �أن يتف ّهموه وي�س�ألوا عنه‪ ،‬وي َدعوا‬ ‫ال ّنا�س إ�ل ّا من خير»(((‪.‬‬ ‫�إ ّن الفهم للمحل وا�ستطاعته‪ ،‬وظروفه‪ ،‬الذي يمنحه لنا فقه �سبب النزول‬ ‫والورود‪ ،‬يدفعنا‪ ،‬قبل تنزيل ا ألحكام على الواقع‪� ،‬إلى فهم ظروف و�شروط‬ ‫الواقع‪ ،‬وهذا هو الاجتهاد المطلوب في مورد ال ّن�ص‪ ،‬معرفة مدى ا�ستطاعته‪،‬‬ ‫وحدود تكليفه‪.‬‬ ‫والق�ض ّيـة التي لابد �أن نعر�ض لها أ�ي�ض ًا‪ ،‬هي ‪� :‬أننا �أثناء التنزيل لل ّن�ص‬ ‫على الواقع‪ ،‬الذي قد يقت�ضينا‪ :‬الا�ستـثـناء‪ ،‬أ�و الت أ�جيل‪� ،‬أو التـد ّرج في الحكم‪،‬‬ ‫ف�إن ذلك لا يعني �أن هذه الحال التي عليها المحل‪ ،‬هي ال ّ�صورة النهائ ّيـة‪،‬‬ ‫�أو المرحلة النهائية للحكم ال�شرعي‪ ،‬و�إنمّ ا يعني مرحلة في طريق التر ّقي‪،‬‬ ‫وتح�ضير المحل‪ ،‬ليكون �أهل ًا للحكم النهائي‪ ..‬والم�شكلة ك ّل الم�شكلة – في‬ ‫‪ -1‬محمدبن ا�سماعيل البخاري‪� :‬صحيح البخاري‪ ،‬تحقيق‪ :‬محمد زهير بن نا�صر‬ ‫النا�صر (دار طوق النجاة‪ /‬بيروت) ‪1422‬هـ ‪.92/9 ،‬‬ ‫‪33‬‬

‫نظري ‪ -‬قد تكون في هذا الفقه الغائب‪ ،‬الذي هو فقه التنزيل الذي يمنحه‬ ‫(�سبب النزول وال�ورود)‪ ،‬ذلك أ�ن الأحكام ال�شرعية في الكتاب وال�سنة‪،‬‬ ‫�شاملة لجميع الأحوال والظروف‪ ،‬التي يكون عليها النا�س‪ ،‬حتى يرث‬ ‫الله الأر�ض ومن عليها‪ ،‬لكن تبقى الم�ـشكلة المطروحـة هي‪ :‬الفقه بك ّل‬ ‫حالة‪ ،‬وما ينا�سبها من ا ألحكام‪ ،‬في هذه المرحلة‪ ،‬وتح�ضيرها لما بعدها‬ ‫من المراحل‪ ،‬في طريق التد ّرج والتر ّقي للو�صول إ�لى الكمال (((‪.‬‬ ‫فالأمر لا يتع ّلق فقط بمعرفة الحكم‪ ،‬وما يطلبه ال�شرع م ّنا‪ ،‬والت�أ ّكد‬ ‫منه‪ ،‬والانطلاق إلنج�ازه‪ ،‬بل يتع ّلق �أي�ض ًا‪ ،‬با�ستكمال �أبعاد أ�خرى تخ�ّص‬ ‫المحل وم�ساحة التنفيذ‪ ،‬والتنزيل على الواقع وكيف ّياته‪ ،‬ومنهج ّية ومرحل ّية‬ ‫الانجاز‪ ،‬خ�صو�ص ًا في مراحل انتقا�ص آ�ثار النب ّوة في الخلق‪ ،‬و�ضعف �صلة‬ ‫النا�س با إل�سلام فهم ًا وممار�سة‪ ،‬حيث يحتاج الاجتهاد �إلى ب�صيرة نافذة‪،‬‬ ‫وعقل را�شد‪ ،‬وفقه ن�ضيج‪ ،‬يمتلك مفاتيح المعادلات المركبة‪ ،‬التي يفرزها‬ ‫التدافع بين الحق والباطل‪ ،‬وال ّ�صواب والخط أ�‪ ،‬والم�صلحة والمف�سدة‪،‬‬ ‫وهو ما عناه الفقهاء بقولهم‪(:‬لي�س الفقيه هو من يعرف ‪ :‬ب أ� ّن هذا م�صلحة‬ ‫وهذا مف�سدة‪ ،‬بل الفقيه هو الذي يعرف ‪ :‬خير الخيرين‪ ،‬و�ش ّر ال�ش ّرين)‪.‬‬ ‫وبمقدار ما نحتاج إ�لى تجريد ال ّن�ص من قيود ال ّزمان والمكان‪ ،‬وامتلاك‬ ‫القدرة على تعدية ال�ر ؤ�ي�ة إ�لى ا أل�شباه والنظائر‪ ،‬وقيا�س الم�ستجد‪،‬‬ ‫ال�ذي لا ن�ّص فيه‪ ،‬على الم�شابه ال�ذي فيه ن�ّص وحكم‪ ،‬في �ضوء مقا�صد‬ ‫الدين وكل ّياته العا ّمة‪ ،‬بمقدار ما نحتاج إ�لى فقه المح ّل وا�ستطاعاته‪،‬‬ ‫وقدرته‪ ،‬وما يلائمه من الن�صو�ص وا ألحكام‪ ..‬فالق�ض ّية الاجتهاد ّية ذات‬ ‫�أبعاد متع ّددة‪ ،‬وحالات مختلفة‪.‬‬ ‫ولع ّل ترتيب ال�ق�ر�آن على غير �أزمنة النزول ما ي�زال ي�ستدعي الكثير‬ ‫‪ -1‬مح ّمد ر أ�فت �سعيد‪ .‬أ��سباب ورود الحديث‪ ..‬تحليل وت�أ�سـي�س ‪ ،22 :‬تقديم الأ�ستاذ عمر عبيد‬ ‫ح�سنة‪.‬‬ ‫‪34‬‬

‫من الت أ� ّمل‪ ،‬فا إلن�سان هو الذي ي�س ّخر الزمن‪ ،‬والا�ستطاعة هي التي تح ّدد‬ ‫التكليف‪ ،‬ولي�س الزمن الذي إ�ذا تح ّكم بالفعل الب�شري‪ ،‬وح ّدد مداه يلغي‬ ‫ويهمل �إرادة الإن�سان وا�ستطاعته‪ ،‬ويحمله على �أحكام قد تتجاوز طاقاته‪..‬‬ ‫فالقر آ�ن وال�سنة ب أ�حكامهما غ ّطيتا الم�ساحات التي يمكن أ�ن تعر�ض للب�شرية‬ ‫في جميع �أح�وال�ه�ا‪ ..‬والفقه الحقيقي هو بتحديد التوافق بين التكليف‬ ‫والا�ستطاعة‪� ،‬أي بين الن�ص ومح ّل تنزيله‪.‬‬ ‫ويمكن القول‪ :‬إ� ّن أ��سباب النزول‪ ،‬التي تعني فيما تعني المنا�سبات‬ ‫�أو الحالات الاجتماعية‪ ،‬أ�و الإ�شكالات التي تع ّر�ض لها المجتمع مح ّل التنزيل‪،‬‬ ‫فجاء ال ّن�ص ُمعالج ًا لها‪ ،‬تعطي م�ؤ�ّشر ًا وا�ضح ًا �أ ّن الن�ص‪ ،‬أ�و التكليف جاء‬ ‫ا�ستجابة وحل ًّا للحالة التي يعاني منها النا�س‪ ،‬ليكون �أنموذج ًا يج ّرد‬ ‫من الزمان والمكان‪ ،‬ويولد في ك ّل زمان ومكان‪ ،‬ذلك �أ ّن العبرة بعموم‬ ‫اللفظ لا بخ�صو�ص ال�سبب‪ ،‬كما يقول علماء ا أل�صول‪.‬‬ ‫ف�أ�سباب النزول لا تخرج عن كونها و�سائل معينة لكيف ّية تنزيل الن�ص على‬ ‫الواقع ومعالجة م�شكلاته‪� ..‬صحيح �أ ّن هناك �آيات كثيرة لم تتو ّفر لها �أ�سباب‬ ‫نزول‪ ،‬إ�ل ّا �أ ّن أ��سباب النزول تبقى علم ًا مه ّم ًا ج ّد ًا في التدليل على تقدير‬ ‫الا�ستطاعات وما ينا�سبها من الأحكام (((‪.‬‬ ‫قد يكون فقه المحل‪ ،‬وما يتن ّزل عليه من ا ألحكام بح�سب ا�ستطاعته‪،‬‬ ‫من �أه ّم الأمور المطلوبة للفقيه الم�سلم اليوم‪ ،‬ذلك أ� ّن الكثير من الن�صو�ص‬ ‫في الكتاب وال�سنة �أحاطت بها ظروف و�شروط ومنا�سبات‪ ،‬لاب ّد من إ�دراكها‬ ‫أ�ثناء عمل ّية التنزيل لل ّن�ص على الواقع‪ .‬وهي تعد نوع ًا من فقه المحل‪،‬‬ ‫وتعين المجتهد على �إدراك أ�هم ّية توفر ال�شروط وال�ظ�روف بين يدي‬ ‫عملية التنزيل‪.‬‬ ‫‪ -1‬أ�حمد بوعود‪ .‬فقه الواقع‪ ..‬أ��صول و�ضوابط‪ ،27 – 26 :‬تقديم الأ�ستاذ عمر عبيد ح�سنة‪.‬‬ ‫‪35‬‬

‫إ�ننا ن�سعى من خلال هذه الدرا�سة �إلى ترتيب ا�ستقراء �أ�سباب نزول‬ ‫ال ّن�ص ا إللهي‪ ،‬وورود ال ّن�ص النبوي‪ ..‬وذلك بهدف الوقف على حقيقة‬ ‫الأمور التالية‪:‬‬ ‫‪� -1‬أبعاد �سبب النزول والورود‪ ،‬و أ�هميتهما في عمل ّية الاجتهاد والتجديد‪،‬‬ ‫أ�و فقه التنزيل؛ لغاية الب�صارة والفقه العملي الميداني‪.‬‬ ‫‪ -2‬م�دى خطورة تنزيل ال ّن�ص‪� ،‬أو الحكم ال�شرعي‪ ،‬على غير مح ّله‪،‬‬ ‫بالتو ّهم �أ ّن كل حكم ي�صلح لك ّل الأحوال �أو أ� ّنه ُين ّزل ب إ�طلاق‪ ،‬دون مراعاة‬ ‫ال�شروط والظروف وملاب�سات الحال‪ ،‬حتى �أ�صبحنا نوقع ال َّن�سخ في غير‬ ‫موقعه‪.‬‬ ‫‪-3‬مدىخطورةتنزيل أ�حكاموخطابالحربوالمعركةعلى�ساحاتال�ّسلم‬ ‫وال ّدعوة والبلاغ‪ ،‬ونع ّطل الكثير من ا ألحكام‪ ،‬على اعتبار أ� ّنها كانت تم ّثل‬ ‫حالة كان عليها المجتمع الإ�سلامي ا أل ّول‪ ،‬في مراحل تحويله إ�لى ا إل�سلام‪،‬‬ ‫ث ّم تجاوزها إ�لى ما فوقها‪ ،‬ف أ��صبحت من�سوخة أ�و مع ّطلة‪ ،‬دون �أن ندري أ� ّن‬ ‫خلود القر�آن وال�سنة يعني خلود الم�شكلات التي عر�ضا لها‪ ،‬والحلول التي‬ ‫ق ّدماها‪.‬‬ ‫‪ -4‬مدى تع ّر�ض الأ ّم�ة في تاريخها الطويل لحالات كثيرة من ال�ّسقوط‬ ‫وال ّنهو�ض‪ ،‬والهزيمة وال ّن�صر‪ ،‬وال ّ�ضعف والق ّوة‪ ،‬و�أ ّن لك ّل حالة حكمها‪،‬‬ ‫وفقهها‪ ،‬و أ� ّنه لا يكفي حفظ الن�صو�ص وفهمها‪ ،‬بعيد ًا عن أ��سباب نزولها‪،‬‬ ‫وورودها‪ ،‬التي تعين على فهم الحال التي تتن ّزل عليه‪.‬‬ ‫ولا يفوتنا في هذا المقام �أن ن�شير �إلى �أ َّن ثمة �أ�سبا ًبا عديدة نزل من أ�جلها‬ ‫القر آ�ن‪ ،‬وقد تناول علما�ؤنا الأقدمون والمحدثون هذه ا أل�سباب بالدرا�سة‬ ‫والتحليل بلو ًغا لغايات الوحي ومقا�صد التنزيل‪ ...‬ثم ارتبطت درا�سة �أ�سباب‬ ‫‪36‬‬

‫النزول بفهم �أ�سباب ورود الحديث ال�شريف وفهمه في �ضوء ال�سياق القر آ�ني‬ ‫ودلالاته النظرية والتطبيقية‪....‬‬ ‫ومن خلال قراءة ال ّدرا�سات المعنية بالك�شف عن �أ�سباب النزول والورود‬ ‫لكل من الوحي القر آ�ني وال�سنة والمطهرة نجد �أ َّن بينهما عموم ًا وخ�صو�ص ًا‪،‬‬ ‫وتكافل ًا وتكامل ًا‪ .‬بيد �أ ّن تلك ال ّدرا�سات ال�سابقة لم تت�ض ّمن الدرا�سة‬ ‫التحليلية الأنموذجية التي تتط ّرق إ�ليها‪.‬‬ ‫و�سوف نتناول فيما يلي من �صفحات درا�سة تحليل ّية با�ستقراء �سبب نزول‬ ‫ال ّن�ص ا إللهي‪} :‬ﯿﰀﰁﰂ{‪ ،‬وهل ث ّمة تناق�ض أ�و تعار�ض مع ال ّن�ص‬ ‫النبوي‪ُ « :‬أ� ِم ْر ُت أَ� ْن ُ أ� َقا ِت َل ال َّنا� َس َح َّتى َي ُقو ُلوا ‪ :‬ل َا �ِإ َلـ َه ِإ�ل َّا الله»‪ ،‬وذلك با�ستقراء‬ ‫�سبب ورود ال ّن�ص النبوي للتوفيق بين �آية‪} :‬ﯿﰀﰁﰂ {‪ ،‬وحديث‪:‬‬ ‫« ُأ� ِم ْر ُت أ�َ ْن ُ�أ َقا ِت َل ال َّنا� َس َح َّتى َي ُقو ُلوا ‪ :‬ل َا �إِ َلـ َه ِ�إل َّا الله»‪ ،‬وال ّتوكيد على قاعدة‬ ‫عظيمة من قواعد ال ّدين ا إل�سلامي‪ ،‬وهي ‪ :‬حر ّية الاعتقاد‪.‬‬ ‫‪37‬‬



‫الف�صل الثالث‬ ‫التعريف بفقه البيان النبوي‬ ‫و أ��سباب النزول والورود‬



‫إ� ّن القراءة ال�شمولية للن�ص ال�شرعي �ضرورية ل�سلامة فهمه‪ ،‬وح�سن‬ ‫تطبيقه وتعليمه‪ ،‬وهي �ضمان للأمة من الاختلاف الذي ين�ش أ� عن القراءة‬ ‫الع�ضين التي ت أ�خذ بموجبها كل فرقة ما تهوى من الن�ص ال�شرعي‪ ،‬وتترك‬ ‫منه ما لا تهوى‪ ،‬في�ضربون ن�صو�ص ال�شرع بع�ضها ببع�ض‪ ،‬وقد ح ّذر النبي‬ ‫[ من �ضرب الن�صو�ص بع�ضها ببع�ض‪ ،‬و�أ ّن علينا العمل بما علمناه‪،‬‬ ‫ور ّد ما لم نعلم إ�لى العلماء الرا�سخين‪.‬‬ ‫ولقد عانت الأ ّمة ا إل�سلامية عبر تاريخها الطويل من التف ّرق في ال ّدين‪،‬‬ ‫َوخر َج ْت ال ِف َرق تترى‪ ،‬ك ّل حزب بما لديهم فرحون‪ ،‬فك ّل فرقة تزعم‬ ‫أ�نها �صاحبة الحق وغيرها في �ضلال مبين‪.‬‬ ‫وكان من �أبرز و أ�ه ّم �أ�سباب �ضلال هذه ال ِف َرق هو (القراءة التجزيئـيـّة)‪،‬‬ ‫وبعبارة �أو�ضح‪ :‬العمل ببع�ض ال ّدين وترك البع�ض ا آلخر‪ ،‬وعدم فهم الإ�سلام‬ ‫ب�شموله وكماله‪ ،‬وعدم الجمع بين الن�صو�ص في الم�س أ�لة الواحدة‪ ،‬دونما‬ ‫�ضرب بع�ضها ببع�ض‪ ،‬أ�و تو ّهم التعار�ض بينها‪.‬‬ ‫والمتـت ّبع والمت أ�م ّـل لتاريخ ال ِف َرق يجد هذه المفارقة بين ك ّل طائفتين من‬ ‫الطوائف ال ّ�ضالة حول ق�ضية من ق�ضايا الاعتقاد الكبرى‪ ،‬وكل منهما يقف‬ ‫في طرف م�ضاد ل آلخر‪ ،‬وتتم�ّسك ك ّل طائفة بن�صو�ص �شرعية ت�ستند إ�ليها‬ ‫فيما ذهبت �إليه‪ ،‬وتفهم هذه الن�صو�ص وتت أ� ّولها وفق ر ؤ�يتها وهواها‪ ،‬ولكن‬ ‫الحق و�سط بين هاتين الطائفتين (((‪ ،‬كما قال ابن القيم رحمه الله‪:‬‬ ‫«وم�ا أ�مر الله ب�أم ٍر إ�ل ّا ولل�شيطان فيه نزغتان إ� ّم�ا تفريط و إ��ضاعة‪،‬‬ ‫و�إ ّما إ�فراط وغلو‪ ،‬ودين الله و�سط بين الجافي عنه والغالي فيه‪ ،‬كالوادي بين‬ ‫جبلين‪ ،‬والهدى بين �ضلالتين‪ ،‬والو�سط بين طرفي ذميمين‪ ،‬فكما �أ ّن الجافي‬ ‫‪-1‬ال�شهراني‪ ،‬القراءة التجزيئية للن�صو�ص ال�شرع ّيـة و�أثرها في افتراق الم�سلمين‪،5 - 3 :‬‬ ‫بت�ص ّرف‪.‬‬ ‫‪41‬‬

‫عن الأمر م�ض ّي ٌع له‪ ،‬فالغالي فيه م�ض ّي ٌع له‪ ،‬هذا بتق�صيره عن الحد‪ ،‬وهذا‬ ‫بتجاوزه عن الحد»(((‪.‬‬ ‫وتحديد المنهج‪ ،‬وبيان الم�صطلحات وفهم مدلالوتها هو �أ ّول خطوة في فهم‬ ‫المراد‪ ،‬و�إ ّن معظم اختلاف النا�س نا�شئ من جهة الاختلاف في الم�صطلحات‪.‬‬ ‫«وبالجملة فالأمور نوعان ‪ :‬إ�خبار و�إن�شاء‪.‬‬ ‫فا ألخبار تنق�سم �إلى �إثبات ونفي ‪� :‬إيجاب و�سلب‪ ،‬كما يقال في تق�سيم‬ ‫الق�ضايا �إلى إ�يجاب و�سلب‪ .‬والإن�شاء فيه ا ألمر والنهي‪.‬‬ ‫ف أ��صل الهدى ودين الحق هو ‪� :‬إثبات الحق الموجود‪ ،‬وفعل الحق المق�صود‪،‬‬ ‫وترك المح ّرم‪ ،‬ونفي الباطل تبع‪ ،‬و أ��صل ال�ضلال ودين الباطل ‪ :‬التكذيب‬ ‫بالحق الموجود‪ ،‬وترك الحق المق�صود‪ ،‬ث ّم فعل المح ّرم‪ ،‬و إ�ثبات الباطل تب ٌع‬ ‫لذلك» (((‪.‬‬ ‫‪ -1‬ابن القيم الجوزية‪ ،‬مدارج ال�ّسالكين بين �إ ّيـاك نعبد و�إ ّيـاك ن�ستعين ‪. 496 /1612 :‬‬ ‫‪ -2‬ابن تيمية‪ ،‬مجموع الفتاوى ‪.112 - 109/20 :‬‬ ‫‪42‬‬

‫المبحث ا أل ّول ‪ :‬أ��سباب النزول والورود ‪ ..‬وفقه البيان‬ ‫إ� ّن الترتيب التوقيفي آلي�ات و��س�ور ال�ق�ر آ�ن ال�ك�ريم على غ�ري أ�زمنة‬ ‫ال�ن�زول‪ ،‬له من المقا�صد وال ِح� َك�م التربوية في كيف ّيـة التعامل مع المنهج‬ ‫القر�آني‪ ،‬والتعاطي مع الواقع الب�شري ما لا يخفى على ك ّل ذي نظر وعقل‪،‬‬ ‫ذلك �أ ّن هذا الترتيب في تجاور ا آليات‪ ،‬رغم تباعد وتباين أ�زمنة نزولها‪،‬‬ ‫يمنح م�ساحات هائلة من المرونة والتح ّرك الطليق‪ ،‬والتعامل مع المنهج‬ ‫بك ّل محطاته ومراحله ح�سب الا�ستطاعات المتوفرة والمقا�صد الملائمة لك ّل‬ ‫حالة‪ ،‬خا ّ�صة و أ� ّن أ�قدار التد ّين ترتفع وتنخف�ض‪ ،‬ولك ّل حالة ما ينا�سبها من‬ ‫ا ألحكام والاجتهاد‪.‬‬ ‫فا إليمان‪ ،‬كما هو مق ّرر �شرع ًا وملحوظ واقع ًا‪ ،‬يزيد وينق�ص‪ ،‬كما أ� ّن‬ ‫ا إلمكانات تتط ّور‪ ،‬وبالتالي لاب� ّد أ�ن تتوافق المقا�صد والأه��داف المرج ّوة‬ ‫مع الإم�ك�ان�ات‪ ،‬فتنفتح ب�ذل�ك ال�رتت�ي�ب التوقيفي مج�الات وا�سعة‬ ‫للاجتهاد‪ ،‬لم تكن لتتحقق لو كان الترتيب مقولب ًا ح�سب أ�زمنة النزول‪..‬‬ ‫فالقيم الإ�سلامية في الكتاب وال�سنة‪ ،‬والفقه التطبيقي في ال�سيرة‪ ،‬ي�ش ّكلان‬ ‫الأنموذج ا ألكمل لك ّل أ��صول الحالات التي �سوف تم ّر بها الب�شر ّية‪ ،‬والاجتهاد‬ ‫هو القدرة على تقدير موقع الت�أ�ّسي والاقتداء من م�سيرة هذا ا ألنموذج‪،‬‬ ‫الذي يحقق م�صالح العباد في ك ّل مرحلة وك ّل حالة تكون عليه الأ ّمـة (((‪.‬‬ ‫و�أ�سباب النزول والورود‪� ،‬أو البيان النبوي‪ ،‬هو �أ�شبه بالتجربة المخبر ّيـة‬ ‫في العلوم التجريب ّيـة‪ ،‬التي تعتبر ا أل�سا�س للانطلاق منها‪ ،‬والت�صنيع في‬ ‫�ضوئها‪ ،‬واعتمادها في التطبيقات المختلفة والمتع ّددة داخل المجتمع التي‬ ‫تعتمد جميعها تلك التجربة المخبر ّيـة‪ ،‬ولا يخرج عليها (((‪.‬‬ ‫‪ -1‬الخادمي‪ .‬الاجتهاد المقا�صدي ‪ :‬حج ّيته‪� ..‬ضوابطه‪ ..‬مجالاته ‪ 33 - 32 :‬تقديم ا أل�ستاذ‬ ‫عمر عبيد ح�سنة‪.‬‬ ‫‪� -2‬سعيد‪ .‬أ��سباب ورود الحديث‪ ..‬تحليل وت أ��سي�س ‪ ،17 :‬تقديم ا أل�ستاذ عمر عبيد ح�سنة‪.‬‬ ‫‪43‬‬

‫والمق�صود بم�صطلح �سبب ورود الحديث‪ :‬تت ّبع ال�ّسبب �أو الأ�سباب التي‬ ‫من �أجلها ورد الحديث‪ ،‬وتك ّلم به ال ّر�سول [‪ ،‬والمه ّيج والمثير على ال ّنطق‬ ‫به‪ ،‬و�صدور عنه‪.‬‬ ‫وقد يرد ال�سبب في الحديث نف�سه‪ ،‬وقد يرد في بع�ض طرقه‪ ،‬وقد يكون‬ ‫مقترن ًا بال ّن�ص‪ ،‬أ�و �سابق ًا عليه‪ ،‬وغالب ًا ما يكون ذلك في �سياق ق ّ�صة �أو حادثة‬ ‫وقعت‪ ،‬كما أ� ّنه قد يكون للحديث أ�كثر من �سبب‪.‬‬ ‫ومعرفة �سبب الحديث لها أ�ثر بينّ في معرفة النا�سخ والمن�سوخ‪ ،‬والعام‬ ‫والخا�ص‪ ،‬وع ّلة الحكم‪ ،‬والجواب عن مختلف الحديث وم�شكله (((‪.‬‬ ‫‪ -1‬ال�ف�وزان‪� ،‬أث��ر ال���ّس�ي�اق وج�م�ع ال�� ّرواي��ات و�أ��س�ب�اب ال��ورود في ف�ه�م الح�دي�ث‪ :‬درا�سة‬ ‫تطبيق ّيـة‪. 201 - 200 :‬‬ ‫‪44‬‬

‫المبحث الثاني ‪ :‬فهم الن�ص في �ضوء أ��سبابه وملاب�ساته‬ ‫من مرتكزات المدر�سة الو�سط ّيـة في ح�سن فهمها لل�شريعة ‪ :‬قراءة ال ّن�ص‬ ‫في �ضوء �سياقه و أ��سباب نزوله إ�ن كان قر�آن ًا‪ ،‬أ�و �أ�سباب وروده إ�ن كان حديث ًا‪،‬‬ ‫ومعرفة الظروف والملاب�سات التي �سيق فيها الحديث‪ ،‬حتى لا يخطئ ال ّدار�س‬ ‫فهم المق�صود‪ ،‬في�أخذ من ال ّن�ص حكم ًا لا يق�صد إ�ليه‪ ،‬ولي�س مراد ًا منه‪.‬‬ ‫ومن ح�سن الفقه لل�سنة ‪ :‬النظر فيما بني من ا ألحاديث على �أ�سباب‬ ‫خا ّ�صة‪� ،‬أو ارتبط بع ّلة مع ّينة‪ ،‬من�صو�ص عليها في الحديث‪ ،‬أ�و م�ستنبطة‬ ‫منه‪ ،‬أ�و مفهومة من الواقع الذي �سيق فيه الحديث‪.‬‬ ‫فالناظر المتع ّمق يجد �أ ّن من الحديث ما بني على رعاية ظروف زمن ّيـة‬ ‫خا ّ�صة‪ ،‬ليحقق م�صلحة معتبرة‪� ،‬أو يدر أ� مف�سدة مع ّينة‪ ،‬أ�و يعالج م�شكلة‬ ‫قائمة في ذلك الوقت‪ ،‬أ�و يكون مبني ًا على عرف قائم في ذلك الوقت‪ ،‬ولك ّنه‬ ‫لم ي ُعد قائم ًا اليوم‪.‬‬ ‫ومعنى هذا أ� ّن الحكم الذي يحمله الحديث قد يبدو عا ًّما ودائم ًا‪ ،‬ولك ّنه‬ ‫عند الت أ� ّمل مبني على ع ّلة‪ ،‬يزول بزوالها‪ ،‬كما يبقى ببقائها‪ ،‬أ�و على ُعر ٍف‬ ‫ينـتفي بانتفائه‪.‬‬ ‫وهذا يحتاج إ�لى فقه عميق‪ ،‬ونظر دقيق‪ ،‬ودرا�سة م�ستوعبة للن�صو�ص‬ ‫وملاب�ساتها‪ ،‬و إ�دراك ب�صير لمقا�صد ال�شريعة‪ ،‬وحقيقة ال ّدين‪ ،‬مع �شجاعة‬ ‫أ�دب ّيـة‪ ،‬وق ّوة نف�س ّية لل ّ�صدع بالحق‪ ،‬و�إن خالف ما أ�لفه النا�س‪ .‬وهذا لي�س‬ ‫بال�شيء الهينّ فقد ك ّلف هذا �شيخ الإ�سلام ابن تيمية معاداة الكثيرين من‬ ‫علماء زمنه الذين كادوا له حتى أ�دخل ال�ّسجن أ�كثر من م ّرة‪ ،‬ومات فيه‬ ‫ر�ضي الله عنه‪.‬‬ ‫‪45‬‬

‫لاب ّد لفهم الن�ص فهم ًا �سليم ًا دقيق ًا من معرفة الملاب�سات التي �سيق فيها‬ ‫الحديث‪ ،‬وجاء بيان ًا لها‪ ،‬وعلاج ًا لظروفها‪ ،‬حتى يتح ّدد المراد من الحديث‬ ‫بد ّقة‪ ،‬ولا يتع ّر�ض ل�شطحات الظنون‪ ،‬أ�و الجري وراء غير ظاهر ‪.‬‬ ‫وم ّما لا يخفى �أ ّن علماءنا قد ذكروا �أ ّن مما يعين على فهم القر�آن‪ :‬معرفة‬ ‫�أ�سباب نزوله‪ ،‬حتى لا يقع فيما وقع فيه بع�ض الغلاة من المت�أولة وغيرهم‬ ‫م ّمن �أخذوا ا آليات التي نزلت في الم�شركين‪ ،‬وط ّبـقوها على الم�سلمين ولهذا‪،‬‬ ‫ف إ�ن ابن عمر ر�ضي الله عنهما كان يراهم �شرار الخلق بما ح ّرفوا كتاب الله‬ ‫ع ّمـا �أنزل فيه‪.‬‬ ‫ف�إذا كانت أ��سباب نزول القر�آن مطلوبة لمن يفهمه أ�و يف�ّسره‪ ،‬كانت �أ�سباب‬ ‫ورود الحديث �أ�ش ّد طلب ًا ذلك �أ ّن القر آ�ن بطبيعته عام وخالد‪ ،‬ولي�س من‬ ‫�ش أ�نه أ�ن يعر�ض للجزئيات والتف�صيلات والآنيات‪� ،‬إل ّا لت ؤ�خذ منها المبادئ‬ ‫والعبر ‪.‬‬ ‫أ� ّما ال�سنة‪ ،‬فهي تعالج كثير ًا من الم�شكلات المو�ضع ّية والجزئية والآنية‪،‬‬ ‫وفيها من الخ�صو�ص والتفا�صيل ما لي�س في القر آ�ن ‪.‬‬ ‫فلاب ّد من التفرقة بين ما هو خا�ص وما هو عام‪ ،‬وما هو م ؤ�قت وما هو‬ ‫خالد‪ ،‬وما هو جزئي وما هو كلي‪ ،‬فلك ّل منها ُح ْك ُمه‪ ،‬والنظر �إلى ال�سياق‬ ‫والملاب�سات والأ�سباب ت�ساعد على �سداد الفهم وا�ستقامته لمن و ّفقه الله‪.‬‬ ‫إ� ّن الفقه ال ّ�صحيح الذي أ�راد الله ب�صاحبه خ�ري ًا‪ ،‬وال�ذي ينطبق عليه‬ ‫الحديث ال ّ�صحيح‪َ « :‬م ْن ُي ِر ِد الل ُه ب ِه خير ًا ُي َف ِّق ْه ُه في ال ّدين»((( هو الذي ينظر‬ ‫�إلى الن�صو�ص من القر�آن وال�سنة‪ ،‬مو�صولة بمقا�صد ال�شرع‪.‬‬ ‫‪ -1‬البخاري‪� ،‬صحيح‪ ،‬كتاب العلم‪ ،‬رقم ‪ ،71 :‬عن معاوية‪.‬‬ ‫‪46‬‬

‫لذا على الفقيه الموفق �أل ّا يت�ش ّبث بحرف ّيـة ال ّن�ص وحدها‪ُ ،‬م ْغ ِفل ًا‬ ‫ما وراءه�ا من ِح َك ٍم ومقا�صد وملاب�سات لها ت�أثيرها في معرفة ال ُحـكم‪،‬‬ ‫يدركها الغ ّوا�صون المتع ّمقون الذين لا يكتفون بالوقوف عند ال�ّسطح‪،‬‬ ‫بل يجتهدون �إلى �أن ي�صلوا ما ا�ستطاعوا �إلى ا ألعماق‪.‬‬ ‫وبدون هذا �ستز ّل الأقدام‪ ،‬وت�ض ّل ا ألفهام‪ ،‬ويذهب النا�س يمين ًا و�شمال ًا‪،‬‬ ‫بعيد ًا ع ّما ق�صده ال�شارع الحكيم‪ ،‬و إ�ن كانوا يح�سبون أ� ّنهم متم�ّسكون‬ ‫بن�صو�ص ال ّدين‪ ،‬ذا ّبون عن كتابه الكريم‪ ،‬وعن �سنة نب ّيه الأمين‪.‬‬ ‫‪47‬‬

‫المبحث الثالث ‪ :‬منهج ال�سياق في فهم القر آ�ن الكريم وتف�سيره‬ ‫ال�سياق إ�طار عام تنتظم فيه عنا�صر ال ّن�ص ووحداته اللغوية‪ ،‬ومقيا�س‬ ‫ت ّت�صل بو�ساطته ال ُجمل فيما بينها وتترابط‪ ،‬وبيئة لغوية وتداول ّية ترعى‬ ‫مجموع العنا�صر المعرف ّية التي يق ّدمها ال ّن�ص للقارئ‪.‬‬ ‫وي�ضبط ال�سياق حركات ا إلحالة بين عنا�صر ال ّن�ص‪ ،‬فلا ُيفهم معنى كلمة‬ ‫�أو جملة إ�ل ّا بو�صلها بالتي قبلها‪� ،‬أو بالتي بعدها داخل �إطار ال�سياق‪.‬‬ ‫وكثير ًا ما يرد ال�َّش َبه بين ال ُجمل والعبارات مع بع�ض الفوارق التي تميز‬ ‫بع�ضها‪ ،‬ولا ن�ستطيع تف�سير تلك الفوارق �إل ّا بال ّرجوع �إلى ال�سياق اللغوي‪،‬‬ ‫ولحَ ْـظ الفوارق الدقيقة التي طر أ�ت بين ال ُجمل‪ .‬فك ّل م�ساق ل أللفاظ يج ّر‬ ‫�ضرب ًا من المعنى بجزئ ّياته وتفا�صيله‪.‬‬ ‫وال�ّسياق ال ّ�صورة الكل ّية التي تنتظم ال ّ�صور الجزئ ّية‪ ،‬ولا ُيفهم كل جزء‬ ‫�إل ّا في موقعه من (الك ّل)‪ ،‬وقد أ�ثبت العلم �أ ّن ال ّ�صورة الكل ّية تتك ّون‬ ‫من مجموعة كبيرة من النقاط ال�صغيرة‪ ،‬المت�شابهة �أو المتباينة‪ ،‬تدخل ك ّلها‬ ‫في تركيب ال ّ�صورة‪.‬‬ ‫هذا‪ ،‬و�إ ّن التحليل بال�سياق يع ُّد و�سيلة من و�سائل ت�صنيف المدلولات‪،‬‬ ‫لذلك يتعينّ عر�ض اللفظ القر�آني على موقعه لفهم معناه‪ ،‬ودفع المعاني‬ ‫غير المرادة‪.‬‬ ‫ولل�سياق �أنواع كثيرة‪ ،‬لاب ّد من لفت الانتباه �إليها‪ ،‬منها‪:‬‬ ‫ال�سياق الم�ك�اني‪ ،‬ويعني �سياق الآي�ة داخل ال�ّسورة وموقعها بين ال�ّسابق‬ ‫من الآيات واللاحق �أي مراعاة �سياق ا آلية في موقعها من ال�ّسورة‪ ،‬و�سياق‬ ‫الجملة في موقعها من الآية‪ ،‬فيجب أ�ن ُتر َبط الآية بال�سياق الذي وردت فيه‪،‬‬ ‫ولا ُتقطع ع ّما قبلها وما بعدها‪.‬‬ ‫‪48‬‬

‫وال�ّسياق ال ّزمني ل آليات‪ ،‬أ�و �سياق التنزيل؛ ويعني �سياق الآية بين الآيات‬ ‫بح�سب ترتيب النزول‪.‬‬ ‫وال���ّس�ي�اق الم�و��ض�وع�ي‪ ،‬ومعناه درا��س�ة ا آلي��ة أ�و الآي��ات ال�ت�ي يجمعها‬ ‫مو�ضوع واح�د – ��س�واء أ�ك�ان الم�و��ض�وع ع�ا ّم� ًا كالق�ص�ص القر آ�ني‬ ‫أ�و ا ألم�ث�ال �أو الأح�ك�ام الفقه ّية‪� ،‬أو أ�ح�د المو�ضوعات والق�ضايا مثل‪:‬‬ ‫ا ألم�ن ‪ ،‬وال�صبر‪ ،‬والجهاد‪ ،‬وال�سلم أ�م كان خا ّ�ص ًا كالق ّ�صة المخ�صو�صة‬ ‫بـ (نبي من ا ألنبياء) وحك ٍم من ا ألحكام �أو غير ذلك – وتت ّبع مواقعها في‬ ‫القر�آن الكريم ك ّله‪.‬‬ ‫وال�ّسياق المقا�صدي‪ ،‬ومعناه النظر إ�لى ا آليات القر آ�نية من خلال مقا�صد‬ ‫القر آ�ن الكريم والر ؤ�ية القر�آن ّية العا ّمة للمو�ضوع المعا َلج‪.‬‬ ‫وال�ّسياق التاريخي بمعنيـيه‪ :‬العام‪ ،‬وهو �سياق ا ألحداث التاريخ ّية القديمة‬ ‫التي حكاها القر�آن الكريم‪ ،‬والمعا ِ�صرة لزمن التنزيل‪ .‬والخا�ص‪ ،‬وهو أ��سباب‬ ‫النزول‪.‬‬ ‫وال�ّسياق ال ّلغوي‪ ،‬وهو درا�سة الن�ص القر�آني من خلال علاقات أ�لفاظه‬ ‫بع�ضها ببع�ض والأدوات الم�ستعملة لل ّربط بين هذه الألفاظ‪ ،‬وما يترتب على‬ ‫تلك العلائق من دلالات جزئ ّية وكل ّية‪.‬‬ ‫وينبغي تحكيم كل هذه ا ألنواع من ال�ّسياق عند �إرادة درا�سة ال ّن�ص القر�آني‬ ‫بمنهج�سياقيمتكامل‪،‬و�إل ّاف�إ ّن الاقت�صارعلىال�ّسياقالتاريخي �سيحوم حول‬ ‫ال ّن�ص ولا يعدوه‪ ،‬و�أ ّما الاقت�صار على ال�ّسياق ال ّداخلي وحده دون الالتفات‬ ‫إ�لى ا ألحداث التاريخ ّيـة المحيطة به‪� ،‬أو الم�صا ِحبة لنزوله‪ ،‬ف�سيجعل ال ّن�ص‬ ‫بنية لغو ّية مغلقة تقت�صر على ما تفيده الألفاظ من معا ٍن ودلالات (((‪.‬‬ ‫‪ -1‬بودرع‪ .‬منهج ال�ّسياق في فهم ال ّن�ص ‪. 31 - 27 :‬‬ ‫‪49‬‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook