Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore فكر ابن تيمية في عشر مسائل.- ابو يعرب المرزوقي

فكر ابن تيمية في عشر مسائل.- ابو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2017-08-05 07:50:08

Description: فكر ابن تيمية في عشر مسائل - ابو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫الأسماء والبيان‬



‫‪1‬‬ ‫المحتويات‬ ‫‪1‬‬ ‫تنبيه مدير الصفحة‪:‬‬ ‫‪1‬‬ ‫النص‬ ‫‪2‬‬ ‫جواب السؤال الأول‬ ‫‪2‬‬ ‫السؤال الأول‪ :‬ما الحائل الحالي دون النفاذ إلى فكره؟‬ ‫‪3‬‬ ‫جواب السؤال الثاني‬ ‫‪3‬‬ ‫السؤال الثاني‪ :‬ما الحائل الموضوعي دون النفاذ إلى فكره؟‬ ‫‪5‬‬ ‫اعتذار‪:‬‬ ‫‪5‬‬ ‫السؤال الثالث‬ ‫‪5‬‬ ‫تمهيد‪:‬‬ ‫‪5‬‬ ‫‪-1‬معارك المباحث الفقهية (العلم العملي الأول)‪:‬‬ ‫‪-2‬معارك المباحث الصوفية (العلم العملي الثاني)‪:‬‬ ‫‪6‬‬ ‫‪-3‬معارك المباحث الكلامية (العلم النظري الأول)‪:‬‬ ‫‪-4‬معارك المباحث الفلسفية (العلم النظري الثاني)‪:‬‬ ‫‪6‬‬ ‫‪ -5‬مباحث العلم المؤسس لصنفي العلوم بفرعيهما‪:‬‬ ‫‪7‬‬ ‫جواب السؤال الرابع‬ ‫الأساس الأول‪:‬‬ ‫‪8‬‬ ‫الأساس الثاني‪:‬‬ ‫‪9‬‬ ‫السؤال الخامس‬‫‪10‬‬ ‫الجواب‪:‬‬ ‫‪10‬‬ ‫السؤال السادس‬ ‫‪11‬‬ ‫‪11‬‬ ‫الجواب ‪:‬‬‫‪14‬‬ ‫السؤال السابع‬ ‫‪14‬‬ ‫الجواب‪:‬‬ ‫‪14‬‬ ‫السؤال الثامن‬ ‫‪17‬‬ ‫الجواب‪:‬‬ ‫‪17‬‬ ‫‪17‬‬ ‫‪18‬‬‫‪20‬‬ ‫‪20‬‬ ‫‪20‬‬

‫‪25‬‬ ‫السؤال التاسع‪:‬‬ ‫‪25‬‬ ‫السؤال العاشر‪:‬‬‫‪30‬‬ ‫‪30‬‬

‫تلخيص أهم النتائج الـتي أوصل إليها البحث في فكر ابن خلدون شجعنا فطلبنا من أستاذنا اتحافنا‬‫بمثله حول فكر ابن تيمية مستفيدين من بقائه بيننا خلال الصائفة‪ .‬فرد بادئا ببيان علة قبوله‬ ‫مطلبنا علته العميقة التي لا تقتصر على التقريب وشرع في الجواب‪ .‬وهذا نص رده‪.‬‬‫ليس الهدف من التلخيصين التيسير والتقريب فسحب بل هو كذلك توضيح تعرض له الرجلان‬‫من مظلمة‪ .‬ففكر ابن خلدون كما تبين من التلخيص السابق تعرض لمظلمة لا تقل حيفا عن المظلمة‬‫التي تعرض لها فكر ابن تيمية حتى وإن بدت المظلمتان متقابلتين رغم صدورهما من نفس الفئة‬ ‫الإيديولوجية في الأغلب‪:‬‬‫فمادحو ابن خلدون ضيعوا فكره طلبا للسبق الوهمي بعد جعلهم سادتهم مثلا عليا يقاس بها كل‬‫فكر‪ :‬فهو مرة سابق أوغست كونت وأخرى سابق ماركس وثالثة مؤسس العلمانية وما في كتابه من‬ ‫شواهد قرآنية إلا تقية إلخ‪....‬‬‫وذامّو ابن تيمية وهم عادة من نفس الطينة ضيعوا فكره تحميلا إياه مسؤولية فكر خصومهم‬‫الإيديولوجيين‪ :‬فهو مؤصل الجهادية وأصل الإرهاب وفيلسوف التكفير إلخ‪ ...‬من التفاهات التي‬ ‫تدل على بلادة لا تقدر لكأن ماركس مسؤول على أعمال ستالين أو ماو الفاشية‪.‬‬‫ولا فائدة من التذكير بأن فكرهما هو كذلك ضحية لمظلمة أعم يشترك فيها معهما كل مفكر كبير‬‫يمكن أن يتسلق عليه أنصاف المثقفين‪ ،‬في لحظة اختلط فيها الحابل بالنابل‪ :‬فكلاهما يمثل عسلا يكثر‬‫عليه ذباب الساحة الثقافية من المتقحمين ذوي الثقافة العامية الذين يفرحون بالهراء طالبين‬‫الشهرة بركوب أي موجة تجلب إليهم الانتباه مدعين ما ليس لهم فيه ناقة ولا جمل بسبب تكوينهم‬ ‫البدائي‪.‬‬‫ونظرا إلى الحاجة الآزفة حاليا وإلى كون الإشكال الراهن ألصق بشيخ الإسلام ابن تيمية أكثر‬‫منه بعلامة الإسلام ابن خلدون‪ ،‬فإني سأبسط فكره بأكثر تفصيل من بسط فكر ابن خلدون‪ .‬لذلك‬‫فسأقدم تحديد المسائل العشرة التي تلخص المحاولة ثم أعرض علاجها اثنتين اثنتين في خمس حلقات‬ ‫‪38 1‬‬

‫لمزيد الفائدة مع الاستغناء عن الجهاز العلمي الذي لا يناسب التلخيص فضلا عن التقريب‪ .‬وهذه‬ ‫هي الأسئلة العشرة‪:‬‬ ‫السؤال الأول‪ :‬ما العائق الذاتي والإيديولوجي الحائل دون النفاذ إلى فكره؟‬ ‫السؤال الثاني‪ :‬ما العائق الموضوعي والعلمي الحائل دون النفاذ إلى فكره؟‬ ‫السؤال الثالث‪ :‬ما طبيعة الإشكالية الواحدة في معارك ابن تيمية الفكرية؟‬ ‫السؤال الرابع‪ :‬ما طبيعة تشخيص ابن تيمية لأزمة الحضارة انطلاقا من الغزالي؟‬ ‫السؤال الخامس‪ :‬ما طبيعة العلاج التيمي سلبيا‪ :‬النقد التاريخي والنقد العلمي‬ ‫السؤال السادس‪ :‬ما طبيعة أزمة الفنين العمليين‪ :‬الفقه والتصوف؟‬ ‫السؤال السابع‪ :‬ما طبيعة أزمة الفنين النظريين‪ :‬الكلام والفلسفة؟‬ ‫السؤال الثامن‪ :‬ما طبيعة أزمة فن الفنون‪ :‬الصلة بين النص المؤسس والوجود؟‬ ‫السؤال التاسع‪ :‬كيف حل أزمة الأداتين‪ :‬بما بعد التاريخ وما بعد المنطق؟‬ ‫السؤال العاشر‪ :‬فيم يتمثل تجاوز الميتافيزيقا والميتاتاريخ القديمين؟‬‫قبل الجواب عن هذا السؤال فلنصل بين الرجلين علامة الإسلام ابن خلدون وشيخ الإسلام ابن‬‫تيمية لنفهم طبيعة العائق الأساسي أو الأمر الذي يعسر النفاذ إليه من دون عدة فلسفية ليست في‬‫متناول ذوي التكوين التقليدي من متقحمي الكلام على فكريهما‪ .‬ويمكن أنه نرد الصلة بينهما إلى‬‫مقومي الحل الذي قدمه شيخ الإسلام للرد على أداتي ما يسمى بعلم الكلام أعني معيار التأويل‬ ‫وقياس الشاهد على الغائب‪ :‬التطابق بين‬ ‫‪-1‬صحيح المنقول‪.‬‬ ‫‪-2‬وصريح المعقول‪.‬‬‫فثورة ابن خلدون يمكن ردها في الغاية إلى تأسيس علم يمكن من معرفة صحيح المنقول خاصة‬ ‫وتأسيس العلم العملي عامة‪ :‬فما بعد التاريخ الخلدوني محاولة لتأسيس أصل كل العلوم العملية‪.‬‬‫وثورة ابن تيمية يمكن ردها في الغاية إلى تأسيس علم يمكن من معرفة صريح المعقول خاصة‬ ‫وتأسيس العلم النظري عامة‪ :‬فما بعد المنطق التيمي محاولة لتأسيس أصل كل العلوم النظرية‪.‬‬ ‫‪38 2‬‬

‫والنفاذ إلى ما يؤدي إلى فهم هاتين الثورتين ليس بالأمر اليسير بالنسبة إلى ضحايا الحائل الأول‬‫الذي يتعلق به هذا السؤال الأول‪ :‬العائق الإيديولوجي الذي بدلا من أن يسعى أصحابه إلى النفاذ‬‫إلى فكر الرجل تجدهم يبحثون عن تعليل سريع وسطحي لظاهرة فرضها تاريخ الأمة التي تعاني‬‫من إرهاب الاستعمار الأجنبي وإسقاطه على مقاومتها ومن استبداد نوابه عليهم وفسادهم ومن‬‫محاولات تهديم حصانتها الروحية بإسقاط تهمة التكفير عليها من الطائفة التي هي بالجوهر تكفير‬ ‫لكل مسلم لا يقول بالحق الإلهي للأيمة‪.‬‬‫فهذا الحائل قد يتحول إلى مانع رسمي يلغي أعماله من التداول فيصبح كل من يتكلم عليه متهما‬‫بتشجيع الإرهاب والتكفير‪ .‬وقد بدأ بعض أعشار المثقفين يبحثون عن متمعش يلصقون تهمتي‬ ‫الإرهاب والتكفير بأكبر فيلسوف عرفته الثقافة العربية كما بينا سابقا ونحاول تلخيصه هنا‪.‬‬‫لكن ينبغي الاعتراف بأن الحائل الإيديولوجي والذاتي رغم فاعليته خاصة وقد أصبح ورقة‬‫سياسية يستعملها حتى المنتسبون إلى مذهبه تبرئة لأنفسهم من تهمتي الإرهاب والتكفير ليس هو‬‫الوحيد الذي يحول دون النفاذ إلى فكره‪ .‬فثم حائل موضوعي أخطر لأنه من طبيعة العوائق‬‫المعرفية وليس الإيديولوجية (إصلاح العقل مركز دراسات الوحدة العربية ط‪ 4.‬بيروت ‪:)2010‬‬‫عدم قابلية الرجل للخضوع إلى معايير التصنيف التقليدية التي صب فيها تاريخ فكرنا الوسيط‬ ‫بفروعه الخمسة عمليها ونظريها وبأصلهما معا‪:‬‬‫‪ -1‬فلا يمكن أن تنسب فكر ابن تيمية العملي القانوني إلى مذهب فقهي محدد لأنه تجاوز‬ ‫المذهبية ليس تجاوزا تلفيقيا بانتخاب الحلول المناسبة منها جميعا‪.‬‬‫‪ -2‬ولا يمكن أن تنسب فكره العملي الخلقي إلى طريقة صوفية محددة لأنه تجاوز الطرق إلى‬ ‫المجاهدة التي تناسب فهمه العميق للقرآن الكريم‪.‬‬ ‫‪38 3‬‬

‫‪ -3‬ولا يمكن أن تنسب فكره الكلامي إلى فرقة كلامية محددة لأنه تجاوز الفرق إلى البحث في‬ ‫مسائل الإيمان والعقيدة تجاوزا ليس له مثيل‪.‬‬‫‪ -4‬ولا يمكن أن تنسب فكره الفلسفي إلى مدرسة فلسفية سابقة لأنه أنهى عصرا وفتح عصرا‬ ‫جديدا في الفكر الفلسفي‪.‬‬‫‪ -5‬وأخيرا ففهمه للعلاقة بين النص المؤسس والوجود عامة والوجود التاريخي خاصة يعد بداية‬‫فريدة النوع لتأسيس غير مسبوق لنظرية الوسميات أو السيميوتكس ونظرية اللغة‪ .‬وهذا التأسيس‬‫يمكن أن نعتبر حدوسه فيه فتحا لآفاق غير مسبوقة حاولنا شرح اساسياتها في ضميمة ترجمتنا‬ ‫للمثالية الألمانية (الشبكة بيروت ‪.)2010‬‬‫لذلك فليس من اليسير التغلب على هذا العائق الموضوعي لفهم فتوحاته الفلسفية لأن جل قرائه‬‫يقتصرون على مرجعيات كلها لا تمثل إلا ماضيا تجاوزه فكره حتى وإن كان فكرهم حبيسا فيه‪.‬‬‫وأغرب أمر يحيرني هو أن المعجبين بفكر ان رشد مثلا لم ينتبهوا أن الرجل لم يكتف بالانطلاق من‬‫محاولته استعادة الفلسفة القديمة بنقد الفلسفة العربية الإسلامية ومشاركته الكثير من مواقفه من‬‫الكلام والتصوف والفقه وحتى من الفلسفة الإسلامية عامة والسينيوية خاصة وخاصة في فهم القرآن‬ ‫الكريم بذاته لمشاركته نفس الموقف من التفسير المناسب لفهم القرآن الكريم‪.‬‬ ‫‪38 4‬‬

‫(كنا نتصور أن الجمع بين الأسئلة ممكن وأنه سيمكن من الحد من طول التلخيص‪ .‬لكن الأمر تبين‬‫ممتنعا لدسامة المادة ما كان سيجعل كل جواب مضاعف طويلا ايضا‪ .‬لذلك فضلنا الاقتصار على‬‫السؤال الثالث بمفرده‪ :‬خاصة والقراء لا يحبذون المطولات‪ .‬وقد نعود إلى الجمع في الأسئلة الموالية‬ ‫إن أمكن‪ .‬ولهذه العلة لم نشر إلى العدد الجملي لما ستؤول إليه محاولة التلخيص)‬ ‫ما طبيعة الإشكالية الواحدة في معارك ابن تيمية الفكرية‬‫نميز في معارك ابن تيمية بين نوعين‪ .‬فنسمي النوع الأول معارك فعلية تلك المعارك التي شارك‬‫فيها ابن تيمية بفعله وليس بفكره وكتاباته‪ .‬وهي طبعا من ثمرات فكره وكتاباته‪ .‬وأهمها جهاده‬‫واجتهاده الموقفي والفعلي في تحديد انحيازاته التاريخية‪ .‬ويكفي أن نقول عنها إنها إذا قيست بما‬‫نعيش اليوم تقبل الوصف بكونها ميالة لصف الثوار منها لصف الثورة المضادة داخليا ولصف الأمة‬‫منها لصف أعدائها في عصره‪ .‬وهؤلاء الأعداء يكاد صفهم لم يتغير‪ :‬الباطنية والطائفية في الداخل‬‫وبقايا الصليبية الأوروبية وبربرية مغول الغرب (الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي سابقا‬ ‫والروسي حاليا)‪ .‬ولا فائدة من أكثر من هذه الإشارات‪.‬‬‫ولنأت إلى معارك ابن تيمية الفكرية التي هي معارك تجاوز فيها الوجه الجدلي الناتج عن‬‫الخصام الإيديولوجي إلى ما بعده التأسيسي فعالجها علاجا نظريا فلسفيا‪ .‬فهذه المعارك تقبل الرد‬‫إلى ما ترد إليه أهم مباحث الفكر الإسلامي النظرية (علمان) والعملية (علمان) والمؤسسة لهما‬‫(علم واحد معقد جدا) عند تصنيفها تصنيفا عقليا جامعا مانعا إذا اقتصرنا على مناطق المعرفة ولم‬‫ننظر في موضوعاتها الجزئية التي تتبع هذه المجالات سواء تعلقت بالطبيعة أو بالشريعة أو بأدواتهما‬ ‫المنهجية لذاتها مثل علوم اللغة والتاريخ للثانية وعلوم الرياضيات والمنطق للأولى‪:‬‬ ‫‪38 5‬‬

‫‪1‬‬‫وهي غير فتاواه التي هي عرضية بالجوهر ككل الفتاوى بسب صدورها عن دوافع ونوازل عرضية‬‫هي دوافع المستفتين ونوازلهم‪ .‬ما يهم هو الأساس الذي ترد إليه اجتهاداته وفتاواه أعني المجال‬‫الذي يمكن القول إنه مجال إبداع غير مسبوق حرره من المذهبية وجعله متجاوزا لما جمد الفقه في‬‫عصره أعني أصول الفقه التقليدي (راجع الحوارية بين المرحوم الشيخ البوطي وأبي يعرب في‬‫إشكالية تجديد أصول الفقه دار الفكر دمشق وبيروت ‪ .)2006‬فجوهر موقف ابن تيمية في تأصيل‬ ‫الفقه يستند إلى نقلتين نوعيتين‪:‬‬‫في نظرية اللسان المحررة من خرافة المقابلة بين الحقيقة والمجاز بالمعنى الكلامي وكيف يمكن‬‫الاستغناء عنها بنظرية جديدة في اللغة تجعل دلالات اللغة استعمالية ولعل الموقف الأصح أنها كلها‬‫مجازية بمعنى أنها دلالة الدليل اللساني تحكمية يحددها الاستعمال والعادة وليست حقيقة الأشياء‬ ‫المسماة بأسماء بعينها‪.‬‬‫في نظرية التطبيق الفقهي لمصدري التشريع (القرآن والسنة) ولنوعي التعامل معهما (الاجماع‬‫والاجتهاد) دون التقيد بتقاليد المذاهب التي صارت بديلا من المصدرين والتعاملين ومن بقاء النصين‬‫المرجعين حيين دائما ومصدرا مباشرا لئلا يتحول الاجتهاد السابق من سابقة تطبيقية إلى تشريع من‬ ‫جنس التشريع الأصلي‪.‬‬ ‫‪2‬‬‫ولا ينبغي حصرها في مواقفه من متصوفة عصره وخاصة من متحيل دمشق شارح مدارج السالكين‬‫للهروي بمنطلق وحدة الوجود (التلمساني) الذي رد عليه تلميذه بدحض شرحه أو من ابن عربي‬‫وغيره‪ .‬فما يعنينا هو ما يمكن رده بمصطلح ابن خلدون في شفاء السائل إلى التمييز بين المجاهدتين‬‫المشروعتين عقلا ونقلا أعني مجاهدتي التقوى والاستقامة وبيان أوهام ودعاوى الكشف القصدي‬‫الذي ينتهي إلى ما يخفي نقيضيهما أعني التقية بدل التقوى والنفاق بدل الاستقامة‪ .‬فيصبح‬‫التصوف المنحرف في غايته ما يسمى بالتصوف الفلسفي القائل بوحدة الوجود والنافي للغيب بوهم‬‫العلم اللدني المتجاوز لعلم الأنبياء والمؤسس للكنسية الصوفية ولعبادة الوسطاء أحياء كانوا أو‬ ‫أمواتا‪.‬‬‫وهم يحاولون تأسيس ذلك على تأويل ما أتى الله به من سلطان لقصة الرجل الصالح الذي أصبح‬‫يسمى الخضر‪ .‬والمعلوم أن مواقف الرجل الصالح الثلاث التي تظن ثمرة لعلم لدني ليست إلا فراسة‬‫وتجربة‪ .‬ولا شيء فيها يثبت علما متجاوزا للوحي بل بالعكس هي تبين حاجة صاحب الوحي للمعرفة‬ ‫‪38 6‬‬

‫العادية (لذلك نجد القرآن يقرن دائما بين الكتاب والحكم والنبوة)‪ .‬فحالة قتل الابن المفترض‬‫عاقا لوالديه فراسة من قبل الرجل الصالح‪ .‬والحالتان الأخريان‪ :‬ثقب المركب وترميم الجدار‬‫معرفة سابقة بما يجري في ذلك البلد كان ذهن موسى عليه السلام خاليا منها‪ .‬وإذن فالأمر لا يتعلق‬‫بعلم لدني إلا في وهم أصحاب أسطورة الخضر‪ .‬إنما القصد المحتمل هو أن النبي بحاجة إلى \"الحكم\"‬ ‫بمقتضى العلم العادي المشترك بين البشر لسياسة الدنيا‪.‬‬ ‫‪3‬‬‫وهذه هي التي يغلب اللغو واللغط حولها‪ .‬فالكثير يناقش ابن تيمية معتبرا إياه متكلما بالمعنى‬‫التقليدي للكلمة‪ .‬وقد يكون لردوده على المتكلمين بمنطقهم ما يوحي بأنه واحد منهم وإن كان أقوى‬‫حجة‪ .‬فلجوؤه لإفحام الخصوم بمنطقهم قد يوهم أصحاب العجلة في الحكم إلى أنه متكلم‪ .‬لكنه في‬‫الحقيقة ينفي شروط إمكان الكلام الفلسفي أو العقلي ولا يقول إلا بالكلام التاريخي النصي‪:‬‬‫تاريخي بمعنى أحداث النبوات والتجارب الحاصلة فعلا والنصي بمعنى القرآن والسنة وحتى الكتابين‬‫السابقين اللذين يقرهما ابن تيمية فيما يقرهمها عليه القرآن الكريم أعني في كل ما لم يصححهما‬ ‫فيه استنادا إلى مبدأ التصديق والهيمنة‪.‬‬‫وثورته فضلا عن تجاوزه المتكلين في فنهم رغم كونه ينكر عليه العلمية والمتانة المنطقية ورغم‬‫كونه من أعلم مؤرخي الفكر الكلامي ربما على الإطلاق فإنه لا يعتد به ويهتم خاصة بنوع جديد‬‫من علم الكلام التاريخي النصي وبما يتصل به من بدايات أو إرهاصات الأدوات المنطقية التي تعالجه‬‫أعني تاريخ النص وفيلولوجاه شرطي التأويل ليس بالمعنى الكلامي وليس بمعنى التطبيق على تاريخ‬‫الأحداث والنصوص‪ .‬والشواهد في ذلك كثيرة بصورة عرضية في جل مصنفاته ويكفي شاهدين‬ ‫مخصصين للرد على رمزين دالين في الساحة الكلامية‪:‬‬‫أحدهما في الرد على ممثل المذهب الأكثر تمثيلا للتشيع في عصره أي المطهري في منهاج السنة‪:‬‬ ‫الجزء الأساس من الكلام الشيعي إضافة إلى المأخوذ عن البهشمية هو الكلام في منهاج الإمامة‪.‬‬‫والثاني في الرد على ممثل المذهب الأكثر تمثيلا للتسنن في عصره أي الرازي في الدرء ردا على‬ ‫معيار التأويل وفي التلبيس ردا على أساس التقديس الذي يقبل الرد إلى ما يشبه إلهيات السلب‪.‬‬‫وسنرى في الجواب عن السؤال الخامس المتعلق بمنهجي النقد التاريخي والنقد العلمي الأكاديمي‬‫كيف أن ابن تيمية يتجاوز الحجاج بمنطق علم الكلام رغم إفحامهما به إلى النقاش المعرفي الموضوعي‬‫بالاستناد إلى النقد التاريخي للأحداث والنصوص والنقد العلمي لطرق التعامل معهما من قبل الذين‬‫يحاورهم ليدحض حججهم ليس بالتشقيق اللفظي والمهارب البيزنطية الكلامية بل بوقائع التاريخ‬ ‫‪38 7‬‬

‫ومعطيات الظاهرة التي يدور عليها الكلام سواء كانت حدثا أو نصا أو علاقة بينهما فضلا عن النفاذ‬ ‫الحدسي العجيب للمعاني التي لدقتها لا ينالها إلا قلة من العقول المتميزة‪.‬‬ ‫‪4‬‬‫وهذه المعارك لم تكن مباشرة أبدا‪ .‬فهي إما ضمن الفنين السابقين (الكلام والتصوف) أو ضمن‬‫فن المنطق وأساسه الميتافزيقي‪ .‬ومعنى ذلك أن ابن تيمية كان شديد الدراية بالطابع المابعدي‬‫للفلسفة أعني أنه لا يعتبرها علما بل ما بعد علم إما دخيلا في علوم الملة مثل التصوف والكلام أو في‬‫علوم النظر بأصنافها الثلاثة (إلهيات ورياضيات وطبيعيات) وعلوم العمل بأصنافها الثلاثة‬ ‫(السياسيات والأخلاقيات والاقتصاديات)‪.‬‬‫ويتبين ذلك خاصة من كلامه في المنطق‪ .‬فهو لا يناقشه منطقيا فحسب بل وكذلك بمقتضى ما‬‫يترتب عليه في رؤية الوجود والعالم ومن ثم بمقتضى ما يؤسسه ويؤسس ما يجعله مؤديا إلى ما‬‫يترتب عليه‪ .‬مثال ذلك أنه يبين أن المنطق بأساسه الميتافيزيقي الموروث عن أفلاطون وأرسطو يؤدي‬‫حتما إلى جعل الإنسان مقياس كل شيء‪ .‬ذلك أن ظن علم الإنسان بالوجود على ما هو عليه ومن‬ ‫ثم مطابقا له مطلق المطابقة يجعل العلم مقياس الوجود بدلا العكس‪.‬‬‫وإذن فمعيار المطابقة والظن أن الإنسان يعلم الأشياء على ما هي عليه‪-‬وكلاهما لا يصح إلى على‬‫علم مطلق كعلم الله مثلا‪ -‬يلغيان ما به يتجاوز الوجود العلم معرفيا (والشاهد الغيب دينيا) بسبب‬‫جعل الإنسان مقياس الوجود‪ .‬ويسمي ابن خلدون ذلك رد الوجود إلى الإدراك‪ :‬وهذا الموقف هو‬‫بداية تأسيس مفهوم النقد بالمعنى الحديث لمن يفهم هذا المفهوم‪ .‬لذلك اعتبر ابن تيمية علم ا‬‫لمنطق بميتافيزيقاه التي كان عليها لا يمكن أن يترك مجالا للعلم الحقيقي ولا للأخلاق الحقيقية‪:‬‬‫فهو يطلق النسبي ويحول دون شرط الفعل الحر وذلك معنى قصده في قوله إن المنطق يؤسس‬‫السفسطة في النظريات (الإنسان مقياس) والزندقة في العمليات (لا مجال لما يتجاوز الضرورة ومن‬ ‫ثم فلا حرية تؤسس للفعل الخلقي)‪.‬‬‫وتلك هي علة إعادة تأسيس المنطق على ميتافيزيقا جديدة تمكن من تأسيس العلم النظري‬‫بالتحرر من السفسطة والعلم العملي بالتحرر من الزندقة أي دون أن تجعل الإنسان مقياس كل شي‪.‬‬‫وطبعا فالسخفاء من المتكلمين في ابن تيمية يقتصرون على كليشي ‪\" :‬من تمنطق فقد تزندق\" ليبرزوا‬‫ثوريتهم وحداثتهم المكذوبة ويغفلون كل هذا التحليل التيمي العميق لأنهم عاجزون فهمه حتى لو‬ ‫أقدموا على القراءة المتأنية والصبر‪ :‬لم يتواصوا بالحق ولم يتواصوا بالصبر‪.‬‬ ‫‪38 8‬‬

‫‪5‬‬‫أما معارك المباحث في العلم الجامع فتتعلق بالأصل الواحد لكل هذه المباحث أعني ما يجعل هذه‬‫المباحث تكون مقومة لحضارة معينة في لحظة من لحظات تكوينيتها‪ .‬وهذه المباحث الجامعة من حيث‬‫الطبيعة واحدة في كل الحضارات‪ .‬لكنها متعددة تعدد المضمونات العينية والمراحل التاريخية‪ .‬وحتى‬‫يفهم القارئ دقة هذا المفهوم فلنضرب مثال اللغة‪ .‬فكل البشر ناطقون‪ .‬ومن ثم فاللغة ظاهرة‬‫كونية‪ .‬لكن كل لغة تعين من الظاهرة الكونية اللغوية‪ :‬وكونية اللغة تجعل كل اللغات مشتركة في‬‫ما به سميت لغة ومختلفة بمادتها وبكيفية التناظر بين مادتها وما تعبر عنه من التجارب التي هي‬ ‫محكومة بالمضامين والمراحل‪.‬‬‫وهذا ينطبق على \"القصة المؤسسة للحضارة أو النص المقدس\"‪ .‬فكل الحضارات لها نص مقدس أو‬‫قصة مؤسسة‪ .‬وكل الحضارات لا تفهم ذاتها ولا وجودها إلا من خلال نوع العلاقة التي بين هذا‬‫النص والتجارب التي تعيشها والظاهرات والوقائع التي تحاول التعامل معها‪ .‬وفي حالتنا نحن فالأمر‬‫يتعلق بالقرآن الكريم وبتفسيره الأول أو السنة الشريفة‪ :‬فكل ما أسلفنا في الفنون الأربعة الاثنين‬‫العمليين (الفقه والتصوف) والاثنين النظريين (الكلام والفلسفة) كلها محاولات لفهم معنى الوجود‬ ‫بهما ولفهمهما بمعنى الوجود‪.‬‬‫ومن ثم فالمعارك السابقة جميعها تستمد معناها أي طبيعة الإشكال فيها و\"مصفوفة\" الحلول الممكنة‬‫من هذه العلاقة ذات الاتجاهين لكأن النص والتجارب الحضارية تراء مضاعف بين مرآتين أو سطحين‬‫صقيلين أحيانا ومشوبين بما يكدرهما في غالب الأحيان‪ .‬لذلك فالمعارك المتعلقة بهذا العنصر الخامس‬‫المؤسس هي معارك الصقل للمرآتين متبادلتي التعاكس‪ .‬ولعل أفصل صاقل وصائغ في تاريخنا كان‬‫هذا الرجل العظيم الذي انبهرت به بعد ما أوصلني إليه جواب ابن خلدون على أحد سؤاليه‪ :‬النقل‬‫الصحيح بوضع علم ما بعد التاريخ المتحرر من الخرافة والتنجيم اللذين كانا سائدين وأجاب هو‬‫على السؤال الأعمق أعني العقل الصريح كما سنرى لاحقا بوضع ما بعد المنطق المتحرر من‬ ‫ميتافيزيقا تجعل الإنسان مقياس الأشياء‪.‬‬ ‫‪38 9‬‬

‫ما طبيعة تشخيص ابن تيمية لأزمة الحضارة انطلاقا من الغزالي؟‬‫اعتذرنا عن الإسهاب في كلامنا على ابن تيمية‪ .‬وسكتنا عن الإيجاز في كلامنا على ابن خلدون قبله‪.‬‬ ‫لكن الأمرين يبدوان قابلين للفهم من منطلق علاقة فكريهما بما بعدهما‪:‬‬‫فابن خلدون ظلم مرة واحدة أعني أنه ظلم بقراءاته‪ .‬لكنه نجا من استعمال حركات سياسية ذات‬ ‫تأثير فعلي في التاريخ‪ .‬فلم يتهم بما اتهمت به‪.‬‬‫وابن تيمية ظلم مرتـيـن أعني أنه ظلم بقراءاته وبتحميله مسؤولية حركات ذات تأثير فعلي في‬ ‫التاريخ استعملت فكره فشوهته‪.‬‬ ‫لذلك أوجزنا في الأول واضطررنا لشيء من الإطالة في الثاني‪.‬‬ ‫ولنعد بعد هذا التوضيح إلى سؤالنا الرابع‪.‬‬‫حددنا في جواب السؤال الثالث معارك ابن تيمية الفكرية بأصنافها الخمسة (أصول الفقه وأصول‬‫التصوف وأصول الكلام وأصول الفلسفة وأصل الاصول أو علاقة النص المؤسس بهذه الأصناف‬‫المتفرعة عنه تحديدا للعلاقة المتبادلة بين النص المؤسس ومعاني الوجود) مع بيان أهم ما يمكن أن‬‫ينسب إليه من إبداعات ثورية مثلت بداية التجاوز الفعلي للفكر القديم (ملخصا في صورته‬ ‫اليونانية) والوسيط (ملخصا في صورته الإسلامية قبله)‪.‬‬‫ولعله من المفيد أن نعذر مشوهي فكر ابن تيمية وابن خلدون من قرائهما بغير قصد وحتى بقصد‪.‬‬‫فكل عمل مبدع شديد العمق بالضرورة‪ .‬ومن ثم فالنفاذ إليه يتطلب توالي المحاولات لتوالي الحفر‬‫الباحث عن منبع الماء وذلك بنبط بئر التراث الفكري نبطا تراكميا‪ .‬وفي هذا المضمار يندرج مسعانا‬‫للوصل بين إبداعات الرجل وصلتها بعملاق سابق حدد جوهر الازمة التي تعاني منها الحضارة‬‫الإسلامية قصدت حجة الإسلام أبا حامد الغزالي‪ :‬فتشخيص ابن تيمية الذي نريد الكلام فيه الآن‬‫ينطلق من فشل تشخيص أبي حامد أو بصورة أدق من فشل العلاج الذي اقترحه (ونفس الأمر يمكن‬‫أن يقال عن تشخيص ابن خلدون ولكن ليس منطلق تهافت الفلاسفة بل من منطلق فضائح‬ ‫‪38 10‬‬

‫الباطنية)‪ .‬فلما تقرأ مقدمات تهافت الفلاسفة الأربع تجد أساسين هما جوهر ثورة حجة الإسلام‬‫المنسية‪ .‬وهذان الاساسان ينفيان كل ما قيل عما ينسب إليه من كونه مؤسس الانحطاط الإسلامي‬‫وعدو الفلسفة الأول في حين أنه في الحقيقة مؤسس منطلقها الجديد كما تعين عند ابن تيمية في‬ ‫النظر وعند ابن خلدون في العمل‪:‬‬‫يتعلق بدافع كتابة تهافت الفلاسفة المباشر والأساسي‪ .‬فدافعه كان ما لاحظه من سلوك المتجملين‬‫بكليشهات الفكر الفلسفي وقشوره وخاصة من موقفهم من الدين والأخلاق بحجة مفادها أن الدين‬‫والأخلاق لو كانا حقيقيين لكان الفلاسفة أولى الناس بمعرفتهما لما عرفوا به من علم وحصافة‪.‬‬‫وحتى يتظاهر هؤلاء المتجملون بالتفلسف والعلم العقلي لبابتهم يقفون هذا الموقف المستهتر‬‫بالأديان‪ :‬ولعل هذا الوصف الذي انطلق منه الغزالي أكثر صحة في عصرنا فجل أدعياء الحداثة‬ ‫منطلقهم التقليد البليد لمن لم يفهم القدامة ولا الحداثة إذ جلهم من أرباع المثقفين‪.‬‬‫يتعلق بالغاية من كتابة التهافت المباشرة والاساسية‪ .‬فالتمييز بين ما يقبل العلم العقلي السوي‬‫وما يكون ادعاء العلم فيه أقرب إلى توهم المهلوسين منه إلى المعرفة العقلية‪ ،‬أعني الميتافيزيقا التي‬‫كتب فيها كتابه بأسلوب جدلي ينفي ما يثبته الفلاسفة ويثبت ما ينفونه‪ .‬ومن ثم فغاية الكتاب هي‬‫تحقيق الفصل الفلسفي ‪-‬اؤكد على كلمة فلسفي أي بالعقل وقبليا‪ -‬بين العلم واللاعلم وبين ما يقبل‬‫العلم وما يكون دعوى علم وليس بعلم (راجع أبا يعرب مفهوم السببية عند الغزالي وكذلك ضميمة‬‫المثالية الألمانية‪ :‬الشبكة بيروت ‪ .)2011‬من هنا جاء استثناؤه للرياضيات والمنطق من عملية النقد‬‫التي قام بها في الكتاب (وكذلك تطبيقاتهما في علوم الطبيعة بمعيار التجربة الممكنة‪ :‬مثل الفلك‬‫والموسيقي)‪ .‬ومن هنا كذلك بيانه ‪-‬الذي ينفي ما يدعى من تكفيره للفلاسفة بسبب فكرهم‬‫الفلسفي‪-‬أن كبار الفلاسفة وخاصة أفلاطون وأرسطو لم يكونوا معادين للدين (إذ يؤمنون بأهم‬‫مبدئين أعني وجود الله والبعث أو على الأقل لا ينفونهما) وأنهم خاصة لم يزعموا أن الميتافيزيقا‬ ‫علم‪.‬‬‫لكن النخب العربية العجلى كعادتها عممت نتائج مقالة كتبها أحد الماركسيين الألمان هو أرنست‬‫بلوخ (وصدرت مقالته في كتابه ‪Ernst boch, Das Materialismus Problem, seine‬‬‫‪ Geschichte und Substanz stw 7, 1972 F /M‬ص‪ )546-479.‬وعرضها في مؤتمر‬ ‫‪38 11‬‬

‫ألفية ابن سينا (‪ 1961‬نظمه الاتحاد السوفياتي سابقا) بعنوان اليسار الرشدي ادعى فيها أن‬‫الغزالي يمثل الظلامية واللاهوت والمثالية تمثيل اليمين الهيجلي لها بالقياس إلى يساره‪ .‬ومنذئذ‬‫سادت هذه الخرافة مع رديفتها أعني تمثيل ابن رشد لليسار الأرسطي للتنوير والعلمانية المادية‪:‬‬‫خرافتي ما يسمى بالرشديين أو العقلانيين العرب الذين يتصورون في عصر ما بعد الحداثة أن‬‫مركزية العقل الميتافيزيقي الرشدي والاعتزالي ما تزال ذات معنى تسليما بأنها كان لها ذلك (راجع‬ ‫حوار أبي يعرب بالانجليزية مع مجلة إسلاميا الأندونيسية)‪.‬‬‫وليس هنا محل الكلام في هذا‪ .‬لكن الوضع الحالي يكاد يطابق مطابقة تامة الوضع الذي فرض‬‫على الغزالي كتابة التهافت دافعا وغاية خاصة وابن تيمية حاضر في أحداث العالم الإسلامي بحضور‬‫الجماعات التي تدعي تمثيل فكره والجماعات التي تدعي التصدي لفكره‪ :‬وكلتاهما أبعد ما تكون‬‫عن النفاذ إلى أساسيات إبداعاته‪ .‬فلنعد إذن إلى هذه الإبداعات التي تعنينا في هذا التلخيص‪.‬‬‫فإلى حد الآن كان حل حجة الإسلام حلا لا يمكن أن يرفضه ابن تيمية أي إنه يقبل العلة المحركة‬‫والعلة الغائية‪ .‬لكنه يعتقد أن الحلول التي ذهب إليها الغزالي كانت قاصرة وخاصة فيما تعلق منها‬‫بالعلة الغائية لكتابتها‪ :‬ومعنى ذلك أن التمييز بين العلمي واللاعلمي لم يكن تمييزا ذا تأسيس‬‫فلسفي يضاهي التأسيس السابق لعدم التمييز بينهما ما جعل الغزالي يعود إلى نفس الموقف القديم‬ ‫فلم يتجاوز علاجه الاقتصار على ترميمين قاصرين‪:‬‬‫ولما كان المنطق والتصوف على ما كانا عليه يضمران الميتافيزيقا القائلة بنظرية الحقيقة المطابقة‬‫في الحقيقة النظرية التي تجعل العقل الإنساني مدعيا \"العلم بالأشياء على ما هي عليه\" فهما إذن‬‫يفترضان أن الإنسان مقياس كل شيء وهما في الغاية يتأسسان ضمنيا على موقف سفسطائي في النظر‬ ‫وزنديقي في العمل‪:‬‬ ‫‪-1‬أي جعل الإنسان مقياس كل شيء إطلاقا لأحكامه في النظر (الضرورة الطبيعية)‬ ‫‪-2‬وجعله مقياسا يطلق تقويمه في العمل (النفعية الطبيعية أو سلطان الأقوى)‪.‬‬‫وبذلك بات التشخيص التيمي متمما لتشخيص حجة الإسلام من حيث المنطلقات مع تجذير للحلول‬‫علته إدراك الترابط الوثيق بين نظرية الحقيقة والوجود والمنطق والأخلاق الفلسفيين‪ .‬فاعتبار‬ ‫‪38 12‬‬

‫الطبائع أصل الشرائع بدل العكس يلغي الدين من أصله وتصبح فلسفة الأخلاق والتاريخ راجعة‬‫إلى النظرة التي تستند إليها جمهورية أفلاطون وملة الفارابي‪ .‬فالعلم تقنية إنسانية والعمل ذرائع‬‫انسانية إذا اقتصرا على الطبائع أي على ما لا يتعالى عنها ردا إياهما إلى القانونين المستعملين في‬ ‫الفلسفة والكلام وفي التصوف والفقه أعني‪:‬‬‫قياس الشاهد على الغائب نفيا للغيب وزعما بشفافية الوجود وإطلاق العقل مصدرا وحيدا‬ ‫للمعرفة مغنيا عما عداه‪.‬‬‫تأويل ما يخالف بع النقل العقل نفيا لتعالي الوحي وإطلاق لأحكام معرفة تزعم علما بالأشياء‬ ‫على ما هي عليه لكأنه العلم المطلق‪.‬‬ ‫وبذلك يصبح المشكل المضاعف‪:‬‬‫‪ -1‬كيف نؤسس النظر بصورة تحقق إمكان العلم وتعالي الإيمان‪ :‬وذلك هو أهم مجال أبدع فيه‬ ‫ابن تيمية ما بعد علم جديد يمكن من التحرر من الميتافيزيقا التقليدية كما سنرى‪.‬‬‫‪-2‬كيف نؤسس العمل بصورة تحقق إمكان القانون وتعالي الأخلاق‪ :‬وذلك هو المجال الثاني‬ ‫المؤسس على المجال الأول لأن الحد من إطلاق العلم النظري شرط ضروري للحرية‪.‬‬‫وإذن فهذان التعاليان هما شرطا تأسيس الحرية والشرائع ومن ثم فهما تجاوز الاقتصار على عالم‬‫الربوبية والضرورة والبلوغ إلى عالم الألوهية والحرية‪ .‬وذلك ما سنحاول بيانه في المراحل‬ ‫الموالية‪.‬‬ ‫‪38 13‬‬

‫أصبح الآن بوسعنا أن نجمع الأسئلة بصورة تمكن من الإيجاز بعد أن أطلنا القول في المسألتين‬‫الثالثة والرابعة‪ .‬سنجمع ثلاث مسائل مترابطة هي الخامسة والسادسة والسابعة تحت عنوان واحد‬‫هو منهجية التشخيص والعلاج عند ابن تيمية للتعامل مع أزمتي العلوم العملية (اصول الفقه واصول‬‫التصوف) والعلوم النظرية (أصول الكلام واصول الفلسفة) وطبعا أصل الأصول أزمته هي علة‬ ‫الأزمتين الأخريين‪.‬‬‫وطبعا فليس قصدنا الكلام في فكره كلام علماء الدين‪ .‬فهذا لا ندعيه ولا نهتم به‪ .‬إنما كلامنا‬‫بداية وغاية هو ما يقتضيه الاختصاص الذي ندعيه ونحاول أن نحقق شروطه‪ :‬كلام فلسفي في‬‫النواة الفلسفية لفكر ابن تيمية كما فعلنا مع أرسطو وديكارت وهيجل وابن خلدون والغزالي قبل‬ ‫ذلك‪.‬‬ ‫ما طبيعة العلاج التيمي‪ :‬النقد التاريخي والنقد العلمي؟‬‫بينا في السؤال الرابع أن ابن تيمية ينفي شروط علم الكلام العقلي وأنه يستعيض عنه بعلم كلام‬‫غير مسبوق يمكن تسميته بعلم الكلام التاريخي النصي‪ :‬أي تاريخ أحداث الدين وتاريخ نصوصه‬‫المؤسسة وقراءاتها المتوالية بالعودة إلى الأحداث والنصوص الأصلية‪ .‬ولهذا المنهج اسم جديد لم‬‫يكن موجودا في عصره يجمع بين فنين هما مضمون هذا العلم فن تاريخ الحدث الديني والنص الديني‬‫وفن فهمهما‪ .‬لذلك كان ابن تيمية يجاري المتكلمين في مناقشته لهم بمنطقهم الكلامي المعتاد ثم يعود‬‫إلى منطلقه في الغاية ويبين أنه لا علم بالدين أحداثا وأحاديث إلا بالعلمين التاريخي والفيلولوجي‬ ‫والجمع بينهما بمعنى التأويل ليس بالمعنى الكلامي بل بالمعنى الهرمينوطيقي المتعلق‪:‬‬ ‫‪-1‬بدلالة الحدث والحديث بأداتيهما التاريخية واللسانية في صلتهما بما يمكن أن نسميه‬ ‫‪-2‬نظرية الإنسان المدرك لذاته في علاقتها بمتعاليات تضفي المعنى عن الوجود ومنزلته فيه‪.‬‬‫ويمكن رد حججه الحاسمة ضد علم الكلام العقلي إلى حجة وحيدة رد مسائل الكلام كلها إلى‬‫مسألة وحدية هي مسألة الصفات‪ .‬فباقي مسائل الكلام توابع لها بوصفها المعضلة الأساسية في مسألة‬ ‫‪38 14‬‬

‫الكلام المركزية أي معرفة الله ذاتا وصفات‪ .‬وكل معضلات الكلام مصدرها الصفات وطبيعة علاقتها‬ ‫بالذات‪ :‬تاريخيا وبنيويا (لا يسمح المجال لإثبات هذه القضية)‪.‬‬‫ولما كان ابن تيمية لا يسلم بإمكان علم الكلام العقلي (الالهيات الكلامية) وكان يستعيض عنه‬‫بعلم الكلام النقلي أي المتعمد على تاريخ الأحداث والنصوص فإنه يتحدى المتكلمين فيطالبهم بإثبات‬‫القدرة على الإبقاء حتى على ما ينزهونه من الصفات دون التشبيه الذي بمقتضى تجنبه يحاولون‬ ‫وضع عقائدهم التي يعتبرها مجانبة للقرآن والسنة في آن‪.‬‬‫فهم ينفون جل الصفات الواردة في القرآن والحديث من أجل إثبات التقديس والتنزيه معتبرين‬‫غيرهم حشويا وقائلا بالظاهر ومجسما‪ .‬لكن ذلك يوجب طرد التقديس والتنزيه وإطلاقه‪:‬إذ إن‬‫أساسه قيس الشاهد على الغائب لانتخاب ما يحفظ وما يلغى من الصفات الواردة في القرآن والحديث‬‫بأداة التأويل‪ .‬وبذلك يثبت ابن تيمية كل ما يصف به الله نفسه في القرآن مع شرط \"ليس كمثله‬‫شيء\"‪ .‬وهم يرفضون الصفات التي يعتبرونها حشوية‪ .‬والحجة التيمية هي‪ :‬كل ما يبقي عليه‬‫أصحاب التقديس من نفاة الصفات كله لا يقع إلا بآلات في الشاهد‪ .‬فكيف تقبلونها وتنفون الكلام‬‫مثلا بحجة الحاجة إلى الآلة؟ وإذن فإما قبول كل الصفات الواردة في القرآن مع شرط \" ليس كمثله‬‫شيء\" أو رفضها جميعا لأنها جميعا مشروطة بآلات في الشاهد‪ :‬لاعقل بلا دماغ وأعصاب مثلما أنه‬ ‫لا لغة بلا جهاز تصويت ولا فرق‪..‬‬‫علينا بعد بيان امتناع علم الكلام العقلي أن نحلل القصد بعلم الكلام النقلي أو التاريخي الذي‬‫يقدمه ابن تيمية حلا ويمارسه فعلا أي إنه لم يقتصر على اقتراحه‪ .‬ولا بد هنا لفهم الحل من‬‫تحديد مفهوم \"النقل\" الذي يساء فهمه بصورة لا يكاد يصدقها عاقل‪ :‬فالنقل عند من لا يفهم معنى‬‫مقابلته للعقل مقصور على مضمون الوحي قرآنا كان أو سنة‪ .‬لكن كلمة \"النقل\" في تقابلها مع كلمة‬‫العقل تعني فلسفيا‪-‬الوضعي أو الموجب أو‪ -‬المعطى الذي ليس صادرا عن العقل سواء كان هذا‬ ‫المعطى من الوحي والتجربة الروحية أو من الوجود والتجربة الحسية‪.‬‬‫وبهذا المعنى فكل العلوم الطبيعية مثلا رغم كونها عقلية لها بالضرورة مضمون نقلي هو المعطيات‬‫التجريبية وشكل عقلي هو البناء الرياضي لقوانينها‪ .‬وهذه الخاصية يشترك فيها علم الكلام‬‫التاريخي والنصي‪ :‬له مضمون نقلي وشكل عقلي هو الجوهر علوم أدواته (التاريخ والفيلولوجيا‬‫والهرمينوطيقا الاثنروبولوجية التي هي جمع بين الأولين‪ :‬وسمية إنسانية=سيميوتكس‬‫إنسانية=دلالة الرموز الإنسانية) مثلما أن علوم الطبيعة مضمونها النقلي هو المعطيات القابلة‬ ‫‪38 15‬‬

‫للملاحظة وشكلها العقل هو علوم أدواتها (الرياضيات والمنطق والهرمينوطيقا الطبيعية التي هي‬ ‫جمع بين الأولين‪ :‬سيميوتيكس طبيعية=دلالة الرموز الطبيعية)‪.‬‬‫والنقل عندما نطبقه على علم الكلام بمعناه التاريخي والنصي عند ابن تيمية ينبغي أخذه بهذا‬‫المعنى الشامل أي المضمون الحدثي والنصي المباشرين من الدين والمعطيات التي وجه الدين إليها‬‫انتباه الإنسان لكي يعلم حقيقة النقل الديني‪ :‬وقد جمعهما القرآن في كلمتين هما \"في أنفسكم\" و\"في‬‫الآفاق\" أي ما يتبين به الإنسان حقيقة ما جاء به القرآن‪ .‬فيكون علم الكلام التاريخي والنصي أو‬‫النقلي بهذا المفهوم علما جديدا يعوض الإلهيات الكلامية والفلسفية في وظيفة تأسيس المعرفة‬ ‫بدرجتيها ويمكن تسميته بما بعد التاريخ‪:‬‬‫‪-1‬معرفة الأنفس والآفاق أو علوم الإنسان (الأنفس) بأدواتها العقلية أي التاريخ واللسان‬‫وعلوم الطبيعة (الآفاق) بأدواتها العقلية أي الرياضيات والمنطق وهما الوحيدان اللذان يمثلان‬ ‫العلم عند ابن تيمية بعد تحديد جديد يجعلهما عديمي المضمون الوجودي‪.‬‬‫‪-2‬معرفة الأحداث (تاريخ الوقائع) والنصوص (تاريخ الحديث عليها) الدينية المتعلقة بدرجة‬‫أسمى من الوجود الإنساني تنظيما للعيش المشترك (المعروف والمنكر) وشروط الحكم العادل‬ ‫(السياسة الشرعية) وتحقيق شروط التعاون والتبادل الآمن والتعاوض العادل‪.‬‬‫وقد جمع ابن خلدون في غاية قرن ابن تيمية هذا الفهم بصورة أكثر علمية من حيث الصوغ الفني‬ ‫أو الاصطلاحي فسمى المستويين باسم علمه المضاعف علم العمران البشري والاجتماع الإنساني‪:‬‬‫‪-1‬العمران البشري (=تحقيق شروط العيش المشترك السياسية والاقتصادية من حيث العلاقة‬ ‫بالطبيعة مصدرا للقيام والعيش حتى يكون التعاون على سد الحاجات ممكنا)‬‫‪-2‬الاجتماع الإنساني (تحقيق شروط العيش المشترك التربوية والثقافية من حيث العلاقة بين‬‫الناس أصلا للأنس وتحسين شروط العيش بفضل العلوم والتقنيات التي تساعد على سد الحاجات)‪.‬‬‫وحصيلة هذا الانقلاب الفكري‪ -‬وهو أمر قل ان تجد من يصدق أنه قد حصل في فكرنا وبصورة‬‫صريحة أعجب له شديد العجب ولمروره مرور الكرام دون أن يدري به المتفلسفون الذين تسكرهم‬‫زبيبة من نجومنا أصحاب المشاريع الفكرية‪ -‬هي أن نظام الفكر الذي كان منذ الحقبة اليونانية‬‫أساسه ما بعد الطبيعة أصبح أساسه صراحة بعد هذين المفكرين ما بعد التاريخ‪ .‬وهذه مسالة يصعب‬ ‫شرحها في هذه العجالة رغم شرحنا لها في غير موضع‪ .‬لكنها هي المميز بين‪:‬‬ ‫‪-1‬حقبتي التاريخ القديم والوسيط معا منذ أفلاطون وأرسطو‪.‬‬ ‫‪-2‬حقبتي التاريخ الحديث وما بعده معا منذ ابن تيمية وابن خلدون‪.‬‬ ‫‪38 16‬‬

‫ولهذه العلة جمعنا بين هؤلاء الأعلام الأربعة في كتاب إصلاح العقل في الفلسفة العربية‪ .‬فقد‬‫اصبحت الميتافيزيقا نفسها بعد ابن تيمية وابن خلدون وإلى الآن جزءا من الميتاتاريخ‪ .‬فعلم‬‫العمران البشري والاجتماع الإنساني هو الذي يفسر لنا توالي الميتافيزيقيات بحسب مراحل‬‫نضوجه‪ .‬وهذا يعد أكبر اكتشاف تيمي خلدوني بل هو الثورة الفلسفية الثانية بعد الثورة‬‫اليونانية‪ .‬وقد غفل جل المثقفين العرب عنها فكان مآل فكرهم ا لتزحلق النجومي على سطح فكر‬‫الرجلين مكتفين بالكليشيهات السخفية التي وصفنا بعضها فيما سبق من هذا التلخيص‪ .‬والآن يسهل‬‫أن نجيب بكلمات وجيزة عن السؤالين المواليين أي عن طبيعة الأزمتين أزمتي العلوم العملية والعلوم‬ ‫النظرية‪.‬‬ ‫ما طبيعة أزمة الفنين العمليين‪ :‬العلاقة بين الفقه والتصوف؟‬‫الأزمة بينة لأنها هي مدار الصراع بين الفقه والتصوف‪ .‬ما ليس ببين هو تعليلها وبالتالي تعذر‬‫فهم السبيل الموصلة إلى طرق علاجها‪ .‬فهي بلغتهم القديمة صراع ليس بين الفقه والتصوف عند‬‫أخذهما كما هما في حقيقتهما بل صراع بين التيارين المسيطرين على الساحة التيارين اللذين‬‫يقابلان بين ظاهر الشرع وباطنه مفصولين أحدهما عن الآخر كل منهما يقدم وجها ويترك الثاني‬‫ثم يتبادلان التهم فيسمي المتصو ُف الفقيه بكونه صاحب الرسوم قاصدا الشكل من دون مضمون‬‫مدعيا أنه يمثل الحقيقة في مقابل الرسوم‪ .‬ويسمى الفقيهُ المتصوف إما بالمنافق أو بالمستهتر بالشريعة‬ ‫بدعوى تمثيل الحقيقة قاصدا المضمون مقابل الشكل‪.‬‬‫لكن الاسم المناسب بلغة فلسفية مطابقة لحقيقتهما الدينية وصلا بين وجهي حياة الإنسان ظاهرها‬‫وباطنها هو المقابلة بين قانون صوري يهمل المضمون الخلقي وأخلاق مضمونية تهمل الشكل القانوني‪.‬‬‫فتكون الأزمة هي أزمة البحث عن طبيعة العلاقة بين القانون والأخلاق في جماعة سوية حتى يكون‬‫فهم الدين بوصفه سياسة الدنيا مطية للآخرة فهما سليما‪ .‬ذلك ما حاول ابن تيمة علاجه بصورة‬‫غير نسقية بسبب أحداث حياته وأصبح عند ابن خلدون المسألة الجوهرية في مصنفه حول العمران‬ ‫البشري والاجتماع الإنساني‪.‬‬ ‫ما طبيعة أزمة الفنين النظريين‪ :‬العلاقة بين الكلام والفلسفة؟‬ ‫‪38 17‬‬

‫وهنا كذلك الأزمة بينة لأنها مدار الصراع بين الكلام والفلسفة‪ .‬وهنا أيضا ما ليس ببين هو‬‫تعليلها ومن ثم سبل الوصول إلى مناهج علاجها‪ .‬فهي باللغة السائدة حينئذ ليست صراعا بين طريقي‬‫الوصول إلى الحقيقة بل هي صراع بين انحرافين يجانبان الصواب في طلبها أي بين العقد المقصور‬‫على الظاهر والعقد المقصور على الباطن‪ ،‬لكأن الوحي مجرد إيديولوجيا شعبية النبهاء من المتكلمين‬‫والفلاسفة يدركون ما وراءها من حقائق وبمقتضاها يتأولون نصوص الدين وأحداثه‪ .‬والفرق‬‫الوحيد بين المتكلمين والفلاسفة هو درجة البعد بين الباطن والظاهر أو مقدار الحاجة إلى التأويل‬ ‫وتصنيف العقول بدرجاتها التي أصبحت مضغة في أدبيات الجابري رحمه الله‪.‬‬‫ولهذه العلة فإن غاية الكلام العقلي هي الفلسفة التي لا تصحح الكلام من حيث الموقف بل من‬‫حيث المنهج والقدرة على تحقيق ما يطلبه الموقف لا غير‪ .‬فهي توافقه على أن باطن الدين هو‬‫العقلي وظاهره إيديولوجيا شعبية‪ :‬لكأن الأنبياء سياسيون يكذبون على الشعب لسوقه سوق الأنعام‪.‬‬‫لكن الفلاسفة ينفون عن المتكلمين نفي الباطنية على السنة القدرة على الوصول إلى هذا الباطن‪,‬‬‫لأن أصحابه ليسوا من أهل البرهان‪ .‬وهذا العرض يكاد يكون ملخصا لغاية الموقف الفلسفي من‬‫الموقف الكلامي كما عرضه ابن رشد في كتابه مناهج الأدلة الذي علق عليه ابن تيمية بخطه والذي‬‫يمثل الخيط الواصل وصلا ماديا بينهما فضلا عن كون الرد على المنطقيين كان منطلقه حواراته مع‬ ‫الرشديين في الاسكندرية‪.‬‬‫والتعليل الذي يبين اكتشاف ابن تيمية لحقيقة الأزمة ومن الانتباه إلى طرق علاجها هو غموض‬‫العلاقة بين العلم والإيمان‪ .‬وبلغة حديثة فهو دون أن يسمى ذلك كذلك قد اكتشف ما يمكن أن‬‫نسميه بطبيعة العلاقة بين بعد الابستميك من المعرفة (درجات العقد المعرفي) وبعد الابستمولوجيك‬ ‫منها (الدرجة التي تسمى معرفة موضوعية لأنها تواضعية)‪.‬‬‫فمواضعة العلماء على مصفوفة من القواعد تحدد درجة العقد التي بتحققها في نتائج المعرفة‬‫يتحقق ما يمكّن من وصفها بكونها علما لا ينبغي إطلاقها بصورة تجعلها حقيقة مطلقة تقابل بها‬‫درجات الإيمان بالمعنى الديني وكأنها منافس لها‪ :‬ومعنى ذلك أن نفي ابن تيمية لمعيار الحقيقة‬‫المطابقة الذي ينتج عن وهم العلم بالأشياء على ما هي عليه جعله يدرك أن الابستمولوجيك ليس‬‫إلا درجة من الابستميك تواضع العلماء على اعتبارها علما موضوعيا يحقق المطابقة بين العلم‬‫والمعلوم‪ .‬وما هي إلا مواضعة إذا أطلقت جعلت الإنسان مقياس كل شيء فتحول العلم إلى سفسطة‪.‬‬ ‫‪38 18‬‬

‫لكن المجالين مختلفان تماما‪ :‬فالتصديق العلمي ذريعي بالأساس والتصديق الإيماني وجودي‬‫بالأساس بمعنى أنه هو الذي على وجود الإنسان معناه ولا يكتفي بسد حاجاته المعرفة سواء كان‬‫نظرية خالصة أو ساعية إلى تحقيق غاية تطبيقية‪ .‬فيكون المشكل هو كيفية تحديد المعايير العلمية‬‫التي تحقق الغرض منها دون أن تتحول إلى منافس لمعايير الإيمان التي تتعلق بمستوى وجودي أسمى‬‫من دونه لا معنى للحياة ذاتها فضلا عن مجالات نشاطها المعرفي وغاياته‪ .‬وبلغة بسيطة فالمعرفة‬‫العلمية مهما بلغت من القيمة لا تتجاوز قيمة العبادة السامية التي هي عرفان بمعنى ما للوجود‬‫ولصاحب الجود في خدمة ما خُص به الإنسان من مهام بوصفه مكلفا يسأل عنها في دنياه وفي أخراه‪.‬‬‫ومن ثم فالأزمة النظرية هي أزمة معان ورتب بين أنشطة الإنسان من حيث هو كائن جوهر وعيه‬‫علاقة بالمطلق بما هو حقيقة (معرفة) وبما هو جمال (ذوق) وبما هو خير (أخلاق) وبما هو شارع‬‫(حرية) وبما هو مثال أعلى (جلال) وأخيرا بما هو الواجد الذي ليس لحياة الإنسان من معنى من‬‫دون الاشرئباب إلى التشبه بصفاته الذاتية الخمس (وجود)‪ :‬الإرادة والعلم والقدرة والحياة‬‫والوجود وإن بدرجات نسبية ينقصها الإطلاق الذي لها باعتبارها صفات الذات الإلهية‪ .‬وأخيرا‬‫فإني أعلم بكل أسف أن الكثير سيعتبر هذا الكلام عسيرا على الفهم‪ .‬لكن ما باليد حيلة‪ :‬يحق لم‬‫يشاء أن يتهم من يشاء بما يشاء إذا كان فاقدا للقدرة على النقد الذاتي فيبدأ باتهام نفسه لعلها‬ ‫قد قصرت في التعلم الصبور لفهم دقائق الأمور وتقديرها التقدير الذي يكون علمها به جدير‪.‬‬ ‫‪38 19‬‬

‫ما طبيعة أزمة فن الفنون‪ :‬الصلة بين النص المؤسس والوجود؟‬‫إن الطابع المعقد لهذا السؤال يقتضي أن نفرده بالجواب بخلاف ما فعلنا في المرحلة الرابعة من‬‫أجوبتنا‪ :‬فهو سؤال مضاعف إذ هو يقتضي أن نفهم طبيعة النص المؤسس وطبيعة فهم ابن تيمية له‬‫وكيفية استعماله‪ .‬وإذن فقبل أن نجيب عن السؤال فلنحدد القصد بالنص المؤسس عامة ومميزات‬‫النص المؤسس في حضارة الإسلام أعني القرآن الكريم بالقياس إلى النصوص الأخرى المؤسسة‪ .‬فلكل‬ ‫حضارة قصة تنزل بها ذاتها في الوجود وتعلل مشروعية نظامها القيمي في الأذهان وفي الأعيان‪.‬‬‫لذلك فأسطورة المقابلة بين حضارات لا يقيدها نص وحضارات يقيدها نص تحقيرا للثانية‬‫وتمجيدا للأولى من سخافات العلمانيين العرب والليبراليين وتوابعهم من القوميين العرب ومن‬‫توهماتهم الدالة على الجهل بالانثروبولوجيا عامة وانثروبولوجيا الأديان خاصة‪ .‬فهذه الفكرة‬‫السخيفة التي يتغنى بها جماعة النعي على تعلق الأمة بمقدساتها ونصها المؤسس تدل على أنهم‬‫يجهلون أهم مبدأ يحدد المقصود بالمقومات التي تشترك فيها جميع الحضارات ومنها النص المؤسس‬‫بحيث إنهم متخلفون ليس على الانثروبولوجيا الحديثة فحسب بل حتى على إرهاصاتها عند ابن‬ ‫خلدون‪.‬‬‫فالحضارات لا تقوم من دون مقومين مادي ورمزي المقومين اللذين يبدأ بهما ابن خلدونه مقدمته‬‫في بابها الأول المتعلق بالجغرافيا والمناخ والفنون الرمزية وأصناف التعبير عما يتعلق بوضع النص‬‫المؤسس تأريخا للأديان الطبيعية‪ .‬فالأول طبيعي مضاعف هو المكان والزمان والثاني ثقافي مضاعف‬‫هو أنظمة اللحم الذهني للجماعة (النص المؤسس والتربية) وأنظمة اللحم العيني للجماعة‬ ‫(الاقتصاد والحكم)‪.‬‬‫فما من حضارة إلا ولها شيء ما يؤدي هذه الوظيفة التأسيسية سواء كان نصا مكتوبا أو مرويا في‬‫الحضارات التي لم تتجاوز المرحلة الشفوية‪ ،‬بإن النص المكتوب مهما بلغ من قوة الحضور لا يلغي‬‫الصيغة الشفوية التي تصل النصوص الراقية بترجمات شعبية يغلب عليها الخرافة أكثر من التأسيس‬ ‫‪38 20‬‬

‫الفعلي‪ .‬والصراع بين الصيغتين من مقومات كل حضارة لأنه يمثل صراعا بين مستوييها الخاص‬ ‫بنخبتها العلمية والروحية والعام لبقية الشعب بسبب اختلاف مستويات الإدراك والتصور‪.‬‬‫ولنأت إلى المميزات التي يختص بها القرآن ليس من حيث المضمون (لأن جميع النصوص المؤسسة‬‫تتضمن تقريبا نفس المضامين التي أشرنا إليها مع تفاوت النسب بينها بسبب مراحل تطور الوعي‬‫الديني كما يؤرخ لذلك القرآن الكريم في قصه للتجارب الدينية السابقة) بل من حيث الشكل‬ ‫وطبيعة العلاقة بالجماعة‪.‬‬‫فمن حيث هذه العلاقة هو النص الأول الذي يلغي السلطة الروحية التي تتوسط بين النص‬‫والشعب ولم يبق منها إلا الوساطة المعرفية والتعليمية ويصحب ذلك ضرورة تعميم التعليم لمعرفة‬‫النص مباشرة من كل مؤمن معرفة لا تجعله بالضرورة مختصا فيه بل قادرا على التمييز بين منتحلي‬‫الاختصاص فيه‪ .‬ومعنى ذلك أن الخاصية المميزة الأولى هي نفي طبقة لها وظيفة أداء الشعائر‬ ‫بديلا من الشعب والتوسط بينه وبين الخالق‪.‬‬‫أما من حيث الشكل فهو إن صح التعبير أول محاولة لوضع ما أطلقنا عليه اسم علم الكلام التاريخي‬ ‫والنصي أساسا كليا لأصناف استعماله الخمسة‪:‬‬ ‫‪-1‬في الحكم والشرائع المنظمة للجماعة والمفسرة للتاريخ الإنساني‪.‬‬ ‫‪-2‬وفي التعليم ومجالاته الإنسانية والطبيعية‪ :‬انفسكم والآفاق‪.‬‬ ‫‪-3‬وفي الاقتصاد ومعاييره وقيمه وأخلاقه‬ ‫‪-4‬وفي الثقافة وقيمها التي تسمو بالإنسان ذوقا وكرامة‬‫‪-5‬وفي العلاقة بالمطلق أو هذه الخاصية الجوهرية التي اشرنا إليها‪ ،‬أعني جعل الجماعة متصلة‬‫مباشرة بالمطلق من خلال صلتها المباشرة بالنص‪ .‬فلا يكون بينها وبين المطلق وسيط ذو سلطان روحي‬‫حتى وإن ُقبلت الحاجة إلى الوسيط المعرفي كما في كل الاختصاصات التي تتطلب معرفة فنية لا يمكن‬‫أن يحصل عليها الجميع بنفس الدرجة من الحصول ومن ثم فلا بد من معلمين بالمعنى الفني للتعليم‬‫وليس بمعنى قيادة الضمائر كالحال في الكنسية‪ .‬وكل ذلك بمنهج نقدي لظاهرتين يعالجهما القرآن‬‫الكريم هما ظاهرتان تفسدان هذه العلاقة أداة تلق (الفكر الإنساني‪ :‬الجاهلية فقدانا للعلم‬ ‫وللحلم) ومضمونا متلقى (النص المؤسس‪ :‬زيادة أو نقصانا ماديا أو معنويا)‪:‬‬ ‫الجاهلية في الموقف من الوجود والآخر أي أخلاق التعامل بين البشر‪.‬‬ ‫التحريف في الموقف من النص المؤسس وما يصدر عن الآخر والوجود‪.‬‬ ‫‪38 21‬‬

‫والمنهج النقدي القرآني كما هو بين لكل منصف يريد حقا أن ينظر إلى النص كما هو دون قيسه‬‫على النصوص التي هي مضمون نقده بمعيار إصلاح التحريف استنادا إلى قاعدة التصديق والهيمنة‬ ‫هذا المنهج يعتمد على العلاجين التاليين‪:‬‬‫‪-1‬نقد تاريخي للتجارب الحضارية السابقة وبالخصوص وجهها الديني والخلقي من منطلق نقد‬‫الفكر ومواقفه التي تجعله لا يفهم لجهل أو لتجاهل‪ :‬ولعل أفضل مثال هو سورة هود التي تعرض‬‫ست حالات منقودة يتوسط ثلاثتها الأولى (نوح وهود وصالح) وثلاثتها الثانية (لوط وشعيب‬‫وموسى) نموذج النقد التساؤلي الفلسفي الديني(إبراهيم) ومحققه الفعلي في التاريخ (محمد)‬‫فنعلم التجارب الحضارية الأساسية التي يمكن المنهج الإبراهيمي (نظريا) والمحمدي (عمليا) من‬ ‫إصلاحها‪.‬‬‫‪-2‬ونقد تاريخي للنصوص السابقة وخاصة النصين المنزلين اللذين يقبلهما ويعتبر نفسه مكلفا‬‫بحمايتهما (معنى كلمة هيمنة ليس السيطرة فحسب بل هو الائتمان على الشيء كذلك)‪ .‬وأساس‬‫نقد النصوص في هذه الحالات النموذجية مطبقا على نصين خاصة هما التوراة والإنجيل يعتمد‬ ‫قاعدتين وضعتهما الآية ‪ 48‬من المائدة‪:‬‬ ‫‪-1‬التعدد الديني مقصود لأن الله كان يمكن أن يوحد البشرية حول دين واحد‪.‬‬‫‪-2‬وغاية التعدد المحافظة على الكليات الأساسية غاية للتسابق في تحقيقها بين أهل الشرعات‬‫والمنهاجات المتعدد‪ .‬فلا يكون النقد إذن للتهديم بل هو للإصلاح من أجل المحافظة على التعدد‬ ‫لتحقيق التسابق في الخيرات‪.‬‬‫وطبعا فذلك يقتضي استعمال المنطق السليم بقاعدة الأولى وتاريخ النصوص ونقدها‬‫والهرمينوطيقا كما في محاولة إصلاح المعتقدات حول المسيح عليه السلام‪ .‬وهو يقتضي خاصة خلق‬‫التسامح التي جعلت القرآن يقر جميع الأديان (في ثلاث مواضع من القرآن الكريم بما في ذلك‬‫الذين أشركوا ‪-‬في أحدها‪-‬معتبرا إياهم ضمن من سيحاكم يوم الدين بمقتضى أفعاله) فيما يتعلق‬‫بالحكم النهائي وحدد دور الدولة الإسلامية في تمكينها من التعايش تحت حمايتها ورعايتها بل‬ ‫وذمتها‪.‬‬‫وكل من لم ينتبه إلى هذه المقومات في المنهج القرآني إما جاهل أو متجاهل خاصة إذا كان من‬‫أدعياء الاختصاص وكثيري الكلام على الإصلاح الديني وعلوم الأديان متناسين أن القرآن الكريم‬‫هو بالأساس نص في الإصلاح الديني مستند إلى تاريخ نقدي للتجارب السابقة‪ .‬وقد يكون لما يسمى‬‫بعلماء الدين المسؤولية الأولى لهذا التردي بسبب الاقتصار على فقه عصر الانحطاط الذي حصر‬ ‫‪38 22‬‬

‫الدين في التراتيل والدعاء وكثرة البكاء والثغاء والإلهاء عما حددته السماء من قيم لا تقتصر‬‫على العبادات على أهميتها وضرورتها بل تهتم خاصة بشروط المعاملات التي تحترم كرامة الإنسان‬‫وحريته ومن شروط الحاكمية العادلة والشرعية‪ ،‬إذ هو لن يحاسب على آراء الفقهاء والمفاتي بل‬ ‫على سلوكه الظاهر والباطن إذ كل يأتي الله فردا‪.‬‬‫وهكذا يتبين لمن تدبر القرآن الكريم أن ابن تيمية الذي نسبنا إليه هذا الاكتشاف هو في الحقيقة‬‫ليس مكتشفا لفن غير مسبوق بل اكتشف طريقة لجعل هذا المعين اساسا لعلم الكلام التاريخي والنصي‬‫فجعله منهجا نسقيا يستمد مبادئه الأساسية من النص القرآني ذاته دون ا لاقتصار عليه لأن المعين‬ ‫وظيفته تحديد البداية وشروط الحفاظ على الغاية دون العناية بالوسائط الفنية بينهما‪.‬‬‫والغريب أن نفس المسعى يصح على ابن خلدون‪ .‬ذلك أن عنوان علمه ومضمونه وحتى خطته‬‫كلها قرآنية‪ :‬فالعنوان \"علم العمران البشري والاجتماع الإنساني\" ترجمة حرفية لاستعمار الإنسان‬‫في الارض واستخلافه فيها‪ .‬ولو وصلنا ذلك بالآية الأولى من النساء لوجدنا أن المعنى الأول يتعلق‬‫بخلق الناس (صلة بالرب) والثاني يتعلق بأخلاقهم (صلة بالله) فضلا عن كون العلم ليس علما‬‫بالعمران والاجتماع الإسلاميين بل هو علم العمران البشري على الإطلاق والاجتماع الإنساني على‬‫الاطلاق ما يعني أن المرحوم عبد الرحمان بدوي أساي الظن به عندما اعتبره قد اقتصر على‬ ‫استقراء المجتمعات البدائية في المغرب العربي‪.‬‬‫وحاصل القول بالنسبة إلى جواب هذا السؤال الأول هو أن ابن تيمية قد أعاد الفكر الإسلامي‬‫بفنونه الخمسة إلى فن أصلي مؤسس‪ ،‬بأن اكتشف أن وظيفة العلم المؤسس للعلوم الأخرى مناظرة‬‫لوظيفة النص المؤسس لوجود الإنسان ولمنزلته في الكون‪ .‬وأصول منهجية هذا العلم موجودة في‬‫القرآن الكريم‪ :‬النقد التاريخي للأحداث الحضارية والنقد التاريخي للنصوص المؤسسة من أجل‬‫إصلاح حياة الإنسان في الدنيا والآخرة‪ .‬وهو ما يجعل الكثير يخطئ فيقتصر على قراءة القرآن‬‫قراءة فقهية (بأحكامه) أو صوفية (بزهده) أو كلامية (بحجاجه) أو فلسفية (بنواميسه الكونية)‬‫أو ميتافيزيقية (بوضعه نظرية المعرفة ونظرية الوجود العامة (أنطولوجيا عامة) وفروعها‬ ‫الانطولوجية الثلاثة الخاصة‪:‬‬ ‫نظرية الإنسان‪ :‬انثروبولوجيا‪.‬‬ ‫ونظرية العالم‪ :‬كوسمولوجيا‪.‬‬ ‫ونظرية الإله‪ :‬تيولوجيا‪.‬‬ ‫‪38 23‬‬

‫فرد القرآن إلى ما اشتق منه من فنون هكذا بصورة مباشرة تناس لأمر جوهري وهو أنه ما بعد‬‫لهذه الفنون ولا يرد إليها لا جملة ولا تفصيلا‪ .‬فهو ليس أيا من هذه الفنون ولا هو كل هذه الفنون‬‫بل هو ما بعدها المؤسس لها معرفيا تأسيسه لوجود الإنسان وجوديا من حيث المنزلة والمعنى والمهام‬‫في الكون الموصول بخالق يحميه ويرعاه بما يمكن أن يعد النموذج الأسمى لأي دولة تامة الشروط‪.‬‬ ‫‪38 24‬‬

‫كيف حل ابن تيمية أزمة الأداتين؟‬ ‫‪-1‬ما بعد التاريخ‬ ‫‪-2‬وما بعد المنطق‬‫تدرجنا صعدا من الأيسر إلى الأعسر‪ .‬وها نحن قد وصلنا إلى مباحث قد لا يستطيع متابعتها إلا‬‫الصبور الذي يجمع بين تكوين فلسفي متين يمكن من تاريخ الفكر وفنيات العلاج الفلسفيين وما لهما‬‫من صلة بالممارسات الفكرية الأخرى التي تتبادل معهما التأثير والتأثر‪ .‬لذلك فالحاجة ماسة إلى‬‫شيء من التذكير بالأساسيات التي تساعد القارئ بما لا ننشغل به عادة في التلاخيص‪ .‬فقد وضع‬‫ابن تيمية حلا عسير الفهم والتطبيق للخروج من المآزق الكلامية التي نتجت عن مبدأي علم الكلام‪:‬‬‫‪-1‬قياس الشاهد على الغائب لمعرفة ما وراء الشاهد دون تمييز بين ما يقبل الشهادة (الغائب)‬ ‫وما لا يقبلها (الغيب)‪.‬‬‫‪-2‬ومعيار التأويل لرد ما لا يتفق فيه الوحي مع العقل بمعنى ما يحصل عليه من معرفة بالمبدأ‬ ‫الأول الخالي من التمييز المشار إليه‪.‬‬‫وهذا الحل هو ما نريد بيان عسره الذي كان مناسبة لفتح أفق جديد ليس للفكر الإسلامي وحده‬‫بل للفكر الإنساني كله‪ .‬وعلة العسر لعلها تتمثل خاصة في أن ابن تيمية يبدو عند أخذ فكره بفهم‬‫أولي وكأنه يقر المبدئين الكلامين ويبحث في شروط استعمالهما السوي وليس في كيفية تحرير الفكر‬‫منهما انطلاقا من اعتقاده باستحالة المعرفة الكلامية والميتافيزيقية التي لو كانت ممكنة لأغنت عن‬ ‫الوحي‪.‬‬‫لكن تعميق البحث في مسعاه يبين أنه في الحقيقة قد تمكن من تعيين المأزق الذي لا يمكن علاجه‬‫فضلا عن الخروج منه وتجاوزه كلاميا ما يعد لثورة قد لا يكون مدركا لها بصورة تامة الوضوح لكنه‬‫بمجرد تحديده لشرط الموقف البديل من الموقف الذي يرد المنقول للمعقول في حالة عدم التطابق‪:‬‬ ‫نفي التعارض بين صحيح المنقول وصريح المعقول‪ ,‬مع نفي مبدأي الكلام كله المشار إليهما‪.‬‬ ‫‪38 25‬‬

‫ولا ننفي أن هذه العبارة السحرية التي يستعملها ابن تيمية يمكن أن تقرأ قراءة تقليدية فلا‬‫تغير شيئا بخصوص أساسي أطروحات علم الكلام فيكون معناها‪ :‬إذا صححنا الأخبار ومحصنا الحقائق‬‫العقلية‪ ،‬فإننا لن نجد تناقضا بين النقل والعقل‪ .‬لكن عندئذ يكون ابن تيمية مواصلا الاندراج في‬‫الموقف الكلامي الفلسفي وإن طلب مزيدا من التمحيص لا غير‪ :‬ويكون قصاراه في ذلك أنه قد وقف‬‫الموقف الرشدي من الكلام وليس من الإشكالية التأويلية‪ .‬كذلك قرئت حلوله فظن متكلما أبرع من‬‫غيره لكنه يبقى متكلما‪ .‬تلك أماني بعض المتكلمين الجدد من ذوي الثقافة الفلسفية الصحفية رغم‬‫عنترياتهم السخيفة والعناوين الرنانة تضحك حتى المبتدئين في الفكر الفلسفي وخاصة وأغلبهم من‬‫ذوي التكوين التقليدي الذي لا يتجاوز ثقافة معلمي الكُ َّتاب أي مدارس تحفيظ القرآن الكريم‬ ‫للأطفال‪.‬‬‫وهذه القراءة لو قبلت لكان معناها أن ابن تيمية لا يطالب إلى بالتأكد من صحة النقل وصراحة‬‫العقل ليوافق على المطابقة بين العقل والنقل‪ .‬فيكون من ثم قائلا مثل المتكلمين بأن العقل هو الحكم‬‫النهائي في دلالات الوحي‪ :‬وهذا وحده كان يمكن أن يكون كافيا للشك في هذا الفهم لو كان منتحلوه‬‫ذوي فطنة‪ .‬فعندئذ يكون الأمر وكأنه لا فرق بينه وبين الفلاسفة والمتكلمين‪ :‬أي أنه لا يقول بتعالي‬‫بعض ما في النقل على ما في العقل‪ .‬فلكأنه يسلم بأن الوحي يقاس بالعقل بمجرد أن نكون قد صححنا‬‫الأول وصرحنا الثاني‪ .‬وقد انخدعت أنا نفسي بهذا الفهم الأولي لولا ثورة ابن خلدون رحمه الله‬ ‫وما لها من صلة بأحد عنصري معيار ابن تيمية في الظاهر وبهما معا في الباطن‪.‬‬‫فبعد فهم الشروط التي وضعها ابن خلدون لمفهوم تصحيح المنقول عند تطبيقها على شروط‬‫تصريح المعقول وبيانه علل امتناع الميتافيزيقا أي المعرفة العقلية المتجاوزة للتجربة الحاصلة أو‬‫ممكنة الحصول أصبح بالوسع الولوج إلى فكر ابن تيمية ولمح عناصر ثورته الفكرية المكملة لثورة‬‫ابن خلدون وإذ هي متقدمة عليها فهي إذن شارطة لها ليس بعلاقة بين المفكرين بل بتغير في مناخ‬ ‫الفكر العام الذي كان من ثمراته ثورتاهما‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن ترميم المدارس الأربعة في القرنين السادس والسابع وما تعرضت إليه من نقد هو‬‫الذي مكن الفكر الإسلامي عامة وذروته العربية خاصة من تحقيق هذا الانقلاب الثوري في الفكرين‬ ‫النظري والعملي‪.‬‬‫ولا بد هنا من تذكير سريع بهذا المناخ الفكري الذي وصفناه بمفهوم الترميم وعالجنا مقدماته‬‫ونتائجه بصورة معمقة في الجزء الأول من رسالتنا الذي نشر بعنوان تجليات الفلسفة العربية‪.‬‬‫فالمقصود هو إعادة بناء صرح الفلسفة والكلام والفقه والتصوف مباشرة بعد الزلزال الذي ضربها‬ ‫‪38 26‬‬

‫جميعا بسبب ثورة الغزالي ترميما مثله في الكلام والفقه كما هو معلوم الرازي ومثله في الكلام‬‫والتصوف ابن عربي ومثله في الفلسفة والكلام ابن رشد ومثله في الفلسفة والتصوف السهروردي‬‫المقتول‪ :‬كل ذلك في القرن السادس القرن الذي يمكن ان نسميه قرن بناء المدرسية الإسلامية في‬ ‫هذا المجالات من منطلق ما بينها من صلات هي التي أشرنا إليها عند ممثليها‪.‬‬‫فهؤلاء المفكرون الكبار كلهم يردون على زلزال الغزالي مباشرة أو بصورة غير مباشرة‪ :‬سعيا‬‫لترميم الفلسفة والكلام والفقه والتصوف وأصلها جميعا أعني العلاقة المتبادلة بين النص المؤسس‬‫والوجود‪ .‬فمحاولة الترميم الفلسفي الكلامي النقدي للتجربة الإسلامية التي نقدها الغزالي فيها‬‫عودة إلى أرسطو (ابن رشد وابن عربي) وإلى أفلاطون (السهروردي والرازي)‪ .‬وهو ما يسر‬‫العلاقة المباشرة بين الاستئناف النقدي الجذري ممثلا بابن تيمية في النظر خاصة (تجاوز ميتافيزيقا‬‫ارسطو) وفي العمل ممثلا بابن خلدون خاصة (تجاوز ميتاتاريخ أفلاطون) العلاقة المباشرة مع‬‫المصدرين الأفلاطوني والأرسطي‪ :‬وتلك هي علة تسمية الجزء الثاني من رسالتي بالإشارة إلى هذه‬‫الأسماء الأربعة‪ :‬أرسطو وأفلاطون مصدرين وابن تيمية وابن خلدون تجاوزين للمصدرين بثورة‬ ‫نظرية وثورة عملية كانت موضوع الرسالة في مسألة الكليات العقلية‪.‬‬‫وطبعا لم يكن الترتيب المعكوس في المدرسة اليونانية بالقياس إليه في المدرسة العربية تحكميا أو‬‫حبا في السجع‪ ،‬بل هو بسبب كون العلاج في التجربة العربية كان بعكس ما كان عليه في المدرسة‬‫اليونانية‪ :‬فهم أفلاطون عملي لأنه سقراطي حتى وإن اشتهر بالمثاليات وهم أرسطو نظري ما أسس‬‫لنقده لأفلاطون‪ .‬وهذه العلاقة بين النظر والعمل من حيث الترتيب هي عينها العلاقة بينهما في‬‫الأزمة التي نعالجها رغم ترابط الحلين الأفلاطوني الأرسطي والحلين التيمي الخلدوني‪ :‬فهَم الأول‬‫نظري لكونه يقدم العقدي على الشرعي وهم ابن خلدون العكس‪ .‬فهو يعتبر الشرعي والسياسي‬‫مثل أفلاطون متقدمين في الفاعلية وحتى في تكوين الإنسان التربوي‪ .‬لكن علاقة الترابط بينهما‬‫تبقى هي هي‪ :‬عند الزوجين اليونانين والزوجين الإسلاميين لا يمكن تغيير أحدهما من دون تغيير‬ ‫الثاني التغيير المناسب له‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن ابن خلدون هو الذي فتح لي الطريق لفهم ابن تيمية‪ .‬فعندما يتكلم المرء على‬‫صحيح المنقول يضع نفسه بوعي أو بغير وعي أمام مفارقة يعسر حلها‪ :‬فالمنقول خبر عن حدث‪.‬‬‫والحدث قد يكون مما بقي له أثر موضوعي يمكن الاحتكام إليه للتأكد من صحة الخبر‪ .‬لكن أغلب‬‫المنقول حتى عندما لا يكون متعلقا بالعالم الآخر لا يكون له أثر موضوعي يمكن الاحتكام إليه للتأكد‬ ‫‪38 27‬‬

‫من صحة الخبر‪ .‬وفي الحالتين فإن مطابقة الخبر المنقول للحدث الحاصل سواء من حيث الوقوع أو‬ ‫من حيث المعنى يضعنا أما قضية يبدو حلها شبه مستحيل‪.‬‬‫لكن ابن تيمية لم يعالجها وبقي ظاهر تعامله معها مقصورا في الأغلب على منهج المحدثين بالتجريح‬‫والتعديل مع معيار وضعه صراحة تلميذه ابن القيم هو معيار الاحتكام إلى القرآن قبولا وردا‬‫للأحاديث مبدأ تمحيص الحديث الذي رد إليه كل المبادئ وقدمه عليها‪ .‬لكن هذا الاحتكام غير‬‫صالح في مشكله الثاني أعني مشكل صريح المعقول‪ :‬فالقرآن في هذه الحالة لا يمكن أن يكون قاضيا‬‫ومتقاضيا في آن‪ .‬لا يمكن لابن تيمية أن يعتبر صريح المعقول ما يطابق القرآن دون أن يتهم‬‫بالمصادرة على المطلوب لأن ذلك يعني أن المشكل محسوم من البداية ولم يعد مجال للبحث أصلا‪.‬‬ ‫مأزق ابن تيمية كان يعني أحد أمرين كلاهما ذي صلة بثورة ابن خلدون‪:‬‬‫ومعنى ذلك أن ابن تيمية ما كان بوسعه أن يقدم مفهوم \"صحيح المنقول\" بمعنى غير المعنى الذي‬‫يستعمل به في علم الحديث إلا في إحدى هاتين الحالتين‪ :‬إما أن يكون حل ابن خلدون قد حصل أو‬‫أن يكون قد توقع حصول ما من جنسه‪ .‬فيكون ابن تيمية وكأنه اشترط لمعياره وضع علم جديد هو‬ ‫ما حققه ابن خلدون‪ .‬وتلك هي فرضيتنا‪ .‬واساس الفرضية مضاعف ويتمثل في‪:‬‬‫‪ -1‬الحل الذي قدمه ابن تيمية للعنصر الثاني من مأزقه في علاج المسألة الكلامية التي رفض‬ ‫حلها الكلامي‪ :‬صريح المعقول‪.‬‬‫‪-2‬اضطرار ابن خلدون إلى ما هو من جنسه لعلاج مسألته التي هي شروط علم صحيح المنقول‪.‬‬ ‫واستنتاجنا يعتمد المسار المنطقي التالي‪ .‬وله فرعان‪:‬‬‫‪-1‬فإذا كان ابن تيمية قد عالج مسألة صريح المعقول علاجا كان يمكن أن يستغني عنه لو كان‬‫فهمه لصحيح المنقول يعتمد معايير علم الحديث التقليدية‪ .‬فإذن لا بد وأنه كان يفكر في معايير‬‫أخرى لصحيح المنقول تتأسس على فهمه الجديد لصريح المعقول الذي حقق فيه ثورة بينة المعالم‬ ‫وغنية عن الإثبات إلا لجاهل بأعماله‪.‬‬‫‪-2‬وإذا كان ابن خلدون قد اضطر إلى ما هو من جنس حل ابن تيمية لصريح المعقول حتى يتمكن‬‫من وضع علم صحيح المنقول فمعنى ذلك أنه قد أدرك العلاقة التي ظلت خفية في عمل ابن تيمية‪:‬‬‫لا يمكن بناء علم صحيح المنقول من دون بناء علم صريح المعقول‪ .‬وهذا كذلك بين ولا يحتاج إلى‬ ‫‪38 28‬‬

‫إثبات إلا لجاهل بأعماله‪ :‬فهو أول من بين استحالة الميتافيزيقا واثبت تاريخية الفكر الفلسفي حتى‬ ‫يؤسس فلسفية التاريخ‪.‬‬‫وهذا التلازم بين العلمين هو عينه التلازم بين الفلسفة النظرية والطبيعية والفلسفة العملية‬‫والسياسية فلسفيا وبين العقيدة والشريعة دينيا‪ .‬تلك هي فرضية العمل التي تمكن من الوصل بين‬‫ثورة ابن تيمية في فلسفة النظر لحل المشكل الذي بين امتناع حله كلاميا وفلسفيا‪ :‬معيار التأويل‬‫الكلامي والفلسفي علته فساد الفلسفة النظرية كلها وعدم فهم معنى \"المعقول\" ما هو‪ .‬فهل المعقول‬‫مضموني على أساس وهم المعيار الذي يعرف العلم بكونه معرفة الأشياء على ما هي عليه؟ وماذا‬‫يلزم عن هذا الوهم؟ جعل العقل الإنساني معيار الوجود وهو ما سماه ابن خلدونه برد الوجود‬‫للإدراك وسماه ابن تيمية بجعل الإنسان مقياس كل شيء واصفا إياه بالسفسطة في النظريات‬ ‫والزندقة في العمليات‪.‬‬‫وبهذه النتيجة نصل إلى المدخل الذي يوصلنا إلى غاية هذه المحاولة‪ :‬الجواب عن السؤال العاشر‬‫والأخير في الحلقة الموالية‪ :‬فيم يتمثل تجاوز الميتافيزيقا والميتاتاريخ القديمين؟ أي ما طبيعة الثورة‬‫التيمية الخلدونية التي جعلتنا نعتبرها تجاوزا للثورة الأرسطية الأفلاطونية وانتقالا من العصر‬‫الفلسفي القديم والوسيط الذي هو أرسطي أفلاطوني إلى الحصر الحديث وما بعده الذي هو تيمي‬‫خلدوني حتى وإن بدا للكثير ممن يحتقرون ذواتهم أن ذلك فيه الكثير من تمجيد الفكر الإسلامي‪:‬‬ ‫فمن الصعب على المعقدين فهم مثل هذه الحقيقة‪.‬‬‫فكل الفكر الإنساني بعد هذين الرجلين صار فكرا أساسه ما بعد التاريخ والروح وليس ما بعد‬‫الطبيعة والعقل وصار مداره الفنون الخمسة التي مثلت بؤرة الإشكال والحلول في فكرنا الإسلامي‪:‬‬‫الفنين العلميين (الفقه والتصوف) والفنين النظريين (الكلام والفلسف) والفن المؤسس أي علاقة‬‫النص المؤسس بالوجود في الاتجاهين‪ .‬وقد كتبنا في ذلك مقالا بالفرنسية بينا فيه هذه الحقيقة‬‫بالنسبة إلى من يعتبره الكثير مؤسس الفلسفة الحديثة قصدت ديكارت بعنوان‪ :‬ما بعد طبيعة أو‬‫مابعد أخلاق؟ خلال ندوة نظمتها الجامعة التونسية سنة ‪ 2000‬ونشرتها في كتيب بالتعاون مع معهد‬ ‫جوته في تونس‪.Métahphyssique ou Méta-éthique :‬‬ ‫‪38 29‬‬

‫فيم يتمثل تجاوز الميتافيزيقا والميتاتاريخ القديمين؟‬‫بين أن المسألة التي يضعها السؤال العاشر مسألة مضاعفة وشديدة التعقيد‪ .‬لذلك فلا تعجبوا‬‫إذا قال السفهاء الذين ممن لا يفقهون قيلا ويتفاقهون في كل قيل إن التعقيد من عيوب الكتابة‬‫وليس مما يترتب على طبيعة الموضوع المدروس‪ .‬لكن لو كانت القضايا بسيطة أو قابلة للتبسيط الذي‬‫يستجيب لرغبة الكسالى ما تقدم الفكر أو غاص إلى حقائق الاشياء بالقدر المستطاع للعقل البشري‬‫خاصة إذا كان يسعى إلى توضيح أمور هي في بداية نتوئها للوعي الذي يحاول أن يفهم ما حدث في‬ ‫تاريخ فكرنا ليكون على الحال التي كان عليها وآل إليها‪:‬‬‫‪-1‬فمن العسير على من لا يزال مدفونا في ثرثرات الكلام ومقولات الفكر المبتدي أن يدركوا‬‫القصد بالمميتافيزيقا الإضافية إلى حقبة من حقب العقل الإنساني فضلا عن أن يدركوا معنى‬‫تجاوزها‪ .‬ولا يمكن خاصة أن يفهموا أن مثل هذا التجاوز يمكن أن ينسب إلى مفكرين مسلمين فضلا‬‫عن أن يكونوا من صنفوا بعد في صف الظلامية الموهومة من قبل المنتسبين إلى الحداثة المزعومة‪.‬و‬‫الجواب عن هذه المسألة يتطلب أن نفهم القصد بتجاوز الميتافيزيقا وبتجاوز الميتاتاريخ القديمين‬‫اللذين كانا ساريين في الفلسفتين القديمة والوسيطة أي إلى حدود التجاوز الذي تمكن من استكمال‬‫محاولة الغزالي النقدية لهاتين الفلسفتين بتجاوزها عند فيلسوفينا من دون أن نبدأ فنحددهما‬ ‫بوصفهما الأرضية التي بالقياس إليها يمكن أن نؤرخ للفكر العربي الإسلامي إبجابا وسلبا‪.‬‬‫‪ -2‬لنصل إلى تحديد الجديد في البديلين منهما طبيعة وترتيبا بالقياس إلى ما هما بديل منه في‬‫صيغته المربعة التي مثلت ترميما للفنون الأربعة بمزيج علته محاولة تجاوز التصدعات التي نتجت‬‫عن الزلزال الذي أحدثه فكر ابن سينا إيجابا وفكر الغزالي سلبا بالقياس إلى الفلسفة القديمة‬‫أعني نقد تهافت الفلاسفة وفضائح الباطنية وإحياء علوم الدين ومشكاة الأنوان (راجع محاولة‬‫قصتي مع الغزالي)‪ :‬أعني التخلص من فكر فلسفي متكلم (ابن رشد) وفكر فلسفي متصوف‬‫(السهروردي) وفي كلامي متفلسف (الرازي) وفكر صوفي متفلسف (ابن عربي) وهي المربع الذي‬‫أعاد الفكر إلى حقبة متأخرة بالقياس إلى ابن سينا والغزالي ظنا أنه يعيد بناء الفلسفة الارسطية‬ ‫‪38 30‬‬

‫والأفلاطونية والكلام والتصوف المتفلسفين بخرافات عصر الانحطاط اليوناني الذي لم يتجاوز‬‫معقولية نظرية الحقيقة المطابقة التي من شرطها رد الوجود إلى الإدراك واعتبار الإنسان مقياس‬ ‫كل شيء‪.‬‬‫‪ -3‬ولا بد كذلك من الكلام على المآزق التي أدت إلى الأزمة التي اقتضى حلها هذا التجاوز في‬‫معترك الفنون الأربعة على أرضية أصلها جميعا‪ :‬الفنين العمليين (الفقة والتصوف) وما بين القانون‬‫والأخلاق من تنافر في الظاهر ما يجعل السياسة لم تتجاوز نظرية المدن الفاضلة والفنين النظريين‬‫وما بين العلم والإيمان من تنافر في الظاهر ما يجعل العقيدة لم تتجاوز نظرية التخريف الكلامي‬‫(الكلام والفلسفة) والأصل الذي هو علاقة التضايف والتفاعل بين النص المؤسس والوجود أعني‬‫علاقة التحليلي بالتأويلي سواء كان ذلك في النظر أو في العمل كما حاول علاج ذلك الغزالي دون‬‫نجاح يذكر بسبب ذلك الترميم الذي قضى نهائيا على عملية النقد المؤسسة للتجاوز الذي لم يكتمل‬ ‫(راجع محاولتنا في تأسيس السلفية المحدثة)‪.‬‬‫‪-4‬لنرى الفهم الجديد لهذه الفنون وكيفية تحديد العلاقة بين القانون والأخلاق (مهمة المحاولة‬‫الخلدونية وتحديد العلاقة بين فلسفة الدين وفلسفة التاريخ) والعلاقة بين العلم والإيمان (مهمة‬‫المحاولة التيمية وتحديد العلاقة بين فلسفة المعرفة وفلسفة الإيمان) الكيفيتين اللتين تجاوزتا‬‫الشكل الجامد للميتافيزيقا وللميتاتاريخ بوصلها من جديد بدورها المتمثل في الصوغ النظري‬‫للممارسات النظرية والعملية بما هي اجتهادات إنسانية‪ .‬فكان ذلك محاولة تؤسس لمناخ ثقافي يمثل‬‫قفزة نوعية بالقياس إلى المناخ الذي كان سائدا والذي مثل أكبر عوائق الفكر في الحضارة التي‬ ‫تحولت إلى مدافن للإبداع في كل المجالات‪.‬‬‫لكن الحضارة الإسلامية نفسها كانت بعد قد أصبحت ضحية عد أن نكص فكرها بسبب هذا الترميم‬‫للفكر الميت الفلسفي والكلامي والفقهي والصوفي وتأسيسه على علاقة المتبادلة بين النص المرجع‬‫والوجود إلغاء للوصل بين التحليلي والتأويل أو بين مفهوم التفسير في العلوم الطبيعية ومفهوم الفهم‬‫في العلوم الإنسانية‪ .‬فآل ذلك بسبب مبدأي قياس الشاهد على الغائب ورد التأويلي إلى التحليلي‬‫بنفي الفارق بين الإنساني والطبيعي أو باعتباره من العرضي الذي لا يقبل العلم وذلك هو الموقف‬‫المتنافي بإطلاق مع قيم الإسلام المشروطة في الحضارة الخلاقة والمبدعة كما نبين هنا وخاصة بسبب‬‫فساد مؤسستي التربية والحكم اللتين أفقدتا الإنسان معاني الإنسانية بالمصطلح ابن خلدون بسبب‬ ‫الاستبداد والفساد)‪.‬‬ ‫‪38 31‬‬

‫‪ -5‬لكن هذا المناخ الذي نجد بذرات تأسيس أركانه ومقوماته في نظرية النظر ونظرية العمل‬‫وما يترتب عليهما في التربية والحكم نجدها في عمل ابن تيمية وابن خلدون دفن في موات تلك‬‫الفنون وعطالة تراثها فلم ينل حظه من العلاج العقلي الواعي لذلك نجد أنفسنا أمام أكثر المسائل‬‫تحييرا‪ :‬لم تردى فكر ابن تيمية فأصبح رمزا للتعصب وقلة القدرة على التفكير الحر في أي من هذا‬ ‫المجالات التي ندعي أنه مؤسس لتجديدها بصورة ثورية؟‬‫تلك هي المسائل الخمس التي قد تتطلب كل واحدة منها أن تعتبر مادة لمصنف على حياله يخصص‬‫لدرس تفاصيلها‪ .‬لكن التلخيص الذي وعدتكم به وظيفته إبراز المسائل في شكل عناوين إشكالية مع‬‫بيان وجه الإشكال دون الدخول في الجزئيات والعلاج العيني‪ .‬وتلك هي الطريقة التي ننوي بها‬‫ختم هذا التلخيص لفكر ابن تيمية الذي يبدو قد طال أكثر مما ينبغي ولعلنا نعود إلى تلخيص فكر‬‫ابن خلدون الذي هضمناه حقه بالقياس إلى ما أوليناه لابن تيمية‪ .‬لذلك فسنكتفي بالمسألة الأولى‬‫التي تحتوي هذه العناصر الخمسة والتي تبين في آن طبيعة الثورة التي حدثت بفضل عمليتي النقد‬ ‫ومن أراد مزيد التحليل فليعد للضميمة التي قدمنا بها ترجمة المثالية الألمانية‪:‬‬‫‪-1‬النقد النظري وذلك هو جوهر ثورة ابن تيمية‪ :‬إشكالة العلاقة بين فني الفلسفة والكلام وما‬‫أديا إليه من صراع بين العلم والإيمان لعدم إدراك طبيعة الفرق والعلة التي تجعل العلم يصبح‬‫الطريق إلى الإيمان ليس بصورة موجبة بل بصورة سالبه عندما يدرك حدوده لا ا بما يصل إليه من‬ ‫علم يطلقه مدعيا أنه يعلم الأشياء على ماهي عليه لكأن علمه هو العلم الإلهي‪.‬‬‫‪-2‬النقد العملي وذلك هو جوهر ثورة ابن خلدون‪ :‬إشكالية العلاقة بين فني التصوف والفقه وما‬‫أديا إليه من صراع بين القانون والأخلاق لعدم إدراك طبيعة الفرق والعلة التي تجعل الأخلاق‬‫تصبح الطريق إلى القانون ليس بصورة موجبة بل بصورة سالبة عندما تدرك حدودها لا بما تصل‬‫إليه من عمل تطلقه مدعية أنه يقيم الأشياء على ما ينبغي أن تكون عليه لكأن عمله هو العمل‬ ‫الإلهي‪ .‬فيكون المشكل في الحالتين‪:‬‬‫الفلسفة والكلام تصورا أن العلم الإنساني يمكن أن يلغي الفاصلة الكيفية بين المطلق والنسبي‬‫المعرفي وبين الإيمان والعلم الوضعي فيصبح هو بدروه مطلقا لكأن الوجود مطلق الشفافية والعقل‬ ‫الإنساني مطلق القدرة على رؤيته على ما هو عليه‪.‬‬‫والتصوف والفقه تصورا أن العمل الإنساني يمكن أن يلغي الفاصلة الكيفية بين المطلق والنسبي‬‫القيمي وبين الأخلاق والعمل السياسي فيصبح هو بدور مطلقا لكأن المنشود مطلق الشفافية والإرادة‬ ‫الإنسانية مطلقة القدرة على رؤيته على ما هو عليه‪.‬‬ ‫‪38 32‬‬

‫لكن العلم بالحد من العلم الوضعي بالإيمان والعلم الحد من العمل السياسي بالأخلاق ذلك هو‬‫العلم الإنساني الذي يحقق التوازن فينتخ مناخ الحرية التي لا تطلق سلطة المعرفة ولا سلطة الحكم‬‫وتبقي للإنسان حرية الاجتهاد وحق الجهاد بما يتأسس لديه من وعي بدوره المعرفة القادرة على‬‫إدراك قوانين التعامل مع الوجودين الطبيعي والتاريخي وبالقيم القادرة على صوغ قوانين التنظيم‬‫السياسي للعمران بمقتضى هذين العلمين النسبيين اللذين يبقيان فسحة الاجتهاد النظري والجهاد‬‫العلمي وذلك هو مفهوم الدين الإسلامي لهذه العلاقات كما فهمه ابن تيمية في مستوى العقد والنظر‬ ‫وفهمه ابن خلدون في مستوى الشرع والعمل‪.‬‬ ‫المسألة الأولى‪ :‬فرعها الأول الميتافيزيقا‪.‬‬‫ما المقصود بالميتافيزيقا والميتاتاريخ القديمين في شكلهما اليوناني أولا وفي شكلهما الهلنتسي ثانيا‬‫إذ إن الثاني كان منطلق الفكر الفلسفي العربي الإسلامي والثاني كان غايته بمعنى أن هذا الفكر‬ ‫كان من البداية محاولة للتحرر من انحطاط الفكر اليوناني الأول في صورته الثانية‪.‬‬‫فالفكر الهلني كان أفضل من الفكر الهلنستي رغم وحدة الثقافة وأكثر علمية وأكثر تطورا‬ ‫فلسفيا‪.‬‬‫وبعبارة وجيزة لعل الكثير لم يدرك دلالة صلة هذا الموقف النقدي في فكرنا الفلسفي بالقرآن‬‫الكريم من حيث هو استعراض نقدي للفكر الديني المتقدم عليه‪ .‬فالفكر الفلسفي العربي الإسلامي‬‫كان مثاله هذا المنهج النقدي للمتقدم عليه من جنسه‪ .‬وأفق النقد الذي تتم العودة إليه هو مساءلة‬ ‫الطبيعة لنفي استقلالها بذاتها ونسبة نظامها إلى ما يعلو عليها بوصفه خالقها وخالق نظامها‪:‬‬ ‫ففي الدين كان هذا الأفق هو أسئلة إبراهيم عليه السلام بمعناه الديني‪.‬‬ ‫وفي الفلسفة كان هذا الأفق هو أسئلة سقراط عليه السلام بمعناه الفلسفي‪.‬‬‫والسؤالان يحددان الترجمة الدينية والفلسفية للمناخ الروحي والمعرفي الذي يمكن أن ندرج فيه‬‫اجوبة القرآن في تحديد الأفق الجديد للبشرية التي تستأنف دورة جديدة من فهم الوجود‬‫والاندراج فيه‪ .‬ورغم أن السؤالين كما هو بين من طبيعة واحدة ويتعلقان بغاية المعرفة الإنسانية‬‫غايتها العملية فإن سؤال إبراهيم أكثر جذرية‪ :‬إذ هو يبحث عن الإله وراء عبادة الأفلاك وسؤال‬‫سقراط يبحث عن العلم العملي وراء علم الطبيعة اليوناني‪ .‬لكن القرآن والإصلاح الإسلامي وخاصة‬‫موقفه النقدي من هذه الترجمة لم يكن ذا صلة بالنصوص مجردة عن تعينها التاريخي بل هو كان‬ ‫ملاصقا لهذا التعين التاريخي في مناخ عصره الروحي‪.‬‬ ‫‪38 33‬‬

‫فالجواب عن سؤال إبراهيم كما يعرضه النقد القرآني كان معروضا في التحريف الديني المتردد‬‫بين عبادة العجل (تحريف دين موسى) ونفي الدنيا (تحريف دين عيسى) وكان الجواب عن سؤال‬‫سقراط معروضا في التحريف الفلسفي المتردد بين نفي العالم المادي (أفلاطون) وحصر المعلوم من‬ ‫العالم في المحايث للمادة فيما يشبه النفي التام للمتعاليات الغيبية (أرسطو)‪.‬‬‫وإذ نسلم على إبراهيم وسقراط فلأن معنيي سلامنا يجمعهما الإسلام الفطري الذي هو الوعي‬‫بوحدة السلامين عقلا وروحا‪ .‬لذلك كانت الحصيلة في النقد القرآني وفهمه التيمي الخلدوني هي‬‫تجاوز التقابل بين الفكرين وخاصة بعد أن تحقق الانتقال نهائيها من علم الكلام إلى كلام العلم في‬‫الإنسانيات (ابن خلدون) وفي الطبيعيات (ابن تيمية) وفي الإلهيات التي لا تتجاوز التاريخيات‬‫والنصيات مضمونا والوعي الكوني بالمتعاليات شكلا أعني أسئلة إبراهيم وسقراط‪ .‬وحتى نيسر‬‫العلاج فلنقل إن الإسلام كما تحقق في القرآن الكريم كان موقفا نقديا من الجوابين المتقدمين عليه‬ ‫الجوابين عن سؤالي إبراهيم وسقراط‪:‬‬ ‫الجواب الديني في شكله المحرف للفطرة الروحية‬ ‫والجواب الفلسفي في شكله المحرف للفطرة العقلية‪.‬‬‫ولما كنا نتكلم على الفلسفة فسنركز عليها دون أن نهمل المسألة الدينية لأن النقدين القرءانيين‬‫من نفس الطبيعة‪ .‬ولعل الجواب الديني هو الذي ينبهنا إلى نظام العقد في الجواب الفلسفي وهو‬‫في الحقيقة في كل تاريخ البشرية مصدر القفزات النوعية في تحول الفكر الفلسفي مثله مثل الجواب‬‫العلمي الوضعي لأن كليهما ينطلقان من المعطى الوضعي الروحي الذي يدركه الحدس الباطن‬‫بالنسبة إلى الدين من المعطى الوضعي الطبيعي الذي يدركه الحدس الظاهر بالنسبة إلى العلم ‪.‬‬‫فالعلاقة بين موسى وعيسى في هذا الجواب النقدي هي عينها العلاقة بين أفلاطون وأرسطو في‬‫ترتيب معكوس بسبب العلاقة المعكوسة بين النظري والعملي في الدين وفي الفلسفة‪ .‬فأفلاطون‬‫المتقدم على أرسطو يناظر موسى المتأخر عن عيسى وأرسطو يناظر موسى بعكس العلاقة السابقة‪ :‬إذ‬‫نسبة أرسطو لمضمون الحدس الحسي هي عينها نسبة موسى لمضمون الحدس الروحي كلاهما يتعامل‬‫معه بوصفه معطى وضعي يأتي من خارج الفكر وليس أمرا مثاليا كالحال عند أفلاطون وعيسى‪.‬‬‫والمناظرة الأولى هي الأهم لأنها تتعلق بإشكاليتنا مباشرة من حيث تحديد مفهومي ما بعد الطبيعة‬‫وما بعد التاريخ‪ .‬ومن دون سر هذه العلاقة المتشاجنة بين الديني والفلسفي والمعطيى الحدسي‬‫الروحي بما هو وضعي (أي آت من خارج الذات) والمعطى الحدسي الطبيعي بما هو وضعي (آت من‬ ‫‪38 34‬‬

‫خارج) لا يمكن فهم تطور الفكر الحديث والمراحل التي أنتجته بالنقد الذي بدأ خاصة مع الغزالي‬ ‫واكتمل مع ابن تيمية في النظر ومع ابن خلدون في العمل‪.‬‬‫ذلك أن الجواب عن سؤال سقراط المتعلق بالعودة إلى الخلقي في الفلسفة بمنطق العلوم الطبيعية‬‫والرياضية هو جوهر المضمون الوارد في كتاب الجمهورية والجواب عن سؤال إبراهيم المتعلق بالإلهي‬‫في الدين بمنطق العلوم الروحية والتأويلية هو جوهر المضمون الوارد في كتاب الإنجيل‪ :‬لذلك‬‫تطابقت المسيحية والافلاطونية في الأفلاطونية المحديثة إذ إن المسيحية كما قال نيتشة صادقا هي‬‫أفلاطونية شعبية‪ .‬ولما كنا لا نريد أن ندخل في جدل ديني فسنكتفي بجملة موجزة تتمثل في المناظرة‬‫العكسية بين موقفين الأول ينسبه المسيحيون لعيسى عليه السلام والثاني ينسبه القرآن الكريم لآدم‬‫عليه السلام مفاده نسبة الخطيئة الموروثة إلى الأول ونفيها إلى الثاني كما جاء في القرآن الكريم‪.‬‬ ‫ومن ثم فالموقف الإسلامي والمسيحي من وجود البشر الدنيوي مختلف تمام الاختلاف‪:‬‬‫أحدهما يعتبرها مهمة بريئة واختبار لأخلاق الأنسان المستخلف فيها والذي لن يجازى عن خطيئة‬ ‫موروثة بل على عمل دنيوي راعى أو لم يراع شرع الله‪.‬‬‫والثاني يعتبرها لعنة ينبغي التخلص منها ومن كل ما هو طبيعي كما يضع هيجل ذلك في نظريته‬ ‫التربوية وخاصة من أصل الحياة أي العلاقة الجنسية‪.‬‬ ‫المسألة الأولى‪ :‬فرعها الثاني الميتاتاريخ‬‫لكن هذه القضية تصبح أكثر وضوحا وشمولا في الوجه الفلسفي منها‪ ،‬من خلال مثال ما يمكن أن‬‫نطلق عليه اسم مطاريد أفلاطون الخمسة مطارديه من جمهوريته حتى تستجيب لطلب سقراط‬ ‫فتكون مؤسسة على العلم بالتناسق العقلي الكلي تأسس العالم الطبيعي عليه‪:‬‬ ‫‪-1‬الحس‬ ‫‪-2‬والملكية‬ ‫‪-3‬والمرأة‬ ‫‪-4‬والخيال‬ ‫‪-5‬والفردية‪.‬‬‫فأفلاطون يشترط لتحقيق دولة عادلة نموذجا مكبرا من النفس المعتدلة إلغاء هذه العناصر‬ ‫الخمسة التي يعتقد أنها تحول دونها والتحقق الفعلي‪:‬‬‫‪ -‬العنصر الأول والرابع بمقتضى نظرية المعرفة يحولان دون نظرية المعرفة الفلسفية التي تؤسس‬ ‫لهذا النظام‪.‬‬ ‫‪38 35‬‬

‫‪ -‬والثانية والثالثة يحولان دون نظرية العمل التي يستند إليها تنظيم الحياة في هذه المدينة‬‫العقلية لأنهما مصدر النزاع بين البشر (الملكية والمرأة)‪ .‬والأخيرة‪ ،‬الفردية‪ ،‬تجمع بين حائل العمل‬‫وحائل النظر لأن التخلص من الفردية هو الشرط الضروري والكافي حسب أفلاطون لكي يؤدي الكل‬ ‫واجبه ودوره وكأنه جزء من جهاز آلي يتحدد بوظيفته في الجهاز لا غير‪.‬‬‫وكل هذه العمليات الإلغائية للحوائل دون النظام العقلي في المدينة العادلة علته دعوى تحقيق‬‫النظام الطبيعي والتاريخي بمقتضى العقل بمعياري التناسق المنطقي والتنظيم الرياضي‪ .‬والمعلوم‬‫أن القرآن الكريم أيضا يرى أن النظام الطبيعي والتاريخي منطقي ورياضي‪ .‬لكنه مع ذلك يرفض‬‫مثل هذا الطرد الأفلاطوني بل ويعتبر هذه المطاريد الأركان الأساسية لكل نظام إنساني بخلاف‬‫النظام الآلي الطبيعي‪ .‬وفهم هذه النظرة المخالفة للآلية الطبيعية البسيطة بالحذف أو بطرد‬‫مقومات الظاهرة لجعلها ملائمة لمنطق ورياضيات بسيطة لم تصل إلى تعقيد الظاهرات الإنسانية‪،‬‬ ‫هو ما أنسبه إلى فيلسوفنا ابن تيمية وابن خلدون‪.‬‬‫ونحن نقتصر هنا على الكلام في دور ابن تيمية لأننا قدمنا الكلام على دور ابن خلدون في تلخيص‬‫سابق‪ .‬والمعلوم أن أهم مقابلة بين الإسلام والمسيحية التي هي أفلاطونية شعبية تتعلق بطبيعة علاقة‬‫الإنسان بالطبيعة‪ :‬فهل هي قطيعة مطلقة كما يتصوره هيجل مثلا‪ ،‬أم هي‪ ,‬كما يتصورها ابن خلدون‬‫علنا وكما يستنتج تصورها من رفض ابن تيمية لمبدأي الفلسفة والكلام (قياس الغائب على الشاهد‬‫ورد المنقول للمعقول بالتأويل) مثلا تهذيب للطبيعة مع الحرص على عدم قتلها تحت وطأة الثقافة‬‫التي قد تتحول إلى قتل للحيوية بتدجين للإنسان إلى حد يفقده معاني الإنسانية بمصطلح ابن‬ ‫خلدون‪.‬‬‫وقبل تحديد العلاقة بين ثورة ابن تيمية وهذه المطاريد الخمسة (نظرية ابن تيمية السياسية‬‫حتى وإن لم تتبين العلاقة تبينا فلسفيا لطابعها الخطاطي نظرية ذات صلة مباشرة بسورة النساء‬‫وهي بالذات دراسة نسقية لهذه المطاريد الخمسة لبيان سياسة التعامل معها‪ :‬الحس والملكية والمرأة‬‫والخيال أو الذوق والفردية) وعلة إرجاعها القرآني‪ ,‬لا بد من دراسة هذه العناصر وبيان أهميتها‬‫في النظر والعمل وطبيعة النظام الواصل بينها‪ :‬فهي عقدة العقد في الوصل بين الكلي والجزئي وبين‬ ‫الصوري والمادي وبين الطبيعي والتاريخي وجودا ومعرفة‪.‬‬‫فهذ المخمس المطرود من جمهورية أفلاطون باعتباره عائقا لتحقيق النظام المتصف بالقيم‬‫التقليدية الثلاث أعني الخير والجمال والحق‪ ,‬تجعل هذا التحقيق حاصلا في الهدم لأنه ليس نظاما‬‫لمقومات الوجود الجمعي بل هو مشروط بإزاحتها تبسيطا للوجود حتى يطابق الإدراك بدل العكس‬ ‫‪38 36‬‬

‫أي تعقيد المعقول حتى يطابق الموجود فتكون المعرفة في سعي دائم نحو التجويد الذاتي حتى تتمكن‬‫من إدراك تعقيدات الوجود الذي لا يمكن لأي علم أن يحيط به عدى العلم الإلهي (وهو ما يعنيه‬‫ابن تيمية عندما ينفي العلم بالشيء على ما هو عليه عن كل علم إنسان ويقصر ذلك على العلم‬ ‫الإلهي)‪ ,‬ولا يكون هذا النظام في هذه الحالة إلا نظاما استبداد وفساد‪ .‬فكيف ذلك؟‬‫تمثل المرأة قلب المخمس إذ يتقدم عليها عاملان هما الحواس والملكية ويتأخر عنها عاملان هما‬‫الخيال أو الذوق والفردية‪ .‬والمرأة جامعة لما تقدم عليها فعلا وانفعالا وهي منبع ما تأخر عنها‬‫تأثيرا وإيحاء‪ .‬وليس بالصدفة أن كانت سورة النساء هي السورة التي عالج فيها القرآن الكريم‬‫هذه المسائل الخمس‪ :‬المرأة والملكية والحس والخيال والفردية ودورها جميعا في الحكم من حيث هو‬‫عدل وأمانة‪ .‬فالمرأة هي في الحقيقة ملخص جميع هذه الأبعاد المقومة للعمران والاجتماع ومن ثم‬‫للمدينة أو الدولة‪ :‬فأصل الوجود البشري والأخوة البشرية النفس الواحدة (الآية الأولى من‬‫النسا) وهي أساس الوجود الجمعي تمثيلا لقوة الحياة (حواء) عضويا (صاحبة النصف مع وسط‬‫الحياة ومصدر قوامها العضوي) وروحيا (طبيعة علاقة الطفل به هي جوهر الكيان الروحي‬‫للإنسان) فضلا عن كونها محرك ذروة الحس مجموعا وملهمة الخيال‪ .‬وهي المالك المستثني للشريك‬‫والمملوك المستثنى عن كل شريك في آن‪ .‬وبها في علاقتها بالملكية ومشكل الفرائض تبدأ السورة‬ ‫وفيها توضع قواعد العيش الأسري وتنظيم الحياة العاطفية للبشر‪.‬‬‫وحتى يلغي أفلاطون مفعول الملكية والمرأة بوصفهما اساس النزاعات بين البشر جعلهما أمرا مشاعا‬‫بين العمال والحراس‪ .‬واعتبر مدارك الحواس مصدر تزييف المعرفة ومنتجات الخيال مصدر تزييف‬‫الوعي ومن ثم فهما يمثلان خطرا أولاهما على معرفة الحقيقة والثانية على نقاء الوعي وتربية‬‫الإرادة وحقيقة الجمال فجعل مبدعات الخيال خاضعة لمراقبة الدولة وفرض نوعا معينا من مضامين‬‫التربية‪ .‬والفردية تمثل عنده جملة كل هذه العوائق لتنافيها مع تلاحم الجماعة ومن ثم مع أحد‬‫أهم شروط سعادتها‪ .‬لذلك فهو يريد أن يخلص الدولة من الفردية ويطالب الأفراد وخاصة‬‫الفلاسفة بأن يضحوا من أجل الجماعية بالتنازل المطلق عن حياتهم الخاصة أي عن كل المطاريد‬‫الأربعة السابقة حتى يكون مجرد قطعة في ماكينة الدولة التي تنتظم بحسب قوانين رياضية تنظم‬‫الثروة والسلطة والتناسل‪ :‬وأهم تنازل هو العزوبية على الرعاة (ما يشبه واجب العزوبية على‬ ‫رجال الدين ونسائه في الكنيسة الكاثوليكية)‪.‬‬‫وبين أن الفردية هي أهم أسس الإيمان في الدنيا لأنها شرط المسؤولية الخلقية والروحية‪ ،‬ولذلك‬‫فهي اساس الجزاء في الآخرة ‪:‬كلكم يأتينا فردا { يوم يفر المرء من أخيه وأمه وابيه وصاحبته وبينه‬ ‫‪38 37‬‬

‫لكل أمرئ منهم شأن يغنيه}‪ .‬كما أن المرأة والحياة الجنسية والعاطفية من أهم مقومات العمران‬‫الإسلامي‪ .‬والنبي وهو أسمى الرعاة لم يتبتل ولم يتعزب بل كان محبا للنساء وكان يعتبر ذلك من‬‫علامات الحياة السوية بالنسبة إلى الإنسان‪ .‬والإسلام يعتبر الرهبنة من علامات الفسق في الأغلب‪.‬‬‫كما أن الحواس والخيال (الذوق) والملكية هي من مقومات الاجتماع الإسلامي‪ .‬والجامع لكل هذه‬‫الأمور هو طبيعة العلاقة بالطبيعة الخارجية والداخلية للإنسان وما تنبني عليها هذه الطبيعة من‬‫نفي لفكرة الخطيئة الموروثة وقول بالفطرة السليمة التي هي توافق أصلي بين الخِلقة والخُلق أعني‬‫المقابل التام للنظرية المسيحية كما يعرضها هيجل في فلسفة الدين‪ :‬مفهوم البراءة الأصلية عند‬‫العزالي أو بصيغة سلبية مفهوم النفي الأصلي الذي يستكمل ليصبح إيجابيا بتلقي البشر للرسالات‬‫التي تميز بين الخير والشر فتنقل الإنسان من النفي الأصلي أو البراءة الأصلية إلى معرفة المعروف‬ ‫والمنكر‪.‬‬‫ولعل أهم مقوم من مقومات هذه الثورة هو الانتباه إلى الخلط بين المقابلة حس عقل والمقابلة بين‬‫العلم النسبي والعلم المطلق‪ .‬فقد ظن الفلاسفة والمتكلمون بالتبعية أن تخليص العقل من تأثير‬‫الحواس المغلط يجعله مدركا لحقائق الأشياء على ما هي عليه فيكون علمه مطلقا إطلاق علم الله‬‫بها‪ .‬وطبعا فهذا هو أساس نظرية الحقيقة المطابقة‪ .‬لذلك كان موقف ابن تيمية حاسما في اعتبار‬‫هذه النظرية مجرد تعبير ملتبس عن النظرية السوفسطائية التي تعتبر الإنسان مقياس كل شيء‬‫وكان موقف ابن خلدون منها بعبارة أوضح يردها إلى القول برد الوجود إلى الإدراك وصلا بين‬ ‫القول الميتافيزيقي والقول السوفسطائي التي يقول بوحدة الوجود في الغاية‪.‬‬‫ويمكن الجمع بين الفهمين التيمي والخلدوني في عبارة وجيزة للغزالي هي المفهوم النقدي الأحد‬‫مفهوم \"طور ما وراء العقل”‪ :‬العقل يدرك أن إدراكه محدود وأن الممكن من وراء إدراكه كما يفكر‬‫في العقل الإنساني دون أن يعلمه يجله متواضعا ويقتضي أن يؤمن بنسبية علمه إلى علم مطلق ممكن‬‫ليس في متناوله وذلك هو أساس الإيمان بالغيب وبما يتعالى على عقل الإنسان فيؤمن بأنه وإن كان‬ ‫من الخلوقات الشريفة فهو ليس ربا‪.‬‬ ‫‪38 38‬‬





‫‪02 01‬‬ ‫‪01‬‬ ‫‪02‬‬‫تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي‪ :‬محمد مراس المرزوقي‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook