أبو يعرب المرزوقيأو كاريكاتورية النخب النافذة الأسماء والبيان
أو كاريكاتورية النخب النافذة
هذه محاولة لفهم فساد معاني الإنسانية الذي تعاني منه النخب النافذة في بلادنا ،وعلل ثورة الشباب واتصافها بعدم الاستراتيجية والأهداف الواضحة.كما سبق أن بينت في أكثر من موضع ،فمفهوم \"فساد معاني الإنسانية\" مفهوم خلدوني،عرفه في كلامه على التربية والحكم أي وجهي السياسة الرمزي والفعلي .وهو يعتبر فسادمعاني الإنسانية مرضا يصيب الأفراد والجماعات ويؤذن بخراب العمران ،فهو علة عقم الإنتاج والإبداع المحققين لشروط الحماية والرعاية.فعقم الإنتاج والإبداع ينتج عنه تحول الفرد والجماعة إلى عالة على الغير ،فتذهب فضائل النفس والخلق شرطيهما ،وتعوضها رذائل الكذب والخبث والكسل.وينتج عن فساد معاني الإنسانية تخلي الإنسان عن رئاسته بالطبع ،وعن حماية ذاته ورعايتها ،فيستسلم لسيد يكون عالة عليه فيهما :يحتمي به ويتسول عليه.ويفسر ابن خلدون هذه الظاهرة ،التي يعتبرها انحطاط الإنسان فردا وجماعة إلى أسفل سافلين ،بالعنف النافي للحرية الخلقية والسياسية تربية وحكما. فكيف يتجلى هذا التشخيص الخلدوني في نخب الأمة النافذة بأصنافها الخمسة؟ وأعني بالنافذة ،النخب التي تنتحل ما تعرف به ،ما يجعلها اسما بلا مسمى. وسبق أن بينت أن النخب لا تتعدى أصنافها الخمسة التالية: -1نخبة الإرادة ،ويمثلها الساسة. -2نخبة المعرفة ،ويمثلها العلماء. -3نخبة القدرة ،ويمثلها الاقتصاديون. -4نخبة الحياة ،ويمثلها الفنانون والرياضيون منهم. 41
-5نخبة الوجود ،ويمثلها أصحاب رؤى العالم سواء صاغوها دينيا أو فلسفيا.وليس هنا محل تعليل هذا التصنيف ،إذ قد سبق أن بينته في أكثر من موضع .لكن هذا التعريف للنخب يمكن التأكد من كونه جامعا مانعا حتى بالاستقراء.وتصنيف الأفراد والنخبة التي ينتسبون إليها ،بغلبة إحدى هذه الصفات مميزا لشخصيتهم وسلوكهم وطموحاتهم ،يستمد من صفات الرب كما حددها علم الكلام.وفي الحقيقة هي صفات الإنسان استقطعها المتكلمون على الرب بمنطق قيس الغائب على الشاهد ،والفرق الوحيد بين دلالتيها هو كمالها هنا ونقصها هناك.قيس مع تمييز :فالله فعال ،مطلق الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود ،والإنسان إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده كلها محدودة ونسبية بإطلاق.وابن خلدون يعتبر فساد معاني الإنسانية للفرد والجماعة وتحولهما إلى عالة ،فقدانا لهذه الصفات بسبب الاستبداد والطغيان في التربية والحكم. فلننظر الآن في النخبة المتميزة بالإرادة ،فتدعي تمثيل إرادة الجماعة أي الساسة: هل لهم حقا إرادة؟ وهل هم أهل لتمثيل إرادة الجماعة؟ولنضرب أمثلة ،وليكون كلامنا دقيقا فلنشر إلى أن النخب السياسية العربية صنفان في كل من الحكم والمعارضة :فكلاهما يكون إما عسكريا أو قبليا منذ بداية الانحطاط.وما يثبت ذلك هو أن التغير في الحكم وفي المعارضة ،والتداول بين الحاكمين والمعارضين لا يكون إلا بالانقلابات العسكرية أو بالتصفيات القبلية.وتوظف بقية النخب التي تدعي تمثيل العلم والقدرة والحياة والوجود ،فتكون هذه النخب كذلك منقسمة إلى صفين مع الحكام ومع المعارضين بنفس المنطق.وإذن فبقية النخب توابع لنخبة الإرادة ،وبصورة أدق هم توابع لحلف بين ممثلي الإرادة أو الطموح السياسي في بقية النخب :السياسي محدد في الظاهر. قلت في الظاهر وذلك لعلتين: 42
-أولا فقد يكون الحاكم أو المعارض السياسيين مجرد واجهة لدولة عميقة ،غالبا ما تكون من مافية القدرة أي الاقتصاديين. -وثانيا ،هم والمافية الخفية ،كلاهما توابع لمافية ودولة أجنبية تحميهم ليكونوا نافذين بالاستبداد والفساد :يصح على من فسدت فيهم معاني الإنسانية.ينتحلون صفة الإرادة وتمثيلها ،لكنهم فاقدون للإرادة فيستعملهم حاميهم للقضاء على إرادة الجماعة ،فيفسدون بالاستبداد والفساد معاني الإنسانية.وحتى يتم لهم ذلك ،فلا بد من أن يصبحوا هم من ينتخب من يمثل المعرفة والقدرة والحياة والوجود .ومنتحل الصفة لا يمكن أن ينتخب من هو أفضل منه.من هنا يسودون على المعرفة منتحلي صفة ،فيكثر الدجالون والعلم الزائف الذي هو سمعة كاذبة ،للإعلام فيها الدور الأول ،تبزر نجوما ليس أجهل منها.ولننظر فيما يجري ومنذ أكثر من ستة عقود في بلاد العرب ،سواء كانت ذات أنظمة عسكرية أو قبلية :النخب النافذة تصنع نجوما وتفسد بها الفكر والتربية.وهو ما فضحته الثورة ،فضحها لما يسمى بالمقاومة التي تبين أنها في الحقيقة من أدوات الصفوية والصهيونية والأنظمة المستبدة وحماتهم الاستعماريين.والسياسيون هم إما مافية القدرة مباشرة ،أو وكلاء مافية خفية ،وهي وكيلة مافيةخارجية لنهب ثروات البلاد العربية ،فالاقتصاديون سماسرة لا أكثر .لا ينتجون ثروة ،بليبذرون ثروات البلاد ويهربون ما يجمعونه منها إلى بنوك الغرب بتواطؤ مع الحكام الذين هم في الغالب عين المافية أو دميتها. في مثل هذه الوضعية ،كيف تكون نخبة الحياة المعبرة عن ذوق الجماعة؟ لعل الدراما العربية كافية للدلالة على ذلك :السخرية من الشعب لا غير.فلا يمكن للإرادة والعلم والقدرة الزائفة ألا تصبح في الترجمة الذوقية تزييف كل شيء ،وتسمي ذلك فنا من جنس السخرية من الصعيدي ومن وراء \"البلاكات\".ولا يمكن أن يتجاوز التعبير عن الحياة أسفل ذوق للحياة عندما تبتذل لتصبح بهيمية. وإذا جمعت ذلك كله ،وجدت مهازل الدراما الرمضانية في تونس ومصر مثالا. 43
كلما شاهدت في بعض الاعمال الدرامية التونسية وما ماثلها ،علمت أن منتجيها محششون، يتصورون قلة الذوق وفقر الخيال قابلين للتعويض بهلوساتهم.مجرد سخرية وقحة من شعبهم يتصورونها مرفهة على سادتهم من البلدية ،الذي هم في الحقيقة \"اقعر من الأقعار\" :لا تضحك بل تبكي من يرثي لحالهم.والرياضية أسمى أساليب التربية في الفكر الفلسفي ،صارت مجرد تجارة ،صيرورة سياحة القشارة دعارة لسفهاء الحارة المستبدين بالتهريب والقمار والتجارة.ونصل أخيرا إلى قسمة نخبة الوجود بين الكاريكاتورين القاتلين للحضارة :كاريكاتور التأصيل في أنظمة القبائل ،وكاريكاتور التحديث في أنظمة العسكر.ولن يتيسر للأمة أن تشرع في الاستئناف دون التحرر من هذه الأدواء التي أفقدتها معاني الإنسانية :النخب النافذة التي تنتحل الصفات اسما بلا مسمى.فالنخب النافذة غالبيتها منتحلة صفة :فلا الإرادة إرادة ،ولا العلم علم ،ولا القدرة قدرة ،ولا الحياة حياة ،ولا الوجود وجود :كاريكاتور من حقيقتها.والعلة مضاعفة :فالسيد الحامي يختار نخبة الإرادة التي لا إرادة لها ،لتعمل على إفقاد شعوبها إرادتها ،وهي تفعل ذلك بالعنف المادي والرمزي الدائب.وأدوات العنف المادي والرمزي هي النخب الزائفة :علم بلا علم وقدرة بلا قدرة وحياة بلا حياة ووجود بلا وجود .فيفسد العقل واليد والذوق والرؤية.وذلك هو مجمل ما سماه ابن خلدون فساد معاني الإنسانية الذي يجعل الفرد والجماعة عالة على غيرها ،فتفقد حريتها الروحية والسياسية وتصبح محمية. 44
02 01 01 02تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي :محمد مراس المرزوقي
Search
Read the Text Version
- 1 - 10
Pages: