Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore سلسلة التاريخ ابعاده ودلالة نقده الموجب - ابو يعرب المرزوقي

سلسلة التاريخ ابعاده ودلالة نقده الموجب - ابو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2017-08-01 17:34:39

Description: سلسلة التاريخ ابعاده ودلالة نقده الموجب - ابو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫الأسماء والبيان‬



‫المحتويات‬ ‫‪1‬‬ ‫‪6‬‬‫‪12‬‬‫‪16‬‬‫‪21‬‬

‫لما كتب نيتشة كتابه تأملات غير مناسبة للعصر ‪ Unzeitgemäße Betrachtungen‬كان‬ ‫قصده بيان فائدة النقد المتجاوز لحصر المثال في تعيناته التاريخية‪.‬‬‫فأهمية التاريخ للحياة لا تنحصر في دوره النموذجي والنقد التاريخي يمكن من تجاوز‬ ‫هذا الدور الذي يحول أحيانا دون فتح آفاق الجماعة وتطورها‪.‬‬‫وهو يثبت أن دور النقد قد يكون هداما ومؤلما لأنه يزيل دفق الحياة ما يكلسها ويحول‬ ‫دون عنفوانها فالنقد ما فيه من تهديم يزيل الميت ويحرر الحي‪.‬‬‫لكن البعدين الآخرين من التاريخ‪-‬المتحفي (علاقة عاطفية بالتاريخ) والمعلمي (دور‬ ‫نموذجي للتاريخ) ‪-‬يبقيان ضروريين لأن النقد يحررهما من ضيق الأفق‪.‬‬‫وبهذا المعنى كتبت الفصول الخمسة في علوم المدخل لعلوم الملة‪ :‬فالنقد فيها هدفه إحياء‬ ‫المتحفي فمحبته دون عبادته تجذير لعروق الجماعة في تربتها‪.‬‬‫والمعلمي المصحوب بالنقد المنهجي يبقي على الدور النموذجي لكنه لا يؤلهه فيصبح‬ ‫المستقبل مجرد محاكاة لبطولات الماضي بدلا من تجاوزها إلى الأفضل‪.‬‬‫والحصيلة هي أن نظرية نيتشة في التاريخ (وهي أول نص نقلته إلى العربية سنة ‪1974‬‬ ‫مع التنوير لكنط) بحاجة إلى إضافة تكمل هذين البعدين للتاريخ‪.‬‬‫فيكون التاريخ‪ :‬متحفي ومعلمي ونقدي عامة ثم نقدي للمتحفي وللمعلمي‪ .‬لكن الغاية‬ ‫تبقى ما عناه نيتشة أي من أجل تطور الحياة وتوسيع الآفاق بتجاوز‪.‬‬‫وهنا يكمن الخلاف معه‪ :‬فالتجاوز لا يمكن أن يكون مقصورا على اللامتناهي الزائف‪.‬‬ ‫فالاكتفاء بالآفاق المتناهية من إرادة القوة مآله اليأس الوجودي‪.‬‬‫واليأس الوجودي يؤدي إلى الرؤية العبثية التي تنتهي إلى رد التاريخ الإنساني إلى‬ ‫تاريخه الطبيعي فيكون المتحفي والمعلمي والنقدي داروينية عامة‪.‬‬ ‫‪27 1‬‬

‫وهذا هو الدرس الذي مكن ابن خلدون بوضع فلسفة التاريخ في علاقة بفلسفة الدين‬ ‫دون نفي دور التاريخ الطبيعي من تقديم حل يناسب الرؤية القرآنية‪.‬‬‫في الفصول الخمسة التي عالجت فيها علوم الملة لم أبحث في قضيتين ذاتي علاقة بنفس‬ ‫الإشكالية ولكن في مجالين آخرين‪ :‬الآداب ونموذج الحياة‪.‬‬‫والسؤال‪ :‬هل النقد في الفنون العربية عامة والآداب خاصة وفي نموذج الحياة الفردية‬ ‫والجمعية يكون بتوثين واقعين واعتبارهما مثالين أعليين؟‬ ‫وهنا أجد تشابها بين موقفين‪:‬‬ ‫‪ -1‬موقف داعش من التراث الإسلامي المادي‪.‬‬ ‫‪ -2‬موقف من يسمون مجددي الآداب العربية من التراث الغربي‪ :‬توثين لماضيين‪.‬‬‫كلاهما يهدم كل تراث يختلف عما تحقق عيني مما يعتبره مثالا أعلى‪ :‬داعش تهدم كل‬ ‫تراث غير إسلامي والحداثيون يهدمون كل تراث غير غربي‪ :‬توثين نموذج‪.‬‬‫لكن الادهى من هذين الفهمين المحرفين للنقد والجامع لهما هو النقد الذي يفرضه حامي‬ ‫الأنظمة العربية عليها من ضرورة تنقية الإسلام مما لا يرضى عنه‪.‬‬‫إنها داعشية امريكية تؤديها نزعة تزعم نفسها تجديدية عند ليبراليي العرب‬ ‫وعلمانييهم وملحديهم وخاصة ذوي التقية من النخب الباطنية في دار الإسلام‪.‬‬‫فلا هو نقد ولا تجديد إنه تهديم نسقي هدفه تهديم آخر حصون الأمة الروحية حتى‬ ‫تصبح عزلاء ماديا وروحيا لنقل احتلالها من الأمر الواقع إلى الواجب‪.‬‬‫والأخطر من داعش وأنصاف المثقفين الذين يدعون التجديد وما يفرضه الحامي على‬ ‫الأنظمة هو ما يقابل ذلك كله فينفي ضرورة الإبداع والتجاوز الدائمين‪.‬‬‫والذين يؤيدون التدخل الأمريكي في نظام التعليم لضرب آخر حصون المناعة الروحية‬ ‫للأمة لا يفسدون الإسلام فحسب بل يفسدون الإصلاح وهو المستهدف‪.‬‬‫وبذلك فنحن في وضعية شبيهة جدا بالوضعية التي دفعت الغزالي لكتابة تهافت‬ ‫الفلاسفة‪ .‬فهو صريح في أنه لا يرد على الفلاسفة بل على أنصاف المثقفين‪.‬‬ ‫‪27 2‬‬

‫ذلك أنه لا أحد وصل إلى واحد في المائة من نقد الغزالي لعلوم الملة في أحياء علوم‬ ‫الدين‪ .‬وهدفه الإصلاح وليس التهديم‪ .‬ونريد مواصلته قدر المستطاع‪.‬‬‫وبعد كلامي على علوم الملة الخمسة (اثنان نظريان الكلام والفلسفة واثنان عمليان‬ ‫الفقه والتصوف وواحدةأصلها تفسير القرآن) أمر إلى الآداب ومثال الوجود‪.‬‬‫وطبعا فكما نقدت علوم الملة وخاصة مزيفها فلست أرفض نقد الفنون الأدبية ونمط‬ ‫الوجود وتجديدهما‪ .‬لكن النقد لا يستبدل أمرا واقعا بأمر واقع آخر‪.‬‬‫فهذا ليس نقدا بل هو تقليد‪ .‬النقد هو محاولة تجاوز أمر واقع بفتح آفاق ترينا ما‬ ‫يتجاوز به المثال الأمر الواقع فيوسع الاختيار في مساحة الحرية‪.‬‬‫ومن يستعيض عن أمر واقع بأمر واقع آخر سواء كان من ماضينا أو من ماضي الغير لا‬ ‫يوسع مساحة الحرية ولا يفتح مجال الاختيار بل هو خاضع لحكم مسبق‪.‬‬‫وإذن فهو عديم الفكر النقدي والروح النقدية حتى في بعدها الهدام ناهيك عن البعد‬ ‫البناء الذي يتجاوز مرحلة استبعاد الميت لفتح آفاق الوجود الحي‪.‬‬‫أعود لأقول إن كيان الأمة الروحي الديني والفني ونمط الوجود الجمعي والفردي كل‬ ‫ذلك يتعرض لوحشية تتجاوز وحشية المغول‪ :‬خمسة أصناف من الدعشنة‪.‬‬‫الدعشنة المتعارفة ثم دعشنة أدعياء التجديد بالتقليد والتدخل الأمريكي والتأييد‬ ‫الليبرالي والحملة الباطنية على تراث الأمة المادي واللامادي‪.‬‬‫وإذا كان التهديم النسقي للتراث اللامادي غير بين للعيان فاقدة البصيرة فالتهديم‬ ‫النسقي للتراث المادي بين فيما جرى ويجري في العراق والشام‪.‬‬‫والتهديم يريد الآن ضرب العروق الروحية للحضارة الإسلامية بفرض نموذج تربوي‬ ‫وتنقية المصدرين مما لا يرضى عنه أعداء الامة في الداخل والخارج‪.‬‬‫وفرض هذا النموذج لا يهدف إلى اصلاح التربية حتى تصبح اساس التكوين المحقق‬ ‫لشرطي قيام الإنسان السوي‪ :‬شروط الاستعمار في الأرض وشروط الاستخلاف‪.‬‬‫فالإصلاح السوي لا يمكن أن ينصح به الاستعمار ولا أدعياء العلمانية والليبرالية وخاصة‬ ‫الباطنية‪ .‬وهو سابق الوضع في أعمال ثالوث المدرسة النقدية‪.‬‬ ‫‪27 3‬‬

‫وثالوث المدرسة النقدية للتذكر مؤلف من الغزالي وابن تيمية وابن خلدون‪ .‬وثلاثتهم‬ ‫انطلقوا من نقد علوم الملة لتحريرها من الزيف وعلل الانحطاط‪.‬‬‫لن أتكلم في تجديد الشعر والادب لأني كتبت في ذلك الشعر المطلق وابن خلدون لم‬ ‫ينتظر أحدا ليكتب في الشعر فضلا عن شروح فلاسفتنا لكتاب أرسطو‪.‬‬‫سأكتفي بملاحظات سريعة حول نمط الوجود الفردي والجمعي الذي يراد فرضه سواء‬ ‫بالعودة إلى ماضينا أو إلى ماضي الغرب لأن الحاضر سيال ولا يحاكى‪.‬‬‫وتشمل ما دون الجماعة الوسطى وما فوقها‪ :‬فالجماعة الوسطى هي أهل الوطن الواحد‬ ‫وما دونها الأهل المباشرون والفرد وما فوقها الأمة والإنسانية‪.‬‬‫فما يميز نموذج الوجود في الرؤية الإسلامية التي يراد تعويضها بالنكوص إلى كاريكاتوره‬ ‫أو نموذج الجاهلية أو باستيراد نموج كاريكاتور يعد مثالا؟‬‫هو ما يجهله أو يتجاهله من نكص إلى نموذج الجاهلية خلطا بين الأصالة وكاريكاتورها أو‬ ‫صار يعبد نموذج الأوروبي خلطا بين الحداثة وكاريكاتورها‪.‬‬‫ونموذج الإسلام للوجود الإنساني حداه الشخص الذي يأتي ربه فردا والإنسانية التي‬ ‫من نفس واحدة وبينهما الأهل المباشرون والجماعة الوطنية والأمة‪.‬‬‫ذلك أن الدين المنزل الوحيد ناهيك عن الأديان الطبيعية تجاوز القوميات وتوجه‬ ‫للإنسان من حيث هو إنسان واعتبر الأديان درجات في تسابق الخيرات‪.‬‬‫فليس هو دين قومي رسولا ومرسلا إليه ولا هو قومي رسولا صار كونيا بعد إصلاح أحد‬ ‫الحواريين بل هو من الأصل يعرف نفسه بكونه خاتما وللإنسانية كلها‪.‬‬‫وبعد خطابه الدال على وحدة الإنسانية (النساء ‪ )1‬جاء خطابه الدال على نفي‬ ‫العنصرية والطبقية والجنس معيارا للتمييز بين الناس (الحجرات ‪.)13‬‬‫مسؤولية الفرد ووحدة الأهل العضوية وتضامن الجماعة الوطنية ووحدة الأمة‬ ‫الروحية ووحدة الإنسانية التي تمثل ما يشبه الفرد المتميز في الوجود ككل‪.‬‬‫وهذه الصورة هي مفهوم الاستخلاف الذي يعد أهلية معينة لا يستحقها إلا المكلفون ولا‬ ‫يعير سلوك الإنسان والإنسانية إلا بمقتضى تقيدهما بقيمها‪.‬‬ ‫‪27 4‬‬

‫ذلك ما بسببه يحارب أعداء الإسلام حضارته وأمته منذ نزل القرآن إلى الآن‪.‬‬ ‫لكن تاريخه كله من نصر إلى نصر ومن انتشار إلى انتشار إلى يوم الدين‪.‬‬ ‫‪27 5‬‬

‫في هذا الفصل الثاني من التاريخ أبعاده ودلالة نقده الموجب‪ ،‬انتقل من تعريف أبعاد‬ ‫نموذج الوجود الجمعي في الإسلام إلى نقد النقد الذي يفرض عليه حاليا‪.‬‬‫ذكرت الدعشنات الخمس التي تدعي نقد نموذج الوجود الإسلامي فتخرب الحصانة‬ ‫الروحية للفرد والأهل والجماعة الوطنية والأمة والإنسانية في حضارتنا‪.‬‬‫ولن أستطيع نقد هذا النقد المدعشن باسم كاريكاتور التأصيل (داعش التي تدعي‬ ‫الخلافة) وباسم كاريكاتور التحديث (نظيرتها التي تدعي العلمانية)‪.‬‬‫ثم الاستعمار وذراعاه إيران وإسرائيل‪ ،‬ثم الأنظمة العربية التي تحارب محاولات‬ ‫الشعب للتحرر من الفساد والاستبداد والتحرير من الذراعين والاستعمار‪.‬‬‫كل هؤلاء يحاربون الإسلام والنموذج الذي يقدمه لحياة الإنسان فردا وأهلا وشعبا وأمة‬ ‫وإنسانية ولا يمكنني أن أنقد نقدهم ما لم أبين هذا النموذج‪.‬‬ ‫والاعتراض الاول هو‪ :‬هل يحتاج نموذج الإسلام للبيان؟‬ ‫ألا ترى حال الأمة؟‬ ‫ألم يفقدها نظام تربيتها وحكمها معاني الإنسانية فانحطت أسفل سافلين؟‬‫وطبعا يكون كاذبا كل من ينفي حجج هذا الاعتراض ولم يبين علاقتها بما وصفناه من‬ ‫تحريف في علوم الملة خصصنا له خمسة فصول بعنوان مدخل لإصلاحها‪.‬‬‫ففصول المدخل جزء لا يتجزأ من الرد على هذا الاعتراض الوجيه‪ .‬ولم يبق إلا أن أبين‬ ‫الطريقة التي حصن بها الإسلام نموذجه وأفسده نظام الحكم والتربية‪.‬‬‫وهذا البيان فيه رد حاسم على زعم الدولة الإسلامية الفقهية أخلاقية بخلاف الدولة‬ ‫الحديثة التي تنفى عن الأخلاق لكليانيتها (الدولة المستحيلة)‪.‬‬‫ذلك أن الدولة الفقهية في واقع أمرها مختلفة تماما عما هي في نصوص الفقهاء في واجبه‪.‬‬ ‫ليس كل ما يقوله الفقهاء هو ما يعملونه وليس ظاهرة كحقيقته‪.‬‬ ‫‪27 6‬‬

‫وهذا الاختلاف بين واجب الأمر وواقعه هو الذي يكذب استقلال التشريع الفقهي‬ ‫والمجتمع المدني عن السلطة السياسية‪ :‬كحال فقهاء عصرنا مع حكامه‪.‬‬‫فما لا يرى فيه الحاكم معارضة لإرادته ينكر للفقهاء حرية ادعاء التشريع باسم رب‬ ‫العالمين‪ .‬أما ما لا يماشيها فهم مستعدون لتطويع التشريع لخدمته‪.‬‬‫والاستثناء الذي يوردونه‪-‬مثل العز‪-‬شاذ يحفظ ولا يقاس عليه ولا يدل على استقلال‬ ‫الفقه‪ .‬والقيمون على الأوقاف لا يقلون عن الحكام استبدادا وفسادا‪.‬‬‫ونظرية فوكو في فشو السلطة لا ينفي حجتي بل هو يدعمها في الدولة كدولة دائما‪ .‬فمن‬ ‫بيده القوة والسلطة والمال يحكم كل من يحكم‪ :‬سر فشو السلطة‪.‬‬‫وقد وفقني الله لاكتشاف سر العلاج القرآني لهذا الفشو بصورة تجعله رحمة لا نقمة‪.‬‬ ‫ذلك أنه لا يمكن تصور سلطة من دونه إذ هو من جوهرها بل هي هو‪.‬‬‫فكل سلطة قوة وكل قوة تتمدد ما أمكن لها التمدد حتى تتوقف قوتها عن التأثير بذاتها‬ ‫أو بما يعترضها من قوى أخرى جنيسة أو حائلة دونها والتمدد‪.‬‬‫وإذا لم نكتشف الحل الإسلامي لهذه الحقيقة التي تمثل القانون الطبيعي بقي الإنسان‬ ‫ضمن الظاهرات الطبيعية فلا يسمو ليرتقي إلى الظاهرات الخلقية‪.‬‬‫والارتقاء إلى الظاهرات الخلقية سره الوعي الحاد من الظاهرات الطبيعية بالشرائع‬ ‫وضعية كانت أو دينية باعتقادها من إرادة إلهية فيؤمن بقدسيتها‪.‬‬‫وحتى عندما تكون وضعية فهي ليست نزوات إرادية بل يكون واضعها مؤمنا بأنها ثمرة‬ ‫اجتهاد عقلي يحرر من القانون الطبيعي لأنها ثمرة عودة واعية بها‪.‬‬‫ومن ثم فالشرائع إذا توفرت فيها حقيقة الشرائع تكون متماثلة سواء كانت دينية أو‬ ‫عقلية لأنهما كلتاهما تعتمدان على ما في الإنسان قابلية للتكليف‪.‬‬‫وهو الفرق بين القانون الطبيعي والقانون الخلقي‪ .‬والتربية والحكم ينكصان إلى‬ ‫القانون الطبيعي لأن الاستبداد بهما يجعلهما وازعا أجنبيا لا ذاتيا‪.‬‬‫والمقابلة بين الوزعين سر اكتشفه ابن خلدون وعلل بالوزع الأجنبي (غير ضمير الفرد)‬ ‫ما سماه بالعنف المفسد لمعاني الإنسانية في الفرد والجماعة‪.‬‬ ‫‪27 7‬‬

‫وتحريف الشرائع هذا‪-‬جعلها تؤثر كوازع خارجي‪-‬يحصل في كل دولة استبد بالحكم‬ ‫والتربية فيها فئة حصرت السلطان فيها وجعلت من عداها أدوات تابعة لها‪.‬‬‫وليس هذا من جوهر الدولة بل من فسادها كما بينت آل عمران التواطؤ بين المستبدين‬ ‫بالحكم (القوة المادية) والتربية (القوة الرمزية) لإفساد الشرائع‪.‬‬‫وذروة التواطؤ تأليه المسيح لتأسيس الوساطة الكنسية فيتقاسم السلطان الفاسد اصحاب‬ ‫الحكم وأصحاب التربية في دولة فرعونية هامانية رمز التحريف‪.‬‬‫والرمز عبارة \"اعط ما لله لله وما لقيصر لقيصر\"‪ .‬وطبعا الشرائع سواء كانت إيمانية أو‬ ‫دينية كلها لله بمعنى أنها للقيم المتعالية التي نقدسها‪.‬‬‫{مَا َكانَ ِل َبشَ ٍر أَن يُ ْؤتِ َيهُ اللَّهُ الْ ِك َتابَ َوا ْلحُ ْكمَ وَالنُّبُ َّوةَ ُثمَّ يَ ُقو َل لِلنَّاسِ كُو ُنوا ِعبَادًا لِّي مِن‬‫ُدو ِن اللَّهِ َو ٰلَ ِكن ُكو ُنوا رَبَّانِ ِّيي َن ِب َما كُنتُمْ تُعَلِّ ُمو َن ا ْلكِتَابَ وَبِ َما ُكنتُمْ تَدْرُسُونَ}‪ .‬آل عمران ‪79‬‬‫إنه الرد على التواطؤ بين فرعون وهامان في كل دولة دينية أو علمانية‪ .‬يؤثنون أصلا‬ ‫يؤسسون عليه التواطؤ بين ممثلي وجهي السلطة المادي والرمزي‪.‬‬‫كيف يحدث هذا التواطؤ بين من يستبدون بالسلطة المادية (الحكم) وبالسلطة الرمزية‬ ‫(التربية)ليحصل النكوص من القانون الخلقي إلى القانون الطبيعي؟‬‫لما كان القرآن قد درس هذه الإشكالية فهو قد قدم لها الحل الذي حال تحريف علوم الملة‬ ‫واستخراجه وسعى نقدة التحريف لتحديده حتى وإن لم يوفقوا‪.‬‬‫لم يكن الفشل كليا فابن خلدون في ثنايا بحثه في الحكم والتربية وابن تيمية في رده على‬ ‫وحدة الوجود والغزالي رده على الباطنية اقتربوا من الحل‪.‬‬‫والحل متصل مباشرة بتطبيق مبدأ تقسيم العمل على كل المهام التي من دونها لا يمكن‬ ‫للإنسان أن يكون أهلا للتكليف والاستخلاف‪ :‬الصفات المقومة الخمسة‪.‬‬‫فوجها السلطة الفاشية في الجماعة متعينان في الحكم (الوزع الأجنبي) وفي التربية‬ ‫(الوزع الذاتي)‪ .‬والتحريف ينتج عن استبداد البعض بهما دون البقية‪.‬‬‫وليجنب الإسلام الإنسانية هذا الداء جعلهما فرض عين فهما الأمر بالمعروف والنهي عن‬ ‫المنكر فرض عين بل هما عين تعريف المؤمن (آل عمران ‪.)110-104‬‬ ‫‪27 8‬‬

‫ويبرز الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الوزعين الأجنبي (الحكم) والذاتي‬ ‫(التربية) في الصفات المقومة للإنسان الخمس وهي قبس من الروح الإلهي‪.‬‬‫إنها‪ :‬الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود‪ .‬إنها مقومات ذاتية للإنسان من حيث‬ ‫هو فرد‪ .‬وللجماعة منها نصيب صالح لجمعها أو طالح للمستبدين بها‪.‬‬‫ففي الحكم والتربية لا بد أن يحضر الفرد والجماعة تعبيرا عن الإرادة والعلم والقدرة‬ ‫والحياة والوجود حتى تكون الجماعة سيدة ذاتها أي جماعة أحرار‪.‬‬‫لكن إذا تقاسم المستبدون بالحكم والمستبدون بالتربية التعبير عن الإرادة والعلم‬ ‫والقدرة والحياة والوجود واستبعدت الجماعة كنا في مجتمع عبيد‪.‬‬‫حُ ّرف التعبير عن الإرادة في الحكم بأن أفقدوا البيعة بعدها الجوهري (أن تكون حرة)‬ ‫والشورى دورها (أن تكون مقررة) وأصبحتا شكلتين فاقدتين لدورهما‪.‬‬‫وحرف التعبير عن العلم بأن حصر الاجتهاد في \"العلماء\" فألغي التشجيع على جرأة البحث‬ ‫من خلال اعتبار الخطأ فيه مأجورا إذا كان قصده لطلب الحقيقة‪.‬‬‫فكاد البحث العلمي أن يحرم بتحريم جرأة الاجتهاد وتعويضه بالتلقين وبسلطة المشيخة‪.‬‬ ‫لكن الإسلام لا يعترف بسلطة لغير القرآن والسنة واخلاص النية‪.‬‬‫وكما يعتبر الإسلام الإرادة والعلم شأنا جماعيا وفرض عين فكذلك يعتبر القدرة‪ :‬سواء‬ ‫تمثلت في الاقتصاد أو في الدفاع‪ .‬فكلاهما شأن جماعي وفرض عين‪.‬‬‫وكذلك الشأن بالنسبة إلى الحياة أو الذوق سواء تعين في أنماط العيش أو في الفنون‬ ‫فهي ما لخصه ابن خلدون في مفهوم جدير بالاعتبار‪ :‬الأنس بالعشير‪.‬‬‫فالغاية الأسمى من الفنون الجميلة هي تحقيق الأنس بالعشير أي ذوق العيش المشترك‬ ‫في الجماعة من حيث هي كائنات واعية بمعاني الوجود وقيم الجمال‪.‬‬‫أما صفة الوجود هي التي تعبر عن رؤى الوجود والعالم وهي المشترك بين البشر كخلفاء‬ ‫لهم الإرادة والعلم والقدرة والحياة لتجاوز الضرورة بالحرية‪.‬‬‫والحرية التي هي شرط التكليف هي ما لأجله اعتبر آدم جديرا بالاستخلاف رغم حجة‬ ‫الملائكة التي لم ينفها الله عندما استخلفه وأجل ابليس ليوم الدين‪.‬‬ ‫‪27 9‬‬

‫تلك هي المعاني التي أصبحت غائبة بسبب التحريف الذي طرأ على علوم الملة والتي‬ ‫حاول الغزالي وابن تيمية وابن خلدون بعملهم النقدي تحريرها منه‪.‬‬‫ومجرد بيان هذه المعاني هو نقد للنقد الذي يمثله الدواعش الخمسة فهم لا يريدون‬ ‫إصلاحا بل مزيد التحريف بالميت من الحضارتين الإسلامية والغربية‪.‬‬‫أنهي كلامي على نقد التاريخ ودلالته الموجبة بحثا عن إصلاح علوم الملة وشرائعها التي‬ ‫بها تستأنف دورها أعني الحكم والتربية في دولة الإسلام‪.‬‬‫لكني في آن أكون قد أضفت عنصرا مهما في نقد خرافة الدولة المستحيلة‪ :‬ما أقوله ليس‬ ‫خاصا بدولة دون أخرى‪ .‬فهي جوهر السلطان الفاشي في كل جماعة‪.‬‬‫والفشو السلطاني في الجماعة إن لم يكن موزعا بالعدل بينها ليسهم الجميع في إرادتها‬ ‫وعلمها وقدرتها وحياتها ووجودها يصبح استبدادا وفساد شرائع‪.‬‬‫فالقرآن من ألفه إلى يائه ليس هو إلا علاجا لهذه القضية حتى إنه يعرف الإيمان بها‬ ‫(آل عمران ‪ )110-104‬فالآخرة تقييما لأعمال الدنيا وجزاء عليها‪.‬‬‫وأفهم جيدا ألا يدرك الكثير دلالة مثل هذه المعاني التي يمثل غيابها علة كل المآزق‬ ‫التي تعاني منها الامة‪ :‬ويمكن ارجاعها لمربع الأنصاف التيمي‪.‬‬‫ومربع الأنصاف التيمي‪ :‬نصف الفقيه يفسد البلدان ونصف المتكلم يفسد الأديان ونصف‬ ‫الطبيب يفسد الابدان ونصف اللغوي يفسد اللسان‪.‬‬‫وغالبا ما يكون هؤلاء الأنصاف خدم وطبالين للربع السياسي الذي يفسد معاني الإنسانية‬ ‫بحكم مستبد وفاسد يحيط نفسه بتربية هدفها جعله طبيعة ثانية‪.‬‬‫تلك هي الحال التي وصفها الغزالي الذي انطلق من أنصاف مثقفي عصره وواصلها ابن‬ ‫تيمية وابن خلدون في كلامه على الاستبداد والفساد وتخريب البلاد‪.‬‬‫فقد بيّن أن فساد معاني الإنسانية الخلقية والمدنية وحتى النفسية مردها إلى فساد‬ ‫الحكم والتربية المستبدين وهما وجها سياسة يعارضها الإسلام‪.‬‬‫والحرب على الإسلام علتها هذه المعارضة للسياسة بوجهيها الحكمي والتربوي المفسدين‬ ‫لمعاني الإنسانية سواء في كل دولة على حدة أو في العالم كله‪.‬‬ ‫‪27 10‬‬

‫لذلك فلا بد أن تكون الحرب على الإسلام عالمية‪ :‬ذلك أن حلوله ليس محلية ولا اقليمية‬ ‫ولا خاصة بالمسلمين بل هي تشمل من يخاطبهم {يا أيها الناس}‪.‬‬‫وهي تشملهم بمعنى النساء ‪(1‬الأخوة البشرية) والحجرات ‪( 13‬المساواة بين البشر)‬ ‫وهما شرطا تحرير البشرية من أدواء عولمة الدواعش الخمسة‪.‬‬ ‫‪27 11‬‬

‫ونصل إلى الفصل الثالث في نقد التاريخ موجبه‪.‬‬‫هل تحريف السياسة ببعديها حكما وتربية ظاهرة خاصة بدولة الإسلام؟ أم هي أفسدت‬ ‫الدولة الحديثة كذلك؟‬‫فما يتهمه القائلون بالدولة المستحيلة هم كاريكاتور الحداثة الخالط بين دولتها وتحريفها‬ ‫الاستعماري‪ .‬والدليل رأي مؤسسي الحداثة ونقادها الحاليين‪.‬‬‫فالقائل بأخلاقية الدولة الفقهية ونفيها عن الحديثة يقع في خطأين‪ :‬يخلط بين دولة‬ ‫الإسلام وكلام الفقهاء وبين دولة الحداثة وأفعال الاستعمار بها‪.‬‬‫فما يقوله الفقهاء يبدو مطابقا لحقيقة الدولة رغم كونه يستند إلى كذبتين بينتين لمن‬ ‫يعلم التاريخ جيد العلم‪ :‬لا سلطان للفقهاء مستقل عن الحكام‪.‬‬‫وسأستعمل نظرية المقاصد التي لا أقول بها لأدحض هذه الكذبة‪ :‬هل يستطيع الفقيه‬ ‫منع الحاكم من مصادرة الملكية الخاصة؟ أومن الإكراه في الدين؟‬‫هل يستطيع فرض حرية العقل؟ أو حماية العرض؟ أو حماية الحياة؟ كان السلطان ‪-‬‬ ‫وهو صاحب الحامية العسكرية‪-‬يفعل ما يريد والفقيه يبرر كما نراهم الآن‪.‬‬‫وإذن فهذه الكذبة التي تدعي أن المجتمع المدني كان مستقلا بالسلطتين الرمزية‬ ‫والاقتصادية من أوهام الخلط بين القول والفعل في عمل الفقهاء‪.‬‬‫ومثال العز بن عبد السلام حالة شاذة لا يقاس عليها وحتى هي فهي قابلة للمبدأ الذي‬ ‫كان عاما‪ :‬كانت سياسة الحكم في الحرب بحاجة لوساطته الشعبية‪.‬‬‫هي إذن كذبة تصدق خدعة سياسية‪ :‬كلما احتاج السلطان السياسي للسلطان الرمزي‬ ‫يضخم دوره وهذه القاعدة صحيحة دائما في أي حكم دينيا كان أو علمانيا‪.‬‬ ‫الكذبة الثانية تتعلق بالدولة الحديثة‪.‬‬ ‫‪27 12‬‬

‫فسواء نظرنا في الفلسفة التي تؤسسها أو في محاولات إصلاح تحريفاتها الحالية نجد الهم‬ ‫الخلقي هو الأساس‪.‬‬‫فما يبدو من ذرائعية وماكيافيلية في العمل السياسي ذاتي للسياسي عامة وهو في نفس‬ ‫الوقت موضوع نقده حتى من السياسيين‪ :‬فمفهوم المعارضة مبني عليه‪.‬‬‫ومؤسسات المعارضة جزء لا يتجزأ من الدولة الحديثة ‪-‬لم يكن ذلك متيسرا في الدولة‬ ‫الفقهية‪-‬ولذلك فهذا البعد الخلقي مقوم ذاتي للسياسي فيها‪.‬‬‫لكن الأهم من ذلك كله هو أن محاولات إصلاح الديموقراطية الحديثة وخاصة منذ‬ ‫عزوف المواطنين على المشاركة في الانتخابات يميل إلى جعلها فرض عين‪.‬‬‫فالديموقراطية المباشرة بديل من ديموقراطية التمثيل حلا للعزوف عن الانتخابات يعود‬ ‫إلى الحل الإسلامي بتعريف الإنسان بدوره في الشأن العام‪.‬‬‫فيكون ما يعرف به الإسلام المؤمن بدوره في دولته هو ما يعرف به الفكر الحديث المواطن‬ ‫بدوره في دولته‪ :‬كلاهما يعتبر دوره فرض عين مقوما للسلطة‪.‬‬‫وهذا التعريف هو ما خانه التصور الفقهي الوسيط من دولة الإسلام وما خانه التصور‬ ‫الاستعماري الحديث من دولة الحداثة‪ :‬كلاهما حرف حقيقة الدولة‪.‬‬‫وكلاهما من ثم نزع منها البعد الخلقي ولم يبق فيها إلا البعد الطبيعي (الشوكة) جاعلا‬ ‫من البعد الخلقي (الشرعية) مجرد إيديولوجيا خطاب كاذب‪.‬‬‫القائلون بالدولة المستحيلة يصدقون كذب الفقهاء في الكلام على أخلاق دولتهم وينقدون‬ ‫كذب الساسة في الكلام على أخلاق دولتهم‪ :‬وهذا ليس من العدل‪.‬‬‫فكل دولة من أقدمها إلى أحدثها إذا نظر إليها طبيعيا كانت الشوكة ومقدمة وهي سر‬ ‫الاستبداد والفساد وإذا نظر إلى محاولة تحريرها قدمت الشرعية‪.‬‬‫وبهذا المعيار فالدولة الحديثة أكثر خلقية من دولة الفقهاء‪ .‬وذلك لعلتين‪ :‬الوجود‬ ‫الفعلي للمعارضة وتقييد سلطان الحكام بمؤسسات تحمي المواطن‪.‬‬‫وهذان الامران لا وجود لهما في الدولة الوسيطة إسلامية كانت أو مسيحية أو وثنية‪.‬‬ ‫لذلك فكل ما يقال عن الدولة المستحيلة علته أحكام مسبقة سطحية‪.‬‬ ‫‪27 13‬‬

‫وأي دراسة جدية للأمر كما يتحدد بطبيعته أي بآليات فعله وانفعاله وبمستويي وجوده‬ ‫كبنية عامة ذات خانات مؤسسية وكتعين في أشخاص تملا تلك الخانات‪.‬‬ ‫ذلك أن الأخلاق تحضر في الدولة مرتين‪:‬‬ ‫‪-1‬بنيتها كمنظومة مؤسسات أو أجهزة تحقق بها الدولة وظائفها العشر‪.‬‬ ‫‪-2‬تعين البنية بأشخاص بيدهم سلط الدولة‪.‬‬‫وفي منظومة البنية السياسية للدولة الحديثة المعارضة والاعلام ودور الشعب ذات تأثير‬ ‫فعلي في السلطة فتحد من إطلاقها وتقيدها بخلاف دولة الفقهاء‪.‬‬‫والأشخاص الذين يملؤون هذه المؤسسات لفترة في الحكم يحتاجون للحد من تسلطهم خوفا‬ ‫من فقدان السلطة وطمعا في العودة إذا فقدوها بحكم التداول‪.‬‬‫فإذا أضفنا أن حقوق المواطن السياسية والاقتصادية والاجتماعية وحتى الثقافية صارت‬ ‫من وظائف مؤسسات الدولة المقيدة بقوانين علمنا الدور الخلقي‪.‬‬‫لذلك لم أفهم عناد من يريد أن يعتبر الاحكام المسبقة للكاريكاتورين من الإسلام‬ ‫والحداثة حكما في النظريات السياسية والخلقية بمنطق بوكو حرام‪.‬‬‫دولة الإسلام بعد تخليصها من كاريكاتور داعش عنها لا تبعد كثيرا عن دولة الحداثة‬ ‫بعد تخليصها من كاريكاتور الاستعمار عنها‪ :‬لا بد من شوكة شرعية‪.‬‬‫والشوكة ضرورية للحكم السياسي لكنها تستمد شرعيتها من الأخلاق فعلا وثمرة‪ :‬والفعل‬ ‫هو دور المؤمن في دولة الإسلام ودور المواطن في دولة الحداثة‪.‬‬‫حقوق الإنسان وكرامته وحريته‪ .‬ومن لا يسهم في قيام الدولة بالعناية بالشأن العام‬ ‫وبالأخلاق العامة لا يمكن أن يعتبر إنسانا حرا‪.‬‬‫لا أعجب من عدم مثل هذه الحقائق اللطيفة‪ .‬فالخروج من حجب الإيديولوجيا ليس في‬ ‫متناول أي إنسان لان التحرر من الأحكام المسبقة مهمة شديدة العسر‪.‬‬‫ما أعجب منه هو محاولة إضفاء الصبغة الأكاديمية على الاحكام المسبقة وإهمال شرط‬ ‫المعرفة العلمية الوثيقة‪ :‬فالدولة كيان من طبيعة طبيعية وخلقية‪.‬‬ ‫‪27 14‬‬

‫والطبيعي فيها أنها لا تقوم من دون شوكة أي قوة مادية سماها ابن خلدون بالوازع‬ ‫الأجنبي وقوة خلقية سماها ابن خلدون بالوازع الذاتي (الضمير)‪.‬‬‫ولذلك فحتى أعتى الأنظمة المستبدة تبقى بحاجة إلى ما يغطي عن طغيانها فتستعمل‬ ‫الكذب سواء كان فقهيا أو علمانيا لإضفاء الشرعية على أفعالها‪.‬‬‫وهذا التبرير المشرع للطغيان يغلب على دولة الفقهاء أكثر من غلبته على الدولة‬ ‫الحديثة مهما استعملت من بروباجندا لوجود المعارضة والاعلام‪.‬‬‫وهذه الحروز الحائلة دون الطغيان المطلق لم تكن موجودة في دولة الفقهاء وهي موجودة‬ ‫حتى في دولة بشار والسيسي رغم غلبة الطابع الشكلي عليها‪.‬‬‫فإذا أضفنا أن هذه الحروز صارت دولية تبين أن الدولة الحديثة رغم أدوات سلطانها‬ ‫العلنية والسرية تبقى أقرب بالفعل إلى الأخلاق من دولة الفقهاء‪.‬‬‫وما يعاب على الدول الحديثة في سياسة العالم الاستعمار لا الحداثة‪ :‬ازدواجية المعايير‪.‬‬ ‫ما تطبقه في الداخل يحترم تلك الحروز أما في الخارج فلا‪.‬‬‫وبهذا تتميز عليها دولة الإسلام التي لا تمثلها دولة الفقهاء التي حرفتها‪ :‬فهذه الدولة‬ ‫ترفض المعايير المزدوجة بمقتضى النساء ‪ 1‬والحجرات ‪.13‬‬‫تلك هي العناصر التي كان ينبغي أن أضيفها نقدا لنقد الإسلام ونظرياته في الدولة‬ ‫ببعديها حكما وتربية أو بعاملي فعلها شوكة وشرعية‪.‬‬ ‫والله الموفق‪.‬‬ ‫‪27 15‬‬

‫لم يبق إلا أن نجيب عن سؤالين أخيرين لنفرغ من الكلام على النقد التاريخي ودوره‬ ‫الإيجابي‪.‬‬ ‫الأول‪ :‬ما القصد بالبنية المجردة الثابتة للدولة عامة؟‬‫والثاني‪ :‬كيف يقع ملء هذه البنية وكيف تطور ذلك بصورة تجعله ملئا يحافظ على البعد‬ ‫الخلقي في إدارة الدولة واستعمال السلطة داخليا ودوليا؟‬‫وبذلك نكون قد أكملنا الكلام على النقد التاريخي وعلى دحض اسطورة الدولة‬ ‫المستحيلة‪.‬‬ ‫خيار إما دولة الأخلاق أو دولة الحداثة طريق مسدودة بالطبع‪.‬‬‫وهي مسدودة لأنها خيار بين امرين لا يقبلان الفصل‪ :‬فلا أخلاق بدون دولة ولا دولة‬ ‫بدون أخلاق‪ .‬وتحديد بنية الدولة المجردة وشروط ملئها تقدم خلقي‪.‬‬‫فلأجب الآن عن السؤال الأول‪ :‬ما القصد بالبنية المجردة للدولة من حيث الوظائف‬ ‫وليس من حيث الأعضاء التي تحققها والتي يتعلق بها التغير والتطور؟‬‫كل دولة رغم أنها كيان اعتباري يتعين في الجماعة ليصبح ذا كيان مادي هو مؤسساتها‬ ‫وقوانينها والقيمين عليها لها خمس مستويات ثابتة من بداية التاريخ‪.‬‬‫والمستوى الأوسط هو النظام السياسي أو القواعد العامة وهي عادة عرفية لتنظيم‬ ‫السلطات في الجماعة وتنتج عن مستويين قبلها وتنتج مستويين بعدها‪.‬‬ ‫مستويان قبلها‪:‬‬ ‫‪-1‬المرجعية (دينية أو غير دينية)‬ ‫‪-2‬القوى السياسية (حزبية او غير حزبية)‪.‬‬ ‫مستويان بعدها‪:‬‬ ‫‪-4‬الوظائف العشر بإدارتها‬ ‫‪27 16‬‬

‫‪-5‬الحاكم والمعارض‬‫والقلب ‪ -3‬هو نظام الحكم (دستور مكتوب أو عرفي هو نتيجة ما قبله ومقدمة ما بعده)‬ ‫وتلك هي البنية المجردة التي تمثل خانات خالية تملأ بالقيمين عليها‪.‬‬‫وما ينبغي إثباته هو ثبات هذه البنية التي لا تخلو منها دولة منذ الفراعنة إلى اليوم‬ ‫(اختار الفراعنة لأن دولتهم من أقدم الدول المعلومة تاريخيا)‪.‬‬‫العنصر الأول من المستوى الأول أي المرجعية العقدية لا جدال فيه‪ .‬لكن الثاني منه‬ ‫يبدو مفقودا‪ :‬توجد قوى سياسية؟ نعم هي التنافس على الحكم في الأسرة الحاكمة‪.‬‬ ‫الوسط أو ‪ 3‬مفروغ منه‪ :‬لا بد من نظام حكم قبلي ملكي إلخ‪...‬‬ ‫‪-4‬الوظائف وسأطيل الكلام عليه‪.‬‬ ‫‪ -5‬الحكم والمعارضة (في الحكم نفسه لطبيعة التنافس)‬‫وما أثبته في الدولة الفرعونية ب ّين بنفسه في الدولة الحديثة‪ :‬فهي بالفعل وصريحة في‬ ‫كل دولة حديثة وهي كذلك صريحة في شكل دولة الاسلام الأخير‪.‬‬‫ومن أراد أن يتأكد فليقرأ توزيع السلط في الدولة الإسلامية بين الخليفة والسلطان كما‬ ‫يعرضهما ابن خلدون في المقدمة بابها الثالث‪.‬‬ ‫فلنمر للوظائف‪.‬‬‫الوظائف عشر حصرا وهي عناصر كذلك خانات خالية تتعين بمن يملأها وهي تنقسم إلى‬ ‫خمس للحماية الداخلية والخارجية وخمس للرعاية التكوينية والتموينية‪.‬‬‫وهي وظائف الدولة التي يذكرها القرآن بذكرها وما تعالجه‪ :‬آمنهم من خوف للحماية‬ ‫الداخلية والخارجية وأطعمهم من جوع للرعاية التكوينية والتموينية‪.‬‬‫فالحماية الداخلية هي القضاء والأمن الداخلي والحماية الخارجية هي الدبلوماسية‬ ‫والأمن الخارجي أو الدفاع‪ .‬وأصلها الاستعلام والإعلام السياسيين‪.‬‬‫خانات توجد في بنية أي دولة وتكون إطارا مؤسسيا خاليا يملأ بمن يكلف بهذه المهام أي‬ ‫القضاة والأمنيين والدبلوماسيين والعسكريين والاستعلاميين‪.‬‬ ‫‪27 17‬‬

‫ومهما كانت الدولة بدائية تحتاج للقضاء والأمن والدبلوماسية والدافع والاستعلام‬ ‫والإعلام فالعمل على علم بمعرفة ما يجري في الجماعة وحولها‪.‬‬‫كل من يتوهم غياب واحدة من هذه الوظائف لا يدرك معنى الحماية التي هي وظيفة‬ ‫الدولة الأولى‪ .‬وذكر القرآن لها بعد أطعمهم من جوع ذات علة عميقة‪.‬‬‫فالحاجة إلى الحماية علتها الصراع على الرزق ومن ثم فالإطعام من جوع وأسبابه هما‬ ‫علة الحماية داخليا وخارجيا‪ :‬كلما قل الرزق ازدادت الحاجة إليها‪.‬‬‫وإذن فوظائف الحماية علتها حاجة وظائف الرعاية قبل كل شيء‪ :‬التكوينية بالتربية‬ ‫والمجتمع والتموينية بالثقافة والاقتصاد وأصلها البحث العلمي‪.‬‬‫فكل دولة تحتاج لتكوين الإنسان بتربية نظامية وبنظام المجتمع نفسه تحتاج لتموين‬ ‫الإنسان ثقافيا (انتاج رمزي) واقتصاديا‪ :‬وأصلها البحث العلمي‪.‬‬‫الاستعلام السياسي يخص شروط الحماية وأحوال الجماعة داخليا وخارجيا جزءا من‬ ‫البحث العلمي الشامل حول المعرفة العلمية بأسباب الرزق والحماية‪.‬‬‫فيكون للمعرفة العلمية دوران‪ :‬حول علاقات البشر في الداخل والخارج لتحقيق السلم‬ ‫بينهم وحول علاقاتهم بمحيطهم الطبيعي خاصة لتحقيق شروط العيش‪.‬‬‫وحتى يتأكد المعاندون فإن الطبقة الدينية في مصر كانت هذه وظيفتها الأولى وخاصة في‬ ‫علم الهندسة والفلك حتى يتحكموا في قسمة الأرض ومياه النيل‪.‬‬‫وكنت أتصور ما أقوله عن هذه البنية المجردة الثابتة بديهية وما كنت لأطيل الكلام لم‬ ‫أجابه بتخريف من يتقحم الكلام في علاقة الدولة بالأخلاق‪.‬‬‫فالأخلاق مستحيلة التصور من دون الدولة وهي مستحيلة التصور من دون الأخلاق سواء‬ ‫كانت الدولة قديمة أو حديثة وسواء كانت الأخلاق صادقة أو زائفة‪.‬‬‫وهذه الوظائف لا تتعين إلا في إدارة بنيتها هي توزيع هذه الوظائف على مساحة الدولة‬ ‫داخليا وعلى حدودها خارجيا وبحسب أنماط العيش فيها وحجمه‪.‬‬‫وهذه الإدارة الوظيفية تسيرها الحكومة والمعارضة للإدارة السياسية وذلك بمقتضى‬ ‫نظام الحكم والقوى السياسية والمرجعية المؤسسة للجماعة والدولة‪.‬‬ ‫‪27 18‬‬

‫وسنرى في الجواب عن السؤال الثاني كيف تملأ هذه الخانات البنيوية الثابتة في كل دولة‬ ‫باعتبارها كيانا معنويا هو عين كيان الجماعة الخلقي والروحي‪.‬‬‫وقد سماها ابن خلدون بمصطلح فلسفي ليس ارسطيا إلا كلفظ لإفادته معنى غير ممكن‬ ‫لدى أرسطو‪ :‬فنموذج الدولة الأرسطية هو الاسرة‪ :‬صورة العمران‪.‬‬‫صورة العمران هي نموذج الأسرة المتغيرة بحسب نموذج أعمق يجمع بين شروط الحماية‬ ‫والرعاية‪ :‬صورة الدولة هي صورة الحماية والرعاية عند ابن خلدون‪.‬‬‫أما مادتها فلا تعني المادة الطينة ‪-‬الهيولا‪ -‬بلغة أرسطو بل هي شروط المدد الذي يقيم‬ ‫دولة الجماعة بتوفير شروط الرعاية وما تحتاج إليه من حماية‪.‬‬‫لذلك اعتبرت وظائف الدولة من الثوابت لأنها تجمع بين القانون الطبيعي (الحاجة‬ ‫للحماية والرعاية) والقانون الخلقي بتقديم الشرعية على الشوكة‪.‬‬‫فبما هي شوكة الدولة ظاهرة طبيعية وبما هي شرعية الدولة ظاهرة خلقية‪ .‬والإنسان‬ ‫قد يضطر للاكتفاء بالشوكة عندما يجوع ويخاف‪ .‬الشرعية للإنسان الحر‪.‬‬‫الجمع بين الضرورة والحرية هو الجمع بين الطبيعة والأخلاق أو بين الطبائع والشرائع‪.‬‬ ‫ولا يمكن الفصل بينهما أبدا‪ .‬وذلك في كل دولة قديمة أو حديثة‪.‬‬‫وبهذا المعنى فدولة الفقهاء ليست دون الدولة الحديثة أخلاقا بل هي دون الدولة‬ ‫الفرعونية‪ .‬ذلك أن طبقة رجال الدين المصرية أو الكتبة كانوا علماء‪.‬‬‫كانوا علماء بالدنيا والدين لا مجرد فقهاء يتصورون العلم بالدين ممكن من دون العلم‬ ‫بالدنيا‪ .‬فلا يمكن أن يكون الإنسان خليفة ما لم يعمر الارض‪.‬‬‫والدليل أن أرسطو في المقالة الأولى من الميتافيزيقا (مقالة الالف الكبرى) يعتبر رجال‬ ‫الدين المصريين‪-‬ليس دجالي السيسي‪-‬هم مؤسسي علم الرياضيات‪.‬‬‫وحتى نتحرر من تخريف الدعاة فليعلموا أن صلاح الدين الأيوبي لم يتنصر بالدعاء‬ ‫وإن كان ضروريا رمزا للإيمان بل كان مفتيه من كبار الرياضيين‪.‬‬‫فهو واضع نظرية البركار التام الذي يمكن من بناء كل القطوع المخروطية أعني إحدى‬ ‫أهم الإشكالات الرياضية في العلاج الفعلي حتى لترتيب الجيوش‪.‬‬ ‫‪27 19‬‬

‫وكان طبيعة من أكبر الرياضيين الذين هاجروا من الأندلس وهو يهودي أسلم لأنه ربي‬ ‫في بيئة إسلامية يعترف لها بالفضل في ثقافته الدينية والعلمية‪.‬‬‫وقد تكلمت أمس على الأهمية الرمزية لصلاح الدين الأيوبي ولم أشر إلى دور الثقافة‬ ‫العلمية التي ساعدت المسلمين على ربح الحرب ضد الصليبيين‪.‬‬‫ولأختم بأن دور الأخلاق في الدولة ليس مقصورا على الاعتقاد القيمي بل يمتد إلى‬ ‫أمرين يتناساهما المتكلمون على الأخلاق بغير علم بها وبالإسلام‪.‬‬‫فأولا أكبر مقت عند الله القول بلا عمل‪ .‬والعمل بلا علم مستحيل لأنه خبط عشواء‪.‬‬ ‫لذلك فالأخلاق هي العمل على علم لتحقيق مقومي وجود الإنسان الحر‪.‬‬‫فالإنسان الحر هو الإنسان المكلف والمسؤول‪ .‬وهو مكلف بتعمير الأرض ويقيم عمله لبيان‬ ‫أهليته للخلافة بهذا التعمير المشروط بقيم الاستخلاف‪.‬‬‫الاقتصار على ترديد الشعارات الإيمانية والخلقية اللفظية ليس دليلا على معرفة بشرع‬ ‫الله بل هو الجهل عينه‪ :‬فكل عمل ليس على علم فاقد لشرط خلقيته‪.‬‬‫إنه أساس تعريف الإنسان في القرآن بدوره في تعمير الأرض وفي المشاركة في رعاية‬ ‫شروط التعمير بقيم الاستخلاف‪ :‬آل عمران ‪ 110-104‬لينتسب إلى الخيرية‪.‬‬‫وهذا يقتضي التحرر من علتي تحريف العلوم الإسلامية‪ :‬عدم احترام سابعة آل عمران‬ ‫وعدم احترام فصلت ‪ .53‬علل الفتن والعلوم الزائفة فكان الانحطاط‪.‬‬‫وقد حاولت المدرسة النقدية ‪-‬الغزالي وابن تيمية وابن خلدون‪-‬تحرير الفكر النظري‬ ‫والعملي من العلتين لكن الأمر بم يتغير كثيرا بعدهم فتجمد الفكر‪.‬‬ ‫‪27 20‬‬

‫ونصل الآن إلى الفصل الخامس والاخير من نقد التاريخ الموجب‪.‬‬ ‫كيف تملأ خانات البنية المجردة للدولة في السياسة الداخلية أو في السياسة الخارجية؟‬‫قوة النظرية الخلدونية وحداثتها العجيبتين تعالج المشكلتين في آن‪ :‬فما يحصل في‬ ‫الداخل وفي الخارج لملء الخانات المجردة والتداول على السلطة واحد‪.‬‬‫وأقصد أنه يخضع لقانون واحد يقبل الرد إلى علاقة التناسب العكسي بين القانونين‬ ‫الطبيعي والخلقي أو علاقة التناسب العكسي بين البداوة الحضارة‪.‬‬‫ولعلاقة التناسب العكسي بين القانونين الطبيعي والخلقي وبين شكلي تعينهما البدوي‬ ‫والحضري شكلان في الداخل وشكلان في الخارج وأصل جامع بينها‪.‬‬‫ففي الداخل التداول على ملء الخانات عنيف في الأسرة الحاكمة وفي العصبيات المنتسبة‬ ‫لنفس الجماعة‪.‬‬ ‫وبهذين يتحدد عمر دولة أسرية ودولة عامة‪.‬‬‫فيتكلم ابن خلدون على دولة العرب وهي جامعة بين دول عربية أسرية تداولت على‬ ‫الحكم إلى سقوط الخلافة العباسية‪ .‬وهذا تداول داخلي في نفس الجماعة‪.‬‬‫وهو تداول عنيف إما بالموت الطبيعي أو بالقتل في الاسرة الحاكمة أو بين العصبيات في‬ ‫نفس الجماعة وفي مثالنا بين عصبيات عربية متحالفة مع موالي‪.‬‬‫والمستوى الثاني من ملء الخانات يتعلق بسياسة العالم السياسة الدولية‪ :‬درجتان بين‬ ‫الدول المتجاورة أو بينها وبين الجماعات البدوية الغازية‪.‬‬‫وهنا أيضا المنطق بايولوجي اي إن الملء والتداول يكون بالتنافي الناتج عن قضاء الغالب‬ ‫على دولة المغلوب وأحيانا على وجوده أصلا والفتح عكسه‪.‬‬‫فالفتح يمكن أن يقضي على الدولة المفتوحة لكنه لا يقضي على شعبها وعلى ثقافتها التي‬ ‫لا تناقض رسالته‪ .‬فهو ليس غزو قبائل بدوية بل تبشير برسالة‪.‬‬ ‫‪27 21‬‬

‫وأصل الأشكال الأربعة (اثنان في السياسة الداخلية واثنان في السياسة الدولية) يعرّفه‬ ‫ابن خلدون بما يشبه وحدة الإنسانية بتوارث ما تحققه في التاريخ الكوني‪.‬‬‫وهذا التوارث في التاريخ الكوني يتعلق بشكل الدولة كدولة وبوظائفها التي تصبح‬ ‫خبرات مع ثمراتها الحضارية التي تصبح عادات وأعراف للإنسانية‪.‬‬‫ولهذه العلة فالتاريخ عند المسلمين ‪-‬والنموذج هو القرآن‪-‬عالمي بالجوهر‪ :‬تاريخ الأمم‬ ‫المعروفة وما توارثته بعضها عن البعض في العمران والاجتماع‪.‬‬‫وفي هذه المستويات الخمسة لابد من وجود صورة نموذجية عن الدولة أو نظام العيش‬ ‫المشترك للجماعة في مقومات الدولة التي أحصيناها في الفصل الرابع‪.‬‬‫وتلك هي وظيفة المرجعية التي تمثل هوية الجماعة الروحية وأساس القوى السياسية‬ ‫والنظام السياسي ووظائف الدولة والحكومة التي تعنى بهذه الوظائف‪.‬‬‫فحتى الجماعات المتوحشة التي تغزو الدول المتحضرة (المغول ودولة الإسلام) لابد من‬ ‫وجود هذه المستويات الخمسة شرطا لانتظامها كجماعة فاعلة سياسيا‪.‬‬‫فالغزو حتى لما يكون بدائيا كما في مثال المغول ضد دولة الإسلام وبرابرة أوروبا ضد‬ ‫دولة روما يعد فعلا سياسيا بالضرورة فغرضه السيطرة على الرزق‪.‬‬‫وإذن فهو يرد إلى مشكل الحماية والرعاية‪ :‬آمنهم من خوف وأطعمهم من رزق‪.‬‬ ‫وهوخاضع للقانون الطبيعي وخال من القانون الخلقي الكوني مثل كل استعمار‪.‬‬‫وبذلك نميزه عن الفتح‪ :‬ذلك أن \"لكم ما لنا وعليكم ما علينا\" تعني الخضوع لنفس‬ ‫القانون الذي تسعى الرسالة لتحقيقه وهو النساء ‪ 1‬والحجرات ‪.13‬‬‫بعبارة أوضح الفتح الإسلامي هدفه تغيير الاصل‪ :‬من الغزو من أجل الرزق ‪-‬منطق‬ ‫الجاهلية‪-‬إلى نشر رسالة تحرر حرب الرزق بالأخوة والمساواة بين البشر‪.‬‬‫فإذا أصلح الأصل يصبح ملء الخانات والتداول على الحكم خاضعا لشرائع تحرر من‬ ‫سلطان الطبائع‪ .‬ولما أسقطت الفتنة هذا الإصلاح أصبحنا في حالة طوارئ‪.‬‬‫وهي حالة دامت منذ نهاية العهد الراشدي إلى الآن‪ .‬والعرب والمسلمون يحاولون‬ ‫التخلص من حالة الطواري والعودة إلى المبدأ العام‪ :‬الشورى ‪.38‬‬ ‫‪27 22‬‬

‫ومن علامات التحريف المذكور في هذه الفصول وفيما تقدم عليها في فصول المدخل‬ ‫الخمسة إفساد نظرية الحكم في فهم الشورى ‪ .38‬وسبق أن شرحتها‪.‬‬‫جعلوا أولى الأمر أصحابه فلم يبقى لنسبته إلى الجماعة معنى‪ .‬وجعلوهم لا يستمدون‬ ‫تكليفهم بالأمر من الأمة بل من الغلبة فصار الأمر الواقع واجبا‪.‬‬‫وأسقطوا شرط الطاعة الذي هو لا طاعة في معصية الله بحصر المعصية في العبادات‬ ‫واخرجوا شرط الإيمان القرآن في آل عمران ‪110-104‬تحريفا لا شك فيه‪.‬‬‫وإذا كان ابن تيمية قد حاول ارجاع الأمر إلى نصابه ببيان أن ولاية الأمر حكمها الأمانة‬ ‫وشرطها العدل (النساء ‪ )58‬فإن نسبة الأمر في الشورى حاسمة‪.‬‬‫فهي تعتبر الجماعة المستجيبين لربهم وتنسب إليهم الأمر (طبيعة الحكم) وتعين إدارته‬ ‫بالشورى (أسلوب الحكم) مفهومان معلومان في فلسفة السياسة‪.‬‬‫فنسبة الأمر للجماعة يعني أن طبيعة الحكم جمهوري (أمر الجماعة=راس بوبليكا)‬ ‫وتحديد أسلوبه بالشورى يعني أنه ديموقراطي (شورى بينهم=ديموقراطية)‪.‬‬‫فيكون النظام الذي تحدده الآية جمهورية ديموقراطية لعلاج مسالتين هما مسألة‬ ‫المرجعية (الاستجابة للرب) وعلة الانحراف عنها (الانفاق من الرزق)‪.‬‬‫بينا أن الحاجة إلى الدولة علتها الحاجة إلى الحماية بسبب الصراع من أجل الرزق في‬ ‫الداخل والخارج‪ .‬والمرجع المغني عن العنف غير الشرعي هو الدين‪.‬‬‫وهكذا يتبين أن الدولة تصبح لا أخلاقية إذا كان العنف فيها ‪-‬وهو ضروري وتمثله‬ ‫الشوكة‪-‬غير شرعي أي غير خاضع لقانون يحمي الإنسان ويرعى حقوقه‪.‬‬‫فيكون وجود الأخلاق في الدولة أيا كانت مرجعيتها دينية أو علمانية هو ما يضفي‬ ‫الشرعية على الشوكة أعني قيام الدولة بدوريها حماية ورعاية‪.‬‬‫ولا يمكن الكلام على شرعية في حالة الاستبداد والفساد وعدم ملء خانات البنية المجردة‬ ‫والتداول عليها بمقتضى أحكام الحكم الواردة في الشورى ‪.38‬‬‫وكل هذه الشروط مفقودة في دولة الفقهاء بعد الخلفاء الراشدين ولا يمكن الادعاء‬ ‫بأنها خلقية فضلا عن الزعم بأن الاخلاق مفقودة في الدولة الحديثة‪.‬‬ ‫‪27 23‬‬

‫وحتى المرحلة الراشدة فإن ما فيها من رشد كان في من ملأوا الخانات على السليقة ولم‬ ‫يكن لهم الصوغ النظري للبنية المجردة لتجسدها في سنة الرسول‪.‬‬ ‫لذلك تعددت خيارات التداول في الحقبة الراشدة‪:‬‬ ‫‪-1‬الانتخاب(الصديق)‬ ‫‪-2‬التعيين (الفاروق)‬ ‫‪-3‬لجنة الانتخاب (عثمان) إلى الانقلاب‬ ‫‪-4‬وعدم الحسم(علي)‪.‬‬‫لكن المهم أعمق‪ :‬فالخلفاء الراشدون كانوا واعين بالمشكل ولم يستطيعوا حسم الصوغ‬ ‫النظري للبنية المجردة للدولة رغم تحقيقهم لمقوماتها الجوهرية‪.‬‬‫فالمشروع صيغ في حياة الرسول وحكمه والمركز المكاني في حكم الصديق والمركز الزماني‬ ‫في حكم الفاروق ووحدة المرجعية في حكم عثمان‪ .‬وحصلت الفتنة‪.‬‬‫ومنذئذ تعيش الأمة في حالة طواري بسبب الحرب الأهلية بمراحلها المعلومة فحكمت الأمة‬ ‫بسنن الإقليم السارية ولم يكن الإسلام فيها إلا غطاء شكليا‪.‬‬‫فالدولة الأموية حكمتها تقاليد بيزنطة وعادات الغساسنة والدولة العباسية حكمتها‬ ‫تقاليد فارس وعادات المناذرة‪ ..‬وصمد الإسلام في روح الأمة‪.‬‬‫ولا يعني ذلك أن الدولتين خرجتا من الإسلام أو كفرتا به‪ ،‬بل هما راعتا ما لا بد منه‬ ‫لتكون إسلامية فلم تمسس العبادات وحافظت على شكليات الباقي‪.‬‬‫ولما كنا نعتقد أن الدولة من حيث هي دولة لها مقومات لا تخلو منها دولة فإن المشترك‬ ‫بين بيزنطة وفارس ودولة الإسلام أي الحماية والرعاية بقيتا‪.‬‬‫صحيح أنهما لم تكونا مطابقين لشروط الشريعة الإسلامية في مسألة الحكم والتداول‬ ‫عليه‪ .‬لذلك قلت إن دولة الفقهاء أقل خلقية من الدولة الحديثة‪.‬‬‫فما تسميه الدولة الحديثة حقوق الإنسان يسميه الإسلام أخلاق الشريعة التي هي ما‬ ‫يبرر الأحكام الشرعية والتي من دونها يصبح القانون تحكما بشريا‪.‬‬ ‫‪27 24‬‬

‫ولا يهم من يضع القانون المهم هو توفر الشروط الخلقية التي تجعله قانونا بمقتضى ما‬ ‫حدده القرآن من أخلاق للحكم في الجماعة الحرة‪ :‬الشورى ‪.38‬‬‫ولن أطيل في هذه المسألة فقد خصصت لها بحوثا عدة يمكن لمن يريد المزيد أن يعود إليها‬ ‫وهي من جنس في فلسفة العلاقة بين القانون واساسه الخلقي‪.‬‬‫هل معنى كل ما تقدم أن الدولة لم يتغير منها إلا الأعضاء مع ثبات منظومة الوظائف‬ ‫البنيوية؟‬ ‫هل مقومات الدولة من جنس مقومات الكائنات الحية؟‬‫فتكون وظائف الدولة وما به تنتظم حياة الكائنات الجماعية الإنسانية بالشرائع من‬ ‫جنس وظائف الحياة وما به تتقوم حياة الكائنات الحية بالطبائع؟‬‫ومعنى ذلك أن تعاقب الأجيال في الكائنات الحية هو الذي يبقي على ثبات وظائف الحياة‬ ‫وتغير حواملها العضوية التي تمثلها الأجيال بأدائها للوظائف‪.‬‬‫وصفنا بنية المقومات والوظائف الثابتة في الدولة وهي بنية آلية ليست عضوية والمقارنة‬ ‫بالكائنات الحية لا تصح عليها إنها جهاز صناعي وليس طبيعيا‪.‬‬‫وهو جهاز آلي يصبح قابلا للمقارنة مع الكائنات الحية لأن بقاءه مثلها يحتاج لتوالي‬ ‫الأجيال من القيمين عليه والمؤدين لوظائفه بقدرات مختلفة‪.‬‬‫وحينها يظهر بعدا العامل الخلقي في الدولة‪ :‬فخلال قيامهم بوظائفها المحددة في بنيتها‬ ‫المؤسسة والقانونية تبرز نقائص البنية ونقائص أداء القيمين‪.‬‬‫ولذلك فالتاريخ هو الذي يمكن من تجويد البنية التي هي واحدة بالقوة ومتعددة بالفعل‬ ‫لأن ما ينقصها يكون حاضرا بغيابه أو يفرضه ما يفيده غيابه‪.‬‬‫ويكون تجويد البنية المجردة هادفا كذلك إلى الحد من تحكم القيمين فيتحسن البعد‬ ‫الخلقي من الأداء‪.‬‬ ‫فتحضر الأخلاق مرتين في البنية وفي القيمين‪.‬‬‫فتصبح الدولة شبه كائن حي‪ .‬فالاستكمال المتدرج للبنية الواحدة بالقوة والمتعددة‬ ‫بالفعل هو تاريخها انتقالها من القوة إلى الفعل‪ :‬الدولة الحديثة‪.‬‬ ‫‪27 25‬‬

‫الدولة الحديثة ثمرة دور الجماعة في تحسين وظائفها لضبط العلاقة بين الضرورة‬ ‫والحرية (الطبيعة والثقافة) إنها أتم أشكال الدولة وأكثرها خلقية‪.‬‬ ‫فما الطبيعي الضروري في الدولة وما الثقافي الحر فيها؟‬‫حدد ابن خلدون علل الحاجة إلى الدولة فردها إلى خاصيتين تبدوان متنافيتين في كيان‬ ‫الإنسان‬‫فالتعاون من اجل العيش (علة الاجتماع) والطابع العدواني في الإنسان (امتداد اليد‬ ‫لمال الغير) يجعلان الجماعة بحاجة حل للمشكلتين معا‪ :‬النظام الوازع‪.‬‬‫الحاجتان طبيعيتان والحل المضاعف (تعاون ‪ +‬وزع) ليس طبيعيا بل هو صناعي‪ :‬هو‬ ‫الدولة أو الوازع الأجنبي‪ .‬لكن هذا الوازع لا ينبغي أن يبقى أجنبيا‪.‬‬‫وذلك هو دور التربية‪ .‬تعلل هذا النظام بمرجعية خلقية تكون دينية في الغالب أو حتى‬ ‫أسطورية وهي بتدريج تصبح عقدا في الجماعة‪ :‬شرعية واعية بذاتها‪.‬‬ ‫ونظرية العقد قرآنية وهي في مقدمة ابن خلدون مخمسة الأبعاد‪:‬‬ ‫‪ -‬اثنان عقليان معيارهما مصلحة دنيوية‬ ‫‪ -‬واثنان دينيان بإضافة مصلحة الأخرى وطرف ضامن الله‪.‬‬‫والأصل هو كل ذلك مجتمع في هذه العلاقة بين الضرورة الطبيعية للاجتماع للعيش‬ ‫والامن أو للرعاية والحماية وظيفتي الدولة حلا سياسيا خلقيا‪.‬‬‫والحصيلة أن دولة الفقهاء ليست هي دولة الإسلام التي يمكن استخراجها من القرآن‬ ‫الكريم‪ .‬وأن هذه قريبة من الدولة الحديثة رغم عدم صوغها الشكلي‪.‬‬‫كما أن الأخلاق ملازمة للدولة من حيث هي دولة في بنيتها المجردة في القيمين عليها‪.‬‬ ‫وعندما تنخرم البنية أو القيمون عليها تفسد الأخلاق فيها‪.‬‬‫لكن فسادها لا ينفي عنها كونها أخلاق بدليل أنها تدعي الخلقية ولو نفاقا وفي ذلك‬ ‫اعتراف بضرورة البعد الخلقي للدولة ولو نفاقا وحاجة للإصلاح‪.‬‬‫ورمزية الدولة الحديثة أنها في إصلاح دائم لأنها تقول بما يشبه مبدأ الأمر بالمعروف‬ ‫والنهي عن المنكر لحق الجميع في النقد والمعارضة والتداول‪.‬‬ ‫‪27 26‬‬

‫أما دولة الفقهاء فخالية من ذلك لأن التداول يكون بالغلبة والبقاء بها وكل شيء خاضع‬ ‫للقانون الطبيعي ودور للقانون الخلقي يرد للتبرير البعدي‪.‬‬ ‫‪27 2‬‬

11



‫‪02 01‬‬ ‫‪01‬‬ ‫‪02‬‬‫تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي‪ :‬محمد مراس المرزوقي‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook