أبو يعرب المرزوقي re nils frahm ثورة الإسلام الثانية أو في دلالة الاجتماع النظري الخلدوني الأسماء والبيان
المحتويات 2 -الفصل الأول 1 - -الفصل الثاني 8 - -الفصل الثالث 13 - -الفصل الرابع 19 - -الفصل الخامس 26 - -الفصل السادس34 -
-- قبل أن يتحرك الشعب الجزائري والسوداني كنت أتوقع أن يعود العالم الثالث كله إلى ثورة التحرير .فـخدعة الاستقلالات التي وطدت استحالة التحرر لم تعد تنطلي على أحد. لكن بعد حركتهما وما بدأ يتلوها في أفريقيا جعل توقعي يصبح حقيقة أو يكاد .إذ إني أتصور أن شرط حقيقته هو نجاح الثورة في الجزائر والسودان لتعم أفريقيا. وأعتقد أن ذلك لن يكون مقصورا على المسلمين .فهو سيعم شعوب افريقيا جميعا دون اقتصار على مسلميها لأن الإسلام هو حركة تحرر واسترجاع كرامة الإنسان من حيث هو إنسان كما عرفه ابن خلدون \"رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" وهو متقدم على التمايز بين الأديان أو الأجناس أو الحضارات. فهو اليوم في وضع يشبه بدايته أول مرة بداية حقيقية لتجاوز الامبراطوريات التي كانت مهيمنة على العالم بدءا باللتين تسيطران على قلب ما نسميه الآن الشرق الأوسط من أرض فارس إلى أرض الأندلس حيث أنهى الإسلام امبراطورية فارس وإمبراطورية بيزنطة ثم ما وراء هذين الحدين أين توقف في قلب أوروبا وقلب آسيا. والإسلام قد استأنف دوره الذي بدأ منذ أن أصبح شبابه يقرأ {لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم} في صوغها الشعري الراقي وإن بترتيب معكوس \"إذا الشعب يوما أراد الحياة*فلابد أن يستجيب القدر\" مقدما الشرط على المشروط حتى يكون أقرب إلى الأفهام تأكد لي ما توقعته في أول ما كتبت فلسفيا. ففي كتاب \"الاجتماع النظري الخلدوني والتاريخ العربي المعاصر\" بينت أن الإسلام سيقود الثورة الثانية في تاريخه وسيحرر الإنسانية كلها وليس المسلمين وحدهم من شرور العولمة. ويكفيه لتحقيق ذلك استعادة دوره قطبا عالميا يحقق التعديل والتوازن بين قوى العالم وخاصة بين قوتي الشرق الأقصى والغرب الأقصى. أبو يعرب المرزوقي 1 الأسماء والبيان
-- كـان هذا الكتاب مشروع بحث للحصول على شهادة تناظر الدكتوراه في النظام الأمريكي والحلقة الثالثة في النظام الفرنسي وتسمى في النظام التونسي DRAكتبته بالفرنسية سنة .1976لكنه بقي مشروعا عدلت عنه وعوضته بالرياضيات عند أرسطو بعد أن يئست من المشرف .ونشرته معربا سنة .1983 وكان مفهوم الشرق الأقصى يعني في مشروعي عودة الشرق الأقصى بقيادة الصين وفيه الهند واليابان ومفهوم الغرب الأقصى يعني سيطرة الولايات المتحدة التي تستعمر العالم بما فيه أوروبا التي فقدت كل سلطان بعد أن نزعت منها مستعمراتها وأصبحت بالتدريج تابعة لأمريكا والصين وروسيا .والمسلمون هم غالبية هذه المستعمرات. لما كتبت الاجتماع النظري الخلدوني والتاريخ العربي المعاصر جعلت الجزائر وفلسطين رمزين لبداية ثورة الإسلام الثانية بوصف شعبيهما خاضعين لظاهرتين الثورة تهدف إلى التحرر منهما: .1ظاهرة عممتها على كل الأنظمة هي نظام الحكم في الجزائر. .2وظاهرة عممتها على كل المعارضات في دار الإسلام هي نظام المقاومة في فلسطين. والأولى هي المافية العسكرية .والثانية المافية \"النضالية\". والقصد بالمافية العسكرية الشكل الثاني من الاستعمار حيث تصبح القوة التي وظيفتها حماية الوطن والشعب هي أداة استعماره أكثر من الاستعمار .والمثال هو الجزائر في محاولتي ومن ثم فالثورة الجزائرية كان ينبغي أن تكون ضد الاستبداد الداخلي الذي يواصل الخارجي :ثورة الجمع بين التحرر والتحرير والقصد بالمافية النضالية هو الرمز إلى تحول بمقتضاه حركة التحرير إلى معركة بين أمراء الحرب أو رؤساء الحركات وتحويل المقاومة إلى تجارة وخاصة إلى عنتريات اليسار إذ كانت المظاهر الطاغية حينها هي مظاهر سكارى الليل والعائشين في الفنادق من زعماء اليسار الذي تسكره عنتريات البلشفة والفرفشة. أبو يعرب المرزوقي 2 الأسماء والبيان
-- ومعنى ذلك أني اكتفيت بتعويض ما يقوله ابن خلدون عن توظيف الدين في الثورات بما يمكن أن يقال عن توظيف الماركسية عند أمراء الحرب في ذلك الحين أما اليوم فأمراء الحرب جلهم ممن وصفهم ابن خلدون :توظيف الدين وليس الماركسية التي هي دين عند اليساريين لأن إلحادهم تدين ساذج بالماركسية وبذلك يتبين أني لا أنسب الأمر إلى نفسي بل كل ما فعلته أني استنتجت ما قاله ابن خلدون في وصفه للفعل السياسي الذي يمكن أن يكون أداة استعباد أو أداة تحرر ما يمكن استنتاجه إذا جعلناه قانونا عاما لا نغير من خانة المقدم Antécédentوخانة التالي Conséquentإلا العاملين اللذين يناسبان اللحظة. وما كان مجرد توقع مستنتج من نظريات ابن خلدون بعد قراءتها قراءة تخرجها من البحث عن غيره فيه سواء كان اوغست كونت أو ماركس لأن عمله عندا يصاغ بوصفه اجتماعا نظريا متقدم عليهما بسنوات ضوئية عندما من ينظر في نظامه النظري ولا يقتصر على سطح النص هوذا يصبح حقيقة :الصين وأمريكا سيدتا العالم. وأهم ما بينهما في السباق على سيادته هو دار الإسلام .فمن يسيطر عليها قبل الثاني سيكون سيد العالم .لكن ما ينبغي حسبانه هو دور الإسلام المسلمين .هل سيبقون موضوع التنافس بينهما أم سيحدث مرة ثانية في ما أصبح دار الإسلام منذ نزول القرآن ليبقى دار الإسلام إلى يوم يبعثون .ذلك هو الرهان. في سنة 1976لما كتبت المذكرة من حوالي 100صفحة بالفرنسية توهم البعض أني أحلم ولست أتكلم على ما كنت متيقنا من أنه حقيقة بالقوة وأنه صائر لأن يصبح حقيقة بالفعل. فدار الإسلام رغم ما حل بها كانت في أشد عنفوان الانبعاث وكان يستحيل تصور العالم من دون دورها أو من دون السيطرة عليها. أساس تحليلاتي مبادئ الاستراتيجيا وليس مجرد عقيدتي فإني انطلقت من العوامل المحركة للتاريخ الإنساني أعني عامل القوتين المادية والروحية والأولى أساسها القسط من أبو يعرب المرزوقي 3 الأسماء والبيان
-- الجغرافيا شرط الثروة والمنزلة الجيواستراتيجية والثانية أساسها القسط من التاريخ والمنزلة الهستريواستراتيجية في العالم. قلت ذات مرة تعليقا على ما كتبه هيجل في الفصل الثاني من الباب الرابع من فلسفة التاريخ (الخاص بالجرمان) أنه لو كان حيا الآن لانتحر لأنه توقع أن الإسلام خرج من التاريخ المتحضر وعاد إلى البداوة ولم يبق منه فيه إلا ما يمثله القسم الأوروبي اليوم من تركيا بسبب تحاسد القوى الأوربية حسب رايه. لكن دار الإسلام اليوم بكل قومياته وبكل ألوانه وحضارات صار واصلا بين المحيطين الأطلسي والهادي .ولا يمكن تكرار ما حصل سابقا عندما استدار الغرب من حوله ليحيط به وليخرجه من دورتي أساس الوجود الإنساني الاقتصادية والثقافية .وأهم مصادر الثروة الطبيعية فيه فضلا عن منزلة تراثه في الوعي الغربي المريض. وما أسميه بالوعي الغربي المريض هو العداوة العميقة في أرواح المسيحيين واليهود الغربيين وقد اجتمع ذلك في الصهيونية والمسيحية الصهيونية التي هي نوع من الصليبية الحديثة أعني غير التي بنيت على فكر الكاثوليكية للوصل بين الحقد الديني وحلم استرجاع ما يسمونه الأرض الموعودة في المشرق. لم يعد الأمر استعمارا نفعيا فحسب كما في الامبراطوريات الأوروبية بل هو جمع بين عقلية حرب الاسترداد الاسبانية وعقلية الاستعمار المعتد على التصفيات العرقية للشعوب كما في أمريكا وعقلية استرداد ما يسمونه الأرض الموعود في فلسطين .ومعهما في إيران: استرداد أرض امبراطورية فارس. وحتى يدرك القارئ قصدي فليأخذ مقدمة ابن خلدون .وليفرغها من الأمثلة التي ضربها ابن خلدون في عرضه لنظرياته .وليعتبر البنية المجردة التي تحصل له وكأنها بنية لمتغيرات تقبل قيما هي الوضعيات المختلفة المناظرة لما ضربه من الأمثلة والحصيلة هي ما سميته الاجتماع النظري الخلدوني. أبو يعرب المرزوقي 4 الأسماء والبيان
-- ولهذه العلة سميته اجتماع نظري بمعنى أن ابن خلدون لم يميز بين القانون من حيث هو بنية مجردة وتعينه في وضعية حاصلة فعلا فقمت بإفراغ القانون من الوضعية الحاصلة لأرى هل ينطبق عندما نغير الوضعية بالمحافظة على العلاقة مقدم وتال؟ فيكون المقدم والتالي المعيين قيما متغيره والبنية ثابتة. وما دفعني إلى هذه العملية أمران :أحدهما ظرفي وهو الرد على طه حسين وعبد الرحمن بدوي اللذين لم يفهما ابن خلدون .فالأول ظنه ما يزال مؤرخا بدويا وادعى الثاني أنه لو عرف المشرق لما كتب ما كتب استقراء من مجتمعات مغربية متخلفة بالقياس إلى المشرق في عصره .وهو دليل أمية فلسفية حتما. ذلك أن العلوم والفلسفة حتى وإن كانت فعلا قد أتت إلى المغرب من المشرق فإن عبارة بضاعتنا ردت إليها تجاوزها الزمن على الأقل منذ قرنين قبل ابن خلدون .لكن ليس هذا المهم لأن هذه العلة ظرفية .العلة الثانية أهم وهي البنية الرياضية العميقة في المقدمة والتي لا يمكن تبينها إلا بما فعلت. ولو بقيت في رد الفعل الذي يفهمنا رد الجابري على المشرق بالمقابلة بين العقلاني واللاعقلاني من الموقفين المغربي والمشرقي -وهي فكرة عديمة الأساس كما بينت في الكثير من المناسبات لأنها لو صحت لكان ينبغي عكسها لأن الفكر المغرق في العرفانية والخرافية مغربي وليس مشرقيا-بل بحثت في الأهم. والأهم هو الجواب عن سؤال محير :كيف يمكن لابن خلدون أن يعلن صراحة أمرين لم يكن بالوسع تصورهما عند من بقي حبيس علم الكلام والفلسفة اللذين كانا سائدين في عصره؟: • فهو من جهة أولى يريد جعل التاريخ من علوم الحكمة -والفلاسفة ينفون علميته. • وهو من جهة ثانية يرفض الحلين الفلسفي والكلامي لعلاجه من منطلقيهما؟ جعل التاريخ فلسفيا يحول دونه موقف أرسطو وكل الفلاسفة المسلمين .ومع ذلك يصر عليه ابن خلدون منذ خطبة الكتاب .ورفض الأحكام السلطانية والمدن الفاضلة لفهم أبو يعرب المرزوقي 5 الأسماء والبيان
-- الظاهرة السياسية يصر عليه ابن خلدون كذلك .ما يعني أنه يوجد حل ثالث يجعل التاريخ قابلا لأن يكون في علاقة فريدة النوع بالفلسفة والدين. ومن هنا جاءت اللحظة القادحة :كيف يمكن أن يجعل ابن خلدون التاريخ جزءا مما كان يسمى علوم العقل في حين أنه أحد علوم الآلة الأساسية في علوم النقل وأن يجعل علاقته مع الفلسفة والدين ممكنة مع أنه يرفض حل الأحكام السلطانية وحل المدن الفاضلة لو كانت محاولته استقرائية كما توهم بدوي؟ فافترضت أن محاولته ليست استقرائية بل هي فرضية استنتاجية .وكان العائق أمام هذه الفرضية هو انتساب جل الأمثلة التي يضربها إلى الحضارة الإسلامية ما يجعل ما تخيله بدوي قابلا للتصديق .لكني استطعت أن اكتشف السر :يوجد فرق كبير بين أمثلة لتأييد نظرية فرضية ووقائع تستمد منها نظرية استقرائية. وهنا حصلت المفاجأة السارة وهي فرضية المشروع الذي قدمته لنيل شهادة التعمق في البحث والتي عدلت عنها لتلكؤ المشرف وعوضتها ببحث يعد للمنهج الذي طبقته على ابن خلدون :وهو منزلة الرياضيات عند أرسطو مع أستاذ المنطق في قسم الفلسفة .وكنت حينها أدرس الفلسفة في الثانويات. كان المشرف استاذ الفلسفة من تشيكوسلوفاكيا وكان مختصا في فلسفة المنطق في المدرسة الألمانية .وقد ساعدني في ذلك عنوان المقدمة :كيف لمن يضرب أمثلة كلها أو جلها الساحق من الحضارة الإسلامية يعنون كتابة بـ\"علم العمران البشري والاجتماع الإنساني\" فتحضر صفتا البشرية والإنسانية بدل الإسلامية مثلا؟ فكان يكفي أن أعوض العنوان هكذا \"علم العمران والمجتمع الإسلاميين\" لتصبح المقدمة مستقرأة من الأمثلة التي تتحول إلى وقائع استقرئت منها بعض التعميمات كما فهم بدوي وهي استقراء ناقص .ما يعني أن ابن خلدون عمل العكس تماما :أي إنه وضع نظريات حول العمران البشري والاجتماع الإنسان ومثل لها أبو يعرب المرزوقي 6 الأسماء والبيان
-- وإذن فابن خلدون استنتج علمه من مفهومات عرف بها الإنسان ليحدد مقومات العمران والاجتماع .وضرب أمثلة من الحضارة الإسلامية لتوضيح قوانينه المستمدة من المفهومات التي هي صفات كونية للإنسان من حيث هو إنسان .وكان عملي استخراج هذه المفهومات ونظامها هو ما سميته الاجتماع النظري الخلدوني. أبو يعرب المرزوقي 7 الأسماء والبيان
-- ثم اعتبرت هذه المفهومات التي طبقها ابن خلدون على الحضارة الإسلامية في وضعيتها التي كانت معاصرة له قابلة للفصل عن هذه الوضعية المعينة والتطبيق على ما يمكن أن يكون نظيرا له من حيث طبيعة الدور في العمران والاجتماع .فـما كنت أراه بالعين المجردة في حضارتنا لما كتبت هذه المحاولة كان نظيرا مناسبا :ما عليه التاريخ العربي المعاصر. والتاريخ العربي المعاصر كان في مخاض بـمستقبل قريب .وها نحن نراه بأم العين. توقعت أن تكون الجزائر وفلسطين قلب الحدث في ثورة الإسلام الثانية .وهي الثورة التي عرفها أبو القاسم الشابي: \"إذا الشعب يوما أراد الحياة * فلا بد أن يستجيب القدر\". فالوضعية الحالية التي توقعتها وهي تحدث الآن ولله الحمد. وختاما فما يمكن للفكر أن يتوقعه إذا بني على منطق سليم يمكن أن يطابقه المستقبل خاصة إذا لم يكن مجرد تعبير عن الأماني بل تحليل مبني على فلسفة بمستوى ما وضعه ابن خلدون من قوانين لم تكن بينة لأنها خلطت بمادتها فحصرت فيها ولم تجرد التجريد المناسب لتصبح قابلة للانطباق على نظائر ما طبقها عليه. وإذن فابن خلدون أبدع ما يناظر نظام النطق عند الفراهيدي لأنه لم يكن موجودا وهو المصفوفة الرياضية التي تتفرع عنها المفهومات التي بالتوليف بينها يبني نظريته التي هي نسق رياضي خالص خاناته تصورات يمكن اعتبارها مقدرات ذهنية قابلة أن تكون ذات قيم متغيرة ضرب امثلة لها بقيم من لحظة عصره. ولأورد أصل هذه المصفوفة والمشتقة من حده للإنسان\" :ونحن الآن نبين في هذا الكتاب ما يعرض للبشر في اجتماعهم من أحوال العمران والعلوم والصنائع بوجوه برهانية-لاحظ برهانية-يتضح بها التحقيق في معارف الخاصة والعامة وتدفع بها الأوهام .ونقول لك لما كان الإنسان متميزا عن سائر الحيوان بخواص اختص بها .ويأتي بعد ذلك المفهومات المتفرعة \"عما يختص به الإنسان\" وهي: أبو يعرب المرزوقي 8 الأسماء والبيان
-- .1العلوم والصنائع. .2الحاجة إلى الحكم. .3السعي في المعاش. .4ومنها العمران وهو المعاش بنوعيه البدوي والحضري-وله في كل هذا أحوال تعرض من حيث الاجتماع عروضا ذاتيا\" .فيستنتج أبواب البحث بإضافة شرطي القيام الإنساني. وتلك هي موضوعات الخمسة من 2إلى 6لأن الباب الأول يشملها جميعا لكونه يتعلق بالشروط الجغرافية والروحية أي ما يجعل الإنسان معمرا ومستخلفا في الأرض .وذلك هو الباب الأول والخمسة التي سندرس بينة علاقاتها في الفصول الموالية. .1في العمران البشري على الجملة. .2العمران البدوي. .3الدولة. .4العمران الحضري. .5الاقتصاد. .6العلوم والتربية والفنون. وهذه ثوابت كونية وليست خاصة بأمة دون أمة أو عصر دون عصر بل هي خانات مجردة تتعين تاريخيا :إنها مصفوفة .والتغريدات السبعة الأخيرة من الفصل السابق جزء من هذا الفصل الثاني .وبناء عليها أواصل شرح البنية العامة للمقدمة وأبدأ بالكلام على ترتيبها بعد عددها الذي ذكرناه .فابن خلدون أعلن عن قانون ترتيب العناصر من الضروري إلى الحاجي إلى الكمالي في شروط حياة الإنسان العضوية والروحية .فيتبين أمران: • فالمسائل ليست خاصة بأمة دون أمة ولا هي خاصة بعصر دون عسر بل مضامينها تتحدد بتاريخية العناصر مع تاريخية تفاعلها وتحدد وزن كل منها بأثر العلاقة بين الطبيعة والثقافة. أبو يعرب المرزوقي 9 الأسماء والبيان
-- • وقانون التراتب بينها وهو المذكور في تحديد المسائل وأولاها تشمل كل المسائل لأنها متعلقة بشرطي الوجود. وشرطا الوجود الإنساني من حيث الوجود وشروط البقاء هما: • الشرط الجغرافي المنافي ويناسب قيام الإنسان العضوي. • والشرط الفكري الروحي ويناسب قيامه الروحي والفكري. وذلك هو موضوع الباب الأول الذي يدرسهما كلا على حدثة ثم يدرس تفاعلهما في الاتجاهين فعل الجغرافي في الإنساني وفعل الإنساني في الجغرافي والأصل تناظر القيام بين العالم والإنسان. وطبعا ابن خلدون لم يتكلم على تناظر القيام بين العالم والإنسان بمعنى التناسب بين كيان الإنسان العضوي وكيانه الروحي مع ما يناظرهما في العالم .لكنه يفترضه ضمنا لأن الجغرافيا والمناخ هما شرط الحياة أو العضوي من الإنسان .ولو كان هذا هو الشيء الوحيد لكان الإنسان مثل كل الحيوانات الأخرى مقصورا على هذه العلاقة ولما وجد تاريخ حضاري مع التاريخ الطبيعي أو العضوي. وإذن فللإنسان بعد ثان بالإضافة إلى بعده العضوي -بدنه الذي يستمد قيامه مما يستمده الإنسان من الطبيعة-وهو بعده الروحي أو الوعي بذاته وبمحيطه وبفاعليته. فلا توجد جماعة لا تفترض وراء الطبيعة \"شيئا\" ما يشبه ما لدى الإنسان إما محايثا فيها فيؤلهها أو مفارقا لها فيؤمن بآلهة وراءها. وهذا هو الأصل الثاني في الإنسان وفي العالم .ففي الإنسان روحه ويترتب على ذلك افتراض الإنسان أن للعالم روحا محايثة فيه .وهذا هو أصل الأديان الطبيعية أو روحا مفارقة وهذا هو أصل الأديان المنزلة .ولذلك فالقسم الثاني من الباب الأول يتألف من الكلام في الجغرافيا والمناخ وفي الإلهيات بصنفيها. والمسائل العميقة التي يؤسس عليها ابن خلدون بوصفها \"ماتريكس =مصفوفة المفهومات\" الخلدونية هي التي لم ينتبه إليها المرحومان طه حسين وعبد الرحمن بدوي بشيء من أبو يعرب المرزوقي 10 الأسماء والبيان
-- الخفة العقلية التي تدل على سطحية منقطعة النظير .ذلك أن مثل هذه المعاني لا يمكن أن تكون استقرائية .والأمثلة ليست وقائع تستقرأ بل أمثلة للتوضيح. وبالمعنى الرياضي أو المنطقي إنما هي قيم لمتغيرات .وهذه القيم أمثلة من القيم الممكنة التي تؤدي نفس الوظائف في حضارات أخرى .لكن المصفوفة كونية وليست خاصة بحضارة دون حضارة ولا بدين دون دين ولا بعرق دون عرق ولا بمرحلة دون مرحلة من التاريخ الإنساني .لذلك فهي رؤية متأثرة بكونية الإسلام. وعندما أبين هذه المعاني نتحرر من سخافة مقابلة بدوي بين المشرق والمغرب مع تفضيل المشرق على المغرب أو سخافة مقابلة الجابري بينهما مع المفاضلة المضادة لأن ابن خلدون ليس مشرقيا ولا مغربيا بل هو فيلسوف كوني وحتى من حيث الأصول فهو مشرقي تمغرب ثم مغربي تمشرق .هو كوني لأنه مسلم. فهو حضرمي الأصل الأول .أندلسي الأصل الثاني .تونسي الأصل الثالث .مغربي الأصل الرابع .جزائري الاصل الخامس .وفي الجزائر كتب المقدمة .مصري الأصل السادس .وحتى شامي الأصل السابع .ومن ثم فلا أحد من العرب يحق له أن يعتبره من سخافات قوم بابل العربية التي لا تدل على حب الأقطار بل على سخافة الأعراب وانحطاط العار. ولنغص الآن في المقدمة لنرى نسيجها العميق وكيفية عمل التوليف بين العناصر -قياسا على ما فعل الفراهيدي مع أصوات العربية في معجمه بنظرية التواليف الرياضية ومع إيقاع العربية في نظرية البحور الشعرية بنظرية التواليف الرياضية كذلك-فابن خلدون فراهيدي العمران والاجتماع الإنسانيين. ولي شرف اعتبار نفسي تلميذا للفراهيدي اللساني وللفراهيدي العمراني بعد التتلمذ على ابن تيمية والغزالي في حضارتنا وإن كان ذلك متأخرا عن تتلمذي على أرسطو أفلاطون ثم على ديكارت وكنط غربيا .ذلك أني لا اعتقد في خرافة المقابلة شرق غرب. الإنسانية المبدعة واحدة كما حددها القرآن دين الكونية. أبو يعرب المرزوقي 11 الأسماء والبيان
-- الخصوصية في المعرفة فلكلور .وهي عنصرية لأنها تمييز على أساس الفلكلور الحضاري. ولا يختلف ذلك عن التمييز على أساس الألوان بين البشر .الأول ثقافي والثاني بايولوجي. وكلاهما نوع من التكيف .الأول مع المناخ الثقافي وهو القسم الثاني من الباب الأول في المقدمة والثاني مع المناخ الطبيعي هو القسم الأول منه .والإنسان واحد لا هو شرقي ولا هو غربي. والآن نفهم دلالة اسم العلم الذي يقول ابن خلدون في\" :ونحن ألهمنا الله إلى ذلك إلهاما واعثرنا على علم جعلنا سن بكره وجهينة خبره .فإن كنت قد استوفيت مسائله وميزت عن سائر الصنائع (يعني العلوم) أنظاره وأنحاءه فتوفيق من الله وهداية وإن فاتني شيء في احصائه واشتبهت بغيره مسائله فللناظر المحقق إصلاحه ولي الفضل لأني نهجت له السبيل وأوضحت له الطريق والله يهدي بنوره من يشاء\" .ولي شرف بيان فيم يتمثل الإبداع الخلدوني دون الزعم بأني ناظر محقق استدرك عليه واعترف له بالفضل لأني لست الوحيد المدين له بل الإنسانية كلها فهو \"أرسطو\" العلوم الإنسانية كلها دون منازع. وكم أعجب ممن يتكلم على \"نحن\" قبالة \"الآخر\" بين المسلمين وغيرهم .لا يوحد غير يفرض المقابلة شرق غرب -لا شرقية ولا غربية-بل كونية .ولذلك فابن خلدون استعمل مفهومين للإنسان فوصف العمران بكونه بشريا والاجتماع بكونه إنسانيا. فالعمران البشري يعرفه بـ\"التنازل\" للتعاون على سد الحاجات العضوية وما تتطلبه من حماية .والتنازل يعني المشاركة في المنزل .والاجتماع الإنساني يعرفه بالتنازل للأنس بالعشير .ويتعلق بالاستمتاع بالحياة .ويمكن القول إن الأول للرعاية العضوية والثاني للرعاية الروحة .وكلاهما مصحوب بالحماية. وبذلك فالأساس الذي ينطلق منه ابن خلدون ليس نظرية مستقرأة بل هو فرضية نظرية لتحديد مقومات الوجود الإنساني من حيث هو كائن له بعد عضوي لصيق بكونه من تراب وبعد روحي لصيق بكونه مستخلفا .والجمع بين الأمرين هو معنى الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها .وتلك هي ثورة الإسلام الكونية. أبو يعرب المرزوقي 12 الأسماء والبيان
-- باب المقدمة الأول يشمل بقية أبوابها محددا مؤسسا لشروط قيام الإنسان المادية (الجغرافيا والمناخ) والروحية (الأديان والعلوم وتطبيقاتهما) والتفاعل في الاتجاهين وأصل هذه المقومات الأربعة كيان الإنسان بمقوميه من حيث هو مستعمر في الأرض ومستخلف فيها .ذلك هو منطلق الفرضية التي تؤسس مصفوفة مسائل المقدمة وشبكتها. فلننظر في هذه المصفوفة والشبكة وكيف تقبل القراءة من البداية إلى الغاية بعلاقة معكوسة بين الطبيعي والثقافي الأول يتناقص والثاني يتزايد ومن الغاية إلى البداية من الثقافي إلى الطبيعي بالعكس إذ يتناقص الثقافي ويتزايد الطبيعي .ويلتقي التوجهان في القلب من الأبوات الخمسة الباقية أعني في باب العمران الحضري أو في المدينة التي هي البنية الكونية لتلاقي العمرانين .فالمدينة او العمران الحضري في المقدمة هي في الحقيقة اللقاء الدائم بين العمرانين والاجتماعين: • العمران والاجتماع البدويين. • والعمران والاجتماع المدنيين. أو العلاقة بين سلطان الطبيعة وسلطان الثقافة وما يترتب عليهما من حيوية الحضارات في كل المجتمعات البشرية في الرؤية الخلدونية لفلسفة التاريخ .فالمدينة هي الـ\"ماكينة\" التي تصنع التاريخ من حيث هي دورة دائمة بين البداوة التي تتحضر صعودا في مرحلة العنفوان العضوي الروحي للجماعة والحضارة التي تتبدى نزولا في مرحلة الترف الذي يقتل القوى الحيوية ويفقدها العنفوان فتخلد للدعة والراحة .وقلب المدينة حضري دائما في كل حضارة .ومحيطها بدوي دائما في كل حضارة. والبداوة تغزو المدينة عضويا بما فيها من عنفوان عضوي .والحضارة تغزوها ثقافيا بما فيها من عنفوان ثقافي في لحظات الصعود وينعكس الأمر فتصبح ثقافة الترف في لحظات النزول غازية للعنفوان الحيوي الذي يتحول إلى الغرق في التحلل الخلقي والقيمي والانهيار الاقتصادي :الفصل 18من الباب الرابع. أبو يعرب المرزوقي 13 الأسماء والبيان
-- لكن ذلك ليس غاية الحضارة الكونية عامة ونهايتها بل هو غاية \"حضارة معينة\" أو دورة من دورات الحضارة الإنسانية .فالتجديد العضوي للحضارات يحدث بالغزو الذي يجدد الكيان العضوي وغالبا ما يكون بدويا في عصر ابن خلدون .وهو اليوم من نوع آخر إنه \"غزو\" بالهجرة الداخلية في نفس الحضارة وبالهجرة الخارجية إلى بين الحضارات. وهذا أول قانون خلدوني ظنه العجلون مقصورا على العلاقة بين البداوة والحضارة بالمعنى العيني الذي كان موجودا في عصر هز لكن هذه الحالة العينية مثال من القانون وليست هي الحقيقة التي يعنيها ابن خلدون .والقصد أن الآلية التي تبقى على حياة الحضارة الإنسانية هي هذه العلاقة بين مستويين منها عضويين وروحيين أو طبيعيين وثقافيين. والعلة هي العلاقة بين مستويات عنفوان العضوي ومستويات عنفوان الروحي .ففي البداوة لغياب الترف يكون هذان متناغمين في قوة العنفوان بين العضوي والروحي .وفي الحضارة يكونان بسبب الترف في الغذاء والجنس متناغمين في ضعف العنفوان وتناغمه فيهما .فيكون القرب من الطبيعة ممثلا للشباب والبعد عنها ممثلا للشيخوخة .ولابن خلدون ميل واضح لتقديم الطبيعي على الثقافي وقوة العنفوان العضوي والروحي الروحي على ضعفهما. ويكفي أن نحلل الموقف المتناقض من المهاجرين في الغرب .فهم ضرورة مطلوبة .لكنهم ظاهرة مخيفة لأهل البلد .هم ضرورة عضوية لتجديد النسل خاصة ولتجديد عنفوان الحياة ورمزها قوة الشهية الجنسية وفي الأعمال البدنية والرياضة مثل .وحتى في ما كان يسخر منه ابن خلدون أو ما يسميه الخفة والرقص عند الزنوج :فكلها عبارة عن العنفوان الـحيوي. لكن ذلك يحدث ظاهرة الرفض بسبب \"الغيرة\" وخاصة في اليمين خوفا على \"ميل نسائهم\" لهذا العنفوان العضوي وخوفا على الديموغرافيا لأن وفرة تكاثر المهاجرين يهدد في المدى أبو يعرب المرزوقي 14 الأسماء والبيان
-- المتوسط والطويل قلة تكاثر الأوروبيين .ما يجعلهم في خوف على الهوية بحيث إن يمين أوروبا كله يتخوف من الجاليات الإسلامية لهذين العلتين. وهذا الأمر ينبغي أن ينسب نظرية ابن خلدون في علاقة المغلوب بالغالب .فالغلبة العضوية هي التي تنتصر في العمق والغلبة الثقافية تنصر في الظاهر .وليكن مثالنا في الموروثين العضوي والثقافي .فلا شك أن أمريكا التي كانت بيضاء وعبيدها سود لم يبق عبيدها عبيدا لكن ثقافة السود وأذواقهم هي التي بدأت تفرض نفسها .وأتوقع نفس الشيء في أوروبا على المدى الطويل. أطلت الكلام في المسألة لأبين أن إخلاء البينة التي تحدد القانون العام من المضمون العيني (بداوة حضارة في عصر ابن خلدون) وتعويضه بأي مضمون يناظره من حيث الوظيفة يبين أن الإبداع الخلدوني لا يتحدد بتعينه في المضمون العيني بل في البنية المجردة التي تنطبق في كل الحالات بشرط التناظر الوظيفي للمضامين العينية. وذلك ما لم يكن بوسع طه حسين ولا عبد الرحمن بدوي قادرين على فهمه لأنهم تصوروا الرجل استقرأ أحكامه مـما قدمه من الأمثلة التي يضربها والتي ظنوها وقائع استقرائه في حين أنها أمثلة مما ينطبق عليه القانون في عصره لا غير .وسنرى كيف أن الحاضرة أو المدينة هي ملتقى ومصب للعلاقة بين الطبيعي والثقافي دائما. ولا بد هنا من فهم استعمال ابن خلدون لمصطلح العرب للدلالة على ظاهرة انثروبولوجية ظنها الكثير ممن يحقدون على العرب بالمعنى العرقي أو الاثني من حيث هي اسم لقوم وعلاقة المصطلح الخلدوني بمن يسميهم القرآن الأعراب (قالت الأعراب) لأنه يعرفها بأمرين هما رعاية الإبل والصحراء .وذكر فيها أقواما ليسوا عربا بالجنس مثل الأكراد. وغايتي من هذا المثال ليس الدفاع عن العرب -فهذا ليس من مطالب المعرفة حتى أدافع عن العرب بالمعنى الاثني لأني منهم-بل بيان ما يعنيه ابن خلدون بالبداوة التي تؤدي الوظيفة التي يتكلم عليها في علاقة بالحضارة إلى الحد الذي ميز بمقتضاه بين عمرانين أبو يعرب المرزوقي 15 الأسماء والبيان
-- بدوي وحضري .والمعيار الذي يعنينا في نظريته هو \"نحلة العيش\" ودورها في كيان الإنسان .وقد خصصت لها سلسلة من الفصول. وبهذا المعنى فكما أن غاية الحضارة القصوى أو الترف قاتلة لكيان الإنسان العضوي بفساد كيانه الروحي فإن بداية البداوة القصوى قاتلة لكيان الإنسان الروحي بفساد كيانه العضوي .فتكون الأعراب والترف ممثلين للحدين الأقصيين المفسدين لآلية التخاصب بين العمرانين والاجتماعين في فلسفته :عدم الحضارة في الأول وإعدام الحضارة في الآخر. وهذا هو القانون الثاني الذي تتضح دلالته بعد افراغ البنية المجردة من الأمثلة العينية .ففي ذهن ابن خلدون في مسألة العرب بمعنى الأعراب الذي هو مفهوم انثروبولوجي وليس عرقي بدليل ذكر الأكراد من بينهم كان ممثلا في ظاهرة غزو بني هلال لتونس خاصة وما ترتب عليه من دمار وصفه بتأثر شديد. لكن قانونه لم يكن استقراء من المثال الذي يظن واقعة بنى عليها ابن خلدون نظرياته. ولو صح ذلك لكان القرآن أيضا قد استقرأ من واقعة الأعراب مفهوم الأعراب .أعراب القرآن وعرب ابن خلدون في هذه الحالة لا علاقة لهما بالعرب كعرق أو كقوم بل هما يصفان مرحلة متقدمة على العمران البدوي الذي يلتقي بالعمران الحضري :أو لنقل المفهوم يهدف إلى بيان ما يتنافى مع الحضارة إما في البداية ومثله الترف في النهاية. وكلاهما لهما نفس الدور في القرآن كذلك :إما العدم أو الاعدام. واللقاء المتخاصب هو الذي يجعل العمران البدوي والاجتماع البدوي منطلقا لنشأة الدول .فهما يشبهان مفهوم الفطرة السليمة في رؤية الإسلام للدين عند الله وفي رؤية ابن خلدون لدلالة الطبيعة الخيرة للإنسان بمعنى أن أقصى البداوة ممثلا بالأعراب انحراف في كيان الإنسان العضوي والروحي نتيجة للادقاع والقحط المادي والروحي لنحلة عيشهم مع الإبل في الصحاري. وهذا يعني أن أقصى البداوة \"الأعرابية\" وأقصى الحضارة \"الترفيه\" كلاهما ناتج عما يتنافى مع علاقة التخاصب بين الطبيعي والثقافي ما يعني أنهما يتضمنان خللا في مقومي أبو يعرب المرزوقي 16 الأسماء والبيان
-- الإنسان العضوي والروحي إما بعدم الثقافي أو يكاد أو بفساده .فينتج عنه مرض عضوي ناتج عن انحطاط علته الجوع المادي ومرض روحي ناتح عن انحطاط علته الجوع الروحي. وكلاهما يعني نهاية الأخلاق المشروطة في العمران والاجتماع السليمين ولهما نفس النتائج .فالأعرابي يعيش على السرقة والحرابة من تحت .والمترف يعيش عليهما ولكن من فوق .فالأول سارق ومحارب بسبب الجوع المادي وهو خارج على أي نظام سياسي. والثاني سارق ومحارب بسبب الجوع الروحي وهو مستبد بأي نظام سياسي .ويوجد بعض العرب يجمعون بين المرضين وتلك هي قمة الانحطاط العضوي والروحي فتجد لديهم أمراض السمنة بدنيا وأمراض السفالة روحيا. وهذا هو القانون الخلدوني الثالث .والأول يسميه العصبية المفضية للهرج وهي عصبية الأعراب .والثاني يسميه الاستبداد الذي ينتهي إلى الإخلاد إلى الأرض ليس نفيا للنظام فحسب بل تحويله إلى أداة للسرقة والحرابة النسقية على الجماعة .فإما نفي الجماعة. أو سحق الجماعة .والنتيجة نفي التخاصب بين الطبيعة والثقافة. وهذا مناف للأخلاق والسياسة معا .وهو الحياة المافياوية التي فيها سلوك أقصى البداوة أي القتل والغدر وسلوك المترفين أي البذخ واللاأخلاق اعتمادا على القوة القاهرة بالقتل والغدر كذلك .ويصح ذلك على كل الأنظمة العربية بل على والأنظمة الغربية التي تستعملهم وتحميهم وخاصة أمريكا بسلوك رعاة البقر .فالأمريكان هم أعراب الغرب. وتلك كانت صورتهم في الأدب الإنجليزي :أي إنهم أجلاف. وقد يكون ترومب أفضل مثال على ذلك .فهو جلف ومافيوزي باجتماع الاسلوبين أسلوب الأعراب وأسلوب المترفين .وليس من الصدفة أنه صديق بدو العرب الحاليين القائدين للثورة المضادة والمحاربين للإسلام مثله وهو لصيق بأخلاقهم فهو مثلهم فاسد ومستبد ولا أخلاق له .مافية العصبية المفضية للهرج ومافية الترف المفضي لمطلق الفساد والاستبداد ذلك ما يثبته هذا القانون العميق لفكر ابن خلدون .وهكذا نرى صلاحية القانون الثالث لتفسير ظاهرة فعلية حالية. أبو يعرب المرزوقي 17 الأسماء والبيان
-- وليس ذلك بسبب التعميم بل بفضل إفراغ بينة القانون من مضمونه العيني الذي ضربه ابن خلدون مثالا وتطبيق بنيته المجردة على المضامين التي لها نفس الوظيفة موضوع القانون بصورة عامة .وبذلك نمر إلى القانونين الأخيرين: • قانون الطرد. • وقانون العكس. فطردا فاعلية الطبيعة تتناقص من البداية إلى الغاية فهي تكاد تغيب في الباب السادس. وعكسا فاعلية الثقافة تتناقص من الباب الأخير إلى البال الثاني .بعكس تناقص فاعلية الطبيعة من الباب الثاني إلى الباب السادس .فتكون الثقافة شبه غائبة في الباب الثاني أي في العمران البدوي .وهما في توازن في الباب الرابع أو في ملتقى الطبيعي والثقافي الذي أطلت في شرحه :المدينة. فما دلالة ذلك؟ أبو يعرب المرزوقي 18 الأسماء والبيان
-- فماذا ينتج عن قانون الطرد من الطبيعي (ممثلا بالعمران البدوي) إلى الثقافي (ممثلا بالعمران الحضري)؟ وماذا ينتج عن قانون العكس من الثقافي إلى الطبيعي؟ إنه ثمرة الثورة الخلدونية التي لي شرف الكشف عنها اعتمادا على اعتبار نظريته استنباطا استنتاجيا ذا بنية رياضية لا استنباطا استقرائيا ذا بنية \"امبيريقية\". ونبدأ بالمسار الطردي :أي من 2إلى 4بتوسط 3من أبواب المقدمة أي إلى حدود اللقاء المتوازن في المدينة وقبل المرور إلى تضاؤل دور العمران البدوي إلى ما يقرب من الصفر. فالبالب 3في الدولة فيه اكتشافان: .1تشارط الدولة والمدينة وهما لا يترابطان بوحدة دينية بنيويا بل بوظائف الدولة حماية ورعاية كما هو بين من دستور الرسول مثلا. .2والثاني هو الأهم هو بيان أن الـدولة لا يمكن أن توجد من دون عقد إما عقلي أو ديني أو جامع بينهما. .3وكلا العقدين-العقلي أو الديني -يمكن أن يكون لصالح الحاكم وحده وهو مفروض منه على الجماعة أو لصالح الحاكم والمحكوم في آن عندما يدرك الحاكم استحالة استقرار دولته بالأول.وهذا هو الشكل الأفضل لوظائف الدولة لتوفر شرط النظام الطوعي أساسا للسلم المدنية في الدولة وفي قلبها خاصة :المدينة. .4فتكون المدينة غاية الدولة والدولة شرطها توفيرا للرعاية (شرط التعاون لسد الحاجات) والحماية (شرط التبادل بالتعاوض ودفع العدوان البيني أو من الخارج) اللذين هما شرطا الدعة والاستقرار غاية كل سعي إنساني .وهذا هو القانون المؤسس للدولة ولطابعها التعاقدي إما بالعقل أو بالدين فرضا أو توافقا .وهو ليس ظاهرة حديثة أو قديمة بل هو ملازم للدولة مهما كان عصرها أو شكلها .وليس من الضرورة أن يكون العقد مكتوبا إذ يمكن أن يكون عرفيا وهو في الغالب عرفيا حتى بعد اكتشاف الكتابة. أبو يعرب المرزوقي 19 الأسماء والبيان
-- لكن هذه العقود التي تتأسس عليها الدولة يهددها خطران: • ما يشبه الحالة الطبيعية التي يتميز بها الأعراب بالمعنى الذي حددنا في الفصول السابقة وهو المعنى الذي أفسده استعمال ابن خلدون كلمة عرب بدل أعراب لتسميته لكن قصده واضح فهو يعني الأعراب وليس العرب بدليل أنه يضم إليهم الأكراد المشاركين لهم في هذه الصفة أي العيش على رعاية الأبل في الصحراء القاحلة :مفهوم انثروبولوجي وليس عرقيا أثنيا. • أو ما يسميه بالفوضى المفضية للهرج في الجماعة أو وهو الأخطر ما يسميه ابن خلدون بـ\"حب التاله\" عند الإنسان عامة وعند الحكام خاصة وهو الميل إلى الاستبداد عند الحكام للتفرد بالسلطان كأنه الرب وعند «المفكرين» بخلق الكبر أو زعم الاطلاع على الغيب (التصوف). وإذن فالاستبداد على نوعين سياسي وفكري .لكن ما يعنينا هنا هو الثمرة السياسية ويمثله: • العقدان الزائفان لصالح الحاكم دون المحكوم سواء كان على أساس القوة المادية (سلطة القهر بتحريف قوة الدولة) أو على أساس القوة الروحية (سلطة القهر بتحريف قوة الدين) وغالبا ما يكون جامعا بينهما جمع مصدر الشوكة ومصدر الشرعية في الأنظمة ا لسياسية .وهما العقدان المزيفان أي الدكتاتورية الطبيعية الدكتاتورية الروحية واجتماعهما هو الفرعونية. • ثم الغزو الخارجي أو الحروب الأهلية اللذان يمثلان زوال مفهوم الدولة وعموم الفوضى وهذه أخطر من الأولى لأنها تقضي على شروط بقاء المغزو أو على شروط الجماعة التي تعيش الحرب الأهلية .وتلك هي علة انحراف الفقه الإسلامي لأنه جعل المشكل مفاضلة بين نوعي الاستبداد واختار إضفاء الشرعية على التغلب وليس بديلا منهما. أبو يعرب المرزوقي 20 الأسماء والبيان
-- وهذه البنية المجردة لا يمكن أن يكون ابن خلدون قد استقرأها بل هو استنتجها من علاقة العمرانين والاجتماعين البدوي والحضري وما يتطلبه اللقاء بينهما من شروط أهمها الدولة من حيث هي شوكة والقانون من حيث هو شرط شرعية الشوكة .والقضية قانون عام :الإنسان تجنب الخوف بالأمن والجوع بـالغذاء. وفي هذا المسار الطردي من العمران البدوي إلى العمران الحضري لم يتوفر حقا إلا الأمن لبناء المدينة .وبقي الغذاء .فالمدينة استقرار في المكان .فمن أين سيأتي الغذاء الذي كان يسد بالارتحال بحثا عنه؟ كيف للمستقر أن يجد غذاءه إذا كان الاستقرار يستنفذه بسرعة لا تطابق إعادة الطبيعة لإنتاج ما تنتجه ويستهلكه الإنسان والحيوان؟ الجواب في المسار العكسـي أي في المسار العائد من الحضري إلى البدوي. فالعودة من الباب السادس إلى الباب الرابع مرورا بـالباب الخامس بينهما وموضوعه الاقتصاد أو الرزق والصناعات التي تستند إلى العلم .ففي هذا المسار العكسي علاج سؤالنا :تحقيق شروط الرعاية بعد شروط الحماية .فالمدينة تحقق الحماية أو بصورة أدق تيسر الحماية (بـالأسوار مثلا) لكنها لا تحقق الرعاية من دون هذا الـحل الذي هو أصل الاقتصاد أو سد الحاجات بالتعاون في الأعمال والتبادل في الثمرات والتعاوض العادل في قيمها .وهذا يقتضي نوعي العلوم: • العلوم العقلية والفلسفية. • العلوم النقلية والتاريخية. والفنون وشرطها جميعا التربية واللسان مشتركة بين النوعين .وقد بدأ أبن خلدون بعرض الثانية ويعتبرها متغيرة بحسب الحضارات لصلتها بتاريخ الشعوب بخلاف الأولى التي يعتبرها كونيها لصلتها بالطبيعة .وذلك هو موضوع الباب السادس الذي يعود على موضوع الباب الخامس أو الصناعات لجعلها ذات تأسيس علمي أداتيا وخلقيا وهو معنى الاقتصاد كما يعرفه ابن خلدون. أبو يعرب المرزوقي 21 الأسماء والبيان
-- فالاقتصاد بخلاف ما يتوهم الكثير ليس عملية مادية صرفة بل هو عملية غايتها غير مادية وبدايتها كذلك غير مادية .فالبداية هي العلوم العقلية والنقلية مهما كان مستواها والغاية هي الأذواق الغذائية والجمالية مهما كان مستواها .والمشكل كيف نجمع بين ثبات المكان والوفرة في ما يسد الحاجة أو كيف نستغني عن الترحال :الجواب أن ننتج بدلا من الطبيعة ما لا تستطيع إنتاجه أو ما لا تستطيع انتاجه بنسق يماشي الاستهلاك بسبب بطء تجديدها لنفسها. فنجد هنا اكتشافين لابن خلدون علتهما الجمع بين الكسب والصناعات وما يقتضيانه من أدوات تحقق التعاون بتقاسم العمل في الجماعة وبـالتبادل والتعاوض العادل بضمانة قضاء في الدولة :نظرية القيمة من حيث هي كم العمل في البضاعة والخدمة ونظرية استقلال العملة عن السلطة التنفيذية شرطا لعدل التبادل وعدم تزييف القيم الاقتصادية. فهو أول من وضع نظرية القيمة باعتبارها كلفة العمل الضروري لإنتاج البضاعة أو الخدمة .وهو أول من تكلم على ضرورة حماية العملة من التزييف بالتطفيف وذلك بجعلها تابعة للخليفة صاحب السلطة المعنوية وحارس الدين وليس للسلطان صاحب السلطة الفعلية وحارس الدنيا. في المسار العكسـي أي في العودة من الثقافي إلى الطبيعي من 6إلى 4بتوسط 5من الأبواب لا شيء يمكن اعتباره منتجا طبيعيا بل هو منتج العمل الإنساني أو الصناعات كما سماها ابن خلدون .وهي صناعات تستند إلى معرفة \"علمية\" مناسبة لعصرها مطبقة على انتاج ما يسد الحاجات :من هنا مفهوم القيمة الاقتصادية بوصفها مقدار العمل. ولأن العرب ما يزال عيشهم معتمدا على بيع ما تنتجه الطبيعة ولا ينتجون شيئا فهم ما يزالون بدوا حتى لو كانوا في قصور وليس في خيام .لذلك فقانون ابن خلدون لا ينطبق عليهم بمن في ذلك من ليس لهم بترول إذ هم يبيعون كل شيء بما في ذلك السيادة والأرض والعرض كما في السياحة .ذلك هو القانون الرابع الذي وضعه ابن خلدون. أبو يعرب المرزوقي 22 الأسماء والبيان
-- ونصل إلى الاكتشاف الأعظم والثوري حقا وهو القانون الخامس والأخير الذي سأتكلم عليه :هو علاقة الدولة بالاقتصاد وهي علاقة مخمسة الأبعاد والقانون يتعلق بها خمستها: .1استقلال العملة عن السلطة التنفيذية. .2منع التجارة على الدولة لتناقضها مع وظائفها ولتعذر منافسة الخواص لها. .3الحد إلى أقصى الحدود من الضريبة. .4حماية الملكية. .5استقلال القضاء والقدرة على تنفيذ أحكامه. ولأن هذه الأبعاد الخمسة في القانون الاقتصادي الأسمى من حيث علاقته بالدولة كلها منفية عما يسمى دولا عربية مرتين فإن العرب لن يستطيعوا الخروج من التخلف من دون فهمه وتطبيقه .فعدم العمل به من أكبر علامات أنها ليست دولا بل محميات: .1نفي هذه الأبعاد من الحامي الذي عينهم ليكونوا حراميين في خدمته. .2ثم نفيها منهم باعتبارهم حراميين لا بد لهم من سهم مع الحامي من دم الشعب. ولا يكون هذا الامتصاص إلا بتلك الأدوات الخمس: .1العملة بيد السلطة التنفيذية وليست مستقلة (ومعها الموازين والمكاييل بيد مافياتهم المسيطرة على الأسواق). .2التجارة بيدهم أو بيد أزلامهم. .3الضرائب والإتاوات التي لا حد لها. .4التعدي على الملكية بالمصادرة والمؤامرة. .5تبعية القضاء المطلقة لإرادة الحكام. وبهذا المعنى ففقر العرب ليس أمرا طبيعيا بل هو بفعل فاعل .فبهذه الوسائل بصرف النظر عن الفساد الآخر والسرقات لا يمكن لأي جماعة أن تخرج من الفقر .وقد وصف ابن خلدون علة الفقر بكونها فقدان الأمل الذي يجعل المنتجين يتوقفون عن الانتاج لعلمهم بأن ثمرة جهدهم ليست مضمونة وليست محمية من هذا العدوان والظلم. أبو يعرب المرزوقي 23 الأسماء والبيان
-- ورغم أن الكلام في فلسفة ابن خلدون لذيذ فإن ما دفعني لكتابة هذه الفصول ليس اللذة العلمية لأن ذلك كتبته أكاديميا منذ أكثر من أربعة عقود لتوقع شروط لاستئناف الذي كنت مؤمنا وثيق الإيمان بأنه آت لا ريب فيه بل لأن ثورة الشباب ينبغي أن يفهم قادتها أن معلمهم ورائدهم هو ابن خلدون. وبهذا المعيار حكمت على أن الأحزاب الإسلامية فاقدة للبوصلة لأنها لا يمكن أن تكون بحق في خدمة الثورة إذا كانت عديمة العمق الفلسفي الذي من جنس عمق ابن خلدون فيواصلون سياسة الأنظمة التي ثار عليها الشباب للتحرر واستكمال التحرير .فليس يمكن أن يكون إسلامي ثوريا بأداة بدائية هي تحوله إلى داعية عبادات ومواصلة الرؤية التي تطبق كما بين ابن خلدون ضرره. العبادات علاقة بين المؤمن وربه .والإسلام دين تعمير الأرض بقيم الاستخلاف .وتعمير الأرض بقيم الاستخلاف هو موضوع المقدمة التي تشخص الأدواء وتقدم الدواء .ويكفي ابن خلدون أنه قد اكتشف هذه القوانين الخمسة التي من دونها لا معنى لسياسة الحياة الإنسانية في الدارين أولهما شرط ثانيتهما حقا. فالحساب الأخروي موضوعه الأعمال الدنيوية وليس العبادات وحدها .والعبادات يمكن أن يكون العفو الإلهي فيها تفضلا منه .لكن الأعمال بقيمها-مثل الاتقان وعدم الغش وعدم التطفيف في الميزان -تلك هي الجرائم التي لا مسامحة فيها والله ذكر ذلك -لأنها علاقة بين البشر وهو حريص على العدل بينهم. لكن المسلمين بسبب الانحطاط وتحريف القرآن والحديث قلبوا العلاقة فجعلوا الدين وكأنه مجرد عبادات بدون فوائدها الروحية .فتجده يصلي ويكذب ويغش ويسرق ويطفف ويخون ويغدر وينافق ويقبل العبودية للمستبدين والفاسدين ويتصور أن مجرد حجة ستغسل ذنوبه .هل هذا إسلام؟ هل هذا دين؟ فساد واستبداد عامان. لا يمكن في شعوب مسلمة حقا أن يحكمها السيسي أو نظرائه من حكام العرب .لو لم يكونوا أفسد منه لما رضوا به .الشعب المصري وكل الشعوب العربية التي تسكت على ما أبو يعرب المرزوقي 24 الأسماء والبيان
-- يحصل لها تستحق أكثر مما يحصل لها لأن الله لما يعاقب القرى التي يدمرها لا يدمرها ظلما بل لأن الشعوب رضيت بحكم من يفسق فيها. أبو يعرب المرزوقي 25 الأسماء والبيان
-- فلنجمل الآن :أليس من العجيب أن يزعم أحد-أنا-أن مقدمة ابن خلدون مازالت صالحة لتفسير ظاهرات يظنها الناس لفرط حداثتها لا تقبل التفسير بفكر من نهايات القرون الوسطى؟ ألا يتهم من يفعل ذلك بالماضوية؟ طبعا يتهم بها لكن متهميه هم عادة من مثقفي العرب الذين تغلب عليهم الثقافة الصحفية .ذلك أن ابن خلدون أقل ماضوية ممن يعاد إليهم حتى في أحدث صيحات الفكر الغربي. فسواء اكتفينا بمن يعاد إليهم من مفكري العرب عند نحب العرب أصحاب هذه الدعوى أو تجاوزنا ذلك خاصة إلى مفكري الغرب الذين يهتدون بفكرهم فإن الحصيلة تجعل ابن خلدون أولى بالعودة إليه منهم جميعا .لكن قصدي ليس الدفاع عن موقفي لأني لا أحدد نهجي بآراء غيري في ما أفعل بـالمنهج والبحث عما أعتقد أنه يوصل إلى الحقيقة بصرف النظر قناعاتي الأولية وإلا لكان البحث عديم المعنى. دافعي هو بيان أن المعاصرة ليست في موضوع الكلام بل في كلام الموضوع خاصة إذا كان الموضوع كلاما لعالم جليل .فلا يوجد مفكر كبير مرتهن بعصره وإلا لمات معه .بل كل مفكر كبير متجاوز لزمانه دائما تجاوزين :ففيه كل الماضي الذي له صلة بفنه وكل المستقبل الذي له صلة بفنه .فهو من حلقات فنه حتى لو فقدت مساهمته دورها الموجب. فالسلب أيضا صالح .وقد بين أرسطو في مقالة الألف الكبرى من الميتافيزيقا في استعراضه لمن تقدم عليه ليختبر ما توصل إليه أن ماضي الفكر مفيد إيجابا وسلبا .فالإيجابي يعني ما يصلح ليكون أساسا لتفسير الظاهرة موضوع البحث نبني عليه .وما ليس بصالح يفيدنا في تجنب الخطأ الممكن في محاولتنا. وهذه الرؤية النقدية يسميها القرآن منهج \"التصديق والهيمنة\" أي إن استعراض القرآن للأديان السابقة في رؤاها عند أهلها هدفه تصديق الصادق من هذه الرؤى بعرضها على ما أبو يعرب المرزوقي 26 الأسماء والبيان
-- يعتبره الديني الواحد في الأديان المختلفة والسيطرة على ما ليس بصادق لتجاوزه نحو الحقيقة التي يطلبها النقد إذا كان هو بدروه صادقا ويؤمن بأنه ليس حقيقة مطلقة. ولأعد إلى موضوعي .طبعا فلو عدنا إلى أي مفكر قديم أو وسيط من منطلق اعيان المضمون الذي تكلم عليه وليس من منطلق المفهوم الذي تعتبر تلك الأعيان عينات ما صدقه فإن محاولة تجاوز عصره لما تقدم عليه أو لما تأخر عنه يصبح أمرا مستحيلا لأننا حينها نجمد المفهوم فلا نبقي على ما فيه من كلية وتجريد يجعله فوق أعيان ما صدقه .ما نعود إليه قديم .لكن العودة إليه تكون بعين العائد إليه ومن رؤية الممكن الذي فتحه أفق عمل المتعود إليه. ومن دون ذلك يصبح التأويل في هذه الحالة بل والتفكير مستحيلين .ولا توجد كلمة أو مفهوم يكون مجرد علامة من جنس العلامة التي يضعها بائع الخضر على مواد تجارته في السوق فيها علاقة مباشرة بين العلامة المحددة لاسم المادة التي يبيعها وسعرها بل المفهوم هو دائما رمز لا يحيل بذاته على دلالة مرجعية بل بمنزلته في النظام الرمزي المناظر للنظام المرموز إليه به. ولذلك فلا بد من النظر إلى ما فعله ابن خلدون بهذا المنظور .فإذا ظن عمله استقرائيا من وقائع في عصره ولا تتجاوزه وظنت هذه الوقائع بنت لحظتها وليست ظاهرات ملازمة بنوعها وليس بعينها للظاهرة التي يتكلم فيها صح رأي عبد الرحمن بدوي وطه حسين أما إذ كان كما وصفت وكانت الظاهرات كما حددت فالأمر مختلف. ولست بحاجة لمزيد من الكلام في الأمر فهذا ابن خلدون بنفسه يحدد نظريته في المقوم الرابع للظاهرة التي يدرسها بالمعنى الذي اعتمدته في محاولة فهمها\" :ومنها (من المقومات الذاتية للإنسان من حيث هو عضو في جماعة) العمران وهو المعاش كما سنبينه ومن هذا العمران ما يكون بدويا ( )....ومنه ما يكون حضريا( )...وله في كل هذه الأحوال أمور تعرض من حيث الاجتماع عروضا ذاتيا ( .\")..ويأتي تحديد المسائل مباشرة .وما يعنيني في هذا النص كلمتان: أبو يعرب المرزوقي 27 الأسماء والبيان
-- • \"من حيث الاجتماع\". • و\"عروضا ذاتيا\". والكلمتان المفتاحان هما \"من حيث\" و\"ذاتيا\" .وهذان مفهومان أساسيان في ميتافيزيقا أرسطو بل هما أساس كل النظريات الفلسفية قديمها وحديثها .فالأول يحدد ماهية الموضوع والثاني يحدد عرضه الذاتي .وما أعجب له ليس موقف طه حسين فهو ليس فيلسوفا بل موقف بدوي الذي هو فيلسوف .ولا يمكن أن يكون جاهلا بأرسطو وبهذين المعنيين. واستعمال ابن خلدون لهما في كلامه على علمه الجديد يعني أنه بهما يقصد أن ما يدرسه يجانس الطبائع وليس مجرد جزئيات عرضية عامة بل هي ذاتيات لظاهرات لا تختلف عن الظاهرات الطبيعية في موقفه الجديد من التاريخ بوصفه موضوعا للمعرفة الفلسفية بخلاف ما سائدا في أبستمولوجيا عصره التي كانت تستثنيه لكون موضوعه ليس كليا ولا ذاتيا بل جزئي وعرضي (راجع أرسطو كتاب الشعر حيث يقدم الأدب لأن موضوعه الممكن على التاريخ لأن موضوعه العيني والعرضي). والثوري عند ابن خلدون هو في تحديد \"حيث\" .لم يكن الفلاسفة في عصره اتباعا لأرسطو يعتبرون أن حيثية \"الاجتماع\" تظفي على الإنسان صفات خاصة تستحق أن تكون موضوعا قائما بذاته مثلما تفعل الرياضيات مثلا مع الجرم الطبيعي عندما تحيثه بالطول أو العرض أـو العمق في الهندسة مثلا .كانوا يتصورون إذا تجاوزنا الطبيعي في الإنسان من حيث هو فرد أي العضوي والعقلي (حيوان ناطق) الباقي ليس له طبيعة فبقي خارج العلم الفلسفي الذي موضوعه الكلي والمقومات الذاتية. موضوع ابن خلدون لم يكن موجودا في منظومة علوم عصره الفلسفية رغم أن الفلسفة لم تكن مهملة لدراسة السياسة والأخلاق والاقتصاد .ولكنها تدرسها بوصفها علوما عملية لا ترقى لمستوى العلوم النظرية الثلاثة التي كانوا يقصرون مفهوم العلم النظري عليها: الطبيعيات والرياضيات والإلهيات .وابن خلدون أضاف الاجتماعيات :وتلك ثورته في جعل \"من حيث الاجتماع\" موضوعا علميا. أبو يعرب المرزوقي 28 الأسماء والبيان
-- وهذا الـ\"من حيث الاجتماع\" الذي يعرض \"عروضا ذاتيا\" هو الثورة الخلدونية .بمعنى أنه لا يدرس وقائع عرضية بل أعراضا ذاتية .ودرسه ليس من جنس الحكمة العملية حتى وإن كان مآله إليها بل هو من الحكمة النظرية أي مثل الطبيعيات والرياضيات والإلهيات في فلسفة عصره التي تدرس الأعراض الذاتية دون سواها وتستثني التاريخ منها باعتباره لا يتجاوز الجزئي والعرضي العام. الآن وقد فرغنا من تأسيس منظور القراءة التي نستعملها نعود إلى المخمس الأساسي في نظرية ابن خلدون أو في نظرية الإنسان من حيث ما يعرض له عروضا ذاتيا بمقتضى العمران والاجتماع وما يترتب على هذا الـ\"من حيث\" من أعراض ذاتية هي موضوع البرهان الذي يتكلم عليه ابن خلدون :والبرهان لا يقع إلا عليها لأن الماهيات تحدس وتوضع وضعا في فلسفة عصره فيعتبرون حدودها علما بدهيا. وكل ثورة ابن تيمية قبل ابن خلدون هي مساءلة \"تحدس\" و\"توضع\" وظن الحدود عملا بدهيا يبني عليه الفلاسفة نظرية البرهان .وهو ما يستعمله الجابري دون فهم عميق لتوهمه أن البرهان الذي يتكلم عليه ابن رشد ممكن إذا جادلنا في بدهية الحدود الأولية. ولا يمكن أن نفهم علة الثورة التي أنسبها إلى ابن تيمية والضرورية لفهم ابن خلدون هي فهم خطأ كثيرا ما تسمع المتكلمين في العلم يرددونه: هل القضية العلمية قضية خبرية حقا أم هي جواب شرط؟ بمعنى إذا صح الحدس والفرض الواضع للحد فكان التعريف مطابقا لحقيقة المحدود؟ ففي العلوم النظرية القديمة الثلاثة: • الماهيات الطبيعية تعتبر حدسية بدهية ومن ثم فهي عقدية وليست علمية. • والماهيات الرياضية تعتبر بدهية فرضا وإذن فهي من جنس التسليم وليس العقد. • والماهيات في الإلهيات مستنتجة منهما بمنطق التعليل أي إن ما يثبت في الطبيعيات وفي الرياضيات لا يمكن ألا يكون ذا علة تجعله على ما هو عليه .وذلك هو موضوع البحث في الإلهيات .وهي مستويات مختلفة. أبو يعرب المرزوقي 29 الأسماء والبيان
-- فالأولى عقدية والثانية تسليمية والثالثة تالية عنهما بحسب ما بنيت عليه من مقدمات. فما استنتج من العقدية عقدي .وما استنتج من التسليمي تسليمي .ومن ثم فتعريف الإنسان في الفلسفة تعريف عقدي .لكن ابن تيمية يعتبر الماهية حدا مثل الاسم لا يعطينا حقيقة الإنسان بل هو تحده بالقياس إلى غيره من الحيوانات مثلما نحد قطعة أرض بالقياس إلى قطع محيطة. ولو اعتبر ابن خلدون \"حيوان ناطق\" ماهية تعطينا حقيقة الإنسان التي يبني عليها علمه لما غير تعريفه ليجعل علم الظاهرات الإنسانية لا تعرف بحيوان ناطق بل بـ\"من حيث الاجتماع .وإذن فهو لا يعرفه من حيث هو موضوع علم الطبيعة حتى وإن كان علمه لا يختلف عن علم الطبيعة بل من حيث هو موضوع علم الاجتماع .وهو العلم الذي كان مفقودا وحال دون اعتبار التاريخ علما فلسفيا. أما المفهوم التسليمي وليس العقدي فمثاله أي شكل هندسي وليكن مثالنا المثلث في الهندسة لما له من دور أساسي في هندسة إقليدس .فإذا عرف بوصفه محدودا بثلاثة قطع مستقيمة على سطح مبسوط فإنه تسليم بحد للمثلث فيؤدي إلى أن يكون من أعراضه الذاتية أي التي تعود إليه بمقتضى ذاته كما حددت في تعريف المثلث أن يكون مجموع زواياه 180 درجة. وهذا النوع الثاني من الحدود الفرضية أو التسليمية والتي ليست عقدية هي من جنس \"من حيث\" الخلدونية أي إن موضوعها ليس ذاتا طبيعية بل ذات من صنع فعل التجريد الذي يختار صفة من صفات الجرم الطبيعي ويجعلها موضوعا وكأنها ذات مثل \"من حيث الاجتماع\" .وهنا من حيث هي من حيث ما يجرد من \"شكل هندسي\" من الجرم الطبيعي. وهنا يتدخل ابن تيمية مرة ثانية ليجادل في التسليمي كما جادل في العقدي .فيرفض الفهم الأرسطي لموضوع الرياضيات كما رفض مفهومه لموضوع الطبيعيات .ويجعل الأمرين نوعين من \"جواب الشرط\" وليس من جنس القضية الخبرية: • إذا صح الحد الطبيعي كان كذا وكذا. أبو يعرب المرزوقي 30 الأسماء والبيان
-- • إذا صح التسليم الرياضي كان كذا وكذا. والتأكد من الشرط في الطبيعي تجريبي أي لا نستطيع التأكد من صحة الحد إلا بالتجربة للمطابقة بين ما في الذهن وما في العين .وهذا ناقص دائما لأنه استقراء امبيريقي .ولا يمكن أن يوجد فيه برهان .وهو لسوء الحظ ما لا يمكن أن يفهمه ابن رشد وما أعجب كيف لم يفهمه الجابري في كلامه على البرهان .لا برهان في علوم الطبيعة كلها جواب شرط مقدار صحتها هو مقدار التأكد من الشرط وهو دائما تأكد نسبي بحسب أدوات الإدراك التقنية لمعطيات التجربة. ولما كان الشرط مستحيل التأكد منه فإن الجواب يبقى دائما مؤقتا .وهو قد ينقض أو قد يزداد دقة بتقدم التجربة .أما في الرياضيات فالثورة الكبرى هي رفض الحل الأرسطي. فموضوعاتها ليست أشكالا مجردة من الجرم الطبيعي بل هي مقدرات ذهنية .ومن ثم فقضاياها جواب شرط لا يحتاج إلى التأكد منه لأنه فرضي خالص. ولذلك فيمكن أن توجد هندسة غير هندسة اقليدس ويمكن أن توجد رياضيات في غير المكاني لأنها مقدرات أيا كانت مادة التقدير الذهني .ويكفي لتجاوز الرؤية الأرسطية مطبقة على هندسة أقليديس أن نفترض أن المستقيم مقعر أو محدب حتى يصبح المثلث مجموع زواياه أقل أو أكثر من 180درجة ونستغني عن المسلمة الخامسة التي وضعها اقليدس لتأسيس مفهوم توازي المستقيمات .وهذا المقدر الذهني هو الوحيد الذي فيها معرفة كلية محضة غنية عن التجربة. والآن فـما حد الإنسان الذي يستنتج منه ابن خلدون قابلية النظر إليه من \"حيث الاجتماع\" وليس من حيث تعريفه الطبيعي الذي كان سائدا عند الفلاسفة رغم كونه يشترك معهم في تعريفه كذلك بكونه مدنيا بالطبع .لكنه يضيف إليه ما ليس بالطبع :فهو يعرفه \"رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\". فـ\"مدني بالطبع\" ليس فيها مفهوم الرئاسة .و\"حيوان عاقل\" ليس فيها بـ\"مقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" .فمن أين أتى ابن خلدون بهذين الزيادتين اللتين تفصلان فكره أبو يعرب المرزوقي 31 الأسماء والبيان
-- فصلا قاطعا عن فلسفة عصره التي لم تتجاوز أرسطو فتجاوز بهما ارسطو رغم استعماله لمصطلحاته (وهو ما غلط بدوي) ولكن في دلالات مختلفة تماما. فرغم أنه صاغ المسلمات التي بنى عليها \"من حيث الاجتماع\" في تعريف الظاهرة التي يدرسها بعبارة خبرية \"لما كان \"..فإن القصد شرط .فلكأنه قال \"إذا سلمنا أن الإنسان قابل لأن يتحدد بالصفات الخمس التي تترتب على من \"حيث الاجتماع\" فيمكن الاعتماد على ما صار أعراضا ذاتية تدرس ويبرهن عليها كما في علوم الطبيعة. ولذلك فهو لم يستعمل \"حيوان ناطق\" بل استعمل \"التميز بالفكر\" ثم ذكر \"التميز بالسعي في المعاش\" و\"الحكم والدولة\" ثم ميز بين \"نحل العيش البدوي\" و\"نحل العيش الحضري\" وهو إذن تعريف مشتق من \"من حيث الاجتماع\" أي من جنس التعريف التسليمي في الرياضيات وليس من جنس التعريف العقدي في الطبيعيات .لكأنه قال :إذا سلمنا أن للإنسان ذاتيات من حيث كونه \"اجتماعيا\" أمكن أن نؤسس هذا العلم الجديد الذي كان ابن خلدون أنه غير مسبوق فيه. ولذلك فالمقدمة مؤلفة من قضايا لها بنية الفرضي الاستنتاجي :إذا كان كذا فكذا .وهي بنية الشرطية إما الوصلية أو الفصلية وليست بنية المحلية العادية .أما الأعيان المذكورة فيه فهي أمثلة توضيحية وليست مواد يستقرأ منها نتائج استقرائية .وذلك هو ما جعلني أستطيع استخراج الاجتماع النظري وأتوقع بناء عليه. فالكتاب كان عنوانه \"الاجتماع النظري الخلدوني والتاريخ العربي المعاصر\" .وفيه توقعت أن تكون الجزائر وفلسطين محددتين لمستقل ما يسمى بالوطن العربي وما صرت أفضل تسميته بإقليم الوسط الذي هو قلب دار الإسلام لأن أهله ليسوا كلهم عربا بل هم خاصة عرب وأمازيغ وكرد وأتراك أي من حافظوا عليه ضد الغزوات التي تلت سقوط الخلافة الثالثة (العباسية) وثم الاندلس وعلى إسلامه إلى مرحلة الاستئناف التي نعيشها حاليا. ونظام حكم الجزائر كما أسلفت يمثل في توقعي مرض الأنظمة .و\"نظام\" مقاومة فلسطين تمثل مرض المعارضات .فإذا تحررت الأمة من مرض الأنظمة الحاكمة أي العسكر والقبيلة أبو يعرب المرزوقي 32 الأسماء والبيان
-- ومن مرض المعارضة المقاومة أي الحركية والطائفة فإن الإسلام سيستأنف دوره الكوني فتصبح الأمة قطبا كونيا يحقق التوازن في نظام العالم الجديد. أبو يعرب المرزوقي 33 الأسماء والبيان
-- لم أفرغ بعد من بيان دلالة المخمس أي من الباب 2إلى الباب 6بعد أن فصلت الباب الأول باعتباره شاملا للمخمس .محددا للشرطين: • الجغرافي المناخي في علاقة بشرط كيان الإنسان العضوي • والروحي المعرفي والقيمي في علاقة بشرط قيام الإنسان الروحي. وما بينهما من تفاعل في نوعي العمران ونوعي الاجتماع .فهذا المخمس قلبه الباب الرابع أي باب العمران الحضري أو المدينة .وقبله شرط نشأة الدولة وبعده شرط نشأة الاقتصاد المعوض للعيش على ما تنتجه الطبيعة دون عمل حقيقي للإنسان عدا الجني والرعي. والعرب لسوء الحظ ما زالوا هنا يجنون ما تنتجه الطبيعة سواء كان فوق الأرض أو تحتها دون عمل يذكر. تكلمت على المسارين الطردي من 2إلى 4والعكسي من 6إلى 4وبينت دور المسار الأول في تكوين الدولة بوصفها شرط الحماية وبينت دور الثاني في تكوينها بوصفها شرط الرعاية .واليوم أضيف أهم ثمرة من ثمرات قوانين ابن خلدون وتتمثل في الحماية والرعاية باعتبارهما فرض عين للأحرار أو فرض كفاية للعبيد. يقول ابن خلدون إن من بيدهم الدولة إذا صاروا مسيطرين بدلا من الجماعة على الحماية والرعاية فإن الجماعة تصبح عيالا وعبيدا لهـم في الحماية وفي الرعاية فلا يبقون أحرارا لأنهم منزوعو السلاح وتابعون لمن بيدهم السلطة في سد حاجاتهم .ومن ثم فهم عبيد وليسوا أحرارا .وهو يعتبر أخذ الضرائب والإتاوات التي لم يحددها الشرع أي ما يتجاوز الزكاة عدوانا وظلما تفرضهما الدولة بالقوة. وقد لا حظ ابن خلدون أن من بيدهم الدولة في عصره كانوا يعتمدون على المرتزقة في حماية أنظمتهم من الشعوب وحتى في الحماية الخارجية فكانت لحماية سهمهم مما يستمد من الثروات من الشعوب والأرض وليس لأن البلاد وطن أو لحماية السيادة .الدولة كانت أبو يعرب المرزوقي 34 الأسماء والبيان
-- بالأساس جابية وليست حامية .فالمقابلة بين المخزن والسيبة ليست خاصة بالمغرب الأقصى بل هي من خصائص الدولة التي تمتد جبايتها إلى حيث تمتد قدرتها على فرضها.. قلنا إن المقدمة بحث ذو نموذج هندسي :فلنفرض الآن أن المدينة التي هي قلب هذا المخمس هي قمة هرم ذي قاعدة مربعة: • /1عمران بدوي. • /2سلطة عصبية ذات شوكة (قبل 3أي المدينة). • /4اقتصاد وصناعات. • /5علوم عقلية ونقلية ولغة وتربية وفنون. فسنجد أربعة سفوح تصعد من القاعدة إلى قمة الهرم .كل سفح سطح مثلث الزوايا. المثلث الأول هو سفح المسار الطردي من الباب ( 2البداوة) مرورا بالباب 3إلى الباب 4 (المدينة)=عصبية جامعة حامية= قاعدة السفح الأول وقمته السلطة السياسية والمدينة غاية .يقابله المثلث الثانوي هو سفح المسار العكسي من الباب ( 6العلوم إلخ )..مرورا بـالباب 5إلى الباب ( 4المدينة). وتلك قاعدة السفح الثاني وقمته السلطة الاقتصادية والمدنية غاية .والجمع بين السلطتين السياسية والاقتصادية هي إذن دلالة المدينة أعني أن الغاية هي القوتان السياسية والاقتصادية .وهما معنى المدينة والمدنية في نظرية ابن خلدون والدليل القاطع هو قوله بتبعية البداوة للمدينة وهي في خدمتها. وهي في خدمتها سياسيا واقتصاديا .فسياسيا يعتمد الحكام عليهم في تكوين جيوشهم التي تحميهم ضد شعوبهم لما فيهم من بعد عن الحضارة والترف ومن ثم لما لهم من قوة عضوية وحب \"للعضرطة\" واقتصاديا لأنهم يقبلون بما يعتبره دليل تبعية أعني العناية بالزراعة والفلاحة لسد حاجات المدن أسواقا لمنتجهم. وهذا الدور الذي تؤديه البداية في المسار الطردي تؤديه المعرفة عكسه في المسار :ومعنى ذلك أن الاقتصاد مدين للعلوم العقلية .وأن السلطة مدينة للعلوم النقلية .فالعلوم العقلية أبو يعرب المرزوقي 35 الأسماء والبيان
-- هي أساس الصناعات التي تنتج الثروة .والعلوم النقلية هي أساس \"الشرعية\" للعصبيات الحاكمة .وهذا مضمون السفح الثاني. والسفحان الآخران لكل منهما رجل في السفحين اللذين وصفنا وهما متقابلان كذلك. ولنأخذ السفح الذي فيه البداوة والعلوم قاعدة لنفس القمة .وهذا من إبداع ابن خلدون في نظرية التربية :كيف يمكن أن تحافظ التربية على عنفوان عضوي كأنها بداوة وعلى إبداع معرفي كأنها حضارة .وهذا هو الشرط الأول لمعاني الإنسانية. والسفح الأخير هو الوجه الثاني بين الدولة والاقتصاد أو بين قوة السياسة وقوة الثروة قاعدة للسفح الأخير .وهنا أيضا يبدع ابن خلدون في نظرية عنفوان معاني الإنسانية: إذا كانت السياسة تنظيم العمل والإنتاج ولا تسهم فيه لتحوله إلى سلب الاقتصاد حريته بحماية الملكية حصل كان الحكم للأحرار. فينتج من ثم أن منع الدولة والاقتصاد من التحول إلى أداتي استعباد يتأسسان على التربية التحررية والحكم الديموقراطي أي إن افساد معاني الإنسانية بالمعنى الخلدوني علته العنف في التربية وهو قاض على العنفوان الروحي والعنف في الحكم وهو قاض على العنفوان العضوي :ثورته في التربية والحكم. فإذا جمعت السفوح الأربعة حصلت لك ثورة الثورات التي لم يرها من هم \"صم بكم عمي فهم لا يعقلون\" من قراء ابن خلدون بحثا عن سبق بالقياس إلى اوغست كونت أو إلى ماركس .وهو كما اسلفت لا يقبل المقارنة مع أي منهما لأنه ليس سابقا لهما فحسب بل هو متجاوز لكل اخطائهما العلمية والفلسفية لعدم قوله بنظرية المعرفة المطابقة بل يعتبر نظرياته معرفة نسبية واجتهادية. وإليك الدليل :فقمة الهرم أي المدينة صارت في الحقيقة قمة مركبة من هرم مصغر له قاعدة مربعة وقمة بمعنى أنها تحدد حصيلة-1 :تربية -2+حكم يحفظان معاني الإنسانية العضوية والروحية .وهذا هو نموذج العمران والاجتماع المؤلف من أحرار لأن الإنسان \"رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\". أبو يعرب المرزوقي 36 الأسماء والبيان
-- لكنها في آن مهددة دائما بأن تكون حصيلتها-3 :تربية -4 +حكم يفسدان معاني الإنسانية العضوية والروحية وهذا نموذج العمران والاجتماعي المؤلف من عبيد إذ يصبح الإنسان \"عبدا بطبعه الثاني (مكتسب) بمقتضى نسيان الاستخلاف الذي خلق له\" .وهذه هي حال المسلمين الآن .وحتى لا أطيل سأعيد إيراد نصه. يقول ابن خلدون لبيان علة فساد معاني الإنسانية في التربية والحكم العنيفين\" :ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم: .1سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل. .2وعمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه. .3وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا. .4وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله وصار عيالا على غيره في ذلك. .5بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل سافلين. وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف .واعتبره في كل من يملك امره عليه ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به .وتجد ذلك فيهم استقراء .وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالخرج ومعناه في الاصطلاح المشهور المخابث والكيد وسببه ما قلناه\". من من القراء ينفي أن هذا وصف دقيق لحال المسلمين عامة والعرب على وجه الخصوص؟ وهل يوجد تشخيص أدق من هذا؟ وهل يوجد تعليل أصدق من هذا؟ وهل يوجد بديل إصلاحي أفضل من هذا؟ أعني إصلاح التربية والحكم لحفظ معاني الإنسانية في دار الإسلام؟ أبو يعرب المرزوقي 37 الأسماء والبيان
-- هل يمكن أن نفهم الخنوع الذي دام قرونا وليس عقودا للقبول بالحل الغبي الذي جعل علماء الملة يتصورون أن القبول بشرعية المتغلب علاجا للفوضى وليس جعلها منطلق الفوضى :فعندما نشرع للتغلب نجعله مبدأ الحكم ومبدأ التربية فيصبح كل مرب وكل حاكم منطلقه التغلب :تأسيس لإفساد معاني الإنسانية. وابن خلدون لم يقصر أمر العنف على الضرب بل استعمل كلمة العسف .وهو فرض الإرادة بالتخويف وبالتسويف وبالعنف الرمزي في التربية وفي الحكم على حد سواء ما يفقد الإنسان التعريف الذي أسس عليه ابن خلدون مقدمته وهو تعريف قرآني \"رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" .لم يبق المسلم مسلما. فلا يمكن أن يكون مؤمنا بالله الواحد ثم يخضع لغيره لا يستمد شرعية عمله مما يحدده احترام حدود الله وهي ليست ما فهمه الفقهاء قطع اليد مثلا بل هي التربية والحكم المحافظين على معاني الإنسانية .ولذلك اعتبر ابن خلدون من تفسد فيه هذه المعاني هو من عاد أسفل سافلين وهو تعريف قرآني للخسر. وهذا التعريف القرآني للخسر علاجه هو ما حددته سورة العصر أعني القيم الخمس التي هي-1 :الوعي بالخسر الممكن أو نسيان ما بعث الرسل للذكير به وما يذكر به العقل إذا لم يكن صاحبه من \"الصم البكم العمي الذين لا يعقلون\" ويترتب عليه أربعة فروعي 2للفرد و 2للجماعة والحصيلة معاني الإنسانية. فالفرد لا يكون رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له إذا لم يتحرر من الطاغوت الذي هو عنف التربية والحكم ولم يؤمن بالله وبأنه لا معبود سواه وهو معنى الإيمان والعمل الصالح .والجماعة لا تكون جماعة من الأحرار ما لم تتحرر من الطاغوت وتؤمن بالله وهو معنى التواصي بالحق والتواصي بالصبر. والتواصي بالحق يعني أن الجماعة كلها تسهم في طلب الحقيقة بالاجتهاد والتواصي بالصبر يعني أن الجماعة كلها تسهم في تحقيق الحق بالجهاد .والاجتهاد يعني أن المؤمنين اغنياء أبو يعرب المرزوقي 38 الأسماء والبيان
-- عن كنسية تفكر بدلا منهم وتتعسف عليهم في التربية بالوساطة وأغنياء عمن يحكمهم بالوصاية ضد إرادتهم باسم الله أو باسم القوة. وهذا معنى الشورى :38فالذين استجابوا لربهم تحرروا من معبود سواه ومن ثم فلا يمكن أن يخنعوا لحكم الطغاة .والأمر أمرهم وليس أمر ولي الامر لان ولا الأمر مصدرها توليتهم هم له وإلا لم يكن مولى عليه بقاعدة النساء 58أي الأمانة (لحفظ ولائه لأصحاب الأمر) والعدل أي عدم الاستبداد بالحكم. ولما كان الأمر أمر الجماعة فهي التي تديره بشوراها .الشورى في القرآن ليست المشورة التي يطلبها الحاكم من ذوي الخبرة في مهامه فتكون اختيارية يعمل بها أو لا يعمل هي شورى الجماعة في تسيير أمرها ومنه تعيين من تنوبه لما يقبل أن يكون فرض كفاية من رعاية الشأن العام التي هي فرض عين. مضمون الآية 38من الشورى: .1طبيعة الحكم أو النظام السياسي جمهورية (أمر الجماعة= راس بوبليكا باللاتينية). .2أسلوب الحكم شورى بين الجماعة ديموقراطية (شورى بينهم = ديموقراطية باليونانية) .3وإذن فالقرآن قد عرف طبيعة الحكم وأسلوب الحكم تعريف مؤلفا من مفهومين لاتيني ويوناني جمهورية ديموقراطية. ولا يمكن أن يكون نظام الحكم جمهوريا واسلوب الحكم ديموقراطيا إذا كانت التربية عنيفة وليست حرة تمكن المتعلم من البحث الشخصي والحرية في الاجتهاد فلا يكون مدرد متلق لما يريد المعلم أن يفرضه عليه بسلطة روحية تجعله وسيطا بينه وبين طلب الحقيقة بذاته .فالمعلم الذي يدعي ذلك مستبد كالحاكم. والدليل الحاسم أن الله نبه الرسول بالقول \"إنما أنت مذكر\" أي لا تأتي بعلم معدوم عند المتعلم بل تذكره بعلم في فطرته نسيه .ولست وسيطا بين المؤمنين والله صاحب الرسالة التي كلفت بتبليغها .ثم \"لست عليهم بمسيطر\" أي إنك لست وصيا في الحكم كما أنك لست وسيطا في التربية .نفي لأصل الاستبدادين. أبو يعرب المرزوقي 39 الأسماء والبيان
-- أبو يعرب المرزوقي 40 الأسماء والبيان
Search
Read the Text Version
- 1 - 44
Pages: