Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore انتخاب النخب، منطقه ودلالته على أحوال الأمم - أبو يعرب المرزوقي

انتخاب النخب، منطقه ودلالته على أحوال الأمم - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2019-08-10 06:39:34

Description: انتخاب النخب، منطقه ودلالته على أحوال الأمم - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪re nils frahm‬‬ ‫انتخاب النخب‬ ‫منطقه ودلالته على أحوال الأمم‬ ‫الأسماء والبيان‬





‫المحتويات ‪2‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪8 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪16 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪23 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪30 -‬‬ ‫‪ -‬خاتمة ‪37 -‬‬

‫‪--‬‬ ‫آن الآن أوان وضع السؤال الأساسي الذي يترتب على ما قدمناه في مسألة المعاني الكلية‬ ‫من حيث هي رموز وليست مقومات في رؤية ابن تيمية التي تحرر الفكر الإنسان من القول‬ ‫بالمطابقة في نظرية المعرفة ونظرية القيمة‪ :‬كيف تؤدي هذه المعاني الكلية التي تؤدي دور‬ ‫الترميز لا التقويم دورها في انتخاب ممثلي النخب الخمس في كل جماعة‪:‬‬ ‫‪ .1‬نخبة الإرادة أو الساسة‪.‬‬ ‫‪ .2‬ونخبة المعرفة أو العلماء‪.‬‬ ‫‪ .3‬ونخبة القدرة أو زاد الإنسان المادي (الاقتصاد) والرمزي (الثقافة)‪.‬‬ ‫‪ .4‬ونخبة الحياة أو نخبة الذوق أو الفنانون‬ ‫‪ .5‬واخيرا نخبة الوجود أو الرؤى سواء كانت دينية أو فلسفية‪.‬‬ ‫فلا توجد أمة تخلو من هذه الأصناف الخمسة من النخب مهما كانت بدائية الحضارة أي في‬ ‫بداية تحقق التقسيم الوظيفي للعمل في الجماعة‪ .‬والسؤال هو كيف تنتخب الأمم بوعي أو‬ ‫بغير وعي بنظام صريح أو بنظام ضمني رموز هذه النخب فتعتبرهم ممثلين لها‪ .‬فيكونوا‬ ‫بلغة الغزالي معتبري الزمان أي أهل الحر والعقد باصطلاح فلسفة السياسة التي تشمل كل‬ ‫هذه الأبعاد في رؤية الإسلام‪.‬‬ ‫ووراء هذا السؤال سؤال ثان أهم هو‪ :‬ما دلالة هذا نوع الانتخاب وحصيلته على كون‬ ‫الأمة التي تقوم به وترضى بحصيلته هي أمة أحرار حقا أم هي أمة عبيد لا تميز بين حقيقة‬ ‫هذه القيم وحقيقة تمثيلها وبين ظاهرها وظاهر ممثليه أي‪:‬‬ ‫• هل كل سياسي سياسي؟‬ ‫• وهل كل عالم عالم؟‬ ‫• وكل منتج للزادين منتج؟‬ ‫• وكل مبدع للذوقي مبدع؟‬ ‫• كل صاحب رؤية دينية أو فلسفية هو صاحبها؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫نصل إلى سؤال أهم من السؤال الثالث‪:‬‬ ‫• من أين يأتينا هذا الميل إلى التمييز ما هو حق وما هو ظاهر في المعاني وفي ممثليها؟‬ ‫ثم نصل إلى سؤال أهم من السؤال الرابع هو‪:‬‬ ‫• ما العالم الذي نستمد منه المعايير التي تفاضل بين الموجود والمنشود؟‬ ‫وأخيرا وهذا هو السؤال الخامس وسؤال الغاية‪:‬‬ ‫• هل يعقل أن تكون الأسئلة الأربعة التي ذكرنا ملازمة لأي إنسان في حكمه الانتخابي‬ ‫له أو عليه إذا لم يكن عند الإنسان \"شيء ما\" يجعله لا يستطيع أن يعيش في الموجود دون‬ ‫الاشرئباب إلى منشود مختلف عن الموجود والسؤال هو ما هو المنشود وما علاقته بالموجود‬ ‫الذي يسميه الناس عادة \"الواقع\" بما فيه من عنف « هو ما هو ولا حيلة معه »‪.‬‬ ‫هذه خمسة أسئلة كل واحد منها أعمق من الذي سبقه وأعسر علاجا‪ .‬ومع ذلك فلا يمكن‬ ‫أن نفهم ما نراه حولنا من \"ممثلين\" لهذه النخب ومن ثم للجماعة وهم في الغالب هم‬ ‫\"كمبارسوات\" لا ندري كيف اختيروا ليكونوا ممثلين للإرادة والإرادة السياسية وللمعرفة‬ ‫والعلم وللقدرة بنوعيها وللحياة وفنونها وللوجود ورؤاه في الجماعة‪ .‬فلكأن وراء ما يجري‬ ‫نظاما سريا هو الذي يرتب سلم التراتب فيها‪.‬‬ ‫لو اعتبرنا سلم التراتب محكوما بمنطق الجدل أي بالصراع بين طرفين من جنس صراع‬ ‫السيد والعبد عند هيجل وماركس أو عند الإسلاميين القائلين بما يشبهه ويسمونه التدافع‬ ‫ما يعني أن الصراع متردد بين الصدفة كما في التاريخ الطبيعي أو بالغائية التي ليست يبدو‬ ‫تعليلها فلسفيا وهي في الحقيقة ديني متنكر وهو عند هيجل وماركس غاية التحرر‪ .‬فنكون‬ ‫أمام موقفين كلاهما مضاعف‪:‬‬ ‫‪ .1‬موقف الغائية ما يعني أن وراءها قوة فاعلة هي إما دينية أو ما يشبه نظرية المؤامرة‬ ‫من سلطان خفي مثل أن يكون للسوق وراءها قوة مخططة إلهية عند المؤمنين ومافياوية‬ ‫عند السياسيين وكلتاهما تشبه مفهوم اليد الخفية (وكنط يقول بها في فلسفة التاريخ‬ ‫مثلا)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬موقف يدعي أصحابه الاستغناء عن الغائية لقولهم بالصدفة‪ .‬ويمكن كذلك أن تقول‬ ‫بها بإطلاق أو أن تعتبرها من المغالطات التي تخفي خطة جهنمية لعدو محتمل‪ .‬فقد يكون‬ ‫إما ابليس بالمعنى الديني أو أن يكون إبليس انسي‪.‬‬ ‫ما يعني أن القول بـالصدفة لا يـختلف عن القول بـالغائية‪ .‬فكلاهما ينسب إلى سلطة‬ ‫خفية إما سماوية أو أرضية ما لا يجد له تفسيرا بعلمه‪ .‬فنظرية المؤامرة ليست سياسية‬ ‫فحسب بل هي ميتافيزيقية لأنها تبحث عن التعليل الخفي بسبب عدم كفاية التعليل الجلي‪.‬‬ ‫ولا يمكن لهذا الحل أن يرضينـي لأنه يتصور الأمر علاقة بين حدين متناقضين بدلا من‬ ‫بنية شديدة التعقيد لا تقبل الرد إلى صدام بين حدين متناقضين كما في الجدل الذي لا‬ ‫يدل على علم بما يجري بل على تبسيط هيجل وماركسي وإسلامي أي في ما يسميه‬ ‫الإسلاميون بالتدافع‪ .‬فالمعاني الكلية الخمسة ‪-‬الإرادة والمعرفة والقدرة والحياة‬ ‫والوجود‪-‬متضامنة أي إنها تعمل معا بمعنى أن انتخاب رموزها متبادل التأثير ومتحد‬ ‫البنية‪.‬‬ ‫عندما أنظر في أي بلد عربي فإني أجد أن نخبة الإرادة أو السياسة ونخبة المعرفة أو‬ ‫العلماء ونخبة القدرة أو المنتجون لزاد الإنسان المادي والروحي ونخبة الذوق أو الفنانون‬ ‫ونخبة الرؤى أو \"المفكرون اصحاب الرؤى\" كلها متجانسة لما بينها من تبادل التأثير إيجادا‬ ‫وإعداما‪ .‬فتكون السلطة المؤثرة ذات فشو وانتشار بغير تحديد معين لأنها منتشرة في كل‬ ‫كيان الجماعة‪.‬‬ ‫وعبارة بـ\"غير تحديد معين\" لا يعني عدم التحديد بل تعني أنه تحديد بمعاني كلية رامزة‬ ‫أو منظومة علامات تمكن من الإحالة إلى شيء يعرف بتلك العلامات دون ان تكون تلك‬ ‫العلامات مقومة له بل هي دالة على فاعليته في الظاهرة التي يراد تفسيرها في حدود‬ ‫إدراكنا المؤقت لما يجري‪ .‬وسأختار مثالين من القرآن فابدأ بالسلبي يليه الإيجابي‪.‬‬ ‫فالمثال السلبي الذي يعرف الظاهرة بعلامات آخذه من الإسراء وأبدأ به لأنه أوضح من‬ ‫المثال الإيجابي‪َ {:‬و ِإ َذا َأ َردْ َنا أَن نُّ ْه ِلكَ َقرْيَ ًة َأ َمرْ َنا مُ ْت َر ِفي َها فَفَ َس ُقوا فِي َها َف َحقَُّ عَ َليْهَا ا ْلقَوْلُ‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫َفدَ َُّمرْنَاهَا تَدْ ِمي ًرا} (‪ .)16‬ففي الآية خمس معان كلية وكونية وبينة المعالم لكنها متغيرة‪.‬‬ ‫والمثال الأوضح أن الترف عند الفقير أخطر منه عند الغني وعند الغني الجديد أخطر‬ ‫منه عند الغني القديم وهلم جرا‪:‬‬ ‫‪ .1‬القرية‪.‬‬ ‫‪ .2‬والترف‪.‬‬ ‫‪ .3‬والفسق‪.‬‬ ‫‪ .4‬وحق القول‪.‬‬ ‫‪ .5‬والتدمير‪.‬‬ ‫وهذا قانون عام بمعان كلية يمكن اعتبارها تقديرات ذهنية لأن ما يوجد في الخارج متعدد‬ ‫الأشكال يقبل الوصف بها دون مطابقة‪ .‬فهذه محاولة لتعيين محل مجرد لظاهرة لا يخلو‬ ‫منها عمران إنساني لكنها علامات أولها يحدد مكان الظاهرة والثاني نوع الأشخاص الذين‬ ‫سيفعلون والثالث صفة الفعلة والرابع لحظة العقاب والاخير نوع الحكم‪ .‬وكلها عناصر‬ ‫تصف الظاهرة بتفاعل يحكيه نظام رمزي يشير إليها ويقال بنظام رمزي يعبر عنه‪.‬‬ ‫والظاهرة المرموز إليها ليست شيئا ذا قيام مادي في الخارج بل هي نظام علاقات بين أمور‬ ‫لم تحدد لها ماهيات مقومة بل اكتفينا بأسمائها التي تشير إليها وهي العناصر الخمسة‪.‬‬ ‫والبنية الواصلة بين العناصر تعطينا حكما وجزاء مع حضور قاض هو المتكلم على الظاهرة‬ ‫في شكل نطق بالحكم السرمدي لأنه ناتج عن صاحب العلم المحيط‪.‬‬ ‫وليس مهما إذا كان السامع يعتقد في القانون والحكم والعقاب والقاضي وعلمه المحيط‬ ‫المهم ويؤمن بها لأن المتكلم هو القرآن‪ .‬فكل كلامه معاني كلية هي مقدرات ذهنية عملية‬ ‫أخلاقية إذا تسلمناها فرضا عند غير المؤمن بالإسلام أو عقدا عند المؤمن به يمكننا أن‬ ‫نطبقها على التاريخ كما يمكننا تطبيق المعاني الكلية الذهنية النظرية الرياضية على‬ ‫الطبيعة‪ :‬المقدرات التي أضفتها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ومثلما أنه يستحيل أن تجد ظاهرة طبيعية تطابق المقدرات الذهنية النظرية الرياضية‬ ‫صوغا لها أولا وعبارة عن صوغها وهما درجات الترميز العلمي فكذلك يستحيل أن تجد‬ ‫ظاهرة تاريخية تطابق المقدرات الذهنية العملية الخلقية صوغا أولا وعبارة عن صوغها‬ ‫ثانيا وهما درجات الترميز القيمي‪ :‬وتلك هي إضافتي التي قستها على مفهوم المقدرات‬ ‫الذهنية التيمي‪.‬‬ ‫لكنها ليست إضافة من ابداعي لأنها قيس على إبداع ابن تيمية‪ .‬فهو اعتبر المقدرات‬ ‫الذهنية الرياضية وحدها قابلة لعلم كلي ومحظ وبرهاني وتطبيقها على الطبيعة لا يمكن‬ ‫أن يكون كليا ولا محضا ولا برهانيا بل هو دائما دون حقيقة الشيء اضطررت لوضع نظير‬ ‫في العمل يعطينا نفس الشيء في التاريخ بالاستناد إلى مقدرات ذهنية عملية هي‬ ‫الأخلاقيات التي هي شرط التاريخيات مثلما أن الرياضيات هي شرط الطبيعيات‪.‬‬ ‫والتقديرات الذهنية النظرية مثل التقديرات الرياضية هي لعلم للضرورة الشرطية‬ ‫والتقديرات الذهنية مثل التقديرات العملية الأخلاقية هي لعمل الحرية الشرطية‪.‬‬ ‫وأكثر من ذلك فلا يمكن فهم معنى ما بعد الطبيعة من دون الأولى ولا يمكن فهم ما بعد‬ ‫التاريخ من دون الثانية‪.‬‬ ‫ومثلما وضعت مفهوم التقديرات الذهنية العملية الأخلاقيات لفهم التاريخ وضعت مفهوم‬ ‫الحرية الشرطية لفهم دور الإنسان فيه أو ما يسمى في علم الكلام بأفعال العباد لتوضيح‬ ‫معنى الكسب الأشعري الذي أعتبره ألف مرة أدق من خرافة خلق الإنسان لأفعاله عند‬ ‫المعتزلة‪.‬‬ ‫والأهم من ذلك كله هو أن فهم التاريخ الإنساني في علاقته بما يتعالى عليه مستحيل من‬ ‫دون العلاقة بين الضرورة الشرطية والحرية الشرطية وتفاعلهما الذي هو التعمير‬ ‫والاستخلاف أو مهمتا الإنسان في القرآن اللتان جهز لهما الإنسان بالقدرة على إبداع‬ ‫المقدرات الذهنية النظرية وابداع المقدرات الذهنية العملية وعليهما يقيس الما بعدين‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أمر الآن إلى المثال الإيجابي وسأورد فيه آيتان هما‪ :‬الحج ‪ 40‬لحماية الحرية الدينية‬ ‫بحماية كل المعابد والبقرة ‪ 251‬لحماية الأرض من الفساد‪ .‬ولنأخذ أيا منهما لأن المعنى‬ ‫واحد ويشبه المعنى الذي شرحناه في الوجه السالب من تمثيلنا‪ .‬وسنرى أن الأمر كذلك فيه‬ ‫قاض وحكم وعقاب ومكان الجرم وعلته‪.‬‬ ‫وأختار الكلام على الآية الثانية‪{ :‬ف َهزَ ُمو ُهم ِبإِ ْذنِ اللَُّهِ وَ َقتَلَ َدا ُوو ُد َجالُوتَ وَآ َتاهُ اللَُّ ُه‬ ‫ا ْل ُم ْل َك وَا ْلحِ ْك َمةَ وَعَ َُّلمَ ُه مِ َُّما يَشَاءُ ۗ وَ َل ْو َلا دَفْعُ اللَُّ ِه النَُّاسَ َب ْعضَ ُهم ِببَ ْع ٍض ّلَُفَ َس َدتِ الْأَرْضُ‬ ‫َو ٰلَ ِك َُّن ال َلُّ َه ُذو فَضْ ٍل َع َلى الْعَالَ ِمي َن}(‪ )251‬لأنها تتضمن الآية الأولى‪.‬‬ ‫فالعدوان على المعابد أحد أنواع الفساد في الأرض أو إحدى عللـه أو إحدى معلولاته‬ ‫وهي بالمعنيين من أكبريهما‪ .‬والمثالان الموجبان هنا مثل المثال السالب هناك يتعلقان‬ ‫بالقضاء قضاء وتنفيذا مع اعتبار أحدهما قضاء في الجنائي الخاص والثاني قضاء جنائي‬ ‫عام أو سياسي لتعلقه بحسم حرب من أجل تحقيق نصر حربي لمن معه الحق‪ .‬ما يعنيني هنا‬ ‫هو عمل القضاء‪:‬‬ ‫‪ .1‬القاضي يصف \"الفعل\" الذي هو موضوع التحاكم بتحقيق المناط‪.‬‬ ‫‪ .2‬وبتطبيق علامات يحددها النص القانوني على \"الفعل\"‪.‬‬ ‫‪ .3‬واستنادا إلى هذا التوصيف القانوني‪.‬‬ ‫‪ .4‬يأتي النطق بالحكم الذي يجرم ويقدر العقوبة‪.‬‬ ‫‪ .5‬والنطق بالحكم تعبير يترتب على التوصيف القانوني‪.‬‬ ‫وهذا يعني أن رؤية ابن تيمية علتها عمق فكره الفقهي‪ .‬فلا يوجد قاض واحد في الإسلام‬ ‫يدعي أنه يحكم بغير الظاهر وأن الله هو الذي يتولى السرائر وأن الأحكام متغيرة بتغير‬ ‫تحقيق المناط وأن ذلك اجتهاد من القضاة وهو إضافي إلى تطور القضاء وعلم القاضي وأن‬ ‫ذلك لا يعني أن العملية فيها مطابقة علمية أو قيمية يدعي فيها القاضي علما محيطا أبدا‪.‬‬ ‫فإذا عدنا إلى مشكلنا كان الامر كله وكأن انتخاب النخب في الإرادة (الساسة) وفي العلم‬ ‫(العلماء) وفي القدرة (المنتجون اقتصاديا وثقافيا) وفي ذوق الحياة (الفنانون) وفي الوجود‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫(الفلاسفة وعلماء الدين) يكون بعملية يكون فيها الجميع قاضيا ومتقاضيا بمعنى أن كل‬ ‫واحد منا قاض ومتقاض فيها جميعا‪.‬‬ ‫وقد اعتبر ابن خلدون ذلك علة اللجوء إلى القوة التي تحسم هذا التقاضي المتبادل بين‬ ‫الناس‪ :‬فبين الساسة والعلماء والمنتجين والفنانين والوجوديين خصومة دائمة كل واحد‬ ‫يدعي أنه هو الافضل إرادة أو علما أو قدرة أو ذوقا أو رؤية‪ .‬والقاضي هو ما ترضى به‬ ‫الجماعة‪ :‬وإذن فالجماعة هي المسؤولة عن التردي وتلك هي علة أن القرية كلها تدمر ولا‬ ‫يقتصر العقاب على المترفين فيها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الكلام على الديموقراطية وتمجيدها بالقياس إلى الأنظمة الأخرى في عصرنا يتعلق‬ ‫بانتخاب النخب في كل المجالات وليس في الحكم وحده‪-‬وهو عكس رؤية اليونان وما تلاهم‬ ‫من العصور إلى حدود نزول القرآن الذي تكلم على نظام الشورى (الشورى ‪)38‬‬ ‫\"ديموقراطية\" مباشرة وعامة وليس لها مثيل إلى الآن وهو حل صار ممكنا الآن بتقدم‬ ‫شروط الانتخاب عن بعد خاصة إذا كان على درجتين‪:‬‬ ‫• انتخاب محلي لأصحاب السلطة المباشرة والمشرعة ورئيس الدولة‪.‬‬ ‫• وهم يختارون من يحكم ويعارض باسم الشعب في السلطة التنفيذية‪.‬‬ ‫لكن الانتخاب بالمعنى الديموقراطي وخاصة السياسي منه ‪-‬لكن البقية ليست محصنة‬ ‫ضده‪-‬جعل الانتخابات بسبب دور المال شاري الضمائر دور الإعلام الموجه مشوه الرأي غير‬ ‫معبر حقا عن القناعات بل عن المصالح التي يعلم صاحبها أنها منافية لما يعتبره ما ينبغي‬ ‫أن يكون لو حكم القيم ما يعني أن الانتخاب غير معبر بحق في أي من الحالات الخمس‪.‬‬ ‫وإذا أردت أن أحصر كلامي على الإشكالية في حضارة الإسلام ‪-‬واعتقد أنها مثال كوني‬ ‫يصح على كل الحضارات‪ -‬تبين أن القضية هي كما طرحا الغزالي وعالجها ابن خلدون ‪:‬‬ ‫‪ .1‬فالغزالي طرحها في شكل حوار خيالي بين سني وشيعي وعالجها بما سماه الاختيار‬ ‫أو الانتخاب من قبل \"معتبري الزمان\" أي من تتبعه الأغلبية‪ .‬وعلل اتباع معتبري الزمان‬ ‫بما سماه المهابة التي تجمع بين بعدين لم يفصل بينهما هما الاحترام الخلقي والخوف المادي‬ ‫وهي كما عرفها ابن تيمية لاحقا جامعة بين الجمال والجلال‪.‬‬ ‫‪ .2‬لكن ابن خلدون سماها العصبية التي تحقق الانتخاب بمقتضى فاعلية الوزن فيها‬ ‫وبمقتضى قوة مادية مقدمة على الخلقية‪ .‬وبذلك مثلا علل تولية معاوية ابنه يزيد ولاية‬ ‫العهد‪-‬دون أن يكون ذلك رأيه حسب ابن خلدون‪ -‬بمقتضى ما فرضته عليه العصبية فلم‬ ‫يحترم البيعة بحقها فحافظ على شكلها فحسب‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن الشيعة حلت المشكل بالوصية التي هي جزء من العقيدة واعتبـرت الانتخاب في‬ ‫السياسة وفي العلم وفي القدرة وفي الجمال وفي الجلال كلها وراثية في آل البيت بمبدأ تواصل‬ ‫الوحي‪ .‬وقد توصلت السنة إلى حل دستوري راق‪ .‬لكنها لم تطبقه وهو حل \"لجنة\" الترشيح‬ ‫من صفوة أهل الحل والعقد ووضعت شروطا لاختيار المترشح ولجنة الانتخاب الذي لم يكن‬ ‫بالوسع أن يكون شاملا‪-‬اونيفارسال‪-‬أي أهل الحل والعقد الأوسع من لجنة الترشيح‪ .‬ففي‬ ‫فقه الأحكام السلطانية تحدد نظام الانتخاب على مستويين‪:‬‬ ‫انتخاب أهل الحل والعقد اجتماعيا يعني هم من يبرز في مجالهم مثل العلماء والتجار‬ ‫وحتى القيادات العسكرية ورؤساء القبائل اي بلغتنا الحديثة القوى السياسية رغم أن هذا‬ ‫المفهوم لم يكن موجودا وهم من سماهم الغزالي معتبري الزمان أي المسموعين في الجماعة‪.‬‬ ‫وهم ينتخبون الحكام سياسيا‪ .‬لكن كما هو قانون القوة فإن الأقوى هو المسموع أكثر‬ ‫والقوة تقبل الرد إلى نوعين كلاهما مضاعف‪ :‬مادي وهو قوة المال وقوة السلاح وروحي‬ ‫وهو قوة الفكر ويتعلق بالإبداع عامة وقوة الوجدان ويتعلق بالأديان خاصة‪.‬‬ ‫والقصد بالانتخاب الاجتماعي هو شروط البروز في المجالات الخمسة أي في السياسة وفي‬ ‫العلم وفي القدرة اقتصادا وثقافة وفي الإبداع الفني وفي ابداع الرؤى‪ .‬فمن المبرزين يبرز‬ ‫من يسميهم الغزالي \"معتبري الزمان\" أي من \"يميل الناس حيث مالوا\"‪ .‬فإذا حقق ذلك‬ ‫الأغلبية كانوا هم من ينتخب الحكام‪ .‬وإذن فالمفهوم يتضمن معنى خطير جدا‪ :‬وهو أنه‬ ‫من دون حصول أغلبية تدخل الجماعة في حرب أهلية‪ .‬فتكون السياسة هي بالجوهر تبريد‬ ‫علل الحرب الأهلية الكامنة في الجماعات بالقوة من اجل السلطة والثروة والمنزلة الحاصلة‬ ‫بفضلهما‪.‬‬ ‫وكل ذلك من حيث المبدأ لكنه بالتدريج اقتصر على بالقوتين المادية (الحامية)‬ ‫والاقتصادية (التجار) أي أصحاب المال والقوة العسكرية هم الذين يعينون رئاسة ا لدولة‬ ‫‪-‬الخليفة‪-‬للحفاظ الشرعية الدينية‪ .‬لكن الشوكة السياسية هي قوة السلطان وليس رمز‬ ‫الخليفة‪ .‬وهذا تقريبا ما يجري في كل المجتمعات حتى وإن تغير التعين الشكلي وأصبحت‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الشوكة لأصحاب المال وصارت القوة العسكرية في البلاد المتحضرة مقصورة على دور‬ ‫الحماية التابعة لأصحاب الشوكة الفعلية أي من بيدهم قوة المال وقوة الرأي‪.‬‬ ‫بعد هذه الجولة في أنظمة الانتخاب في السياسة خاصة وهي كلها تفترض قبلها أنظمة‬ ‫الانتخاب في الأربعة الباقية أي إن الأنظمة الاجتماعية فيها هي التي تنتخب السياسي مثل‬ ‫البقية بالقوة لكن المرور إلى الفعل هو الذي يعتبر تحقيق السياسي بانتخاب من الدرجة‬ ‫الثانية ينقل من له المؤهلات للفعل‪.‬‬ ‫ومثل ذلك في العلم وفي القدرة وفي الحياة وفي الوجود‪ .‬لكن ذلك يبقى بالفعل أو حيازة‬ ‫المؤهلات دون حصول الاعتراف بها في الجماعة‪ .‬فليس كل من له المؤهلات في السياسة أو في‬ ‫العلم أو في القدرة أو في الفن أو في الرؤى يعترف به كسياسي أو كعالم أو كقادر أو كفنان‬ ‫أو كصاحب رؤية‪ .‬وهذا هو الإشكال وعلامة ما يمكن أن يتردى إليه حال الأمم التي يكون‬ ‫الانتخاب فيها خاضعا لما لا يحقق فاعلية الوظائف الخمس أي الإرادة والعلم والقدرة‬ ‫والحياة والوجود‪ .‬فتتردى حياة الأمم بتردي نظام الانتخاب‪.‬‬ ‫فمن بين ذوي المؤهلات من يستبعد‪ .‬وليس الفاضل هو من ذويها دائما وغالبا ما يكون‬ ‫المفضول هو الغالب‪ .‬وقد يكون من لا مؤهلات له أو من هو في أدنى درجاتها وخاصة في‬ ‫الأنظمة التي صارت فيها هذه المجالات الخمسة وراثية ككل المجتمعات المتخلفة‪.‬‬ ‫ها نحن الآن قد لامسنا الإشكال الحقيقي الذي يحدد أحوال الأمم صلاحا وفسادا‪ :‬والامر‬ ‫يتعلق بما سميناه نظام ملء خانات الدولة في بنيتها المجردة والخالية من ممثلي الجماعة‬ ‫إرادة وعلما وقدرة وحياة ووجودا بمن يكون قيما عليها لتصبح وكأنها كائن حي فعلا يفعل‬ ‫وينفعل بتوسطهم‪.‬‬ ‫وليس هذا ما يعنيني لأن بحثـي الآن لا يتعلق بأخلاقيات الانتخاب بل مداره بنية المعاني‬ ‫الكلية المقدرة ذهنيا لمجرى عمل الجماعة رغم كونه من الاخلاقيات ومتعلقا بسنن التاريخ‪.‬‬ ‫ودرسي إياها ليس من حيث هي أحكام خلقية بل من حيث هي بنية شروط العمل تجعلها‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫شرط الكلام في الحرية الشرطية التي يحتاج إليها العمل حاجة النظر لبنية شروطه التي‬ ‫تجعلها شرط ا لكلام في الضرورة الشرطية‪.‬‬ ‫أعلم أن مطلوبي شديد التجريد وهو ما يغيب خاصة على أولئك الذين يخلطون بين‬ ‫الكلام في الأخلاق من حيث هي أحكام الإنسان الخلقية على الاشياء وليس من حيث هي‬ ‫جوهر الحرية الشرطية أو ما يجعل الأفعال ثمرة فكر وتدبر وليس مجرد أفعال آلية وكأنها‬ ‫ظاهرات طبيعية فحسب‪.‬‬ ‫والسؤال هو هل انتخاب ممثل ارادة الجماعة (سياسة) وعلم الجماعة (معرفة) وقدرة‬ ‫الجماعة (انتاج مادي ورمزي) وحياة الجماعة (ذوق فني) ووجود الجماعة (رؤية العالم‬ ‫الدينية والفلسفية) ظاهرة ذات بنية محددة للعمل الإنساني بصورة عامة وبصورة كونية‬ ‫أم لا وإذا كان الجواب بنعم فما هي هذه البنية؟‬ ‫ولما كان جوابي بنعم وكان ذلك هو معنى الاخلاقيات المطبقة على التاريخيات أو سنن‬ ‫أفعال العباد أو الحرية التي اخترت لها حل الحرية الشرطية في مقابل الضرورة الشرطية‬ ‫للطبيعيات التي نعمل أنها بحاجة إلى الرياضيات المطبقة على قوانين افعال الطبائع أو‬ ‫الضرورة‪ .‬والحضارة الإنسانية هي حصيلة التفاعل بين قوانين الطبيعة المعيرة‬ ‫بالرياضيات وسنن التاريخ المعيرة بالأخلاقيات ليس بمعنى التعيير الخلقي بل بمعنى‬ ‫التعيير المحقق شروط الإمكان من حيث إبداع المستويين من الترميز‪:‬‬ ‫‪ .1‬الترميز المعرف للأشياء من جنس تحقيق المناط في القانون للتوصيف القانوني‪.‬‬ ‫‪ .2‬الترمز المعبر عن التعريف وما يترتب عليه في القانون من جنس النطق بالحكم‬ ‫القانوني‪.‬‬ ‫وأهمية السؤال تتمثل خاصة في أن جواب ذلك إذا كان سلبيا فإن العلوم العملية أو العلوم‬ ‫الإنسانية تصبح أمرا مستحيلا لأن سننها تصبح عديمة النظام المجرد‪ .‬فالعلوم النظرية‬ ‫والطبيعية لم تصبح ممكنة من دون هذا الشرط أي من دون وجود بنية للفاعلية الطبيعية‬ ‫هي نظام قوانينها المجرد الكوني وكان لا بد إذن من وضع نظرية تسد هذه الثغرة في‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫العلوم الإنسانية التي هي كلها تاريخيات وشرط إمكان معلوميتها الحرية الشرطية مثلما أن‬ ‫شرط إمكان معلومية الطبيعيات هو الضرورة الشرطية‪.‬‬ ‫فكل من يتكلم على العلوم الإنسانية من دون حسم هذه المسألة لا يدري فيم يتكلم وهو‬ ‫كمن يتكلم على العلوم الطبيعية من دون حسم بنية النظام القانوني للطبيعة عامة أي‬ ‫الرياضيات أو المقدرات الذهنية النظرية بلغة ابن تيمية‪ .‬العلوم الإنسانية بحاجة إلى‬ ‫مقدرات ذهنية عملية وضعتها قياسا عليها‪.‬‬ ‫وهذا يحسم قضية عولجت علاجا غير جدي عندما حاول بعض منظري العلوم الإنسانية‬ ‫من الألمان في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بمقابلة سطحية بين العلمي‬ ‫واللاعلمي مدعي أن العلمي الطبيعي تحرر من القيم والإنساني لكي يصبح علميا عليه أن‬ ‫يحاكيه ويعتبرون العسر هو في كيف يمكن لعلم القيم أن يتحرر من القيم‪ .‬وهذا خطأ معرفي‬ ‫فظيع‪:‬‬ ‫‪ .1‬أولا الطبيعة أيضا ذات قيم وليس صحيحا أنها وقائع دون قيم ومع ذلك فالاعتماد‬ ‫على المعاني الكلية الرياضية حرر علمها من العبارة القيمية‪.‬‬ ‫‪ .2‬والتاريخ قابل مثلها أن يتحرر من العبارة القيمية إذا اكتشفنا ما يؤدي وظيفة في‬ ‫التاريخيات تشبه وظيفة الرياضيات في الطبيعيات‪.‬‬ ‫ذلك أن الطبيعيات والتاريخيات لا ندري ما هما في ذاتهما ونعلم أن علاقتهما بالإنسان لا‬ ‫يمكن أن تخلو من القيم بمعنى أن العلاقة نفسها قيمية لأن الطبيعيات هي التي تحدد شروط‬ ‫قيام الإنسان العضوي (الثروة) والتاريخيات هي التي تحدد قيامه الروحي (التراث)‪.‬‬ ‫ومن يتجاهل ذلك يدعي أن الإنسان ينشغل بالمعرفة والقيم لوجه لله وليس لأن ذلك من‬ ‫شروط قيامه وبقاء النوع‪ :‬هما وسيلتاه ليتنزل في العالم ويكون له سلطان على ما له سلطان‬ ‫على شروط وجوده وبقائه‪.‬‬ ‫صحيح أن علوم الطبيعة تحققت بالتدريج ولم تكتشف مباشرة المعاني الكلية التي هي‬ ‫مقدرات ذهنية تمكن من أمرين‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬الترميز القاعدي ويشبه تحقيق المناط في القانون أي توصيف الشيء بعلامات‬ ‫ترمز إليه دون أن تكون مقومة له‬ ‫‪ .2‬الترميز القائل للحاصل في عملية التوصيف ليكون وكأنه عبارته أو معادلته‪.‬‬ ‫وهذا هو القصد من تعريفي العلم بكونه \"رمز رمز\" في الطبيعيات كما في القضاء‪ .‬فالحكم‬ ‫رمز رمز أي إن القاضي يحكم على شيء بعد أن يكون هو الذي وضع توصيفة القانوني‬ ‫خلال تحديد المناط‪ .‬فيكون هو صاحب الترمزين وصفا للشيء قانونيا وتعبيرا عن الوصف‬ ‫القانوني بالحكم القانوني‪ .‬وهذا العمل الترميزي المضاعف يتكرر في كل معرفة إنسانية‬ ‫سواء كانت طبيعية أو تاريخية وعلينا تحقيقه في الإنسانيات‪.‬‬ ‫فإذا اعتبرنا المعاني الكلية التي هي تقديرات ذهنية عملية متعلقة بـالحرية الشرطية‬ ‫هي‪ :‬معنى الإرادة ومعنى العلم ومعنى القدرة ومعنى الحياة ومعنى الوجود من حيث هي‬ ‫كليات مقدرة ذهنيا ومشروطة في كل عمل وكانت هذه معاني كلية مجردة تتعلق بالعمل‬ ‫وبسننه التي تناظر الضرورة الشرطية في النظر كانت الاخلاقيات مجانسة من حيث‬ ‫الوظيفة في العمل والتاريخ لوظيفة الرياضيات في النظر والطبيعة فإن المطلوب هو معرفة‬ ‫البنية التي تحصل بين هذه العناصر الخمسة لكي تكون محددة لما ترمز إليه‪.‬‬ ‫فعندما بدوت وكأني أوحد بين الإرادة والسياسة لأنها العلامة الدالة عليها والمعرفة‬ ‫والعلم لأنه العلامة الدالة عليها والقدرة والإنتاج الاقتصادي والثقافي لأنه العلامة الدالة‬ ‫عليه والحياة أو الذوق الجمالي والقانون لأنها العلامة الدالة عيها والوجود والرؤى‬ ‫الدينية والفلسفية لأنها العلامة الدالة عليه فإن أشرت إلى علامات دالة لكني لم أشر‬ ‫لأساس هذا التناظر بين \"الأشياء\" وعلاماتها في هذين المنظومتين من ا لمعاني الكلية في‬ ‫العمل الإنساني‪.‬‬ ‫فالعلامات الخمس ‪-‬الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود‪-‬و\"الأشياء\" الخمسة التي‬ ‫تشير إليها العلامات ‪-‬اي السياسة والعلم والإنتاج الاقتصادي والثقافي والذوق الجمالي‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والرؤية الفلسفة والدينية‪ -‬وضعت بينهما تناظر ولكن ليس بينهما مباشرة بل بين‬ ‫منظومتيهما‪ :‬وتلك هي البنية التي تمثل أساس الحل هنا‪.‬‬ ‫فمنظومة العلامات الأولى تبدو صفات للفرد الإنسان من حيث كيانه الذاتي له إذ نقول‬ ‫فلان صاحب إرادة قوية أو ضعيفة وفلان له علم صحيح أو زائف وفلان له قدرة خيرة أو‬ ‫شريرة وفلان له ذوق راق أو منحط وفلان له رؤية صائبة أو خاطئة فنميز بينهم بما يعتبر‬ ‫صفة ذاتية لكل منهم مع تقويم وبمعنى الصفة الغالبة عليه وهي الرمز الذي اخترناه نحن‬ ‫لتمييزه لكنه لا يمكن أن يعتبر مقوما له حقا‪.‬‬ ‫ومنظومة العلامات الثانية تبدو ما اعتبرناه ضروريا للقيام بوظيفة اجتماعية هي‬ ‫السياسة للأول لأنها تعبير عن إرادة الجماعة تتطلب ذا الإرادة والعلم للثاني لأنه تعبير‬ ‫عن المستوى العلمي للجماعة وينبغي ان يكون ممثلا بذي العلم والإنتاج المادي أو الرمزي‬ ‫للثالث بنفس التعليل والإبداع الفني للرابع بنفس التعليل وصوغ الرؤى الوجودية أو رؤى‬ ‫العالم الفلسفية أو الدينية للأخير بنفس التعليل‪.‬‬ ‫فنكون قد وضعنا سلمين فنصنف الناس من حيث علامات دالة على صفات ونحدد أدوارهم‬ ‫في ما يقتضي تلك الصفات لأداء الدور كما ينبغي أن يكون‪ .‬فيصبح الفعلان وكأن الأول‬ ‫خبري عن الفرد من حيث المؤهلات الطبيعية والثاني إنشائي من حيث الوظائف التي ينبغي‬ ‫أن يؤديها لأنه مؤهل لها‪ .‬وهذا أيضا فعل ترميز مضاعف يشبه فعل القاضي إذ يحدد‬ ‫مناط حكمه بتوصيف الشيء ثم يحكم بما يستمده من منظومة الاحكام القانونية بتقدير‬ ‫واحد خبرا وإنشاء‪.‬‬ ‫فيبرز جوهر الإشكال الذي نريد له حلا‪ :‬هل ذو الإرادة من حيث هو حائز عليها مثل‬ ‫السياسي الذي يستعملها؟ أي هل تكفي الإرادة للسياسي لينتقل من إرادة تعد صفة ذاتية‬ ‫له إلى تمثيل إرادة الجماعة لكأن الأولى شرط كاف أم هي ربما شرط ضروري على أقصى‬ ‫تقدير لكنها ليست كافية باي معنى من الكفاية؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولذلك فقد نفيت خرافة حكم الفرد والدكتاتورية الفردية‪ :‬ذلك أن السياسة ليست‬ ‫عملا يمكن أن يكون فرديا أصلا بل لا بد على الأقل ممن يقوم بهذه الوظائف الخمس‪:‬‬ ‫الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود‪ .‬ولا يمكن تصور أيا منها ممكنا من دون الأربعة‬ ‫الأخرى‪ .‬وإذن فمفهوم الدكتاتورية الفردية مجرد عبارة لا تصف شيئا فعليا‪ .‬وهو ما يؤكد‬ ‫أن المعنى الكلي ‪-‬حكم الفرد أو الدكتاتورية الفردية‪-‬ليست الرمز المناسب للأمر الذي‬ ‫نتكلم عليه في السياسة‪.‬‬ ‫ومثله خرافة الحكم الديموقراطي لا يمكن أن يكون الحكم للجميع إلا بمعنى ما يكون‬ ‫منه فرض عين أما ما لا بد فيه من فرض الكفاية فهو لهذه النخب وحدها‪ :‬لذا مشكل‬ ‫الانتخاب‪ .‬وقد بينت غب محاولات سابقة ما تعتبره الرؤية الإسلامية من فرض العين ‪-‬‬ ‫تعيين النخب ومراقبتها وعزلها إما اجتماعيا أو سياسيا‪-‬لكن دور النخب فرض كفاية ولا‬ ‫يمكن أن يكون للجماعة في أي مصر أو عصر‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولكن حتى على المستوى الفردي فذو الإرادة ‪-‬أي من تغلب عليه خاصية الإرادة أو من‬ ‫ميزناه عن غيره بقوة الإرادة‪-‬هل يستطيع أن يحقق شيئا بها دون بقية الخصائص أي بدون‬ ‫علم وقدرة وحياة ووجود؟‬ ‫وهل ما يحوزه منها يكفيه ليغنيه عمن هم أقدر منه في كل واحدة منها؟‬ ‫أليس هو بحاجة إلى طبيب وإلى مهندس إلخ‪ ..‬حتى في حياته الشخصية فضلا عنه في‬ ‫مهامه إن أراد أن يكون ممثلا للإرادة الجماعية ‪-‬وهو معنى السياسة‪-‬؟‬ ‫النتيجة أن الفاعلية تشترطها جميعا وبصورة أدق إلى نظام فعلها المشترك إذ إن سهم‬ ‫كل واحدة منها إضافي إلى غاية معينة وقسط معين من الفاعلية‪ .‬ومعنى ذلك أن الإنسان‬ ‫لا يستطيع أن يكون ذا سلطان فردي حتى في ما هو فردي من وجوده‪ .‬فالفاعلية هي إذن‬ ‫حصيلة بنية تتألف من عوامل فاعلة‪ .‬وإذا كان الأمر كذلك فهو بالأحرى أكثر من ذلك في‬ ‫الجمعي‪.‬‬ ‫فيكون الشخص الذي نميزه بكونه ذو إرادة تؤهله ليمثل إرادة الجماعة فيكون سياسيا‬ ‫أحوج من ذي الإرادة الذي يقتصر على تسيير حياته الشخصية‪ .‬فلا بد له من علم وقدرة‬ ‫وحياة ووجود في ذاته أولا ثم في معاونيه خاصة وهي بدورها لا تفعل إلا ضمن هذه البنية‬ ‫العامة بسهم لكل واحدة منها يعسر تحديده لأنه حصيلة سلطان فاش ومنتشر فيها جميعا‬ ‫فشوا وانتشارا يعسر أن نحدد سهم أي واحدة منها‪.‬‬ ‫وهذه هي البنية التي أريد تحديدها بدقة مناظرة لدقة الرياضيات عندما تستعمل‬ ‫للتغلب على عدم دقة الطبيعيات‪ .‬ما أريده هو دقة الأخلاقيات عندما تستعمل للتغلب على‬ ‫عدم دقة التاريخيات‪ ..‬ذلك أني بينت سابقا أن الاخلاقيات هي رياضيات التاريخيات من‬ ‫حيث وظيفة الصوغ النظري لأحداثها كما تعتبر الرياضيات في وظيفة الصوغ النظري‬ ‫للطبيعيات‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫قضية المقدرات الذهنية في القيميات هي كيف نصوغ المعاني الكلية التي هي تقديرات‬ ‫ذهنية عملية يكون لها في التاريخيات ما للرياضيات في الطبيعيات‪ .‬وبهذه الطريقة سأنهي‬ ‫خرافة العلاقة الجدلية بين حدين متنافيين يفسران مجرى الأشياء في التاريخ سواء بفهمه‬ ‫المروحن عند هيجل أو الممدد عند ماركس أو بالصورة الحالة في الأشياء عند أرسطو أو‬ ‫بالمثال المتعالي عليها عند أفلاطون والذي تشارك فيه الأشياء مشاركة محاكاة سخ رمنها‬ ‫أرسطو واعتبرها من لغو الكلام الشعري ويقصد الخيالي‪.‬‬ ‫وبالمناسبة فالحل الذي أبحث عنه هو الذي يفهمنا لغز العلاقة بين \"التاريخ الصغير\" الذي‬ ‫يمثل في الرأي العام الشعبي التفسير المباشر للـ\"التاريخ الكبير\" والذي يبقي ما وراءه إلى‬ ‫\"مكر التاريخ الهيجلي أو إلى \"مكر الله الخير\" عند المؤمن‪ .‬فبالتاريخ الصغير يمكن تفسير‬ ‫الكثير من أحداث التاريخ الكبير‪ .‬ومثاله ألأبرز هو محاولات بيان التأثير الذي ينسب‬ ‫إلى النساء في الحكام ودورهن خاصة في مؤامرات المخابرات بحيث إن ما يظن في التاريخ‬ ‫الكبير بطولات قد لا يكون إلا في التاريخ الصغير إلا خيانات‪.‬‬ ‫وأحد الأمثلة الأخرى يمكن استنتاجها من كثرة الكلام على سيطرة السيدات في بعض‬ ‫المهن بدعوى أن ذلك من علامات تحررهن وتفوقهن وخاصة في المؤسسات العربية عامة وي‬ ‫الجامعات خاصة‪ .‬لكن لما تبحث في \"التاريخ الصغير\" قد يصيبك الذهول من علة هذا التفوق‬ ‫الظاهر‪-‬دون نفي إمكان التفوق الفعلي عند المقارنة بين الأفراد‪.‬‬ ‫لكن السلطان الظاهر الذي للرجال في المؤسسات العربية عامة وفي الجامعات خاصة يجعل‬ ‫السلطان الباطن للنساء تابعا في الظاهر ومتبوعا في الباطن‪ .‬ولست واثقا من الأمر خاص‬ ‫بالعرب‪ .‬فلعله ظاهرة كونية نتأت خاصة منذ أن صارت النساء تمارسن كل الوظائف ولا‬ ‫تكتفين بالسلطان الذي كان لهن في البيوت‪.‬‬ ‫وينبغي أن يكون ما أبحث عنه حلا لنوعي التاريخ الصغير والكبير أي إنه يحل ما حصوله‬ ‫سوي وما حصوله غير سوي بمعايير تحصيله تماما كما يكون الطب في آن علم الصحة وعلم‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫المرض وعلم الدواء وعلم السم وكل علم إذا كان علما بحق فهو علم للموجب والسالب من‬ ‫موضوعه وإلا فالعلامات التي يستعملها قاصرة‪ .‬ولنبدأ الآن في الوصل بين العناصر‪:‬‬ ‫فهل يمكن لذي الإرادة عند الانتقال منها رمزا له كفرد في شأنه الفردي الذي رأينا أنه‬ ‫ليس فرديا إلا في الظاهر إليه رمزا للجماعة وهو معنى السياسي هل يمكن له أن يكون من‬ ‫دون جمع بين رؤية جماعية (العنصر الخامس) وعلم جمعي (العنصر الثاني)؟‬ ‫وهل يوجد هذان من دون الذوق الجمعي؟‬ ‫لكن لماذا لا بد من هذه السلسلة بهذا الترتيب؟‬ ‫أليس لتحصل القدرة على تحقيق الإرادة سواء كانت فردية أو جمعية؟‬ ‫وهي في الحالتين جمعية ولكن بمستويين متفاضلين إذ إن الجمعي في الفردي مقصور على‬ ‫هموم الفرد والجمعي في الجمعي يشمل هموم الجماعة إذا كان السياسي سياسيا بحق فيميز‬ ‫بينهما؟‬ ‫وما قلناه عن السياسي نقول مثله وبنفس الترتيب عن صاحب العلم وعن صاحب الرؤية‬ ‫وعن صاحب الذوق‪ .‬وهنا نصل إلى بيت القصيد‪ :‬فالقدرة سواء كانت في الإنتاج (المادي)‬ ‫الاقتصادي أو (الروحي) الثقافي لا بد فيها من شرطي الأداة وشرطي الغاية‪:‬‬ ‫‪ .1‬فشطرا الأداة هما الإرادة والعلم‪.‬‬ ‫‪ .2‬وشرطا الغاية هما الرؤية والذوق‪.‬‬ ‫وطبعا قد يتوهم الكثير أن قدرة الانتاج الاقتصادي تكتفي بشرطي الأداة أي الإرادة‬ ‫والعلم‪ .‬وأن قدرة الانتاج الثقافي تكتفي بشرطي الغاية أي الرؤية والذوق‪ .‬وهذا خطأ‬ ‫في فهم طبيعة الاقتصاد وطبيعة الثقافة‪ .‬فلكتاهما تحتاج لشرطي الأداة ولشرطي الغاية‪.‬‬ ‫ذلك أن الاقتصاد يحكمه الذوق والرؤية لأن هدفه المستهلك وليس الانتاج للإنتاج‪ .‬وفي‬ ‫كل الأحوال ليس للعرب اقتصاد بهذا المعنى لأنهم إما يبيعون مادة خاما أو يستوردون أو‬ ‫يسمسرون فيهما‪ .‬وكذلك والثقافة يحكمها العلم والإرادة كذلك لأن أداتها العلم والإرادة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وإلا كانت ثقافة عامية كحال الثقافة العربية وخاصة الفن المهيمن حاليا أي الرواية‪ .‬فهو‬ ‫لا يتجاوز السير الذاتية وأحوال النفس البدائية عند أدباء اميين في الغالب‪.‬‬ ‫ها نحن إذن أمام \"رياضيات\" العمل أي المقدرات الذهنية التي تمكن من ترميز الظاهرات‬ ‫التاريخية ‪-‬أي ما يضيفه الإنسان إلى الظاهرات الطبيعية‪-‬ليحصل التاريخ بوصفه تفاعل‬ ‫الطبيعي والثقافي في الاتجاهين إذ يتحول الثقافي إلى طبيعة ثانية ويتحول الطبيعي إلى‬ ‫ثقافة ثانية‪ .‬والحصيلة هي حضارة الإنسان الكونية‪.‬‬ ‫رمزت إلى هذه البنية بنفس المربع الذي تكلمت عليه في المحاولات السابقة المتعلقة‬ ‫بالمعاني الكلية التي هي تقديرات ذهنية وبملتقى قطريه الذي يمثل قلب المربع وهو المعنى‬ ‫الكلي الذي يؤدي أي عنصر يشغله من العناصر الأربعة وظيفة مرآة التعاكس على الذات‬ ‫وعكس بقية العناصر‪ :‬والابرز في هذا الدور عنصر القدرة التي هي العامل المسيطر على‬ ‫العمل أعني الإنتاجين الاقتصادي والثقافي‪.‬‬ ‫ولنعتبر القاعدة المربعة مؤلفة من الإرادة (السياسة) والعلم (المعرفة) والحياة‬ ‫(الفنون) والوجود (الرؤى)‪ .‬ولنجعل نقطة تقاطع القطرين أي القدرة متحركة فترتفع‬ ‫فوق مستوى سطع المربع لتكون قمة هرم أو تنزل لتكون قمة هرم مقابل للأول بتلامس‬ ‫القاعدتين قاعدتي الهرم الأول والهرم الثاني ‪ .‬فنجد البنية العامة للمقدرات الذهنية‬ ‫النظرية والعملية التي سبق فحللناها‪.‬‬ ‫ويمكن رسم قطعة المستقيم الواصلة بين قمتي الهرمين وتمريرها بنقطتي مركز الهرمين‬ ‫فيقطع المستقيم سطحي قاعدتيهما ويكون محور كرة شبه تلاق بين هرمين وذات قطبين هما‬ ‫قمتاهما كأنها كرة ريجبي أو كرة قدم أمريكية وهي بنحو مثل الهندسة الإقليدية نطبقها‬ ‫على عالمنا بوصفه عالما قابلا للوصف بمقدراتنا الذهنية النظرية والعملية‪.‬‬ ‫ومثلما أن المعاني الكلية الذهنية النظرية وتطبيقاتها الطبيعية لا تتغير من حيث كونها‬ ‫نظام الضرورة الشرطية التي يتغير مضمونها دون نظامها المفتوح دائما على تطور الشروط‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫(الحدود البسيطة الأولية وقوانين التأليف وهي خانات خالية) فكذلك المعاني الكلية‬ ‫الذهنية العملية وتطبيقاتها التاريخية‪.‬‬ ‫ولما كانت مؤلفة من هذه الحوامل الخمس للقيم‪-‬الإرادة والعلم والقدرة والحياة‬ ‫والوجود ونظائرها في العمل السياسي والبحث العلمي والإنتاج الاقتصادي والثقافي وفي‬ ‫الفنون وفي الرؤى‪-‬فهي إذن شبه \"عالم\" الأخلاقيات بالمعنى الأعم نظير عالم الرياضيات‬ ‫بالمعنى العام وكلاهما ليسا من العالم المحسوس‪ .‬ولا ندري ما طبيعة عالمهما‪ .‬لكنه من جنس‬ ‫عالم البداية والغاية قبل عالمنا الدنيوي وبعده لأنهما شرطا فهمه والتعامل معه المتغيرين‬ ‫بقدر غوصنا في ترميزه المضاعف لتحديده وللتعبير عن تحديدنا له‪ .‬فيكون لدينا خمسة‬ ‫عوالم مختلفة تمام الاختلاف‪:‬‬ ‫‪ .1‬اثنان منها للمقدرات الذهنية التي لا تستمد بالاستقراء من العالم المحسوس‪.‬‬ ‫‪ .2‬واثنان منه يقاسان على عالمي المقدرات الذهنية دون مطابقة‪.‬‬ ‫‪ .3‬والأخير غامض ولا ندري طبيعته ما هي وهو عالم الوجود بإطلاق‪.‬‬ ‫وهذا العالم الخامس لا يقبل الرد إلى أي منها لكنه هو أصلها جميعا‪ .‬فنحن نشعر بأنها‬ ‫كلها صادرة عنه وأن ما يصلها به وصلا عير معلوم الطبيعة هو ما للإنسان من قدرة على‬ ‫الترميز المعرفي والقيمي‪ .‬وهو ما يجعلها جميعا مجهولة «الكيف» القيامي أو ما يجعلها تكون‬ ‫على ما هي عليه‪:‬‬ ‫‪ .1‬عالم المقدرات الذهنية النظرية‪.‬‬ ‫‪ .2‬قست عليه عالم المقدرات الذهنية العملية‪.‬‬ ‫‪ .3‬عالم الظاهرات الطبيعية‪.‬‬ ‫‪ .4‬عالم الظاهرات التاريخية‪.‬‬ ‫‪ .5‬الوجود المجهول الذي نتعامل معه بهذه العوالم الأربعة بوصفه العالم الولود لكل‬ ‫ما يجري في التقدير الذهني بنوعيه وفي تطبيقاتهما ورؤاهما الفلسفية والدينية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فلنترجم هذه العوامل بلغة يمكن فهمها بدقة‪ .‬فعالم المقدرات الذهنية النظرية ومثاله‬ ‫الرياضيات هو الشرط الضروري غير الكافي لعلم عالم الطبيعة إذ لا بد من إضافة ما‬ ‫نفترضه للطبيعة من رموز تحاكي ما نظنه حقائقها وما نستوحيه من التجربة الحسية ونعبر‬ ‫عنها بالمعاني الكلية المقدرة ذهنيا‪ :‬وذلك هو معنى العلم رمز لرمز‪.‬‬ ‫وعلم المقدرات الذهنية العملية ومثاله الأخلاقيات هو الشرط الضروري غير الكافي لعلم‬ ‫التاريخ إذ لا بد من إضافة ما نفترضه للتاريخ من رموز تحاكي ما نظنه حقائقه التي‬ ‫نستوحيها من التجربة ونعبر عنها بالمعاني الكلية المقدرة ذهينا‪ :‬وذلك هو معنى العلم‬ ‫العملي رمز رمز‪.‬‬ ‫فصار لدينا أربعة أنواع من العلوم‪:‬‬ ‫‪ .1‬علم أول يعتبره ابن تيمية كليا ومحضا وبرهانيا ومثاله الرياضيات وهو كذلك‬ ‫لأنه علم معاني كلية مقدرة ذهنية لا علم طبيعيات‪.‬‬ ‫‪ .2‬وقياسا عليه وضعت علما ثانيا أعتبره كليا ومحضا وبرهانيا ومثاله الأخلاقيات‬ ‫وهو كذلك علم معاني كلية مقدرة ذهنيا لا علم تاريخيات‪.‬‬ ‫‪ .3‬ثم يأتي علم الطبيعيات وهو تطبيق علم المقدرات الذهنية بالمعنى التيمي ولا‬ ‫يمكن أن يحقق التطابق مع الطبيعيات التي تضيف التجربة الحسية بأدوات الإدراك الحسي‬ ‫التي يصنعها العلم بل يبقى بينهما فرق معرفي ووجودي‪ .‬فالمقدرات فاضلة على الطبيعيات‬ ‫معرفيا والطبيعيات فاضلة على المقدرات وجوديا‪ .‬والفضلان لا نعلم سرهما عدى الغيب‬ ‫وجوديا وعدم الإحاطة معرفيا‪.‬‬ ‫‪ .4‬وكل ما ذكرته عن علاقة المقدرات الذهنية النظرية بالطبيعيات يمكن قوله عن‬ ‫علاقة المقدرات الذهنية العملية بالتاريخيات‪ .‬فالأخلاقيات تفضل التاريخيات قيميا‬ ‫والتاريخيات تفضل الأخلاقيات وجوديا ولا نعلم طبيعة الفضل عدا ما نرده منهما إلى‬ ‫الغيب وإلى عدم الاحاطة القيمية مثل عدمها المعرفية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .5‬والعلم الخامس هو ما سميته علم الوسميات التي تعتبر كل ذلك مردودا إلى‬ ‫القدرة الترميزية عند الإنسان والتي يشير إليها القرآن الكريم بمفهوم الآية من حيث‬ ‫هي ما يدركه الإنسان الذي له القدرة على التسمية الكونية والتي لأجلها كان الإنسان‬ ‫جديرا بالاستخلاف كما يبين مشهد الحوار القرآني بين الله والملائكة حول هذه الجدارة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫قراءة ابن تيمية وقبله الغزالي وبعده ابن خلدون محاولة لبيان ما سعوا إليه لتحرير‬ ‫الفكر الإنساني‪-‬وليس الإسلامي وحده‪-‬من وهم الإحاطة والزعم بأن ما ندركه من الوجود‬ ‫مقوم له بدلا من كونه مجرد محاولات للترميز لما أدركناه منه في مرحلة من مراحل علاقتنا‬ ‫به لكان ذلك كافيا لبيان ثورة مدرسة النقد الفلسفي العربية وأكبر جزاء لاجتهادي‪.‬‬ ‫ولذلك فلا بد من التذكير بالجملة الرئيسية في نص ابن تيمية الذي وضع مفهوم المقدرات‬ ‫الذهنية النظرية وحصر \"العلمية الأولية الكلية والمحضة والبرهانية\" فيها دون سواها من‬ ‫المعرفة ونفى هذه الخصائص الأربع عن علوم الظاهرات الخارجية‪.‬‬ ‫وقد غامرت فوضعت قياسا على نظريته في المقدرات الذهنية النظرية المتصف علمها‬ ‫بفصات \"الأولية والكلية والمحضية والبرهانية\" لتأسيس علوم الطبيعيات عليها بالاحتكام‬ ‫إلى التجربة نظرية في المقدرات الذهنية العملية المتصف علمها بنفس الصفات الغرض من‬ ‫أجل تأسيس علوم التاريخيات عليها وعلى التجربة لأنها مثل الطبيعيات ليس فيها علم أولي‬ ‫وكلي ومحض وبرهاني‪.‬‬ ‫فكلام ابن تيمية كان عاما واكتفي بالمقابلة \"تقدير ذهني‪-‬ظاهرات خارجية\" دون تمييز‬ ‫بين الظاهرات الخارجية الطبيعية والظاهرات الخارجية التاريخية‪ .‬وكان علي لبيان الفرق‬ ‫أن أورد المقابلة بين الضرورة الشرطية في الطبيعيات والحرية الشرطية في التاريخيات‬ ‫للفرق بين الفعل الطبيعي والفعل الإنساني‪ .‬وأعتقد أن عدم تحقيق ذلك يجعل العلوم‬ ‫الإنسانية مستحيلة‪.‬‬ ‫وهذا نص ابن تيمية الذي يحدد طبيعة المعاني الكلية المقدرة ذهنيا وطبيعتها غير المقومة‬ ‫للأشياء لأنها مثل رموز تشير إليها‪:‬‬ ‫\"ولكن المعاني الكلية العامة المطلقة في الذهن كالألفاظ المطلقة العامة في اللسان وكالخط‬ ‫الدال على تلك الألفاظ‪ .‬فالخط يطابق اللفظ‪ .‬واللفظ يطابق المعنى‪ .‬فكل من الثلاثة‬ ‫يتناول الأعيان الموجودة في الخارج ويشملها ويعمها لا أن فيه هذا وهذا‪ .‬فإن هذا لا يقوله‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫من يتصور ما يقول وإنما يقوله من اشتبهت عليه الأمور الذهنية بالأمور الخارجية أو من‬ ‫قلد من قال ذلك من الغالطين فيه\"(درء التعارض)‪.‬‬ ‫وهو يقصد أرسطو والمشائين وكذلك أفلاطون والأفلاطونيين لأن هذه الجملة هي‬ ‫النتيجة التي انتهى إليها في دحضهم جميعا سواء كانت الكليات مفارقة أفلاطونيا أو محايثة‬ ‫ارسطيا‪ .‬ولا أخفي أني لما قرأت هذه الجملة أول مرة ذهلت‪.‬‬ ‫هل يعقل أن يزعم ابن تيمية ما من نتائجه إذا تم أثباته تهديم نسقي لكل الفلسفة‬ ‫السابقة التي كانت مسيطرة منذ أربعة قرون قبل الميلاد إلى القرن الرابع عشر بعده؟‬ ‫كيف يقول إن المعاني الكلية ليس مقومة للأشياء الموصوفة بها وليست ثابتة كما كانت‬ ‫تزعم الفلسفة قبله بل هي كاللغة والكتابة ترمز لما بدا لنا منها وهي متغيرة؟‬ ‫وكيف يزعم أن علم الأشياء الخارجية لا يمكن أن يكون \"أوليا ولا كليا ولا محضا ولا‬ ‫برهانيا\"؟ لو سمعه ابن رشد لنتف لحيته هو لا لحية ابن تيمية‪.‬‬ ‫وكيف أصل ذلك بنظريته اللسانية التي تنفي المقابلة \"حقيقة‪-‬مجاز\" بحيث إن كل‬ ‫نظريات علم الكلام تسقط في الماء ومثلها النظريات الأدبية والتواصلية بين البشر كذلك‬ ‫ما يعني أن اللغة كلها تفيد باستعمالها وليس لها دلالة على الحقيقة ولا على المجاز‪.‬‬ ‫والدلالة ليس فيها ما هو حقيقي ولا ما مجازي لأنها جميعا مجرد مواضعات استعمالية في‬ ‫جماعة المتواصلين بها ليس فيها من حقيقة ما ترمز إليه شيء ومن ثم فلا معنى للمقابلة بين‬ ‫الحقيقة والمجاز‪.‬‬ ‫وقد يكون من أكبر الأدلة الدلالة على الجنس في الأسماء‪ .‬فهل جنس اللفظ بين التذكير‬ ‫والتأنيف في الأسماء يفيد حقيقة التذكير والتأنيف في المسميات‪ .‬من له ذرة من عقل يقبل‬ ‫هذه الفكرة السخيفة بمجرد أن يقارن بين اللغات‪ .‬وواضح أن المستهدف في النقد التيمي‬ ‫ليس المنطق كما يتوهم من يبالغون في الكلام على موقفه من المنطق الأرسطي فتسمع كل‬ ‫من هب ودب يخرف حول ذلك بل هو الميتافيزيقا التي تؤسس لاستعماله على الأشياء‬ ‫الخارجية أي شروط الانتقال من التحليلات الأوائل وهي البحث المنطقي أو حساب علاقات‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫المعاني البسيطة من حيث التراكب والتقاطع وعدمهما وما يترتب على ذلك في الانتقال من‬ ‫المقدم إلى التالي الانتقال إلى التحليلات الأواخر التي هي التأسيس الميتافيزيقي لتطبيقه‬ ‫على الوجود الخارجي دون هذا الاحتراز التيمي للظن بأن المعاني الكلية مقومة للأشياء‬ ‫وليست مجرد رموز تشير إليها‪.‬‬ ‫وإليك النص الكافي للدلالة على ذلك‪:‬‬ ‫\"ومن علم هذا (يعني مضمون الشاهد الأول) علم كثيرا مما دخل في المنطق من الخطأ‬ ‫في كلامهم في الكليات والجزئيات مثل الكليات الخمس الجنس والفصل والنوع والخاص‬ ‫والعرض العام وما ذكروه من الفرق بين الذاتيات واللوازم للماهية وما ادعوه من تركيب‬ ‫الأنواع من الذاتيات المشتركة المميز التي يسمونها الجنس والفصل وتسمية هذه الصفات‬ ‫أجزاء الماهية ودعواهم أن هذه الصفات التي يسمونها أجزاء تسبق الموصوف في الوجود‬ ‫الذهني والخارجي جميعا واثباتهم في الأعيان الموجودة في الخارج حقيقة عقلية مغايرة‬ ‫للشيء المعين الموجود\" (درء التعارض)‪.‬‬ ‫ما هذا؟‬ ‫كل المقولات التي يعتمد عليها تطبيق المنطق على الوجود الخارجي وادعاء ما يحصل من‬ ‫العملية المنطقية بها علما صارت في مهب الريح‪.‬‬ ‫لم يبق الرجل شيئا من الميتافيزيقا إلا واقتلعه من الجذور‪ .‬كل هذه المعاني الكلية‬ ‫أصبحت لاغية ولم يبق لها أدنى شرعية تجعلها مقومة للأشياء بل هي إن قبلت فتقبل‬ ‫بوصفها رموزا قابلة للتغيير إذا لم يكن دورها في \"توصيف\" الأشياء الخارجية مساعدا على‬ ‫تحقيق غاية البحث العلمي‪ :‬فيحكم بنهاية دورها والبحث عن بديل عنها يكون أكثر دقة في‬ ‫الإشارة إلى علامات أفضل‪.‬‬ ‫بالتونسي هذا يعني أن ابن تيمية \"فتح غار نمالة\" في الفكر الفلسفي والديني لا يقبل‬ ‫السد‪ .‬إذا سقطت كل المقولات الميتافيزيقة التي وضعها أفلاطون وأرسطو فلكأن كل ما بني‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫في الفلسفة السابقة صار رميما وعلى الإنسانية أن تؤسس لمرحلة جديدة تحرر الإنسان من‬ ‫اعتبار نفسه مقياس كل شيء‪:‬‬ ‫‪ .1‬في نظرية المعرفة‪.‬‬ ‫‪ .2‬وفي نظرية القيمة‪.‬‬ ‫ما انتبه إليه ابن تيمية وقبله حاوله الغزالي وبعده جربه ابن خلدون هو بيان قول‬ ‫الفلسفة بنظرية المطابقة في المعرفة وفي القيمة‪-‬ومنها استمد الكلام والتصوف والفقه‬ ‫وأصلها جميعا أي التفسير نفس الموقف‪-‬هو تبن لرؤية الإنسان مقياس كل شيء موجوده‬ ‫ومعدومه السوفسطائية دون الاحتراز السوفسطائي الذي يقصر قولهم على ما هو نسبي‬ ‫إلـى الإنسان مع لا أدرية في ما يمكن أن يوجد خارج ما هو نسبي إليه‪.‬‬ ‫وهذا القول بالمطابقتين من دون الاحتراز السوفسطائي غلو في السوفسطائية بخلاف ما‬ ‫يزعم أفلاطون وأرسطو اللذان يتهمان السوفسطائية بمعاداة الحقيقة‪ .‬فهما قد انتهيا إلى‬ ‫غلو لم يقل به السوفسطائيون أي إلى ما سماه ابن خلدون وهم \"رد الوجود إلى الإدراك\"‬ ‫وهو ما اعتبره أصل كل المغالطات في الفلسفة والكلام والتصوف والفقه والتفسير‪.‬‬ ‫وهذا الحدث الجلل ما كان ليحصل لو لم يكن محاولة من المدرسة النقدية للبحث في‬ ‫تأسيس رؤية للمعرفة والقيمة يمكن أن تجعل قولة ابن تيمية تصبح فعلية‪ :‬لا يمكن للعقل‬ ‫الصريح أن يتعارض مع النقل الصحيح‪ .‬وفي هذه القولة نفي ضمني لوهمين‪:‬‬ ‫‪ .1‬صحة النقل شرطها عقليته‪.‬‬ ‫‪ .2‬صراحة العقل شرطها نقليته‪.‬‬ ‫وكلا الوهمين مضاعف‪ .‬فـما كان يحول دون مبدأي ابن تيمية في نقاشه لرؤى الرازي ‪-‬‬ ‫في الدرء‪-‬هو أساس مبدأي العقليين أي‪:‬‬ ‫‪ .1‬مبدا قياس الغائب على الشاهد‪.‬‬ ‫‪ .2‬ومبدأ رد المنقول الى المعقول بالتأويل عند التعارض‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫كما ن ما كان يحول دونهما هو مبدآ النقلانيين المعاكسين لمبدأ العقلانيين‪ .‬وكلتا المدرستين‬ ‫تستند إلى تعليل خاطئ في فهم النقلي والعقلي في آن‪ .‬وهنا يكمن عمق علاج ابن تيمية في‬ ‫رده‪.‬‬ ‫وأبدأ بمبدأي النقلانيين الذي كان مصدر كل تخريفهم حول تميز المعرفة النقلية عن‬ ‫المعرفة العقلية وكأنهم يزعمون لها إحاطة ليست ممكنة للبشر بمن فيهم الرسل‪:‬‬ ‫‪ .1‬يتوهمون أن النقلي فيه علم الغيب ويعتبرون ذلك علة استحالة التطابق بينه‬ ‫وبين العقلي‪ .‬وهو خطأ والقرآن في ذلك صريح‪ :‬فالغيب محجوب ولا يمكن أن يوجد علمه‬ ‫في القرآن مثلا حتى وإن تضمن القرآن الاعلام بوجوده لأنهم نسوا أن أعلم به ونفى علمه‬ ‫حتى على الرسل ناهيك عن دعاوى النقليين‪ .‬لكن لتوهمهم علة أخرى مصدرها العقلانيون‪:‬‬ ‫‪ .2‬فـمن يزعمون العقلانية يخلطون بين الغيب والغائب‪ .‬ذلك أن قيس الغائب على‬ ‫الشاهد قد يقبل إذا كان الغيب مما يقبل أن يصبح شاهدا في هذا العالم ‪-‬أو إذا كان من‬ ‫التجربة الممكنة بلغة كنط‪-‬في حين أن الغيب لا يقبلها وهو معرف في القرآن الكريم بكون‬ ‫الإنسان لا يدركه إلا لما يصبح بصره حديدا أي في الآخرة‪.‬‬ ‫ولا يمكن لعاقل أن يقول في آن‪ :‬القرآن رسالة للإنسان ثم يدعي أن فيه غيبا في حين أن‬ ‫معنى الرسالة هي أن تكون قابلة للفهم من المرسل إليها وفي حين أن هذه الرسالة تعلم المرسل‬ ‫إليه بوجود الغيب وتعلمه كذلك بأنه محجوب عنه‪.‬‬ ‫وبذلك يتبين أن العقلانيين المزعومين يخطئون ليس في الكلام على رد النقلي إلى العقلي‬ ‫بل وكذلك في توهم العقلي مدركا للغيب‪-‬بدليل قول ابن رشد في تفسير آل عمران ‪ 7‬بأن‬ ‫الرسوخ في العلم يمكن من تأويل المتشابه ومن ثم فواوها عطفية وليست استئنافية‪-‬وهذا‬ ‫هو المنطلق التيمي لتعريف العقل الصريح‪.‬‬ ‫وقبل هذا التعريف لا بد من فهم معنى خطأي كلتا المدرستين \"كلاهما مضاعف\"‪ .‬فالنقل‬ ‫الصحيح لها دلالتان‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬صحة المعاني الكلية التي هي مقدرات ذهنية عملية في الدين وليست موجود في‬ ‫الخارج إذا قصدنا به الوجود المدرك بالحواس‪.‬‬ ‫‪ .2‬وصحة المعرفة التي تطبقها على التاريخ الإنساني الذي هو في الخارج لكنها معرفة‬ ‫ليست أولية ولا كلية ولا محضة ولا برهانية‪.‬‬ ‫والعقلي الصريح له دلالتان تكلم عليهما ابن تيمية وقياسا عليهما ضاعفت النقلي‪:‬‬ ‫‪ .1‬المقدرات الذهنية النظرية ومنها الرياضيات والمنطق وهما مما لا وجود له في‬ ‫الخارج إذا قصدنا المدرك حسيا‪.‬‬ ‫‪ .2‬تطبيقاتها على الوجود الخارجي ومعرفته كذلك ليست أولية ولا كلية ولا محضة‬ ‫ولا برهانية‪.‬‬ ‫إذن فالمقدرات الذهنية بنوعيها التي تكلم عليها ابن تيمية والتي قستها عليها كلها علمها‬ ‫أولي وكلي ومحض وبرهاني‪ .‬لكن تطبيقاتها على الوجود الخارجي المحسوس ليس لها أي‬ ‫من هذه الصفات الأربع من الصفتين لعدم التسليم بالمطابقة في الرؤية الجديدة التي‬ ‫يشترك فيها فلاسفة المدرسة النقدية الثلاثة للمعرفة والقيمة‪.‬‬ ‫فلو قارنا النوع الثاني من العقلي ومن النقلي أي تطبيق المعاني الكلية المقدرة ذهنيا في‬ ‫الحالتين لوجدنا أنهما كلاهما تطبيق لا يمكن أن يكون مطابقا للمعاني الكلية الرياضية في‬ ‫الطبيعة والخلقية في التاريخ ولاستحال في هذه الحالة اعتبار أحدهما أولى من الثاني بدور‬ ‫المعيار للآخر‪ .‬والعلة بينة‪.‬‬ ‫فكلاهما له مضمون نقلي سواء كان طبيعيا أو تاريخيا وكلاهما عند فصله عن المضمون‬ ‫يكون من التقدير الذهني الذي هو أولي وكلي ومحض وبرهاني‪ .‬خطأ الفلاسفة والمتكلمين‬ ‫والفقهاء والمتصوفة والمفسرين هو عدم التمييز بين التقدير الذهني والعلم الذي له‬ ‫موضوع خارجي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والحصيلة العقلي إذا كان علما للخارج فهو ذو مضمون نقلي سواء كان من الطبيعة أو من‬ ‫التاريخ والنقلي إذا كان علما للخارج فهو ذو شكل عقلي سواء كان الشكل المنطقي الأرسطي‬ ‫المطبق أو أي منطق آخر إذ كونه علما يعني انتظامه بعقلانية ما‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وصلت إلى الغاية لكني قد أتهم بأمر لا يمكن أن يفهمه من يحمل القرآن ما لا يحتمل‪.‬‬ ‫فكل الذين يريدون أن يكون القرآن \"صندوق ماعون\" في صنعتهم يوظفونه في كل شيء قد‬ ‫يتهمون قولي إنه لا يتضمن علما بالغيب بالكفر‪ .‬لأن مفاده أن ما فيه لا يتجاوز ما يعلمه‬ ‫العقل مع نفي أن يكون علمه وقيمه مطابقين في النظر والعمل لأن المطابقة تعني العلم‬ ‫المحيط أو رد الوجود إلى الإدراك‪.‬‬ ‫ولن أعجب من ذلك‪ .‬فأربعة عشر قرنا لم تمكن علماء الملة الخمسة (المفسرون والمتكلمون‬ ‫والفلاسفة والفقهاء والمتصوفة) من التعامل مع القرآن بما أمر به بل تعاملوا معه بعكس‬ ‫أمره في فصلت ‪ 53‬ليجعلوه نيها وبعكس نهيه في آل عمران ‪ 7‬ليجعلوه أمرا‪ .‬تركوا النظر في‬ ‫الآفاق والأنفس لتبين حقيقة القرآن وذلك هو عكس الأولى وانشغلوا بالمتشابه وذلك هو‬ ‫عكس الثانية‪ .‬فكان التحريف النسقي للقرآن‪.‬‬ ‫وتلك هي علة التهمة الممكنة التي يمكن أن تلصق ب واعتباري قد خرجت عن الملة لأنهم‬ ‫يخلطون بين اجتهادهم وخرافة المعلوم من الدين بالضرورة‪ .‬قد بينت أنه لا يوحد معلوم‬ ‫لا من الدين ولا من الدين يكون بالضرورة لأنه لو وحد لصار علما محيطا ونهائيا‪.‬‬ ‫والقرآن يعرف نفسه بكونه رسالة تذكير خاتمة‪ .‬والتذكير يكون بعلم سابق لدى من جاءت‬ ‫الرسالة لتخرجه من النسيان بتذكيره بما نسي‪ .‬فهل كان الإنسان يعلم الغيب لكي يذكره‬ ‫به القرآن؟ أم هل الرسالة تتوجه إلى مرسل إليه بما لا يمكن أن يفهمه أو يعمله فيكون‬ ‫إرساله إليه بلا معنى؟ ألا تتضمن الرسالة نفي علم الغيب على غير الله بالعلم المحيط‬ ‫وتكتفي بالإعلام بوجوده دون الافصاح عن مضمونه؟‬ ‫وكل ما يقوله القرآن تذكير للإنسان بمقدرات ذهنية عملية‪-‬اخلاقيات في التاريخيات من‬ ‫جنس الرياضيات في الطبيعيات‪-‬حول خمس موضوعات لا غير‪:‬‬ ‫‪ .1‬حول المرسل أو الله‪.‬‬ ‫‪ .2‬حول المرسل إليه أو الإنسان عامة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .3‬حول الرسول والخاتم خاصة‪.‬‬ ‫‪ .4‬حول طريقة التبليغ تربية وحكما‪.‬‬ ‫‪ .5‬حول مهمتي التكليف أي التعمير والاستخلاف وما يمكن منهما‪.‬‬ ‫ورغم أن ابن تيمية لم يقل إنها مقدرات ذهنية مرسومة في ما فطر عليه الإنسان وأن‬ ‫وظيفة الرسل التذكير بها فحسب والاجتهاد في تطبيقها على التاريخ الإنساني السياسي‬ ‫والديني فهو أيضا قد قال إن الكليات على نوعين‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأول وصفه بالمعاني الكلية التي هي أولية وكلية ومحضة وبرهانية‪ .‬وما يعلم‬ ‫بواسطتها من الوجود الخارجي ليس له هذه الصفات لأن فيه دائما بعدا تجريبيا استقرائيا‪.‬‬ ‫‪ .2‬لكنه قال إن الأديان فيها كليات ولم يحدد طبيعتها وإذا سماها كليات فلا يمكن أن‬ ‫يقصد غير ما قصده في الأولى وإلا لأوضح ما تتميز به عنها ومن ثم فهو يعتبرها من نفس‬ ‫الجنس من حيث خصائص المعرفة لكنها علمية‪.‬‬ ‫وإذن فهي من جنس المعاني الأولية والكلية والمحضة والبرهانية وهي إذن مقدرات ذهنية‬ ‫مرسومة في ما فطر عليه الإنسان‪ .‬فيكون الإنسان رياضيا وأخلاقيا بالطبع والمعاني‬ ‫التقديرية الأولية والكلية والمحضة والبرهانية هي عين فطرته وهي منفتحة إلى الأبد‬ ‫وليست معلومة دفعة واحدة رغم أن علمها أولي وكلي ومحض وبرهاني‪.‬‬ ‫ولهذا النوع الثاني من المعاني العملية أيضا مثل المعاني النظرية ما يعلم بواسطتها من‬ ‫الوجود الخارجي وهو التاريخيات التي هي مثل الطبيعيات ليست أولية ولا كلية ولا محضة‬ ‫ولا برهانية لما فيها من بعد تجريبي‪.‬‬ ‫وإذن فمثلما أن الطبيعيات تطبيق للرياضيات بالتفاضلين اللذين وصفت فكذلك‬ ‫التاريخيات تطبيق للأخلاقيات بالتفاضلين اللذين ذكرت‪ :‬الخارجي يفضل وجوديا والذهني‬ ‫يفضل معرفة‪ .‬ولا يوجد علم إنساني بالموجود الخارجي ليس اجتهاديا غير محيط‪ .‬وحتى‬ ‫التقدير الذهني فهو غير محيط لكنه تابع لكيانه من حيث هو مستعمر ومستخلف وهما‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫تجهيزاه الممكنان من النجاح فيهما وهما متطوران بتطور الإبداع الذهني من منطق الفطرة‬ ‫المعرفية والفطرة القيمية مصدرين للإبداع الرياضي والخلقي لا ينضبان‪.‬‬ ‫وسأحاول بيان ذلك ببداية دليل يفهمه حتى من ليس له تكوين فلسفي عمقي‪ .‬فالإنسان‬ ‫له كيان عضوي وهو أصل التقدير الذهني العلمي وكلنا يعلم أن البدن الإنسان هو أول‬ ‫مصادر القياس الكمي في مكانيا كان أو زمانيا‪ :‬نقيس المكان بالشبر والذراع والباع والخطوة‬ ‫ونقيس الزمان بما نقيس به المكان عندما نرجم قطع المسافات إلى مدة قطعها والعسك‪.‬‬ ‫وله كيان يعود عليه ليعي منه ما يعيه ولنسمه روحه وهو أصل التقدير الذهني القيمي‪.‬‬ ‫فلا يمكن لأي إنسان أن يفهم العدل إلا بما يحصل عليه من ظلم فيكون شعوره بالظلم‬ ‫وشعوره بالعدل مقياسهما وعيه بما يعانيه منهما‪.‬‬ ‫ومن ثم فكيان الإنسان البدني وحدة قيس والوعي وحدة قيس وكلاهما بداية الصوغ‬ ‫الرياضي للحيزين اللذين بهما يتحقق كيان الإنسان في العالم وليس بالصدفة أن كانت‬ ‫بدايات الفلك مرتبطة بالزراعة وكلاهما مرتبط بسد الحاجات ومن ثم بالتعمير‪ .‬والمكان‬ ‫والزمان من حيث صوغهما الكمي هما أصل في بداية كل علم رياضي وتطبيقاته‪ .‬عضويا‬ ‫كيان الإنسان أصل لترييض المكان وروحيا كيانه أصل للترييض الزمان والإنسان بهذا‬ ‫المعنى هو وحدة القيس الأولى للمكان والزمان والوعي بالقيم أصل لكل بداية للأخلاقيات‬ ‫وشروط التبادل العادل والتعايش السلمي بين البشر‪.‬‬ ‫وقد سبق أن بينت أن كل الرموز التي نعبر بها عن الأشياء تعود إلى الرسم المكاني وإلى‬ ‫الإيقاع الزماني بما في ذلك اللغات الطبيعية‪ .‬وهو ما أدى إلى اعتباري اللغة العربية مثلا‬ ‫لا تتألف من الثالوث المعتاد (اسم وفعل وحرف) بل قبل ذلك لا من الرسم في المكان ومن‬ ‫الإيقاع في الزمان‪ .‬هما العلامتان الأوليان للتواصل الحي وفيهما يكون الكلام أداة رسم‬ ‫وتنغيم قبل أن تكون له دلالة الاسم والفعل والحرف‪.‬‬ ‫لكن النحاة سموا الظاهرتين بردهما إلى الاسم والفعل فسموا الأولى اسم الفعل والثانية‬ ‫اسم الصوت‪ .‬فعندما أقول زقزق أو رفرف فأنا استعمل كلمة تسمي نفسها بصوتها وبها‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫اسمي الأشياء يكون اسمها من صوتها علامة عليها‪ .‬وعندما أقول \"صه\" فأنا استعمل رسما‬ ‫بعبارة جسدية وضع الاصبع على الشفتين للإسكات‪.‬‬ ‫لكن قد لا يفهم هذا المعنى إلا بمثال أوضح هو الذي يبين المعنى العميق لما يسمى اسم‬ ‫الفعل لأنه سيغني عن المقابلة حقيقة مجاز‪ .‬أقول \"يقدم رجلا ويؤخر أخرى\" أكون قد قلت‬ ‫جملة كاملة هي في الحقيقة رسم لفعل يفيد فعلا‪ :‬فالفعل الأول هنا هو حركة التقدم‬ ‫والتأخر في المكان‪ .‬والمفاد هو التردد‪.‬‬ ‫علامات التردد رسمت في المكان فصارت اسما لفعل التردد‪ .‬وهو ما يعني قلبا تاما للعلاقة‬ ‫بين البلاغي والنحوي‪ .‬فتزيد نظرية ابن تيمية قوة لقوله المعاني الكلية رموز مثل الألفاظ‬ ‫والكتابة ولا تفيد حقيقة ولا مجازا بل تفيد عادة بلاغية في لغة من اللغات أو عادة‬ ‫استعمالية في التواصل‪ .‬والقرآن يعمل بها‪.‬‬ ‫ما يقوله القرآن عن موضوعاته الـخمسة أي المرسل (الله) والمرسل إليه (الإنسان)‬ ‫والرسول (الخاتم أو أي رسول آخر) والطريقة التبليغية (سياسة التربية والحكم) ومهمتي‬ ‫الإنسان (تعميرا واستخلافا) وتجهيزه لتحقيقيها (النظر والعقد والعمل والشرع) كل ذلك‬ ‫كذلك ليس فيه حقيقة ولا مجاز‪ :‬عادات تواصل‪.‬‬ ‫وهذه المعاني الكلية التي هي مقدرات ذهنية عملية متعلقة بالأخلاقيات تساعد في العبارة‬ ‫عن التاريخيات وما بعدها مثلما أن الرياضيات تساعد على العبارة عن الطبيعيات وما بعدها‬ ‫هي القرآن الذي يتكلم على عالم ليس من الشاهد بل من الغيب تماما كما تتكلم الرياضيات‬ ‫عن عالم ليس من العالم المادي‪.‬‬ ‫ولا أحد يمكن أن يقول ما طبيعة العالم الذي تتكلم عليه الرياضيات رغم أنها شرط‬ ‫الكلام على العالم الطبيعي بمنطق الضرورة الشرطية ولا أحد يمكن أن يقول ما طبيعة‬ ‫العالم الذي تتكلم عليه الأخلاقيات رغم أنها شرط الكلام على العالم التاريخي بمنطق‬ ‫الحرية الشرطية‪ .‬ها قد وصلنا إلى معيار الانتخاب‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فلنسأل أنفسنا‪ :‬إذا لم يصدق صوغنا الرمزي لشيء من الطبيعة وعبارتنا عنه هل يمكن‬ ‫للشيء أن يكذب فيظهر لنا غير ما يبطن؟ من نلوم في حالة الخطأ البين؟‬ ‫طبعا لا نلوم الشيء لأننا لا نستطيع أن ندعي أنه قد نافق وكذب علينا فأظهر عكس ما‬ ‫يبطن‪ .‬نرجع المسؤولية لأنفسنا ونعيد النظر في ما تحديدنا‪.‬‬ ‫لماذا نفعل ذلك؟‬ ‫أليس لأننا نعتقد أن الشيء الطبيعي ذو‪:‬‬ ‫• نظام‬ ‫• وأن هذا النظام خاضع للضرورة الشرطية؟‬ ‫فإذا وجدنا الشرط وجدنا المشروط فيه لأنه لا يكذب ولا ينافق؟‬ ‫لكن هل يمكن أن نطبق ذلك على الإنسان؟‬ ‫هل يمكن أن نتجاوز ما يظهره الإنسان فنتأكد أن ما يظهره هو عين ما يبطنه؟‬ ‫فما العلة؟‬ ‫أليس لأننا نقيسه على أنفسنا ونعلم أننا يمكن أن نخادع غيرنا فـ\"نمثل\" دورا يجعل‬ ‫العلامات الخارجية تفيد عكس الحقيقة الباطنية في نويانا ومقاصدنا؟‬ ‫وحينها فمن يظهر حرية الإرادة وصدق العلم وخيرية القدرة وجمال الحياة وجلال‬ ‫الوجود ليس هو بالضرورة كذلك فقد يكون باطنه عكس ظاهرة‪ .‬وهذا ينطبق خاصة على‬ ‫ما نستطيع فعله لو كان سلوكنا مثل سلوكه وهو امر في مستطاعنا وإرادته أو كراهته هي ما‬ ‫نعتبره علامة حريتنا الشرطية‪.‬‬ ‫هل يوجد منا من يصدق حقا أن السياسي العربي ذو إرادة حرة؟ وأن العالم العربي ذو‬ ‫علم صادق؟ وأن ذا القدرة العربي ذو قدرة خيرة؟‬ ‫وأن الفنان العربي ذو ذوق جميل؟‬ ‫وأن العربي ذا الرؤية دينية كانت أو فلسفية ذو رؤية حقيقية؟ فلو تصورنا سلطة تريد‬ ‫أن تنتخب بهذه المعايير فلا شيء يضمن عدم الخداع في كل حالة من هذه الحالات‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن إذا كانت السلطة هي بدورها تفعل ذلك وبقصد حتى تخفي أنها هي بدورها مخادعة‬ ‫لشعبها وأنها بالعنتريات تدعي أنها \"سترمي إسرائيل في البحر\" أو أنها \"ستنقل المعركة إلى‬ ‫قلب إيران\" وهما نوعا العنتريات العربية التي لم تعد تنطلي على الشعوب هل يمكن أن‬ ‫نحلم بانتخاب معبر عن حقيقة الكفاءة الفنية والجدارة الخلقية المنتظرة من صاحب‬ ‫الإرادة أو العلم أو القدرة أو الحياة أو الوجود؟‬ ‫ولذلك فالحكام لم يبق لهم لم يبق لهم إلا الأجرام واحاطة أنفسهم بمن يشاركونهم ذلك‬ ‫في العلم والقدرة والحياة والوجود‪ .‬وفي الحقيقة فإن من يفرض الحكام هو من يفرض‬ ‫معاونيه منهم‪.‬‬ ‫قد لا يفهم ذلك من يتصور أني أتكلم على الحكام وحدهم أي على الإرادة وحدها‪ .‬لكن‬ ‫ذلك صحيح على العلم في الجامعات وفي \"النجوميات\" العمومية مثل الصحافيين والمحللين و‬ ‫\"المثقفين \"‪ .‬وعلى القدرة في الاقتصاديات وفي الثقافيات وعلى الذوق في الفنونيات وعلى‬ ‫الرؤى في الدينيات وفي الفلسفيات‪ :‬كل هذه المجالات لم يبق فيها إلا خداع العملة الزائفة‪.‬‬ ‫وفي هذه الحالة تفهم لماذا لا يمكن لهذه النخب الخمسة السياسية والعلمية والانتاجية‬ ‫اقتصاديا وثقافيا والفنية والرؤيوية أن تكون توابع للتوابع‪ .‬فالسياسة تابعة لمن يحميها‬ ‫ضد شعبها فتختار من يحتمي بها من شعبها حليفا ضد شعبها حتى تكون عند حاميها ممثلة لما‬ ‫ينتظره منها‪ :‬استعمار غير مباشر‪.‬‬ ‫والأدهى أنه لم يعد كما كان متخفيا بظاهر من \"السيادة\" الشكلية بل صار علنيا بحضوره‬ ‫الفعلي في شكل قواعد عسكرية ومستشارين سياسيين وعلميين واقتصاديين وثقافييين‬ ‫وفنيين وخاصة رؤيويين ولم يبق في البلاد العربية إلا هؤلاء والشعب المضطهد إن لم يجد‬ ‫كيف يفر بجلده إلى حيث يمكن أن يثبت جدارته‪.‬‬ ‫صارت مؤسسات الانتخاب تعمل بعكس المطلوب‪ .‬لا تنتخب من ينبغي أن يكون قادرا على‬ ‫تمثيل إرادة الجماعة وعلمها وقدرتها وحياتها ووجودها بل من يستطيع أن يوهم بأنه‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪35‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫كذلك وهو في الحقيقة يسعى لأن يوطد الغفراء الذين يسمون أمراء سواء كانوا من‬ ‫القبائل أو من العسكر لا يهم لأنهم جميعا أمراء حرب‪.‬‬ ‫للأمة اليوم أمراء حرب تتحكم في السياسة وفي الجامعة وفي الاقتصاد وفي الثقافة وفي الفن‬ ‫وفي الرؤى وأمراء حرب يتربصون بهم يسمون معارضين والنوعان أدوات بيد نفس المخرج‬ ‫الذي هو صاحب السيناريو الذي اردت وصفه آملا أن يكون الشباب قادرا على علاج هذا‬ ‫الداء وهو معنى الاستئناف الإسلامي والله والموفق‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪36‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫سأكتب خاتمة للبحث في \"انتخاب النخب منطقه ودلالته على حال الأمم\" بالتذكير بما كتبته‬ ‫في بحث المائدة والسرير وفنيهما وفي بحث دين العجل‪ .‬فبهما يمكن فهم كل ما يحدث من‬ ‫فساد الانتخاب عامة في بعديه الجاري في المجتمع عامة (في كل نخبة على حدة) وفي المجتمع‬ ‫السياسي خاصة (في النخبة السياسية)‪ .‬وأعتقد أن ابن خلدون قد فهم ذلك جيد الفهم‬ ‫عندما تكلم على دور النخب وعلل احاطة الحكام أنفسهم بأرذل النخب \"اللحاسة\"‪.‬‬ ‫لكن ينبغي أن نفهم ذلك بعلل أعمق من عامل غير قابل للتحديد الدقيق بحصره بعلاقة‬ ‫النخب بالحكام وحدها‪ .‬فكل هشاشة الإنسان ذات صلة بأمور أعمق وهي متعقلة مباشرة‬ ‫بالمائدة والسرير وفنيهما غاية وببعدي دين العجل وسيلة أو أداة‪ .‬فدين العجل يمكن من‬ ‫الأداتين لتلكما الغايتين ليس في حالة اخلاد الإنسان إل الأرض بسبب الفسق فحسب‬ ‫(الإسراء ‪ )16‬فحسب ‪-‬بل حتى عندما يكون الإنسان سويا في حالة غياب الحد الأدنى من‬ ‫أداتي المائدة والسرير أعني بعدي دين العجل‪ :‬وهنا يتدخل الاقتصاد والثقافة أو نوعي‬ ‫الغذاء المحقق لقيام الإنسان المادي والروحي‪..‬‬ ‫والخوف من فقدان الحد الأدنى يمكن اعتباره أهم محددات سلوك البشر وقد ترتب عليه‬ ‫الكثير من علاج الإنسان لشروط الحياة الجماعية‪ .‬حتى إنه جعل النصاب شرطا في الزكاة‬ ‫بمعنى أن القيام بفرض الزكاة مشروط بالتخلص من هذا الخوف على فقدان شروط المائدة‬ ‫والسرير في حدها الأدنى وقد قدره الإسلام بما يقيم حياة الإنسان سنة كاملة‪.‬‬ ‫فشروط المائدة والسرير هما بعدا العجل أي رمز الفعل (العملة) وفعل الرمز (الكلمة)‬ ‫لتحصيلهما‪ .‬وبهما ولأجلهما يقع الخداع‪ .‬وهو ما جعلني أقول في بعض المحاولات إن‬ ‫الفروض الخمسة مشروطة بتعمير الأرض‪ .‬فيكون هذا التعمير شرطا ضروريا في‬ ‫الاستخلاف على الأقل في مستوى العبادة المباشرة ناهيك عن العبادة غير المباشرة التي هي‬ ‫تعمير الأرض بقيم الاستخلاف وهي التي تجاهلها علماء الاسلام مقتصرين على الأولى‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪37‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولتبسيط التعليل فلأذكر الآلية المبسطة‪ .‬فرمز الفعل أو العملة هو شرط سد حاجات‬ ‫المائدة وفنونها وهو شرط سد حاجة السرير وفنونه سدا فعليا‪ .‬وفعل الرمز أو الكلمة هي‬ ‫شرط التعويض المؤقت بالوعود مثلا حول توفير رمز الفعل أو تجميل سدها‪ .‬فرب البيت‬ ‫مثلا يسد حاجة أهله بالعملة وإذا لم تتوفر \"يصبرهم\" بالكلمة وإذا وجدت الوفرة يصبح‬ ‫الكلام للتجميل في أحاديث المائدة والسرير‪.‬‬ ‫والمعلوم أن الكلمة عند القادرين لا تستعمل للتصبير بل للتجميل خلال سد حاجة المائدة‬ ‫وحاجة السرير‪ .‬وهكذا نكتشف الدور الذي يؤديه كيان الإنسان العضوي وكيانه‬ ‫الروحي‪ .‬فالأول لا تسد حاجاته بالكلام بل لا بد من رمز الفعل أو العملة والثاني يمكن‬ ‫أن تسد حاجاته بالكلام لوقت معين ويمكن أن تجمل به‪.‬‬ ‫وبذلك وفي الحالتين ندرك بالعين المجردة أهمية دور المرأة في المائدة والسرير وفي فنيهما‬ ‫سواء كانت المرأة حرة أو خاصة جارية‪ .‬واستعمل جارية ليس بالمعنى القديم بل بالمعنى‬ ‫الذي يجعل المرأة لا تعتبر الأسرة شيئا مقدسا وهي ظاهرة بدأت تعم حتى في مجتمعاتنا‬ ‫وخاصة في الأجيال المتأخرة‪ .‬ففي هذه الحالة يكون دورها في المائدة والسرير وفنيهما لصيقا‬ ‫ببعدي العجل وخاصة ببعده الأول أي رمز الفعل أو العملة‪.‬‬ ‫ولن ينفع معها التصبير حتى لزمن قصير‪ .‬طبيعي لأن العلاقة بينها وبين الرجل لا تكون‬ ‫من أجل شيء يتجاوز المائدة والسرير إذ لم يعد للأسرة والأبناء ما كان لهما من قدسية‬ ‫كما أن علاقة المودة بين الجنسين لم يعد لها معنى وما عوضها في الاجيال المتأخرة بتزايد‬ ‫مهوم هو علاقة لا تتجاوز ما يطلبه الحيوان من الحيوان‪.‬‬ ‫وهذا يصح على الجنسين بمعنى أنه لا يمكن أن توجد جارية من دون ما يناظرها مثيل‬ ‫من الجنس المقابل إما منفعلا أو فاعلا‪ .‬أعلم أنه لا يوجد اسم مذكر من الجارية لكن الكثير‬ ‫من الرجال جواري رجالية عند النساء القادرات ماديا أو الثريات الباحثات عن المتعة‪.‬‬ ‫وهذه الظاهرة \"جارية ذكر\" بارزة في البلاد التي ينبني اقتصادها على السياحة‪ .‬ففيها لا‬ ‫بد من الجواري الإناث والجواري الذكور لتلبية حاجات القادرين من الذكور والقادرات من‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪38‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الإناث على كلفة المائدة والسرير وفنيهما برمز الفعل (العملة) وبفعل الرمز التجميلي‬ ‫(الكلمة)‪ .‬والبلد السياحي مليء بالعاجزين دونهما من الجنسين ومن ثم فالظاهرة تتكاثر‬ ‫بسرعة البرق‪.‬‬ ‫لكن الأخطر هو أن المجتمعات العربية ‪-‬وكل المجتمعات في الحقيقة رغم بروز الظاهرة‬ ‫عندنا أكثر وهي ما يعنيني‪-‬تنقسم حتى من دون سياحة إلى من هم مثل السواح لأن لهم‬ ‫القدرة على شراء كل شيء وإلى من هم عاجزون عن كل شيء فيضطرون للتجارة الأولى‬ ‫فيكون ممن يلبي حاجات مائدتهم وسريرهم وفنيهما بهما‪ .‬فالأغنياء والحكام والنخب‬ ‫الخادمة لهم سواح في بلادهم وليسوا من أهلها‪ .‬وسلوكهم أسوأ حتى من سلوك المستعمر‪.‬‬ ‫وسأذكر مثالا يبرز الظاهرة بصورة ناتئة دون أن يكون خاصا بل هو عام‪ .‬فما جلست يوما‬ ‫في خان الخليلي أو خارجه بين الحسين والأزهر من دون أن يذوب قلبي من هذه الحقيقة‬ ‫المرة التي أراها في جل البلاد العربية الفقيرة والسياحية منها على وجه الخصوص من‬ ‫مستولين جلهم بلا أهل ولا هوية كائنات بشرية يستطع الحكم الذي هو استعماري يفعل بهم‬ ‫فيهم وفي غيرهم كل جرائمه‪.‬‬ ‫ولهذا قلت إن ابن خلدون فطن لهذه المسالة‪ .‬ففي الفصل الذي خصصه لدور الترف في‬ ‫سقوط الأمم والحضارات جمع بين الوجهين‪ :‬المسألة الاقتصادية والمسألة الخلقية وعلاقتهما‬ ‫بالمائدة والسرير وفنيهما‪ .‬ولما كان قد خصص فصلا لدور \"اللحاسين\" من النخب في الأنظمة‬ ‫المستبدة يكون الرجل قد تكلم على آلية الانتخاب دون أن يسميها‪.‬‬ ‫فلا يكون لي من فضل إلا الجمع بين الفصلين حتى يصبح المشكل هو دور الاقتصاد (المائدة‬ ‫والسرير) والثقافة (فنيهما) في انتخاب الجماعات لنخبها التي من المفروض أن تعبر عن‬ ‫إرادتها وعلمها وقدرتها وحياتها ووجودها في سلوك الأفراد وفي سلوك من يمثل الجماعة‬ ‫منهم وذلك هو سر الانحطاط الحضاري عندما يكون الانتخاب فاسدا أي يتطابق فيه الاسم‬ ‫والمسمى‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪39‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ترددت كثيرا قبل الاقدام على كتابة خاتمة للبحث في نظام انتخاب النخب وكدت أن‬ ‫ـأحجم عن كتابتها لأنها في الحقيقة تخرج كل الدنايا في الجماعات ما لا يطاق وهي العلة‬ ‫الأولى والأعقل في ما عليه الوضع في الحضارة الإسلامية عامة والعربية خاصة‪ .‬وقد تنبه‬ ‫هيجل إلى ذلك‪ .‬لكنه توهم أنه خاص بالمسلمين لتعصبه ضد الإسلام‪.‬‬ ‫فالمائدة والسرير وفناهما وأداتهما أي رمز الفعل (العملة) وفعل الرمز (الكلمة) مبادئ‬ ‫عامة‪ .‬وهي من المعاني التي تنتسب إلى التقدير الذهني الكلي والذي يمكن من دون تحديد‬ ‫مضمون معين (حضارة معينة) أن نستخرج سننه‪ .‬وهي سنن أخلاقيات الحرية الشرطية‬ ‫مثل الرياضيات التي هي قوانين الضرورة الشرطية‪.‬‬ ‫وابن خلدون أبعد غورا من فكر هيجل لأنه وصف الظاهرة واعتبرها كونية ولم يفسرها‬ ‫كما فعل هيجل بكون الإسلام دين شهواني يولي للجنس وملاذ الحياة الدنيا أهمية كبيرة‪-‬‬ ‫لكأنه يتكلم على ما عرف عن الأندلس وليس على ما في القرآن من كلام عليهما في الآخرة‬ ‫فحسب‪-‬بل بما حاولت وصفه بسنن كونية تحكمهما‪.‬‬ ‫لو توفر لابن خلدون الأدوات المفهومية التي اضطررت لوضعها حتى أفهم المدرسة النقدية‬ ‫في فلسفتنا وأفهم القرآن الكريم لاستطاع أن يقول ما أحاول بيانه بصورة كان يمكن أن‬ ‫تكون أوضح مما أفعل لأنـي ما زلت أبحث عن صياغة تيسر للقارئ الفهم غير العسير علما‬ ‫وأني اشك في \"يسر\" فهم ابن خلدون عند تجاوز قراءاته السطحية‪.‬‬ ‫وعلى ذكر ما يحصل لي في خان الخليلي وبين الأزهر والحسين فقد يعجب القارئ لو قلت‬ ‫إن نفس المشهد رغم كونه عكسه يؤلمني كذلك في البلاد التي تصورت أن يتصورها أصحابها‬ ‫ثرية فصار تبديدها ثروات شعبها من مفاخرهم وهم لا يدرون أنهم في وضع أسوا ممن‬ ‫وصفت في خان الخليلي‪ :‬إنهم عبيد المائدة والسرير وبعدي العجل أكثر منهم‪.‬‬ ‫وما وصلت بين الصورتين اللتين تبدوان متناقضتين بالصدفة بل لأن الجمع بينهما هو شرح‬ ‫بليغ للإسراء ‪ .16‬فالعرب اليوم في وضع القرية التي انقسمت إلى أمراء فاسقين (سواء‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪40‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫كانوا من العسكر أو من القبائل) وشعوب جائعة مرتين غذائيا وجنسيا بمعنى الحرمان من‬ ‫الحد الأدنى في المائدة وفي السرير وأكاد أقول إن القول قد \"حق على قريتنا\"‪.‬‬ ‫وعندما تكلمت على بروز الظاهرة في البلاد السياحية فقصدي ليس مقصورا على السواح‬ ‫الأجانب أي من غير العرب بل هو يقصدهم ويقصد خاصة السواح العرب الذي ما دخلوا‬ ‫بلدا إلا وجعلوه ماخورا‪ .‬وطبعا لا أحمهلم وحدهم وزر ذلك لأن البلاد التي قبلت ذلك‬ ‫أكثر مسؤولية‪ .‬وقد بدأ الظاهرة \"تمخور\" حتى الأرض الحرام‪.‬‬ ‫وهذا هو جوهر الفهم البدائي للحداثة‪ :‬الغرب أفضل من العرب خلقيا لاستغنائه عن‬ ‫النفاق لأن الترف في البلاد المتحضرة يشبه العلاقة بالخمرة فيها‪ :‬الخمرة عند المترفين‬ ‫منهم «كيف»‪ .‬وهو البلاد المتخلفة يشبه الخمرة فيها‪ :‬الخمرة عند المعدمين تذهب إلى‬ ‫الثمالة بحثا عن الهروب‪.‬‬ ‫إن استعمال المائدة والسرير في البلاد الأوربية ظاهرة فعلية‪ .‬لكن فنيهما يهذبانهما فيها‬ ‫ويحطان منهما عند العرب حاليا لأن الذوق منحط‪ .‬والعلة أن الغربي مسؤول ويتمتع في‬ ‫عطلته ويعمل في ما عداها‪ .‬لكن \"المسؤول\" العربي معطل دائما فلا يعمل‪ .‬ومن ثم فمتعته‬ ‫هي الترف أو الفساد النسقي في المائدة والسرير والتخدير‪.‬‬ ‫كيف يمكن أن تطمئن أن انتخاب ممثلي الإرادة أو ممثلي العلم أو ممثلي القدرة أو ممثلي‬ ‫الذوق أو ممثلي الرؤى ليس تابعا لما تفرضه المائدة والسرير غاية والعملة والكلمة أداة‬ ‫في مجتمعات لا حسيب فيها ولا رقيب على كل من بيده سلطان على ذلك منذ أكثر من أربعة‬ ‫عشر قرنا من التاريخ الإسلامي؟‬ ‫فعندما سمعت قائد السبسي يفاخر بأن أكثر من ‪ 60‬في المائة من الجامعيين نساء تساءلت‬ ‫عن نظام الانتخاب العلمي في الجامعات العربية‪ .‬لا شك أنه توجد نساء عالمات وفاضلات‪.‬‬ ‫لكن كم نسبتهن في هذه الأكثر من ‪ 60‬في المائة؟‬ ‫ونفس الشيء في الرجال عندما ينتقل القرار للجنس الثاني‪ .‬فإذا جمعت بين المحددات‬ ‫الأربعة‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪41‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬المائدة وفنها غائيا‪.‬‬ ‫‪ .2‬السرير وفنه غائيا‪.‬‬ ‫‪ .3‬رمز الفعل أو العملة أداتيا‪.‬‬ ‫‪ .4‬فعل الرمز أو الكلمة أداتيا‪.‬‬ ‫‪ .5‬في بلاد لا حسيب فيها ولا رقيب لقوانين الانتخاب التي تضع الشخص المناسب في المكان‬ ‫المناسب هل تعجب مما تراه في بلاد العرب من تصاعد منحنى الانحطاط دون سواه من‬ ‫المؤشرات الحضارية؟‬ ‫والآن يفهم القارئ علة ترددي في كتابة هذه الخاتمة‪ .‬فهي فعلا خاتمة محزنة ومؤلمة أكثر‬ ‫مما شهدته في خان الخليلي وبين الأزهر والحسين وفي نظيره في السياحة عامة وفي سياحة‬ ‫العرب في بلاد العرب التي جعلوها مواخير ويسعون الآن لجعل الأرض الحرام نفسه ماخورا‬ ‫علنيا لأنها كانته في سر القصور‪.‬‬ ‫وفي حين تجد ملايين الشباب عاجزين عن الزواج فتعنس النساء تجد اغبياء الفقهاء‬ ‫يزعمون حماية \"مباديء الإسلام\" بمنطق ويل للمصلين فيدافعون عن تعدد الزوجات لمن؟‬ ‫لهم ولمموليهم في حين أن الشباب العاطل يحتار في الحد الأدنى للمائدة والسرير فلم يبق‬ ‫أمامه إلى الغرق في البحر طمعا في جنة أوروبا‪.‬‬ ‫ففي تونس اليوم ـأكثر من نصف مليون شاب عاجزين عن سد الحاجات الدنيا في المائدة‬ ‫وفي السرير وهما مما لا بد منه لأي حياة سوية عضويا وروحيا‪ .‬ومع ذلك تسمع الحمقى‬ ‫يتكلمون على تحرير المرأة التي أصبحت مخيرة بين العنوسة أو دور الجارية لعل ذلك يحل‬ ‫مشكلها الطبيعي فضلا عن طموح الحياة السوية‪.‬‬ ‫فهل يمكن في هذه الحالة حماية الشباب من أن يصبح \"بزناسا\" يلهث وراء عجائز السائحات‬ ‫وحتى السواح من أجل لقمة العيش اليومي فضلا عن ضربة الحظ التي يحلمون بها إذا ما‬ ‫نجحوا في اصطياد عجوز أو عجوزة للحصول على شرط الهجرة والحياة التي توفر الشروط‬ ‫الدنيا للحيوان في أوطان لا تحترم الإنسان‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪42‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫هل يمكن في مثل هذه الحالات أن تنتظر من الشباب أن يتعامل مع الأشياء والافعال بما‬ ‫تتحقق فيه كرامة الإنسان فلا يغش في الدراسة ولا يخادع ويكذب فتفسد كل معاني‬ ‫الإنسان كما بين ابن خلدون في كلامه على علاقة الترف والفقر في الحضارة المحتضرة كحال‬ ‫العرب الحاليين حيث صار التدين نفاقا محضا؟‬ ‫لما حضر أحد دعاة مصر ولما حضرت داعية فيانا الدجال علمت ما أصاب الأمة‪ .‬فالأول‬ ‫تبين رغم وسامته وبكائياته في خطبه أنه أنذل من عرفت الأرض بدليل تأييده السيسي‬ ‫والثاني في ليلة عشاءنا معا خلال أول لقاء معه ولم أكن اعرفه كان يفاخر بصداقته مع‬ ‫أحد أفسد أمراء السعودية الذي متعه بما فاخر به الحاضرين ولم أكن الشاهد الوحيد‬ ‫على «نزاهة» الداعية و\"نظافته\"‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪43‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪44‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook