Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore الحرب اللطيفة ممهدات لفهمها وشروط لعلاجها_الفصل الرابع_ابو يعرب المرزوقي

الحرب اللطيفة ممهدات لفهمها وشروط لعلاجها_الفصل الرابع_ابو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2017-05-10 06:15:28

Description: ختمت الفصل الثالث من الحرب اللطيفة بما يقد يستنتج منه المتعجل أني ضد علوم الملة. ذلك أننا لم نعد قادرين على التمييز بين ناقديها بحسب الموقف الساعي إلى الإصلاح، والموقف الساعي إلى التهديم.
فقد يتعجل البعض، فيلحظ الموقف من علوم الملة ولا ينظر ما وراءه، فيتصور القصد واحدا. ولهذا ذكرت بخطأ فكر الغرب في محاولة تحقيق الحريتين.
فبدلا من علاج التحريف الديني (الوساطة الكنسية) والسياسي (الحكم بالحق الإلهي)، جعلوا الدين نفسه متهما، ونفوا ما يتعالى على السياسي "فتمكيفل".
الموقف الذي ينبغي تمييزه عما أقدم، هو الذي يريد القيام بنفس الخطأ من الحداثيين العرب، الذين ينسبون حال الأمة إلى الإسلام نفسه وليس إلى تحريفه.

Search

Read the Text Version

‫ممهدات لفهمها وشروط لعلاجها‬

‫ممهدات لفهمها وشروط لعلاجها‬

‫المحتويات‬‫ممهدات لفهمها وشروط لعلاجها ‪1‬‬ ‫تمهيد‪1 :‬‬ ‫هدف المحاولة الابستمولوجية ‪1‬‬ ‫محاولة الغزالي وما ترتب عليها ‪3‬‬ ‫تحليل حل الغزالي معرفيا ‪4‬‬ ‫نقد حلول الغزالي ‪4‬‬ ‫كونية النقد التيمي والخلدوني ‪6‬‬ ‫بنية الفكر المعرفية فرضية ما بعد علمية دائما ‪7‬‬ ‫طبيعة أزمة فكرنا منذ فشل حل الغزالي ‪8‬‬ ‫الخاتمة ‪9‬‬

‫ممهدات لفهمها وشروط لعلاجها‬‫ختمت الفصل الثالث من الحرب اللطيفة بما يقد يستنتج منه المتعجل أني ضد علوم الملة‪.‬‬‫ذلك أننا لم نعد قادرين على التمييز بين ناقديها بحسب الموقف الساعي إلى الإصلاح‪،‬‬ ‫والموقف الساعي إلى التهديم‪.‬‬‫فقد يتعجل البعض‪ ،‬فيلحظ الموقف من علوم الملة ولا ينظر ما وراءه‪ ،‬فيتصور القصد‬ ‫واحدا‪ .‬ولهذا ذكرت بخطأ فكر الغرب في محاولة تحقيق الحريتين‪.‬‬‫فبدلا من علاج التحريف الديني (الوساطة الكنسية) والسياسي (الحكم بالحق الإلهي)‪،‬‬ ‫جعلوا الدين نفسه متهما‪ ،‬ونفوا ما يتعالى على السياسي \"فتمكيفل\"‪.‬‬‫الموقف الذي ينبغي تمييزه عما أقدم‪ ،‬هو الذي يريد القيام بنفس الخطأ من الحداثيين‬ ‫العرب‪ ،‬الذين ينسبون حال الأمة إلى الإسلام نفسه وليس إلى تحريفه‪.‬‬‫وموقفهم هذا طبيعي‪ ،‬لأن فكرهم ببغاوي‪ ،‬يتصورون ما حصل في الغرب هو الحل‪ ،‬ولا يرون‬ ‫أن الغرب نفسه بات اليوم في مآزق وفقد الحريتين بسبب هذا الخلط‪.‬‬‫نقدي لعلوم الملة ليس القصد منه الغاءها‪ ،‬بل هو من جنس إحياء علوم الدين دون أن‬ ‫أدعي أن لي ما للغزالي من قدرة عليه مثله‪ ،‬فلست ادعي منزلة المجتهد في الشرعيات‪.‬‬‫وأكثر من ذلك‪ ،‬نقدي لا يتعلق بمضمونها الديني ‪-‬لأني ليست عالم دين‪ -‬بل هو يتعلق‬ ‫بشكلها الابستمولوجي‪ ،‬ودون تواضع زائف‪ :‬فهذا مجال اختصاصي الأول‪.‬‬‫والجميع يعلم منزلة الغزالي عندي فقد اهتممت بفكره النقدي للفلسفة في شبابي ولا زلت‪.‬‬ ‫لكن الاجتهاد من مميزاته أنه يترك الباب مفتوحا لنقد النقد‪.‬‬ ‫لذلك فهذا الفصل الرابع سأخصصه لست مسائل‪:‬‬ ‫‪10 1‬‬

‫ولأوضح القصد بالعلوم التي تدرس المرجعية ماديا وتاريخيا أو متنا ورواية‪ :‬فكل النقد‬ ‫المزعوم لأدعياء الحداثة يدور حول هذا النوع من الدراسة لإثبات انتحال مزعوم‪.‬‬‫فالبحث في تدوين القرآن والأصيل والمنتحل فيه‪ ،‬أساسه فرضية لا شيء يثبتها‪ :‬بيان أن ما‬ ‫حصل للتوراة والإنجيل ينبغي أن يكون قد حصل مثله للقرآن‪ :‬معيز ولو طارت‪.‬‬‫وليس هذا النوع من البحث مقصودي في هذه الدراسة لعلتين‪ :‬أولا لأن مرجعية الإسلام هي‬ ‫المرجعية الدينية الوحيدة التي كان أهلها من البداية‪ :‬القرآن حددها‪.‬‬‫كانوا على دراية بعلل تحريف الكتب المنزلة السابقة‪ ،‬فكانوا حريصين على توثيقها توثيقا‬ ‫يكاد يكون علميا‪ ،‬بل هم أول من أسس بصورة شبه نسقية نقد النصوص متنا ورواية‪.‬‬‫ولكن هبنا سلمنا جدليا أن بعض الزيادة أو بعض النقصان قد حصلا‪ ،‬فما المشكل عند من‬ ‫لا يقدس المرجعية من العلمانيين ناقدي القرآن والحديث؟‬‫الواضح أن الحداثي الذي يعتقد أن المرجعيات الدينية كلها من أساطير الأولين‪ ،‬ليس‬ ‫هدفه من هذا البحث علميا‪ ،‬بل هو إيديولوجي‪ :‬تشكيك المؤمن لا غير‪.‬‬‫وإذن فالدافع ليس طلب الحقيقة العلمية‪ ،‬بل تعليل موقف إيديولوجي من الدين أولا‬ ‫وموقف عدائي من دين معين ثانيا(الإسلام) في حرب لطيفة خبيثة وليست للإصلاح‪.‬‬‫فدراسة القرآن والحديث الخارجية‪ ،‬التي من هذا النوع‪ ،‬قام بها علماء الإسلام أنفسهم‬ ‫للتوثيق الدقيق ولتحرير القرآن قبليا والحديث بعديا من أي انتحال ممكن‪.‬‬‫والدليل أن أفضل تاريخ علمي حديث للقرآن اعتمد فيه صاحبه وفريقه على دراسات‬ ‫وتفاسير إسلامية متقدمة‪ ،‬وهو أدرى بمنهج نقد النصوص من كل أدعياء الحداثة‪.‬‬‫لذلك فلن أخوض في الدرس المادي والتاريخي للمرجعية بصنفيها (القرآن والسنة)‪،‬‬ ‫وسأهتم بما سأستخرجه من ثغرات ابستمولوجية نتجت عن محاولة الغزالي‪.‬‬ ‫‪10 2‬‬

‫يمكن القول إن محاولة الغزالي‪ ،‬على أهميتها‪ ،‬ضاعفت المشكل بدل حله‪ .‬ولننطلق من‬‫تلخيصه الشخصي لأزمته بمراحلها الخمس من الإيمان الساذج إلى الحل المقترح (المنقذ)‪.‬‬‫والمناخ الروحي العام لهذه المراحل‪ ،‬هو مناخ الشك المعرفي وحتى الوجودي بمرحلتيه‪:‬‬‫الشك المخرج من الإيمان الساذج‪ ،‬والشك المخرج من علاج الشك العقلي واللجوء إلى‬ ‫الإيمان الصوفي‪.‬‬ ‫فالخروج من الإيمان الساذج إلى علم الكلام‪ ،‬هو علاج مستوى الشك الأول‪.‬‬ ‫والخروج من علم الكلام إلى الفلسفة‪ ،‬هو علاج مستوى الشك الثاني‪.‬‬‫ويصل الغزالي الى خيار مغشوش‪ ،‬لم يكن واعيا بطابعه المغشوش لأن ذلك لم يتبين إلا‬‫بعده‪ :‬فالعارية المنهجية من الفلسفة‪ ،‬والعارية المضمونية من التصوف‪ ،‬لهما تبعات كما‬ ‫سنرى أفسدت الحل وشوهته‪.‬‬‫الخيار الأول هو الخيار التعليمي أو الباطني‪ ،‬فحله يتمثل في الدين للظاهر‪ ،‬بإمامة معصومة‬ ‫تحكم العامة وفي العقل للباطن والخاصة‪ .‬لكن الغزالي رفض هذا الحل لصدق إيمانه‪.‬‬‫الخيار الثاني هو الخيار الصوفي‪ ،‬وهو في الحقيقة نفس الحل الباطني ولكن على مستوى‬‫ذاتي وفردي وليس للجماعة ككل‪ .‬ذلك أن غرضه هو إنقاذ نفسه من الضلال بتعليمية‬ ‫القطب بدل الإمام‪.‬‬‫وإذن فهو يعود إلى الحل الجماعي بالتوفيق بين العقل والنقل‪ ،‬ويضع لذلك قانون التأويل‪،‬‬ ‫وجعل المنطق أساسا لكل علوم الملة مع الحل الفردي‪ :‬التصوف‪.‬‬‫فيكون حله‪ :‬التحرر من سفسطائية الكلام بالفلسفة (مسألة منهجية)‪ ،‬والتحرر من قشورية‬‫الفقه بالتصوف (مسألة خلقية)‪ .‬فيكون قد أخذ المنهج المنطقي من حيث الشكل‪ ،‬والأخلاق‬ ‫الصوفية من حيث المضمون‪.‬‬ ‫‪10 3‬‬

‫حل الغزالي إذا بنيناه على أسس معرفية هو كالتالي‪ :‬فكلامه على إحياء علوم الملة يفترض‬‫أنها ماتت‪ ،‬وعلاجه مضمونيا كان بعارية من التصوف (أخلاق التصوف)‪ ،‬ومنهجيا بعارية‬ ‫من الفلسفة (منطق الفلسفة)‪.‬‬‫وقد أثمرت عملية الإحياء الغزالية ثمرات‪ ،‬أهمها خمسة أعمال غيرت \"المشهد العام\" في‬ ‫علوم الملة كلها‪:‬‬ ‫‪-1‬التهافت في الفلسفة عامة‪.‬‬ ‫‪-2‬والفضائح في فلسفة السياسة والدين‪.‬‬ ‫‪-3‬والإحياء في أدواء علوم ا لملة‪.‬‬ ‫‪-4‬والاقتصاد في الاعتقاد في الكلام‪.‬‬ ‫‪-5‬والمستصفى في أصول الفقه‪.‬‬‫كل ما جاء بعد هذه الأعمال‪ ،‬في جل الإنتاج الفكري للأمة‪ ،‬هو من ثمراتها إيجابا أو سلبا‪،‬‬‫أي معها أو ضدها‪ .‬ولذلك فاسم حجة الإسلام يستحقه الغزالي بجدارة لا يجادل فيها‬ ‫عاقل‪.‬‬ ‫ما الذي نعيبه عن حله إذن؟‬‫أساس الحل المضموني (بعارية الأخلاق الصوفية)‪ ،‬والمنهجي (بعارية المنطق الفلسفي)‬ ‫أغفل ما وراء العلاجين من نظرة قد تنتهي إلى التنافي مع العلم والدين‪.‬‬‫وهذه النهاية هي التي أنسب الفضل في بيانها إلى ابن تيمية في فلسفة النظر‪ ،‬وابن خلدون‬ ‫في فلسفة العمل‪.‬‬‫فالأول بحث فيما وراء المنطق والتصوف مما هو في الحقيقة العلمية النظرية‪ ،‬وبين أنه عين‬ ‫سفسطة الكلام وقرمطة الفقه بمنظور فلسفة النظر‪.‬‬‫والثاني بحث فيما وراء المنطق والتصوف مما هو في الحقيقة العلمية العملية‪ ،‬وبين أنه‬ ‫سفسطة الكلام وقرمطة الفقه بمنظور فلسفة العمل‪.‬‬ ‫‪10 4‬‬

‫وإذن فما فر منه الغزالي وقع فيه‪ ،‬أعني أن الفلسفة بشكلها المبني على المنطق الأرسطي‬‫والفقه المبني على الأخلاق الصوفية‪ :‬هما جوهر السفسطة في العقليات والقرمطة في‬ ‫النقليات (ابن تيمية)‪.‬‬‫ذلك أن التحليلات الأولى بمعناها الأرسطي لا تكون أداة معرفة إلا بشرط نظريات‬‫التحليلات الأخيرة بنفس المعنى‪ .‬وهذه تتأسس على ما يتأسس عليه علم الكلام‪ :‬رد الوجود‬ ‫إلى الإدراك‪.‬‬‫والاسم فحسب هو المختلف‪ :‬فرد الوجود إلى الإدراك‪ ،‬يسمى كلاميا قيس الغائب على‬ ‫الشاهد‪ .‬فما في الغائب مما يتجاوز الإدراك ‪-‬خاصة الغيب‪-‬يرد في الكلام إلى الشاهد‪.‬‬‫والأخلاق الصوفية لا تعمل إلا إذا ميزنا بين الرسوم والحقائق‪ .‬والحقائق تزول فيها‬‫الحدود الشرعية لأنها لا تميز بين الموجود والمنشود وبين الضرورة والحرية‪ .‬فننتهي إلى‬ ‫وحدة الوجود التي تتساوى فيها القيم فتلغى‪.‬‬‫وإذا زال الفرق بين الموجود والمنشود‪ ،‬وبين الضرورة والحرية‪ ،‬كما يترتب ذلك على وحدة‬‫وجود‪ ،‬فإن الأخلاق نفسها تزول للقول بالفاتاليسم النافي لفاعلية الإنسان عودة إلى فتوة‬ ‫إبليس المزعومة‪.‬‬‫ولذلك فكم أعجب ممن يتصورون التصوف ممثلا للإنسانية وللتسامح‪ ،‬خلطا بينه وبين‬‫اللامبالاة القيمية‪ .‬فتصوف وحدة الوجود نفي مطلق لمفهوم الحرية والإنسانية‪ :‬إنه محض‬ ‫طبعانية‪.‬‬‫فيكون التصوف في الغاية باطنيا‪ ،‬كون الفلسفة في الغاية سفسطائية‪ :‬فأولا لاوجود لقيم إلا‬ ‫بوصفها أدوات سياسية ورسوم عامية‪ .‬وثانيا الإنسان مقياس لكل شيء‪.‬‬‫تلك هي الأزمة التي نتجت عن حل الغزالي‪ .‬ولم يستطع القرن السادس بأعلامه الأربعة‬ ‫الأشهر‪:‬‬ ‫‪-1‬فيلسوف فقيه (ابن رشد)‬ ‫‪-2‬وفيلسوف متصوف (السهروردي)‬ ‫‪-3‬متكلم متفلسف (الرازي)‬ ‫‪10 5‬‬

‫‪-4‬ومتصوف متفلسف (ابن عربي)‬‫لم يستطيعوا أربعتهم حل المعضلة الغزالية‪ ،‬لأنهم لم يدركوا خطرها وتصوروا العودة إلى‬‫ما قبلها ممكنا‪ ،‬وكلهم نازعوا الغزالي دون أن يدركوا طبيعة ثورته‪ ،‬رغم أنها انتهت إلى‬ ‫طرق مسدودة‪.‬‬‫وهؤلاء هم مؤسسو المدرسية الفلسفية في الحضارة العربية الإسلامية‪ ،‬التي سيطرت خلال‬‫عصر الانحطاط‪ ،‬إذ بها عدنا إلى ما تقدم على حل الغزالي ولكن بما ترتب على حله من‬ ‫معضلات‪.‬‬‫وتاريخ الفكر أيد هذه القراءة‪ :‬فكما قال ابن خلدون مباشرة بعد الرازي‪ ،‬زال الفصل‬ ‫بين الفلسفة والكلام والفصل بين تصوف وحدة الوجود والباطنية‪.‬‬‫وكلتا الملاحظتين موجودتان في عرض ابن خلدون حول تطور الكلام وتطور التصوف في‬ ‫غايتهما التي انتهيا إليها‪ ،‬ولم يكن ذلك في الحالتين محض صدفة‪.‬‬‫تلك حال علوم الملة التي وجدها ابن تيمية‪ ،‬فكان علاجه مباشرة متوجها إلى أصل الداء‪:‬‬‫ما وراء الفلسفة (ما وراء المنطق) وما وراء التصوف (ما وراء الأخلاق) أي ينقص حلي‬ ‫الغزالي‪.‬‬ ‫ولذلك فإنه بالوسع القول إن كل فكر ابن تيمية يرد إلى هذين الماورائين‪:‬‬ ‫هل المنطق يحل مشكل علوم الملة منهجيا؟‬ ‫وهل التصوف يحل مشكلها مضمونيا؟‬‫هذا من حيث دافع ابن تيمية العيني بوصفه مسلما‪ .‬لكن لما كان المشكل متعلقا بما وراء‬‫المنطق وبما وراء الأخلاق‪ ،‬فهو لم يبق خاصا بعلوم الملة ولا يقتصر على دافعه العيني بل‬ ‫يشمل فلسفة النظر والعمل عامة‪.‬‬‫ومن صدف التاريخ السعيدة‪-‬أو من حظي الأسعد‪-‬أن ما عالجه ابن تيمية من منطلق البحث‬‫في ما بعد المنطق وما بعد الأخلاق بمنظور فلسفة النظر‪ ،‬عالجه ابن خلدون بمنظور فلسفة‬ ‫العمل‪.‬‬ ‫‪10 6‬‬

‫الأول انطلق من فلسفة النظر والعقيدة‪ ،‬والثاني انطلق من فلسفة العمل والشريعة‪.‬‬ ‫الأول أحدث نقلة ثورية في فلسفة النظر‪ .‬والثاني أحدثها في فلسفة العمل‪.‬‬‫ذلك ما أعتبره أهم نتيجة وصلت إليها في مشواري الأكاديمي‪ .‬وسيثبت الفكر الغربي‬‫خاصة‪-‬بعد أن صارت أزمة حضارتنا بؤرة أزمة تاريخية كونية‪-‬أنها حدثت كما وصفتها‪.‬‬ ‫وقد بدأوا يدركون أهمية فكر ابن تيمية‪.‬‬‫وعندما أتكلم على الغزالي أو ابن تيمية أو ابن خلدون‪ ،‬فليس دافعي أن أرضي زيدا أو‬ ‫عمرو بل تتبع النظام الابستيمولوجي الذي يحدد مراحل الفكر تحديدا بنيويا‪.‬‬‫فكم سئمت الكلام في فكرنا وكأنه مقبرة مهملة أو كدس فضلات‪ ،‬كحال مدننا ليس لها نظام‬ ‫ذاتي وبنية منطقية قابلة لأن تستنتج من مبادئ معدودة مساره التاريخي المنتظم‪.‬‬‫ومن الخطأ تصور هذا النظام ظاهرة ذات وجود ذاتي خارج الفرضيات التي تقترحها نظاما‬‫لصيرورة الفكر‪ .‬هي فرضية علمية يبدعها العقل‪ ،‬لتكون كما قال الخليل في نظريته‬ ‫اللسانية تخيلا لما دار في خلد مهندس مفترض‪.‬‬‫فقد افترض الخليل أن اللسان بيت وضعه مهندس‪ ،‬وافترض أنه محله‪ ،‬وسأل نفسه ما‬ ‫الخطة التي يمكن أن تكون النموذج الذي بنى على منواله صاحب البيت البيتَ؟‬‫ونحن نحاكي الخليل‪ ،‬فنفترض أن تاريخ فكرنا بيت‪ ،‬وأن له مهندسا وضع نظامه‬‫الابستيمولوجي‪ ،‬المولد للمفهومات بعضها من البعض‪ ،‬ونعرض هذا الفرض لفهم مراحل‬ ‫تطور الفكر‪.‬‬‫منطلقي هو التالي‪ :‬نحن الآن في لحظة شبيهة باللحظة التي قدم فيها الغزالي حليه‪ ،‬بل هي‬ ‫أكثر تعقيدا لأن الأمة في عصر الغزالي لم تفقد سلطانها كحالها الآن‪.‬‬‫لكنه هو عالج مشكلا معرفيا وعقديا دون أن تكون الأمة في أزمة وجودية بالدرجة التي‬ ‫هي عليها الآن‪ .‬ففي مثل هذه الحالة يتحول المحافظة دون الجرأة النظرية‪.‬‬‫ولعلمي بذلك‪ ،‬أحاول أن \"أعالج العين الرمدة\" (باللهجة التونسية) أي بحذر شديد حتى‬ ‫أتجنب المفعول العكسي‪ ،‬لئلا يعتبر السعي إلى الإصلاح تهديما‪.‬‬ ‫‪10 7‬‬

‫لكني مهما حاولت الحذر فلا بد أن أعلن وبصورة لا لبس فيها‪ :‬لم يعد شيء من علوم الملة‬ ‫مضمونا ومنهجا‪ ،‬قابلا لأن يستجيب لأي من حاجبات الأمة الراهنة‪.‬‬‫فالأزمة الحالية إذا قورنت بالتي عالجها الغزالي‪ ،‬تجاوزت خطورتها بأكثر من ألف في المائة‪،‬‬ ‫لأن العلوم الخمسة أصبحت تاريخ تراث ميت لا علوما حية‪.‬‬‫ولا أعني بفقدان الأمة المعنى السياسي للسلطان فحسب‪ ،‬بل السلطان بالمعني المعرفي أي‬ ‫القدرة على التعامل مع الآفاق (الطبيعة) والأنفس (التاريخ)‪.‬‬‫وهذا السلطان هو سلطان العلم وتطبيقاته‪ .‬كل علوم الملة الخمسة (التفسير والكلام‬ ‫والفلسفة والفقه والتصوف) ثرثرة لم يعد لها أدنى اثر في الآفاق والأنفس‪.‬‬‫أعلم أن الكثير سيجادل في حصري علوم الملة في خمسة‪ .‬ومن يفعل يغفل استثنائي دراسة‬ ‫المرجعية خارجيا‪ ،‬أي نصها وتاريخها فهذه علوم توابع أداتية لتلك‪.‬‬‫وهي ليست ملية ككل العلوم المساعدة‪ ،‬أنها تشمل الملي والكوني‪ .‬فاللسان والبيان والتاريخ‬‫ومنهج التجريب وطرق الاستدلال‪ ،‬كلها أدوات كونية بشكلها‪ ،‬حتى وإن تعينت فاختلفت‬ ‫بمضمونها‪.‬‬‫سأعتبر هذا الفصل الرابع مدخلا لما أنوي الكلام فيه‪ ،‬أي في ضرورة عملية مناظرة لثورة‬ ‫الشباب السياسية المطالبة بالحرية والكرامة‪ :‬ثورة معرفية‪.‬‬‫ثورة الشباب السياسية قد استمدت شعاراتها من الشعر العربي مترجما للقرآن الكريم‪-‬‬ ‫بيتي الشابي تأويل للقضاء والقدر بترجمة سنة التغيير القرآنية‪.‬‬‫فلتكن ثورة الشيوخ مستمدة شعاراتها من فكر المدرسة الفلسفية النقدية‪ ،‬فتترجم علميا‬ ‫تصور القرآن الكريم لسنن المعرفة التي تبين الحق‪ :‬فصلت ‪.53‬‬‫فالشعر لسان حال الشباب‪ ،‬والعلم لسان حال الشيوخ‪ .‬والحضارات عمليا تستمد عنفوانها‬ ‫الحيوي من الشباب‪ ،‬والشعر ونضوجها العقلي من الشيوخ والعلم‪.‬‬ ‫‪10 8‬‬

‫وختاما فإن البحث سيخصص لكل علم من العلوم الخمسة فصلا‪ ،‬ويختم بفصل جامع لتكون‬ ‫فصول المسألة عشرة إن وفقنا الله في الذهاب بالعلاج إلى غايته‪.‬‬ ‫والفصول الموالية هي‪:‬‬‫والفصل الخاتم يتعلق بمعنى استرداد سلطان الأمة على الآفاق وعلى الأنفس‪ ،‬أي القدرة‬ ‫الإبداعية في العلم بقوانين العلوم الطبيعية‪ ،‬وفي العلم بقوانين العلوم الإنسانية‪.‬‬‫وتلك هي أدوات الحرب اللطيفة التي يمكن أن تغني عن الحرب العنيفة‪ ،‬أو إن حصلت‪،‬‬ ‫تكون ضامنة لشروط النصر الذي لدور الإنسان والباقي من الله وحده‪.‬‬‫وإذا كان الكلام والتصوف علمين زائفين‪ ،‬فهما يزيفان علمين حقيقيين هما ما قضيا عليه‪:‬‬ ‫أي فلسفة التاريخ وفلسفة الدين‪ .‬فالكلام والتصوف ألغياهما‪.‬‬‫وإذن فالبحث يعالج الفلسفة (ومعها علوم الطبيعة) والفقه (ومعه علوم الشريعة أو‬ ‫الأنظمة السياسية والقانونية) ويحيي فلسفة الدين وفلسفة التاريخ‪.‬‬ ‫ماذا يعني احياء فلسفة الدين وفلسفة التاريخ؟‬‫اعتبار الكلام والتصوف علمين مزيفين يعني أن الأول تحريف لفلسفة الدين‪ ،‬والثاني‬ ‫لفلسفة التاريخ‪.‬‬‫فعندما يعرف المتكلم علمه بكونه دفاعا عن العقيدة بالعقل‪ ،‬يخفي كذبة لا يصدقها عاقل‪.‬‬ ‫لوكان الإيمان يقبل التأسيس العقلي لاستغنينا عنه وعن الوحي‪.‬‬‫وفي الحقيقة هو لا يدافع عن الدين‪ ،‬بل عن مذهب يدعي احتكار فهم الدين‪ .‬كل مدرسة‬ ‫كلامية تدعي أنها الفرقة الناجية‪ ،‬ومن ثم فهي بالجوهر طائفية‪.‬‬‫الكلام أصل للحروب الدينية وليس علما للأديان‪ .‬وذلك ما ينبغي أن نتحرر منه لنؤسس‬ ‫فلسفة الدين التي هي منطلق كل محاولة لعلم الأديان الكوني‪.‬‬ ‫‪10 9‬‬

‫والتصوف تحريف لفلسفة التاريخ‪ ،‬لأنه يدعي الوصول إلى الاستخلاف في الأرض من دون‬ ‫الاستعمار فيها‪ ،‬بل يعتبر الأول مشروطا بالتخلص من الثاني‪ :‬كذبة كبرى‪.‬‬‫فهو نفي الاستعمار في الأرض (موضوع فلسفة التاريخ) بفهم زائف للاستخلاف فيها‬ ‫(موضوع ما وراء التاريخ) وهو مناف لفلسفة الإسلام التاريخية‪.‬‬ ‫‪10 10‬‬



‫‪02 01‬‬ ‫‪01‬‬ ‫‪02‬‬‫تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي‪ :‬محمد مراس المرزوقي‬