Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore ثورة الإسلام الثانية أو في دلالة الاجتماع النظري الخلدوني- أبو يعرب المرزوقي

ثورة الإسلام الثانية أو في دلالة الاجتماع النظري الخلدوني- أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2019-09-07 15:09:53

Description: ثورة الإسلام الثانية أو في دلالة الاجتماع النظري الخلدوني- أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪re nils frahm‬‬ ‫ثورة الإسلام الثانية‬ ‫أو في دلالة الاجتماع النظري‬ ‫الخلدوني‬ ‫الأسماء والبيان‬





‫المحتويات ‪2‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪8 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪13 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪19 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪26 -‬‬ ‫‪-‬الفصل السادس‪34 -‬‬

‫‪--‬‬ ‫قبل أن يتحرك الشعب الجزائري والسوداني كنت أتوقع أن يعود العالم الثالث كله إلى‬ ‫ثورة التحرير‪ .‬فـخدعة الاستقلالات التي وطدت استحالة التحرر لم تعد تنطلي على أحد‪.‬‬ ‫لكن بعد حركتهما وما بدأ يتلوها في أفريقيا جعل توقعي يصبح حقيقة أو يكاد‪ .‬إذ إني‬ ‫أتصور أن شرط حقيقته هو نجاح الثورة في الجزائر والسودان لتعم أفريقيا‪.‬‬ ‫وأعتقد أن ذلك لن يكون مقصورا على المسلمين‪ .‬فهو سيعم شعوب افريقيا جميعا دون‬ ‫اقتصار على مسلميها لأن الإسلام هو حركة تحرر واسترجاع كرامة الإنسان من حيث هو‬ ‫إنسان كما عرفه ابن خلدون \"رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" وهو متقدم‬ ‫على التمايز بين الأديان أو الأجناس أو الحضارات‪.‬‬ ‫فهو اليوم في وضع يشبه بدايته أول مرة بداية حقيقية لتجاوز الامبراطوريات التي كانت‬ ‫مهيمنة على العالم بدءا باللتين تسيطران على قلب ما نسميه الآن الشرق الأوسط من أرض‬ ‫فارس إلى أرض الأندلس حيث أنهى الإسلام امبراطورية فارس وإمبراطورية بيزنطة ثم‬ ‫ما وراء هذين الحدين أين توقف في قلب أوروبا وقلب آسيا‪.‬‬ ‫والإسلام قد استأنف دوره الذي بدأ منذ أن أصبح شبابه يقرأ‬ ‫{لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم}‬ ‫في صوغها الشعري الراقي وإن بترتيب معكوس‬ ‫\"إذا الشعب يوما أراد الحياة*فلابد أن يستجيب القدر\"‬ ‫مقدما الشرط على المشروط حتى يكون أقرب إلى الأفهام تأكد لي ما توقعته في أول ما‬ ‫كتبت فلسفيا‪.‬‬ ‫ففي كتاب \"الاجتماع النظري الخلدوني والتاريخ العربي المعاصر\" بينت أن الإسلام سيقود‬ ‫الثورة الثانية في تاريخه وسيحرر الإنسانية كلها وليس المسلمين وحدهم من شرور العولمة‪.‬‬ ‫ويكفيه لتحقيق ذلك استعادة دوره قطبا عالميا يحقق التعديل والتوازن بين قوى العالم‬ ‫وخاصة بين قوتي الشرق الأقصى والغرب الأقصى‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫كـان هذا الكتاب مشروع بحث للحصول على شهادة تناظر الدكتوراه في النظام الأمريكي‬ ‫والحلقة الثالثة في النظام الفرنسي وتسمى في النظام التونسي ‪ DRA‬كتبته بالفرنسية سنة‬ ‫‪ .1976‬لكنه بقي مشروعا عدلت عنه وعوضته بالرياضيات عند أرسطو بعد أن يئست من‬ ‫المشرف‪ .‬ونشرته معربا سنة ‪.1983‬‬ ‫وكان مفهوم الشرق الأقصى يعني في مشروعي عودة الشرق الأقصى بقيادة الصين وفيه‬ ‫الهند واليابان ومفهوم الغرب الأقصى يعني سيطرة الولايات المتحدة التي تستعمر العالم‬ ‫بما فيه أوروبا التي فقدت كل سلطان بعد أن نزعت منها مستعمراتها وأصبحت بالتدريج‬ ‫تابعة لأمريكا والصين وروسيا‪ .‬والمسلمون هم غالبية هذه المستعمرات‪.‬‬ ‫لما كتبت الاجتماع النظري الخلدوني والتاريخ العربي المعاصر جعلت الجزائر وفلسطين‬ ‫رمزين لبداية ثورة الإسلام الثانية بوصف شعبيهما خاضعين لظاهرتين الثورة تهدف إلى‬ ‫التحرر منهما‪:‬‬ ‫‪ .1‬ظاهرة عممتها على كل الأنظمة هي نظام الحكم في الجزائر‪.‬‬ ‫‪ .2‬وظاهرة عممتها على كل المعارضات في دار الإسلام هي نظام المقاومة في فلسطين‪.‬‬ ‫والأولى هي المافية العسكرية‪ .‬والثانية المافية \"النضالية\"‪.‬‬ ‫والقصد بالمافية العسكرية الشكل الثاني من الاستعمار حيث تصبح القوة التي وظيفتها‬ ‫حماية الوطن والشعب هي أداة استعماره أكثر من الاستعمار‪ .‬والمثال هو الجزائر في‬ ‫محاولتي ومن ثم فالثورة الجزائرية كان ينبغي أن تكون ضد الاستبداد الداخلي الذي‬ ‫يواصل الخارجي‪ :‬ثورة الجمع بين التحرر والتحرير‬ ‫والقصد بالمافية النضالية هو الرمز إلى تحول بمقتضاه حركة التحرير إلى معركة بين‬ ‫أمراء الحرب أو رؤساء الحركات وتحويل المقاومة إلى تجارة وخاصة إلى عنتريات اليسار‬ ‫إذ كانت المظاهر الطاغية حينها هي مظاهر سكارى الليل والعائشين في الفنادق من زعماء‬ ‫اليسار الذي تسكره عنتريات البلشفة والفرفشة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ومعنى ذلك أني اكتفيت بتعويض ما يقوله ابن خلدون عن توظيف الدين في الثورات بما‬ ‫يمكن أن يقال عن توظيف الماركسية عند أمراء الحرب في ذلك الحين أما اليوم فأمراء‬ ‫الحرب جلهم ممن وصفهم ابن خلدون‪ :‬توظيف الدين وليس الماركسية التي هي دين عند‬ ‫اليساريين لأن إلحادهم تدين ساذج بالماركسية‬ ‫وبذلك يتبين أني لا أنسب الأمر إلى نفسي بل كل ما فعلته أني استنتجت ما قاله ابن‬ ‫خلدون في وصفه للفعل السياسي الذي يمكن أن يكون أداة استعباد أو أداة تحرر ما يمكن‬ ‫استنتاجه إذا جعلناه قانونا عاما لا نغير من خانة المقدم ‪ Antécédent‬وخانة التالي‬ ‫‪ Conséquent‬إلا العاملين اللذين يناسبان اللحظة‪.‬‬ ‫وما كان مجرد توقع مستنتج من نظريات ابن خلدون بعد قراءتها قراءة تخرجها من البحث‬ ‫عن غيره فيه سواء كان اوغست كونت أو ماركس لأن عمله عندا يصاغ بوصفه اجتماعا‬ ‫نظريا متقدم عليهما بسنوات ضوئية عندما من ينظر في نظامه النظري ولا يقتصر على‬ ‫سطح النص هوذا يصبح حقيقة‪ :‬الصين وأمريكا سيدتا العالم‪.‬‬ ‫وأهم ما بينهما في السباق على سيادته هو دار الإسلام‪ .‬فمن يسيطر عليها قبل الثاني‬ ‫سيكون سيد العالم‪ .‬لكن ما ينبغي حسبانه هو دور الإسلام المسلمين‪ .‬هل سيبقون موضوع‬ ‫التنافس بينهما أم سيحدث مرة ثانية في ما أصبح دار الإسلام منذ نزول القرآن ليبقى دار‬ ‫الإسلام إلى يوم يبعثون‪ .‬ذلك هو الرهان‪.‬‬ ‫في سنة ‪ 1976‬لما كتبت المذكرة من حوالي ‪ 100‬صفحة بالفرنسية توهم البعض أني أحلم‬ ‫ولست أتكلم على ما كنت متيقنا من أنه حقيقة بالقوة وأنه صائر لأن يصبح حقيقة بالفعل‪.‬‬ ‫فدار الإسلام رغم ما حل بها كانت في أشد عنفوان الانبعاث وكان يستحيل تصور العالم من‬ ‫دون دورها أو من دون السيطرة عليها‪.‬‬ ‫أساس تحليلاتي مبادئ الاستراتيجيا وليس مجرد عقيدتي فإني انطلقت من العوامل‬ ‫المحركة للتاريخ الإنساني أعني عامل القوتين المادية والروحية والأولى أساسها القسط من‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الجغرافيا شرط الثروة والمنزلة الجيواستراتيجية والثانية أساسها القسط من التاريخ‬ ‫والمنزلة الهستريواستراتيجية في العالم‪.‬‬ ‫قلت ذات مرة تعليقا على ما كتبه هيجل في الفصل الثاني من الباب الرابع من فلسفة‬ ‫التاريخ (الخاص بالجرمان) أنه لو كان حيا الآن لانتحر لأنه توقع أن الإسلام خرج من‬ ‫التاريخ المتحضر وعاد إلى البداوة ولم يبق منه فيه إلا ما يمثله القسم الأوروبي اليوم من‬ ‫تركيا بسبب تحاسد القوى الأوربية حسب رايه‪.‬‬ ‫لكن دار الإسلام اليوم بكل قومياته وبكل ألوانه وحضارات صار واصلا بين المحيطين‬ ‫الأطلسي والهادي‪ .‬ولا يمكن تكرار ما حصل سابقا عندما استدار الغرب من حوله ليحيط‬ ‫به وليخرجه من دورتي أساس الوجود الإنساني الاقتصادية والثقافية‪ .‬وأهم مصادر‬ ‫الثروة الطبيعية فيه فضلا عن منزلة تراثه في الوعي الغربي المريض‪.‬‬ ‫وما أسميه بالوعي الغربي المريض هو العداوة العميقة في أرواح المسيحيين واليهود‬ ‫الغربيين وقد اجتمع ذلك في الصهيونية والمسيحية الصهيونية التي هي نوع من الصليبية‬ ‫الحديثة أعني غير التي بنيت على فكر الكاثوليكية للوصل بين الحقد الديني وحلم‬ ‫استرجاع ما يسمونه الأرض الموعودة في المشرق‪.‬‬ ‫لم يعد الأمر استعمارا نفعيا فحسب كما في الامبراطوريات الأوروبية بل هو جمع بين‬ ‫عقلية حرب الاسترداد الاسبانية وعقلية الاستعمار المعتد على التصفيات العرقية للشعوب‬ ‫كما في أمريكا وعقلية استرداد ما يسمونه الأرض الموعود في فلسطين‪ .‬ومعهما في إيران‪:‬‬ ‫استرداد أرض امبراطورية فارس‪.‬‬ ‫وحتى يدرك القارئ قصدي فليأخذ مقدمة ابن خلدون‪ .‬وليفرغها من الأمثلة التي ضربها‬ ‫ابن خلدون في عرضه لنظرياته‪ .‬وليعتبر البنية المجردة التي تحصل له وكأنها بنية‬ ‫لمتغيرات تقبل قيما هي الوضعيات المختلفة المناظرة لما ضربه من الأمثلة والحصيلة هي ما‬ ‫سميته الاجتماع النظري الخلدوني‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولهذه العلة سميته اجتماع نظري بمعنى أن ابن خلدون لم يميز بين القانون من حيث هو‬ ‫بنية مجردة وتعينه في وضعية حاصلة فعلا فقمت بإفراغ القانون من الوضعية الحاصلة لأرى‬ ‫هل ينطبق عندما نغير الوضعية بالمحافظة على العلاقة مقدم وتال؟ فيكون المقدم والتالي‬ ‫المعيين قيما متغيره والبنية ثابتة‪.‬‬ ‫وما دفعني إلى هذه العملية أمران‪ :‬أحدهما ظرفي وهو الرد على طه حسين وعبد الرحمن‬ ‫بدوي اللذين لم يفهما ابن خلدون‪ .‬فالأول ظنه ما يزال مؤرخا بدويا وادعى الثاني أنه‬ ‫لو عرف المشرق لما كتب ما كتب استقراء من مجتمعات مغربية متخلفة بالقياس إلى المشرق‬ ‫في عصره‪ .‬وهو دليل أمية فلسفية حتما‪.‬‬ ‫ذلك أن العلوم والفلسفة حتى وإن كانت فعلا قد أتت إلى المغرب من المشرق فإن عبارة‬ ‫بضاعتنا ردت إليها تجاوزها الزمن على الأقل منذ قرنين قبل ابن خلدون‪ .‬لكن ليس هذا‬ ‫المهم لأن هذه العلة ظرفية‪ .‬العلة الثانية أهم وهي البنية الرياضية العميقة في المقدمة‬ ‫والتي لا يمكن تبينها إلا بما فعلت‪.‬‬ ‫ولو بقيت في رد الفعل الذي يفهمنا رد الجابري على المشرق بالمقابلة بين العقلاني‬ ‫واللاعقلاني من الموقفين المغربي والمشرقي ‪-‬وهي فكرة عديمة الأساس كما بينت في الكثير‬ ‫من المناسبات لأنها لو صحت لكان ينبغي عكسها لأن الفكر المغرق في العرفانية والخرافية‬ ‫مغربي وليس مشرقيا‪-‬بل بحثت في الأهم‪.‬‬ ‫والأهم هو الجواب عن سؤال محير‪ :‬كيف يمكن لابن خلدون أن يعلن صراحة أمرين لم‬ ‫يكن بالوسع تصورهما عند من بقي حبيس علم الكلام والفلسفة اللذين كانا سائدين في‬ ‫عصره؟‪:‬‬ ‫• فهو من جهة أولى يريد جعل التاريخ من علوم الحكمة ‪-‬والفلاسفة ينفون علميته‪.‬‬ ‫• وهو من جهة ثانية يرفض الحلين الفلسفي والكلامي لعلاجه من منطلقيهما؟‬ ‫جعل التاريخ فلسفيا يحول دونه موقف أرسطو وكل الفلاسفة المسلمين‪ .‬ومع ذلك يصر‬ ‫عليه ابن خلدون منذ خطبة الكتاب‪ .‬ورفض الأحكام السلطانية والمدن الفاضلة لفهم‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الظاهرة السياسية يصر عليه ابن خلدون كذلك‪ .‬ما يعني أنه يوجد حل ثالث يجعل التاريخ‬ ‫قابلا لأن يكون في علاقة فريدة النوع بالفلسفة والدين‪.‬‬ ‫ومن هنا جاءت اللحظة القادحة‪ :‬كيف يمكن أن يجعل ابن خلدون التاريخ جزءا مما كان‬ ‫يسمى علوم العقل في حين أنه أحد علوم الآلة الأساسية في علوم النقل وأن يجعل علاقته‬ ‫مع الفلسفة والدين ممكنة مع أنه يرفض حل الأحكام السلطانية وحل المدن الفاضلة لو‬ ‫كانت محاولته استقرائية كما توهم بدوي؟‬ ‫فافترضت أن محاولته ليست استقرائية بل هي فرضية استنتاجية‪ .‬وكان العائق أمام هذه‬ ‫الفرضية هو انتساب جل الأمثلة التي يضربها إلى الحضارة الإسلامية ما يجعل ما تخيله‬ ‫بدوي قابلا للتصديق‪ .‬لكني استطعت أن اكتشف السر‪ :‬يوجد فرق كبير بين أمثلة لتأييد‬ ‫نظرية فرضية ووقائع تستمد منها نظرية استقرائية‪.‬‬ ‫وهنا حصلت المفاجأة السارة وهي فرضية المشروع الذي قدمته لنيل شهادة التعمق في‬ ‫البحث والتي عدلت عنها لتلكؤ المشرف وعوضتها ببحث يعد للمنهج الذي طبقته على ابن‬ ‫خلدون‪ :‬وهو منزلة الرياضيات عند أرسطو مع أستاذ المنطق في قسم الفلسفة‪ .‬وكنت حينها‬ ‫أدرس الفلسفة في الثانويات‪.‬‬ ‫كان المشرف استاذ الفلسفة من تشيكوسلوفاكيا وكان مختصا في فلسفة المنطق في المدرسة‬ ‫الألمانية‪ .‬وقد ساعدني في ذلك عنوان المقدمة‪ :‬كيف لمن يضرب أمثلة كلها أو جلها الساحق‬ ‫من الحضارة الإسلامية يعنون كتابة بـ\"علم العمران البشري والاجتماع الإنساني\" فتحضر‬ ‫صفتا البشرية والإنسانية بدل الإسلامية مثلا؟‬ ‫فكان يكفي أن أعوض العنوان هكذا \"علم العمران والمجتمع الإسلاميين\" لتصبح المقدمة‬ ‫مستقرأة من الأمثلة التي تتحول إلى وقائع استقرئت منها بعض التعميمات كما فهم بدوي‬ ‫وهي استقراء ناقص‪ .‬ما يعني أن ابن خلدون عمل العكس تماما‪ :‬أي إنه وضع نظريات‬ ‫حول العمران البشري والاجتماع الإنسان ومثل لها‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وإذن فابن خلدون استنتج علمه من مفهومات عرف بها الإنسان ليحدد مقومات العمران‬ ‫والاجتماع‪ .‬وضرب أمثلة من الحضارة الإسلامية لتوضيح قوانينه المستمدة من المفهومات‬ ‫التي هي صفات كونية للإنسان من حيث هو إنسان‪ .‬وكان عملي استخراج هذه المفهومات‬ ‫ونظامها هو ما سميته الاجتماع النظري الخلدوني‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ثم اعتبرت هذه المفهومات التي طبقها ابن خلدون على الحضارة الإسلامية في وضعيتها‬ ‫التي كانت معاصرة له قابلة للفصل عن هذه الوضعية المعينة والتطبيق على ما يمكن أن‬ ‫يكون نظيرا له من حيث طبيعة الدور في العمران والاجتماع‪ .‬فـما كنت أراه بالعين المجردة‬ ‫في حضارتنا لما كتبت هذه المحاولة كان نظيرا مناسبا‪ :‬ما عليه التاريخ العربي المعاصر‪.‬‬ ‫والتاريخ العربي المعاصر كان في مخاض بـمستقبل قريب‪ .‬وها نحن نراه بأم العين‪.‬‬ ‫توقعت أن تكون الجزائر وفلسطين قلب الحدث في ثورة الإسلام الثانية‪ .‬وهي الثورة التي‬ ‫عرفها أبو القاسم الشابي‪:‬‬ ‫\"إذا الشعب يوما أراد الحياة * فلا بد أن يستجيب القدر\"‪.‬‬ ‫فالوضعية الحالية التي توقعتها وهي تحدث الآن ولله الحمد‪.‬‬ ‫وختاما فما يمكن للفكر أن يتوقعه إذا بني على منطق سليم يمكن أن يطابقه المستقبل‬ ‫خاصة إذا لم يكن مجرد تعبير عن الأماني بل تحليل مبني على فلسفة بمستوى ما وضعه‬ ‫ابن خلدون من قوانين لم تكن بينة لأنها خلطت بمادتها فحصرت فيها ولم تجرد التجريد‬ ‫المناسب لتصبح قابلة للانطباق على نظائر ما طبقها عليه‪.‬‬ ‫وإذن فابن خلدون أبدع ما يناظر نظام النطق عند الفراهيدي لأنه لم يكن موجودا وهو‬ ‫المصفوفة الرياضية التي تتفرع عنها المفهومات التي بالتوليف بينها يبني نظريته التي هي‬ ‫نسق رياضي خالص خاناته تصورات يمكن اعتبارها مقدرات ذهنية قابلة أن تكون ذات قيم‬ ‫متغيرة ضرب امثلة لها بقيم من لحظة عصره‪.‬‬ ‫ولأورد أصل هذه المصفوفة والمشتقة من حده للإنسان‪\" :‬ونحن الآن نبين في هذا الكتاب‬ ‫ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران والعلوم والصنائع بوجوه برهانية‪-‬لاحظ‬ ‫برهانية‪-‬يتضح بها التحقيق في معارف الخاصة والعامة وتدفع بها الأوهام‪ .‬ونقول لك لما‬ ‫كان الإنسان متميزا عن سائر الحيوان بخواص اختص بها‪ .‬ويأتي بعد ذلك المفهومات‬ ‫المتفرعة \"عما يختص به الإنسان\" وهي‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬العلوم والصنائع‪.‬‬ ‫‪ .2‬الحاجة إلى الحكم‪.‬‬ ‫‪ .3‬السعي في المعاش‪.‬‬ ‫‪ .4‬ومنها العمران وهو المعاش بنوعيه البدوي والحضري‪-‬وله في كل هذا أحوال‬ ‫تعرض من حيث الاجتماع عروضا ذاتيا\"‪ .‬فيستنتج أبواب البحث بإضافة شرطي القيام‬ ‫الإنساني‪.‬‬ ‫وتلك هي موضوعات الخمسة من ‪ 2‬إلى ‪ 6‬لأن الباب الأول يشملها جميعا لكونه يتعلق‬ ‫بالشروط الجغرافية والروحية أي ما يجعل الإنسان معمرا ومستخلفا في الأرض‪ .‬وذلك هو‬ ‫الباب الأول والخمسة التي سندرس بينة علاقاتها في الفصول الموالية‪.‬‬ ‫‪ .1‬في العمران البشري على الجملة‪.‬‬ ‫‪ .2‬العمران البدوي‪.‬‬ ‫‪ .3‬الدولة‪.‬‬ ‫‪ .4‬العمران الحضري‪.‬‬ ‫‪ .5‬الاقتصاد‪.‬‬ ‫‪ .6‬العلوم والتربية والفنون‪.‬‬ ‫وهذه ثوابت كونية وليست خاصة بأمة دون أمة أو عصر دون عصر بل هي خانات مجردة‬ ‫تتعين تاريخيا‪ :‬إنها مصفوفة‪ .‬والتغريدات السبعة الأخيرة من الفصل السابق جزء من هذا‬ ‫الفصل الثاني‪ .‬وبناء عليها أواصل شرح البنية العامة للمقدمة وأبدأ بالكلام على ترتيبها‬ ‫بعد عددها الذي ذكرناه‪ .‬فابن خلدون أعلن عن قانون ترتيب العناصر من الضروري إلى‬ ‫الحاجي إلى الكمالي في شروط حياة الإنسان العضوية والروحية‪ .‬فيتبين أمران‪:‬‬ ‫• فالمسائل ليست خاصة بأمة دون أمة ولا هي خاصة بعصر دون عسر بل مضامينها تتحدد‬ ‫بتاريخية العناصر مع تاريخية تفاعلها وتحدد وزن كل منها بأثر العلاقة بين الطبيعة‬ ‫والثقافة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫• وقانون التراتب بينها وهو المذكور في تحديد المسائل وأولاها تشمل كل المسائل لأنها‬ ‫متعلقة بشرطي الوجود‪.‬‬ ‫وشرطا الوجود الإنساني من حيث الوجود وشروط البقاء هما‪:‬‬ ‫• الشرط الجغرافي المنافي ويناسب قيام الإنسان العضوي‪.‬‬ ‫• والشرط الفكري الروحي ويناسب قيامه الروحي والفكري‪.‬‬ ‫وذلك هو موضوع الباب الأول الذي يدرسهما كلا على حدثة ثم يدرس تفاعلهما في‬ ‫الاتجاهين فعل الجغرافي في الإنساني وفعل الإنساني في الجغرافي والأصل تناظر القيام بين‬ ‫العالم والإنسان‪.‬‬ ‫وطبعا ابن خلدون لم يتكلم على تناظر القيام بين العالم والإنسان بمعنى التناسب بين‬ ‫كيان الإنسان العضوي وكيانه الروحي مع ما يناظرهما في العالم‪ .‬لكنه يفترضه ضمنا لأن‬ ‫الجغرافيا والمناخ هما شرط الحياة أو العضوي من الإنسان‪ .‬ولو كان هذا هو الشيء الوحيد‬ ‫لكان الإنسان مثل كل الحيوانات الأخرى مقصورا على هذه العلاقة ولما وجد تاريخ حضاري‬ ‫مع التاريخ الطبيعي أو العضوي‪.‬‬ ‫وإذن فللإنسان بعد ثان بالإضافة إلى بعده العضوي ‪-‬بدنه الذي يستمد قيامه مما‬ ‫يستمده الإنسان من الطبيعة‪-‬وهو بعده الروحي أو الوعي بذاته وبمحيطه وبفاعليته‪.‬‬ ‫فلا توجد جماعة لا تفترض وراء الطبيعة \"شيئا\" ما يشبه ما لدى الإنسان إما محايثا فيها‬ ‫فيؤلهها أو مفارقا لها فيؤمن بآلهة وراءها‪.‬‬ ‫وهذا هو الأصل الثاني في الإنسان وفي العالم‪ .‬ففي الإنسان روحه ويترتب على ذلك‬ ‫افتراض الإنسان أن للعالم روحا محايثة فيه‪ .‬وهذا هو أصل الأديان الطبيعية أو روحا‬ ‫مفارقة وهذا هو أصل الأديان المنزلة‪ .‬ولذلك فالقسم الثاني من الباب الأول يتألف من‬ ‫الكلام في الجغرافيا والمناخ وفي الإلهيات بصنفيها‪.‬‬ ‫والمسائل العميقة التي يؤسس عليها ابن خلدون بوصفها \"ماتريكس =مصفوفة المفهومات\"‬ ‫الخلدونية هي التي لم ينتبه إليها المرحومان طه حسين وعبد الرحمن بدوي بشيء من‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الخفة العقلية التي تدل على سطحية منقطعة النظير‪ .‬ذلك أن مثل هذه المعاني لا يمكن‬ ‫أن تكون استقرائية‪ .‬والأمثلة ليست وقائع تستقرأ بل أمثلة للتوضيح‪.‬‬ ‫وبالمعنى الرياضي أو المنطقي إنما هي قيم لمتغيرات‪ .‬وهذه القيم أمثلة من القيم الممكنة‬ ‫التي تؤدي نفس الوظائف في حضارات أخرى‪ .‬لكن المصفوفة كونية وليست خاصة بحضارة‬ ‫دون حضارة ولا بدين دون دين ولا بعرق دون عرق ولا بمرحلة دون مرحلة من التاريخ‬ ‫الإنساني‪ .‬لذلك فهي رؤية متأثرة بكونية الإسلام‪.‬‬ ‫وعندما أبين هذه المعاني نتحرر من سخافة مقابلة بدوي بين المشرق والمغرب مع تفضيل‬ ‫المشرق على المغرب أو سخافة مقابلة الجابري بينهما مع المفاضلة المضادة لأن ابن خلدون‬ ‫ليس مشرقيا ولا مغربيا بل هو فيلسوف كوني وحتى من حيث الأصول فهو مشرقي تمغرب‬ ‫ثم مغربي تمشرق‪ .‬هو كوني لأنه مسلم‪.‬‬ ‫فهو حضرمي الأصل الأول‪ .‬أندلسي الأصل الثاني‪ .‬تونسي الأصل الثالث‪ .‬مغربي‬ ‫الأصل الرابع‪ .‬جزائري الاصل الخامس‪ .‬وفي الجزائر كتب المقدمة‪ .‬مصري الأصل‬ ‫السادس‪ .‬وحتى شامي الأصل السابع‪ .‬ومن ثم فلا أحد من العرب يحق له أن يعتبره من‬ ‫سخافات قوم بابل العربية التي لا تدل على حب الأقطار بل على سخافة الأعراب وانحطاط‬ ‫العار‪.‬‬ ‫ولنغص الآن في المقدمة لنرى نسيجها العميق وكيفية عمل التوليف بين العناصر ‪-‬قياسا‬ ‫على ما فعل الفراهيدي مع أصوات العربية في معجمه بنظرية التواليف الرياضية ومع إيقاع‬ ‫العربية في نظرية البحور الشعرية بنظرية التواليف الرياضية كذلك‪-‬فابن خلدون‬ ‫فراهيدي العمران والاجتماع الإنسانيين‪.‬‬ ‫ولي شرف اعتبار نفسي تلميذا للفراهيدي اللساني وللفراهيدي العمراني بعد التتلمذ‬ ‫على ابن تيمية والغزالي في حضارتنا وإن كان ذلك متأخرا عن تتلمذي على أرسطو‬ ‫أفلاطون ثم على ديكارت وكنط غربيا‪ .‬ذلك أني لا اعتقد في خرافة المقابلة شرق غرب‪.‬‬ ‫الإنسانية المبدعة واحدة كما حددها القرآن دين الكونية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الخصوصية في المعرفة فلكلور‪ .‬وهي عنصرية لأنها تمييز على أساس الفلكلور الحضاري‪.‬‬ ‫ولا يختلف ذلك عن التمييز على أساس الألوان بين البشر‪ .‬الأول ثقافي والثاني بايولوجي‪.‬‬ ‫وكلاهما نوع من التكيف‪ .‬الأول مع المناخ الثقافي وهو القسم الثاني من الباب الأول في‬ ‫المقدمة والثاني مع المناخ الطبيعي هو القسم الأول منه‪ .‬والإنسان واحد لا هو شرقي ولا‬ ‫هو غربي‪.‬‬ ‫والآن نفهم دلالة اسم العلم الذي يقول ابن خلدون في‪\" :‬ونحن ألهمنا الله إلى ذلك إلهاما‬ ‫واعثرنا على علم جعلنا سن بكره وجهينة خبره‪ .‬فإن كنت قد استوفيت مسائله وميزت عن‬ ‫سائر الصنائع (يعني العلوم) أنظاره وأنحاءه فتوفيق من الله وهداية وإن فاتني شيء في‬ ‫احصائه واشتبهت بغيره مسائله فللناظر المحقق إصلاحه ولي الفضل لأني نهجت له السبيل‬ ‫وأوضحت له الطريق والله يهدي بنوره من يشاء\"‪ .‬ولي شرف بيان فيم يتمثل الإبداع‬ ‫الخلدوني دون الزعم بأني ناظر محقق استدرك عليه واعترف له بالفضل لأني لست‬ ‫الوحيد المدين له بل الإنسانية كلها فهو \"أرسطو\" العلوم الإنسانية كلها دون منازع‪.‬‬ ‫وكم أعجب ممن يتكلم على \"نحن\" قبالة \"الآخر\" بين المسلمين وغيرهم‪ .‬لا يوحد غير‬ ‫يفرض المقابلة شرق غرب ‪-‬لا شرقية ولا غربية‪-‬بل كونية‪ .‬ولذلك فابن خلدون استعمل‬ ‫مفهومين للإنسان فوصف العمران بكونه بشريا والاجتماع بكونه إنسانيا‪.‬‬ ‫فالعمران البشري يعرفه بـ\"التنازل\" للتعاون على سد الحاجات العضوية وما تتطلبه من‬ ‫حماية‪ .‬والتنازل يعني المشاركة في المنزل‪ .‬والاجتماع الإنساني يعرفه بالتنازل للأنس‬ ‫بالعشير‪ .‬ويتعلق بالاستمتاع بالحياة‪ .‬ويمكن القول إن الأول للرعاية العضوية والثاني‬ ‫للرعاية الروحة‪ .‬وكلاهما مصحوب بالحماية‪.‬‬ ‫وبذلك فالأساس الذي ينطلق منه ابن خلدون ليس نظرية مستقرأة بل هو فرضية‬ ‫نظرية لتحديد مقومات الوجود الإنساني من حيث هو كائن له بعد عضوي لصيق بكونه من‬ ‫تراب وبعد روحي لصيق بكونه مستخلفا‪ .‬والجمع بين الأمرين هو معنى الاستعمار في‬ ‫الأرض والاستخلاف فيها‪ .‬وتلك هي ثورة الإسلام الكونية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫باب المقدمة الأول يشمل بقية أبوابها محددا مؤسسا لشروط قيام الإنسان المادية‬ ‫(الجغرافيا والمناخ) والروحية (الأديان والعلوم وتطبيقاتهما) والتفاعل في الاتجاهين‬ ‫وأصل هذه المقومات الأربعة كيان الإنسان بمقوميه من حيث هو مستعمر في الأرض‬ ‫ومستخلف فيها‪ .‬ذلك هو منطلق الفرضية التي تؤسس مصفوفة مسائل المقدمة وشبكتها‪.‬‬ ‫فلننظر في هذه المصفوفة والشبكة وكيف تقبل القراءة من البداية إلى الغاية بعلاقة‬ ‫معكوسة بين الطبيعي والثقافي الأول يتناقص والثاني يتزايد ومن الغاية إلى البداية من‬ ‫الثقافي إلى الطبيعي بالعكس إذ يتناقص الثقافي ويتزايد الطبيعي‪ .‬ويلتقي التوجهان في‬ ‫القلب من الأبوات الخمسة الباقية أعني في باب العمران الحضري أو في المدينة التي هي‬ ‫البنية الكونية لتلاقي العمرانين‪ .‬فالمدينة او العمران الحضري في المقدمة هي في الحقيقة‬ ‫اللقاء الدائم بين العمرانين والاجتماعين‪:‬‬ ‫• العمران والاجتماع البدويين‪.‬‬ ‫• والعمران والاجتماع المدنيين‪.‬‬ ‫أو العلاقة بين سلطان الطبيعة وسلطان الثقافة وما يترتب عليهما من حيوية الحضارات‬ ‫في كل المجتمعات البشرية في الرؤية الخلدونية لفلسفة التاريخ‪ .‬فالمدينة هي الـ\"ماكينة\"‬ ‫التي تصنع التاريخ من حيث هي دورة دائمة بين البداوة التي تتحضر صعودا في مرحلة‬ ‫العنفوان العضوي الروحي للجماعة والحضارة التي تتبدى نزولا في مرحلة الترف الذي‬ ‫يقتل القوى الحيوية ويفقدها العنفوان فتخلد للدعة والراحة‪ .‬وقلب المدينة حضري دائما‬ ‫في كل حضارة‪ .‬ومحيطها بدوي دائما في كل حضارة‪.‬‬ ‫والبداوة تغزو المدينة عضويا بما فيها من عنفوان عضوي‪ .‬والحضارة تغزوها ثقافيا بما‬ ‫فيها من عنفوان ثقافي في لحظات الصعود وينعكس الأمر فتصبح ثقافة الترف في لحظات‬ ‫النزول غازية للعنفوان الحيوي الذي يتحول إلى الغرق في التحلل الخلقي والقيمي‬ ‫والانهيار الاقتصادي‪ :‬الفصل ‪ 18‬من الباب الرابع‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن ذلك ليس غاية الحضارة الكونية عامة ونهايتها بل هو غاية \"حضارة معينة\" أو دورة‬ ‫من دورات الحضارة الإنسانية‪ .‬فالتجديد العضوي للحضارات يحدث بالغزو الذي يجدد‬ ‫الكيان العضوي وغالبا ما يكون بدويا في عصر ابن خلدون‪ .‬وهو اليوم من نوع آخر إنه‬ ‫\"غزو\" بالهجرة الداخلية في نفس الحضارة وبالهجرة الخارجية إلى بين الحضارات‪.‬‬ ‫وهذا أول قانون خلدوني ظنه العجلون مقصورا على العلاقة بين البداوة والحضارة‬ ‫بالمعنى العيني الذي كان موجودا في عصر هز لكن هذه الحالة العينية مثال من القانون‬ ‫وليست هي الحقيقة التي يعنيها ابن خلدون‪ .‬والقصد أن الآلية التي تبقى على حياة‬ ‫الحضارة الإنسانية هي هذه العلاقة بين مستويين منها عضويين وروحيين أو طبيعيين‬ ‫وثقافيين‪.‬‬ ‫والعلة هي العلاقة بين مستويات عنفوان العضوي ومستويات عنفوان الروحي‪ .‬ففي‬ ‫البداوة لغياب الترف يكون هذان متناغمين في قوة العنفوان بين العضوي والروحي‪ .‬وفي‬ ‫الحضارة يكونان بسبب الترف في الغذاء والجنس متناغمين في ضعف العنفوان وتناغمه‬ ‫فيهما‪ .‬فيكون القرب من الطبيعة ممثلا للشباب والبعد عنها ممثلا للشيخوخة‪ .‬ولابن‬ ‫خلدون ميل واضح لتقديم الطبيعي على الثقافي وقوة العنفوان العضوي والروحي الروحي‬ ‫على ضعفهما‪.‬‬ ‫ويكفي أن نحلل الموقف المتناقض من المهاجرين في الغرب‪ .‬فهم ضرورة مطلوبة‪ .‬لكنهم‬ ‫ظاهرة مخيفة لأهل البلد‪ .‬هم ضرورة عضوية لتجديد النسل خاصة ولتجديد عنفوان‬ ‫الحياة ورمزها قوة الشهية الجنسية وفي الأعمال البدنية والرياضة مثل‪ .‬وحتى في ما كان‬ ‫يسخر منه ابن خلدون أو ما يسميه الخفة والرقص عند الزنوج‪ :‬فكلها عبارة عن العنفوان‬ ‫الـحيوي‪.‬‬ ‫لكن ذلك يحدث ظاهرة الرفض بسبب \"الغيرة\" وخاصة في اليمين خوفا على \"ميل نسائهم\"‬ ‫لهذا العنفوان العضوي وخوفا على الديموغرافيا لأن وفرة تكاثر المهاجرين يهدد في المدى‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫المتوسط والطويل قلة تكاثر الأوروبيين‪ .‬ما يجعلهم في خوف على الهوية بحيث إن يمين‬ ‫أوروبا كله يتخوف من الجاليات الإسلامية لهذين العلتين‪.‬‬ ‫وهذا الأمر ينبغي أن ينسب نظرية ابن خلدون في علاقة المغلوب بالغالب‪ .‬فالغلبة‬ ‫العضوية هي التي تنتصر في العمق والغلبة الثقافية تنصر في الظاهر‪ .‬وليكن مثالنا في‬ ‫الموروثين العضوي والثقافي‪ .‬فلا شك أن أمريكا التي كانت بيضاء وعبيدها سود لم يبق‬ ‫عبيدها عبيدا لكن ثقافة السود وأذواقهم هي التي بدأت تفرض نفسها‪ .‬وأتوقع نفس‬ ‫الشيء في أوروبا على المدى الطويل‪.‬‬ ‫أطلت الكلام في المسألة لأبين أن إخلاء البينة التي تحدد القانون العام من المضمون‬ ‫العيني (بداوة حضارة في عصر ابن خلدون) وتعويضه بأي مضمون يناظره من حيث‬ ‫الوظيفة يبين أن الإبداع الخلدوني لا يتحدد بتعينه في المضمون العيني بل في البنية‬ ‫المجردة التي تنطبق في كل الحالات بشرط التناظر الوظيفي للمضامين العينية‪.‬‬ ‫وذلك ما لم يكن بوسع طه حسين ولا عبد الرحمن بدوي قادرين على فهمه لأنهم تصوروا‬ ‫الرجل استقرأ أحكامه مـما قدمه من الأمثلة التي يضربها والتي ظنوها وقائع استقرائه في‬ ‫حين أنها أمثلة مما ينطبق عليه القانون في عصره لا غير‪ .‬وسنرى كيف أن الحاضرة أو‬ ‫المدينة هي ملتقى ومصب للعلاقة بين الطبيعي والثقافي دائما‪.‬‬ ‫ولا بد هنا من فهم استعمال ابن خلدون لمصطلح العرب للدلالة على ظاهرة انثروبولوجية‬ ‫ظنها الكثير ممن يحقدون على العرب بالمعنى العرقي أو الاثني من حيث هي اسم لقوم‬ ‫وعلاقة المصطلح الخلدوني بمن يسميهم القرآن الأعراب (قالت الأعراب) لأنه يعرفها‬ ‫بأمرين هما رعاية الإبل والصحراء‪ .‬وذكر فيها أقواما ليسوا عربا بالجنس مثل الأكراد‪.‬‬ ‫وغايتي من هذا المثال ليس الدفاع عن العرب ‪-‬فهذا ليس من مطالب المعرفة حتى أدافع‬ ‫عن العرب بالمعنى الاثني لأني منهم‪-‬بل بيان ما يعنيه ابن خلدون بالبداوة التي تؤدي‬ ‫الوظيفة التي يتكلم عليها في علاقة بالحضارة إلى الحد الذي ميز بمقتضاه بين عمرانين‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بدوي وحضري‪ .‬والمعيار الذي يعنينا في نظريته هو \"نحلة العيش\" ودورها في كيان‬ ‫الإنسان‪ .‬وقد خصصت لها سلسلة من الفصول‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فكما أن غاية الحضارة القصوى أو الترف قاتلة لكيان الإنسان العضوي‬ ‫بفساد كيانه الروحي فإن بداية البداوة القصوى قاتلة لكيان الإنسان الروحي بفساد كيانه‬ ‫العضوي‪ .‬فتكون الأعراب والترف ممثلين للحدين الأقصيين المفسدين لآلية التخاصب بين‬ ‫العمرانين والاجتماعين في فلسفته‪ :‬عدم الحضارة في الأول وإعدام الحضارة في الآخر‪.‬‬ ‫وهذا هو القانون الثاني الذي تتضح دلالته بعد افراغ البنية المجردة من الأمثلة‬ ‫العينية‪ .‬ففي ذهن ابن خلدون في مسألة العرب بمعنى الأعراب الذي هو مفهوم‬ ‫انثروبولوجي وليس عرقي بدليل ذكر الأكراد من بينهم كان ممثلا في ظاهرة غزو بني‬ ‫هلال لتونس خاصة وما ترتب عليه من دمار وصفه بتأثر شديد‪.‬‬ ‫لكن قانونه لم يكن استقراء من المثال الذي يظن واقعة بنى عليها ابن خلدون نظرياته‪.‬‬ ‫ولو صح ذلك لكان القرآن أيضا قد استقرأ من واقعة الأعراب مفهوم الأعراب‪ .‬أعراب‬ ‫القرآن وعرب ابن خلدون في هذه الحالة لا علاقة لهما بالعرب كعرق أو كقوم بل هما‬ ‫يصفان مرحلة متقدمة على العمران البدوي الذي يلتقي بالعمران الحضري‪ :‬أو لنقل‬ ‫المفهوم يهدف إلى بيان ما يتنافى مع الحضارة إما في البداية ومثله الترف في النهاية‪.‬‬ ‫وكلاهما لهما نفس الدور في القرآن كذلك‪ :‬إما العدم أو الاعدام‪.‬‬ ‫واللقاء المتخاصب هو الذي يجعل العمران البدوي والاجتماع البدوي منطلقا لنشأة‬ ‫الدول‪ .‬فهما يشبهان مفهوم الفطرة السليمة في رؤية الإسلام للدين عند الله وفي رؤية ابن‬ ‫خلدون لدلالة الطبيعة الخيرة للإنسان بمعنى أن أقصى البداوة ممثلا بالأعراب انحراف‬ ‫في كيان الإنسان العضوي والروحي نتيجة للادقاع والقحط المادي والروحي لنحلة عيشهم‬ ‫مع الإبل في الصحاري‪.‬‬ ‫وهذا يعني أن أقصى البداوة \"الأعرابية\" وأقصى الحضارة \"الترفيه\" كلاهما ناتج عما‬ ‫يتنافى مع علاقة التخاصب بين الطبيعي والثقافي ما يعني أنهما يتضمنان خللا في مقومي‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الإنسان العضوي والروحي إما بعدم الثقافي أو يكاد أو بفساده‪ .‬فينتج عنه مرض عضوي‬ ‫ناتج عن انحطاط علته الجوع المادي ومرض روحي ناتح عن انحطاط علته الجوع الروحي‪.‬‬ ‫وكلاهما يعني نهاية الأخلاق المشروطة في العمران والاجتماع السليمين ولهما نفس‬ ‫النتائج‪ .‬فالأعرابي يعيش على السرقة والحرابة من تحت‪ .‬والمترف يعيش عليهما ولكن‬ ‫من فوق‪ .‬فالأول سارق ومحارب بسبب الجوع المادي وهو خارج على أي نظام سياسي‪.‬‬ ‫والثاني سارق ومحارب بسبب الجوع الروحي وهو مستبد بأي نظام سياسي‪ .‬ويوجد بعض‬ ‫العرب يجمعون بين المرضين وتلك هي قمة الانحطاط العضوي والروحي فتجد لديهم‬ ‫أمراض السمنة بدنيا وأمراض السفالة روحيا‪.‬‬ ‫وهذا هو القانون الخلدوني الثالث‪ .‬والأول يسميه العصبية المفضية للهرج وهي عصبية‬ ‫الأعراب‪ .‬والثاني يسميه الاستبداد الذي ينتهي إلى الإخلاد إلى الأرض ليس نفيا للنظام‬ ‫فحسب بل تحويله إلى أداة للسرقة والحرابة النسقية على الجماعة‪ .‬فإما نفي الجماعة‪.‬‬ ‫أو سحق الجماعة‪ .‬والنتيجة نفي التخاصب بين الطبيعة والثقافة‪.‬‬ ‫وهذا مناف للأخلاق والسياسة معا‪ .‬وهو الحياة المافياوية التي فيها سلوك أقصى البداوة‬ ‫أي القتل والغدر وسلوك المترفين أي البذخ واللاأخلاق اعتمادا على القوة القاهرة بالقتل‬ ‫والغدر كذلك‪ .‬ويصح ذلك على كل الأنظمة العربية بل على والأنظمة الغربية التي‬ ‫تستعملهم وتحميهم وخاصة أمريكا بسلوك رعاة البقر‪ .‬فالأمريكان هم أعراب الغرب‪.‬‬ ‫وتلك كانت صورتهم في الأدب الإنجليزي‪ :‬أي إنهم أجلاف‪.‬‬ ‫وقد يكون ترومب أفضل مثال على ذلك‪ .‬فهو جلف ومافيوزي باجتماع الاسلوبين أسلوب‬ ‫الأعراب وأسلوب المترفين‪ .‬وليس من الصدفة أنه صديق بدو العرب الحاليين القائدين‬ ‫للثورة المضادة والمحاربين للإسلام مثله وهو لصيق بأخلاقهم فهو مثلهم فاسد ومستبد ولا‬ ‫أخلاق له‪ .‬مافية العصبية المفضية للهرج ومافية الترف المفضي لمطلق الفساد والاستبداد‬ ‫ذلك ما يثبته هذا القانون العميق لفكر ابن خلدون‪ .‬وهكذا نرى صلاحية القانون الثالث‬ ‫لتفسير ظاهرة فعلية حالية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وليس ذلك بسبب التعميم بل بفضل إفراغ بينة القانون من مضمونه العيني الذي ضربه‬ ‫ابن خلدون مثالا وتطبيق بنيته المجردة على المضامين التي لها نفس الوظيفة موضوع‬ ‫القانون بصورة عامة‪ .‬وبذلك نمر إلى القانونين الأخيرين‪:‬‬ ‫• قانون الطرد‪.‬‬ ‫• وقانون العكس‪.‬‬ ‫فطردا فاعلية الطبيعة تتناقص من البداية إلى الغاية فهي تكاد تغيب في الباب السادس‪.‬‬ ‫وعكسا فاعلية الثقافة تتناقص من الباب الأخير إلى البال الثاني‪ .‬بعكس تناقص فاعلية‬ ‫الطبيعة من الباب الثاني إلى الباب السادس‪ .‬فتكون الثقافة شبه غائبة في الباب الثاني أي‬ ‫في العمران البدوي‪ .‬وهما في توازن في الباب الرابع أو في ملتقى الطبيعي والثقافي الذي‬ ‫أطلت في شرحه‪ :‬المدينة‪.‬‬ ‫فما دلالة ذلك؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فماذا ينتج عن قانون الطرد من الطبيعي (ممثلا بالعمران البدوي) إلى الثقافي (ممثلا‬ ‫بالعمران الحضري)؟‬ ‫وماذا ينتج عن قانون العكس من الثقافي إلى الطبيعي؟‬ ‫إنه ثمرة الثورة الخلدونية التي لي شرف الكشف عنها اعتمادا على اعتبار نظريته‬ ‫استنباطا استنتاجيا ذا بنية رياضية لا استنباطا استقرائيا ذا بنية \"امبيريقية\"‪.‬‬ ‫ونبدأ بالمسار الطردي‪ :‬أي من ‪ 2‬إلى ‪ 4‬بتوسط ‪ 3‬من أبواب المقدمة أي إلى حدود اللقاء‬ ‫المتوازن في المدينة وقبل المرور إلى تضاؤل دور العمران البدوي إلى ما يقرب من الصفر‪.‬‬ ‫فالبالب‪ 3‬في الدولة فيه اكتشافان‪:‬‬ ‫‪ .1‬تشارط الدولة والمدينة وهما لا يترابطان بوحدة دينية بنيويا بل بوظائف الدولة‬ ‫حماية ورعاية كما هو بين من دستور الرسول مثلا‪.‬‬ ‫‪ .2‬والثاني هو الأهم هو بيان أن الـدولة لا يمكن أن توجد من دون عقد إما عقلي‬ ‫أو ديني أو جامع بينهما‪.‬‬ ‫‪ .3‬وكلا العقدين‪-‬العقلي أو الديني‪ -‬يمكن أن يكون لصالح الحاكم وحده وهو‬ ‫مفروض منه على الجماعة أو لصالح الحاكم والمحكوم في آن عندما يدرك الحاكم استحالة‬ ‫استقرار دولته بالأول‪.‬وهذا هو الشكل الأفضل لوظائف الدولة لتوفر شرط النظام‬ ‫الطوعي أساسا للسلم المدنية في الدولة وفي قلبها خاصة‪ :‬المدينة‪.‬‬ ‫‪ .4‬فتكون المدينة غاية الدولة والدولة شرطها توفيرا للرعاية (شرط التعاون لسد‬ ‫الحاجات) والحماية (شرط التبادل بالتعاوض ودفع العدوان البيني أو من الخارج) اللذين‬ ‫هما شرطا الدعة والاستقرار غاية كل سعي إنساني‪ .‬وهذا هو القانون المؤسس للدولة‬ ‫ولطابعها التعاقدي إما بالعقل أو بالدين فرضا أو توافقا‪ .‬وهو ليس ظاهرة حديثة أو‬ ‫قديمة بل هو ملازم للدولة مهما كان عصرها أو شكلها‪ .‬وليس من الضرورة أن يكون العقد‬ ‫مكتوبا إذ يمكن أن يكون عرفيا وهو في الغالب عرفيا حتى بعد اكتشاف الكتابة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن هذه العقود التي تتأسس عليها الدولة يهددها خطران‪:‬‬ ‫• ما يشبه الحالة الطبيعية التي يتميز بها الأعراب بالمعنى الذي حددنا في الفصول‬ ‫السابقة وهو المعنى الذي أفسده استعمال ابن خلدون كلمة عرب بدل أعراب لتسميته لكن‬ ‫قصده واضح فهو يعني الأعراب وليس العرب بدليل أنه يضم إليهم الأكراد المشاركين لهم‬ ‫في هذه الصفة أي العيش على رعاية الأبل في الصحراء القاحلة‪ :‬مفهوم انثروبولوجي‬ ‫وليس عرقيا أثنيا‪.‬‬ ‫• أو ما يسميه بالفوضى المفضية للهرج في الجماعة أو وهو الأخطر ما يسميه ابن خلدون‬ ‫بـ\"حب التاله\" عند الإنسان عامة وعند الحكام خاصة وهو الميل إلى الاستبداد عند الحكام‬ ‫للتفرد بالسلطان كأنه الرب وعند «المفكرين» بخلق الكبر أو زعم الاطلاع على الغيب‬ ‫(التصوف)‪.‬‬ ‫وإذن فالاستبداد على نوعين سياسي وفكري‪ .‬لكن ما يعنينا هنا هو الثمرة السياسية‬ ‫ويمثله‪:‬‬ ‫• العقدان الزائفان لصالح الحاكم دون المحكوم سواء كان على أساس القوة المادية‬ ‫(سلطة القهر بتحريف قوة الدولة) أو على أساس القوة الروحية (سلطة القهر بتحريف‬ ‫قوة الدين) وغالبا ما يكون جامعا بينهما جمع مصدر الشوكة ومصدر الشرعية في الأنظمة‬ ‫ا لسياسية‪ .‬وهما العقدان المزيفان أي الدكتاتورية الطبيعية الدكتاتورية الروحية‬ ‫واجتماعهما هو الفرعونية‪.‬‬ ‫• ثم الغزو الخارجي أو الحروب الأهلية اللذان يمثلان زوال مفهوم الدولة وعموم‬ ‫الفوضى وهذه أخطر من الأولى لأنها تقضي على شروط بقاء المغزو أو على شروط‬ ‫الجماعة التي تعيش الحرب الأهلية‪ .‬وتلك هي علة انحراف الفقه الإسلامي لأنه جعل‬ ‫المشكل مفاضلة بين نوعي الاستبداد واختار إضفاء الشرعية على التغلب وليس بديلا‬ ‫منهما‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهذه البنية المجردة لا يمكن أن يكون ابن خلدون قد استقرأها بل هو استنتجها من‬ ‫علاقة العمرانين والاجتماعين البدوي والحضري وما يتطلبه اللقاء بينهما من شروط أهمها‬ ‫الدولة من حيث هي شوكة والقانون من حيث هو شرط شرعية الشوكة‪ .‬والقضية قانون‬ ‫عام‪ :‬الإنسان تجنب الخوف بالأمن والجوع بـالغذاء‪.‬‬ ‫وفي هذا المسار الطردي من العمران البدوي إلى العمران الحضري لم يتوفر حقا إلا‬ ‫الأمن لبناء المدينة‪ .‬وبقي الغذاء‪ .‬فالمدينة استقرار في المكان‪ .‬فمن أين سيأتي الغذاء‬ ‫الذي كان يسد بالارتحال بحثا عنه؟ كيف للمستقر أن يجد غذاءه إذا كان الاستقرار‬ ‫يستنفذه بسرعة لا تطابق إعادة الطبيعة لإنتاج ما تنتجه ويستهلكه الإنسان والحيوان؟‬ ‫الجواب في المسار العكسـي أي في المسار العائد من الحضري إلى البدوي‪.‬‬ ‫فالعودة من الباب السادس إلى الباب الرابع مرورا بـالباب الخامس بينهما وموضوعه‬ ‫الاقتصاد أو الرزق والصناعات التي تستند إلى العلم‪ .‬ففي هذا المسار العكسي علاج‬ ‫سؤالنا‪ :‬تحقيق شروط الرعاية بعد شروط الحماية‪ .‬فالمدينة تحقق الحماية أو بصورة أدق‬ ‫تيسر الحماية (بـالأسوار مثلا) لكنها لا تحقق الرعاية من دون هذا الـحل الذي هو أصل‬ ‫الاقتصاد أو سد الحاجات بالتعاون في الأعمال والتبادل في الثمرات والتعاوض العادل في‬ ‫قيمها‪ .‬وهذا يقتضي نوعي العلوم‪:‬‬ ‫• العلوم العقلية والفلسفية‪.‬‬ ‫• العلوم النقلية والتاريخية‪.‬‬ ‫والفنون وشرطها جميعا التربية واللسان مشتركة بين النوعين‪ .‬وقد بدأ أبن خلدون‬ ‫بعرض الثانية ويعتبرها متغيرة بحسب الحضارات لصلتها بتاريخ الشعوب بخلاف الأولى‬ ‫التي يعتبرها كونيها لصلتها بالطبيعة‪ .‬وذلك هو موضوع الباب السادس الذي يعود على‬ ‫موضوع الباب الخامس أو الصناعات لجعلها ذات تأسيس علمي أداتيا وخلقيا وهو معنى‬ ‫الاقتصاد كما يعرفه ابن خلدون‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فالاقتصاد بخلاف ما يتوهم الكثير ليس عملية مادية صرفة بل هو عملية غايتها غير‬ ‫مادية وبدايتها كذلك غير مادية‪ .‬فالبداية هي العلوم العقلية والنقلية مهما كان مستواها‬ ‫والغاية هي الأذواق الغذائية والجمالية مهما كان مستواها‪ .‬والمشكل كيف نجمع بين ثبات‬ ‫المكان والوفرة في ما يسد الحاجة أو كيف نستغني عن الترحال‪ :‬الجواب أن ننتج بدلا من‬ ‫الطبيعة ما لا تستطيع إنتاجه أو ما لا تستطيع انتاجه بنسق يماشي الاستهلاك بسبب بطء‬ ‫تجديدها لنفسها‪.‬‬ ‫فنجد هنا اكتشافين لابن خلدون علتهما الجمع بين الكسب والصناعات وما يقتضيانه من‬ ‫أدوات تحقق التعاون بتقاسم العمل في الجماعة وبـالتبادل والتعاوض العادل بضمانة قضاء‬ ‫في الدولة‪ :‬نظرية القيمة من حيث هي كم العمل في البضاعة والخدمة ونظرية استقلال‬ ‫العملة عن السلطة التنفيذية شرطا لعدل التبادل وعدم تزييف القيم الاقتصادية‪.‬‬ ‫فهو أول من وضع نظرية القيمة باعتبارها كلفة العمل الضروري لإنتاج البضاعة أو‬ ‫الخدمة‪ .‬وهو أول من تكلم على ضرورة حماية العملة من التزييف بالتطفيف وذلك بجعلها‬ ‫تابعة للخليفة صاحب السلطة المعنوية وحارس الدين وليس للسلطان صاحب السلطة الفعلية‬ ‫وحارس الدنيا‪.‬‬ ‫في المسار العكسـي أي في العودة من الثقافي إلى الطبيعي من ‪ 6‬إلى ‪ 4‬بتوسط ‪ 5‬من الأبواب‬ ‫لا شيء يمكن اعتباره منتجا طبيعيا بل هو منتج العمل الإنساني أو الصناعات كما سماها‬ ‫ابن خلدون‪ .‬وهي صناعات تستند إلى معرفة \"علمية\" مناسبة لعصرها مطبقة على انتاج ما‬ ‫يسد الحاجات‪ :‬من هنا مفهوم القيمة الاقتصادية بوصفها مقدار العمل‪.‬‬ ‫ولأن العرب ما يزال عيشهم معتمدا على بيع ما تنتجه الطبيعة ولا ينتجون شيئا فهم ما‬ ‫يزالون بدوا حتى لو كانوا في قصور وليس في خيام‪ .‬لذلك فقانون ابن خلدون لا ينطبق‬ ‫عليهم بمن في ذلك من ليس لهم بترول إذ هم يبيعون كل شيء بما في ذلك السيادة والأرض‬ ‫والعرض كما في السياحة‪ .‬ذلك هو القانون الرابع الذي وضعه ابن خلدون‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ونصل إلى الاكتشاف الأعظم والثوري حقا وهو القانون الخامس والأخير الذي سأتكلم‬ ‫عليه‪ :‬هو علاقة الدولة بالاقتصاد وهي علاقة مخمسة الأبعاد والقانون يتعلق بها خمستها‪:‬‬ ‫‪ .1‬استقلال العملة عن السلطة التنفيذية‪.‬‬ ‫‪ .2‬منع التجارة على الدولة لتناقضها مع وظائفها ولتعذر منافسة الخواص لها‪.‬‬ ‫‪ .3‬الحد إلى أقصى الحدود من الضريبة‪.‬‬ ‫‪ .4‬حماية الملكية‪.‬‬ ‫‪ .5‬استقلال القضاء والقدرة على تنفيذ أحكامه‪.‬‬ ‫ولأن هذه الأبعاد الخمسة في القانون الاقتصادي الأسمى من حيث علاقته بالدولة كلها‬ ‫منفية عما يسمى دولا عربية مرتين فإن العرب لن يستطيعوا الخروج من التخلف من دون‬ ‫فهمه وتطبيقه‪ .‬فعدم العمل به من أكبر علامات أنها ليست دولا بل محميات‪:‬‬ ‫‪ .1‬نفي هذه الأبعاد من الحامي الذي عينهم ليكونوا حراميين في خدمته‪.‬‬ ‫‪ .2‬ثم نفيها منهم باعتبارهم حراميين لا بد لهم من سهم مع الحامي من دم الشعب‪.‬‬ ‫ولا يكون هذا الامتصاص إلا بتلك الأدوات الخمس‪:‬‬ ‫‪ .1‬العملة بيد السلطة التنفيذية وليست مستقلة (ومعها الموازين والمكاييل بيد‬ ‫مافياتهم المسيطرة على الأسواق)‪.‬‬ ‫‪ .2‬التجارة بيدهم أو بيد أزلامهم‪.‬‬ ‫‪ .3‬الضرائب والإتاوات التي لا حد لها‪.‬‬ ‫‪ .4‬التعدي على الملكية بالمصادرة والمؤامرة‪.‬‬ ‫‪ .5‬تبعية القضاء المطلقة لإرادة الحكام‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى ففقر العرب ليس أمرا طبيعيا بل هو بفعل فاعل‪ .‬فبهذه الوسائل بصرف‬ ‫النظر عن الفساد الآخر والسرقات لا يمكن لأي جماعة أن تخرج من الفقر‪ .‬وقد وصف‬ ‫ابن خلدون علة الفقر بكونها فقدان الأمل الذي يجعل المنتجين يتوقفون عن الانتاج لعلمهم‬ ‫بأن ثمرة جهدهم ليست مضمونة وليست محمية من هذا العدوان والظلم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ورغم أن الكلام في فلسفة ابن خلدون لذيذ فإن ما دفعني لكتابة هذه الفصول ليس اللذة‬ ‫العلمية لأن ذلك كتبته أكاديميا منذ أكثر من أربعة عقود لتوقع شروط لاستئناف الذي كنت‬ ‫مؤمنا وثيق الإيمان بأنه آت لا ريب فيه بل لأن ثورة الشباب ينبغي أن يفهم قادتها أن‬ ‫معلمهم ورائدهم هو ابن خلدون‪.‬‬ ‫وبهذا المعيار حكمت على أن الأحزاب الإسلامية فاقدة للبوصلة لأنها لا يمكن أن تكون‬ ‫بحق في خدمة الثورة إذا كانت عديمة العمق الفلسفي الذي من جنس عمق ابن خلدون‬ ‫فيواصلون سياسة الأنظمة التي ثار عليها الشباب للتحرر واستكمال التحرير‪ .‬فليس يمكن‬ ‫أن يكون إسلامي ثوريا بأداة بدائية هي تحوله إلى داعية عبادات ومواصلة الرؤية التي‬ ‫تطبق كما بين ابن خلدون ضرره‪.‬‬ ‫العبادات علاقة بين المؤمن وربه‪ .‬والإسلام دين تعمير الأرض بقيم الاستخلاف‪ .‬وتعمير‬ ‫الأرض بقيم الاستخلاف هو موضوع المقدمة التي تشخص الأدواء وتقدم الدواء‪ .‬ويكفي‬ ‫ابن خلدون أنه قد اكتشف هذه القوانين الخمسة التي من دونها لا معنى لسياسة الحياة‬ ‫الإنسانية في الدارين أولهما شرط ثانيتهما حقا‪.‬‬ ‫فالحساب الأخروي موضوعه الأعمال الدنيوية وليس العبادات وحدها‪ .‬والعبادات يمكن‬ ‫أن يكون العفو الإلهي فيها تفضلا منه‪ .‬لكن الأعمال بقيمها‪-‬مثل الاتقان وعدم الغش‬ ‫وعدم التطفيف في الميزان‪ -‬تلك هي الجرائم التي لا مسامحة فيها والله ذكر ذلك‪ -‬لأنها‬ ‫علاقة بين البشر وهو حريص على العدل بينهم‪.‬‬ ‫لكن المسلمين بسبب الانحطاط وتحريف القرآن والحديث قلبوا العلاقة فجعلوا الدين‬ ‫وكأنه مجرد عبادات بدون فوائدها الروحية‪ .‬فتجده يصلي ويكذب ويغش ويسرق ويطفف‬ ‫ويخون ويغدر وينافق ويقبل العبودية للمستبدين والفاسدين ويتصور أن مجرد حجة‬ ‫ستغسل ذنوبه‪ .‬هل هذا إسلام؟ هل هذا دين؟ فساد واستبداد عامان‪.‬‬ ‫لا يمكن في شعوب مسلمة حقا أن يحكمها السيسي أو نظرائه من حكام العرب‪ .‬لو لم‬ ‫يكونوا أفسد منه لما رضوا به‪ .‬الشعب المصري وكل الشعوب العربية التي تسكت على ما‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫يحصل لها تستحق أكثر مما يحصل لها لأن الله لما يعاقب القرى التي يدمرها لا يدمرها‬ ‫ظلما بل لأن الشعوب رضيت بحكم من يفسق فيها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فلنجمل الآن‪ :‬أليس من العجيب أن يزعم أحد‪-‬أنا‪-‬أن مقدمة ابن خلدون مازالت صالحة‬ ‫لتفسير ظاهرات يظنها الناس لفرط حداثتها لا تقبل التفسير بفكر من نهايات القرون‬ ‫الوسطى؟‬ ‫ألا يتهم من يفعل ذلك بالماضوية؟‬ ‫طبعا يتهم بها لكن متهميه هم عادة من مثقفي العرب الذين تغلب عليهم الثقافة‬ ‫الصحفية‪ .‬ذلك أن ابن خلدون أقل ماضوية ممن يعاد إليهم حتى في أحدث صيحات الفكر‬ ‫الغربي‪.‬‬ ‫فسواء اكتفينا بمن يعاد إليهم من مفكري العرب عند نحب العرب أصحاب هذه الدعوى أو‬ ‫تجاوزنا ذلك خاصة إلى مفكري الغرب الذين يهتدون بفكرهم فإن الحصيلة تجعل ابن‬ ‫خلدون أولى بالعودة إليه منهم جميعا‪ .‬لكن قصدي ليس الدفاع عن موقفي لأني لا أحدد‬ ‫نهجي بآراء غيري في ما أفعل بـالمنهج والبحث عما أعتقد أنه يوصل إلى الحقيقة بصرف‬ ‫النظر قناعاتي الأولية وإلا لكان البحث عديم المعنى‪.‬‬ ‫دافعي هو بيان أن المعاصرة ليست في موضوع الكلام بل في كلام الموضوع خاصة إذا كان‬ ‫الموضوع كلاما لعالم جليل‪ .‬فلا يوجد مفكر كبير مرتهن بعصره وإلا لمات معه‪ .‬بل كل مفكر‬ ‫كبير متجاوز لزمانه دائما تجاوزين‪ :‬ففيه كل الماضي الذي له صلة بفنه وكل المستقبل الذي‬ ‫له صلة بفنه‪ .‬فهو من حلقات فنه حتى لو فقدت مساهمته دورها الموجب‪.‬‬ ‫فالسلب أيضا صالح‪ .‬وقد بين أرسطو في مقالة الألف الكبرى من الميتافيزيقا في استعراضه‬ ‫لمن تقدم عليه ليختبر ما توصل إليه أن ماضي الفكر مفيد إيجابا وسلبا‪ .‬فالإيجابي يعني ما‬ ‫يصلح ليكون أساسا لتفسير الظاهرة موضوع البحث نبني عليه‪ .‬وما ليس بصالح يفيدنا في‬ ‫تجنب الخطأ الممكن في محاولتنا‪.‬‬ ‫وهذه الرؤية النقدية يسميها القرآن منهج \"التصديق والهيمنة\" أي إن استعراض القرآن‬ ‫للأديان السابقة في رؤاها عند أهلها هدفه تصديق الصادق من هذه الرؤى بعرضها على ما‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫يعتبره الديني الواحد في الأديان المختلفة والسيطرة على ما ليس بصادق لتجاوزه نحو‬ ‫الحقيقة التي يطلبها النقد إذا كان هو بدروه صادقا ويؤمن بأنه ليس حقيقة مطلقة‪.‬‬ ‫ولأعد إلى موضوعي‪ .‬طبعا فلو عدنا إلى أي مفكر قديم أو وسيط من منطلق اعيان‬ ‫المضمون الذي تكلم عليه وليس من منطلق المفهوم الذي تعتبر تلك الأعيان عينات ما صدقه‬ ‫فإن محاولة تجاوز عصره لما تقدم عليه أو لما تأخر عنه يصبح أمرا مستحيلا لأننا حينها‬ ‫نجمد المفهوم فلا نبقي على ما فيه من كلية وتجريد يجعله فوق أعيان ما صدقه‪ .‬ما نعود‬ ‫إليه قديم‪ .‬لكن العودة إليه تكون بعين العائد إليه ومن رؤية الممكن الذي فتحه أفق عمل‬ ‫المتعود إليه‪.‬‬ ‫ومن دون ذلك يصبح التأويل في هذه الحالة بل والتفكير مستحيلين‪ .‬ولا توجد كلمة أو‬ ‫مفهوم يكون مجرد علامة من جنس العلامة التي يضعها بائع الخضر على مواد تجارته في‬ ‫السوق فيها علاقة مباشرة بين العلامة المحددة لاسم المادة التي يبيعها وسعرها بل المفهوم‬ ‫هو دائما رمز لا يحيل بذاته على دلالة مرجعية بل بمنزلته في النظام الرمزي المناظر للنظام‬ ‫المرموز إليه به‪.‬‬ ‫ولذلك فلا بد من النظر إلى ما فعله ابن خلدون بهذا المنظور‪ .‬فإذا ظن عمله استقرائيا‬ ‫من وقائع في عصره ولا تتجاوزه وظنت هذه الوقائع بنت لحظتها وليست ظاهرات ملازمة‬ ‫بنوعها وليس بعينها للظاهرة التي يتكلم فيها صح رأي عبد الرحمن بدوي وطه حسين أما‬ ‫إذ كان كما وصفت وكانت الظاهرات كما حددت فالأمر مختلف‪.‬‬ ‫ولست بحاجة لمزيد من الكلام في الأمر فهذا ابن خلدون بنفسه يحدد نظريته في المقوم‬ ‫الرابع للظاهرة التي يدرسها بالمعنى الذي اعتمدته في محاولة فهمها‪\" :‬ومنها (من المقومات‬ ‫الذاتية للإنسان من حيث هو عضو في جماعة) العمران وهو المعاش كما سنبينه ومن هذا‬ ‫العمران ما يكون بدويا (‪ )....‬ومنه ما يكون حضريا(‪ )...‬وله في كل هذه الأحوال‬ ‫أمور تعرض من حيث الاجتماع عروضا ذاتيا (‪ .\")..‬ويأتي تحديد المسائل مباشرة‪ .‬وما‬ ‫يعنيني في هذا النص كلمتان‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫• \"من حيث الاجتماع\"‪.‬‬ ‫• و\"عروضا ذاتيا\"‪.‬‬ ‫والكلمتان المفتاحان هما \"من حيث\" و\"ذاتيا\"‪ .‬وهذان مفهومان أساسيان في ميتافيزيقا‬ ‫أرسطو بل هما أساس كل النظريات الفلسفية قديمها وحديثها‪ .‬فالأول يحدد ماهية الموضوع‬ ‫والثاني يحدد عرضه الذاتي‪ .‬وما أعجب له ليس موقف طه حسين فهو ليس فيلسوفا بل‬ ‫موقف بدوي الذي هو فيلسوف‪ .‬ولا يمكن أن يكون جاهلا بأرسطو وبهذين المعنيين‪.‬‬ ‫واستعمال ابن خلدون لهما في كلامه على علمه الجديد يعني أنه بهما يقصد أن ما يدرسه‬ ‫يجانس الطبائع وليس مجرد جزئيات عرضية عامة بل هي ذاتيات لظاهرات لا تختلف عن‬ ‫الظاهرات الطبيعية في موقفه الجديد من التاريخ بوصفه موضوعا للمعرفة الفلسفية بخلاف‬ ‫ما سائدا في أبستمولوجيا عصره التي كانت تستثنيه لكون موضوعه ليس كليا ولا ذاتيا بل‬ ‫جزئي وعرضي (راجع أرسطو كتاب الشعر حيث يقدم الأدب لأن موضوعه الممكن على‬ ‫التاريخ لأن موضوعه العيني والعرضي)‪.‬‬ ‫والثوري عند ابن خلدون هو في تحديد \"حيث\"‪ .‬لم يكن الفلاسفة في عصره اتباعا لأرسطو‬ ‫يعتبرون أن حيثية \"الاجتماع\" تظفي على الإنسان صفات خاصة تستحق أن تكون موضوعا‬ ‫قائما بذاته مثلما تفعل الرياضيات مثلا مع الجرم الطبيعي عندما تحيثه بالطول أو العرض‬ ‫أـو العمق في الهندسة مثلا‪ .‬كانوا يتصورون إذا تجاوزنا الطبيعي في الإنسان من حيث هو‬ ‫فرد أي العضوي والعقلي (حيوان ناطق) الباقي ليس له طبيعة فبقي خارج العلم الفلسفي‬ ‫الذي موضوعه الكلي والمقومات الذاتية‪.‬‬ ‫موضوع ابن خلدون لم يكن موجودا في منظومة علوم عصره الفلسفية رغم أن الفلسفة لم‬ ‫تكن مهملة لدراسة السياسة والأخلاق والاقتصاد‪ .‬ولكنها تدرسها بوصفها علوما عملية لا‬ ‫ترقى لمستوى العلوم النظرية الثلاثة التي كانوا يقصرون مفهوم العلم النظري عليها‪:‬‬ ‫الطبيعيات والرياضيات والإلهيات‪ .‬وابن خلدون أضاف الاجتماعيات‪ :‬وتلك ثورته في جعل‬ ‫\"من حيث الاجتماع\" موضوعا علميا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهذا الـ\"من حيث الاجتماع\" الذي يعرض \"عروضا ذاتيا\" هو الثورة الخلدونية‪ .‬بمعنى‬ ‫أنه لا يدرس وقائع عرضية بل أعراضا ذاتية‪ .‬ودرسه ليس من جنس الحكمة العملية حتى‬ ‫وإن كان مآله إليها بل هو من الحكمة النظرية أي مثل الطبيعيات والرياضيات والإلهيات‬ ‫في فلسفة عصره التي تدرس الأعراض الذاتية دون سواها وتستثني التاريخ منها باعتباره‬ ‫لا يتجاوز الجزئي والعرضي العام‪.‬‬ ‫الآن وقد فرغنا من تأسيس منظور القراءة التي نستعملها نعود إلى المخمس الأساسي في‬ ‫نظرية ابن خلدون أو في نظرية الإنسان من حيث ما يعرض له عروضا ذاتيا بمقتضى‬ ‫العمران والاجتماع وما يترتب على هذا الـ\"من حيث\" من أعراض ذاتية هي موضوع‬ ‫البرهان الذي يتكلم عليه ابن خلدون‪ :‬والبرهان لا يقع إلا عليها لأن الماهيات تحدس‬ ‫وتوضع وضعا في فلسفة عصره فيعتبرون حدودها علما بدهيا‪.‬‬ ‫وكل ثورة ابن تيمية قبل ابن خلدون هي مساءلة \"تحدس\" و\"توضع\" وظن الحدود عملا‬ ‫بدهيا يبني عليه الفلاسفة نظرية البرهان‪ .‬وهو ما يستعمله الجابري دون فهم عميق‬ ‫لتوهمه أن البرهان الذي يتكلم عليه ابن رشد ممكن إذا جادلنا في بدهية الحدود الأولية‪.‬‬ ‫ولا يمكن أن نفهم علة الثورة التي أنسبها إلى ابن تيمية والضرورية لفهم ابن خلدون هي‬ ‫فهم خطأ كثيرا ما تسمع المتكلمين في العلم يرددونه‪:‬‬ ‫هل القضية العلمية قضية خبرية حقا أم هي جواب شرط؟‬ ‫بمعنى إذا صح الحدس والفرض الواضع للحد فكان التعريف مطابقا لحقيقة المحدود؟‬ ‫ففي العلوم النظرية القديمة الثلاثة‪:‬‬ ‫• الماهيات الطبيعية تعتبر حدسية بدهية ومن ثم فهي عقدية وليست علمية‪.‬‬ ‫• والماهيات الرياضية تعتبر بدهية فرضا وإذن فهي من جنس التسليم وليس العقد‪.‬‬ ‫• والماهيات في الإلهيات مستنتجة منهما بمنطق التعليل أي إن ما يثبت في الطبيعيات وفي‬ ‫الرياضيات لا يمكن ألا يكون ذا علة تجعله على ما هو عليه‪ .‬وذلك هو موضوع البحث في‬ ‫الإلهيات‪ .‬وهي مستويات مختلفة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فالأولى عقدية والثانية تسليمية والثالثة تالية عنهما بحسب ما بنيت عليه من مقدمات‪.‬‬ ‫فما استنتج من العقدية عقدي‪ .‬وما استنتج من التسليمي تسليمي‪ .‬ومن ثم فتعريف‬ ‫الإنسان في الفلسفة تعريف عقدي‪ .‬لكن ابن تيمية يعتبر الماهية حدا مثل الاسم لا يعطينا‬ ‫حقيقة الإنسان بل هو تحده بالقياس إلى غيره من الحيوانات مثلما نحد قطعة أرض‬ ‫بالقياس إلى قطع محيطة‪.‬‬ ‫ولو اعتبر ابن خلدون \"حيوان ناطق\" ماهية تعطينا حقيقة الإنسان التي يبني عليها علمه‬ ‫لما غير تعريفه ليجعل علم الظاهرات الإنسانية لا تعرف بحيوان ناطق بل بـ\"من حيث‬ ‫الاجتماع‪ .‬وإذن فهو لا يعرفه من حيث هو موضوع علم الطبيعة حتى وإن كان علمه لا‬ ‫يختلف عن علم الطبيعة بل من حيث هو موضوع علم الاجتماع‪ .‬وهو العلم الذي كان مفقودا‬ ‫وحال دون اعتبار التاريخ علما فلسفيا‪.‬‬ ‫أما المفهوم التسليمي وليس العقدي فمثاله أي شكل هندسي وليكن مثالنا المثلث في الهندسة‬ ‫لما له من دور أساسي في هندسة إقليدس‪ .‬فإذا عرف بوصفه محدودا بثلاثة قطع مستقيمة‬ ‫على سطح مبسوط فإنه تسليم بحد للمثلث فيؤدي إلى أن يكون من أعراضه الذاتية أي‬ ‫التي تعود إليه بمقتضى ذاته كما حددت في تعريف المثلث أن يكون مجموع زواياه ‪180‬‬ ‫درجة‪.‬‬ ‫وهذا النوع الثاني من الحدود الفرضية أو التسليمية والتي ليست عقدية هي من جنس‬ ‫\"من حيث\" الخلدونية أي إن موضوعها ليس ذاتا طبيعية بل ذات من صنع فعل التجريد‬ ‫الذي يختار صفة من صفات الجرم الطبيعي ويجعلها موضوعا وكأنها ذات مثل \"من حيث‬ ‫الاجتماع\"‪ .‬وهنا من حيث هي من حيث ما يجرد من \"شكل هندسي\" من الجرم الطبيعي‪.‬‬ ‫وهنا يتدخل ابن تيمية مرة ثانية ليجادل في التسليمي كما جادل في العقدي‪ .‬فيرفض‬ ‫الفهم الأرسطي لموضوع الرياضيات كما رفض مفهومه لموضوع الطبيعيات‪ .‬ويجعل الأمرين‬ ‫نوعين من \"جواب الشرط\" وليس من جنس القضية الخبرية‪:‬‬ ‫• إذا صح الحد الطبيعي كان كذا وكذا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫• إذا صح التسليم الرياضي كان كذا وكذا‪.‬‬ ‫والتأكد من الشرط في الطبيعي تجريبي أي لا نستطيع التأكد من صحة الحد إلا بالتجربة‬ ‫للمطابقة بين ما في الذهن وما في العين‪ .‬وهذا ناقص دائما لأنه استقراء امبيريقي‪ .‬ولا‬ ‫يمكن أن يوجد فيه برهان‪ .‬وهو لسوء الحظ ما لا يمكن أن يفهمه ابن رشد وما أعجب كيف‬ ‫لم يفهمه الجابري في كلامه على البرهان‪ .‬لا برهان في علوم الطبيعة كلها جواب شرط‬ ‫مقدار صحتها هو مقدار التأكد من الشرط وهو دائما تأكد نسبي بحسب أدوات الإدراك‬ ‫التقنية لمعطيات التجربة‪.‬‬ ‫ولما كان الشرط مستحيل التأكد منه فإن الجواب يبقى دائما مؤقتا‪ .‬وهو قد ينقض أو قد‬ ‫يزداد دقة بتقدم التجربة‪ .‬أما في الرياضيات فالثورة الكبرى هي رفض الحل الأرسطي‪.‬‬ ‫فموضوعاتها ليست أشكالا مجردة من الجرم الطبيعي بل هي مقدرات ذهنية‪ .‬ومن ثم‬ ‫فقضاياها جواب شرط لا يحتاج إلى التأكد منه لأنه فرضي خالص‪.‬‬ ‫ولذلك فيمكن أن توجد هندسة غير هندسة اقليدس ويمكن أن توجد رياضيات في غير‬ ‫المكاني لأنها مقدرات أيا كانت مادة التقدير الذهني‪ .‬ويكفي لتجاوز الرؤية الأرسطية‬ ‫مطبقة على هندسة أقليديس أن نفترض أن المستقيم مقعر أو محدب حتى يصبح المثلث‬ ‫مجموع زواياه أقل أو أكثر من ‪ 180‬درجة ونستغني عن المسلمة الخامسة التي وضعها‬ ‫اقليدس لتأسيس مفهوم توازي المستقيمات‪ .‬وهذا المقدر الذهني هو الوحيد الذي فيها‬ ‫معرفة كلية محضة غنية عن التجربة‪.‬‬ ‫والآن فـما حد الإنسان الذي يستنتج منه ابن خلدون قابلية النظر إليه من \"حيث‬ ‫الاجتماع\" وليس من حيث تعريفه الطبيعي الذي كان سائدا عند الفلاسفة رغم كونه‬ ‫يشترك معهم في تعريفه كذلك بكونه مدنيا بالطبع‪ .‬لكنه يضيف إليه ما ليس بالطبع‪ :‬فهو‬ ‫يعرفه \"رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"‪.‬‬ ‫فـ\"مدني بالطبع\" ليس فيها مفهوم الرئاسة‪ .‬و\"حيوان عاقل\" ليس فيها بـ\"مقتضى‬ ‫الاستخلاف الذي خلق له\"‪ .‬فمن أين أتى ابن خلدون بهذين الزيادتين اللتين تفصلان فكره‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فصلا قاطعا عن فلسفة عصره التي لم تتجاوز أرسطو فتجاوز بهما ارسطو رغم استعماله‬ ‫لمصطلحاته (وهو ما غلط بدوي) ولكن في دلالات مختلفة تماما‪.‬‬ ‫فرغم أنه صاغ المسلمات التي بنى عليها \"من حيث الاجتماع\" في تعريف الظاهرة التي‬ ‫يدرسها بعبارة خبرية \"لما كان ‪ \"..‬فإن القصد شرط‪ .‬فلكأنه قال \"إذا سلمنا أن الإنسان‬ ‫قابل لأن يتحدد بالصفات الخمس التي تترتب على من \"حيث الاجتماع\" فيمكن الاعتماد‬ ‫على ما صار أعراضا ذاتية تدرس ويبرهن عليها كما في علوم الطبيعة‪.‬‬ ‫ولذلك فهو لم يستعمل \"حيوان ناطق\" بل استعمل \"التميز بالفكر\" ثم ذكر \"التميز بالسعي‬ ‫في المعاش\" و\"الحكم والدولة\" ثم ميز بين \"نحل العيش البدوي\" و\"نحل العيش الحضري\"‬ ‫وهو إذن تعريف مشتق من \"من حيث الاجتماع\" أي من جنس التعريف التسليمي في‬ ‫الرياضيات وليس من جنس التعريف العقدي في الطبيعيات‪ .‬لكأنه قال‪ :‬إذا سلمنا أن‬ ‫للإنسان ذاتيات من حيث كونه \"اجتماعيا\" أمكن أن نؤسس هذا العلم الجديد الذي كان‬ ‫ابن خلدون أنه غير مسبوق فيه‪.‬‬ ‫ولذلك فالمقدمة مؤلفة من قضايا لها بنية الفرضي الاستنتاجي‪ :‬إذا كان كذا فكذا‪ .‬وهي‬ ‫بنية الشرطية إما الوصلية أو الفصلية وليست بنية المحلية العادية‪ .‬أما الأعيان المذكورة‬ ‫فيه فهي أمثلة توضيحية وليست مواد يستقرأ منها نتائج استقرائية‪ .‬وذلك هو ما جعلني‬ ‫أستطيع استخراج الاجتماع النظري وأتوقع بناء عليه‪.‬‬ ‫فالكتاب كان عنوانه \"الاجتماع النظري الخلدوني والتاريخ العربي المعاصر\"‪ .‬وفيه توقعت‬ ‫أن تكون الجزائر وفلسطين محددتين لمستقل ما يسمى بالوطن العربي وما صرت أفضل‬ ‫تسميته بإقليم الوسط الذي هو قلب دار الإسلام لأن أهله ليسوا كلهم عربا بل هم خاصة‬ ‫عرب وأمازيغ وكرد وأتراك أي من حافظوا عليه ضد الغزوات التي تلت سقوط الخلافة‬ ‫الثالثة (العباسية) وثم الاندلس وعلى إسلامه إلى مرحلة الاستئناف التي نعيشها حاليا‪.‬‬ ‫ونظام حكم الجزائر كما أسلفت يمثل في توقعي مرض الأنظمة‪ .‬و\"نظام\" مقاومة فلسطين‬ ‫تمثل مرض المعارضات‪ .‬فإذا تحررت الأمة من مرض الأنظمة الحاكمة أي العسكر والقبيلة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ومن مرض المعارضة المقاومة أي الحركية والطائفة فإن الإسلام سيستأنف دوره الكوني‬ ‫فتصبح الأمة قطبا كونيا يحقق التوازن في نظام العالم الجديد‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لم أفرغ بعد من بيان دلالة المخمس أي من الباب ‪ 2‬إلى الباب ‪ 6‬بعد أن فصلت الباب الأول‬ ‫باعتباره شاملا للمخمس‪ .‬محددا للشرطين‪:‬‬ ‫• الجغرافي المناخي في علاقة بشرط كيان الإنسان العضوي‬ ‫• والروحي المعرفي والقيمي في علاقة بشرط قيام الإنسان الروحي‪.‬‬ ‫وما بينهما من تفاعل في نوعي العمران ونوعي الاجتماع‪ .‬فهذا المخمس قلبه الباب الرابع‬ ‫أي باب العمران الحضري أو المدينة‪ .‬وقبله شرط نشأة الدولة وبعده شرط نشأة الاقتصاد‬ ‫المعوض للعيش على ما تنتجه الطبيعة دون عمل حقيقي للإنسان عدا الجني والرعي‪.‬‬ ‫والعرب لسوء الحظ ما زالوا هنا يجنون ما تنتجه الطبيعة سواء كان فوق الأرض أو تحتها‬ ‫دون عمل يذكر‪.‬‬ ‫تكلمت على المسارين الطردي من ‪ 2‬إلى ‪ 4‬والعكسي من ‪ 6‬إلى ‪ 4‬وبينت دور المسار الأول‬ ‫في تكوين الدولة بوصفها شرط الحماية وبينت دور الثاني في تكوينها بوصفها شرط‬ ‫الرعاية‪ .‬واليوم أضيف أهم ثمرة من ثمرات قوانين ابن خلدون وتتمثل في الحماية‬ ‫والرعاية باعتبارهما فرض عين للأحرار أو فرض كفاية للعبيد‪.‬‬ ‫يقول ابن خلدون إن من بيدهم الدولة إذا صاروا مسيطرين بدلا من الجماعة على‬ ‫الحماية والرعاية فإن الجماعة تصبح عيالا وعبيدا لهـم في الحماية وفي الرعاية فلا يبقون‬ ‫أحرارا لأنهم منزوعو السلاح وتابعون لمن بيدهم السلطة في سد حاجاتهم‪ .‬ومن ثم فهم‬ ‫عبيد وليسوا أحرارا‪ .‬وهو يعتبر أخذ الضرائب والإتاوات التي لم يحددها الشرع أي ما‬ ‫يتجاوز الزكاة عدوانا وظلما تفرضهما الدولة بالقوة‪.‬‬ ‫وقد لا حظ ابن خلدون أن من بيدهم الدولة في عصره كانوا يعتمدون على المرتزقة في‬ ‫حماية أنظمتهم من الشعوب وحتى في الحماية الخارجية فكانت لحماية سهمهم مما يستمد‬ ‫من الثروات من الشعوب والأرض وليس لأن البلاد وطن أو لحماية السيادة‪ .‬الدولة كانت‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بالأساس جابية وليست حامية‪ .‬فالمقابلة بين المخزن والسيبة ليست خاصة بالمغرب الأقصى‬ ‫بل هي من خصائص الدولة التي تمتد جبايتها إلى حيث تمتد قدرتها على فرضها‪..‬‬ ‫قلنا إن المقدمة بحث ذو نموذج هندسي‪ :‬فلنفرض الآن أن المدينة التي هي قلب هذا‬ ‫المخمس هي قمة هرم ذي قاعدة مربعة‪:‬‬ ‫• ‪/1‬عمران بدوي‪.‬‬ ‫• ‪/2‬سلطة عصبية ذات شوكة (قبل ‪ 3‬أي المدينة)‪.‬‬ ‫• ‪/4‬اقتصاد وصناعات‪.‬‬ ‫• ‪/5‬علوم عقلية ونقلية ولغة وتربية وفنون‪.‬‬ ‫فسنجد أربعة سفوح تصعد من القاعدة إلى قمة الهرم‪ .‬كل سفح سطح مثلث الزوايا‪.‬‬ ‫المثلث الأول هو سفح المسار الطردي من الباب ‪( 2‬البداوة) مرورا بالباب ‪ 3‬إلى الباب ‪4‬‬ ‫(المدينة)=عصبية جامعة حامية= قاعدة السفح الأول وقمته السلطة السياسية والمدينة‬ ‫غاية‪ .‬يقابله المثلث الثانوي هو سفح المسار العكسي من الباب ‪( 6‬العلوم إلخ‪ )..‬مرورا‬ ‫بـالباب ‪ 5‬إلى الباب ‪( 4‬المدينة)‪.‬‬ ‫وتلك قاعدة السفح الثاني وقمته السلطة الاقتصادية والمدنية غاية‪ .‬والجمع بين‬ ‫السلطتين السياسية والاقتصادية هي إذن دلالة المدينة أعني أن الغاية هي القوتان‬ ‫السياسية والاقتصادية‪ .‬وهما معنى المدينة والمدنية في نظرية ابن خلدون والدليل القاطع‬ ‫هو قوله بتبعية البداوة للمدينة وهي في خدمتها‪.‬‬ ‫وهي في خدمتها سياسيا واقتصاديا‪ .‬فسياسيا يعتمد الحكام عليهم في تكوين جيوشهم التي‬ ‫تحميهم ضد شعوبهم لما فيهم من بعد عن الحضارة والترف ومن ثم لما لهم من قوة عضوية‬ ‫وحب \"للعضرطة\" واقتصاديا لأنهم يقبلون بما يعتبره دليل تبعية أعني العناية بالزراعة‬ ‫والفلاحة لسد حاجات المدن أسواقا لمنتجهم‪.‬‬ ‫وهذا الدور الذي تؤديه البداية في المسار الطردي تؤديه المعرفة عكسه في المسار‪ :‬ومعنى‬ ‫ذلك أن الاقتصاد مدين للعلوم العقلية‪ .‬وأن السلطة مدينة للعلوم النقلية‪ .‬فالعلوم العقلية‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪35‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫هي أساس الصناعات التي تنتج الثروة‪ .‬والعلوم النقلية هي أساس \"الشرعية\" للعصبيات‬ ‫الحاكمة‪ .‬وهذا مضمون السفح الثاني‪.‬‬ ‫والسفحان الآخران لكل منهما رجل في السفحين اللذين وصفنا وهما متقابلان كذلك‪.‬‬ ‫ولنأخذ السفح الذي فيه البداوة والعلوم قاعدة لنفس القمة‪ .‬وهذا من إبداع ابن خلدون‬ ‫في نظرية التربية‪ :‬كيف يمكن أن تحافظ التربية على عنفوان عضوي كأنها بداوة وعلى‬ ‫إبداع معرفي كأنها حضارة‪ .‬وهذا هو الشرط الأول لمعاني الإنسانية‪.‬‬ ‫والسفح الأخير هو الوجه الثاني بين الدولة والاقتصاد أو بين قوة السياسة وقوة الثروة‬ ‫قاعدة للسفح الأخير‪ .‬وهنا أيضا يبدع ابن خلدون في نظرية عنفوان معاني الإنسانية‪:‬‬ ‫إذا كانت السياسة تنظيم العمل والإنتاج ولا تسهم فيه لتحوله إلى سلب الاقتصاد حريته‬ ‫بحماية الملكية حصل كان الحكم للأحرار‪.‬‬ ‫فينتج من ثم أن منع الدولة والاقتصاد من التحول إلى أداتي استعباد يتأسسان على‬ ‫التربية التحررية والحكم الديموقراطي أي إن افساد معاني الإنسانية بالمعنى الخلدوني‬ ‫علته العنف في التربية وهو قاض على العنفوان الروحي والعنف في الحكم وهو قاض على‬ ‫العنفوان العضوي‪ :‬ثورته في التربية والحكم‪.‬‬ ‫فإذا جمعت السفوح الأربعة حصلت لك ثورة الثورات التي لم يرها من هم \"صم بكم عمي‬ ‫فهم لا يعقلون\" من قراء ابن خلدون بحثا عن سبق بالقياس إلى اوغست كونت أو إلى‬ ‫ماركس‪ .‬وهو كما اسلفت لا يقبل المقارنة مع أي منهما لأنه ليس سابقا لهما فحسب بل هو‬ ‫متجاوز لكل اخطائهما العلمية والفلسفية لعدم قوله بنظرية المعرفة المطابقة بل يعتبر‬ ‫نظرياته معرفة نسبية واجتهادية‪.‬‬ ‫وإليك الدليل‪ :‬فقمة الهرم أي المدينة صارت في الحقيقة قمة مركبة من هرم مصغر له‬ ‫قاعدة مربعة وقمة بمعنى أنها تحدد حصيلة‪-1 :‬تربية ‪-2+‬حكم يحفظان معاني الإنسانية‬ ‫العضوية والروحية‪ .‬وهذا هو نموذج العمران والاجتماع المؤلف من أحرار لأن الإنسان‬ ‫\"رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪36‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكنها في آن مهددة دائما بأن تكون حصيلتها‪-3 :‬تربية ‪-4 +‬حكم يفسدان معاني الإنسانية‬ ‫العضوية والروحية وهذا نموذج العمران والاجتماعي المؤلف من عبيد إذ يصبح الإنسان‬ ‫\"عبدا بطبعه الثاني (مكتسب) بمقتضى نسيان الاستخلاف الذي خلق له\"‪ .‬وهذه هي حال‬ ‫المسلمين الآن‪ .‬وحتى لا أطيل سأعيد إيراد نصه‪.‬‬ ‫يقول ابن خلدون لبيان علة فساد معاني الإنسانية في التربية والحكم العنيفين‪\" :‬ومن كان‬ ‫مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم‪:‬‬ ‫‪ .1‬سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل‪.‬‬ ‫‪ .2‬وعمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي‬ ‫بالقهر عليه‪.‬‬ ‫‪ .3‬وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا‪.‬‬ ‫‪ .4‬وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة‬ ‫عن نفسه أو منزله وصار عيالا على غيره في ذلك‪.‬‬ ‫‪ .5‬بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى‬ ‫إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل سافلين‪.‬‬ ‫وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف‪ .‬واعتبره في كل من يملك‬ ‫امره عليه ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به‪ .‬وتجد ذلك فيهم استقراء‪ .‬وانظره في‬ ‫اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالخرج‬ ‫ومعناه في الاصطلاح المشهور المخابث والكيد وسببه ما قلناه\"‪.‬‬ ‫من من القراء ينفي أن هذا وصف دقيق لحال المسلمين عامة والعرب على وجه الخصوص؟‬ ‫وهل يوجد تشخيص أدق من هذا؟‬ ‫وهل يوجد تعليل أصدق من هذا؟‬ ‫وهل يوجد بديل إصلاحي أفضل من هذا؟‬ ‫أعني إصلاح التربية والحكم لحفظ معاني الإنسانية في دار الإسلام؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪37‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫هل يمكن أن نفهم الخنوع الذي دام قرونا وليس عقودا للقبول بالحل الغبي الذي جعل‬ ‫علماء الملة يتصورون أن القبول بشرعية المتغلب علاجا للفوضى وليس جعلها منطلق‬ ‫الفوضى‪ :‬فعندما نشرع للتغلب نجعله مبدأ الحكم ومبدأ التربية فيصبح كل مرب وكل حاكم‬ ‫منطلقه التغلب‪ :‬تأسيس لإفساد معاني الإنسانية‪.‬‬ ‫وابن خلدون لم يقصر أمر العنف على الضرب بل استعمل كلمة العسف‪ .‬وهو فرض‬ ‫الإرادة بالتخويف وبالتسويف وبالعنف الرمزي في التربية وفي الحكم على حد سواء ما يفقد‬ ‫الإنسان التعريف الذي أسس عليه ابن خلدون مقدمته وهو تعريف قرآني \"رئيس بطبعه‬ ‫بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"‪ .‬لم يبق المسلم مسلما‪.‬‬ ‫فلا يمكن أن يكون مؤمنا بالله الواحد ثم يخضع لغيره لا يستمد شرعية عمله مما يحدده‬ ‫احترام حدود الله وهي ليست ما فهمه الفقهاء قطع اليد مثلا بل هي التربية والحكم‬ ‫المحافظين على معاني الإنسانية‪ .‬ولذلك اعتبر ابن خلدون من تفسد فيه هذه المعاني هو‬ ‫من عاد أسفل سافلين وهو تعريف قرآني للخسر‪.‬‬ ‫وهذا التعريف القرآني للخسر علاجه هو ما حددته سورة العصر أعني القيم الخمس التي‬ ‫هي‪-1 :‬الوعي بالخسر الممكن أو نسيان ما بعث الرسل للذكير به وما يذكر به العقل إذا لم‬ ‫يكن صاحبه من \"الصم البكم العمي الذين لا يعقلون\" ويترتب عليه أربعة فروعي ‪ 2‬للفرد‬ ‫و‪ 2‬للجماعة والحصيلة معاني الإنسانية‪.‬‬ ‫فالفرد لا يكون رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له إذا لم يتحرر من الطاغوت‬ ‫الذي هو عنف التربية والحكم ولم يؤمن بالله وبأنه لا معبود سواه وهو معنى الإيمان‬ ‫والعمل الصالح‪ .‬والجماعة لا تكون جماعة من الأحرار ما لم تتحرر من الطاغوت وتؤمن‬ ‫بالله وهو معنى التواصي بالحق والتواصي بالصبر‪.‬‬ ‫والتواصي بالحق يعني أن الجماعة كلها تسهم في طلب الحقيقة بالاجتهاد والتواصي بالصبر‬ ‫يعني أن الجماعة كلها تسهم في تحقيق الحق بالجهاد‪ .‬والاجتهاد يعني أن المؤمنين اغنياء‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪38‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫عن كنسية تفكر بدلا منهم وتتعسف عليهم في التربية بالوساطة وأغنياء عمن يحكمهم‬ ‫بالوصاية ضد إرادتهم باسم الله أو باسم القوة‪.‬‬ ‫وهذا معنى الشورى ‪ :38‬فالذين استجابوا لربهم تحرروا من معبود سواه ومن ثم فلا يمكن‬ ‫أن يخنعوا لحكم الطغاة‪ .‬والأمر أمرهم وليس أمر ولي الامر لان ولا الأمر مصدرها توليتهم‬ ‫هم له وإلا لم يكن مولى عليه بقاعدة النساء ‪ 58‬أي الأمانة (لحفظ ولائه لأصحاب الأمر)‬ ‫والعدل أي عدم الاستبداد بالحكم‪.‬‬ ‫ولما كان الأمر أمر الجماعة فهي التي تديره بشوراها‪ .‬الشورى في القرآن ليست المشورة‬ ‫التي يطلبها الحاكم من ذوي الخبرة في مهامه فتكون اختيارية يعمل بها أو لا يعمل هي‬ ‫شورى الجماعة في تسيير أمرها ومنه تعيين من تنوبه لما يقبل أن يكون فرض كفاية من‬ ‫رعاية الشأن العام التي هي فرض عين‪.‬‬ ‫مضمون الآية ‪ 38‬من الشورى‪:‬‬ ‫‪ .1‬طبيعة الحكم أو النظام السياسي جمهورية (أمر الجماعة= راس بوبليكا باللاتينية)‪.‬‬ ‫‪ .2‬أسلوب الحكم شورى بين الجماعة ديموقراطية (شورى بينهم = ديموقراطية باليونانية)‬ ‫‪ .3‬وإذن فالقرآن قد عرف طبيعة الحكم وأسلوب الحكم تعريف مؤلفا من مفهومين لاتيني‬ ‫ويوناني جمهورية ديموقراطية‪.‬‬ ‫ولا يمكن أن يكون نظام الحكم جمهوريا واسلوب الحكم ديموقراطيا إذا كانت التربية‬ ‫عنيفة وليست حرة تمكن المتعلم من البحث الشخصي والحرية في الاجتهاد فلا يكون مدرد‬ ‫متلق لما يريد المعلم أن يفرضه عليه بسلطة روحية تجعله وسيطا بينه وبين طلب الحقيقة‬ ‫بذاته‪ .‬فالمعلم الذي يدعي ذلك مستبد كالحاكم‪.‬‬ ‫والدليل الحاسم أن الله نبه الرسول بالقول \"إنما أنت مذكر\" أي لا تأتي بعلم معدوم عند‬ ‫المتعلم بل تذكره بعلم في فطرته نسيه‪ .‬ولست وسيطا بين المؤمنين والله صاحب الرسالة‬ ‫التي كلفت بتبليغها‪ .‬ثم \"لست عليهم بمسيطر\" أي إنك لست وصيا في الحكم كما أنك لست‬ ‫وسيطا في التربية‪ .‬نفي لأصل الاستبدادين‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪39‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪40‬‬ ‫الأسماء والبيان‬