Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore القرآن أقيانوس الوجود ونظامه – أبو يعرب المرزوقي

القرآن أقيانوس الوجود ونظامه – أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2018-07-03 13:28:43

Description: القرآن أقيانوس الوجود ونظامه – أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫الأسماء والبيان‬





‫المحتويات ‪2‬‬‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثاني ‪6 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثالث ‪12 -‬‬‫‪ -‬الفصل الرابع ‪17 -‬‬‫‪ -‬الفصل الخامس ‪22 -‬‬

‫‪--‬‬‫سأقص ما أقض مضجعي من علاقتي بالقرآن الكريم منذ نعومة أظافري‪ :‬عدم قدرتي‬‫على الإمساك بالخيط الناظم فيه فكان يبدو لي اقيانوسا متلاطم الامواج لا أستطيع الطفو‬‫بل كلما حاولت الفهم أغرق في تداخل موضوعاته وتكرار أقاصيصه دون أن أتبين طبيعة‬ ‫ما بينها من صلات قابلة للإدراك المنتظم‪.‬‬‫كنت أتخيل فيه مسارب وشعاب متداخلة متقاطعة ومتضاربة متنافية وفي الجملة كنت أشعر‬‫بضياع حقيقي مع ربيت عليه من تقديس وإيمان بأنه كلام الله الذي لا يأتيه الباطل‪.‬‬‫فكان همي الأول والاخير هو كيف يمكن الجمع بين هذا الإيمان الذي لم أشك فيه يوما‬ ‫والارتسام الذي لم أستطع التخلص إلا منذ قريب‪.‬‬‫والداعي إلى القص مضاعف‪ :‬أولا هي تجربة قد تفيد الكثير ممن عاشوها مثلي وخاصة‬‫في طفولتهم عندما حفظنا ما تيسر من القرآن المجيد ثم وهذا هو الاهم خاصة لإدراك‬‫الحجج الواهية التي يمكن أن يعتمدها أدعياء نقد النصوص في محاولة التشكيك في القرآن‬ ‫الذي هو بذاته نص معجز بحق‪.‬‬‫والمعلوم أني أنفي خرافة الأعجاز العلمي في القرآن‪ .‬فلو صحت لكان القرآن معجزا بغير‬‫ذاته كأمر موجود بل بمضمونه كأمر يخبر عن موجود‪ .‬لكنه عندي معجز بذاته كما يكون‬‫العمل الفني معجزا بذاته وبدلالته على صانعه وليس بما يخبر به عن غيره‪ .‬فتوقع‬ ‫المستقبل مثلا ممكن للعلم ولا دلالة له على الإعجاز‪.‬‬‫وهو معجز بالذات بهذا الدوار الوجودي الذي يعيشه من يغوص فيه ولا يطفو من تلاطم‬‫امواجه إلا وهو قد أدرك من حقائق الوجود ودلالة الدوار الذي عاشه إلا وقد تحرر من‬‫الفاني ومن الوسطاء والأوصياء فأصبح حرا روحيا وسياسيا وأدرك معنى كونه إنسانا يمكن‬ ‫أن يراسله الله ويخاطبه بهذا النص المعجز‪.‬‬‫يفهم الإنسان أن شعوره بكونه إنسانا أهلا لأن يخاطبه الله في القرآن الموجه إلى أي‬‫إنسان سمت همته لسماع التذكير بما في ذاته من معاني الإنسانية التي لا يمكن أن يجد‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫مثلها إلا في أعماق نفسه بعد خروجه من غفلة النسيان خروجا هو الهدف الأول والأخير‬ ‫من التذكير القرآني بالإنساني في الإنساني‪.‬‬‫وأول خطوة خطوتها في الإمساك بخيط ناظم أول هو التمييز بين مقومات الرسالة‪ :‬فلا‬‫بد فيها من مرسل ومرسل إليه ومضمون الرسالة وطريقة الإرسال ومنهج التبليغ‪ .‬وهذه‬‫العناصر الخمسة حددتها آيتان من الإسراء هما ‪ 105‬و‪ 106‬ولذلك جعلتهما شعار محاولتي‬ ‫قراءة القرآن فلسفيا‪.‬‬‫َو ِبالْ َحقِّ َأنزَلْنَا ُه َو ِبا ْل َح ّقِ نَ َزلَ ۗ وَ َما َأ ْر َس ْل َناكَ ِإلَِّا ُم َبشِّرًا َونَ ِذي ًرا (‪ )105‬وَ ُقرْآ ًنا َف َر ْقنَاهُ‬‫لِتَ ْق َر َأ ُه َع َلى ال ّنَِا ِس َعلَ ٰى مُ ْكثٍ َو َن َِّزلْنَا ُه َتنزِيلًا (‪ )106‬فالآيتان تحددان المرسل والمرسل إليه‬ ‫ومضمون الرسالة وطريقة الإرسال ومنهج التبليغ‪.‬‬‫لكن هذا الخيط الناظم يصح على كل رسالة حتى لو كانت بين إنسان وإنسان ومن ثم فهو‬‫لا يمثل الخيط الناظم الذي يتفرد به القرآن الكريم بل هو دون المطلوب وكان لا بد من‬‫خطوة ثانية تجعل الرسالة فريدة النوع لأن مضمونها هو عين هذه العناصر أي إنها لا تتكلم‬ ‫إلا على هذه العناصر الخمسة‪.‬‬‫القرآن رسالة بين مرسل (الله) ومرسل إليه (الإنسان) وطريقة الإرسال (الوحي‬‫لرسول) ومضمون الرسالة الذي هو الرسالة نفسها بوصفها تذكير المرسل للمرسل إليه بما‬‫ينساه مما هو مرسوم في كيانه ومنهج التبليغ (التربية والحكم النبويين)‪ .‬وإذن فالراسلة لا‬ ‫يفهم إلا بما في الآفاق والأنفس من آيات الله‪.‬‬‫وكونها تذكيرا بما هو مرسوم في كيان الإنسان يجعلها محددة لمنهج فك شفرتها لأنها‬‫مشفرة حتى لا تكون دلالاتها مقصورة على مستوى لغتها الأول بل لها لغة تخصها تكون فيها‬‫العربية والمشاهد \"المسرحية\" لعرض ما تتكلم عليه يقرآ بآيات الله في الآفاق والانفس أي‬ ‫في الطبيعة والتاريخ وليس في ألفاظها‪.‬‬‫ما كنت أعيشه من دوار وجودي مما بدا لي وكأنه فوضى في النص هو في الحقيقة فاعلية‬‫الجاذبية الخفية التي توقظ في النفس الإنسانية هذه العودة إلى الذات لترى في ذاتها ما‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫في القرآن من أسرار والغاز لا يمكن تبين حقيقتها إلا بفصلت ‪ :53‬سنريهم آياتنا في الآفاق‬ ‫وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق‪.‬‬‫القرآن معجزة بأثره الموقظ وليس بمضمون يغنينا عن البحث العلمي والذوقي والخلقي‬‫الذي ندركه عندما نستيقظ بفضل فاعلية الإيقاظ القرآنية‪ .‬فهو إذن خطاب إيقاظي‬‫وليس نصا علميا يمكن أن تستمد منه العلوم من دون الاجتهاد النظري والعقدي والأعمال‬ ‫من دون الجهاد العملي والشرعي الذي يوقظهما فينا‪.‬‬‫هو استراتيجية وجود توقظ في الإنسان ما جهز به لإنجازها وليس بديلا من عمل هذا‬‫التجهيز الإنساني لإنجاز مهمتيه اللتين يعرفه بهما القرآن‪ :‬الأولى هي تعمير الأرض‬‫والثانية هي الخيار الحرب بين تعميرها بقيم الاستخلاف أو بدونها‪ .‬والرسول مبشر للمعمر‬ ‫بقيم الاستخلاف ومنذر للمعمر من دونها‪.‬‬‫ولا يمكن لقيم الاستخلاف أن تتحقق من دون تعمير والتعمير من دونها تعمير زائف لأنه‬‫يتبين في الغاية تدميرا للأرض وليس تعميرا‪ .‬وأولى قيم الاستخلاف هو ما تحدده النساء‬‫‪( 1‬البشر اخوة من نفس واحدة فإذا نسوا ذلك صاروا أعداء فيصبح التعمير تدميرا) ولا‬ ‫تفاضل بينهم إلا بالتقوى (الحجرات ‪.)13‬‬‫وهذا هو معنى كونية الرسالة‪ :‬فهي من الرب الواحد للإنسان الواحد بلا تمييز بين البشر‬‫بالعنصر أو بالطبقة أو بالجنس‪ .‬لكنها تعترف بالتعدد الديني بوصفه أمرا واقعا ناتجا عن‬‫اجتهادات بشرية وهي مشروطة في التسابق في الخيرات (المائدة ‪ )48‬والفصل بينها مرجأ‬ ‫إلى يوم الدين منعا للصراع بين أصحابها‪.‬‬‫والصراع المسموح به هو الدفاع عن الحرية الدينية‪َ { :‬ولَ ْولَا دَفْ ُع ال َِّل ِه ال ِنَّا َس بَ ْع َضهُم‬‫ِب َب ْع ٍض َّلِهُ ِّدمَ ْت صَوَا ِم ُع وَ ِب َي ٌع وَصَلَ َواتٌ َومَ َساجِدُ يُذْكَ ُر فِي َها ا ْسمُ ال َِّلهِ كَثِيرًا ۗ وَ َليَنصُ َرنَِّ اللَِّهُ‬ ‫مَن يَنصُرُهُ ۗ ِإنَِّ اللَِّهَ لَقَوِيٌِّ عَزِي ٌز} (‪)40‬‬‫وبين من الآية أن الحرية الدينية هنا تتعلق بكل الأديان ولم يذكر ما هو خاص بالإسلام‬‫إلى في آخر ذكر الأديان الاخرى برموزها‪ :‬الصوامع للمسيحية والبيع لليهودية والصلوات‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لكل دين فلا يخلو منها أي دين بمعنى الدعاء ويأتي أخيرا ذكر رمز الإسلام المساجد ليختم‬ ‫بمعنى الديني‪ :‬ذكر اسم الله‪.‬‬‫وإذا كان ذلك كذلك وكان القرآن تذكير بما في فطرة الإنسان مرسوما في كيانه من‬‫المعاني التي يوقظها في نفسه فإن القرآن ينبغي أن يتضمن معادلة هذا \"الأمر\" الواحد في‬‫الإنسان من حيث هو انسان وحددته آيتا الأعراف ‪ 173-172‬بوصفه ميثاقا بين الله وابناء‬ ‫آدم رسم فيهم من بدء الخليقة‪.‬‬‫شهادة حرة واعتراف بالغفلة ودلالة على التذكير َوإِ ْذ أَخَ َذ َر ّبُِ َك مِن َبنِي آدَمَ ِمن ُظ ُهورِ ِهمْ‬‫ُذ ِرّ َّيِ َت ُه ْم َوأَشْهَ َد ُهمْ َع َل ٰى َأن ُف ِس ِه ْم َأ َلسْ ُت ِبرَ ِّب ُكمْ ۗ قَالُوا َبلَىٰ ۗ َش ِه ْد َنا ۗ َأن تَ ُقو ُلوا َي ْومَ ا ْلقِيَا َم ِة‬ ‫إِ ِنَّا كُ ِّنَا عَنْ هَٰذَا َغافِ ِلي َن (‪)172‬‬‫ثم إن الشهادة الحرة مشفوعة بالتنبيه إلى الاعتذار الذي يحتج به الإنسان لتتنصل من‬‫المسؤولية عن غفلته عن الميثاق المرسوم في كيانهم\" أَ ْو تَقُولُوا إِ ِّنَمَا َأشْ َر َك آ َبا ُؤنَا ِمن قَبْ ُل‬ ‫َوكُنَِّا ذُرِّ َِّي ًة ِّمن بَ ْع ِد ِه ْم ۗ َأ َف ُت ْه ِلكُ َنا ِب َما َف َع َل الْ ُمبْ ِطلُونَ\" (‪.)173‬‬‫وهنا وصلت إلى الخيط الناظم الذي هو في آن بينة القرآن وبينة كيان الإنسان وبينة‬‫عالم الوجود الدنيوي المشروط في قيام الإنسان من حيث هو هذا الشاهد بالميثاق‪ :‬وهو ما‬‫سميته بالمعالة الوجودية‪ :‬علاقة مباشرة بين الله والإنسان (مستخلف وخليفة) ثم علاقة‬ ‫غير مباشرة بينهما لا تفهم من دونها‪.‬‬‫وهذه العلاقة غير المباشرة التي لا تفهم من دون المباشرة هي التوسط بين الله والإنسان‬‫بما يقيم الوجود الإنساني أي ما سمته فصلت ‪ 53‬بآيات الله في الآفاق والأنفس‪ .‬فالآفاق‬‫هي الطبيعة والتاريخ المحددين لآفاق وجود الإنسان والأنفس هي كيان الإنسان الذي هو‬ ‫طبيعي وتاريخي أو عضوي وروحي‪.‬‬ ‫ويمكن أن نكتب المعادلة على النحو التالي‪:‬‬ ‫‪ .1‬الله‬ ‫‪ .2‬الطبيعة (‪ .5‬العلاقة المباشرة بين الله‪-‬الإنسان)‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .3‬التاريخ‬ ‫‪ .4‬الإنسان‪.‬‬‫فيكون الله والإنسان قلب المعادلة وحديها وذلك هو مضمون الميثاق ومضمون القرآن‬ ‫ومضمون كيان الإنسان ووعيه بكيانه‪.‬‬‫فيكون القرآن الذي بدا لي عديم النظام ومحيرا ومتلاطم الامواج التي ضللت في شعابها‬‫فلم أكتشف طريق الخروج من الغرق في الدوار الوجودي إلا بعد أن أدركت هذه المعادلة‬‫التي لا يمكن ألا يجدها إنسان في نفسه ولا يجد نفسها فيها‪ :‬إنها معادلة القرآن ومعادلة‬ ‫العالم ومعادلة علاقة الإنسان بربه‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫كيف أمكن استخراج هذه البنية المعادلة؟ ما ساعد في ذلك هو البحث في المسائل التالية‪:‬‬ ‫‪ .1‬المرسل‬ ‫‪ .2‬المرسل إليه‬ ‫‪ .3‬مضمون الرسالة‬ ‫‪ .4‬طريقة الإرسال أو الرسول صفاته ودوره‬ ‫‪ .5‬منهج التبليغ‪.‬‬‫وهذه المسائل هي التي إذ ميزناها وحللناها أمكن التحرر من الغرق في ما يبدو فوضى‬ ‫عارمة في نص القرآن‪.‬‬‫ذلك أنها كلها ترد مرتين وفي كل مرة ترد جميعها بما بينها من علاقات لا تقبل الفصل‬‫لأن منظومتها هي ما تتكلم فيها الرسالة بوصفها تذكيرا بها باعتبارها مرسومة في كيان‬‫الإنسان وهي لا تأتي بأمر جديد يخصها بل تكتفي بالتذكير بها أو بتحرير الإنسان من‬ ‫النسيان والغفلة بسبب أخلاده إلى الارض‪.‬‬‫فالمرة الأولى هي المرة النقدية أو نقد تحريفات الديني في الأديان التي عرفتها البشرية‬‫في تاريخها ويذكر منها القرآن خمسة معتبرا الإسلام أصلا لها جميعا وهي تحريفاته‪ .‬فيذكر‬‫منها اثنين منزلين (اليهودية والمسيحية) واثنين طبيعيين (الصابئية والمجوسية) وأصل كل‬ ‫تحريف (الشرك)في سورة الحج ‪.17‬‬‫والمرة الثانية هي الكلام في الرسالة الواحدة التي تتعدد إما بمقتضى تطور الإنسان إلى‬‫بلوغه نضوجا يمكنه من تلقي الرسالة الخاتمة أو بمقتضى التحريفات التي تضاف إلى‬‫الديني في الأديان أو الإسلام الفطري لتفسده بعلتين متلازمتين الوساطة نفيا للحرية‬ ‫الروحية والوصاية نفيا للحرية السياسية‪.‬‬‫وكل مرة ينبغي أن تصرف في خمس ورودات‪ :‬ترد لنقد تحريف مفهوم الله المرسل ومفهوم‬‫الإنسان المرسل إليه ومفهوم الوحي طريقة الإرسال ومعه الرسول صفات وأدوار ومفهوم‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫مضمون الرسالة ومفهوم منهج التربية والحكم لتحقيق عينة من الرسالة قد تنجح وقد‬ ‫تفشل وغالبا ما تفشل بسبب التحريف‪.‬‬‫ومن هنا يتأتى ما يبدو تكرارا وهو في الحقيقة مناظير العلاج أو مداخله من منطلق هذه‬‫المفهومات إما للنقد أو للبناء على ما يخلصه النقد مما شابه بسبب التحريف فتكون الورودات‬‫‪ 2‬في ‪ 5‬مع ‪ .2‬أي ‪12‬مدخل أو منظور ومن هنا تتشابك المداخل والمناظير فيتشعث النص‬ ‫ويبدو فوضويا لمن لم يغص في أعماقه‪.‬‬‫والمداخل هذه ‪ 2‬للنقد والبناء و‪ 5‬لكل منهما هي الحد الأدنى من المداخل‪ .‬ذلك أن كل‬‫مدخل هو بدوره شبه لا متناهي المناظير‪ .‬فالكلام على الله والكلام على الإنسان والكلام‬‫على الوحي والرسول والكلام على مضمون الرسالة والكلام على منه التبليغ تربية وحكما‬ ‫وعلى العينة كلها شبه لامتناهية‪.‬‬‫ففيه ترجمة الله الذاتية وسيرة الرسول وطريقة الإرسال وبنية الرسالة وسيرة الإنسان‬‫ومنهج التبليغ تربية وحكما وهي أمور من لم يغص فيها لن يفهم معنى الالوهية والرسولية‬‫والرسالة والإنسانية والتبليغ تربية وحكما والعينة التي تمثلها دولة الرسالة الخاتمة‬ ‫نموذجا لوحدة الإنسانية في النقد والبناء‪.‬‬‫فلا غرابة إذا جمعت كل هذه المداخل أن يصيبك الذهول أمام التداخل والتوالج‬‫والتشاجن بين هذه المستويات ‪12‬في وجوه لا متعددة من كل عنصر منها فتكون ‪ 12‬قوة‬‫عدد الوجوه التي لكل مدخل منها وذلك هو أصل الدوار الوجودي الذي يعيشه من يقرأ‬ ‫القرآن في طفولته دون أن يكون له دليل ناظم لشبكة علاجاته‪.‬‬ ‫نظام المداخل‪:‬‬ ‫‪ .1‬ثيولوجي‬ ‫‪ .2‬وانثروبولوجي‬ ‫‪ .3‬وكوسمولوجي‬ ‫‪ .4‬وبورفيتولوجي‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .5‬وابستمولوجي لشروط فهم الطبيعة وفهم التاريخ‬ ‫‪ .6‬واكسيولوجي لقيم الحياة الفردية والجماعية‬ ‫‪ .7‬وبيداغوجي لتربية الإنسان‬ ‫‪ .8‬وسياسي لتنظيم حياة الجماعية فيكون شبه خارطة لشروط حياة الإنسان‬ ‫‪ .9‬المادية‬ ‫‪ .10‬والروحية‪.‬‬‫لكنه لا يعطيك الحلول بل يقترح عليك سبل اكتشافها ويترك لك الخيار لتكون ثمرة‬‫لفعلك النظري والعقدي في معرفة شروط فهمها وفعلك العملي والشرعي في معرفة شروط‬‫تحقيقها‪ .‬وهو إذن ليس مدونة لحلول جاهزة بل هو دليل حكمة البحث في ما وراء مسؤولية‬ ‫الإنسان الحر والمكلف علمه وتصوره وعمله وانجازه‪.‬‬‫فلنحاول فهم كلام القرآن على هذه المسائل العشر كلاما ليس فيه ما يدعيه أصحاب‬‫خرافة الإعجازالعلمي بل هو حكمة عامة للتعاطي معها بأخلاق القرآن تحقيقا لعمارة‬‫الارض بقيم الاستخلاف وعواقب السعي المنافي للتعمير بها‪ .‬وهذه العواقب الوخيمة‬ ‫اجتمعت في التهديم بدل التعمير في عولمة مافيات العالم‪.‬‬‫ونبدأ بالمرسل (الله) كيف يترجم لذاته؟ فهو يتكلم بشخصيات مختلفة‪ :‬اميز فيها المتكلم‬‫بكلامه والراوي لكلام غيره إما عليه أو على كل ما يتكلم عليه بما في ذلك كلامه على ذاته‪.‬‬‫فهناك فرق بين الله يأمر وينهى وبين الله يروي ما تقول ملكة سبأ‪ .‬لابد من التمييز بين‬ ‫الأمرين لعلم ما يقوله عن ذاته‪.‬‬‫فالله متكلم أصالة عن ذاته ومتكلم رواية عن غيره‪ .‬وهذان وجهان من القرآن مختلفان‬‫تماما‪ .‬الأول هو كلام الله والثاني هو رواية كلام لغير الله‪ .‬هو يروي تصورات الإنسان‬‫عن الله إما خلال نقدها أو خلال قبول ما يقبل منها‪ .‬فيكون لكلامه وجه ثالث وهو وجه‬ ‫الفرز بين المقبول والمرفوض مما يرويه‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ويوجد وجه رابع هو وجه المحاور للإنسان وللأنبياء وحتى للشيطان وهو غير المتكلم عن‬‫ذاته والراوي والفارز‪ .‬وأخيرا نجد الله المستدل لأثبات ما يصف به ذاته من كمالات‬‫ودحض ما يصفه به غيره من نقائص وتبريرات لما يقترفونه بالاعتماد على الشبهات في كل‬ ‫ما صار موضوع علم الكلام لاحقا‪.‬‬‫ولذلك كان السلف يمقت الكلام والمتكلمين لأنهم يستعيدون هذه الشبهات ليقدموا لها ما‬‫يتوهمونه حلولا وهي أكثير استعجاما وشبهات مما دحضه القرآن الكريم وبين فيه وجه‬‫الصواب دون أن يتجاوز الإشارة بما يمثل للغيب بالشاهد ليس قيسا له عليه بل العكس‬ ‫تماما نفيا لهذا القيس بليس كمثله شيء‪.‬‬‫والقصد أن الله يتكلم على ذاته بما يمكن للإنسان إدراكه فلا يكون ما يقول عن ذاته‬‫هو ما تتصف به ذاته لأن ذلك من الغيب بل ما يتصوره به الإنسان بشرط ألا يعتقد أنه‬‫يوجد ما يماثل الله في تصوراته وبهذا الشرط يسمح له بأن يتصوره بأي من أسمائه‬ ‫الأعراف (‪ )180‬والإسراء (‪.)110‬‬‫فعندما يدعو الإنسان ربه باسم من أسمائه فهو يدعوه بما يتصوره فيه من صفة تستجيب‬‫لدعوته دون أن يلحد في الله فلا يعتبر تلك الصفة مماثله له بل هي مماثلة لما ينتظره منه‬‫في دعوته‪ .‬وهذا يلغي التشبيه ونفيه في آن‪ .‬فلا يكون وضع المشكل الكلامي حول الذات‬ ‫والصفات إلا إلحادا أثباتا أو تعطيلا‪.‬‬‫علم الكلام وخاصة جليله لا علمية فيه لأنه مناف لأمر فصلت ‪ 53‬ولآل عمران ‪ .7‬فهو‬‫مشروط بقلب دلالتهما وجعل امر الأولى نهيا ونهي الثانية أمرا‪ .‬ذلك أن دقيق الكلام‬‫ثرثرة حول الاجرام بـ\"ماذا لو\" ولا صلة له بعلم الطبيعة وجليله إلحادا بمعنى الاعراف‬ ‫‪ 180‬فيؤول المتشابه ويرجم بالغيب‪.‬‬ ‫فلا يبقى من ترجمة الله لذاته إلا خمسة مسائل‪:‬‬ ‫اثبات وجوده‬ ‫‪ .1‬واثبات وحدانيته‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬واثبات علاقته بالعالم‬ ‫‪ .3‬واثبات علاقته بالإنسان ومنزلته لديه‬‫‪ .4‬وإثبات فطرية ذلك كله في كيان الإنسان أو حقيقة المعادلة الوجودية التي تكلمت‬ ‫عليها في الفصل الاول من هذه المحاولة‪.‬‬‫وهو يثبتها ليس بالكلام في الغيب لأنه لا يعقل أن يرسل رسالة يكون مضمونها متعلقا بما‬‫تؤكد نفس الرسالة باستحالة عمله على الإنسان‪ .‬الرسالة تتضمن ما يعلمه الإنسان لا غير‪.‬‬‫ومن ثم فكل الادلة المستعملة في هذه المسائل الخمس مثل علوم الطبيعة وعلم التاريخ منهما‬ ‫في ذاتهما في كيان الإنسان‪.‬‬‫ومعنى ذلك أننا نعلم وجود الله ووحدانيته وعلاقته بالعالم وعلاقته بالإنسان ومنزلته‬‫وبكونها كلها فطرية مرسومة في كيان الإنسان بنفس الطريقة التي نعلم بها قوانين الطبيعة‬‫وسننن التاريخ في ذاتهما وفي ما منهما في كيان الإنسان باعتباره طبيعيا وتاريخا من حيث‬ ‫كيانه العضوي والروحي‪.‬‬‫ما يقوله علم الكلام من تأويل والتصوف من كشف لدني كل ذلك رجم بالغيب لا شيء‬‫يثبت صحته وهو من لغو كلام‪ .‬العلم الوحيد الذي حددته فصلت ‪ 53‬أمرا مصدره ما يرينه‬‫الله من آيات في الآفاق وفي الأنفس حتى نتبين أنه الحق أما ما نهت عنه آل عمران ‪ 7‬فهو‬ ‫لغو الكلام والتصوف‪ :‬زيغ قلب وابتغاء فتنة‪.‬‬‫علم الآفاق والأنفس يعني علوم الطبيعة وعلوم الإنسان وهما مشروطان بما ورائهما‬‫الإيماني‪ :‬فلو لم نكن مؤمنين ولو فرضيا بأن الطبيعة والتاريخ لهما نظام قانوني يحكم‬‫تجلياتهما لاستحال أن نعلمهما‪ .‬ولو لم يكن في الانفس ما يمكن الإنسان من علمهما لما‬ ‫علمهما‪ .‬هما إذن عقد يؤسس لعلمهما‪.‬‬‫لذلك قضيت بأن القرآن يتألف من خمس فلسفات أو حكمات‪ :‬الحكمة الاصلية هي ماوراء‬‫كل العلوم والأعمال الانسانية أو الحكمة الإلهية التي هي تفسير القرآن الكريم‪ .‬ولها‬ ‫أربعة فروع‪:‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬تؤسس لعلم الطبيعة بوصفه علم رياضيات تجريبية (كل شيء خلقناه بقدر)‬ ‫‪ .2‬تؤسس علم التاريخ بوصفه علم سنن سياسية خلقية‬‫‪ .3‬ثم تؤسس لعمل النظر والعقد تجهيزا عقليا للقدرة التصورية شرطا في الفعل‬ ‫الإنساني‪.‬‬‫‪ .4‬وتؤسس للعمل والشرع تجهيزا خلقيا للقدرة الإنجازية شرطا في الفعل الانساني‪.‬‬‫وهتان القدرتان هما ما جهز به الإنسان ليعمر الارض شرطا في قيامه العضوي بقيم‬ ‫الاستخلاف شرطا في قيامه الروحي‪.‬‬‫وبهذا المعنى فنحن نعتمد ترجمة الله لذاته بذاته وكل لغو الكلام لدى المتكلمين‬‫والكشف لدى المتصوفة ليس هو إلا رجما بالغيب ينهى عنه القرآن صراحة في آل عمران‪7‬‬‫ويأمر بما هو ممكن للإنسان شرطين لعلمه وعمله في فصلت ‪ 53‬تحديدا لمجال تبين حقيقة‬ ‫القرآن‪ :‬آيات الله في الآفاق والانفس الشاهدين‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ترجمة الله الذاتية لا تتجاوز ما ذكرناه من أبعادها الخمسة وكل كلام يتجاوزها رجم‬‫بالغيب منهي عنه‪ .‬لكن ترجمة القرآن للإنسان ومحددات سيرته الفكرية والخلقية يعسر‬‫ألا يسلم بها إنسان صادق مع نفسه ولا يباكت في ما هو شبه وصف موضوعي لما يمكن اعتباره‬ ‫\"المشترك\" من صفات الذوات كذوات بشرية‪.‬‬‫وإذا كانت صفات الله هي ما تسميه أسماؤه الحسنى التي يقبل الله في القرآن يدعى بها‬‫وينهى عن الالحاد فيها بمعنى ظنها حقيقة صفاته وعدم فهم أنه ليس كمثله شيء فلا يحق‬‫الاثبات ولا النفي فيها فإن صفات الإنسان في القرآن حقائق نعلمها لأنها من عالم الشهادة‬ ‫ولأن كلا منا يدركها مباشرة في ذاته‪.‬‬‫وعدة صفات الإنسان التي تقبل أن تكون اسماء صفاته تقارب الثلاثين صفة بعضها‬‫موجب وبعضها سالب ويمكن أن تقارب من حيث العدد نصف اسماء الله إذا اعتبرنا أسماء‬‫الله قابلة لأن تعتبر مسمياتها صفات على الاقل في تصور الإنسان للرب بأسماء صفات تطابق‬ ‫ما يدعوه بها لأنها ما ينتظرها منه رغبة ورهبة‪.‬‬‫وتنقسم هذه الصفات إلى ما هو مقوم لوجود الإنسان وما هو واصف لسلوكه الناتج عما‬‫في مقوماته من نقص كمالات التقويم‪ .‬فله الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود التي‬‫هي عين الكمال في صفات الله لكنها عين ما به يدرك الإنسان نقصه ويعلم أن عيوب سلوكه‬ ‫مرده لإطلاقها لغفلته عن نقصها الفعلي‪.‬‬‫فكل العيوب التي يتصف بها الإنسان كما وردت في القرآن مردها إلى توهمه أن إرادته‬‫وعلمه وقدرته وحياته ووجوده لها ما لصفات الله من الإطلاق فيتأله بالمعني الخلدوني‬‫ويطغى ولما يتبين له مآل هذا الطغيان يصبح يؤوسا بسبب كونه عجولا وهذه العلاقة‬ ‫السلبية تترتب على الغفلة عن حدود مقوماته‪.‬‬‫فكل صفاته الموجبة تنقلب إلى عكسها بسبب هذه الغفلة عن حدودها‪ :‬فالعقل يتعطل‬‫بسبب كونه يقتصر على البصر دون البصير وعلى السمع دون السميعة وعلى الشم دون‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الشميمة وعلى الذوق دون الذويقة وعلى اللمس دون اللميسة أي إنه لا يرى ما وراء ما‬ ‫تدركه الحواس الظاهرة من معان محددة لمنزلته الوجودية‪.‬‬‫وذلك هو معنى صم بكم عمي فهم لا يعقلون‪ .‬فهذه العبارة لا تعني أن الإنسان فاقد‬‫للحواس بل تعني أنه لا يعقل لأنه يتوقف عند الحواس فلا يرى ما وراءها بالبصيرة ولا‬‫يسمع بالسميعة ولا يشم بالشميمة ولا يذوق بالذويقة ولا يلمس باللميسة (قياسا على‬ ‫العلاقة بين البصر والبصيرة وتعميلا لدلالتها)‪.‬‬‫وما لا يفقده الإنسان في هذه الحالة هو ما بيه استأهل منزلة الخلافة التي تجعله يتجاوز‬‫الشاهد الذي لا يعلمه حقا إلا بتجاوزه إلى ما بعده دون أن يكون هذا المابعد معلوما لأنه‬‫من الغيب‪ :‬ونحن ندركه بما يتبين لنا من حدود إدراكنا فنرى أن إرادتنا وعلمنا وقدرتنا‬ ‫وحياتنا ووجودنا كلها محدودة‪.‬‬‫فيكون وعي الإنسان بذاته وبمحدودية صفاتها عين الدليل الاساسي على وجود الله‬‫وعلى وحدانيته لأنه لا يمكن أن يشاركه أحد في الكمالات التي بالقياس إليها يكون الإنسان‬‫واعيا بمحدوديته وبمحدودية كل المخلوقات فيكون الإيمان المطلق بوحدانية الله على أساس‬ ‫مبدأ \"ليس كمثله شيء\" وهو عين الشهادة‪.‬‬‫فعندما أشهد \"لا إله إلا الله\" كأني قلت لا يوجد من يماثل الله في الاتصاف بمقومات‬‫الألوهية التي أدركها بمجرد إدراكي لحدود مقوماتي أي إرادتي وعلمي وقدرتي وحياتي‬‫ووجودي‪ .‬فتكون الشهادة وكأنها اعتراف بإلاهيتي لمألوه لا يضاهيه غيره ولمربوبيتي لرب‬ ‫لا مثيل لربوبيته‪ :‬صدق وعيي بذاتي شهادة‪.‬‬‫وبمجرد حصول هذا الوعي الصادق يصبح تصديق الرسول امرا مفروغا منه لأن ما بلغني‬‫إياه هو عين ما يوجد في ذاتي وكنت ناسيه فهو يذكرني بما أجده في ذاتي بمجرد وعيي‬‫الصادق به‪ .‬فتكون الشهادة الاولى اساسا للشهادة الثانية وتلك هي معجزة القرآن‪ :‬لم‬ ‫يكن الخاتم بحاجة لمعجزة اخرى‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫معجزته هي كون القرآن ليس شيئا آخر غير عرض هذه المعجزة‪ :‬وعي الإنسان الصادق‬‫مع نفسه والمدرك لمقومات وجوده تحديد بين لمنزلته الوجودية ومن ثم فهو يدرك أولا أنه‬‫مربوب فيأله الله الواحد ويصدق من يذكره بذلك ولا يدعي له لنفسه سلطان وساطة أو‬ ‫وصاية عليه بل يكتفي بتذكيره بما في كيانه‪.‬‬‫وهذه هي الدلالة الأولى لمعنى الاستخلاف‪ :‬فالإنسان خليفة بمعنى أن منزلته الوجودية‬‫هي الدليل على وجود الله ووحدانيته الواعي بكونه دليلا لتأتي دلالته من منزلته‬‫الوجودية التي هي الموجود ذي الوعي المحدود بالوجود اللامحدود‪ .‬وما بين المحدود‬ ‫واللامحدود في الموجود هي أساس شهادة الوجود‪.‬‬‫والدلالة الثانية هي عموم الاستخلاف بمعنى أن الإنسان خليفة حتى عندما لا يشهد بل‬‫ينكر‪ .‬فناكر الحقيقة أيضا دليل عليها بل هو أقوى دليل عند الإنسان لأنه يدعو إلى‬‫طلبها‪ .‬فما من إنسان مهما عميت بصيرته لا يدرك في الإنكار بداية دليل على ضرورة‬ ‫البحث عن علته ودوافع صاحبه فضلا عن مآله‪.‬‬‫فالحقيقة هي دليل ذاتها وعكسها يكون دليلها ايضا حتى عند الناكر لها‪ :‬فهو ينكرها‬‫بلسانه ولا يستطيع نكرانها بوجدانه لأنه هي عين وجدانه لكونها جوهر كيانه‪ .‬فمهما‬‫تجبر الإنسان وطغا ادعى الالوهية (التأله بالمعنى الخلدوني) فإنه لا يعدم التجارب التي‬ ‫تبين له مدى ضعفه الذي لا يستطيع لها دفعا‪.‬‬‫فهو يمرض ويفقد من يعز عليه بالموت ويعلم أنه مائت وأنه لا يضاهي الجبال طولا ومهما‬‫استغني يمكن أن يفقر ومهما عظم جاهه يمكن أن يأفل ومهما توسع علمه يعلم أنه ما يجهله‬‫أكثر مما يعلمه فلا إرادته ولا علمه ولا قدرته ولا حياته ولا وجوده الأمور الثابتة‬ ‫والدائمة بل كلها ناقصة وفانية وبالية‪.‬‬‫وهبه فسر ذلك كله بكونه من أفاعيل الطبيعة وإنها لكذلك لكن كونها فاعلة وكونه‬‫يفسر بفعلها ما ينفعل به لا يرضيه مهما توهم لأنه استسلام في كل الاحوال لما هو دونه‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫قدرة إذ إن الطبيعة ليست واعية بحالها وبفاعليتها وليست كافية لإرضاء عقل الإنسان‬ ‫الذي يشعر بأنه أسمى من كل شيء طبيعي‪.‬‬‫ولا يوجد عالم عاقل يمكن أن يرضيه الموقف الطبعاني حتى وإن ألحد ولم يؤمن بوجود‬‫الله لأنه مضطر في هذه الحالة أن يسقط على الطبيعة ما به يتميز عنها أعني أنها ينبغي‬‫ان تكون عاقلة ولا تعمل بالضرورة العمياء لأن ما يحصل حتى فيها فضلا عما فينا ذو نظام‬ ‫أو انتظام متعال على أحداثها‪.‬‬‫فإذا نسب نظامها إليها جعلها علة ذاتها ‪-‬كاوزا سوي‪-‬فألهها ويكون إلحاده دينا طبيعيا‬‫وليس كفرا بالأديان‪ .‬فالقصد بالديني‪-‬على الأقل في الإسلام‪ -‬هو ما يستدل به القرآن‬‫على وجود الله ووحدته أي نظام الطبيعة ونظام التاريخ وقدرة الإنسان على علم الأولى‬ ‫رياضيا تجريبا والثاني خلقيا سياسيا‪.‬‬‫وبهذا المعنى فكل الفلسفات أديان طبيعية سواء ألحد صاحبها أو لم يلحد‪ .‬فمن يزعم‬‫أن قوانين الطبيعة الرياضية التجريبية وسنن التاريخ الخلقية السياسية موجودة بالفعل‬‫وهي بالضرورة غير الطبيعة وغير التاريخ بل هي ما بعدهما الذي يجعلهما يكونان على ما‬ ‫هما عليه يؤمن بما بعد ما‪.‬‬‫وهذا \"المابعدما\" يسميه الفلاسفة ما بعد الطبيعة من آمن منهم ومن ألحد بحسب ما يعلل‬‫به الحاجة إلى \"مابعد ما\"‪ .‬ولا يهم إن كان هذا المابعد محايثا أو مفارقا‪ .‬فاعتبار قوانين‬‫الطبيعة وسنن التاريخ محاثين لا يغير من الأمر فالقرآن لا يولي أهمية لهذه المقابلة‪ :‬فالله‬ ‫اقرب إلينا من حبل الوريد‪.‬‬‫والله لا يتحيز والمقابلة بين المفارقة والمحايثة تحييز في المكان‪ .‬ولا أنفي ذلك عن الله‬‫بكلام في الغيب فالقوانين الرياضية والسنن التاريخية معان لا تتحيز هي بدورها حتى وإن‬‫كانت قوانين وسنن لظاهرات مادية لها قيام مادي متعين في المكان والزمان‪ .‬فلا أستطيع‬ ‫إثبات أيا منهما للمعاني أو نفيه‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وقد يزعم البعض أن المعاني متحيزة في ذهن الإنسان بمعنى أنها مرسومة في جهازه‬‫الدماغي‪ .‬ولا أنفي أن ذلك يمكن أن يكون كذلك‪ .‬لكن ما المتعين في الأذهان‪ :‬هل هي أثر‬‫المعاني أم المعاني ذاتها من حيث هي وعي بالنسب بين الأمور التي تصل بينها المعاني وهو‬ ‫معنى قانون الطبيعة وسنة التاريخ؟‬‫فأن يكون جهاز دماغي العصبي أداة للإدراك ليس في ذلك شك‪ .‬لكن الإدراك غير‬‫أدواته‪ .‬فأنا الآن أكتب هذه المعاني الذي أدركها بذهني وغير سيدركها بذهنه وما بين‬‫ذهني وذهنه هو ما أمليه على الكاتب في هذه التغريدات فأين تكون المعاني وهي لا في‬ ‫ذهني ولا في ذهنه بل هي في رسوم الكتابة‪ :‬ألها ذهن؟‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫تكلمنا إلى حد الآن على المرسل والمرسل إليه أي قطبي الرسالة ورأينا أن العلاقة‬‫المباشرة بينهما ترجمت في كتاب هو الرسالة التي جاءت من المرسل إلى المرسل إليه‪ .‬وبينا‬‫أن الرسالة مضمونها هو ذاتها أي إنها لا تتكلم إلا في طرفي التراسل وما بينهما من ميثاق‬ ‫أولهما مستخلِف والثاني مستخلَف‪.‬‬‫وهذه الرسالة هي القرآن وقد أصبحت ذات قيام مستقل عن المرسل والمرسل إليه وعن‬‫كل وساطة تربوية ووصاية حكمية وإذن فلا وجود مؤسسة كنسية ذات سلطان روحي ولا‬‫مؤسسة سياسية ذات سلطان مادي ينوبان ما بين الله والإنسان في علاقتهما المباشرة بالقرآن‬ ‫وعلاقتهما غير المباشرة بالطبيعة والتاريخ‪.‬‬‫تكلمنا على المرسل وتكلمنا على المرسل إليه وحان الآن أوان الكلام على ما بينهما من‬‫علاقة مباشرة هي الميثاق بين المستخلف والمستخلف وعلاقة غير مباشرة هي الطبيعة وما‬‫وراءها والتاريخ وما ورائه في ذاتهما وفي كيان الإنسان عينا وذهنا والعلاقة الثانية‬ ‫مضمونها‪ :‬تعمير الارض بقيم الاستخلاف‪.‬‬‫وإذن فلنتكلم على العلاقتين‪ :‬المباشرة وما يترتب عليها والعلاقة الثانية وما يترتب عليها‬‫ثم نسأل هل هذا هو مضمون الرسالة بعد كلاهما على المرسل والمرسل إليه أم لا‪ .‬فإذا كان‬‫ذلك كذلك صح فهمنا لما في الرسالة من مضمون وإلا فعلينا أن نعيد النظر في قراءتنا‬ ‫الفلسفية للقرآن ميثاقا كونيا‪.‬‬‫في العلاقة المباشرة التي حددتها آيتا الميثاق (الأعراف ‪ )173-172‬لا نجد التزامات‬‫متبادلة بل هي الصريح هو التزام من طرف واحد من أبناء آدم الذين شهدوا وحذروا من‬‫الاحتجاج يوم الحساب بتأثير آبائهم إن أخلوا بالالتزام‪ .‬لكن الله في القرآن يتكلم على‬ ‫التزام متبادل بدليل الرضا المتبادل‪.‬‬‫والالتزام المتبادل الذي يعبر عنه الرضا المتبادل (رضي الله عنهم ورضوا عنه) يشمل‬‫الدنيا والآخرة بمعنى أن لله لا يخلف ما يعد به للإنسان الذي لا يخلف ما تعهد به لما قبل‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الأمانة أي بأن يعمر الارض بقيم الاستخلاف اختبارا لأهليته للاستخلاف وهو معنى الرهان‬ ‫عليه في النظر إلى يوم الدين‪.‬‬‫هذا هو مضمون العلاقة المباشرة التي لا وساطة فيها ولا وصاية والتي تجعل الأنسان حرا‬‫روحيا وحرا سياسيا حتى يكون مسؤولا على أفعاله التي هي موضوع اختبار أهليته‬‫للاستخلاف بفضل العلاقة غير المباشرة التي هي تعمير الارض بقيم الاستخلاف عملا‬ ‫فيكون له أو عليه أهلية أو عدم أهلية للاستخلاف‪.‬‬‫والرسالة تذكر بأن الأنسان قد جهز بما يمكنه مما سيمتحن فيه (مثال البلد ‪)10-8‬‬‫ومن ثم فالكلام لا يقتصر على مهمتي الإنسان بل وكذلك على ما جهز به ليكون قادرا‬‫عليهما‪ :‬ومن يأتي التجهيز للقدرة النظرية (النظر والعقد) وللقدرة العملية (العمل‬ ‫والشرع) شرطين للتعمير لقيم الاستخلاف‪.‬‬‫ومثال البلد يجمع بين البعدين‪\" :‬أَ َلمْ َنجْعَ ْل َلهُ َع ْي َنيْ ِن (‪ )8‬وَ ِل َسانًا َوشَ َف َت ْينِ (‪َ )9‬و َه َديْ َنا ُه‬‫النَِّجْ َديْ ِن (‪\")10‬فالإشارة إلى العينين ذات علاقة بالنظر والعقد والإشارة إلى النجدين‬‫ذات علاقة بالعمل والشرع‪ .‬والإشارة إلى اللسان والشفتين ذات علاقة بالوصل بين‬ ‫الامرين‪ :‬النطق‪.‬‬‫فالنطق ورمزه اللسان والشفتين ذو علاقة بالنظر والعقد بوصفهما شرطي التبادل بين‬‫الإنسان والطبيعة (العلاقة العمودية) وذو علاقة بالعمل والشرع بوصفهما شرطي‬‫التواصل بين الإنسان والإنسان (العلاقة الافقية)‪ .‬والأولى تحقق شروط التعمير المادي‬ ‫والثانية شروط الاستخلاف الروحي‪.‬‬ ‫فنجد الحكم الخمس أو الفلسفات الخمس‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأصل أو القرآن أو الحكمة الإلهية ثم فروعها الاربعة‪:‬‬ ‫‪ .2‬العلاقة بالطبيعة‬ ‫‪ .3‬وعلمها (النظر والعقد)‬ ‫‪ .4‬والعلاقة بالتاريخ‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .5‬وعلمه (العمل والشرع)‪.‬‬‫مضمون الميثاق بين(الله) (الإنسان)‪ :‬الله يفي بتجهيز المكلف الذي يتحمل مسؤولية‬ ‫الإنجاز أو عدمه‪.‬‬‫ولما كانت المهمة بفرعيها (التعمير وقيم الاستخلاف) شاقة فإن المطلوب ليس النتيجة بل‬‫السعي إليها بصدق فيكون النظر والعقد اجتهاديا وليس علما مطلقا ويكون العمل والشرع‬‫جهاديا وليس عملا مطلقا‪ .‬فالله لا يحاسب الإنسان على النتيجة بل على السعي الصادق‬ ‫والنية الحسنة والنتيجة على الله‪.‬‬‫ولذلك فلا يمكن أن نحكم بالنتائج وحدها على عمل الإنسان فقد ينجح ويعاقب مع ذلك‬‫إذا كان ذلك بغير قيم الاستخلاف والله وحده يعلم سريرته لأن البشر يحكمون على النظر‬‫والعقد وعلى العمل والشرع بالنتائج الظاهرة ولا يشقون على قلوب الآخرين لمعرفة‬ ‫النوايا والسرائر‪ .‬وهذا من شروط السلم المدنية‪.‬‬‫لكن مفهوم الاجتهاد ومفهوم الجهاد كلاهما حرف‪ .‬فما في الاول من تواضع الناظرين‬‫اعترافا بأن علم الإنسان ليس مطلقا وما في الثاني من تواضع العاملين اعترافا بأن عمل‬‫الإنسان ليس مطلقا أفسده القول بنظرية المعرفة المطابقة التي هي في الحقيقة نفي للغيب‬ ‫بادعاء المطابقة النظرية والعملية‪.‬‬‫فالقول بالمطابقة في النظر هو الذي يؤدي إلى التعصب في العقد‪ .‬والقول بالمطابقة في‬‫العمل هو الذي يؤدي إلى التعصب في الشرع‪ .‬والتعصبان ينفيهما القرآن بمجرد أن سمى‬‫النظر اجتهادا وسمى العمل جهادا وكلاهما في سبيل الله بمعنى أن القصد هو السعي‬ ‫الصادق بالتواصي بالحق والتواصي بالصبر‪.‬‬‫ولا يكون ذلك إلا بالإيمان والعمل الصالح في طلب الحقيقة التي لا تحصل من دون تواص‬‫بالحق وتحقيقها الذي لا يحصل من دون تواص بالصبر‪ .‬فالتواصي بالحق يعني أن الجميع‬‫يشارك بقدر الاستطاعة في طلب الحقيقة دون إطلاق والتواصي بالصبر يعني أن الجميع‬ ‫يشارك بقدر الاستطاعة في تحقيقها دون إطلاق‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ولأن الأمر في علوم الملة كان نقيض ذلك اعتبرتها كلها محرفة وبحثت عن علة التحريف‬‫فوجدتها في قلب فصلت ‪ 53‬وآل عمران‪ .7‬تركوا ما أمرت به الآية الاولى وانشغلوا بما‬‫نهت عنه الآية الثانية فكان تجاهل البحث العلمي في عالم الشهادة والخوص الوهمي في‬ ‫عالم الغيب‪.‬‬‫وهذا هو ما أعنيه بتحريف دستور التربية القرآنية التي أصحبت ساعية لتأسيس سلطان‬‫الوسطاء وليس للتربية القرآنية التي تلغي هذا السلطان لتؤسس للحرية الروحية‪ .‬وهي‬‫تحرفها لأنها كوساطة مطلوبة من الأوصياء في دستور الحكم حتى تدعم سلطانه بحجج لها‬ ‫ظاهر الدين وهي نفي له‪.‬‬‫والقرآن الكريم يفسر كل تحريف بهذا الحلف بين الوسطاء في التربية والأوصياء في‬‫الحكم من أجل أهداف دنيوية خالصة تحيلنا إلى ما سميته بالنظام التربوي والسياسي‬‫المستند إلى دين العجل‪ :‬فمعدنه هم المال الذي من أجله يتحالفان وخواره هو التحريف‬ ‫الذي يحول الدين إلى إيديولوجيا تلغي الحريتين‪.‬‬‫وهذا الحلف وتعليله ببعدي دين العجل وغاية ما يصل إليه هو تأليه عيسى وجعل العباد‬‫تعبد العباد كما نجد ذلك صراحة في آل عمران (‪ 79‬وما بعدها) والله يبرئ عيسى عليه‬‫السلام من هذا التوظيف الكنسي الذي يؤسس للوساطة في التربية لخدمة الوصاية في‬ ‫الحكم‪.‬‬‫ولسوء الحظ فإن الفتنة الكبرى أسست للعودة الصريحة للوساطة والوصاية عند الشيعة‬‫ولما يناظرهما ولكن ليس على أساس عقدي بل كأمر واقع عند السنة التي بقي تنفي ذلك‬‫في الأقوال وتعمل بما يقرب منه في الافعال لأن تبرير شرعية الوصي في الحكم وشرعية‬ ‫الوسيط في التربية مخالف للقرآن مخالفة صريحة‪.‬‬‫وهو مخالف مرتين‪ :‬أولا لأن الفصل بين الاقوال والأفعال هو أشد مقتا عند الله وثانيا‬‫لأن تبرير الوسيط المربي (الفقيه) لشرعية الوصي الحاكم (المتغلب) بالضرورة التي تبيح‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫المحظور رغم شرعية الحجة ينبغي إن صحت الضرورة أن يكون مقصورا على وجودها كأن‬ ‫يكون في الحرب مثلا‪.‬‬‫أما أن يصبح ذلك أمرا دائما فمعناه أن الفقهاء خوفا من الفوضى جعلها أساس الحكم في‬‫الإسلام‪ :‬فإذا المتغلب يصبح شرعيا بالتغلب فمعنى ذلك أن التداول على الحكم سيكون دائما‬‫بالتغلب فيصبح الحاكم حريضا على بقائه متغلبا ويصبح المعارض ساعيا للتغلب عليه فتكون‬ ‫الشوكة مبدأ الحكم وليس الشرعية‪.‬‬‫هذان هما التحريفان اللذان سيطرا على التربية بالوسطاء والحكم بالأوصياء عقديا‬‫وبنيويا عند الشيعة وظرفيا عند السنة لكنه الظرفي أصبح بنيويا لكونه لم يربط بالضرورة‬‫التي أباحته ظرفيا‪ .‬لذلك فالأمة منذ الفتنة الكبرى تعيش على حالة طوارئ منافية لقيم‬ ‫الإسلام طيلة ‪ 14‬قرنا‪.‬‬‫ثم ولتها منذ أكثر من قرنين الفتنة الصغرى أو العلمانية‪ .‬الأولى علتها كذبة الحكم باسم‬‫الله (الثيوقراطيا) والثانية علتها كذبة الحكم باسم الإنسان (الانثروبوقراطيا)‪.‬‬‫والكذبتان يفرضهما الإسلام لانهما في الحقيقة حكم باسم العجل معدنه وخواره‬ ‫(أبيسيوقراطيا)‪ .‬ذلك ما بيناه في محاولات سابقة‪.‬‬‫فرغنا من مسائل ثلاث هي المرسل والمرسل إليه ومضمون الرسالة كعلاقة بينهما أو كميثاق‬‫بين الله المستخلف والإنسان المستخلف وبقي علينا أن ندرس المسألتين الأخيرتين‪ :‬طريقة‬ ‫الإرسال (الوحي والرسول) ومنهج التبليغ (التربية بلا وساطة والحكم بلا وصاية)‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الكلام في المسألتين الاخيرتين سيقتصر على الرسول لأن التربية بلا وساطة والحكم بلا‬‫وصاية خصصنا لهما محاولة مطولة قبل هذه‪ .‬والوحي كذلك تلكمنا فيه وخصصنا له محاولة‬‫سابقة‪ .‬لم يبق إذن إلا الكلام في الرسول‪ .‬القرآن كخطاب مباشر للإنسان وغير مباشر جعله‬ ‫المبلغ الخاتم وترجم له بدقة فائقة‪.‬‬‫ولعل سورة الضحى أكثر الترجمات وضوحا لحياة الرسول ولطبيعة الهم الأول للرسالة‬‫الخاتمة أعني البعد التضامني بين البشر ورعاية ذوي الحاجات الخاصة مثل الايتام‬‫والسائلين وهو ما يذكر بالبقرة ‪ 177‬التي تقدم المعاملات على العبادات أو هي تضعهما في‬ ‫نفس المستوى في التدين الإسلامي‪.‬‬‫فهي تضعه مباشرة بعد العقيدة قبل العبادات المشعرية وهو ما يؤكد أن البعد التضامني‬‫من الرسالة هو أسمى العبادات رغم أنه من المعاملات وهو المفهوم الأساسي في الديني بمعناه‬‫القرآني بوصفه متمما لمكارم الأخلاق حتى إن أهم وصف للرسول هو شهادة الله فيه‪\" :‬وإنك‬ ‫لعلى خلق عظيم\"(القلم ‪.)4‬‬‫وترجمة الرسول أو سيرته التي وردت في الرسالة والتي ذكر فيها الرسول الخاتم بالاسم‬ ‫(‪ 4‬مرات محمد ومرة أحمد) منذ طفولته إلى وفاته في وظائفه الخمس‪:‬‬ ‫‪ .1‬رسول‬ ‫‪ .2‬مربي‬ ‫‪ .3‬حاكم‬ ‫‪ .4‬نموذج خلقي‬‫‪ .5‬الإنسان الكامل بصفات الإنسان السوي في حياته العاطفية والفكرية والاجتماعية‬ ‫والسياسية سلما وحربا‬‫فسيرته قبل الرسالة ومنذ الرسالة بأقواله وأفعاله جزء لا يتجزأ من الرسالة الإسلامية‬‫حتى وإن بقي القرآن هو الاصل والسيرة هي الفرع بقولها فعلها‪ .‬وكل من يعتبر الحديث‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫نافلا يغفل منزلة الرسول في ترجمة القرآن لحياته بوصفها نموذج الإنسان خلقيا ومعرفيا‬ ‫وعاطفيا وسياسيا في السلم وفي الحرب‪.‬‬‫وكل المخرفين حول الحديث ممن يعتبرون العناية به من تحريف الامة أو من يدعي أن‬‫في السنة من يقدمه على القرآن كاذب وخاصة عندما يزعمون أن ذلك من عمل المتأخرين‬‫بعد تدوين الحديث‪ .‬فلا يوجد حتى في الأعمال البشرية العادية من يترك المبرزين فيها‬ ‫ويدعي الاتصال بها مباشرة دون سماعهم‪.‬‬‫فلا يمكن لمن يتعلم الرياضيات أن يغفل علم مؤسسيها الكبار خلال مراحل تطورها ولا‬‫من يتعلم أي فن أن يفعل بكبار مبدعيه نظريا كان الفن أو عمليا‪ .‬فكيف حينئذ يعاب على‬‫من يتعلم فهم القرآن من مبلغه ومعلمه بنص القرآن (الإسراء ‪ .)106‬وحاجة الفقيه‬ ‫للحديث من جنس حاجة القاضي للقانون والسوابق‪.‬‬‫فلا يوجد إنسان عاقل يقبل أن يقضي في نازلته قاض يعتمد على رأيه واجتهاده‬‫الشخصي مغفلا النصوص القانونية وسوابق أحكام كبار القضاة ممن يعتد بعلمهم‬‫وكفاءتهم‪ .‬فكيف إذا كان المرجوع إليه رسولا وصفه الله بما نتكلم فيه هنا‪ .‬فلا يمكن أن‬ ‫يكون أمينا وعادلا و\"على خلق عظيم\" ولا يعتمد عليه في القضاء‪.‬‬‫كل من يحاول التشكيك في الحاجة إلى السيرة حديثا وأفعالا ينقصه \"البون سنس\" أو‬‫العقل السليم‪ .‬ولا يوجد دين حتى لو كان من الأديان الطبيعية ولا فلسفة حتى لو كانت‬‫من الأكثر علمانية تخلو من سيرة مؤسسها أو مبلغها في الأديان المنزلة‪ .‬أدعياء التفلسف‬ ‫والحداثة يجادلون في أهمية السيرة دون عقل سليم‪.‬‬‫لكني لا أعتبر السنة قولا وفعلا وحيا ثانيا بل هما اجتهاد الرسول وجهاده وهو منزه عن‬‫الخطأ دون أن يكون معصوما في ما يتجاوز تبليغ الوحي‪ .‬ذلك أن اعتبار السنة قولا وفعلا‬‫وحيا يجعلها مثل القرآن ولا شيء يماثله لأن أي تعليم لأي علم أو عمل لا يمكن أن يكون‬ ‫مثيلا لذلك العلم أو لذلك العمل‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ولما كان الله قد أمره بـ\"شاورهم في الأمر\" فقد جعل السنة قولا وفعلا من اجتهاد الرسول‬‫وجهاده ليس من الوحي وإذن فالوحي الوحيد هو القرآن‪ .‬والدليل الأمتن هو ما في القرآن‬‫من تعديل لبعض تصرفاته حتى لو اعتبرناها بقصد التنبيه لمثلها من بعده‪ .‬فهي كذلك‬ ‫تنبيه للتمييز بين ما يتلقاه واجتهاده‪.‬‬‫وهذا لا يقلل من قيمة السنة بل هو يبقي على رتبتها التي لا يسمو عليها إلا القرآن‪.‬‬‫ومن ثم فاجتهاد الرسول وجهاده يمثلان أفضل الممكن للإنسان في ما اجتهد فيه وجاهد‬‫الرسول‪ .‬وهذا وحده كاف وكل جدال في منزلة علم الرسول وعمله من عدم الذوق والعلم‬ ‫عند من يشككون في كل شيء عدا تشكيكهم‪.‬‬‫بعد كلمة سريعة على حياته الخاصة سأكتفي بالكلام في وظائفه الخمس كلاما وجيزا أختم‬ ‫به هذه المحاولة المكملة لتشريح القرآن (محاولة سابقة)‪:‬‬ ‫‪ .1‬رسول‬ ‫‪ .2‬مربي‬ ‫‪ .3‬حاكم‬ ‫‪ .4‬نموذج خلقي‬‫‪ .5‬الإنسان الكامل بصفات الإنسان السوي في حياته العاطفية والفكرية والاجتماعية‬ ‫والسياسية سلما وحربا‬‫لم يقل القرآن على حياته الخاصة المتقدمة على الرسالة إلا القليل اعدادا للوظيفة في‬ ‫الضحى‪:‬‬ ‫‪ .1‬ألم يجدك يتيما فآوى‬ ‫‪ .2‬ووجدك ضالا فهدى‬ ‫‪ .3‬ووجدك عائلا فأغنى‪.‬‬ ‫وفي الشرح‪:‬‬ ‫‪ .4‬أَلَ ْم َن ْش َر ْح لَ َك َص ْدرَ َك‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪َ .5‬ووَ َضعْنَا عَنْكَ ِوزْ َر َك‬ ‫‪ .6‬ا ِلَّ ِذي أَ ْن َقضَ َظهْرَكَ‬ ‫‪َ .7‬و َرفَ ْعنَا َلكَ ِذكْرَ َك‪.‬‬‫وشرح الصدر ووضع الوزر الذي أنقض ظهر النبي هو ما مر به الرسول من البحث‬‫والتشوف وقد يكون ذلك مدلول اخراجه من حالة الضلال الوارد ذكره في الضحى وسطا‬‫بين اليتم والعالة وهما همان دنيويان فكان شرح الصدر ووضع الوزر تحقيق ما كان الرسول‬ ‫يستعد إليه في تحنفه فأرسل ورفع ذكره‪.‬‬‫ورفع الذكر المشار إليه هو ما خص به من رسالة خاتمة هي الديني في كل دين والكلي‬‫القيمي الذي يتوجه إلى الإنسانية كلها وهو رفع الذكر المطلق في التاريخ الإنساني الروحي‬‫والمادي الذي يستعرضه القرآن الكريم لتفحصه ونقده وتطبيق مبدأ التصديق والهيمنة‬ ‫على كل التجارب التربوية والسياسية‪.‬‬‫فكانت ثورتا الإسلام‪ :‬الاولى أنهت الوساطة الروحية بين الله والإنسان‪\" :‬فبلغ إنما أنت‬‫مبلغ\" (ضمير إنما أنت مبلغ هو نفي أن تكون وسيطا روحيا)‪ .‬والثانية عللت الثورتين \"لست‬‫عليهم بمسيطر\"(والضمير أنت ليس وصيا على المؤمنين الذين تبلغ لهم الرسالة)‪ :‬ثورة‬ ‫النظام التربوي وثورة النظام السياسي‪.‬‬ ‫وهكذا نصل إلى وظائف الرسول الخاتم الخمس‪:‬‬ ‫‪ .1‬رسول خاتم‬ ‫‪ .2‬مرب بلا وساطة‬ ‫‪ .3‬حاكم بلا وصاية‬ ‫‪ .4‬نموذج خلقي للإنسانية عامة‬‫‪ .5‬مثال الانسان السوي بإطلاق في حياته العاطفية والفكرية والاجتماعية‬ ‫والسياسية سلما وحربا‪ .‬ومن ثم فالكلام على رسوليته مضاعف‪ :‬الثورتان والنموذجان‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فأما الثورتان فقد خصصت لهما عديد المحاولات‪ :‬الإسلام قطع مع ما يجعل الثيوقراطيا‬‫والأنثروبوقراطيا تخفيان طبيعتهما الأبسيوقراطية‪ :‬أي إنهما تخفيان سلطان المال (الربا)‬‫وسلكان التحريف (الخوار) على الكيان الإنسان العضوي بالاستغلال الربوي وكيانه‬ ‫الروحي بالتخدير الإيديولوجي‪.‬‬‫وإذن ففيه نقد للفتنة الكبرى بالعودة إلى الثيوقراطيا الصريحة في التشيع والخفية في‬‫التسنن على الأقل في الافعال لأن الأقوال لا تقبل بالثيوقراطيا ونقد الفتنة الصغرى أو‬‫العلمانية التي هي هي انثروبوقراطيا صريحة في الغرب الحدث وخفية في توابعه من‬ ‫الأنظمة العربية والإسلامية فعلا لا قولا‪.‬‬‫وقد عوضت \"فذكر إنما أنت مذكر\" في الآية بـ\"فبلغ إنما أنت مبلغ\" بقصد بعد أن بنيت‬‫أن مبلغ وليس وسيط لأن المذكر هو المرسل والنبي مبلغ للتذكير‪ .‬وهذا من أساليب القرآن‬‫في الإيجاز‪ .‬إنه أمر الله للنبي بأن يبلغ تذكيره للإنسان بالميثاق الذي شرحناه في فصول‬ ‫البحث السابقة‪ :‬النبي مرب وليس وسيطا‪.‬‬‫ولو كان هو المذكر فعلا لكان وسيطا وذا سلطان فيكون عليهم مسيطرا والله هو المسيطر‬‫الوحيد لأنه يذكر خلفاءه بما التزموا به وشهدوا على أنفسهم لما قبلوا الأمانة الثقيلة‪.‬‬‫التذكير هو القرآن نفسه رسالة الله‪ .‬وأمانته في التبليغ دون أن يكون وسيطا هي سر كونه‬ ‫نموذجا الخلق العظيم والسوي القويم‪.‬‬‫فأما دور النموذج الخلقي فيستمده من كونه مربيا لا وسيطا وحاكما لا وصيا وما كان الله‬‫ليصطفيه لهذه المهمة بهذين الصفتين المعتبرتين عن تأسيس النظامين المعتمدين على‬‫مضمون سورة العصر والاستثناء من الخصر لو لم يكن نموذج الخلق التام كما وصفه القرآن‬ ‫مؤكدا \"وإنك لعلى على خلق عظيم\"‪.‬‬‫أما نموذج كمال الإنسانية أو الاستقامة فتحدده الآية ‪ 42‬من الشورى وبها نختم هذه‬‫المحاولة‪\" :‬فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫كتاب وأمرت لأعدل بينكم الله ربنا وربكم لنا أعمالنا ولكن أعمالكم لا حجة بينا وبينكم‬ ‫الله يجمع بيننا وإليه المصير\"‪.‬‬‫فالاستقامة هي مطلق النزاهة وهي معاملة الغير بما نقبل أن نعامل به فتجمع بين‬‫النزاهة والعدل والاحتكام إلى حاكم الحاكمين للفصل بين البشر في المسائل التي هي علة‬‫حروبهم ونسيان الأخوة البشرية (النساء ‪ )1‬والمساواة بين البشر (الحجرات ‪ .)13‬ذلك‬ ‫هو الرسول الخاتم والإنسان الكامل‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook