فـقـه الـبيــان الـ ّنبــــوي «درا�سة تحليل ّيـة في �ضوء أ��سباب ال ّنزول والورود» مح ّمد بن داود �سماروه ا إل�صدار( 80 :فبراير 2014م /ربيع أ�ول 1435هـ)
ا إلخراج الفني :محمود محمد �أبو الف�ضل
مح ّمد بن داود �سماروه مفكر تايلاندي ،من مواليد م ّكة المك ّرمة ،ح�صل على درج�ة اللي�سان�س في الحديث ال�ن�ب�وي وع�ل�وم�ه م�ن دار الح�دي�ث بمكة الم�ك�رم�ة ،ون�ال درجة الماج�ستير في ال ّدرا�سات الإ�سلام ّية بالمعهد العالي إلعداد ا ألئمة وال ّدعاة التابع لرابطة العالم ا إل�سلامي ،يعمل أ��ستا ًذا م�ساع ًدا في كلية الدرا�سات ا إل�سلامية بجامعة جالا الإ�سلامية – جنوب تايلاند. له مجموعة من ا ألبحاث� ،أهمها« :من الفهم ...نبد�أ» و« الدعوة الإ�سلامية: واقع ..و�آفاق» و«خطاب ا ألقلية الم�سلمة» و«�صفات العالم الرباني :درا�سة و�صف ّيـة ل�سلوكيات ا إلمام البخاري ال�شخ�صي ّـة».. نهــر متـعـــدد ...متـجــــدد م�شروع فكري وثقافي و�أدبي يهدف �إلى الإ�سهام النوعي في �إثراء المحيط الفكري والأدبي والثقافي ب�إ�صدارات دورية وبرامج تدريبية وفق ر�ؤية و�سطية تدرك الواقع وت�ست�شرف الم�ستقبل. وزارة الأوقاف وال�ش�ؤون الإ�سلامية قطاع ال�ش�ؤون الثقافية �إدارة الثقافة الإ�سلامية �ص.ب 13 :ال�صفاة -رمز بريدي 13001 :دولة الكويت الهاتف - )+965( 22487310 :فاك�س)+965( 22445465 : نقال)+965( 99255322 : البريد الإلكتروني[email protected] : موقع «روافد»www.islam.gov.kw/rawafed : 3
تم طبع هذا الكتاب في هذه ال�سل�سلة للمرة ا ألولى، ولا يجوز �إعادة طبعه أ�و طبع أ�جزاء منه ب أ�ية و�سيلة �إلكترونية �أو غير ذلك �إلا بعد الح�صول على موافقة خطية من النا�شر الطبعة الأولى -دولة الكويت فبراير 2014م /ربيع �أول 1435هــ الآراء المن�شورة في هذه ال�سل�سلة لا تعبر بال�ضرورة عن ر�أي الوزارة كافة الحقوق محفوظـة للنا�شر وزارة الأوقاف وال�ش ؤ�ون الإ�سلامية الموقع ا إللكترونيwww.islam.gov.kw : رقم الإيداع بمركز المعلومات2013 / 117 : تم الحفظ والت�سجيل بمكتبة الكويت الوطنية رقم الإيداع099 / 2013 : ردمك978-99966-50-76-5 : 4
فهر�س المحتويات ت�صدير 9 مدخل 11 الف�صل الأول منهج الوحيين في البيان والتبيين 15 الف�صل الثاني خاتمية الر�سالة :إ��شكاليات الفهم والتنزيل 27 الف�صل الثالث فقه البيان النبوي بين أ��سباب النزول والورود 39 -المبحث ا أل ّول � :أ�سباب النزول والورود ..وفقه البيان 43 -المبحث الثاني :فهم ال ّن�ص في �ضوء أ��سبابه وملاب�ساته 45 -المبحث الثالث :منهج ال�سياق في فهم القر�آن الكريم وتف�سيره 48 -المبحث الرابع � :أ�سا�س التعامل مع ا ألحاديث النبو ّية 50 الف�صل الرابع درا�سة تطبيقية لفقه البيان النبوي في �ضوء �سبب النزول 55 -المبحث الأ ّول :المعنى ا إلجمالي للآية الأنموذجية 59 -المبحث الثاني� :سبب نزول ا آلية الأنموذجية 60 -المبحث الثالث :التف�سير المو�ضوعي للآية ا ألنموذجية 63 -المبحث الرابع :تحليل الآية ا ألنموذجية في �ضوء �سبب النزول 66 5
الف�صل الخام�س درا�سة تطبيقية لفقه البيان النبوي في �ضوء �سبب الورود 89 -المبحث الأ ّول :التخريج المجمل لل ّن�ص النبوي الأنموذج ومظانه 92 -المبحث الثاني :المفهوم العام للن�ص النبوي ا ألنموذج 95 -المبحث الثالث� :سبب ورود ال ّن�ص النبوي الأنموذج 98 -المبحث الرابع :تحليل ال ّن�ص النبوي في �ضوء �سبب الورود 109 -المبحث الخام�س :انفتاحية الدعوة الإ�سلامية 111 الخاتـمـة 134 الم�صادر والمراجع 141 6
ت�صدير الحمد لله رب العالمين وال�صلاة وال�سلام على �سيد المر�سلين وعلى �آله و�صحبه �أجمعين . بين حين و آ�خر ،تعر�ُض للأمة الم�سلمة تحديا ٌت �ُش َب ِه َّي ٌة من جانب خ�صومها في محاولة لتعويق م�سيرة ال�دع�وة ،وت�ضييق المجال الدعوي الإ�سلامي، وت�شكيك الم�ؤمنين في عدالة ق�ضيتهم وبراءتها من الج�رب وا إلك��راه على اعتناق هذا الدين الحنيف!.. ولعل ما ُمي ّيز هذه الدرا�سة الا�ستقرائية الواعية التي بين �أيدينا� :أنها ا�ستب�صرت موا�ضع اللب�س حول الإ�سلام وق�ضية ا إلكراه في الدين ..فك َّث َف ْت حولها �أ��ض�واء البحث والتحليل العلمي الر�صين ،لت�ستبين وج�وه الحق وال�صواب فيها ..م�ست�أن�سة بن�صو�ٍص �شرعية و أ�د ّل ٍة وبراهين وحجج علمية.. رابطة بطريقة منهجية بين �أ�سباب نزول ا آليات ،وبين أ��سباب ورود ا ألحاديث ال�شريف ..وذلك في ُمقاربة بيانية ت�سبرِ غور هذه الق�ضية التي لم تزل مثار �أ ْخ ٍذ َو َر ٍّد في الأو�ساط العلمية ،منتهية إ�لى وجوب توفير الحرية بين النا�س وبين ما يختارون ،و إ�قرار مبد أ� تحرير الاعتقاد من وهم الإكراه في الدين. و َي�ُس ُّر�إدار َةالثقافةالإ�سلاميةبوزارةا ألوقافوال�ش�ؤونالإ�سلامية أ�نتقدم ل ُق ّرائها الكرام هذه الدرا�سة المتميزة للباحث محمد داود �سماروه� ،إ�سهاما منها في تغذية العقل الم�سلم بيقين الموقف الم�ستند �إلى الدليل ال�شرعي المعتبر، وتح�صينه بهدايات الوحي في ِخ َ�ض ِّم ال�سجال الفكري والح�ضاري ال�ساخن!.. �سائلة المولى أ�ن ينفع بها و أ�ن يجعلها في ميزان ح�سنات كاتبها!.. والله من وراء الق�صد... 9
مدخل
الحمد لله رب العالمين ،وال ّ�صلاة وال�ّسلام على من أ�ر�سله الله رحمة للعالمين ،ونعمة على الم�ؤمنين ،يتلو عليهم آ�ياته ويز ّكيهم ويع ّلمهم الكتاب والحكمة و�إن كانوا من قبل لفي �ضلال مبين .ور�ضي الله عن آ�له و�صحبه ومن اتبعهم ب�إح�سا ٍن �إلى يوم الدين. الحمد لله ر ّب العالمين القائل} :ﯿﰀﰁ ﰂﰃﰄﰅﰆ ﰇﰈﰉﰊ ﰋﰌ{((( فالتك ّفل بالحفظ لل ّن�ص الإلهي ،والحفظ والحرا�سة لبيانه عن طريق النب ّوة ،يعتبر من أ�برز �سمات ال ّر�سالة الخاتمة، و أ�خ�ّص خ�صائ�صها. وال ّ�صلاة وال�ّسلام على ر�سوله المبعوث رحمة للعالمين ،ا ّلذي مه ّمته ا ألولى: �أن يبينّ لل ّنا�س ما ن� ّزل إ�ليهم ،ق�ال تعالى} :ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ{((( ،و�أن يب ّلغهم ر�سالة الله �إلى ا إلن�سان ،ويق ّدم لهم من �شخ�صه [ ا ألنموذج ومح ّل الاقتداء ا ّلذي تتح ّقق فيه المعارف والمقا�صد والخ�صائ�ص ،التي جاءت بها ال ّر�سالة الخاتمة. وبعد،، فقد تكون الحكمة من أ� ّن القر�آن جاء ترتيب �آياته و�سوره توقيف ّي ًا من الله، ولم ير ّتب بح�سب تاريخ و أ��سباب ال ّنزول –والله �أعلم– �إنمّ ا هي لتحقيق الخلود وتحرير ال ّن�ص ا إللهي الخاتم ،من قيد ال ّزمان والمكان والمنا�سبة، وت�ق�ديم ال� ّر�ؤي�ة ال�ّشاملة التي ت�صلح لك ّل ا ألح��وال وا ألزم��ان والأماكن والمتغيرّ ات. ولع ّل �سبب ال ّنزول لل ّن�ص الإلهي ،و�سبب الورود لل ّن�ص النبوي ي�أتيان في � -1سورة القيامة . 19 -17 : � -2سورة النحل . 44 : 13
�سياق ما يمكن ت�سميته «فقه المح ّل» ،و�إعانة للمجتهد على �إدراك �أهم ّية تو ّفر ال�شروط والظروف نف�سها ،للتنزيل؛ لهذا ت�أتي أ�هم ّية هذا البحث العلمي الذي يهدف إ�لى معرفة أ�بعاد �سبب النزول وال�ورود ،و�أهميتهما في عمل ّية الاجتهاد والتجديد� ،أو فقه التنزيل؛ لغاية الب�صارة والفقه العملي الميداني، ومدى خطورة تنزيل ال ّن�ص� ،أو الحكم ال�شرعي ،على غير مح ّله ،بالتو ّهم أ� ّن كل حكم ي�صلح لك ّل الأحوال ،أ�و أ� ّنه ُين ّزل ب�إطلاق ،دون مراعاة ال�شروط والظروف وملاب�سات الحال ،حتى أ��صبحنا نتوقع ال َّن�سخ في غير موقعه، وغيرها من الم�شكلات المنهجية. وق�د اتبعت في �سياق ه�ذه ال�درا��س�ة المنهج الا�ستقرائي الا�ستنباطي التحليلي ،على �أمل �أن نتو�صل من خلاله �إلى مرتكزات منهجية ومعرفية ت�ش ّكل مق ّومات فقه مح ّل التنزيل ،وفي مقدمتها �أن حرية الاعتقاد قاعدة عظيمة من قواعد ال ّدين ،و�أن ورود �سبب خا�ص لل ّن�ص لا يق ّيد عمومه ،و أ�نه لا يجوز القول بال ّن�سخ بلا برهان ،كما لا ي�ص ّح الأخذ بمفهوم ن�ّص �آخر في وجود ن�ّص �صريح في المو�ضوع ،مع التنبيه على خطورة تنزيل ال ّن�ص النبوي على المح ّل من غير الفقه أ�و التنويه ب�سياقه ومنا�سبته. والله �أ�س�أل أ�ن ينفع بهذه الدرا�سة وهو من وراء الق�صد. 14
الف�صل ا ألول منهج الوحيين في البيان والتبيين
اخ�ت�ار الله تعالى العرب ّية لتكون لغة خطاب ال�وح�ي الخ�اتم للعالمين، ف أ��صبحت بذلك لغة الوحي ،وخطاب الله لعباده جميع ًا حتى ي�رث الله الأر�ض ومن عليها ..وهذا الاختيار -والله أ�علم حيث يجعل ر�سالته- أ�و هذا الج ْعل لل ّر�سالة ،لا يقت�صر على اختيار ا إلن�سان ،أ�و لا ي�صدق فقط على ا�صطفاء ال ّر�سول [ من بين �سائر الب�شر ،و�إنمّ ا ي�صدق كذلك على أ�ر�ض النب ّوة :الجزيرة العرب ّية ،وقوم النب ّوة ا ألوائل :العرب الباقية ،ولغة النب ّوة :اللغة العرب ّية ،وما �إلى ذلك من �آفاق و أ�بعاد �أخرى ،ويكفي العرب ّية بذلك ت�شريف ًا ،كما يكفيها دليل ًا على قدرتها و إ�مكاناتها ،وا�ستيعابها ل ُب ْع َدي ال ّزمان (الما�ضي والحا�ضر والم�ستقبل) ،والمكــان (الجغرافيا) ،وما يكــون في ذلك من تط ّور الب�شر ّية ونم ّو فكرها . ولع ّل من ا ألمور اللافتة ح ًّقا ،على م�ستوى الأ ّمة� ،أ ّن القر�آن الكريم ا ّلذي ن�زل بل�سان عربي مبين ،وتعامل مع معهود العرب في الخطاب ،هو �أ ّول كتاب ُيكتب و ُيقر�أ و ُيحفظ و ُيتداول .ومن هذا القر�آن ،كتاب العرب ّية ا أل ّول، ا ّلذي بد أ� نزوله بطلب القراءة }:ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃﮄﮅﮆﮇﮈﮉﮊﮋﮌ ﮍﮎﮏﮐﮑ ﮒ{ (العلق ، )5 - 1 :وفر�ض ّية التع ّلم } :ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ{ (البقرة } ،)31 :ﰊ ﰋ ﰌ ﰍ ﰎ ﰏ ﰐ ﰑ ﰒ ﰓﰔ ﰕ ﰖ ﰗ ﰘ{ ( مح ّمد )19 :واعتبر ذلك مفتاح الح�ضارة ،و�سبيل المعرفة وو�سيلة الثقافة ،انطلقت الحركة العقل ّية والل�سان ّية واللغو ّية ففيه بد�أت القراءة وامت ّدت الكتابة للأ ّمة ،فكان القر آ�ن، بما ب َّينه ودعا �إليه وما أ� ّ�صله و أ��ّس�سه :محور المعرفة وا إلنتاج الثقافي جميعه، ومدار الحركة الفكر ّية . وقد يكون �إعجاز القر آ�ن البياني والتح ّدي بالإتيان بمثله ،من بع�ض الوجوه :نوع ًا من التحري�ض العقلي والثقافي لإدراك �أبعاد هذا الإعجاز، 17
والتدليل على ق�درة العرب ّية على �أن تت�ش ّكل منها معجزة ،ببيان وجوه ا إلعجاز ،ومحاولة محاكاته . كما �أ ّنه ي�شير من جانب آ�خر �إلى الطاقات الهائلة والمخزون ال ّ�ضخم ا ّلذي تمتلكه اللغة العرب ّية ،التي و�سعت من دلالات هذا القر آ�ن بك ّل آ�فاقه و أ�بعاده، �ضمن إ�طار �أبجد ّيتها ومرونتها و�سعة مفرداتها وكثرة مترادفاتها التي تعبرّ عن أ�د ّق الحالات ال�شعور ّية المتداخلة والمتجاورة ،وقدرتها على تقديم القيم التعبير ّية لك ّل �إح�سا�سات الإن�سان وقيمه ال�شعور ّية ،قال تعالى } :ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖﭗ ﭘﭙ ﭚ ﭛ{(البقرة } ،)2-1 :ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ{ (الزخرف .) 3-1 : وهذه الحروف الأبجد ّية تلفت ال ّنظر العقلي �إلى �أ ّن �آي القر آ�ن م�صوغة من هذه الحروف ،ا ّلتي ي�ستعملها العرب في معهودهم للخطاب دون زيادة عليها ،ومع ذلك يعجزون عن ا إلتيان بمثل هذا القر آ�ن . و�إذا كان القر�آن معيار ال ّت�صويب والفهم لر�سالات الأنبياء ،ف�إ ّن اللغة العرب ّية هي معيار ال ّت�صويب والفهم لكتاب الله ،وما تمتلكه من الإمكانات ي�ؤ ّهلها للهيمنة على �سائر ال ّلغات . و�إذا كان الاختيار يعني ال ّت�شريف وال� ّدلال�ة على �شرف وقيمة ومكانة المختار ،ف�إ ّنه من وجه آ�خر يعني التكليف ،ووجود الإمكان ّية والم�ؤهل للقيام بالمه ّمة ،وحمل ا ألمانة ،والقدرة على ح�سن �أدائها . -الوحيان وق�ضيتا التي�سير في البيان والتبيين: ي�ّسر الله عز وجل القر�آن لل ّذكر ،فقال تعالى :ﭽﮞﮟﮠﮡ ﮢ ﮣﮤﭼ (القمر ،)17 :وكان القر آ�ن بهذا ال ّتي�سير الهادف خطاب ًا عا ّم ًا للأ ّمة جميع ًا ،و�ِس ْفر ًا مفتوح ًا لك ّل الع�صور وا ألجيال ،ون ّ�ص ًا مي�ّسر ًا لك ّل ال ّنا�س ،مهما اختلفت م�ستوياتهم وتخ ّ�ص�صاتهم ومناهجهم . 18
ولع ّل هذا التي�سير ،الذي ي�ش ّكل بع�ض ملامح الإعجاز ،هو الذي ح ّرك الهمم ،و أ� ّهل ال ُّنفو�س ،و�ش ّحذ العقول لمحاولة فهم أ��سرار ال ّن�ص القر آ�ني وا�ستكناه أ�بعاده ومقا�صده ،ومقاربة أ��سلوبه ،وك�شف وجوهه ،والتع ّرف �إلى كنوزه ،فكان ال ّن�ص القر�آني المُ ْع ِجز المي�ّسر لل ّذكر �سبيل ًا للارتقاء بال ّلغة والأ�سلوب والتط ّور وال ّنظر والاجتهاد والعطاء. ولئن ك�ان المعنى المتبادر لقوله تعالى :ﭽﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣﮤﭼ هو �سهولة تلاوة و�إمكان ّية تداول وتناول ال ّن�ص القر�آني وتح�صيل المدركات والمقا�صد لك ٍّل بح�سب م ؤ� ّهله ،ف إ�نه بهذا التي�سير ي�ش ّكل مائدة العقل وال ّنف�س لل ّنا�س جميع ًا . ومن م�ؤ�ّشرات تي�سير القر آ�ن لل ّذكر �أ ّن مح ّل التل ّقي ا أل ّول وا ألنموذج الكامل للت�أ�ّسي كان أ�م ّي ًا ،و�إ ّن�ه إ�نمّ ا ُب ِع َث في ا ألم ّيين أ�ي�ض ًا ،يقول تعالى : ﭽﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾﭿﮀﮁﮂﮃﮄﮅﮆ ﮇﮈﮉﮊﮋﮌﮍﮎﮏﮐ ﮑﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜﮝ ﮞﮟﮠﭼ ( ا ألع�راف ،)157 :ويقول تعالى :ﭽﭞﭟ ﭠﭡﭢﭣﭤﭥ ﭦﭧﭨﭩﭪﭫ ﭬﭭ ﭮ ﭯﭰﭱﭲﭼ (الجمعة ،)2 :وال ّر�سول [ -ي�ؤ ّكد تلك الأم ّية بقوله « :إ� ّنا �أ ّمة أ�م ّية لا نك ُتب ولا ن ْح�ُسب»(((. وق�ض ّية�أنتكونا أل ّمةا ألم ّية،التيلاتك ُتبولاتح�ُسب،محل ًّالل ّن�صالقر آ�ني، و أ� ّن حامل الوحي إ�ليها ُو�صف ب�أ ّنه النب ّي الأ ّمي ،قد تحتاج ل�شيء من التد ّبر والا�ستب�صار ..فالو�صف بالأ ّمي والأم ّية ،ن�سبة �إلى ا ألم� ،أي البقاء على �أ�صل ) 1814 لانكتب ولا نح�سب ) ،برقم ( النبي [ ( : -1و�أ�أخخررججههمال�بسلخما،ركيت،اكبتاالب ّ�اصليا ّ�مص،وبما ،بباوبجقووبل ). لر ؤ�ية الهلال ،برقم ( 1080 �صوم رم�ضان 19
ولادةا ألم،لمتتع ّلمكتاب ًاولاغيرهمنقبل،يعتبرو�صف ًاللحالالتي ُب ِع َثعليها ال ّنبي [ ،والمرحلة أ�و الحالة التي عليها الأ ّم�ة مح ّل البعثة حيث جاءت النب ّوة الخاتمة ل ُت َغ ِرّي الحال ،وتنطلق بها إ�لى معارج التع ّلم والتح ّ�ضر والتر ّقي ،ولا �أد ّل على ذلك من �أ ّن مع خطوات النب ّوة الأولى بد أ�ت رحلة التع ّلم بالو�سائل الممكنة والم�شافهة . وفي ق ّ�صة بدء الوحي :كيف �أ ّن الوحي بد�أ بطلب القراءة ،فكان ر ّد ال ّر�سول [ وا�صف ًا حاله التي هو عليها « :ما أ�نا بقارئ» ،ف�أخذه جبريل عليه ال�سلام، و�ض ّمه �إليه ث ّم أ�ر�سله وقال ( :اقر�أ ) فر ّد ال ّر�سول [ « :ما �أنا بقارئ»، ف أ�خذه جبريل ف�ض ّمه الثانية والثالثة ،م ّما ي�شير إ�لى �أ ّن الوحي وال ّر�سالة، هما جماع منهاج بما يو�صف بـ ( الوحيين ) ،إ�نمّ ا لتغيير الحال أ�و الحالة الأم ّية ،والارتقاء بالأ ّمة �إلى م�ستوى التلاوة والتعليم والتزكية وتع ّلم الكتابة والحكمة ،لأ ّن الحالة الأم ّية التي �سبقت ال ّر�سالة كانت حالة �ضياع و�ضلال وعجز عن اكت�شاف الهدف ال ّ�صحيح للحياة ﭽﭬﭭ ﭮ ﭯﭰﭱ ﭲﭼ . كما ي�شي ال�سياق ب أ� ّن العلم والمعرفة مفتاح هذا ال ّدين الوحيد ،و�سبيل بناء ح�ضارته ،و�أ ّن ا أل ّم ّية حالة مرحل ّية ،و أ� ّن من �إعجاز هذه ال ّر�سالة أ�ن تكون قادر ًة على تغيير هذه الأ ّمة ا ألم ّية وت�أهيلها لبناء ح�ضارة إ�ن�سان ّية، وهذه تكاد تكون معجزة القيم الإ�سلام ّية الأ�سا�س ،التي تتح ّقق من خلال عزمات الب�شر ،وتملك من ا إلمكان الح�ضاري والثقافي ما يجعلها قادر ًة على النهو�ض بالأ ّمة ح ّتى �ضمن مرحلة ا ألم ّية ،وح ّتى مرحلة الكمال ،كما �أ ّن أ�م ّية ال�شريعة �أو ال ّر�سالة ا إل�سلام ّية تعني أ�نها م�ؤ ّهلـة للتن ّزل على ا ألم ّيين وتغيير واقعهم وحالهم ،و�أ ّن ا ألم ّيين ب�إمكانهم تل ّقي هذه ال�شريعة والتعامل معها والالتزام بتكاليفها . فالقر آ�ن مي�ّس ٌر لل ّذكر ،وبذلك فهو خطاب أ� ّمة بك ّل �شرائحها ،ابتدا ًء من 20
ا ألم ّي وانتها ًء بالعالم المتخ ّ�ص�ص ،والمبعوث بالقر آ�ن الكريم كان وراء بعث الأ ّمة الأم ّية ،ا ألمر الذي ي ؤ� ّكد أ� ّن معاودة الانبعاث إ�نمّ ا يكمن بفقه كيف ّية العودة للات�صال بالقر�آن الكريم ،وتجديد أ�مر ال ّدين ،ومراجعة ت�صميم الذهن ّية الثقاف ّية للم�سلم المعا�صر في �ضوء الكتاب وال�ّسنة ،و�إعادة الاعتبار لمعرفة الوحي لت�أخذ موقعها من حياتنا و�سلوكنا ونظرتنا للأمور ،و�إ�شاعتها في �إطار الأ ّمة جميع ًا ،و إ��شراكها بالعودة للقر آ�ن والا ّدكار لآياته ،وقد ي�ّسره الله لل ّنا�س جميع ًا ،ك ٌّل بقدر ك�سبه ،و�أنزله للأم ّيين . والمطلوب اليوم �إعادة الاعتبار ل أل ّمة بك ّل �شرائحها أل ّنها مح ُّل القر آ�ن، حيث إ�عجاز القر آ�ن ،من بع�ض وجوهه ،هو امتلاك القدرة بالقر�آن – قراء ًة وكتاب ًة وتل ّفظ ًا وت�الو ًة وتح ّدث ًا -على ال ّنهو�ض بالأ ّمة إ�لى مراقي التق ّدم والفهم والمعرفة والتربية وا إلدراك ،و�أ ّن ا ألم ّية حالة م ؤ� ّهلة دائم ًا للتغيير والتغيرّ والارتقاء ،و�إ ّن ما ح�صل من الارتقاء بالأ ّمة ا ألم ّية دليل على أ� ّن المعجزة القر�آن ّية إ�نمّ ا تتح ّقق من خلال عزمات الب�شر . �إ ّن تحويل القر آ�ن من �أن يكون خطاب أ� ّم�ة بك ّل �شرائحها وم�ستوياتها و إ�غ�الق�ه على فئة أ�و طائفة �أو جماعة� ،أو زم�ن �أو مكان ليكون خطاب نخبة �أو طائفة أ�و ع�صر أ�و جماعة و�إق�صا َءه عن حياة ا أل ّمة والانتهاء �إلى هجره :ﭽﯘ ﯙ ﯚ ﯛ ﯜ ﯝ ﯞ ﯟ ﯠ ﭼ (الفرقان� ،) 30 :أو عزله عن حياة ا أل ّم�ة ومجتمعها ،يحمل الكثير من المخاطر ال�شرع ّية والفكر ّية والثقاف ّية والح�ضار ّية والم�ساهمة ال�ّسلب ّية بالفراغات الفكر ّية ،والفجوات ا ّلتي �سوف تم أل بـ «الآخر» ،ولي�س أ�ق ّل من ذلك خطورة « َط ْو�أ َفة ال ّن�ص ال�ق�ر آ�ني» أ�ن تح ّل آ�راء الب�شر واجتهاداتهم و أ�قوالهم مح ّل ال ّن�ص القر آ�ني ،ح ّتى ولو ا ّدعى أ��صحابها �أ ّنها إ�نمّ ا انطلقت من ال ّن�ص القر آ�ني ،وا ّدعت مرجع ّيته !! .. لقد تع ّددت مناهج ال ّنظر في ال ّتعامل مع ال ّن�ص ال�ق�ر�آني ،من المنهج 21
الت�شريعي (علم أ��صول الفقه) لا�ستنباط الأحكام الفقه ّية ،إ�لى المنهج البياني بك ّل متط ّلباته وا�ستحقاقاته البلاغ ّية� ،إلى المنهج الترّ بوي بك ّل �أدواته ومقا�صده ومعطياته� ،إلى المنهج التاريخي في رحلة البحث والك�شف عن قوانين الحركة الاجتماع ّية وعوامل ال ّنهو�ض وال�ّسقوط� ،إلى المنهج ال�ّسنني، �إلى المنهج ال ّنف�سي ،والمنهج ال ّتوحيدي ،وحتى المنهج الجغرافي ،ومنهج الت�صوير الفني ،وعلى ر�أ��س ذلك ك ّله منهج ال�ّسياق الإعجازي ،وطريقة ر�صف الكلمات في الجملة وال ُجمل في �صياغة ا أل�سلوب الم�ؤثر ذي الجر�س المو�سيقي الإيقاعي ،وارتباط الألفاظ بالمعاني ،وبناء الكلمات من الحروف المنا�سبة للجر�س ول إليقاع والمق�صد ،بك ّل أ��صواتها و أ�نواعها ،فيما يمكن أ�ن ي�س ّمى «المنهج البنيوي» حيث ر�صف الكلمات في جملة ،والجمل في �أ�سلوب و�سياق ،أ�و المنهج ال ّتحليلي ،ودور ك ّل حرف في بناء معنى الكلمة ولفظها و إ�يقاعها ،والمنهج المنطقي الفل�سفي ،والمنهج المق�صدي ،ومنهج التف�سير المو�ضوعي ...الخ . ولع ّل من ملامح الإعجاز أ�ي�ض ًا أ� ّن المناهج ،على تع ّددها وتن ّوع وجهتها واختلاف �أدواتها في النظر والا�ستنتاج ،وجدت في ال ّن�ص القر آ�ني محل ًّا لفعلها،و ُملهم ًا لها،كماوجد �أ�صحابتلكالمناهجالمتن ّوعة�ضا ّلتهمفيال ّن�ص القر آ�ني ،بل أ�كثر من ذلك ا�ستخل�صوا مناهجهم من ال ّن�ص القر�آني ،ووجد ك ّل �صاحب منهج عطاء منهجه أ�ي�ض ًا فكان ال ّن�ص القر�آني مي�ّسر ًا لل ّذكر لك ّل الم�ستويات ،وفر�صة ت�أ ّمل لك ّل م ّدكر ،ومحل ًّا للنظر لك ّل المناهج(((. ولم تتناق�ض هذه المناهج ولم تتناكر ،على تن ّوعها واختلافها ،ابتدا ًء من المنهج اللغوي ال ّل�ساني والبحث البنيوي ومفردات القر�آن وانتها ًء بالمنهج المق�صدي ،حيث ال ّن�ص القر آ�ني �إ�ضافة إ�لى �أ ّنه مي�ّسر لل ّذكر ،ف إ� ّنا نجد أ�ي�ض ًا -1ف�ضيلة ال�شيخ عمر عبيد ح�سنه� ،سل�سلة على ب�صيرة ،العربية ل�سان النبوة الخاتمة ،المكتب الإ�سلامي� ،ص ( 119 -117 :بت�ص ّرف ). 22
�أن المناهج الم�ستخدمة جميع ًا ،بما في ذلك من ذهبوا �إلى المنهج العلمي، �أو ما يطلق عليه «الإعجاز العلمي» ،لم تجر�أ �أن ت�سجل ملحظا واحد ًا على ال ّن�ص القر آ�ني ،م�صداق ًا لقوله تعالى :ﭽﮓﮔﮕﮖﮗﮘﮙ ﮚ ﮛﮜﭼ ( ف�صلت . ) 42 : فكما �أ ّن القر�آن خطاب ل إلن�سان ا ألم ّي البدائي الب�سيط ،ف�إ ّنه �ش ّكل خطاب ًا �أي�ض ًا للإن�سان في �أرقى المجتمعات و�أكثرها رق ّي ًا وتق ّدم ًا في �س ّلم التح ّ�ضر، وجاءت دعوته للنظر والتد ّبر �سبيل ًا للبناءات المنهج ّية المتع ّددة التي تم ّكن من النظر ،وترجع من ال ّن�ص القر آ�ني بزا ٍد وعطا ٍء يد ّل على �أبعاد ال ّن�ص اللامتناهية ح ّتى تنتهي الدنيا ،يد ّل على الخلود قوله تعالى :ﭽﯱﯲ ﯳ ﯴ ﯵﯶﯷ ﯸﯹ ﯺﯻﯼﯽ ﯾﯿ ﰀﰁ ﰂﭼ ( الكهف ،) 109 :وقوله تعالى :ﭽﯳﯴﯵﯶ ﯷﯸﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈﭼ( لقمان .) 27 : �إ ّن مناهج النظر ،على تع ّددها وتن ّوعها واختلافها ،وج�دت في ال ّن�ص القر آ�ني مجالها ،بل لع ّل دعوة القر�آن للنظر والت�أ ّمل والتبينّ والتب ّ�صر هو الذي ح ّر�ض العقول ،فانطلقت من دعوة القر�آن لبناء المناهج ،وعادت إ�لى القر�آن لاختبار هذه المناهج (((. ولحكمة يريدها الله �أ ّن الكثير من آ�يات الأنف�س وا آلفاق وردت في القر آ�ن مجملة :ﭽﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷﯸﯹﭼ ( ف ّ�صلت ،) 53 :لينطلق الفكر والفعل في آ�فاقها و�آمادها وف�ضاءاتها الوا�سعة ،يك�شف عن موجوداتها ،ويكت�شف قوانينها ،ويعمل على محاكاتها ومقاربتها وابتكار و�سائل �إب�صارها . والقر آ�ن ،على الجملة ،هو كتاب حياة كاملة ،وهداية للإن�سان ،فهو لي�س -1ف�ضيلة ال�شيخ عمر عبيد ح�سنه ،المرجع ال�ّسابق� ،ص ( 119 -117 :بت�ص ّرف ) . 23
كتاب لغة وبيان و أ�دب وتربية وعلم وتاريخ وفنون وعلوم ،و إ�نمّ �ا هو كتاب يمثل القيم المرجع ّية لذلك ك ّله ،حيث ي ؤ� ّهل الإن�سان ،وي�ضعه في مناخ ذلك، ويدفعه للإنتاج النافع في �شتى هذه الميادين ،ويق ّدم له ال ّنماذج في المجالات المتن ّوعة للاهتداء ،لكن ذلك جميعه لا ُي ْخ ِرجه عن مق�صده وهدفه ،و�صناعة الإن�سان الم�ستخلف ل�صنع التق ّدم والح�ضارة ،وفق منهج القر آ�ن ،و أ� ّن هذه ال ّروافد والج�داول من ال� ّر ؤ�ى والمناهج تخرج من القر آ�ن ،وتعاود ال ّ�صب فيه ،وتعين على فهمه (((. وهنا ق�ض ّية ،ق�د يكون م�ن المفيد الإت�ي�ان عليها ول�و �سريع ًا ،وهي أ� ّن بع�ض العاملين للإ�سلام ،قد ي�رى فائدة من ا�ستعارة م�صطلحات ا آلخرين ،وا�ستخدامها كمفاتيح فكر ّية ،ومداخل ثقاف ّية للتعامل معهم، و�إي���ص�ال بع�ض الم�ع�اني الإ��س�الم� ّي�ة �إل�ي�ه�م ،م�ن خ�الل م�صطلحاتهم، بنوع من المقاربة ،وقد أ�ج�از كثير من العلماء ترجمة معاني القر�آن إ�لى اللغات ا ألخ��رى ،لتعريف أ�هلها ب�ا إل��س�الم وكتابه ..وه�ذا إ�ن �ص ّح في البدايات ،لا يجوز أ�ن ي�ص ّح في النهايات ،لأ ّن الله اختار العرب ّية لتكون وعاء التنزيل ،و أ�داة ا إلبانة ،فلا نن ّزله في غير وعائه ،ولا نب ّينه بغير �أداته، خا ّ�صة و�أن من الم�س َّلم به لغو ًّيا وفكر ًّيا ،أ� ّن �إدراك �أبعاد ال ّن�ص تمام ًا لا يمكن �أن يكون بغير لغته ا أل�صل ّية ،و أ�ن عجمة ال ّل�سان يمكن أ�ن ت�ؤ ّدي إ�لى عجمة العقل والقلب ،وعجمة التعبير �سوف تقود �إلى عجمة التفكير . و�شيخ ا إل�سلام ابن تيم ّية رحمه الله (728 -661هـ ) يقول « :ف إ� ّن نف�س اللغة العرب ّية من ال ّدين ،ومعرفتها فر�ض واجب ،ف�إ ّن فهم الكتاب وال�سنة فر�ض ،ولا يفهم �إل ّا بفهم اللغة العرب ّية ،وم�ا لا يت ّم الواجب �إل ّا به فهو واجب(((.»... .69/1 العقل، نا�صر د. تحقيق �اشلميرخ اجعلإ�نسفل�اسهم،اب�نصت:يمّ 0ي2ة 1،ا-قت�22ض1اء(ابلت��صص ّررافط)ا.لم�ستقيم، -1 -2 24
فاختيار العرب ّية لتكون لغة التنزيل للخطاب ال�ّسماوي� ،أو لتكون لغة خطاب الله الأخير إ�لى الب�شر له دلالته من أ�كثر من وجه . ف إ�ذا �س ّلمنا أ� ّن من مقت�ضى الخاتم ّية ،أ�و من لوازمها ،الخلود – والخلود يعني :التج ّرد عن قيود الزمان والمكان ،والقدرة على العطاء والإنتاج العلمي والمعرفي ،في ك ّل زمان ومكان – أ�دركنا خلود اللغة العرب ّية ،و�سعتها ومرونتها وقدرتها على تقديم ا ألوعية التعبير ّية ،والا�ستجابة لكل الظروف والأحوال، التي يكون عليها النا�س ،والا�ستجابة ل إلنتاج الح�ضاري ،في �سائر العلوم والفنون ،حتى يرث الله ا ألر�ض ومن عليها(((. لهذا ف� إ� ّن اعتماد الح�رف القر آ�ني في الت�صنيف والت�أليف والكتابات والمكاتبات �إ�سهام ًا لخلود البيان في خلود القر�آن ،ومحاولة على ا ألقل دون هجر القر�آن من بع�ض الجوانب . العرب ّية، �شرف في ، الأ ّمة كتاب �سل�سلة ()42 ف�ضيلة ال�شيخ عمر عبيد ح�سنه ،للعدد -1تقديم ال�ّسامرائي� ،ص ( 19 -15 :بت�ص ّرف). د .إ�براهيم 25
الف�صل الثاني خاتمية الر�سالة.. إ��شكاليات الفهم والتنزيل
لع ّل من مقت�ضيات الخاتم ّية لل ّر�سالة الخاتمة �أ َّن الله تعالى تك ّفل بـحفظ كتابه الكريم من أ� ّي تحريف �أو تبديل� ،سواء في ذلك تحريف الكلم عن موا�ضعه ،أ�و تحريفه بالت�أويل ،وهو الخروج بالمعنى ع ّما ُو�ضع له اللفظ. ولقد جاء حفظ ال�سنة والبيان النبوي ،والعناية بهما ،ثمرة لازمة لحفظ القر�آن .وامتازت ا أل ّمة الم�سلمة عن غيرها من الأمم ال�ّسابقة واللاحقة، بال ّرواية وا إل�سناد ،تلك الو�سيلة التي لاب ّد منها لحفظ القيم ،والقيام بمه ّمة البلاغ المبين ،وال ّتـو�صيـل ،والنقل الثـقـافي على الوجـه ال ّ�صحيح ،ا ّلـتي اعتبرها الله عز وجل �سبيل ال ّنجاة ،بقوله }:ﮝﮞ ﮟﮠﮡﮢﮣ ﮤﮥﮦﮧﮨﮩﮪﮫ ﮬﮭﮮ{((( ،و�أمر بها ال ّر�سول [ في ح ّجة الوداع بقوله « :ليب ّلغ ال�شاهد الغائب ،ف إ� ّن ال�شاهد ع�سى �أن يب ِّلغ من هو �أوعى له منه »((( .وفي رواية « :فر ّب مب َّلغ أ�وعى من �سامع»(((. وبذلك لم يقت�صر ال ّر�سول [ على أ�هم ّية الن ّـقل (ال ّرواية) ،و إ�نمّ ا ن ّبه �أي�ض ًا على فقه ال ّرواية ووعيها (ال ّدراية) ،وبهذا ا�ستح ّق الم�سلمون وراثة القيادة الدين ّية بعد نق�ض بني �إ�سرائيل للميثاق ،وتحريفهم للقيم ال�سماوية(((. ولع ّل من الأمور الأ�سا�س ّية التي لاب ّد من مداومة الت�أكيد عليها �أ ّن من لوازم الخاتم ّية وتو ّقف النب ّوة� :سلامة خطاب التكليف من التحريف والتبديل والانتحال والغلو والت أ�ويل ،حتى يكون التكليف �صحيح ًا ،ويتر ّتب عليه الثواب والعقاب ،ويتح ّقق العدل الإلهي ..و أ� ّن من لوازم الخاتم ّية أ�ي�ض ًا :الخلود، وتج ّرد ال ّن�ص الإلهي في الكتاب وال�سنة عن حدود ال ّزمان والمكان ،و�أ�سباب النزول والورود لأ ّن العبرة بعموم اللفظ لا بخ�صو�ص ال�ّسبب ،كما هو مق ّرر � -1سورة الجن . 23 - 22 : -2البخاري� ،صحيح ،كتاب العلم ،رقم ،67 :عن أ�بي بكرة. بكرة. 43عب--يداملبحح ّخ�ماسدنرةري .أ�،ف�صتح�يسعحي،دك.تا أ��بسباالحب ّجو،رروقدما:ل1ح4دي17ث..،عتنحأ�لبييل عمر الأ�ستاذ تقديم ،10-9 : وت أ��سـي�س 29
عند علماء الأ�صول .فالخلود يعني :القدرة على العطاء ،والامتداد ،وتوليد ا ألحكام ،والبرامج ،والا�ستجابة لمعالجة الم�شكلات ،ومواجهة المتغيرّ ات، في ك ّل زمان ومكان ،والقدرة على �إنتاج ال ّنماذج التي تظهر بالحق ،وتثير الاقـتداء في ك ّل زمان ومكان أ�ي�ض ًا (((. وقد تكون الم�شكلة بالن�سبة للم�سلمين �أو احتمالات ال ّتحريف هي :الخروج بالمعنى ع ّمـا ُو�ضع له ال ّلفظ ،لذلك كان من الأهم ّيـة بمكان – �إلى جانب حفظ ال ّن�ص ا إللهي ،ا ّل�ذي تع ّهد الله بحفظه ،وقراءته – حفظ ال�سنة، والتع ّهد بحفظ البيان النبوي أ�ي�ض ًا } :ﰉ ﰊ ﰋ ﰌ{((( ،ا ّلذي يحول دون ال ّتحريف ،أ�و الت�أويل ،ا ّل�ذي يعني عدم م� ّس �ألفاظ وح�روف ال ّن�ص، بمقدار ما يعني الخروج بالمعنى ت أ�ويل ًا ع ّما ُو�ضع لها اللفظ. قال ابن عبا�س في تف�سيره ل آلية « :أ�ن نب ّينه على ل�سانك»(((. إ� ّن تو ّجه التحريف �صوب ال ّن�ص الإل�ه�ي واللفظ ال�ق�ر آ�ني يكاد يكون م�ستحيل ًا ،لكن الت أ�ويل والتف�سير وم�سالك الفهم يبقى موطن الخطر الذي يجب التن ّبه �إليه. وقد يكون هذا من بع�ض مدلولات قول ال ّر�سول [ ،ودعوته لليقظة لهذا الأمر الخطير وا�ضحة ،وفي ذلك يقول [ « :يحمل هذا العلم من ك ّل خلف عدوله ،ينفون عنه ت أ�ويل الجاهلين ،وانتحال المبطلين ،وتحريف الغالين»(((، وبلفظ « :يرث هذا العلم من ك ّل خلف عدوله ،ينفون عنه ت أ�ويل الجاهلين، وانتحال المبطلين ،وتحريف الغالين»(((. -1مح ّمد ر�أفت �سعيد� .أ�سباب ورود الحديث ..تحليل وت أ��سـي�س ،13:تقديم الأ�ستاذ عمر عبيد ح�سنة. � -2سورة القيامة .19 : -3البخاري� ،صحيح ،كتاب التف�سير ،رقم ،4928 :عن ابن عبا�س. -4الأ�صبهاني ،معرفة ال�صحابة . 322/ 2 : -5البيهقي ،ال�سنن الكبرى ،رقم ،20911 :عن إ�براهيم بن عبد الرحمن العذري. 30
لذلك يبقى المطلوب دائم ًا حرا�سة مدلولات الن�ص ،والتن ّبه إ�لى محاولة تحريفه ،كحماية �ألفاظ الن�ص ومنهج نقله ،إ�ن لم يكن �أكثر و�أه ّم . ف إ��شكال ّيـة التحريف تبقى قائمة ،والحواجز الكبيرة �أمامها تبقى �صعبة التجاوز طالما �أ ّن ال�سنة لها ح�ضورها ووظيفتها المت أ�تية عن الإيمان بها .ولع ّل هذا ي�ش ّكل بع�ض ملامح قوله تعالى } :ﯿﰀﰁ ﰂﰃﰄﰅ ﰆﰇ ﰈﰉﰊ ﰋﰌ {(((. ولع ّل مما يلفت النظر أ� ّن ال�ذي يناط بهم نفي التحريف والانتحال والت�أويل الفا�سد عن قيم الدين هم العلماء العدول «يحمل هذا العلم من ك ّل خلف عدوله ،ينفون عنه ت�أويل الجاهلين ،وانتحال المبطلين ،وتحريف الغالين» ،على أ�هم ّية التنبه في البيان النبوي �إلى م�صطلح (العدول) بكل ما يحمل من معنى ،فالحجة لا تقارع إ�ل ّا بالح ّجة ،ولي�س الأمر الفكري منوط ًا بالجبارين والطغاة وحاملي ال�ّسـياط. فالعلم هو الذي يهزم الجهل ،والحقيقة هي التي تهزم الخرافة ،وال�سنة هي التي تقمع البدعة ،وميدان المعركة لذلك جميعه هو الحر ّية ،ولي�س القهر وال�سيطرة وا إلجبار ،أل ّن الفكر والعقيدة مق ّره القلب ،ولا �سلطان ألحد عليه إ�ل ّا �سلطان الدليل والبرهان(((. وتبقى ال�سنة الفعل ّية وال�ّسيرة النبو ّية هما البيان العملي ،ا ّلذي يحول دون الت أ�ويل المنحرف ،وا ّلذي يمنح ملكة فقه التنزيل لل ّن�ص على الواقع ،لذلك فالاجتهاد يعني :تجريد ال ّن�ص من قيد ال ّزمان والمكان والمنا�سبة (�سبب النزول والورود) ،والامتداد به ،وتعدية ال ّر�ؤية ،وامتلاك القدرة في التنزيل على الواقع ،بوا�سطة العقل القائ�س ،والعقل الذي أ�طلقه ا إل�سلام لتحقيق � -1سورة القيامة . 19 -17 : -2حامدي� .ضوابط في فهم الن�ص ،28 - 16 :تقديم الأ�ستاذ عمر عبيد ح�سنه ،بت�صرف . 31
خلود ال ّن�ص ،بالاجتهاد ،وف�سح أ�مامه �آفاق ًا رحبة للامتداد به ،له أ�ن يمت ّد، ويمت ّد ويلمح آ�فاق ًا بعيدة ،ويو ّلد �أحكام ًا ور�ؤى ،وي�ضع من البرامج ،في �ضوء قيم ومقا�صد الن�ص الإلهي ،ما �شاء الله له الامتداد؛ ليح ّقق الا�ستجابة لك ّل جديد ومتغيرّ ..لكن لا يجوز للعقل� ،أو الاجتهاد ،والتف�سير بالر�أي ،بحا ٍل من ا ألحوال� ،أن يخرج� ..أو يغاير� ..أو ُيلغي الإطار العام للتف�سير بالم�أثور، أ�و البيان النبوي و إ�ل ّا كان الخ�روج والت أ�ويل الفا�سد وتحريف الكلم عن موا�ضعه. لذلك يمكن �أن نقول� :إ ّن البيان النبوي� ،أو التف�سير بالم�أثور (ا ّلذي ي�ش ّكل �سبب النزول والورود و�سيلته المعينة) ،هو الإطار المرجعي ،وال ّ�ضابط المنهجي ،وال ّن�سق المعرفي لأ ّي بيان أ�و ا�ستنباط ،أ�و تف�سير بال ّر�أي لل ّن�ص، كما يعتبر من عوا�صم العقل من ال ّتجاوز ،والانحراف ،وا إللغاء ،والقطيعة، �أو التقطيع لل ّن�ص ..فللمجتهد أ�ن يكت�شف �آفاق ًا و�أبعاد ًا لمقا�صد ال ّن�ص، ومراميه ،في �ضوء ال ّظروف الم�ستج ّدة ،لكن لي�س له أ�ن يتجاوز البيان النبوي، أ�و يخرج عليه ،با�سم التف�سير� ،أو الت�أويل ،ا ّلذي يقود ،إ�ذا ما تجاوز الم�أثور، إ�لى التحريف في المقا�صد ،والانحراف في ال�ّسلوك(((. -فقه البيان النبوي ..إ��شكالات فهمية: أ��سباب ال ّنزول والورود – وهي من البيان النبوي -هي أ��شبه ما تكون بو�سائل إ�ي�ضاح ،لتنزيل ال ّن�ص على الواقع ،ولتكون أ�داة معينة على التنزيل في ك ّل زمان ومكان .لكن هذه الو�سائل من أ��سباب ال ّنزول والورود ،لا تعتبر قيود ًا لل ّن�ص ،تج ّمده في نطاق المنا�سبة ،بمقدار ما تمنح من فق ٍه للتنزيل على الواقع. 1ح�-سنمةحّ ،مبتد ر� أ�ص ّفرتف�.سعيد .أ��سباب ورود الحديث ..تحليل وت�أ�سـي�س ،15 -14 :تقديم الأ�ستاذ عمر عبيد 32
و�إ�شكالات الهرج في زمن الفتن ،هي الإ�شكال ّية التي يعاني منها العقل الم�سلم ،ب�شك ٍل عام� ،أو المعادلة ال ّ�صعبة ا ّلتي لاب ّد من ح ّلها وت�صويـبها ،ح ّتى ي�ستقيم الحال فالكثير من ا ّلذين يفقهون ال ّن�ص ،يجهلون الع�صر ،و ُج ّل ا ّلذين يفهمون الع�صر يجهلون فقه ال ّن�ص ،وعلى ال ّرغم من �أ ّن خطاب التكليف في الكتاب وال�سنة �إنمّ ا يتن ّزل من خالق الإن�سان ،العالمِ ب أ�حواله وحاجاته الأ�صل ّيـة ،التي ُف ِطر عليها ،ف�إ ّن فهم الع�صر ،مح ّل تنزيل الحكم، هو من فقه ال ُحـكم أ�ي�ض ًا ..و�إ ّن فهم أ��سباب النزول والورود ،ي�ش ّكل مدخل ًا أ�و منهج ًا للفقيه والباحث لإدراك أ�هم ّيـة فهم الع�صر ،والظروف والملاب�سات التي تحيط بالحكم ال�شرعي ،ولي�س فقط فهم أ�بعاد ال ّن�ص. ق�ال اب�ن ع�ون « :ث�ال ٌث أ�ح ّبه ّن لنف�سي ولإخ��واني :ه�ذه ال�سنة �أن يتع ّلموها وي�س أ�لوا عنها ،وال�ق�ر�آن �أن يتف ّهموه وي�س�ألوا عنه ،وي َدعوا ال ّنا�س إ�ل ّا من خير»(((. �إ ّن الفهم للمحل وا�ستطاعته ،وظروفه ،الذي يمنحه لنا فقه �سبب النزول والورود ،يدفعنا ،قبل تنزيل ا ألحكام على الواقع� ،إلى فهم ظروف و�شروط الواقع ،وهذا هو الاجتهاد المطلوب في مورد ال ّن�ص ،معرفة مدى ا�ستطاعته، وحدود تكليفه. والق�ض ّيـة التي لابد �أن نعر�ض لها أ�ي�ض ًا ،هي � :أننا �أثناء التنزيل لل ّن�ص على الواقع ،الذي قد يقت�ضينا :الا�ستـثـناء ،أ�و الت أ�جيل� ،أو التـد ّرج في الحكم، ف�إن ذلك لا يعني �أن هذه الحال التي عليها المحل ،هي ال ّ�صورة النهائ ّيـة، �أو المرحلة النهائية للحكم ال�شرعي ،و�إنمّ ا يعني مرحلة في طريق التر ّقي، وتح�ضير المحل ،ليكون �أهل ًا للحكم النهائي ..والم�شكلة ك ّل الم�شكلة – في -1محمدبن ا�سماعيل البخاري� :صحيح البخاري ،تحقيق :محمد زهير بن نا�صر النا�صر (دار طوق النجاة /بيروت) 1422هـ .92/9 ، 33
نظري -قد تكون في هذا الفقه الغائب ،الذي هو فقه التنزيل الذي يمنحه (�سبب النزول وال�ورود) ،ذلك أ�ن الأحكام ال�شرعية في الكتاب وال�سنة، �شاملة لجميع الأحوال والظروف ،التي يكون عليها النا�س ،حتى يرث الله الأر�ض ومن عليها ،لكن تبقى الم�ـشكلة المطروحـة هي :الفقه بك ّل حالة ،وما ينا�سبها من ا ألحكام ،في هذه المرحلة ،وتح�ضيرها لما بعدها من المراحل ،في طريق التد ّرج والتر ّقي للو�صول إ�لى الكمال (((. فالأمر لا يتع ّلق فقط بمعرفة الحكم ،وما يطلبه ال�شرع م ّنا ،والت�أ ّكد منه ،والانطلاق إلنج�ازه ،بل يتع ّلق �أي�ض ًا ،با�ستكمال �أبعاد أ�خرى تخ�ّص المحل وم�ساحة التنفيذ ،والتنزيل على الواقع وكيف ّياته ،ومنهج ّية ومرحل ّية الانجاز ،خ�صو�ص ًا في مراحل انتقا�ص آ�ثار النب ّوة في الخلق ،و�ضعف �صلة النا�س با إل�سلام فهم ًا وممار�سة ،حيث يحتاج الاجتهاد �إلى ب�صيرة نافذة، وعقل را�شد ،وفقه ن�ضيج ،يمتلك مفاتيح المعادلات المركبة ،التي يفرزها التدافع بين الحق والباطل ،وال ّ�صواب والخط أ� ،والم�صلحة والمف�سدة، وهو ما عناه الفقهاء بقولهم(:لي�س الفقيه هو من يعرف :ب أ� ّن هذا م�صلحة وهذا مف�سدة ،بل الفقيه هو الذي يعرف :خير الخيرين ،و�ش ّر ال�ش ّرين). وبمقدار ما نحتاج إ�لى تجريد ال ّن�ص من قيود ال ّزمان والمكان ،وامتلاك القدرة على تعدية ال�ر ؤ�ي�ة إ�لى ا أل�شباه والنظائر ،وقيا�س الم�ستجد، ال�ذي لا ن�ّص فيه ،على الم�شابه ال�ذي فيه ن�ّص وحكم ،في �ضوء مقا�صد الدين وكل ّياته العا ّمة ،بمقدار ما نحتاج إ�لى فقه المح ّل وا�ستطاعاته، وقدرته ،وما يلائمه من الن�صو�ص وا ألحكام ..فالق�ض ّية الاجتهاد ّية ذات �أبعاد متع ّددة ،وحالات مختلفة. ولع ّل ترتيب ال�ق�ر�آن على غير �أزمنة النزول ما ي�زال ي�ستدعي الكثير -1مح ّمد ر أ�فت �سعيد .أ��سباب ورود الحديث ..تحليل وت�أ�سـي�س ،22 :تقديم الأ�ستاذ عمر عبيد ح�سنة. 34
من الت أ� ّمل ،فا إلن�سان هو الذي ي�س ّخر الزمن ،والا�ستطاعة هي التي تح ّدد التكليف ،ولي�س الزمن الذي إ�ذا تح ّكم بالفعل الب�شري ،وح ّدد مداه يلغي ويهمل �إرادة الإن�سان وا�ستطاعته ،ويحمله على �أحكام قد تتجاوز طاقاته.. فالقر آ�ن وال�سنة ب أ�حكامهما غ ّطيتا الم�ساحات التي يمكن أ�ن تعر�ض للب�شرية في جميع �أح�وال�ه�ا ..والفقه الحقيقي هو بتحديد التوافق بين التكليف والا�ستطاعة� ،أي بين الن�ص ومح ّل تنزيله. ويمكن القول :إ� ّن أ��سباب النزول ،التي تعني فيما تعني المنا�سبات �أو الحالات الاجتماعية ،أ�و الإ�شكالات التي تع ّر�ض لها المجتمع مح ّل التنزيل، فجاء ال ّن�ص ُمعالج ًا لها ،تعطي م�ؤ�ّشر ًا وا�ضح ًا �أ ّن الن�ص ،أ�و التكليف جاء ا�ستجابة وحل ًّا للحالة التي يعاني منها النا�س ،ليكون �أنموذج ًا يج ّرد من الزمان والمكان ،ويولد في ك ّل زمان ومكان ،ذلك �أ ّن العبرة بعموم اللفظ لا بخ�صو�ص ال�سبب ،كما يقول علماء ا أل�صول. ف�أ�سباب النزول لا تخرج عن كونها و�سائل معينة لكيف ّية تنزيل الن�ص على الواقع ومعالجة م�شكلاته� ..صحيح �أ ّن هناك �آيات كثيرة لم تتو ّفر لها �أ�سباب نزول ،إ�ل ّا �أ ّن أ��سباب النزول تبقى علم ًا مه ّم ًا ج ّد ًا في التدليل على تقدير الا�ستطاعات وما ينا�سبها من الأحكام (((. قد يكون فقه المحل ،وما يتن ّزل عليه من ا ألحكام بح�سب ا�ستطاعته، من �أه ّم الأمور المطلوبة للفقيه الم�سلم اليوم ،ذلك أ� ّن الكثير من الن�صو�ص في الكتاب وال�سنة �أحاطت بها ظروف و�شروط ومنا�سبات ،لاب ّد من إ�دراكها أ�ثناء عمل ّية التنزيل لل ّن�ص على الواقع .وهي تعد نوع ًا من فقه المحل، وتعين المجتهد على �إدراك أ�هم ّية توفر ال�شروط وال�ظ�روف بين يدي عملية التنزيل. -1أ�حمد بوعود .فقه الواقع ..أ��صول و�ضوابط ،27 – 26 :تقديم الأ�ستاذ عمر عبيد ح�سنة. 35
إ�ننا ن�سعى من خلال هذه الدرا�سة �إلى ترتيب ا�ستقراء �أ�سباب نزول ال ّن�ص ا إللهي ،وورود ال ّن�ص النبوي ..وذلك بهدف الوقف على حقيقة الأمور التالية: � -1أبعاد �سبب النزول والورود ،و أ�هميتهما في عمل ّية الاجتهاد والتجديد، أ�و فقه التنزيل؛ لغاية الب�صارة والفقه العملي الميداني. -2م�دى خطورة تنزيل ال ّن�ص� ،أو الحكم ال�شرعي ،على غير مح ّله، بالتو ّهم �أ ّن كل حكم ي�صلح لك ّل الأحوال �أو أ� ّنه ُين ّزل ب إ�طلاق ،دون مراعاة ال�شروط والظروف وملاب�سات الحال ،حتى �أ�صبحنا نوقع ال َّن�سخ في غير موقعه. -3مدىخطورةتنزيل أ�حكاموخطابالحربوالمعركةعلى�ساحاتال�ّسلم وال ّدعوة والبلاغ ،ونع ّطل الكثير من ا ألحكام ،على اعتبار أ� ّنها كانت تم ّثل حالة كان عليها المجتمع الإ�سلامي ا أل ّول ،في مراحل تحويله إ�لى ا إل�سلام، ث ّم تجاوزها إ�لى ما فوقها ،ف أ��صبحت من�سوخة أ�و مع ّطلة ،دون �أن ندري أ� ّن خلود القر�آن وال�سنة يعني خلود الم�شكلات التي عر�ضا لها ،والحلول التي ق ّدماها. -4مدى تع ّر�ض الأ ّم�ة في تاريخها الطويل لحالات كثيرة من ال�ّسقوط وال ّنهو�ض ،والهزيمة وال ّن�صر ،وال ّ�ضعف والق ّوة ،و�أ ّن لك ّل حالة حكمها، وفقهها ،و أ� ّنه لا يكفي حفظ الن�صو�ص وفهمها ،بعيد ًا عن أ��سباب نزولها، وورودها ،التي تعين على فهم الحال التي تتن ّزل عليه. ولا يفوتنا في هذا المقام �أن ن�شير �إلى �أ َّن ثمة �أ�سبا ًبا عديدة نزل من أ�جلها القر آ�ن ،وقد تناول علما�ؤنا الأقدمون والمحدثون هذه ا أل�سباب بالدرا�سة والتحليل بلو ًغا لغايات الوحي ومقا�صد التنزيل ...ثم ارتبطت درا�سة �أ�سباب 36
النزول بفهم �أ�سباب ورود الحديث ال�شريف وفهمه في �ضوء ال�سياق القر آ�ني ودلالاته النظرية والتطبيقية.... ومن خلال قراءة ال ّدرا�سات المعنية بالك�شف عن �أ�سباب النزول والورود لكل من الوحي القر آ�ني وال�سنة والمطهرة نجد �أ َّن بينهما عموم ًا وخ�صو�ص ًا، وتكافل ًا وتكامل ًا .بيد �أ ّن تلك ال ّدرا�سات ال�سابقة لم تت�ض ّمن الدرا�سة التحليلية الأنموذجية التي تتط ّرق إ�ليها. و�سوف نتناول فيما يلي من �صفحات درا�سة تحليل ّية با�ستقراء �سبب نزول ال ّن�ص ا إللهي} :ﯿﰀﰁﰂ{ ،وهل ث ّمة تناق�ض أ�و تعار�ض مع ال ّن�ص النبويُ « :أ� ِم ْر ُت أَ� ْن ُ أ� َقا ِت َل ال َّنا� َس َح َّتى َي ُقو ُلوا :ل َا �ِإ َلـ َه ِإ�ل َّا الله» ،وذلك با�ستقراء �سبب ورود ال ّن�ص النبوي للتوفيق بين �آية} :ﯿﰀﰁﰂ { ،وحديث: « ُأ� ِم ْر ُت أ�َ ْن ُ�أ َقا ِت َل ال َّنا� َس َح َّتى َي ُقو ُلوا :ل َا �إِ َلـ َه ِ�إل َّا الله» ،وال ّتوكيد على قاعدة عظيمة من قواعد ال ّدين ا إل�سلامي ،وهي :حر ّية الاعتقاد. 37
الف�صل الثالث التعريف بفقه البيان النبوي و أ��سباب النزول والورود
إ� ّن القراءة ال�شمولية للن�ص ال�شرعي �ضرورية ل�سلامة فهمه ،وح�سن تطبيقه وتعليمه ،وهي �ضمان للأمة من الاختلاف الذي ين�ش أ� عن القراءة الع�ضين التي ت أ�خذ بموجبها كل فرقة ما تهوى من الن�ص ال�شرعي ،وتترك منه ما لا تهوى ،في�ضربون ن�صو�ص ال�شرع بع�ضها ببع�ض ،وقد ح ّذر النبي [ من �ضرب الن�صو�ص بع�ضها ببع�ض ،و�أ ّن علينا العمل بما علمناه، ور ّد ما لم نعلم إ�لى العلماء الرا�سخين. ولقد عانت الأ ّمة ا إل�سلامية عبر تاريخها الطويل من التف ّرق في ال ّدين، َوخر َج ْت ال ِف َرق تترى ،ك ّل حزب بما لديهم فرحون ،فك ّل فرقة تزعم أ�نها �صاحبة الحق وغيرها في �ضلال مبين. وكان من �أبرز و أ�ه ّم �أ�سباب �ضلال هذه ال ِف َرق هو (القراءة التجزيئـيـّة)، وبعبارة �أو�ضح :العمل ببع�ض ال ّدين وترك البع�ض ا آلخر ،وعدم فهم الإ�سلام ب�شموله وكماله ،وعدم الجمع بين الن�صو�ص في الم�س أ�لة الواحدة ،دونما �ضرب بع�ضها ببع�ض ،أ�و تو ّهم التعار�ض بينها. والمتـت ّبع والمت أ�م ّـل لتاريخ ال ِف َرق يجد هذه المفارقة بين ك ّل طائفتين من الطوائف ال ّ�ضالة حول ق�ضية من ق�ضايا الاعتقاد الكبرى ،وكل منهما يقف في طرف م�ضاد ل آلخر ،وتتم�ّسك ك ّل طائفة بن�صو�ص �شرعية ت�ستند إ�ليها فيما ذهبت �إليه ،وتفهم هذه الن�صو�ص وتت أ� ّولها وفق ر ؤ�يتها وهواها ،ولكن الحق و�سط بين هاتين الطائفتين ((( ،كما قال ابن القيم رحمه الله: «وم�ا أ�مر الله ب�أم ٍر إ�ل ّا ولل�شيطان فيه نزغتان إ� ّم�ا تفريط و إ��ضاعة، و�إ ّما إ�فراط وغلو ،ودين الله و�سط بين الجافي عنه والغالي فيه ،كالوادي بين جبلين ،والهدى بين �ضلالتين ،والو�سط بين طرفي ذميمين ،فكما �أ ّن الجافي -1ال�شهراني ،القراءة التجزيئية للن�صو�ص ال�شرع ّيـة و�أثرها في افتراق الم�سلمين،5 - 3 : بت�ص ّرف. 41
عن الأمر م�ض ّي ٌع له ،فالغالي فيه م�ض ّي ٌع له ،هذا بتق�صيره عن الحد ،وهذا بتجاوزه عن الحد»(((. وتحديد المنهج ،وبيان الم�صطلحات وفهم مدلالوتها هو �أ ّول خطوة في فهم المراد ،و�إ ّن معظم اختلاف النا�س نا�شئ من جهة الاختلاف في الم�صطلحات. «وبالجملة فالأمور نوعان :إ�خبار و�إن�شاء. فا ألخبار تنق�سم �إلى �إثبات ونفي � :إيجاب و�سلب ،كما يقال في تق�سيم الق�ضايا �إلى إ�يجاب و�سلب .والإن�شاء فيه ا ألمر والنهي. ف أ��صل الهدى ودين الحق هو � :إثبات الحق الموجود ،وفعل الحق المق�صود، وترك المح ّرم ،ونفي الباطل تبع ،و أ��صل ال�ضلال ودين الباطل :التكذيب بالحق الموجود ،وترك الحق المق�صود ،ث ّم فعل المح ّرم ،و إ�ثبات الباطل تب ٌع لذلك» (((. -1ابن القيم الجوزية ،مدارج ال�ّسالكين بين �إ ّيـاك نعبد و�إ ّيـاك ن�ستعين . 496 /1612 : -2ابن تيمية ،مجموع الفتاوى .112 - 109/20 : 42
المبحث ا أل ّول :أ��سباب النزول والورود ..وفقه البيان إ� ّن الترتيب التوقيفي آلي�ات و��س�ور ال�ق�ر آ�ن ال�ك�ريم على غ�ري أ�زمنة ال�ن�زول ،له من المقا�صد وال ِح� َك�م التربوية في كيف ّيـة التعامل مع المنهج القر�آني ،والتعاطي مع الواقع الب�شري ما لا يخفى على ك ّل ذي نظر وعقل، ذلك �أ ّن هذا الترتيب في تجاور ا آليات ،رغم تباعد وتباين أ�زمنة نزولها، يمنح م�ساحات هائلة من المرونة والتح ّرك الطليق ،والتعامل مع المنهج بك ّل محطاته ومراحله ح�سب الا�ستطاعات المتوفرة والمقا�صد الملائمة لك ّل حالة ،خا ّ�صة و أ� ّن أ�قدار التد ّين ترتفع وتنخف�ض ،ولك ّل حالة ما ينا�سبها من ا ألحكام والاجتهاد. فا إليمان ،كما هو مق ّرر �شرع ًا وملحوظ واقع ًا ،يزيد وينق�ص ،كما أ� ّن ا إلمكانات تتط ّور ،وبالتالي لاب� ّد أ�ن تتوافق المقا�صد والأه��داف المرج ّوة مع الإم�ك�ان�ات ،فتنفتح ب�ذل�ك ال�رتت�ي�ب التوقيفي مج�الات وا�سعة للاجتهاد ،لم تكن لتتحقق لو كان الترتيب مقولب ًا ح�سب أ�زمنة النزول.. فالقيم الإ�سلامية في الكتاب وال�سنة ،والفقه التطبيقي في ال�سيرة ،ي�ش ّكلان الأنموذج ا ألكمل لك ّل أ��صول الحالات التي �سوف تم ّر بها الب�شر ّية ،والاجتهاد هو القدرة على تقدير موقع الت�أ�ّسي والاقتداء من م�سيرة هذا ا ألنموذج، الذي يحقق م�صالح العباد في ك ّل مرحلة وك ّل حالة تكون عليه الأ ّمـة (((. و�أ�سباب النزول والورود� ،أو البيان النبوي ،هو �أ�شبه بالتجربة المخبر ّيـة في العلوم التجريب ّيـة ،التي تعتبر ا أل�سا�س للانطلاق منها ،والت�صنيع في �ضوئها ،واعتمادها في التطبيقات المختلفة والمتع ّددة داخل المجتمع التي تعتمد جميعها تلك التجربة المخبر ّيـة ،ولا يخرج عليها (((. -1الخادمي .الاجتهاد المقا�صدي :حج ّيته� ..ضوابطه ..مجالاته 33 - 32 :تقديم ا أل�ستاذ عمر عبيد ح�سنة. � -2سعيد .أ��سباب ورود الحديث ..تحليل وت أ��سي�س ،17 :تقديم ا أل�ستاذ عمر عبيد ح�سنة. 43
والمق�صود بم�صطلح �سبب ورود الحديث :تت ّبع ال�ّسبب �أو الأ�سباب التي من �أجلها ورد الحديث ،وتك ّلم به ال ّر�سول [ ،والمه ّيج والمثير على ال ّنطق به ،و�صدور عنه. وقد يرد ال�سبب في الحديث نف�سه ،وقد يرد في بع�ض طرقه ،وقد يكون مقترن ًا بال ّن�ص ،أ�و �سابق ًا عليه ،وغالب ًا ما يكون ذلك في �سياق ق ّ�صة �أو حادثة وقعت ،كما أ� ّنه قد يكون للحديث أ�كثر من �سبب. ومعرفة �سبب الحديث لها أ�ثر بينّ في معرفة النا�سخ والمن�سوخ ،والعام والخا�ص ،وع ّلة الحكم ،والجواب عن مختلف الحديث وم�شكله (((. -1ال�ف�وزان� ،أث��ر ال���ّس�ي�اق وج�م�ع ال�� ّرواي��ات و�أ��س�ب�اب ال��ورود في ف�ه�م الح�دي�ث :درا�سة تطبيق ّيـة. 201 - 200 : 44
المبحث الثاني :فهم الن�ص في �ضوء أ��سبابه وملاب�ساته من مرتكزات المدر�سة الو�سط ّيـة في ح�سن فهمها لل�شريعة :قراءة ال ّن�ص في �ضوء �سياقه و أ��سباب نزوله إ�ن كان قر�آن ًا ،أ�و �أ�سباب وروده إ�ن كان حديث ًا، ومعرفة الظروف والملاب�سات التي �سيق فيها الحديث ،حتى لا يخطئ ال ّدار�س فهم المق�صود ،في�أخذ من ال ّن�ص حكم ًا لا يق�صد إ�ليه ،ولي�س مراد ًا منه. ومن ح�سن الفقه لل�سنة :النظر فيما بني من ا ألحاديث على �أ�سباب خا ّ�صة� ،أو ارتبط بع ّلة مع ّينة ،من�صو�ص عليها في الحديث ،أ�و م�ستنبطة منه ،أ�و مفهومة من الواقع الذي �سيق فيه الحديث. فالناظر المتع ّمق يجد �أ ّن من الحديث ما بني على رعاية ظروف زمن ّيـة خا ّ�صة ،ليحقق م�صلحة معتبرة� ،أو يدر أ� مف�سدة مع ّينة ،أ�و يعالج م�شكلة قائمة في ذلك الوقت ،أ�و يكون مبني ًا على عرف قائم في ذلك الوقت ،ولك ّنه لم ي ُعد قائم ًا اليوم. ومعنى هذا أ� ّن الحكم الذي يحمله الحديث قد يبدو عا ًّما ودائم ًا ،ولك ّنه عند الت أ� ّمل مبني على ع ّلة ،يزول بزوالها ،كما يبقى ببقائها ،أ�و على ُعر ٍف ينـتفي بانتفائه. وهذا يحتاج إ�لى فقه عميق ،ونظر دقيق ،ودرا�سة م�ستوعبة للن�صو�ص وملاب�ساتها ،و إ�دراك ب�صير لمقا�صد ال�شريعة ،وحقيقة ال ّدين ،مع �شجاعة أ�دب ّيـة ،وق ّوة نف�س ّية لل ّ�صدع بالحق ،و�إن خالف ما أ�لفه النا�س .وهذا لي�س بال�شيء الهينّ فقد ك ّلف هذا �شيخ الإ�سلام ابن تيمية معاداة الكثيرين من علماء زمنه الذين كادوا له حتى أ�دخل ال�ّسجن أ�كثر من م ّرة ،ومات فيه ر�ضي الله عنه. 45
لاب ّد لفهم الن�ص فهم ًا �سليم ًا دقيق ًا من معرفة الملاب�سات التي �سيق فيها الحديث ،وجاء بيان ًا لها ،وعلاج ًا لظروفها ،حتى يتح ّدد المراد من الحديث بد ّقة ،ولا يتع ّر�ض ل�شطحات الظنون ،أ�و الجري وراء غير ظاهر . وم ّما لا يخفى �أ ّن علماءنا قد ذكروا �أ ّن مما يعين على فهم القر�آن :معرفة �أ�سباب نزوله ،حتى لا يقع فيما وقع فيه بع�ض الغلاة من المت�أولة وغيرهم م ّمن �أخذوا ا آليات التي نزلت في الم�شركين ،وط ّبـقوها على الم�سلمين ولهذا، ف إ�ن ابن عمر ر�ضي الله عنهما كان يراهم �شرار الخلق بما ح ّرفوا كتاب الله ع ّمـا �أنزل فيه. ف�إذا كانت أ��سباب نزول القر�آن مطلوبة لمن يفهمه أ�و يف�ّسره ،كانت �أ�سباب ورود الحديث �أ�ش ّد طلب ًا ذلك �أ ّن القر آ�ن بطبيعته عام وخالد ،ولي�س من �ش أ�نه أ�ن يعر�ض للجزئيات والتف�صيلات والآنيات� ،إل ّا لت ؤ�خذ منها المبادئ والعبر . أ� ّما ال�سنة ،فهي تعالج كثير ًا من الم�شكلات المو�ضع ّية والجزئية والآنية، وفيها من الخ�صو�ص والتفا�صيل ما لي�س في القر آ�ن . فلاب ّد من التفرقة بين ما هو خا�ص وما هو عام ،وما هو م ؤ�قت وما هو خالد ،وما هو جزئي وما هو كلي ،فلك ّل منها ُح ْك ُمه ،والنظر �إلى ال�سياق والملاب�سات والأ�سباب ت�ساعد على �سداد الفهم وا�ستقامته لمن و ّفقه الله. إ� ّن الفقه ال ّ�صحيح الذي أ�راد الله ب�صاحبه خ�ري ًا ،وال�ذي ينطبق عليه الحديث ال ّ�صحيحَ « :م ْن ُي ِر ِد الل ُه ب ِه خير ًا ُي َف ِّق ْه ُه في ال ّدين»((( هو الذي ينظر �إلى الن�صو�ص من القر�آن وال�سنة ،مو�صولة بمقا�صد ال�شرع. -1البخاري� ،صحيح ،كتاب العلم ،رقم ،71 :عن معاوية. 46
لذا على الفقيه الموفق �أل ّا يت�ش ّبث بحرف ّيـة ال ّن�ص وحدهاُ ،م ْغ ِفل ًا ما وراءه�ا من ِح َك ٍم ومقا�صد وملاب�سات لها ت�أثيرها في معرفة ال ُحـكم، يدركها الغ ّوا�صون المتع ّمقون الذين لا يكتفون بالوقوف عند ال�ّسطح، بل يجتهدون �إلى �أن ي�صلوا ما ا�ستطاعوا �إلى ا ألعماق. وبدون هذا �ستز ّل الأقدام ،وت�ض ّل ا ألفهام ،ويذهب النا�س يمين ًا و�شمال ًا، بعيد ًا ع ّما ق�صده ال�شارع الحكيم ،و إ�ن كانوا يح�سبون أ� ّنهم متم�ّسكون بن�صو�ص ال ّدين ،ذا ّبون عن كتابه الكريم ،وعن �سنة نب ّيه الأمين. 47
المبحث الثالث :منهج ال�سياق في فهم القر آ�ن الكريم وتف�سيره ال�سياق إ�طار عام تنتظم فيه عنا�صر ال ّن�ص ووحداته اللغوية ،ومقيا�س ت ّت�صل بو�ساطته ال ُجمل فيما بينها وتترابط ،وبيئة لغوية وتداول ّية ترعى مجموع العنا�صر المعرف ّية التي يق ّدمها ال ّن�ص للقارئ. وي�ضبط ال�سياق حركات ا إلحالة بين عنا�صر ال ّن�ص ،فلا ُيفهم معنى كلمة �أو جملة إ�ل ّا بو�صلها بالتي قبلها� ،أو بالتي بعدها داخل �إطار ال�سياق. وكثير ًا ما يرد ال�َّش َبه بين ال ُجمل والعبارات مع بع�ض الفوارق التي تميز بع�ضها ،ولا ن�ستطيع تف�سير تلك الفوارق �إل ّا بال ّرجوع �إلى ال�سياق اللغوي، ولحَ ْـظ الفوارق الدقيقة التي طر أ�ت بين ال ُجمل .فك ّل م�ساق ل أللفاظ يج ّر �ضرب ًا من المعنى بجزئ ّياته وتفا�صيله. وال�ّسياق ال ّ�صورة الكل ّية التي تنتظم ال ّ�صور الجزئ ّية ،ولا ُيفهم كل جزء �إل ّا في موقعه من (الك ّل) ،وقد أ�ثبت العلم �أ ّن ال ّ�صورة الكل ّية تتك ّون من مجموعة كبيرة من النقاط ال�صغيرة ،المت�شابهة �أو المتباينة ،تدخل ك ّلها في تركيب ال ّ�صورة. هذا ،و�إ ّن التحليل بال�سياق يع ُّد و�سيلة من و�سائل ت�صنيف المدلولات، لذلك يتعينّ عر�ض اللفظ القر�آني على موقعه لفهم معناه ،ودفع المعاني غير المرادة. ولل�سياق �أنواع كثيرة ،لاب ّد من لفت الانتباه �إليها ،منها: ال�سياق الم�ك�اني ،ويعني �سياق الآي�ة داخل ال�ّسورة وموقعها بين ال�ّسابق من الآيات واللاحق �أي مراعاة �سياق ا آلية في موقعها من ال�ّسورة ،و�سياق الجملة في موقعها من الآية ،فيجب أ�ن ُتر َبط الآية بال�سياق الذي وردت فيه، ولا ُتقطع ع ّما قبلها وما بعدها. 48
وال�ّسياق ال ّزمني ل آليات ،أ�و �سياق التنزيل؛ ويعني �سياق الآية بين الآيات بح�سب ترتيب النزول. وال���ّس�ي�اق الم�و��ض�وع�ي ،ومعناه درا��س�ة ا آلي��ة أ�و الآي��ات ال�ت�ي يجمعها مو�ضوع واح�د – ��س�واء أ�ك�ان الم�و��ض�وع ع�ا ّم� ًا كالق�ص�ص القر آ�ني أ�و ا ألم�ث�ال �أو الأح�ك�ام الفقه ّية� ،أو أ�ح�د المو�ضوعات والق�ضايا مثل: ا ألم�ن ،وال�صبر ،والجهاد ،وال�سلم أ�م كان خا ّ�ص ًا كالق ّ�صة المخ�صو�صة بـ (نبي من ا ألنبياء) وحك ٍم من ا ألحكام �أو غير ذلك – وتت ّبع مواقعها في القر�آن الكريم ك ّله. وال�ّسياق المقا�صدي ،ومعناه النظر إ�لى ا آليات القر آ�نية من خلال مقا�صد القر آ�ن الكريم والر ؤ�ية القر�آن ّية العا ّمة للمو�ضوع المعا َلج. وال�ّسياق التاريخي بمعنيـيه :العام ،وهو �سياق ا ألحداث التاريخ ّية القديمة التي حكاها القر�آن الكريم ،والمعا ِ�صرة لزمن التنزيل .والخا�ص ،وهو أ��سباب النزول. وال�ّسياق ال ّلغوي ،وهو درا�سة الن�ص القر�آني من خلال علاقات أ�لفاظه بع�ضها ببع�ض والأدوات الم�ستعملة لل ّربط بين هذه الألفاظ ،وما يترتب على تلك العلائق من دلالات جزئ ّية وكل ّية. وينبغي تحكيم كل هذه ا ألنواع من ال�ّسياق عند �إرادة درا�سة ال ّن�ص القر�آني بمنهج�سياقيمتكامل،و�إل ّاف�إ ّن الاقت�صارعلىال�ّسياقالتاريخي �سيحوم حول ال ّن�ص ولا يعدوه ،و�أ ّما الاقت�صار على ال�ّسياق ال ّداخلي وحده دون الالتفات إ�لى ا ألحداث التاريخ ّيـة المحيطة به� ،أو الم�صا ِحبة لنزوله ،ف�سيجعل ال ّن�ص بنية لغو ّية مغلقة تقت�صر على ما تفيده الألفاظ من معا ٍن ودلالات (((. -1بودرع .منهج ال�ّسياق في فهم ال ّن�ص . 31 - 27 : 49
Search
Read the Text Version
- 1
- 2
- 3
- 4
- 5
- 6
- 7
- 8
- 9
- 10
- 11
- 12
- 13
- 14
- 15
- 16
- 17
- 18
- 19
- 20
- 21
- 22
- 23
- 24
- 25
- 26
- 27
- 28
- 29
- 30
- 31
- 32
- 33
- 34
- 35
- 36
- 37
- 38
- 39
- 40
- 41
- 42
- 43
- 44
- 45
- 46
- 47
- 48
- 49
- 50
- 51
- 52
- 53
- 54
- 55
- 56
- 57
- 58
- 59
- 60
- 61
- 62
- 63
- 64
- 65
- 66
- 67
- 68
- 69
- 70
- 71
- 72
- 73
- 74
- 75
- 76
- 77
- 78
- 79
- 80
- 81
- 82
- 83
- 84
- 85
- 86
- 87
- 88
- 89
- 90
- 91
- 92
- 93
- 94
- 95
- 96
- 97
- 98
- 99
- 100
- 101
- 102
- 103
- 104
- 105
- 106
- 107
- 108
- 109
- 110
- 111
- 112
- 113
- 114
- 115
- 116
- 117
- 118
- 119
- 120
- 121
- 122
- 123
- 124
- 125
- 126
- 127
- 128
- 129
- 130
- 131
- 132
- 133
- 134
- 135
- 136
- 137
- 138
- 139
- 140
- 141
- 142
- 143
- 144
- 145
- 146
- 147
- 148
- 149
- 150
- 151
- 152
- 153
- 154
- 155
- 156
- 157
- 158
- 159