أبو يعرب المرزوقي re nils frahm ما وراء العلاقة بين الضرورة الشرطية والحر ية الشرطية الأسماء والبيان
المحتويات 2 -الفصل الأول 1 - -الفصل الثاني 8 - -الفصل الثالث 14 - -الفصل الرابع 20 - -الفصل الخامس 27 - -خاتمة 34 -
-- في محاولة فهم نظرية المعرفة والقيمة التي ترفض القول بالمطابقة فتتخلص من ثم من سذاجة النظرية التي عاش عليها الفكران الفلسفي والكلامي في النظر والصوفي والفقهي في العمل وأصلها جميعا أي تفسير القرآن في حضارتنا وتفسير ما يناظره في أي حضارة أعني المرجعية المتعالية أرجعتها إلى علاقة مفهومين: .1المفهوم الأول وضعه أرسطو وهو مفهوم الضرورة الشرطية مبدأ يفسر به الظاهرات الطبيعية وعليه تتأسس ميتافيزيقاه أساس القول بالمطابقة في نظرية المعرفة ونظرية القيمة. .2والمفهوم الثاني افترضت أن تجاوز ابن تيمية للقول بالمطابقة فيهما يقتضيه وهو مفهوم \"الحرية الشرطية\" بمعنى يحتاج إلى شرح وبيان أنه الصيغة الامثل لمفهوم الكسب الأشعري المحير. فإذا كان مفهوم \"الضرورة الشرطية\" أساسا لفهم الطبيعة فإن مفهوم \"الحرية الشرطية\" أساس لفهم التاريخ الإنساني .ومعنى ذلك أن الضرورة الشرطية وحدها لا تكفي لفهمه لأنه لا يكتفي بالطبائع بل فيه الشرائع التي هي من وضع الإنسان وليست بالضرورة خاضعة للضرورة بل فيها خيارات غالبا ما تعارضها. وإذا نسبنا الضرورة الشرطية إلى الخلق الإلهي فطبعا لا يمكن ألا ننسب الحرية الشرطية إلى الخلق الإلهي بمعنى أن الذي خلق ما يسلك بقانون الطبيعة هو الذي خلق ما يسلك بسنة التاريخ .وذلك فنسبة الحرية الشرطية للإنسان لا ينفي الخلق الإلهي مثلما أن نسبة الضرورة الشرطية إلى الطبيعة لا ينفي الخلق الإلهي .وبيان ذلك يثبت سخافة الرؤية الاعتزالية لأفعال العباد وهو علة تفضيلي للرؤية الأشعرية. فكان هذا هو المستوى الأول لاستعمل المفهوم .فهو يمكن من فهم خصومة المعتزلة والأشعرية حول أفعال العباد .وهو بهذا المعنى ترجمة مفهومية أوضح لمفهوم الكسب الأشعري .ولو كان مفهوم الحرية الاعتزالي يرضيني لما فضلت عليه مفهوم الكسب وصغته أبو يعرب المرزوقي 1 الأسماء والبيان
-- بلغة أوضح لأنه كان يعتبر من الأحاجي والألغاز لقصور في تحديد المفهومات ولعدم تحقق الرؤية التيمية في حقيقة المعاني الكلية التي يستعملها الفكر الإنساني والتي كانت تظن مقومات للأشياء وليست رموزا إنسانية للكلام فيها لا تختلف عن الألفاظ والكتابة. وحتى ندرك ما يضيفه هذا المفهوم لإيضاح مفهوم الكسب فلننطلق من مفهوم الضرورة الشرطية الذي وضعه أرسطو .فهو يعني أن نظام الشيء يكون ضروريا إذا نظر إليه من حيث علاقة الحصيلة التي تعتبر غاية قبل حصولها وما أوصل إليها من علل فيكون حصولها ضروريا إذا طابق مجرى حصولها سلسلة عللها. هي إذن ضرورة شرطية بالغاية وبنظام العلل التي تحققها .وذلك للمقابلة بين ما مجراه ذو نظام وما مجراه يحصل بالاتفاق والصدفة .فيكون أرسطو وكأنه تخيل أن وراء الطبيعة نظاما ما هو الذي يجعل مجراها يقع ذلك الوقوع وهذا النظام قابل لأن يفسر بعلاقة العلة والمعلول أو بعلاقة الغاية والوسيلة. وفيه إذن -وإن بغير قصد -إسقاط لما يشبه نظام أفعال العقلاء .فأفعال العقلاء تنطلق من الغاية وتعود إلى الوسيلة بمنطق التعليل :فإذا كنت أريد كذا أطلب شرطه ثم شرط شرطه إلى أن أصل إلى الشرط الأول .ثم منه أشرع في العمل .ويصف أرسطو ذلك - (وابن خلدون كذلك فصل 11في الفكر الإنسان الباب السادس من المقدمة) -بمنطق غاية الفكرة هي بداية العمل :وذلك بمقتضى الضرورة الشرطية. لكن التماثل اللفظي بين أرسطو وابن خلدون يخفي فرقا جوهريا .فالغائية والعلية الأرسطية تفترض ثلاثة مستويات في ميتافيزيقاه وسأفترض لها وسطين بين الأول والثاني ثم بين الثاني والثالث لتصبح مفهومة: .1المحرك الأول أو العقل الكامل الذي لا علاقة له بالعالم. .2نظام السماء ومحركاتها العقلية أو النظام المحاكي لنظام الكمال والسرمدية. .3عالم الكون والفساد أو عالم ما دون القمر. أبو يعرب المرزوقي 2 الأسماء والبيان
-- فكما هو بين فإن هذه لأنطولوجيا المبنية على \"ثيولوجيا رمزها العقل وكسمولوجيا رمزها السماء\" لتأسيس الفيزياء تتضمن قيسا ضمنيا على العقل بعد إطلاقه واعتباره نموذجا يحرك بجاذبية النموذج لما يتحرك ليحاكيه لكأن العقل المحرك الأول هو المثال الأفلاطوني الوحيد الذي حافظ عليه أرسطو في نظرية الوجود والعالم .والوسيطان اللذان اضطررت لوضعهما يوجدان ضمنيا في ميتافيزيقا أرسطو: .1الأول للوصل بين المحرك الذي يحرك دون أن يتحرك وجهاز السماء أو العالم الذي تحركه عقول تحاكي العقل الأول فوق القمر. .2الثاني للوصل بين حركة جهاز السماء وعالم الكون والفساد ذي المادة التي يتداول عليها الكون والفساد. لكن كل هذه المعاني ابن خلدون لا يحتاج إليها .لماذا اعتبرت ابن خلدون في غنى عن هذا النظام الأرسطي مثله مثل ابن تيمية؟ لأن الرجلين يضعان فوق الضرورة الشرطية وكذلك الحرية الشرطية مفهوما يتعلى على كل الشروط إنه الحرية المطلقة التي تنسب إلى الخالق والآمر والتي لا توجد قبالتها ضرورة بالمعنى المعرفي ولا بالمعنى القيمي .ومعن ذلك أن الشرطية في الضرورة وفي الحرية كلتاهما نسبية إلى المخلوقات ولا معنى لها عند الكلام على الخالق. ولو قايست بين الفنان المبدع والفنان المقلد لكان نظام العالم الأرسطي أشبه بإنتاج الفنان المقلد ونظام العالم الإسلامي أشبه بإنتاج الفنان المبدع .والأول له مثال يحاكيه وهو مضطر بما يحاكيه والثاني يعمل بغير مثال وهو حر بإطلاق .وقد كتب الفارابي في الموضوع فاعتبر الله يحاكي في الخلق نماذج في ذاته وهو حل وسط بين المشائية والإسلام. بعبارة قد تصدم أدعياء العقلانية فالنظام سواء كان طبيعيا أو تاريخيا يمثل \"إكراها\" خارجيا بالقياس إلى الإنسان لكنه لا معنى له بالنسبة إلى الله .فبالقياس إلى الله الخالق والآمر-إن آمنا به-هو نتيجة لخياراته الحرة ولالتزامه به في حدود ما اختاره من نوع الالتزام وكلاهما مفتوح أمامه بلا تناه .وإذن فالشروط تالية وليست سابقة. أبو يعرب المرزوقي 3 الأسماء والبيان
-- وكان ديكارت أيضا يقول بما يشبه ذلك لأنه انتهى في الغاية إلى القول إن مبادئ العقل حتى هي فهي خيار حر لممكن يعود إلى الإرادة الإلهية وذلك القوانين الرياضية .وإذن فعندنا حالتان: .1الخالق والآمر وفاعليته الحرة بإطلاق بمعنى أنه فعال لما يريد فيقضي ويقدر بحرية مطلقة لاختيار من الممكن ما يرد. .2والمخلوق وينقسم إلى ما يخضع للضرورة الشرطية (الطبائع) وما يخضع للحرية الشرطية (الشرائع). والإنسان يخضع لهما معا ولفعل الضرورة الشرطية في الحرية الشرطية ولفعل الحرية الشرطية في الضرورة الشرطية ومن ثم فهو عينة منهما ومن تفاعلهما بالقياس إليها يمكن تحديد طرفي المشكل :الشارط والمشروط بنوعيهما. فالشارط نوعان: • مطلق (الله) • ونسبي (الإنسان وهو معنى الخليفة). والمشروط نوعان: • مطلق سلوك الطبيعة • ونسبي سلوك الإنسان. فيكون الإنسان نسبيا في شارطيته وفي مشروطيته بالإضافة إلى المخلوقات من حيث علاقتها باستخلافه .ومن ثم فهو خاضع للحرية الشرطية إذ له قدرة استعمال الضرورة الشرطية بفضل إدراكه لقوانين سلوكها إذا افترض الشرط وعمل بمقتضاه أو غيره ببديل منه يوجه الضرورة بمقتضى قانونها. وبهذا يتبين أن ما تتميز به المدرسة التي سميتها نقدية هو ما به يقابل مفهوم الله في الإسلام مفهوم الله في الفلسفة اليونانية :المسألة هي إذن مسألة ثيولوجية انثروبولوجية أو تابعة لنظرية الله وعلاقة الإنسان به .كل فلاسفتنا ومتكلمينا وفقهائنا ومتصوفتنا بوعي أبو يعرب المرزوقي 4 الأسماء والبيان
-- أو بغير وعي لم يدركوا هذا الفرق الجوهري بين الثيولوجيا الأرسطية والثيولوجيا القرآنية :بين الله المحرك واللامبالي بالعالم والإنسان والله الخالق والآمر والمبالي بمخلوقاته وخاصة بالإنسان يكمن الفرق الأساسي في الرؤيتين .لكن هذا الفرق يتعجل أدعياء العقلانية لرفضه بخرافتهم الانثروبولوجية أو الكسمولوجية فيستعملون حجتين: • واحدة انثروبولوجية ظهرت مع اليسار الهيجلي للرد على فلسفة هيجل التي يتباها اليمين الهيجلي لتأسيس ثورة \"سياسية\" لتحرير الإنسان من الإلهيات وهي القائلة إن الإنسان هو الذي خلق الله فكرة استكمالية لما ينقص ذاته (فكرة فيورباخية). • والثانية كسمولوجية في الأصل ترد هذه المقابلة إلى خيار بين النظام والفوضى الوجودية .لكنها صارت انطولوجية عند بعض الوجوديين الذين يزعمون للإنسان ما تقول بهذه الرؤية نسبة إلى الإله وهو ومعنى الوجود متقدم على الماهية بالمعنى السارتي. وليت من يردون عليهم يقفون عند هذا الحد بل هم يتبنون الرؤية الفيورباخية فيزعمون أن النظام الوجودي الذي يحرر من الفوضى الوجودية هو ما يدركه الإنسان من هذا العالم المادي بمعنى أنهم كما قال ابن تيمية يقولون برأي السوفسطائية دون القول بما احترزت فيه واعتبرته من الممكن اللامعلوم. فاحتراز السوفسطائية الذي يلي القول إن الإنسان مقياس كل شيء موجوده ومعدومه هو أن كلامها يتعلق ما هو مـمكن للإنسان .لكن الممكن بإطلاق قد يوجد فيه غير ذلك .وهم إذن أفضل بكثير ممن يقول الإنسان مقياس كل شيء بتوهم نظرية المعرفة والقيمة المطابقة لأنه بذلك يطلق القول برد الوجود إلى ما ندركه منه. وبهذا المعنى فالمشكل كله يرد إلى مفهوم الله أو الرب (في الإسلام هما شيء واحد لان الإسلام يؤمن بكونية الديني أو ما يسميه دين الله الذي هو جوهر كل الأديان والذي لا يوجد شعب لم يتلقه وهو عين فطرة الإنسان الدينية) في الحالتين القرآنية والمشائية قديما والهيجلية حديثا عند حداثيينا .فإذا قسنا الله على الإنسان نقع في أحد حلين: .1إما رفع الإنسان والطبيعة إلى مقام الله وهذا هو مضمون الأفلاطونية والهيجلية. أبو يعرب المرزوقي 5 الأسماء والبيان
-- .2أو حط الله إلى مقام الإنسان والطبيعة وهذا هو مضمون الأرسطية والماركسية. والأول يسميه ابن خلدون حب التأله .والثاني يمكن تسميته بالإخلاد إلى المادية .وهو ما يعني أن الفكر عندنا راوح بين الأفلاطونية والهيجلية إذا حافظ على شيء من الروحانيات وبين الأرسطية والماركسية إذا اعتبر العالم المادي مستغن عنها لأنه يتضمن نظامه فيه ولا يستمده مما يتعالى عليه .فالمحرك الأول لا علاقة له بالمادة (أرسطو) والمادة ليس لها ما يتعالى عليها (ماركس) .وبهذا المعنى فعلم الكلام المسيحي في القرون الوسطى كان محقا عندما اعتبر الرشدية ملحدة لقوله بمفهوم للألوهية لا يختلف عن مفهومها المشائي. لكن النتيجة واحدة سواء رفعنا الإنسان والطبيعة إلى مقام الله أو حططنا مقام الله إلى الإنسان والطبيعة فالأمر في الحالتين يعني القول بالمطابقة في نظرية المعرفة وفي نظرية القيمة والمقياس واحد وهو ما به وقع الرفع أو الحط .إذ في الحالتين تحصل المطابقة .وهذا لعمري يتنافى مع المفهومين. فمفهوم الضرورة الشرطية ومفهوم الحرية الشرطية ليسا متعلقين بالإنسان والطبيعة كلا على حدة بل إن الإنسان يشعر بأنهما حاصلان في كيانه هو ثم في رؤيته للطبيعة التي يتعامل مع ما فيها من ضرورة شرطية بما فيه من حرية شرطية وإلا لما علمها ولما استطاع تغييرها بتغيير عناصر السببية التي تحكمها. فلو كانت السببية مطلقة وغير قابلة للتغيير بتغيير عناصرها لما استطاع الإنسان علمها والعمل بها والتأثير فيها .فعلمها يتأسس على أنه يستطيع الاستقلال عنها لأنه ليس مجرد مرآة عاكسة بل هو يتصور عدة فرضيات حولها وهو ما ينفي كونه مرآة تنعكس عليه انعكاسا ضروريا والعمل بها يتأسس على تغيير عناصرها لتغيير نتائجها وذلك هو معنى الحرية الشرطية. فيكون الثابت في الضرورة الشرطية هو العلاقة الشرطية وهي صورة القانون السببي. فإذا علم الإنسان هذه الصورة استطاع أن يغير مضمونها فيبقي على القانون ويغير فاعلية أبو يعرب المرزوقي 6 الأسماء والبيان
-- المضمون :كمن يغير قيم المتغيرات في العلاقات الرياضية .وما كان يمكن له أن يفعل لو لم يكن هو ذا حرية تمكنه من التعالي على الضرورة لئلا يكون مرآة تنعكس الضرورة على فكره. أبو يعرب المرزوقي 7 الأسماء والبيان
-- وجدنا الآن نظام العقد الذي قد يفهمنا العلاقة بين الضرورة الشروطية والحرية الشرطية وما يتدانى دونهما وما يتعالى فوقهما بوصفهما مقصورتين على علاقة الإنسان بالعالم أي على ما يتدانى دونهما وليستا قابلتين للتطبيق على ما يمكن أن يفترض عقلا ما وراء لهما متعاليا عليهما .فالـمعاني الكلية الذهنية النظرية والمعاني الكلية الذهنية العملية يمثلان نماذج مثالية لما دونهما ولا نعلم طبيعة علاقتهما بما ورائهما. ومعنى ذلك أننا نوجد أمام خمسة عوالم من الوجود مختلفة: .1عالم المعاني الكلية الذهنية النظرية (الرياضيات). .2والمعاني الكلية الذهنية العملية (الاخلاقيات). .3عالم الطبيعة الذي تحكمه قوانين الضرورة الشرطية. .4عالم التاريخ تحكمه سنن الحرية الشرطية. .5وكلها فوقها ما نتصوره مصدرا لها جميعا ومؤسسا لوجودها ولمعلوميتها ولقيمتيها وكلتاهما نسبيتان إلى الإنسان توحيان بوجود ما هو محيط في ما ورائهما .فنكون أمام موقفين: فإذا أطلقنا العالم الذي دونهما وتوهما أن علمنا به مطابق لحقيقته اعتبرناهما محظ خيال لعدم تطابقهما معه. وإذا نسبناه القياس إلى ما وراء نفترضه له ولم نطابقه بعلمنا اعتبرنا عملنا محظ صورة نسبية لا يتحقق فيها التطابق مع العالم الخارجي الذي هو بعض أعيان عالم المثال الذي تمثله الرياضيات بالنسبة إلى الطبيعيات والاخلاقيات بالنسبة إلى التاريخيات .ولما كانا لا يطابقان العالم الخارجي وكنا لا نعلم مصدرهما فإننا نعتبرهما ممثلين لعلاقة أخرى بالعالم الخارجي تثبت لنا نسبية علمنا به دون أن ندعي أن علمنا به محيط .وبذلك تتحدد نظرية المعرفة والقيمة. أبو يعرب المرزوقي 8 الأسماء والبيان
-- من قرأ محاورة التيماوس (أفلاطون) ونظرية الصلح (هيجل) والمقالة الثانية عشرة من الميتافيزيقا (ارسطو) ونظرية المادية الجدلية (ماركس) يدرك أن فكر المسلمين الوسيط كان حبيس فكر أفلاطون وأرسطو وأن فكر المسلمين الحديث بما يه فكر الإسلاميين إذا حاولوا التظاهر بالحداثة كما في استعمالهم للصراع الجدلي تحت مفهوم التدافع الذي لا وجود له في القرآن الكريم بل الموجود ينفيه تماما أو يعتبره موقفا ملحدا لأنه يلغي عالم الدفع المشاركة التي تلغي دور الله فيه صار حبيس فكر هيجل وماركس. ولذلك فهذان الرؤيتان القديمة والحديثة تشملان الفلاسفة والمتكلمين المتصوفة والفقهاء والمفسرين القدامى والمحدثين في ثقافتنا الحالية .واعتقد أن الأمر طبيعي جدا لأنه من العسير التحرر من الرؤى العامية التي تعتبر الفكر مرآة عاكسة لما يسمونه \"الواقع\" حتى وإن هذبت هذه الرؤية العامية بالاحترازين المتعلق بتنقية لغة العلم ومنطقه (وهو أهم عمل قام به أرسطو في كتاب العبارة والمقولات وتطبيق التحليلات الأولى في الثانية). لكن المعرفة والقيمة أعقد مما كان يتخيره الفلاسفة الأول لتحديد علاقة الأشياء في الأعيان بصورها في الأذهان .فقد كان سؤالهم :هل الإنسان يدرك الشبيه بالشبيه أم يدرك بالشبيه بالمختلف .واستقر الرأي على أنه يدرك المثيل بالمثيل وهو أساس القول بنظرية المعرفة والقيمة بمطابقة ما في الأذهان لما في الأعيان ورد الوجود الخارجي إلى إدراكه الإنساني. ولست أنفي وجود مثل هذه المطابقة بين ما يدركه الإنسان وما يناسبه من الوجود بل أنفي أن يكون ما في الأعيان هو ما يبدو للأذهان إذا تصورناه حقيقة ما في الأعيان .فهذه الحقيقة هي المجهولة لأن العلم يبين أن ما نتصوره اليوم حقيقتها نكتشف غدا أنه ما بدا لنا حقيقة وهو صورتنا عنها صورتها الإضافية إلى مرحلة إدراكنا خلال تطوره وتطور أدواته. أبو يعرب المرزوقي 9 الأسماء والبيان
-- ولعل أفضل مثال هو الاعتقاد في التولد الطبيعي قبل استعمال المجاهر التي مكنت الإنسان من رؤية ما يعيد الأشياء إلى نصابها وهو أنه توجد حيوانات مجهرية لا نراها بالعين المجردة .فالمطابقة الوهمية هي التي جعلتنا نتصور قبل ذلك نظرية التولد الطبيعي ونتخلى عنها بعده بما نتصوره مطابقا ثانية. وقد يكون المثال الأكثر مناسبة لعصرنا نظرية الذرة .فقد بدأت بوصفها تمثل آخر أجزاء المادة وغير قابلة للقسمة .وكلنا يعلم أنه لم يعد أحد يعتقد ذلك .وقد نصل إلى لحظة لن يبقى فيها معنى للفرق بين المادي واللامادي .لا أريد أن اتجاوز المعلوم حاليا .ما يعنيني هو أنه ليس ثابتا بل متغير. وهذه الوضعية توجب تغيير نظرية المعرفة ونظرية القيمة والتخلص من القول بالمطابقة دون حاجة للفصل الكنطي بين الظاهر والباطن في الوجود لأن ضمير نظريته هو القول بأن العالم واحد وأن الاختلاف بين ظاهر الشيء فينومان Der Schein-وباطنه نومان أو الشيء في ذاته -Das Ding an sichفي حين أننا نميز على الأقل بين عالمين حقيقيين مختلفين تمام الاختلاف لكن لا أحد منهما دون الثاني حقيقة .فلا الأول ظاهر الثاني ولا الآخر باطن الأول. وقد نعتبر العالمين في علاقة مماثلة للوجود من منظور خالقه أو الله والوجود من منظور خليفة خالقه أو الإنسان .ولا يمكن أن يكون الوجود من منظور الإنسان مطابقا للوجود من منظور الله وإلا لكانت إرادة الإنسان وعلمه وقدرته وحياته ووجود مطابقة لإرادة الله وعلمه وقدرته وحياته ووجوده .وإذن فالوجود فيه على الأقل عالمان وثلاث صور أو -ربما عوالم بعدد المخلوقات -ونحن نهتم بالعالمين من المنظورين الإلهي والإنساني أو من منظور المستخلف ومنظور الخليفة وهو موضوع القرآن: .1عالم الشهادة الذي نعيش فيه بحواسنا. .2عالم الغيب الذي نعيش فيه بوجداننا. .3صورة رياضية مثالية للطبيعي من عالم الشهادة. أبو يعرب المرزوقي 10 الأسماء والبيان
-- .4صورة خلقية مثالية للتاريخي من عالم الشهادة. .5صورة غير محددة الطبيعة نقيسها على الأولى في الخلق على الثانية في الأمر والقرآن يوحي بذلك :فكل كلامه على الله وفعليه خلقا وأمرا يثبت أن الخلق بقدر (رياضي) وأن الأمر بقيم (اخلاقي) وكلاهما بفعل كن عند الفعال لما يريد ولهذه العلة اعتبرت مسعى المدرسة النقدية كان هدفه التخلص من الرؤية اليونانية التي سيطرت على كل علوم الملة الغائية الخمسة (التفسير والفلسفة والكلام والتصوف والفقه) والأداتية الخمسة (اللغة والتاريخ والمنطق والرياضيات ونظرية الرمز) ومحاولة تكوين رؤية بديلة تفهمنا الرؤية القرآنية لكنها عجزت دون ذلك لأنها فم تضع مفهوم المقدرات الذهنية العملية قياسا على النظرية بسبب غياب مفهوم «الحرية الشرطية» الذي لامسته المدرسة الأشعرية بمفهوم الكسب الذي بقي غامضا فلم يساعد على وضع رؤية متكاملة. وما حال دون فهم هذا المشروع العظيم في محاولات الغزالي قبل نكوصه الصوفي والفلسفي وابن تيمية وابن خلدون أمران لا بد من تحديدهما: .1الأول وهو بديهي ومعلوم أعني لغة الفلسفة والعلم التي تستعمل المصطلح الأفلاطوني والأرسطي حتما كما يستعمل حداثيونا اليوم المصطلح الهيجلي والماركسي. .2فهذا المصطلح يوحي كله بأن مستعمليه يعطونه دلالته التي له عندما ينبني على نظرية المعرفة والقيمة المطابقتين أولا .كان الاستعمال الجديد عند الثلاثة خفيا إلى حد أن ما أقوله قد يبدو من خيالي وليس حقيقة في اعمالهم. لذلك أكثر من الشواهد .وقد بدأت في شبابي بالمقابلة غزالي-ابن رشد .فلا أحد يشكك في أن ابن رشد يمثل الإخلاص المطلق لفلسفة أرسطو .وأن تهافت التهافت يثبت أن تهافت الغزالي استهدف أهم مسالة تعني ابن رشد من حيث اخلاصه المطلق لفلسفة أرسطو .ولهذه العلة بدأت بمعركة التهافتين :فهي ما سعيت منذ السبعينات -وأنا شاب-إلى اليوم وقد تجاوزت السبعين إلى حسمها. أبو يعرب المرزوقي 11 الأسماء والبيان
-- ولا أعجب إذ بقي في نفسي شيء منهما إلى أن يأخذ الله أمانته رغم أن تطور المعرفة الإنسانية يبدو قد أنصف الغزالي وابن تيمية وابن خلدون ضد كل علماء الملة سواء كانوا علماء دين أو علماء فلسفة وسواء تعلقت علومهم بعلوم الغاية أو بعلوم الأداة .المدرسة النقدية -العلماء الثلاثة-كانت أقرب إلى الصواب. وما قدمته إلى الآن في هذه المحاولة تمهيد للإشكالية التي هي موضوعها :طبيعة العلاقة بين الضرورة الشرطية والحرية الشرطية منطبقتين على علاقة الإنسان بالعالم وغير قابلتين للانطباق على خالقهما وآمرهما :فالحرية المطلقة التي تتصف بها أفعاله خلقا وأمرا لا تخضع لشروط الحرية ولا لشروط الضرورة .وحتى أوضح ذلك أعود إلى مفهومين: -1الأول هو مفهوم المعاني الكلية في المقدرات الذهنية التي تهم كل علاقات الإنسان بالعالمين الطبيعي والتاريخي وبذاته. .1الثاني هو مفهوم علوم الطبيعية وعلوم التاريخ وكيف تتخلف كليا عن هذه المقدرات الذهنية لأنها فاقدة للأولية والكلية والمحظية والبرهانية. ولما قست المقدرات الذهنية العملية على المقدرات الذهنية النظرية بدا وكأن الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود مماثلة لما نفترضه في تصورنا لمقومات في الذات الإلهية وهي عين شعورنا بما نعتبره مقومات في ذواتنا .وما كنا لنعتبرها مقومات لو لم نكن نقول بنظرية المطابقة المعرفية والقيمية .لكنها في الحقيقة هي تثبت نظرية عدم المطابقة لأننا لا نعلم مقومات ذاتها بل نرمز إليها بهذه المعاين الكلية وهي إذن نظام رمزي نتصور به ذاتنا ونعبر به عنها تطبيقا لنظرية ابن تيمية الذي يعتبر المعاني الكلية مثل اللغة والكتابة رموزا وليست مقومات. وهذه الرموز التي ندرك بها ذاتنا ونتصور أنها مقومة لها لأننا نتوهم أننا نعلم ذاتنا على ما هي عليه للقول بالمطابقة قولا خاطئا :فالإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود رموز وعلامات ندرك بها ذواتها ونعبر عنها بها لكن ذواتنا مقوماتها مجهولة وهي من أبو يعرب المرزوقي 12 الأسماء والبيان
-- الغيب .فهذه كلها لنا منها صورة ولنا عبارة عنها هي هذه المعاني الكلية التي اعتبرها مقدرات ذهنية بها نتصور ذواتنا ونقيمها. لو حاولت مثلا أن أحصي أوجه الهجاء الممكن لوجدت أنها تتعلق إما بنفي حرية الإرادة أو بنفي صدق العلم أو بنفي خيرية القدرة أو بنفي جمال الحياة أو بنفي جلال الوجود أو باستنقاصها في المهجو .والمدح يتمثل في عكسها أي في حرية الإرادة وصدق العلم وخيرية القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود وهي إذن علامات نشير بها إلى الخصال الممدوحة والمهجوة في الشخص بحسب عادات التعبير في تواصل الجماعة حول الأشخاص من خلال علامات العلاقات في الجماعة. وإذن فهي علامات وليست مقومات .ولأنها علامات ظنت مقومات .لكن هذه العلامات لا تعني أننا نعرف بحق حقيقة الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود وخاصة حقيقة حيازة من ننسبها إليه لها .ولذلك فالفقه يحكم بالظاهر والله يتولى السرائر بمعنى أن حقيقتها لا يعلمها إلا الله .انتقلنا إلى عالم آخر. فعلم الكلام الإسلامي يستعمل نفس هذه المعاني الكلية التي هي تقديرات ذهنية بالمعنى التيمي للكلام على الذات الإلهية ويعتبرها صفات ذاتية بمعنى أنها له من حيث ذاته. لكنها رموز لموضوعها في التواصل بين افراد جماعة معينة في ثقافة معينة وليست مقومة لمن يوصف بها أو تنسب إليه .لكنهم يستعملونها للكلام على صفات الله الذاتية وضمنيا هم يقيسون الله على الإنسان الذي يعتبرونه متقوما بها .والأشاعرة أضافوا الإرادة ولم يكتفوا بالعلم والقدرة والحياة والوجود .الإرادة هي رمز الحرية شرط البقية وهي المقصود خاصة بمفهوم الحرية الشرطية أو الكسب. فصرنا أمام إشكالية لم يصرح بها علم الكلام وكان ينبغي أن يفعل :هل ما يطرح حول أفعال العباد في علاقة بالضرورة الشرطية والحرية الشرطية يمكن أن يطرح كذلك حول أفعال الله؟ إضافة الإرادة عند الأشاعرة الأول هي علة ثورتهم على الاعتزال.. أبو يعرب المرزوقي 13 الأسماء والبيان
-- فمن يعرف الذات الإلهية بهذه الرموز التي اعتبرت صفات مقومة قيسا على الإنسان وباحتراز ليس كمثله شيء كما يفعل القرآن يخلط بين كونها رموزا للكلام على الله حتى لو جاءت في نص القرآن -لأن القرآن يخاطبنا بما نفهم -وبين اعتبارها صفات للذات الإلهية. ومن ثم فالمفروض أن يقولوا إنها مقومة حتى لو وصفوها بكونها إذ وجودها الذاتي له لا يختلف عن القول إنها مقومة للذاتي في الذات .والقصد بالذاتية المعنى القديم وليس الحديث-اسنسيال أو جوهرية وليس سيبجاكتيف بمعنى النسبة إلى الذات الإنسانية العارفة .وكونها ذاتية لا ينفي أنها \"زائدة\" على الذات التي هي ذاتها. فعنى \"ذات الصفات\" هو صاحبتها لأن \"ذات كذا\" ليس إلا مؤنث \"ذو كذا\" .فتكون ذات الله غير صفاته المقومة أو تكون ذاته مقومة بمتعدد فيكون إلها غير واحد ولا صمد .وما أن نعتبر المعاني التي نعبر بها عن الله أو عن أي شيء مقومات وليست رموزا كما يقول ابن تيمية تماما كالألفاظ والكتابة .ففي تلك الحالة لا فرق بين التشبيهي والتنزيهي: كلاهما لا يمكن أن يتصور المعاني الكلية إلا مقومة للموصوف بها. لكن اعتبارها رموزا اختيرت للتعبير عما يمكن أن نتصور به ليس ذاته ولا صفاته بل \"رموز أفعاله\" التي تتجلى لنا آياتها في الآفاق والأنفس فذلك هو عين ما يقوله القرآن الذي يخاطبنا بما نفهم وينبهنا إلى أن الشيء في ذاته لا يرد إلى الرموز التي لا نستطيع تصوره بدونها مثل أسمائه لندعوه بها (الاعراف )80ويسمع بأن ندعوه بأي منها (الشورى.)110 وما نراه ليس أفعاله بل هو آياتها -وهي رموز ترمز إلى أفعاله-التي تتجلى في ثمراتها في الآفاق وفي الأنفس أي ما دعانا للبحث فيه لتبين حقيقة القرآن وهي ما يرينه من آياته المتجلية في الآفاق وفي الأنفس .فيكون نظام العالم الطبيعي والعالم التاريخي ونظام كيان الإنسان كلها أمثلة مما يمكن أن ننسبه إلى ثمرات أفعاله من قوانين وسنن وحكمة :وظيفة المعادلة الوجودية. أبو يعرب المرزوقي 14 الأسماء والبيان
-- ورغم قولي إن المتكلمين لم يثيروا صراحة اشكالية أفعال الله -كما أثاروا اشكالية أفعال العباد-فإنهم في الحقيقة أثاروها ضمنا بمجرد أن أثاروا إشكالية أفعال العباد بين بين الجبر والاختيار واشكالية الخلق في علاقة بالسببية أو بلغتنا هنا بين الضرورة الشرطية والحرية الشرطية .فالذين تكلموا على الحرية الإنسانية المطلقة لا يمكن أن يجهلوا أن بذلك يتجاهلون معطيين إذ تجاوزوا حدين: .1تصوروا الإنسان فوق قوانين الطبيعة بمعنى نسبة الحرية المطلقة له باستغنائه عن ضرورتها. .2ويترتب على ذلك تأليه الإنسان وهو معنى اتهامهم من السنة بمشاركة الإنسان في هذه الخاصية الإلهية إذ اعتبروه خالقا لأفعاله ويلزم عن ذلك أنه فوق حرية خالقها في آن. ومن ثم فلا يمكن حل القضية الخاصة بالإنسان والمتعلقة بالإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود إذا اعتبرناها مقومات وقلنا بنظرية المطابقة المعرفية والقيمية أبدا .كان لا بد إذن من اعتبار المعاني الكلية مقدرات ذهنية رامزة لحقائق هي مطلوب البحث لكن علمها المحيط مستحيل على الإنسان. وهذا الامتناع لا ينفي أن ما نعلمه حقيقي وليس مظاهر .فالحقيقة الإنسانية متناسبة مع ما كلف به أي مهمتيه معمرا للأرض ومستخلفا فيها .والاستخلاف يحدد القيم والتعمير يحدد المعرفة .وكلتاهما -المعرفة والقيمة-غير مطابقة لما عليه الأشياء في ذاتها التي لا يعلمها إلا صاحب العلم المحيط ألله سبحانه جل وعلا. وإذن فالإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود من حيث هي كلها مطلقة ولا متناهية ولا محدودة ولا معلومة على ما هي عليه هي صفات أفعال الله .وهي كلها مقدرات ذهنية عـملية لا يمكن للعمل الإنساني تعميرا واستخلافا أن يستغني عنها ولا عن المقدرات الذهنية النظرية التي هي أداة أداتها :فالعلم أداة والقيمة غاية. أبو يعرب المرزوقي 15 الأسماء والبيان
-- فكون الإنسان خليفة يعني أن مستخلفه أعطاه ما يجعله قادرا على ما كلفه به من حيث هو مستعمر في الأرض ومستخلف فيها .وهذا لست أنا الذي أقوله ولا أحتاج لتأويل لقوله. فهو كل حبكة القرآن من مشهد الاستخلاف إلى الفرصة الثانية التي أعطيت لآدم وحواء بعد العصيان إلى كل تاريخ التحريف في تاريخ الإنسانية حيث يتلازم تاريخ الأديان وتاريخ الإنسان في فلسفتين متلازمتين فلسفة الدين وفلسفة التاريخ كما بينت في شرح الرموز الواردة في سورة هود وعلة ما قاله الرسول فيها وفي أخواتها. واستعراض القرآن لهذا التاريخ هو في آن تاريخ الرسالات وكيف حرفت في التاريخ ما يعطينا فلسفة الدين وفلسفة التاريخ بداية مـما فطر عليه الإنسان وفرصتاه في الجنة وبعد الاخراج منها وغاية هي التذكير النهائي بذلك وبشروط تحقيق المهمتين اي التعمير بالعلم والعمل على علم بقيم الاستخلاف. فتكون قيم الاستخلاف ليست شيئا آخر غير :الإرادة الحرة والعلم الصادق والقدرة الخيرة والحياة الجميل والوجود الجليل .وعكسها هو قيم التخلي عن الاستخلاف .وبهذا المعنى عرف ابن خلدون الإنسان بأنه \"رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\". وهذه القيم الخمسة هي اساس استراتيجية القرآن لتوحيد البشرية بسياسة التربية المتحررة من الوسيط بين الإنسان وربه والحكم المتحرر من الوصاية بين الإنسان وأمره. وبذلك يتبين أن النموذج النظري الذي وضعته وسميته المعادلة الوجودية هو في آن نموذج صورتنا الرامزة إلى الإنسان وإلى الوجود كله من حيث علاقة الإنسان به وعلاقته بما ورائه كما يعرضها القرآن وهي كذلك بنية القرآن نفسه :قلبها علاقة الإنسان المباشرة بالله وغير المباشرة معه من خلال علاقته بما يحيط بهذه العلاقة يمنة (العالم الطبيعي وما بعده) ويسرة (العالم التاريخي وما بعده). فعلى يمين العلاقة المباشرة نجد علاقة الإنسان بالطبيعة وما بعدها أو بعلاقتها بالله. وعلى يسارها نجد علاقة الإنسان بالتاريخ وما بعده أو بعلاقته بالله .فيلتقي مرة ثانية أبو يعرب المرزوقي 16 الأسماء والبيان
-- علاقة الله وعلاقة الإنسان بالعالمين بما بينهما من علاقة مـباشرة تتكرر مرة ثانية إذا أغلقنا الدائرة في المعادلة. لن أطيل الكلام في المعادلة الوجودية فقد خصصت لها عدة محاولات .ما يعنينا في هذه المحاولة هو علاقة الضرورة الشرطية بالحرية الشرطية اللتين تمثلان جناحي العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه وكيف تمكن الإسلام من تعريف دورهما التحريري من خلال تحريرهما من الوساطة الروحية في التربية والوصاية المادية في الحكم. فالوساطة تزيل العلاقة المباشرة بين الله والإنسان .والوصاية تزيل العلاقة المباشرة بين الإنسان والجناحين أي مجال التعمير ومجال الخلافة .فيفقد الإنسان قدرة التعمير بفعل استبداد الوساطة (التربية) ويفقد إرادة الاستخلاف بسبب استبداد الوصاية (الحكم) :الغاشية :22-21إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر. فإذا كان الرسول ليس إلا مذكرا فمعنى ذلك أنه ليس وسيطا ورحيا ذا صلة مباشرة مع الله تكون مشروطة في صلة الإنسان بربه بل كل إنسان له هذه العلاقة والرسول يذكره بما نسيه ولا يعمله شيئا لا يعلمه لكونه ما يذكره به مرسوم في كيانه من حيث هو مكلف بالتعمير وشرطه أن يكون مجهزا للنظر والعقد بذاته. وللتيسير فنحن أمام تعليم سقراطي وحكم شوري .التربية تذكير وليست وساطة روحية وهي المرحلة الأولى من تحرير الإنسان مما يفقده شرط كونه رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له .والمرحلة الثانية هي تحريره من استبداد الحكم الذي أصبح أمر الجماعة وليس سيطرة شخص لئلا تفقد رئاستها بالطبع والخلافة .ومن يعرف تاريخ الرسالة وقرأ الغاشية 22-21يعلم معنى أن الرسول نفسه ليس إلا مذكرا في التربية وليس مسيطرا في الحكم: .1أن رمز التربية التحريرية التي ليس فيها سلطة روحية وسيطة هي المرحلة المكية. .2وأن رمز الحكم التحريري الذي ليس فيه سلطة سياسية وصية هي المرحلة المدنية. أبو يعرب المرزوقي 17 الأسماء والبيان
-- ومن يدعون وراثته من العلماء والأمراء أعادوهما حتى وإن لم تعلن السنة ذلك صراحة كما أعلنته الشيعة .وما فطر الإنسان عليه مضاعف .فالتعمير يقتضي تجهيزه بشروط النظر والعقد أي القدرة على إبداع المعاني الكلية الذهنية النظرية أداة لوضع قوانين الطبيعة وتطبيقها .والاستخلاف يقتضي تجهيزه بشروط العمل والشرع أي القدرة على إبداع المعاني الكلية الذهنية العملية لأداة لوضع سنن التاريخ وتطبيقها. لا يوجد عاقل سواء كان مسلما أو غير مسلم أحب المسلمين أو كرهم لا يمكن إذا قرأ القرآن بأمانة العلم وشروطه يمكن أن ينفي شيئا مما ذكرت بوصفه سدى القرآن ولحمته أو أن يدعي أني أثبت ذلك بطريقتي علم الكلام الزائفتين: .1خرافة قيس الشاهد على الغائب. .2وخرافة التأويل لرد النقلي إلى العقلي. ولست بحاجة للتذكير أن ابن خلدون يعتبر التربية والحكم العنيفين مفسدين لمعاني الإنسانية أي يحولان دون الإنسان وأن يبقى \"رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" لأن الأولى تجعل الوسيط والثاني الوصي هو الرئيس بدلا منه ويصبح هو عبدا له بسبب الوساطة والوصاية :تلكما هما ثورتا الإسلام. وهما الثورتان اللتان ألغتهما علوم الملة الغائية الخمسة :التفسير وفروعه الفلسفية والكلامية والصوفية والفقهية بمنهجي قياس الشاهد على الغائب ورد المنقول إلى المعقول بالتأويل .وطبعا فالغائب هنا ليس ما ليس حاضرا بل هو الغيب الذي نعلم أنه حاضر لكنه ليس معلوما بالجوهر لأن شرطه الإحاطة. وقد بينت أنه لا يوجد معقول من دون منقول :فالمعقول في كل معرفة هو شكلها لا مضمونها الذي هو منقول حتى في الفيزياء لأنه ذلك هو معنى التجربة وتلك هي علة قول ابن تيمية بأن القياس لا يكفي لعلم الموضوعات الخارجية بل لا بد من مضمون منقول مستمد من التجربة الخبرة بها والتجريب عليها. أبو يعرب المرزوقي 18 الأسماء والبيان
-- وأخيرا فلا يوجد منقول ليس معقولا لأن المعقولية هي شكله وليست مضمونه .ومضمونه ليس الغيب ولا حتى دعوى الإحاطة بالشاهد .فكل أدلة القرآن مستمدة من قوانين الطبيعة أو من سنن التاريخ .والرسول ينفي عن نفسه العلم بالغيب .والتذكير يعني أن من يذكره الرسول نسي ما يذكره به وتعليمه إذن ليس تعليمه ما يجهل بل تذكيره بما يعلم. أبو يعرب المرزوقي 19 الأسماء والبيان
-- ها قد تخلصت من الطريقتين الكلاميتين ولكن مباشرة لأن ذلك مستحيل ما ظللنا نقول بالمطابقة في نظرية المعرفة ونظرية القيمة .وشرط ذلك الاعتماد على الاساس الذي يجعل التحرر من المطابقة مبينا على نظرية في المعاني الكلية تنفي عنها كونها مقومة للأشياء وتثبت أنها رموز. ومن ثم فقد وجدنا الطريق الذي تمكن من تجاوز التيمية إلى تيمية محدثة ببيان أنها قادرة على تحقيق غايتها أي بيان أنه لا يمكن أن يتعارض ما كان يسمى نقليا وما كان يسمى عقليا وذلك بطريقتين أصبحتا ممكنتين بفضل ثورته: .1فأولا ببيان أن العقلي لابد له من مضمون إذا كان علما للموجودات الخارجية وأنه لا يمكن أن يدعي العلم المحيط فضلا عن العلم الأولي والكلي وا لمحض والبرهاني .وهو حينئذ ذو مضمون نقلي بمعنى أنه منقول عن موضوعه ولو فرضيا .وهو معنى المعاني الكلية التي صارت عنده رموزا للإشارة إليه لا مقومات. .2وثانيا لأن النقلي الصحيح لابد له من نفس المعاني الكلية التي هي رموز للإشارة اليه لا مقومات له وعند انطباقه على الوجود الخارجي يكون في نفس الوضعية أي أنه ليس أوليا ولا كليا ولا محضا ولا برهانيا. والعقلي الأول المتعلق بالمقدرات الذهنية النظرية يصلح في صوغ قوانين الطبيعة. والعقلي المتعلق بالمقدرات الذهنية العملية -وهو إضافتي-يصلح في صوغ سنن التاريخ. وهما كلاهما معاني كلية مقدرة ذهنيا ليس لها مثيل في الوجود الخارجي .لكنها شرط علمه لأنه لغة الترميز لمضمونه ولشكله أو للمقول فيه ولقول المقول فيه .ولغة الترميز هذه هي الرياضيات شرط الطبيعيات في الأول وهي الاخلاقيات شرط التاريخيات في الثاني. والخلاف يدور حول الثاني لا حول الأول علما وأني وضعت الثاني قياسا على الأول .ولا أحد يشكك في أن الطبيعيات مستحيلة من دون الرياضيات مطبقة على المضمون التجريبي سواء كان فرضيا أو امبيريقريا .لكن الكثير يعتبر قيس ما كان يسمى نقليات في علاقتها أبو يعرب المرزوقي 20 الأسماء والبيان
-- بـالمضمون التاريخي سواء كان فرضيا أو امبيريقيا هو ما لم يدر بخلدهم لأنهم يتصورون النقليات من الخيال لكن الأخلاقيات مطبقة على التاريخيات تشبه الرياضيات مطبقة على الطبيعيات من حيث وظيفة الصوغ المعرفي والتوصيف القيمي. وهنا لا بد من إشارة إلى إشكالية طرحت خلال محاولات الفكر الغربي في نهايات القرن التاسع عشر وهي إشكالية حياد المعرفة العلمية القيمي .لكني اعتقد أن الحياد القيمي لا ينفي أن القيم يمكن أن تعلم بحياد قيمي .وفي ذلك خلط بين العلم الذي من الضروري أن يتحرر قدر المستطاع من التقييم والموضوع الذي يمكن أن يكون التقييم نفسه. فعلم القيم يمكن أن يكون محايدا إذا كان كلاما على قوانين القيم عامة وليس تطبيقا للقوانين على تقييم الحالات الخاصة فيكون استعمال العلم هو القيمي وليس تحصيل العلم. وفي حالة الاستعمال لا يمكن لأي علم أن يكون محايدا. بوسعنا إذن أن نمر إلى الكلام في العلاقة بين الضرورة الشرطية في النظريات وتطبيقاتها الطبيعية والـحرية الشرطية في العمليات تطبيقاتها التاريخية بعد اثبات أمرين: .1كلتاهما لا تنطبق على • ما وراء الطبيعة وعلى: • ما وراء التاريخ رغم أنهما ليسا صادرتين عن تجربة العالم المحسوس ولا نعلم لهما مصدرا غير ما للإنسان من قدرة على الترميز. .2وانطباقهما على الطبيعة وعلى التاريخ بحاجة إلى تجربة العالم المحسوس الطبيعي والتاريخي وهو ما يفقدهما الأولية والكلية والمحظية والبرهانية فيجعل العلوم الحاصلة من تطبيقهما علوما غير أولية وغير كلية وغير محضة وغير برهانية. أما علاقة الإنسان بهما وبتطبيقاتهما ولما كانت ممكنة أولا وعلى هذا النحو ثانيا فأمور نعيشها ولا نستطيع لها تفسيرا .ويمكن للمؤمن بوجود الله أن يعتبر ذلك من فضل خلقه للإنسان بهذه المميزات التي تجعله قادرا على الترميز وهو شرط هذه العلوم الأربعة .فإن ما نفترضه من دور الله فيهما من المعاني المقدرة ذهنيا. أبو يعرب المرزوقي 21 الأسماء والبيان
-- ومع ذلك ورغمه فإن القرآن يقول إن كل خلق كان بقدر وأن الخلق كان بأمر \"كن فيكون\" .لكن لا نجد في القرآن ولا يستطيع العقل الزعم بأن الخلق لم يكن بالوسع أن يكون على غير ما هو عليه بل القرآن يؤكد أن الله يمكن أن يبدل المخلوقات بأفضل منها. ومن ثم ممكن أن يكون الوجود محتويا على ما لا يتناهى من الممكنات ولا نستطيع أن ندعي اختيار الخالق للحاصل من الممكن كان مشروط بالمقابلة ضرورة حرية مثل ما يحصل في أفعال الإنسان. لكن أفعال الإنسان كلها مشروطة بهما .فمنها ما هو خاضع للضرورة الشرطية لأنه مما في الإنسان من طبيعي ومنها ما هو خاضع للحرية الشرطية لأنه مما فيه من روحي أو من وعي بما فيه من طبيعي .فكيانه مضاعف وخضوعه مضاعف بعضه طبيعي وبعضه عودة على الطبيعي .وقد يكون الرمز لذلك ناتجا عن علاقة البدني بـالوعي به. وإذا كنا لا نستطيع أن نعتبر الله أو الخالق والآمر خاضعا للضرورة الشرطية (كعلة طبيعية) أو للحرية الشرطية (كعلة روحية) فإننا لا نستطيع كذلك أن نزعم أن له بدنا أو روحا إلا إذا اعتبرنا الكلام عليه في القرآن بما يفهمه الإنسان يعني أن الله مثل الإنسان فنسينا أنه يقول ليس كمثله شيء :فهو يتكلم على نفسه وكأن له ما عندنا حتى الجوارح. لكن ذلك كله كما شرحته في كلامي على الترميز اللساني من جنس «يقدم رجلا ويؤخر أخرى» بمعنى الرسم الذي يفيد التردد أو ما يسميه الجرجاني معنى المعنى .وهو ما يؤيد نظرية ابن تيمية لأن المعنى الأول رمز والمعنى الثاني رمز فيكون الكلام مؤلفا من رمز هو رسم حركة تقديم رجل وتأخير أخرى لرمز هو المعنى الكلي للتردد. وقد بينت أنه حتى كلامنا على العالم الشاهد هذا الذي نعيش فيه فإن حقيقة ما ندركه بحواسنا ليست صورته التي ندركها بحواسنا بدليل أنه يمكن أن يترجم حتى فينا إلى شيء كيمياوي فكهربائي في العصابين الناقلة للصورة البصرية مثلا ثم نراها كما ندركها حسيا فضلا عنها منتقلة في موجات البث. أبو يعرب المرزوقي 22 الأسماء والبيان
-- فما الشيء في ذاته إذا تصورناه واحدا في هذا الصور المتوالية عليه خارج العين ثم في العين كصورة ثم في العصب البصري ثم في خلايا البصر وعصابينها كيمياويا وكهربائيا إلى أن يستعيد الفكر الصورة التي رأتها العين ثم في البث التلفزي من تونس إلى آخر مكان في الأرض أو في العالم .ما \"الشيء\" الواحد في صور مختلفة متوالية جيئة وذهابا. فإذا كان علمنا بأتفه ظاهرات العالم الشاهد بهذه الهشاشة وعدم الدقة في معرفة حقيقة الاشياء بل نكتفي بصورة ما في لحظة من لحظات مسار الشيء ونعتبرها ممثلة له أو رامزة دون أن ندرك بصورة ثابتة مقوماته فمعنى ذلك أن علمنا هو كما وصفه ابن تيمية منظومات رامزة للقول ومرموزها هو بدوره رمز. وإذن فعلمنا لا يتجاوز كوننا نفترض للأشياء لغة تعبر بها في ظهورها لإدراكنا هي ما ننتخب منه ما نجعله رمزا لها ثم نترجم منظومة لهذه الرموز بلغة الرياضيات فتكون الرموز نوعين :منظومة أعراض كافية لتمييز الأشياء في عالم متماسك بما بين عناصره من علاقات ثم نترجمها بمنظومة لغة تعبر عن تلك المنظومة بمنظومة رمز تقولها. فما الشاهد الذي سنقيس عليه الغائب والشاهد هو بدوره غائب بل وما فيه من غيب أكثر مما فيه من شاهد سواء كان حاضرا أو غائبا .وقد نقبل أن تكون وجوه الشبه بين الأشياء مناسبة للتعميم والمقارنات الفرضيين في مسارب البحث العلمي .وقد توحي لنا بوحدة الأشياء في صفات مقومة متماثلة لتماثل رموزها. وهذا السلوك المنهجي في البحث يجعل مقارنة العبارات المجردة في الرياضيات منطلقا لتعميمات تصيب أحيانا فتمكن من اكتشاف وجوه شبه في الأعراض الممثلة على الأقل في حدود ما عليه العلم بتلك الأشياء إلى أن تتجود المعرفة فندرك أن الفروق لعلها أهم من التشابه رغم أن تماثل رموز الأشياء مهم في الكشف بالتعميم في حدود معينة. ولست ممن يعترض على هذه الطريقة بالكلية بل اعترض على تطبيقها على ما وراء الطبيعة وعلى ما وراء التاريخ وحتى على الطبيعة والتاريخ بصورة نسقية ودون احتراز لأن الفروق التي قد تهمل يمكن أن تكون أحينا أكثر دلالة من وجوه الشبه التي تعتبر. أبو يعرب المرزوقي 23 الأسماء والبيان
-- لكن ما وراء الطبيعة وما وراء التاريخ مستحيلان لأنهما يفترضان أن الخالق أو من يقوم مقامه حتى لو افترضنا أنه الصدفة واللاعقل فتكون دعوى خضوعهما للضرورة الشرطية أو للحرية الشرطية مثل الطبيعة والتاريخ منافية لفرضنا .ذلك أن الصدفة واللاعقل أكثر انغلاقا على الفهم من النظام والعقل .فلا يمكن قيس صدفة على أخرى ولا عقل على لا عقل. ذلك أن كل قيس يعني مقايسة بين طرفيها لأن شرط إمكان القيس هو التقايس بين المقيسات .ومن ثم ففيها مشاركة والمشاركة هي اشتراك في قانون ما حتى لو اقترت على مقايسة بين شيئين فحسب أو حتى بين لحظتين من \"نفس الشيء\" لأن ذلك يعني لحظة نظام ولها بالضرورة قانون .وعدم القيس في حالتنا هذه علته ليس نفي وجود القانون أو اثباته بل في نفي علامتهما. وعلامتهما وجودا وعدما هي المقايسة .فعندما يقول القرآن \"ليس كمثله شيء\" فإنه ينفي المقايسة بنفي التقايس لكنه لا ينفي وجود قانون من طبيعة مختلفة غير قابلة للمقايسة مع قانون عالم الشهادة بمقياس الإنسان .فيمكن أن تعدد العقول والأنظمة لكن لا يمكن أن تشترك اللاعقول والصدف في شيء يجعلها ذات نظام .فلا يمكن انسانيا فهم أن يـخلق شيء بـ «أمر كن» .ولكن اعتبار ذلك معنى مقدر ذهنيا لإيجاد الطبيعي والتاريخي ممكن. فلا يمكن أن أتصور الطبيعي ولا التاريخي علة نفسه فيكون معلولا بضرورة الطبيعة الشرطية أو بحرية التاريخ الشرطية إذ معناه أن الشيء في الحالتين يكون موجودا ليوجد نفسه-كاوزا سوي-أو يكون معدوما أوجد موجودا .وكلاهما لا يفهمه الإنسان .لكن العقل يعلل ذلك بكائن له القدرة على ترميز مخمس الفروع كائن له فاعلية \"كن\". ولا بد هنا من تعريجة في الاصطلاح الفلسفي .فالوصلة الوجودية الموجودة في اللغات الأوروبية يبدو ألا مثيل لها في العربية .وقد اختار فلاسفة العرب ترجمتها إما بـ\"موجود\" أبو يعرب المرزوقي 24 الأسماء والبيان
-- بين الموضوع والمحمول في القضية أو بـ\"هو\" بينهما .وهذا حسب رأيي خطأ علته التخلي عن \"كان\" لجمعها بين دلاتين على الزمان وعلى الدهر أو السرمدية. فإذا استعملنا كان في كلامنا على الله أفادت الدهر والسرمدية .وإذا استعملناها في كلامنا على الأنسان أفادت الزمانية .لكنها حتى على الأنسان إذا دققنا النظر فإنها تفيد الأمرين معا بمعنى أنها تفيد سرمدية الثبوت الوجودي وليس الدوام الزماني .فعندما أقول كان الإنسان مائتا أفيد الثبوت الوجودي لا الدوام الزماني وافترض :ومعنى ذلك أن الإنسان من حيث هو إنسان مائت منزلة وجودية بالقياس إلى القيومية. فإذن تصبح \"كان الإنسان ميتا\" بمعنى أنه من حيث كيانه الوجودي مائت حتما .وهو فعلا من حيث الوجود كائن مائت ولا دخل للزمان في ذلك وهي إذن من ثوابته الوجودية سرمديا أي إنه لا يمكن تصور الإنسان من دون تصوره مائتا حتما .أما عندما أتكلم على الله فهل يمكنني أن استعمل كان بالمعنيين في آن؟ لا يمكن لأن الاستعمال حينها يفيد وصلة وجودية متحررة من الزمانية .وحينها يمكن استعمال كان للدلالة على الوصلة الوجودية بين الموضوع والمحمول بالدلالة الوجودية في الفلسفة اليونانية. ولأفترض الآن جملة يكون فيها استعمال \"كان\" مؤديا لوظيفة الوصلة الوجودية في اللغات الأوروبية فأقول \"كان زيد مريضا\" .ما نلاحظه أمران: .1نفي الفعلية فنقول هي شبه فعل في حين أنها أكثر حتى من الفعل لأن لها خاصية الفعل التي هي الزمانية مع خاصية إضافية هي الوصل الوجودي بين الموضوع والمحمول. وهو معنى أثرى من الوصلة الوجودية اللامتزمنة .لأن التزمن في الوجود ليس خاصية عرضية إذ حتى الله يقول عن نفسه ما يفيد تبدل الشأن. .2ولكان إضافة ثانية بعد الزمان والوصلة الوجودية هي تعيين حيز الوجود لأن المكان مصدر ميمي من كان .فتكون كان العربية أهم من \"موجود\" ومن \"هو\" اللتين اختارهما أبو يعرب المرزوقي 25 الأسماء والبيان
-- فلاسفة العرب لتجرمة الوصلة الوجودية بين الموضوع والمحمول .وهي التي تعنيني في البحث الذي يثبت الرؤية التيمية للمعاني الكلية. ومن ثم فإن \"كان\" تؤدي وظيفة ما يمكن أن يؤسس للمعاني الكلية بمعنييها من حيث هي مقدرات ذهنية نظرية للطبيعيات ومقدرات ذهنية عملية للتاريخيات وهي جامعة النوعين لفهم: .1الإنسانيات التي هي أصل متفرع إلى أربعة مستويات. .2طبيعي. .3التاريخي. .4فعل الطبيعي في التاريخي كثقافة .5فعل التاريخي في الطبيعي وبذلك نستطيع تحديد علاقة الضرورة الشرطية بالحرية الشرطية أي علاقة الطبيعة بالتاريخ وتفاعلهما في الإتجاهين فيصبح التكامل بين نوعي المعاني الكلية التي هي تقديرات ذهنية حلا يمكن من استئناف الفكر الفلسفي على أسس جديدة أهم ما فيها هو اثبات وحدة الديني في الأديان والفلسفي في الفلسفات بوصفه ما يجعل الإنسان قادرا على إبداع هذين النوعين من المقدرات الذهنية أداتين رمزيتين لتأسيس علوم الطبيعة والتاريخ للتعمير ماديا والاستخلاف روحيا. أبو يعرب المرزوقي 26 الأسماء والبيان
-- وصلنا أخيرا إلى ترجمة العلاقة بين الضرورة الشرطية والحرية الشرطية ترجمة تمكن من فهم ما سمتيه \"استراتيجية القرآنية التوحيدية ومنطق السياسة المحمدية\" محاولة لتفسير القرآن الكريم تفسيرا فلسفيا يطابق رؤية لا تقول بالمطابقين المعرفية والقيمية. فالقرآن ليس كتابا دينيا مثل الكتب الأخرى سواء كانت الأديان طبيعية أو منزلة. فهو كتاب يمكن اعتباره متضمنا الدليل القاطع على وحدة الديني في الأديان والفلسفي في الفلسفات كاستراتيجية رؤية لا تتحقق إلا بوصفها سياسية كونية للتعمير والاستخلاف عن طريق التربية التي لا وساطة فيها (التحرر من الكنسية) والحكم الذي لا وصاية فيه (التحرر من الحكم بالحق الإلهي) .وهذه الاستراتيجية السياسية الكونية لها هدفان: .1تعيين شروط تعمير الأرض بالعلم المبدع للأدوات وتطبيقه :النظر والعقد .2وتعيين شروط الاستخلاف بالعمل المبدع للغايات وتطبيقه :العمل والشرع. والجمع بينهما ليس مجرد حياة إنسانية عادية بل هو اختبار لأهلية الإنسان من حيث هو \"رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" بصورة كونية .فـما معنى بصورة كونية؟ إنه تحرير الإنسانية من حدود المكان لإزالة علل التنازع على ثرواته وتحريره من حدود الزمان لإزالة علل التنازع على تراثه. ومن ثم يصبح توحيد المرجعيات التي كانت علة تفرق الجماعات في المكان بسبب الثروة وفي الزمان بسبب التراث لتحريرها من التعارض مع وحدة الإنسانية والتمايز بين البشر بالعرق واللون والطبقة والجنس (نفي الأخوة الواردة في النساء )1وعلى التعارف بينهم (المساواة الواردة في الحجرات .)13 وبهذا المعنى فالقرآن استراتيجية سياسية بفرعي السياسة أي بالتربية والحكم اللذين يسعيان لتوحيد مكان البشرية وزمانها والمشترك في مرجعيات ومن ثم فالدولة التي يهدف الإسلام إلى تحقيقها دولة كونية تشمل المكان كله والزمان كله في اختبار التعمير بقيم أبو يعرب المرزوقي 27 الأسماء والبيان
-- الاستخلاف .وهذا الاختبار قد يتحول إلى تدمير إذا لم يحقق قيم الاستخلاف فيتحول التاريخ الإنساني إلى حرب أهلية كونية دائمة .وإذن فالإسلام يخير البشرية بين عولمتين: .1عولمة الحرب الأهلية التي تدور حول ثروات الجغرافيا وتراث التاريخ وبمرجعات تتأسس على التمييز بين البشر بالعرق واللون والطبقة والجنس. .2وعولمة الأخوة البشرية بمبدأي النساء ( 1من نفس واحدة) والحجرات ( 13بالتعارف معرفة ومعروفا). فتصبح سياسة التربية والحكم ساعية إلى تحقيق شروط هذين المبدأين-الأخوة والمساواة -في الفرد والجماعة تكوينا وتنظيما لعلاقات البشر بينهم ومع العالم .ومن دون هذا الفهم لا يمكن أن نفهم كيف يكون القرآن رسالة خاتمة تعتبر كل أمة لها رسالة بلسانها- كونية الوحي ووحدته-وتعتبر هذا التعدد يمثل إيقاع تاريخ الإنسانية بحيث إن فلسفة التاريخ هي عينها فلسفة الدين أو نظام معان كلية كونية تؤسس النظر والعقد للتعمير والعمل والشرع للاستخلاف عالميا. ولا بد هنا من إشارة إلى معنى الختم :فهو ختم تبين الرشد من الغي الذي كان مساره التوالج بين فلسفة الدين وفلسفة السياسة التي هي التعمير بقيم الاستخلاف أو التدمير بما يناقضها والتي يمكن اعتبار القرآن فلسفة في الدين وفي التاريخ من هذين الوجهين. وهذه الحقيقة إذا علمت في غايتها لم يبق حاجة لرسل آخرين يذكرون بها بعد أن اكتملت إذ إن ذلك هو مضمون الرسالة الخاتمة. وتلك هي العلة العميقة لحرب أصحاب العولمة التي ترى التاريخ حربا أهلية كونية بين البشر على أصحاب العولمة التي ترى التاريخ سعيا لتحقيق الأخوة البشرية على أساس الأصل الواحد والرسالة الواحدة والمساواة في المنزلة الوجودية :وهذا المعنى الثاني واحد في الديني وفي الفلسفي .والمقدمة ليست إلا درسا علميا لشروط وإيقاع تحققها \"العمران البشري (التعمير) والاجتماع الإنساني (الاستخلاف)\". أبو يعرب المرزوقي 28 الأسماء والبيان
-- ومعنى ذلك أن الإسلام ليس مستهدفا لأنه أحد الأديان بل لأنه الديني في ما ينبغي أن يكون عليه الدين ولا لأنه إحدى الفلسفات بل لأنه الفلسفي في ما ينبغي أن يكون عليه الفلسفي أي إنه نظام المقدرات الذهنية العملية التي تقتضي أن تتضمن شرطا لتحققها نظام المقدرات الذهنية النظرية من دون تحديد مضمون عيني هو أعيان انطباقه على الآفاق ولأنفس (فصلت )53وبذلك نتبين حقيقة القرآن لما نرى بالتجربة أن ما يشير إليه ليبشر الإنسان بثمرات تحقيق شروط التعمير بقيم الاستخلاف وما ينذر منه أي وخيم السعي إلى تعمير من دونها فيكون تدميرا لا تعميرا يتحققان فعلا فيهما. وإذن فأعيان انطباقه التي تبين حقيقته هي أعيان الآفاق والأنفس التي وظيفة الإنسان من حيث هو معمر ومستخلف أن يطلب علمها والعمل بها وفيها بفضل ما لديه من معان كلية مقدرة ذهنيا هي ما جهز لأبداعه حتي يستطيع تعمير العالم بترجمة ما يفترضه للطبيعة من قوانين وللتاريخ من سنن يراها في ما يريه الله إياه من آياته فيها :والتجهيز هو النظر والعقد للعلم بالضرورة الشرطية في الطبائع والعمل والشرع للعمل الحرية الشرطية في الشرائع. ولما كان القرآن يضع أن ذلك يجري في المكان كله وفي الزمان كله بشرطي الأخوة الإنسانية (النساء )1والمساواة بين البشر (الحجرات )13فهو إذن مستهدف من كل عولمة تتصور البشر أعداء وغير متساويين فتكون عولمته هي العدو بالنسبة إلى أصحابها .ومن ثم فلا يمكن أن يكون ما يجري حاليا من حرب نسقية على الإسلام أمرا يحصل بالصدفة. وأولى علامات أنه الديني في ما ينبغي أن يكون عليه الدين أنه حرر البشرية على مستوى الرؤية من القول بأن علاقة الرب بالإنسان خاصة بشعب دون شعب بل قال إن كل أمة لها رسول بلسانها و أن الدين الخاتم هو الذي ينطلق من الديني فيها جميعا ليذكر بكونية الديني فيها بمنهج التصديق والهيمنة ويترك حسم ما بينها من خلافات إلى يوم الدين (البقرة 62والمائدة 69والحج )17حتى يضمن التعايش بين أصحابها وحتى يمكن من التسابق في الخيرات وحتى يكون اختيار الدين حرية شخصية دون إكراه. أبو يعرب المرزوقي 29 الأسماء والبيان
-- فكان بذلك خمسه مخصصا لتاريخ الأديان وتحريفاتها .ومن ثم فهو فلسفة الدين النقدية في علاقتها بفلسفة التاريخ النقدية .ومن ينكر ذلك لابد أن يكون أعمى البصر والبصيرة أو متحامل إذ ليس المطلوب الإيمان به بل الاعتراف بوجوده فيه حتى وإن رفض الإيمان به .وهو ما ظنه الأغبياء ممن يدعون نقد القرآن انتحالا من الأديان الأخرى ولو يروا أن ما يتضمنه ليس انتحالا بل شواهد هي ما يقتضيه تأسيس النقد على نصوص من الكتب المنقودة كما يحصل في تحقيق أي نص ومناقشة ما ورد فيه من آراء كما في عادة البحث الأكاديمي. ومن هنا جاءت سخافات الاعتماد على الإسرائيليات في التفسير .فما فيه منها ليست أمورا يقرها بل هي أمور يوردها شواهد في عملية النقد بمنهج التصديق والهيمنة ويسكت عن بعضها لعلة وردت صراحة في القرآن والحديث :فالتعدد الديني حتى وجله محرف ظاهرة لابد من الاعتراف بها والسكوت عنها لأن ذلك من شروط الاحترام المتبادل والمثال هو لا تسبوا معتقدات الآخرين حتى لا يسبوا معتقداتكم. وذلك هو معنى ترك الحسم بين الأديان إلى يوم الدين (البقرة 62والمائدة 69والحج .)17فهدف القرآن تعريف الديني في الأديان وليس المهاترات بين أصحاب التحريف. والاعتراف بكل الرسل شرطا في الإسلام لا يعني الاعتراف بهم كما يتصورهم تابعو تحريف أديانهم بل كما يصبحون عليه بفضل منهج التصديق والهيمنة القرآني. بمعنى أن من شروط الإسلام الإيمان بكل الرسل والكتب لا كما هي في شكلها المحرف بل في ما تكون عليه عندما يبرز النقد القرآني لتحريفها ما فيها من هذا اللب الواحد في الأديان والواحد في الفلسفات من حيث طلب الحق بقدر الاستطاعة الإنسانية والذي هو بالذات الإسلام الفاتح والإسلام الخاتم .والخاتم ليس إلا تذكيرا بالفاتح أي قدرة المعاني الكلية بصنفيها. وبعبارة صريحة فالقرآن يعتبر الإنسان قد فطر على ما به يحقق مهمتيه اللتين هما ما لأجله خلق-وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدوني-أي تعمير الكون بقيم الاستخلاف وشرط أبو يعرب المرزوقي 30 الأسماء والبيان
-- شروط ذلك تعليمه الأسماء كلها أي القدرة الترميزية التي هي مصدر المعاني الكلية للتقدير الذهني النظري والعملي شرطي قيامه. ولما يطبق الإنسان هذين القدرتين-التقدير الذهني النظري ومنه الرياضيات والتقدير الذهني العملي ومنه الأخلاقيات-ليعالج علاقته بالطبيعة وعلاقته بالتاريخ بهما مطبقين على التجربة الحسية مباشرة أو بتوسط أدوات تكملها يكتشف أن خلق الله أوسع من أن يرد لهذه القدرات التي جهز بها الإنسان وذلك هو الغيب علة استحالة المطابقة لعدم الإحاطة علما وقيمة. فيصبح تطوير إبداع المقدرات الذهنية النظرية وتطوير إبداع المقدرات الذهنية العملية هو تاريخ إبداع أدوات التعمير وتاريخ ابداع أدوات التنظيم بقيم الاستخلاف .ويكون الوعي بذلك هو آخر تذكير يغني عن رسالات جديدة لكنه ليس آخر الاجتهادات في مواصلة الإبداعين بعد أن أعلم القرآن الإنسان أن ذلك مرسوم في كيانه. وبذلك نعود لـ\"كان\" .فهي في آن ذات معنى زماني يفيد التطور وذات معنى وجودي يفيد الثبات في الكيان .ويمكن للجمع بين المعنيين أن تكون كان مفيدة للتطور الثابت أو لثبات القانون في تطور الشيء .فيكون الإنسان ذا كيان ثابت لاسنن في التطور ومتعين في التعمير والاستخلاف وهما محددان لمنزلته الوجودية .لكن تحقيقهما هو رهان التاريخ كله وهو إن صح التعبير عين التاريخ كأحداث وموضوع علمه في ثورة ابن خلدون. فـ\"كان\" الدالة على السرمدية هي التي تفيد منزلة الإنسان الوجودية من حيث إن قيامه نفسه يعتمد على التعمير بقيم الاستخلاف كما يحددهما القرآن الكريم وكما يحدد طبيعة قوانين الطبيعية وسنن التاريخ وكما يحدد تجهيز الإنسان لتحقيقهما بالنظر والعقد للتعمير وبالعمل والشرع للاستخلاف :وذلك هو يان الإنسان من حيث أداة ذاتها وغايتها شرطين لاستقلاله في إعالة نفسه ورعايتها وحمايتها حتى يكون مسؤولا بحق عما كلف به. لكن هذا الكيان الثابت من حيث كونه منزلة وجودية مناسبة لدور تاريخي إذ إن المنزلة الوجودية تتحقق بنظر الإنسان وعمله أي بتاريخه السياسي الذي هو تاريخ التعمير أبو يعرب المرزوقي 31 الأسماء والبيان
-- والاستخلاف .وخلق في كبد تعني إنه باجتهاده يبدع ما به يصوغ ما يعتبره قوانين الطبيعة للتعامل معها ويبدع ما يعتبره سنن التاريخ للتعامل معه وهذان الابداعان وحصيلتهما هما تاريخه الحضاري الساعي للوحدة. فتكون المنزلة الوجودية الثابتة هي القانون الأسمى ليس لأنه مرسوم في كيان الإنسان فحسب بل هو مرسوم كذلك في كيان الطبيعة وفي كيان التاريخ بمعنى أن في الطبيعة ما يوفر شروط بقاء الإنسان وفي التاريخ ما يفر شروط تراكم أدوات تحقيق شروط البقاء .ومن ثم فالإنسانية حتى وهي في حرب أهلية فعلها تعاوني وحصيلته تراكمية بفضل توارث الحضارات المتوالية وتخاصب الحضارات المتساوقة. لكنه تعاوني في مستوى شروط التعمير دون أن يكون في مستوى قيم الاستخلاف وتلك هي علة التذكير الأخير .ولذلك فهي قد وصلت إلى طرق مسدودة فقبله وبعده لما نسبت ما بشر به وما أنذر منه .وهذه الحرب الأهلية الكونية صارت خيارا بين أمرين: • إما العودة إلى قيم الاستخلاف • أو الفناء بما ينتج من فساد في الأرض. ومن ثم فالإنسانية اليوم لكأنها مخيرة بين الحل الأمريكي والحل الإسلامي .فهل يدرك المسلمون المهمة المنوطة بهم والتي سماها القرآن الكريم الشهادة على العالمين؟ هل يدرك المسلمون ما يترتب على ما توجد الإنسانية أمامه من اختيار بين عولمة قيم الاستخلاف الكونية وعولمة قيم الحرب الأهلية الكونية اي بين عولمة الرأسمالية المتوحشة التي تفسد الأرض والإنسان ولها وسائله وعولمة الأخوة الكونية التي ما تزال تائهة وفاقدة لشروط التعمير المحرر من التدمير؟ ليس لي من هدف آخر غير جعل شباب الأمة يدرك هذه الحقيقة وأن يدرك أن مسؤوليته ثقيلة لأنه مكلف بالشهادة على العالمين حتى وإن كثر التشكيك في أهلية الأمة لهذه المهمة. ينبغي أن يعلم الشباب أن أول شروط الشروع في تحقيقها هو العودة إلى الكونية الإسلامية والتحرر مما فرضه أعداؤها من تفتيت لأحياز الكيان: أبو يعرب المرزوقي 32 الأسماء والبيان
-- • تفتيت الجغرافيا لمنع التنمية المادية الضرورية للقيام بالمهمة. • تفتيت التاريخ الإسلامي لمنع وحدة الأمة الروحية. وبذلك تفقد شروط قوتها ك لها فتعود مثل غيرها إلى العرقيات والطائفيات والقبليات. تلك هي علة الحرب الكونية على القرآن وقيمه مرجعية كونية تآخي بين البشر وتساوي بينهم. أبو يعرب المرزوقي 33 الأسماء والبيان
-- أخص خاتمة لـ\"ما وراء علاقة الضرورة الشرطية والحرية الشرطية\" استخلص فيها الحل الذي يبين طبيعة المقابلة بين: .1اعتبار المعاني الكلية مقدرات ذهنية رامزة للأشياء وليست مقومة لها (ابن تيمية). .2واعتبارها حقائق مقومة للأشياء (أرسطو) أي بين نفي المطابقة والقول بها علما وقيمة. وبذلك أكون قد انهيت الكلام على نظرية ابن تيمية التي تمكن من قراءة القرآن قراءة تحرره مما أفسد فهمه بمعاييره بما فرض عليه من نظرية القول بالمطابقة في المعرفة والقيمة نسيانا لتمييزه بين علم الموجود وعلم القيمة المحيطين المستحيلين على الإنسان واعتبار العلم اجتهادا عقليا والقيمة جهادا خلقيا. فجوهر الخلاف بين الرؤية التيمية التي أنهت الرؤية الأرسطية لا يتعلق بالتماثل بين دور الرياضيات في الطبيعيات ودور الأخلاقيات في التاريخيات واعتبارهما متعلقين بمقدرات ذهنية مثالية سواء قلنا بأن موضوع الأولى العلمي والثانية القيمي موجودان فعلا أم هما مثالان عقلا وشرعا بل في أمر أعمق من ذلك بكثير. والأمر الأعمق يتمثل في قيس ابن تيمية علاقتهما بالوجود الخارجي بعلاقة اللغة والكتابة أي إن المعاني الكلية المقدرة ذهنيا لغة أو رموز وليست مقومة للأشياء سواء الخاصة بها أو ما تعبر عنه في الأشياء الخارجية عندما تطبق عليها لتصوغ قوانين الطبيعة وسنن التاريخ .فيكون العلم رمزا لرمز. وقد تحيرت كثيرا في كيفية الجمع بين عدم التقويم والفاعلية العلمية والقيمية .كيف يمكن لرموز نصنعها بأنفسنا لنصف الشيء ولرموز نصنعها بأنفسنا لنعبر عما صنعنا في الوصف أن يكونا قادرين على تعاملنا مع الأشياء تعاملا يؤثر فيها؟ لكن الحل كان ضروريا وفي تاريخية المعاني الكلية ما يؤكد العلاج التيمي :فلو كان التقويم شرطا في الفاعلية أبو يعرب المرزوقي 34 الأسماء والبيان
-- لاستحال ن نفهم تغير التوصيف في التعامل مع الأشياء إذ نكتشف أن توصيفنا الذي تعاملنا به مع الشيء لم يعد صالحا بعد أن تقدمنا في معرفة علامات أكثر دلالة على ما نعتبره خصائص الشيء .هذا الحل أراحني وأقنعني إذ من دونه لا يمكن لفهم تاريخية المعاني الكلية العلمية وتغير تحديد موضوعات النظريات .وبين ان الرجل كان بحق مدركا لما يقصده بالوظيفة الرمزية مثل اللسان والكتابة التي يرد إليها التوصيف ولا يعتبره مقوما لماهية الشيء التي قد لا نعلمها أبدا .وقد لا تكون كما قال مشروطة بعلم كل ما له به علاقة أي كل العالم وهو ما يشير إليه بمعرفة لوازم الشيء. والقارئ لن يحيره الرمز الأول الذي يعبر به العالم عن قانون الشيء أي اعتبار العلم رمزا أو لغة .لكنه لا يفهم ولا يستطيع أن يستوعب أن يكون موضوعه الذي يعبر عن قانونه هو بدوره رمز من جنسه بمعنى أنه ليس عناصر مقومة للشيء الذي يعتبر موضوع العلم بل هو أيضا رمز لما اعتبر مقوما دون أن يكون بحق مقوما بدليل تغييره في تاريخ المعرفة الإنسانية. لو انتبه القارئ إلى أن ما يعتبر مقوما للشيء يتغير بحسب مراحل تقدم المعرفة الإنسانية وخاصة بحسب تقدم أدوات الإدراك التجريبي وكلن أيضا بتقدم النظريات التي قد تغير نظام علاقات الاشياء -والمعلوم أن أي شيء موضوع للعلم ليس هو إلا منزلته في نظام الأشياء وهو ما يؤيد أن توصفيه رمزي وليس مقوما-فإنه قد يبدأ التساؤل عن \"المقومية\" في ما يعرف به العلم موضوعه فيبدأ فهم جواب ابن تيمية :ما يعرف به .الشيء ليس مقوما بل هو اخذ مؤقت لبعض الاعراض رمزا للشي. ولما كانت الأعراض التي تؤخذ رمزا للشيء وقابلة للتغيير فهي إذن ليست مقومة وتصبح الأعراض التي يعرف بها الشيء ممثلة لكيفية ظهوره للمدرك بحسب تطور أدوات الإدراك في منظومة علم من العلوم بفضل منظومة لغته التي هي رياضية في الطبيعة وخلقية في التاريخ .فإذا فهمنا ذلك أمكن فهم ثورة ابن تيمية. أبو يعرب المرزوقي 35 الأسماء والبيان
-- ولآخذ أبرز مثال دون أن أكون من القائلين بما ينسب إلى أرسطو خطأ وبما ينسب إلى داروين أقصد نظرية تطور الأنواع التي يقال إنها جاءت لدحض القول بثباتها عند أرسطو .وهذا نصف الحقيقة حول راي أسطو .فصحيح أنه يقول بثبات الأنواع .لكن قوله ذاك ليس نفيا للتطور البايولجي بل يعتبر الثابت فيها هو ما انتهى إليه التطور ويستقر عليه ويصير موروثا لأنه حقق غاية التطور النوعي .ومن ثم فأرسطو لا ينفي التطور بل ينفي دوامه لوجود شكل مقوم نهائي بعد بلوغ التمام العضوي بتجريب عدة محاولات. وخلاف ابن تيمية مع أرسطو لا يتعلق بخلاف أرسطو مع داروين لأن الرجلين يشتركان في ما ينفيه ابن تيمية ولا يعنيه ما يتكلمان فيه لأنه حسب رؤيته مبني على القول بالمقومية للعلامات التي يعرف بها الكائن الحي مثلا .فداروين يعتبرها خاصيات مقومة متطورة وقد يعوضها العلم بغيرها من الخصائص المتطورة لأن التقويم نفسه عنده متطور .وهو ما يبدو منافيا للحجة التي أقنعتني. لكن اثبات تطور المقومات غير صحيح لأن التطور يتعلق بكيان الكائنات الحية العضوي وليس بوظائفه .فحتى لو كان الإنسان حفيد القرد فإن وظائف الحياة واحدة عند الحفيد والجد والاعضاء المختلفة تؤدي نفس الوظائف في كل الظاهرات الحية. والأعراض أو العلامات التي يتم اختيارها رمزا ممثلا للشيء تعد \"نتوءا\" وقتيا في التعامل مع الشيء وكأنها ممثلـة له بحسب ما عليه حال المعرفة في ذلك الحين وهو يتغير بتغير حال المعرفة وأدوات الأدراك .فيكون من ثم مقوما للترميز وليس للشيء المرمز فيه. والتغير في الترميز القائل وفي الترميز المقول متلازم. وإذن فما كان يحول دون أرسطو وكل الفلسفة القديمة والوسيطة هو اعتبار الأعراض التي اختيرت لتعريف الشيء ذاتية للشيء ومقومة له وليست علامات يختارها العلم بحسب حاجته ونظام تصنيف الموضوعات بما بينها من علاقات .ومن ثم فهي عندهم مقومات ثابتة لا تتغير بعد أن يستقر الشيء في صورته النهائية (البايولوجيا القائلة بثبات الأنواع مثلا) .لكن ابن تيمية ينفي التمييز بين نوعي العرض الأرسطيين :لا فرق بين ما يسميه أبو يعرب المرزوقي 36 الأسماء والبيان
-- أرسطو عرضا ذاتيا وهو الوحيد موضوع العلم الاستدلالي لأن الماهيات حدسية وما يسميه عرضا عاما لا يقبل العلم لأنه لامتناه. لا معنى لذاتية العرض -صلة جوهرية بينه وبين حقيقة الشيء-بل كل الأعراض متماثلة من حيث كونها أعراض الشيء التي يمكن أن تكون رمزا للدلالة عليه كله وما ينتأ منها في لحظة معينة ليس مصدره الشيء بل الاهتمام الإنساني به علميا أو قيميا .ولأضرب مثال يعجب له الكثير في الفعل السياسي عامة. وهو من الظاهرات التي لم أفهمها إلا بفضل نظرية ابن تيمية .فغالبا ما يكون أمر تافه جدا سببا لحرب أهلية في المجتمعات البشرية قد يكون متعلقا باللباس أو بالأكل أو حتى بالشعائر الدينية أو السياسية. والسؤال هو :من أين لهذا الأمر التافه الكثافة القيمية التي تجعلـه يحرك شعوبا ويمكن أ ن يوصلها إلى حرب أهلية مثلا أو حربا بين شعبين وهو تافه بالقياس إلى غيره لولا هذا النتوء غير المفهوم؟ كيف تنتأ قيمة شيء ليصبح محركا خلقيا للبشر؟ وكيف تنتأ دلالة شيء ليصبح محركا علميا أو عمليا لفكر الإنسان؟ هذا النتوء العرضي يصبح وكأنه مقوم للشيء لأنه يشغل منزلة في نظام الأشياء في جماعة معينة وفي نظام الخطاب المتعلق بها في لحظة معينة من تاريخ الجماعة العلمي أو العملي يجعله يصبح وكأنه عين الدلالة المكتنزة فيه فيصبح بؤرة الاهتمام علميا أو قيميا. وقد قدم ابن تيمية حلا عجيبا لهذه المسألة حتى وإن لم يصغها هذا الصوغ .فقال يستحيل أن نعلم لوازم لوازم الشيء لأنها لا متناهية ومن ثم فلا يمكن أن نعلم شيئا علما محيطا من دون أن يقتضي ذلك أن نعلم كل شيء ما يعني أن علم أي شيء مهما كان تافها هو علم منزلته في الكون ومنزلة علمه في علم الكون كله. وإذن فنحن نلحظ في لحظة معينة أن ما كنا نعتبره مقوما من الأعراض ليس مقوما بل هو علامة ما نظنه مقوما وأنه توجد أعراض أخرى تبدو بعده هي المقومة وهكذا دواليك أبو يعرب المرزوقي 37 الأسماء والبيان
-- كلما تقدم العلم في ذلك المجال فتتغير التعريفات بتغير الأعراض التي نختارها وكأنها مقومات دون أن تكون كذلك وإلا لكانت ثابتة إنها إذن رمز المقول شرط رمز القول. ومشكل هذه الرؤية يكمن في خطرها وخطورتها: .1فهي خطيرة لأنها من أكبر الأدلة على أن علمنا شديد النسبية فليس ما نعتبره مقوما ولذلك فلا يوجد علم مطابق لموضوعه فيبقى مجرى الأشياء وكأنه خاضع للصدف. لكن المتدين ينسب ذلك للقضاء والقدر وليس للصدفة أي لحكمة ذات علم محيط لا يغرب عنه شيء .وهو ما يعني أن القائلين بالصدفة والقائلين بالقضاء والقدر يتفقان على أن العلم ليس محيطا وأن ما يحدث لا يمكن توقعه توقعا مطلقا ما لم يظل الوجود ثابتا في الحال التي استنتجنا منها قواعد اعتبرناها ثابتة في حين أنه يمكن أن يحصل ما ليس في الحسبان فتتغير كل الأكوان تعتبر صدفة أو حكمة. .2أما خطرها فهو عين ما يعيشه الإنسان من كونه يسبح في عالم مجهوله لامتناهي ومعلومه متناه ما قد يؤدي إلى اليأس من الحياة نفسها لأنها تصبح وكأنها مغامرة مطلقة الخضوع للصدفة وأن كل تخطيط قد لا يتجاوز الأذهان فلا يحصل في الأعيان فيصبح الإنسان عبد الخرافة والشعوذة الغالبين على البشر. وأختم :من يفهم ما وصفت يفهم لماذا كانت أهم حرب كان ابن تيمية يخوضها هي حربه على الخرافة والشعوذة باختيار فرضية الكليات العقدية مع الكليات التي يسميها مقدرات ذهنية .فما افترضته من مقدرات الذهن العملية قياسا عليه وظيفتها في القيم والاستخلاف مثل الرياضيات في العلوم والتعمير. ما الفرق حينها بين من يفسر ما لا يمكن توقعه في مجرى الأحداث طبيعية كانت أو خاصة تاريخية بالصدفة وبين من يفسرها بالقضاء والقدر؟ الفرق هو أن الأول يقول بالمطابقة ويعتبر ما لا يطابق إما من إنتاج خيال الإنسان أو من صدف الوجود. أبو يعرب المرزوقي 38 الأسماء والبيان
-- أما الذي يؤمن بالقضاء والقدر فهو في الغالب لا يقول بالمطابقة لا في المعرفة ولا في القيمة .ويؤمن أن ما يظنه خيرا يمكن أن يكون شرا وما يظنه شرا يمكن أن يكون خيرا لأنه يعتقد في أمرين: .1أن ما يجري ليس مطابقا لما يعلم بل إن علمه ليس محيطا. .2ويعتقد أن ما يجري له وراءه فاعل حكيم وليس بالصدفة. ولهذا الفرق في المواقف من العلاقة بين المعرفة والقيمة في علم الإنسان وفي ذاتهما بين المؤمن بالصدفة والمؤمن بفاعل حكيم وراء الوقائع الطبيعية والأحداث التاريخية أثر كبير على سلوك الإنسان وخاصة على الحياة السوية التي لا تكلف النفس ما لا تطيق من حرص على ما ليس لها فيه حيلة لأن الأمر كما أسلفت يتعلق بأمرين لا تناسب بينهما :ما نجهله لا متناه وما نعلمه شديد التناهي. وقد يفهم من ذلك أن المؤمن مستسلم للقضاء والقدر ولا يدري أن الإيمان به مصحوب بأمرين يتجاهلهما من يتكلم عليهما بجهالة: .1أن ذلك الإيمان مصحوب دائما بأن الإنسان عليه أن يقوم بواجبه في حدود استطاعته اجتهاد بالنظر وجهادا بالعمل. .2أن المؤمن يعتبر ما يتجاوز ما عليه القيام به اجتهادا في النظر وجهادا في العمل هو الذي ينبغي اعتباره مما جعله الله خارج مستطاعه .ومن ثم فهو يؤمن بأن الله لما كلفه لم يطالبه بـما لا يستطيع لأنه ليس إلها بل خليفة. وهذا هو مفهوم الرضا بالمعنى الديني .وهو متعلق بالقيم الخمس :يريد الإنسان بحرية ويعلم بصدق ويقدر بخير ويحيا بجمال ويوجد بجلال حتى يكون وفيا لمعاني الإنسان ورئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له .وذلك هو معنى المؤمن الصادق والإنسان الحر. أبو يعرب المرزوقي 39 الأسماء والبيان
-- أبو يعرب المرزوقي 40 الأسماء والبيان
Search
Read the Text Version
- 1 - 44
Pages: