Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore قضية التعبير بجدل القضايا المنطقية على حقيقة الوجود - الفصل الثاني - أبو يعرب المرزوقي

قضية التعبير بجدل القضايا المنطقية على حقيقة الوجود - الفصل الثاني - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2017-04-21 05:48:29

Description: بينت في الفصل الأول بخلاف ما يعتقد عادة فإن الدين هو الذي يدافع عن الفلسفة وليس العكس: فما يتجاوز التحليل إلى التأويل مصدره الفكر الديني.
وبينت أن الفرق بين الفلسفة القديمة والفلسفة الحديثة هو أن هذه بدأت تدرك ذلك حتى إني أول مقال كتبته عن ديكارت بالفرنسية أسسته على مفهوم جديد.
وهذا المفهوم الجديد- وهو جديد في فلسفة المعرفة - مستمد من ابن تيمية وابن خلدون في تجاوزهما للغزالي-مفهوم مناظر للميتافيزيقا سميته الميتاأخلاق.
فالفلسفة تنطلق من الطبيعة طلبا لما بعدها والدين ينطلق من التاريخ طلبا لما بعده.
وإذن فالدين الذي من التاريخ يطلب ما بعدا خلقيا لا طبيعيا.

Search

Read the Text Version

‫الأسماء والبيان‬



‫‪1‬‬ ‫المقدمة ‪1‬‬ ‫الفرق بين العبارة والوجدان ‪2‬‬ ‫أساس محاولات التعبير عن الذوق الجمالي والوجودي ‪3‬‬ ‫الحوادس والحواس وعلاقتهما بالعبارة والوجدانيات ‪4‬‬ ‫التعدد الحسي اللامتناهي ‪5‬‬ ‫علاقة الوجدانيات بالمدارك ‪6‬‬ ‫التجاوز الجمالي والتجاوز الوجودي ‪7‬‬ ‫خاتمة ‪9‬‬



‫بينت في الفصل الأول بخلاف ما يعتقد عادة فإن الدين هو الذي يدافع عن الفلسفة‬ ‫وليس العكس‪ :‬فما يتجاوز التحليل إلى التأويل مصدره الفكر الديني‪.‬‬‫وبينت أن الفرق بين الفلسفة القديمة والفلسفة الحديثة هو أن هذه بدأت تدرك ذلك‬ ‫حتى إني أول مقال كتبته عن ديكارت بالفرنسية أسسته على مفهوم جديد‪.‬‬‫وهذا المفهوم الجديد‪ -‬وهو جديد في فلسفة المعرفة ‪-‬مستمد من ابن تيمية وابن خلدون‬ ‫في تجاوزهما للغزالي‪-‬مفهوم مناظر للميتافيزيقا سميته الميتاأخلاق‪.‬‬ ‫فالفلسفة تنطلق من الطبيعة طلبا لما بعدها والدين ينطلق من التاريخ طلبا لما بعده‪.‬‬ ‫وإذن فالدين الذي من التاريخ يطلب ما بعدا خلقيا لا طبيعيا‪.‬‬‫وما يميز الفلسفة الحديثة هو أنها بدأت تميل إلى المنطلق التاريخي بمجرد أن أصبح‬ ‫المابعد الذي تطلبه خلقيا وليس طبيعيا‪ :‬وتلك حداثة ديكارت‪.‬‬‫فمطلوبه قدرة العقل المعرفية وحدودها‪ .‬فكان غاية بحثه أن تأسيس العلم مشروط‬ ‫بضمانة إلهية‪ :‬متعال وعيي به يجعلني اطمئن إلى أنه لا يخادعني‪.‬‬‫وذلك ما صاغه الغزالي بعبارته الجميلة‪\" :‬فعادت الثقة في الاوليات بنور قذفه الله في‬ ‫القلب\"‪ .‬وهذا النور كان عنده متعلقا بالفرقين اللذين درسنا‪.‬‬‫فالفرق بين إدراك الوجدانيات والعجز عن العبارة مطلقة المطابقة وإدراك الوجود‬ ‫والعجز عن العلم مطلق المطابقة هما الجسر الواصل بين الدين والفلسفة‪.‬‬‫وهذا الجسر طريق ذات مسارين جمالي وجلالي أولهما يحاول بالفنون استكمال‬ ‫التعبير عن الوجدانيات والثاني يحاول بالدين استكمال العلم بالوجوديات‪.‬‬ ‫‪91‬‬

‫استكمال التعبير عن الوجدانيات بالفنون واستكمال العلم بالوجوديات بالدين هما سمو‬ ‫الإنسان عن الدنيوي إلى ما يضفي عليه المعنى الخلقي والروحي‪.‬‬‫ذكرت أن ديكارت مؤسس الفلسفة الغربية الحديثة وقبله الغزالي وابن تيمية وابن‬ ‫خلدون مؤسسي الفلسفة الإسلامية الحديثة ينطلقون من هذين الفرقين‪.‬‬‫وما يعنيني هو أن المنطلق الجديد لم يعد ما بعد الطبيعة بل ما بعد التاريخ وأنه بهذا‬ ‫المعنى تحرر من وهم مطابقة العبارة للوجدان والإدراك للوجود‪.‬‬‫والوعي بالفرق بين العبارة والوجدان شطح صوفي يطلب المستحيل وإبداع جمالي يطلب‬ ‫البديل الرمزي المتجاوز للعبارة إلى لامتناهي الذوق والروحانية‪.‬‬‫والوعي بالفرق بين العلم والوجود تجاوز للقول بوحدة الوجود ابداع ديني يطلب‬ ‫البديل الرمزي المتجاوز للعلم إلى لا متناهي الذوق الوجودي والخلقي‪.‬‬‫فيكون التجاوز إلى الذوق الوجداني الطريق إلى الذوق الوجودي ويكون الفن فوق‬ ‫العبارة ويكون الدين فوق العلم فيستكمل شروط الإنسان الاستخلاف‪.‬‬‫والحديث في ديكارت بخلاف الرأي السائد ليس علمه الذي لم يبق منه شيء يذكر بل‬ ‫هذا الموقف الجديد فيكون الوعي بالفرقين أساسا للمعادلة الوجودية‪.‬‬‫لكن ديكارت وحتى الغزالي وابن تيمية وابن خلدون لم يصلوا إلى وضع المعادلة‬ ‫الوجودية وإلا لما اضطررت لوضعها لكنهم أدركوا العلاقة بين قطبيها‪.‬‬‫فعندهم جميعا وعي الإنسان بذاته متلازم مع وعيه بربه وبلغة ديكارت‪ :‬وعي الإنسان‬ ‫بذاته وعدم كمالها في كل شيء يقتضي أن له وعيا بالكمال المطلق‪.‬‬‫والوعي بعدم الكمال الإنساني (لا ينكره إلا غبي) وعي بصفات الله الذاتية الكاملة‬ ‫والمطلقة‪ :‬الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود‪ .‬كلها مطلقة‪.‬‬‫لكن إرادة الإنسان وعلمه وقدرته وحياته ووجودها كلها شديدة النسبية والمحدودية‬ ‫وهي متناهية بل لا تكاد تمثل ذرة مما يعيه من كمالها في تصوره‪.‬‬ ‫‪92‬‬

‫فيكون ما عليه من صفات في وجوده الفعلي قياسا إلى ما يتصوره في وجود الله الفعلي‬ ‫دالا على التلازم بين قطبي المعادلة الوجودية‪ :‬الله والإنسان‪.‬‬‫وبين القطبين وسيطان‪ :‬الطبيعة (بداية الفلسفة) أو من التاريخ (بداية الدين)‬ ‫مفترقين أو مجتمعين لنفهم الفلسفة النقدية الإسلامية والغربية الحديثة‪.‬‬‫فلأتكلم الآن على الفرق الأول أي اساس محاولات التعبير عن الذوق الوجداني أو‬ ‫الإبداع الجمالي المعدة للإبداع الديني المعبر عن الذوق الوجودي‪.‬‬‫وأول خطوة هو استكمال المعادلة الوجودية‪ :‬القطبيان والوسيطان‪ :‬الوصل بين القطب‬ ‫الأول والوسيط الأول والقطب الثاني والوسيط الثاني بالإبداعين‪.‬‬‫فبين الله والطبيعة من جهة أولى والإنسان والتاريخ من جهة ثانية يحقق الإبداعان‬ ‫الوصل‪ :‬فينسب الإنسان الإبداع الجمالي لنفسه والديني إلى الله‪.‬‬‫فيكون الوصل بين القطبين الممثلين لغيب الوجود (الله والإنسان) من خلال حضور‬ ‫الوسيطين الممثلين لشاهده (الطبيعة والتاريخ) حركتان صاعدة ونازلة‪.‬‬‫فالوصل هو‪ :‬الجمالي (الفرق بين الوجدان والعبارة) الصاعد من الإنسان إلى الله‬ ‫والديني (الفرق بين الوجود والعلم) النازل من الله إلى الإنسان‪.‬‬‫والإلحاد يطلق إدراك العلم فيجعله بديلا من الرؤية الدينية التي يعتبرها من خيال‬ ‫الإنسان مثل الفن فيفقدهما ما لهما من قدسية لاكتفائه بالدنيا‪.‬‬‫والمتصوف يطلق إدراك الذوق فيجعله بديلا من الرؤية الدينية التي يعتبرها من قشور‬ ‫الإدراك مثل الفن عنده فيفقدهما قدسيتهما لاكتفائه بـ\"الآخرة\"‪.‬‬‫لكن المعادلة الوجودية تجعل الدنيا مبنى والآخرة معنى ومن ثم فلا يمكن الفصل بينهما‬ ‫فالإدراك الوجداني والإدراك الوجودي رمز كامل له جسد وروح‪.‬‬‫لم يبق إلا أن أثبت ذلك في هذا الفصل الثاني المخصص للعلاقة بين التعبير والوجدان‪.‬‬ ‫وسنثبته في الفصل الموالي بخصوص العلاقة بين العلم والوجود‪.‬‬ ‫‪93‬‬

‫والأدلة على الفرق الذي لا يمكن ردمه بين الوجدانيات والعبارة عنها لا أحتاج لأكثر‬ ‫من التجربة المعيشة التي يفهمها أي إنسان مهما جهل الفلسفة‪.‬‬‫أنطلق من الدلالة العادية للمقابلة بين البصر والبصيرة في لغة الإنسان العادي‪ .‬فهي‬ ‫تعني أن المبصر قد يكون فاقدا للبصيرة والأعمى صاحب بصيرة‪.‬‬‫دليلي يجده من يطبق هذه المقابلة على الحواس الأخرى‪ .‬فيتصور سامعا فاقدا للسميعة‬ ‫وشاما للشميمة وذائقا للذويقة ولامسا للميسة‪.‬‬ ‫ثم يعكس تصوره‪.‬‬‫الوجدان لنا منه مثال يدركه من له البصيرة والسميعة والشميمة والذويقة واللميسة‬ ‫الملازمة للبصر والسمع والشم والذوق واللمس‪ .‬ولنسمها بالحوادس‪.‬‬‫من نسميهم مبدعين هم من لهم بالإضافة إلى الحواس الخمس الحوادس الخمسة‪ :‬بصر‬ ‫وبصيرة وسمع وسميعة وشم وشميمة وذوق وذويقة ولمس ولميسة‪ :‬عمق الحياة‪.‬‬‫الفرق بين الوجدانيات والعبارة عنها لا متناه أي لا يستنفد وهو الحوادس في الحواس‪:‬‬ ‫فيكون أساس الإبداع بأصنافه الـخمسة مقدار الحوادس في الحواس‪.‬‬‫فمن يبصر ببصيرة ويسمع بسميعة ويشم بشميمة ويذوق بذويقة ويلمس بلميسة يرى‬ ‫لا تناهي الفرق بين الوجدانيات وعبارتها فتجاوز الحواس إلى الحوادس‪.‬‬‫ولكن إذا توهم أنه استنفد الفرق يصبح تجاوزه شطحا لأنه يدعي أنه بلغ الكمال‬ ‫الحادس فلم يبق بينه وبين التعبير عما أدرك من الوجدانيات مسافة‪.‬‬‫وحينها يكون كلامه المعبر عن الوجدانيات ناتجا عن توهم رد الوجداني إلى عبارته عنه‬ ‫فيعتبر نفسه قد أصبح صاحب \"كن\" فلا يرى في الجبة إلا الله‪.‬‬‫وعلامة هذا السقوط يجدها ابن خلدون في تصدر المتصوف للرئاسة متوهما أنه صاحب‬ ‫الحقيقة في مقابل صاحب الرسم فصلا بين المبنى والمعنى‪ :‬الشطح‪.‬‬‫فالتمييز بين الحواس والحوادس عينة من حضور المطلق في النسبي آية منه وعلامة عليه‬ ‫لذوي البصائر‪ :‬عجز الإنسان عن استنفاد ما في نفسه‪ :‬لغز الروح‪.‬‬ ‫‪94‬‬

‫والوعي بلغز الروح مقفز للوعي بلغز الوجود‪ .‬فلأبين كيف يعجز الإنسان على التعبير‬ ‫عن الوجدانيات المصاحبة لإرادته ومعرفته وقدرته وحياته ووجوده‪.‬‬‫ولأذكر بأن الله يشير إلى فقدان الحوادس المصاحبة للحواس بالقول عمن لا يفهم \"صم‬ ‫بكم عمي فهم لا يعقلون\" وهو لا يعني أنهم لا يبصرون ولا يسمعون‪.‬‬‫القصد أن لهم البصر دون بصيرة وسمع دون سميعة ولذلك فهم لا يعقلون لأنهم لو كان‬ ‫لهم ما ينبغي أن يصحب البصر والسمع لعقلوا سر لا تناهي القرآن‪.‬‬‫وسر لا تناهي القرآن يتجاوز ذلك إلى ما قصده الصدّيق إذ قال \"العجز عن الإدراك‬ ‫إدراك\" فالإدراك الحقيقي هو الوصول الفرق بين الإدراك والوجود‪.‬‬‫وحتى أبين هذا السر سأنطلق من المدارك الحسية التي يظنها الكثير أدنى درجات‬ ‫المعرفة‪.‬‬ ‫ففيها ما لا يحيط به إدراك ولا يستطيع استنفادها أبلغ المعبرين‪.‬‬‫فليحاول أي إنسان أن يقول ما يدرك إذ يبصر أو يسمع أو يشم أو يذوق أو يلمس‪.‬‬ ‫وقد رتبتها من الأبعد إلى الأقرب‪ .‬لا أحد يمكن أن يقول لغيره ما أدرك‪.‬‬‫فلنصل البصر بالذوق‪ :‬فقد قال أحد فنانينا اشتهر بالألحان الأندلسية لعذاله في‬ ‫حبيبته‪\" :‬خوذوا عيني شوفوا بها\"‪\" .‬فنفس\" الوجه يرى بعدة الرائين‪.‬‬‫وضعت \"نفس\" بين ضفرين لتصورنا أن وراء التعدد الحسي اللامتناهي للبصر وحدة ما‬ ‫هي مجرد فكرة عما يمكن أن يكون الموجود المدرك بحاسة البصر عامة‪.‬‬‫وقس عليه بقية الحواس فرادى أو مؤلفة من أكثر من واحد حتى الخمسة‪ .‬نتصور أن‬ ‫المدرك واحد لأننا نغفل عما لا نستطيع إدراكه ونفترضه مطابقا للمرئي‪.‬‬‫لكن ذلك يتبين أكثر كلما اقتربنا إلى ما لا اشتراك فيه لا جزئيا ولا كليا‪ :‬أعني الذوق‬ ‫واللمس‪.‬‬ ‫والأولان البصر والسمع يبدوان قابلين للاشتراك‪.‬‬ ‫‪95‬‬

‫وبين الأولين والأخيرين يبدو الاشتراك بيّن أكثر من العدم في الذوق واللمس وأقل‬ ‫من الوجود في البصر والسمع‪ .‬فإذا عمقنا وجدنا فيها كلها الأولين‪.‬‬ ‫ومن ثم ففيها جميعا ما لا يقال وذلك هو الوجداني في المدارك الحسية‪.‬‬‫ويوجد فعل واحد تتدخل فيه كل الحواس وهو مصدر المثال الذي يعتمده الغزالي‪.‬‬‫يضرب الغزالي العنين (العاجز جنسيا) ليبين أنه لا يفهم الكلام على اللذة الجنسية‪.‬‬ ‫لكنه لم يدرك ما أدركه ابن خلدون‪ :‬في الوجدانيات كلنا مثله‪.‬‬‫والوجدانيات ملازمة لكل مداركنا في الغاية وهي ما به تثبت لنا مداركنا هذا الفرق‬ ‫الذي لا يستنفذه إدراكنا وإدراك الفرق هو ما فيها من الحوادس‪.‬‬‫ومثال الغزالي فيه ضمنيا ما أدركه ابن خلدون لأن الجنس يعمل بكل الحواس معا‪ :‬ففيه‬ ‫البصر والسمع والشم والذوق واللمس والوعي بذهول النشوة الوجودية‪.‬‬‫ولا عجب أن يكون الرسول قد جمع هذه المعاني كلها في الثالوث الذي أعلمنا أن الله قد‬ ‫حببه فيه‪ :‬الصلاة والعطر والنساء‪ .‬فالعطر يصل الصلاة والنساء‪.‬‬‫والوصل وصل بين النشوتين الوجودية الروحية(الصلاة) والوجودية الحيوية (الجنس)‬ ‫ذهولا ووعيا بعمل الحواس كلها فيصل وبالفرق الملامس للمطلقين‪.‬‬‫فالصلاة رمز للمطلق الروحي والجنس رمز للمطلق الحيوي فيكون الرمز الحيوي عينة‬ ‫من الممكن الروحي ويتحد الوجودان في البعث الجسدي مثال الخلود‪.‬‬‫وكلا الرمزين ملامسة للمطلق يعيشها المرء مهما كان بليد الحدس والحس بمجرد أن‬ ‫يغوص فيهما ولو مرة في حياته لأنهما تجربتان قل أن تكتملا فعلا‪.‬‬‫وإذا حصلتا كاملتين فمجراهما ذهولي الجوهر‪ :‬شبه تجاوز لحدود الدنيا إلى ما يمثل‬ ‫ذوقا أوليا للأخرى أو لحياة تجاوزت الفناء إلى رائحة البقاء‪.‬‬‫ويرمز للوصل بينهما بالعطر أي بحاسة الشم المصحوبة بحادسة الشميمة التي هي في نسبة‬ ‫البصيرة إلى البصر‪ .‬والغارق في التوافه لا يفهم الرموز‪.‬‬ ‫‪96‬‬

‫ولا بد هنا من فهم منزلة محاولات تجاوز القصور في العبارة عن الوجدانيات أعني صنفي‬ ‫التعبير الذوقي‪ :‬الذوق الجمالي (الفن)والذوق الوجودي (التصوف)‪.‬‬‫فهما يشبهان الموقف الذي يؤدي إليه سوء فهم العلم عندما يتحول إلى \"علم\" كلام أو‬ ‫إلحاد صريح‪ .‬وستكون لي وقفة مع هذين الموقفين في الفصل الموالي‪.‬‬‫وعلاج محاولات تجاوز القصور في التعبير عن الوجدانيات جماليا وصوفيا‪-‬والغزالي‬ ‫تكلم على العلاقة بينهما عندما تكلم على الموسيقى مثلا‪-‬مهم جدا‪.‬‬‫ويمكن القول بداية إن فقه سد الذرائع م ّثل مصدرا لا ينضب في قتل هذين النوعين من‬ ‫الوعي بالقصور التعبيري وتجاوزه بما قد يعتبر معاديا للدين‪.‬‬‫مهاجمة فقه سد الذرائع بزعم الدفاع عن الدين يشارك فيها فقهاء الدين وفقهاء‬ ‫الفلسفة‪ :‬لكن علة سد الذرائع في الفن والتصوف لا هي دينية ولا هي فلسفية‪.‬‬‫إنها نابعة عن توظيفهما في السياسة‪ :‬فالسياسة تحتاج لما يمتن النظام العام وتتصدى لكل‬ ‫ما تعتبره مهددا له ومنه التوق إلى تجاوز القصور التعبيري‪.‬‬‫ذلك أن التجاوز في الجمالي فنيا والتجاوز في الوجودي صوفيا تعبير يهدد الحدود‬ ‫والقيود لأنه يحيل إلى عالمين السياسي فيهما هو الحدود والقيود‪.‬‬‫ولكي نفهم هذا التعارض بين عالم السياسة وعالم التجاوزين الجمالي (الفن)‬ ‫والوجودي (التصوف) فلنشر إلى التعبير المشترك بينهما‪ :‬الموسيقى والرقص‪.‬‬‫والمشترك الموسيقي مسلم به لكن الرقص قلما نظر إليه من هذا الوجه رغم أنه مثل‬ ‫الموسيقى أسمى تعبيرا عما لا نستطيع التعبير عنه لتدارك العجز‪.‬‬‫ويشترك التعبيران في عدم التحدد الترميزي (الحركة البدنية والحركة الصوتية) بلغة‬ ‫كونية ليس بين عناصر دالها المقومة علاقة مباشرة مع المدلول‪.‬‬‫وهما يتحدان في الغناء الذي هو موسيقى راقصة أو رقص المترنم الذي يخرج من الذات‬ ‫عندما تكون في حيرة فهم ما يعتلج في نفسها من مشاعر غير محددة‪.‬‬ ‫‪97‬‬

‫وكون ما تعبر عنه غير محدد وكون عناصر الدال المقومة ليست محددة العلاقة بعناصر‬ ‫المدلول لا يعني أن الموسيقي والرقص فاقدان للنظام والقواعد‪.‬‬‫والعكس هو الاصح‪ :‬فالموسيقى نظاما رياضيات الزمان والحركة وتداول الصوت والصمت‬ ‫والرقص رياضيات المكان والحركة وهما من أشد الفنون تنظيما وصرامة‪.‬‬‫لكن ما يريدان قوله هوما لا يقال مما نريد قوله جريا وراء وجدانيات الذات التي‬ ‫تحاول الإمساك بما تعجز عن قوله رغم أنه يعتمل في الكيان بغليان‪.‬‬‫وعبارة الشطح في اللغة العربية الفنية تفيد الكلام غير المفهوم الذي قد يفهم من الكفر‬ ‫تعني شعبيا الرقص وما يصحبه من تحرك إشاري وتلفظ انفعالي‪.‬‬‫وحتى لا أطيل فيمكن أن أحيل على كتابي في الشعر المطلق والإعجاز القرآني من يريد‬ ‫الغوص في هذا المعاني الدقيقة والتي كاد فقه سد الذرائع قتلها‪.‬‬‫وأخيرا فإن هذين السعيين لتجاوز القصور في العبارة بالإشارة الموسيقية والرقصية‬ ‫يمثلان الوعي الحاد بفرقين بين قدرتين إنسانيتين‪ :‬الوجدان واللسان‪.‬‬‫وفقه سد الذرائع سواء كان دينيا أو فلسفيا (أفلاطون) في مجال الجمالي والوجودي‬ ‫ينبغي أن يقرأ في ضوء ما يصحب النوعين من تجاوز للحدود والقيود‪.‬‬‫ما يخشاه أصحاب سد الذرائع هو التجاوز السلوكي (قضية تربوية وسياسية) المترتب‬ ‫على التجاوز التعبيري‪.‬‬ ‫ما يحصل ليس دائما وظيفة تطهيرية (أرسطو)‪.‬‬‫فالموسيقى الصاخبة تعبير عن الدوار الوجودي الناتج عن غليان المشاعر عند المراهق‬ ‫مثلا والمخدرات طلب لهذا الدوار بقصد اصطناعي حتى يصبح إدمانا‪.‬‬‫والرقص تعبير عن الدوار الوجودي عند المتصوف لكنه أصبح اصطناعا للدوار الوجودي‬ ‫حتى صار إدمانا وأصبح شبه ذهول يغادر صاحبه الدنيا باسم الأخرى‪.‬‬‫وهذان الإدمانان ذريعة تدفع فقهاء الدين والفلسفة إلى موقف يصارع ما لا يمكن‬ ‫التغلب عليه لأن ذلك من مفاعيل عجز اللساني عن قول معاني الوجداني‪.‬‬ ‫‪98‬‬

‫لست أشك في أن أدعياء التأصيل وأدعياء التحديث يعتبرون هذا الكلام \"هذيانا\" لأنهما‬ ‫يتفقان على شيء مشترك أفسد حتى من فقه سد الذرائع بنوعيه‪.‬‬‫فكلاهما ذو موقف وثني‪ :‬يوثنان أعيان الممارسات يظنها مطابقة لما تعبر عنه من قيم‬ ‫الأول إضافة إلى ماضينا والثاني إلى ماضي الغرب بعد انحطاطهما‪.‬‬‫فقيم الدين وقيم العقل لا تختلفان في العمق إذا أدرك العقل هذين العجزين‬ ‫التعبيريين اللذين تقدم الدين على الفلسفة في اكتشافهما لكنها قد تنحط‪.‬‬‫الانحطاط نتج عن اضطرار المسلمين إلى حالة طوارئ فرضتها الفتنة الكبرى أصبحت‬ ‫دائمة والغت دستور الحريتين القرآني وقيمه‪ :‬الروحية والسياسية‪.‬‬‫وانحطاط الحداثة هي حالة الطوارئ التي فرضها الاستعمار والتي أصبحت بديلا من‬ ‫قيمها فتوثنت عندما ظنت القيم هي أعيانها في الاستعمار الغربي‪.‬‬‫الانحطاط الأول يمثله نخب التأصيل الزائف والانحطاط الثاني يمثله نخب التحديث‬ ‫الزائف‪.‬‬ ‫أما التأصيل والتحديث المميزين بين المثل وأعيانها فشيء واحد‪.‬‬‫وبذلك نكون قد أعددنا العدة للكلام في الفصل المواصل على العلاقة بين العلم‬ ‫والوجود بعد أن رأينا العلاقة بين الذوق والوجدان‪.‬‬ ‫والله المستعان‪.‬‬ ‫‪99‬‬

5

‫‪02 01‬‬ ‫‪01‬‬ ‫‪02‬‬‫تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي‪ :‬محمد مراس المرزوقي‬