أو معضلة العلاقة بين الشرائع والطبائع أبو يعرب المرزوقي الأسماء والبيان
أو معضلة العلاقة بين الشرائع والطبائع
المحتويات 1 6111621
أكثر معضلات الأنظمة التي يبدعها الإنسان ،للسلطان على حياته فردية كانت أو جماعية ،تتمثل في طبيعة هذا السلطان ما هي ،وإلى من يمكن أن ننسبها؟أعلم أن لأستاذي ميشال فوكو اجتهادات في المسألة ،وأنه يؤمن بكونها ظاهرة متفشية في كل شيء وفي كل سلوك ،وأنها عسيرة التحديد .ومع ذلك سأحاول الفهم.وسأبدأ بما اعتبره سر السلطة :فلأسم سلطان الإنسان على شؤونه بنظام الشرائع، ولأسأل عن علاقته بسلطان الطبائع .ما طبيعة علاقتهما وصلتها بالسر؟فعلاج هذا السر ،يشبه عندي علاج العائق دون فهم طبيعة السلطة وطبيعة من تنسب إليه فعلا ،لنفهم سر الفرق بين ما تحدده النصوص ،وما يتعين في الممارسات.وبصورة شبه عامية :من يحكم في الشؤون البشرية بمستوياتها الخمسة ،أي أصناف النخب ،أنظمة سلطوية :مستوى الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود؟بعبارة وجيزة :ما طبيعة السلطة في مجالات الإرادة (السياسة) والعلم (المعرفة) والقدرة (الاقتصاد) والحياة (الفنون) والوجود (الرؤى دينية وفلسفية)؟ما طبيعة السلطة السياسية؟ وهل هي كما تحددها الدساتير؟ والسلطة العلمية؟ وهل هي كما تعرضها التواريخ؟ والسلطة الاقتصادية؟ وهل هي كظاهرها؟السؤال الأهم :لعلها كلها من طبيعة واحدة وخاضعة لنفس القوانين ،فتكون الشرائع (أنظمة السلطة الوضعية) ذات صلة بالطبائع (أنظمة السلطة الطبيعية).لكن إذا صدقت فرضيتي ،ألا يعني ذلك أن الشرائع خدائع ،وأنها في الحقيقة مبينة على أن ما يحكم البشر لا يختلف عما يحكم الكائنات الحية الأخرى؟أيكون الإنسان -الذي يتوهم أن له ما به يسود على التاريخ الطبيعي لحيوانيته-قد ابتدع حيلا يبرر بها إخفاءه لخضوعه في الحقيقة للتاريخ الطبيعي؟ 26 1
وحينئذ يصبح سؤال دور الأديان محيرا :هل هي من نفس الجنس المخادع ،الذي يزعم به الإنسان تجاوز حيوانيته إلى ما يسمو به عليها ،نحو إنسانية فعلية؟ومعنى ذلك أني لو لم تكن مسألة الدين تعترضني ،لرضيت بالجواب البسيط الذي يرد الشرائع للطبائع ،معتبرا ما يتجاوز الأخيرة وهما إنسانيا بلا حقيقة.لولا الدين لكان الامر هينا ولقبلت بأن ما يتجاوز به الإنسان الحيوان ،وهم إنسان. فعندي أن الإنسان لا يتجاوز الطبيعة إلا بالشريعة القرآنية.لكن الشريعة القرآنية ليست ما يفهمه الفقهاء بهذا المفهوم ،أي إنها ليست الأحكام ،بلما يجعل الأحكام تكون بعض تطبيقاتها :إنها الماوراء المطلق ،فلولاها ،لكانت الإرادة مجردغريزة ،والمعرفة مجرد انفعال ،والقدرة مجرد قوة طبيعية ،والحياة مجرد نوازع ،والوجود حصيلة لمفعول الطبائع في الإنسان.إنها ما به يكون الإنسان أهلا للاستخلاف ،أو ما لأجله كرم الله الإنسان فجعله أسمى من الملائكة ،رغم أنه يفسد ويسفك الدماء بسلطان الطبيعة عليه.الوعي بهذه المنزلة الوجودية للإنسان ،هي الدين ولا شيء سواها ،وهي شرط الحرية، أي السمو على قانون الطبيعة (الضرورة) ،من ثم فهي اساس الأخلاق.ويكذب من يزعم أن كنط يفصل بين الدين والأخلاق ،بمعنى الفصل الذي يجعل الإنسانيمكن أن يكون حرا مستثنى من قانون الطبيعة ،من دون مسلماته الدينية ،فمن دون مسلمةالحرية (أي الاستثناء من الضرورة الطبيعية) وخلود النفس ووجود الله ،لا يمكن أن نفهم الحاجة إلى التمييز بين الفينومان والنومان.فكل ما يرد لقانون الضرورة الطبيعية ،من الفينومان ،وكل ما يتجاوزه للحرية الخلقية، من النومان .فقانون الطبائع أو الضرورة لا يقبل أي استثناء.والخلقي شرطه يقتضي الاستثناء من قانون الطبيعة :الحرية ،وعلاقة القانون الطبيعي والخلقي هي القضية الام في الفلسفة عامة ،وفي نظرية المعرفة خاصة.الفصل بين مجالين من مجالات البحث الفلسفي (الدين والأخلاق) لا يعني الفصل بينالديني والخلقي :فشرطهما الحرية أو التعالي على قانون الضرورة .والحرية أو التعالي 26 2
على قانون الضرورة هو جوهر الديني في كل دين ،وهو عين التكريم الذي يؤسس للاستخلاف أو للتحرر من كل معبود سوى الله :مطلق الحق.والأهم من ذلك ،هو أن الضرورة لا يمكن أن تتحمل الاستثناء ،والحرية تتحمله ،ما يعني أنه علينا ليكون للحرية مكان أن تكون متقدمة على الضرورة.ومن هنا يصبح نظام الوجود شرائع متقدمة وطبائع تالية ،بوصفها استثناء أو خيارات ثابتة من لدن حرية مطلقة متقدمة الوجود عليها ،تضعها حدودا للكيان.وهذا هو مفهوم التشريع بمعنى السنن التي لا تتبدل ولا تتحول ،لأنها من وضع حكيم، أوهي خيارات منتخبة من الإمكان المطلق إلى الإمكان الأفضل للكائن.وهذا هو مبدأ الترجيح ،فمن بين عدة امكانات عقلية مجردة ،يقع انتخاب أحدها بوصفه الأفضل للكيان وللغرض من إيجاده ،تماما كما نفعل في التكنولوجيا.ودون قيس على عملنا على علم ،يؤمن المتدين أن الله خالق الموجودات والوجود علىهذا النحو من الانتخاب الحر لأفضل الحلول ،ويجعلها ذاتية التعديل ،فيجعل الحريةالإلهية التي تعني الخلق عملا على علم ،متقدمة على الطبائع بوصفها خيارات خاضعة لانتخاب حل أفضل ،يبرمج ليكون ذاتي التعديل :طبيعة.ولما كان مفهوم \"طبيعة\" يعني فعلا يبدو لنا مضطرا ،فيعسر الجمع بينه وبين الحرية، فلنسمه كما يفعل الغزالي \"خلقة\" ،ففعل الخلق الحر هو الأصل فيه.وتلك هي العلة التي جعلت لايبنتز يميز بين الضرورة الرياضية والضرورة الطبيعية، وحتى أرسطو فإنه قد ميز قبله بين الضرورة والضرورة الشرطية.افترض لايبنتز النقلة من الرياضي إلى الطبيعي ،مشروطا بتدخل عناية إلهية تنتخب الأفضل من بين الممكنات العقلية ،لتكون طبيعة ذاتية التعديل.لكن أرسطو اعتبر هذه النقلة هي الفرق بين الضرورة العمياء ،غير المشروطة بانتخاب آلة طبيعية تحقق غاية متقدمة ،والضرورة المشروطة بها لتحقق غاية.وذلك هو قصده بالعلة الرابعة أو العلة الغائية في كل كائن .فلكأن كل طبيعة هي جهازمن الأعضاء ،وظيفتها تحقيق غاية ،هي ما به تكون الطبيعة كائنا ،ومنظومة كل الكائنات 26 3
أو العالم الطبيعي ،هي بدورها من هذا الجنس أو طبيعة الطبائع ،التي تجعلها هي بدورها جهازا من الآليات غايتها نظام العالم.وهذا الجهاز الكلي الذي ينتظم به العالم كله ،هو نظام حركات الأفلاك التي تحرك الكائنات الجزئية ،في عملية تخلق شبه ذاتي لكنه رهن النظام العام.وفي الخطاب الفلسفي ،تبدو الفلسفة العملية (نظرية الشرائع) وكأنها تقاس على الفلسفة النظرية(نظرية الطبائع) ،لكن الحقيقة هي العكس تماما :العالم دولة.ومعنى ذلك أن الرؤية الدينية التي تقدم الشرائع على الطبائع ،هي التي أصبحت رؤية فلسفية بمجرد أن قالت بأن الطبائع حصيلة خيارات من الممكن العام.فبفضل هذا التمييز بين الضرورة العمياء والضرورة التي تحقق غاية أو المشروطة بغاية ،ننتقل من عالم فوضوي إلى عالم عمل على علم ،بغائية سابقة.ولذلك ،فكل أدلة الفلسفة على وجود الله -والكلام-تعود إلى هذا الدليل الوحيد في الحقيقة :فالنظام في العالم لا يعلل بالصدفة ،بل بعمل على علم.لكن الغريب في الأمر هو أن العامي الذي لا يدرك ذلك ،قد جعل الشرائع المشروطة فيالطبائع تحت مسمى القضاء والقدر ،اساسا للجبرية بدلا من الحرية .وأقول العامي ولستغافلا عن القائلين بالجبر من كبار الفلاسفة والمتكلمين ،فهؤلاء ايضا هم عامة لأنهم الغواالحرية بحجة رفض الاستثناء في الطبيعة ،ورمز هذا الرفض قولة سبينوزا الشهيرة:الإنسان ليس دولة (حريته) في الدولة (ضرورة الطبائع) .والرؤية الاسلم تجعل الطبائع شرائع ثابتة في نظام تام. وفي تلك الحالة تصبح الحرية ،التي هي أوسع ،قابلة لأن توجد نوعين من الكائنات: -طبائع هي شرائع ثابتة -وشرائع هي طبائع متغيرة. وهذه ضمن تلك.فيكون لدينا نوعين من الحرية مطلقة ،هي حرية الخالق ،ونسبية ،هي حرية خليفته. ونوعين من الطبائع هي :طبيعة الطبيعة ،وطبيعة هي سنن التاريخ الإنساني. 26 4
ولهذا فلا يوجد من هو أغبى من نفاة نظرية الدولة في الإسلام :فالقرآن كله مبني على أن العالم مؤلف من دولتين :غاية هي الآخرة ،وبداية هي الدنيا.ودولة الآخرة هي دولة الشفافية المطلقة ،حيث إن كل الكائنات يكون ظاهرها مطابقا لباطنها ،حتى إن الأعضاء تشهد في أخرى الكائن على فعله في دنياه.وهذا شرط حرية الإنسان :فلو كان ظاهره مطابقا لباطنه في دنياه ،لما كان مكلفا بالصدق تكليفا تقاس به مجاهدته ،ليسهم في كماله تحريرا من الضرورة.لكأن الله بمفهوم الاستخلاف ،أبقى للإنسان مجالا ليكون \"مبدع\" نفسه فيما يمكن اعتباره مساحة حريته ،التي بمجرد إمكانها نال التكريم والتكليف.هذه تأملات فلسفية ودينية يمكن أن تسهم في إخراج بعض الشباب مما تردى إليه الخطاب الذي ج ّمد مفهوم المجاهدة غاية من التربية الدينية على الحرية. 26 5
مساحة الحرية هي مجال السلطة الفعلي ،أو بصورة أدق :ما يقبل الرد إلى قدرة انسانية ذاتية ،للعمل على علم ،مقابل المسؤولية فلسفيا ،والتكليف دينيا. فكيف نقدر هذه المساحة؟هي ما اعتبره ديكارت منطلقا لإثبات وجود الله :إنها الوعي بالفرق بين صفات يعيها الإنسان في نفسه وكونها دون مثالها الأعلى. لم يتكلم ديكارت على كل هذه الصفات ،لكنه اكتفى بصفتين: -الوعي بالإرادة -وبالحكم العقلي. فهذا دون ذاك ،وكلاهما دون مثالهما الأعلى كمالا :التضايف.فتضايف الوعي بالنقص ،والوعي بالكمال ،ملازم لكل وعي إنساني ،وهو بصورة مبسطة، تضايف الوعي بالذات وبالله معا ،والمسافة بين الذاتين هي مساحة الحرية.إنها مساحة المسعى الإنساني لاستكمال ذاته ،مع العلم بأن المثال لا يدرك ،لكن المهم هو السعي ،لأن الأمر يتعلق بواجب السعي وليس بواجب النتيجة.وواجب السعي وعي بسلطان يجعل سلطان الذات على ذاتها أولى علامات الحرية، وجوهر كل سلطان على الغير ،سواء كان بشرا أو حجرا :الوعي بالذات هو السلطان.فكيف يتجلى هذا السلطان في المساحة الفاصلة بين الصفات الخمس ،في نسبتها إلى الإنسان وفي نسبتها إلى ملازمه ،أو الله ،للتضايف بين النسبي والمطلق؟ والصفات الخمس سبق أن تكلمنا عليها بإفاضة: .1الإرادة .2والعلم .3والقدرة 26 6
.4والحياة .5والوجود. والمساحة هي الفرق بينها صفات للإنسان نسبية ،وصفات لله مطلقة.التضايف بين الذات الإنسانية والذات الإلهية ،أو بين المتناهي واللامتناهي ،يتعين في الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود .والفرق كيفي لا كمي.ولعل أبرز مثال أن الإنسان مصيره الموت ،حتى لو كان خاتم الرسل .والله قيوم حي لا يموت. وهما مختلفان كيفيا أي بالجوهر .فاللامتناهي ليس متناهيا أكبر.ومن ثم فالسلطان الإنساني متناه ،وهو غير معلوم الطبيعة ،وغير محدد المرجع :فمثلا لا ندري من يحكم لأنه دائما مؤلف من متدخلين كثر ،ومجهول جلهم.لا أنكر أن الملحد يمكن ألا يعتبر هذا الفرق دليلا على وجود المثال ،معتبرا الوعي بالتضايف بين الحاصل من الممكن ،وغير الحاصل منه ،مجرد وهم إنساني.ما أعيبه على الملحدين هو القصور الذهني الذي يجعله لا يدرك أن نفيه غير الحاصل من الممكن ،يجعل الحاصل واجبا ،فينفي الحرية ويصبح قائلا بالجبر.وبذلك ،فبدعوى التحرر من سلطان فوقه ،ينفي كل سلطان ينسبه إلى نفسه :الملحد قائل بالضرورة الطبيعية دون سواها ،وناف لكل حرية .إنه قشة في مهب الريح.الملحد من حيث لا يعلم ،وبدعوى التحرر من القيود الدينية ،ينتهي إلى أن يتحول إلى \"فاتاليست\" اي قائلا بالحتمية الطبيعية ،ونافيا لمساحة الفعل الحر.وعندما يصبح الإنسان خاضعا للقانون الطبيعي ،فإنه يفقد كل سلطان على ذاته وعلى غيره ،ويكون السلطان كله للآليات الطبيعية بتأثير مجهول الطبيعة.فالكلام على أخلاق الملحد كذبة ،لخلط صاحبها بين مرجع الأخلاق ،أو الفعل الحر الواعي بسلطانه ،ومجرد العمل بالعادات كأخلاق موضوعية طبيعة ثانية.الملحد الصادق أفضل من المؤمن المنافق بمعيار الأخلاق الموضوعية .لكنه بصدقه ،يكون قد تجاوز مجرد السلوك إلى الوعي بأساسه ،فلم يبق ملحدا بحق. 26 7
لا يكتفي برد سلوكه الصادق إلى مجرد عادة ،بل هو يدرك أن له سلطانا على أفعاله يتجاوز مجرد العادة إلى الوعي بحرية الاختيار فلم يبق \"فاتاليست\".وإذ لم يبق \"فاتاليست\" فإنه قد ميز بين القانون الطبيعي والقانون الخلقي ،فأصبح يؤمنبأن الإنسان له ما به يسمو على مجرى الطبيعي إلى مجرى الشريعة ،فيدرك أن له منمجرى الشريعة نصيبا ،فيفهم معنى الاستخلاف :أي إن النظام الطبيعي هو بدوره ذو مرجعية تفترض الحرية قبل الضرورة كالنظام التاريخي.ولا يبقى إ ّلا الترتيب بين النظامين :المؤمن يؤمن بأن الطبيعة نفسها ظاهرة تاريخية ،أي إن لها صيرورة مثل التاريخ ،وطبعا فمبدعها ليس الإنسان.والطبيعة ليست مبدعة ذاتها ،فضلا عن أن تكون مبدعة الإنسان والتاريخ الحضاري. مجرد فهم ذلك هو معنى الدين (إرادة الله) ومعنى الفلسفة (عقل الله).ولأسارع بالقول إن هذا الكلام لا علاقة له بالغيب .فكل ما ذكرنا كلام على ما يشهده الإنسان من نفسه وعيا بذاتها ،وبما يلازم هذا الوعي من مقومات.وما يلازم الوعي بالذات من مقومات ،هو ما أطلقنا عليه اسم المعادلة الوجودية :أي إن أي إنسان مهما كان غافلا ،بمجرد أن يعي ذاته ،يعي بنية وعيه.وقد تكون هذه البنية مبتورة من أحد قطبيها ،فتنتهي إلى فقدان قطبها الثاني ،ولا يبقى منها إلى وسطيها الطبيعة والتاريخ وفوضى التخبط بينهما.والقطبان المتلازمان والمتضايفان تضايف المتناهي واللامتناهي ،أو نسبي الحاصل منالممكن والممكن المطلق :ذات الإنسان وذات الله في وعي الإنسان .عندئذ يتحول فوضىالتخبط بين الوسيطين الطبيعة والتاريخ إلى عملية وصل منتظم بين القطبين ،بتوسط العلم بقوانين الوسيطين مجالا لحرية الإنسان.وهذا المجال الذي تتعين فيه حرية الإنسان ،أو العمل على علم ،تقتضي أن يقلب الإنسان العلاقة بين الطبائع والشرائع ،فيجعل هذه أصل تلك :حرية الله.ومعنى ذلك أن الإنسان لا يمكن أن يكون حرا ،إلا كخليفة ،أي إلا إذا كانت طبائع العالم كله ذات نظام هو شريعتها الأتم ،وعمل الإنسان محتذيا لسننها. 26 8
وقد نبهت إلى أن ما أتكلم عليه من الشاهد لا من الغيب ،فكما يعلم الجميع ارفض علم الكلام الذي يقيس الغيب على الشاهد ،للخلط بينه وبين الغائب.والشاهد في وعي الإنسان من كيانه الطبيعي والخلقي ،وفي نص القرآن الذي يدعوناإلى رؤية حقيقته في ما يرينا الله من آياته في الآفاق والأنفس ،ففي الآفاق ،نرى آياتالعلاقة بين الذاتين بتوسط الطبيعة والتاريخ ،أو تعين التشريعين المطلق (الطبيعة شرط وجود) والنسبي (التاريخ شرط وعي به).فإذا أضفنا وظيفة الرسالة الخاتمة-القرآن -بوصفها تذكيرا بالديني فيها ،وليس وضعا له ،أمكننا أن نفهم ان الوصل بين القطبين له مساران نازل وصاعد.وامتياز الرسالة الخاتمة ،أنها تعتبر النازل ليس حكرا على أمة دون أمة ،بل هو كوني، بمعنى أن كل أمة لها رسول بلسانها يذكر بالديني في كيان الإنسان.والرسالة الخاتمة تضيف أنها بخلاف ما تقدم عليها ،ليست خاصة بأمة دون أمة ،بل هيكونية أي إن جوهرها هو النساء 1والحجرات :13الأخوة والمساواة ،وتحريف الرسالة يردفي القرآن إلى ظاهرتي الوساطة بين المؤمن وربه ،والحكم بالحق الإلهي ،وأهم شرطينلتحقيق الاخوة والمساواة ،التحرر منهما ،ومن ثم ،فالأمر كله يعود إلى تحريف السلطتينالروحية والسياسية :فالوساطة الكنسية تحريف لسلطة الرب الروحية ،والحكم بالحق الإلهي تحريف للاستخلاف.سلطة الكنسية وساطة بين المؤمن وربه ،وسلطة الحكم بالحق الإلهي وساطة بين المؤمنين وشأنهم العام ،وإلغاء الوساطتين :ثورة الإسلام لتحرير الإنسان.وتحريره هنا يعني استرداد سلطانه الذي ينتج عن حريته وتكليفه :فما يحاسب عليهقرآنيا هو اجتهاده وجهاده في تحقيق الحريتين الروحية والسياسية ،لذلك فكل كلام علىغياب مفهوم الدولة في الإسلام ،دليل على العمى العقلي والروحي :فجوهر الدين هوالتربية والحكم بما يترتب على حرية الإنسان ،والدليل القاطع ،هو تعريف المؤمن إنشاء(آل عمران )104وخبرا (آل عمران )110بما يترتب على الحرية روحيا وسياسيا :الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. 26 9
وبين أن الأمر والنهي هما جوهر السلطة .فإذا عرف المؤمن بهما ،فإذن الاستخلاف هو سلطة الإنسان المترتبة على تكليفه ،وحريته ومسؤوليته علة تكريمه.وإذا كان كل مؤمن له حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وواجبهما ،فالسيادة التي تنتج عن الدور في السلطتين الروحية والسياسة هي جوهر الإيمان.وقد وصف ابن خلدون الإنسان بكونه \"رئيسا بالطبع\" معللا ذلك \"بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\".في الإسلام المؤمن يعرف بدوره في التربية والحكم .وقد أزالت الوظيفتين استعادةالكنسية للفاسقين (الحديد )27والحكم بالحق الإلهي أو الطبيعي للمستبدين والفاسدين، ففقدت الأمة شرطي الإيمان الحق. لذلك فالثورة الجارية حاليا هي بداية الاستئناف بالمعنيين: -استئناف التحرر من التحريفين -واستئناف بناء التربية والحكم باسترداد رئاسة الإنسانولا يمكن استرداد سيادة الإنسان الروحية والسياسية من دون التحرر من الاستبداد والفساد داخليا ،والاستضعاف والاستتباع خارجيا :مرضا الأمة حاليا.فثورة الشباب كانت موجتها الأولى ثورة على الاستبداد والفساد ،وصارت موجتها الثانية ثورة على الاستضعاف والاستتباع :وكلتاهما فخر شباب تونس.وشباب تونس حتى في مطالب الموجة الأولى ،كان مدركا لأبعادها الإسلامية :فبيتا الشابي تصويب لرؤية القضاء والقدر لاسترداد دور المسلم في التاريخ. 26 10
بينا في الفصل الثاني شروط نسبة أي سلطة للإنسان ،مختلفة عما فيه من سلطة تنسبإلى ما فيه من طبيعي ،ليس له عليه سلطان مباشر :وظائف كيانه العضوي ،ويمكن أن نعتبرما يتعلق بكيان الجماعة متضمنا كذلك ما ليس للإنسان عليه سلطان ،بمعنى أن للطبيعةسلطان على الإنسان في كيانه الفردي والجمعي .فيكون ما نعنيه بسلطان الإنسان في كيانهالفردي والجمعي ،هو ما به يتميز الإنسان عن الحيوان عامة ،من سلطان للوعي بأحكام الطبائع المؤثرة في الشرائع.والوعي بأحكام الطبائع ليس طبيعة ،وإلا لع ّم كل البشر ولما أحتاج إلى الجهد الحضاري الذي يتمثل في العلم بقوانين الطبائع واستعمالها للسلطان عليها.وقد رمز القرآن لذلك كله ،بخاصية هي التي جعلت الله يعتبر الإنسان جديرا بالاستخلاف ،رغم كونه قابلا لأن يفسد في الأرض ويسفك الدماء بشهادة الملائكة.وهذه الخاصية هي القدرة على التسمية .ولما كان القرآن يعتبر التسمية تقبل الكذب(أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم) ،والصدق ،فالمقصود هو الثاني والسلطان ،سلطانالإنسان هو ما له من فهم وعلم بأحكام الطبائع ،محررين من سلطانها بقدر معين ،لا يتجاوز العمل بها على علم ،وليس نفيها ،فلا سلطان عليها إلا بها.وبهذا يتبين أن الإنسان من حيث هو إنسان ،وبمقتضى صفاته الخمس ،ذو سلطان هو أثر حريته التي تتعين في وعيه بها :إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده.فيكون سلطانه على ما عداه ،مشروطا بسلطانه على مقومات ذاته ،التي هي الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود .فليس للإنسان سلطان مباشر على غيره.سلطانه على غيره ،بشرا كان أو حجرا ،أساسه سلطانه على ذاته في تعينات مقوماتها، إرادة وعلما وقدرة وحياة ووجودا ،وشرطها وعيه بها وبشروط فاعليتها. 26 11
لكن هذه المقومات لا تفعل في خلاء ،بل إن بعدها الفردي يسبح في مجال شبه مغناطيسي، هو الجماعة وثقافتها ،والتفاعل الفردي والجمعي في مناخها الروحي.ومعنى ذلك أن الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود ،رغم كونها صفات ذاتية للفرد يختلف فعلها وانفعالها في المناخ الجمعي عنهما في وعي صاحبها.فالسلطان في وجوده الفعلي يتحدد في المقام الأول بهذا المستوى الثاني ،أكثر مما يتحدد في المستوى الأول :الوجود في الجماعة هو المحدد الأول بحق.فلا علم النفس ولا علم الاجتماع بكافيين .بل لابد من علم النفس الجمعي ،الذي هو أساس الانثروبولوجيا التاريخية والثقافية مع تاريخ الإنسان الطبيعي.والانثروبولوجيا (نظرية الإنسان) ،ببعديها الطبيعي والتاريخي اللذين يمتزجان في الثقافي ،بوصفه الترجمة الرمزية للحصيلة ،هي مدخلنا لمفهوم السلطة.ولن أعجب من تعجب الكثير عندما أقول إن أفضل من فهم الظاهرة هو ابن خلدون بمفهوم \"الإنسان رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف\" :الإنسان حر بالطبع.و\"الإنسان رئيس بالطبع\" بتعليل استخلافي ،يجمع بين الطبيعي والثقافي .فـ\"التعليل\" لما هو بالطبع ،لم يكن ضروريا لو كان في حضارة تكفي بالطبائع.ابن خلدون يعلل ظاهرة موجودة بالطبع ،بأساس ديني الاستخلاف ،وذلك لأن مرجعيته الدينية تعتبر ما يوجد بالطبع هو ما يسميه الدين الخاتم فطرة الله.إذا عوضنا الطبيعة بالخلقة أو الفطرة ،كانت الطبائع تالية عن الشرائع ،ومن ثم فسلطان الإنسان على مقومات ذاته ،هو كيانه وأداته للسلطان على ما عداها.وسلطانه على مقوماته هو ،وعيه بذاتيه وبعلاقته بما عداها ،ويرد ذلك كله إلى المعادلة الوجودية :القطبان الله والإنسان ،والوسيطان الطبيعة والتاريخ.والوصل بين القطبين بتوسط الوعي بالوسيطين وقوانينهما ،للعمل على علم ،يجعل الإنسان مشدودا دائما إلى الكونين الدنيوي(الطبيعة والتاريخ)وما وراءه.وما وراء الدنيوي محايث ومفارق للدنيوي ،وهو تجلي الله والإنسان فيهما ،بأفعالهما المطلقة والنسبية :وإذن فاللقاء بين القطبين هو لقاء حريتين: 26 12
-حرية متقدمة -وحرية تاليةوالأولى قبل الطبيعة والتاريخ ،والثانية بعدهما وهما دلالتا \"ما وراء\" بعبارة ابن سينا عندما اقترح ما قبل بدل ما بعد.في الحقيقة لا ينبغي استبدال ما بعد بما قبل ،استجابة لمقترح ابن سينا ،بل لا بد من الما قبل والما بعد .فتصور الإنسان حرا ما بعد ،يشترط ما قبل.إذا نفينا وجود الله ،امتنع أن نثبت وجود الإنسان ،أي حريته ،لأن وجوده من دون حريته يعني أنه مجرد ظاهرة طبيعية مثلها مثل الحجر ودون الشجر.وإذن فمن دون القطبين (الله والإنسان) لا يمكن فهم الوسيطين (الطبيعة والتاريخ) وما لا يمكن فهمه ،هو ما يمسك بمقوماتهما ويوحد بينها في فعلها.وكل ذلك هو عين كيان الإنسان وعين المعادلة الوجودية ،وهي اساس الدين والفلسفة مرسومين في بينة الوعي الإنساني ،فكان الدين الخاتم تذكيرا بحاصل.القرآن نص ديني وفلسفي في آن :والدليل القاطع أنه ينفي حاجة الرسول الخاتم لغيره، دلالة بنظام العالم ،حتى وإن كان يحكي معجزات غيره بخرق النظام.والعلاقة بين نظام العالم وقابليته للخرق الإعجازي ،دليل على أن النظام هو المعجز، لأنه انتخاب المعين من اللامعين الذي هو مضمون الإمكان المطلق.وانتخاب المعين من اللامعين للإمكان المطلق ،يفيد بأن الباري يعمل بمطلق الحرية التي تختار من بين ما لا يتناهى من الإمكانات ،أفضلها ليبدعه عن عدم.فاللامتناهي الإمكاني هو العدم .والوجود ينشأ عليه نتوء الصورة على خلفيتها وبروزه، هو مفهوم الآية في الآفاق والأنفس دليلا على أن القرآن حق. وهذا هو الماقبل المطلق.والمابعد هو الإبداع الحضاري ،ابداعا مشروطا بالإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود ،أي بتجليات رئاسته أو استخلافه. 26 13
والوصل الصاعد من القطب الإنساني إلى القطب الإلهي ،هو أفعال الإنسان أو الإبداع الحضاري ،وهو مستحيل التصور من دون تلق مضاعف للآفاق والأنفس.فالإنسان لا يبدع إلا بما يقدر ما يتلقى آيات الآفاق والأنفس ،بنص القرآن الذي لا يعتبر نفسه هو مصدر المعرفة ،بل هو المذكر بمصدرها والمنبه لطرقها.الوحي الخاتم بمقتضى فصلت 53لا يثبت حقيقته بالمعجزات الخارقة للنظام ،بل بالدعوة إلى ما يتجلى من آيات في الآفاق والانفس ،فيثبت أنه هو الحق.ولما كنت ألجأ دائما إلى شواهد من فكرنا ،فسأورد مرة أخرى شاهدا من ابن خلدون \"وأماالأفعال الحيوانية لغير البشر فليس فيها انتظام لعدم الفكر الذي يعثر به الفاعل علىالترتيب فيما يفعل إذ الحيوانات إنما تدرك بالحواس ومدركاتها متفرقة خلية من الربطلأنه لا يكون إلا بالفكر ولما كانت الحواس المعتبرة في عالم الكائنات هي المنتظمة وغيرالمنتظمة إنما هي تبع لها اندرجت حينئذ أفعال الحيوانات فيها فكانت مسخرة للبشرواستولت أفعال البشر على عالم الحوادث بما فيه فكان كله في طاعته وتسخره .وهذا معنىالاستخلاف المشار إليه في قوله تعالى {إني جاعل في الأرض خليفة} فهذا الفكر هو الخاصةالبشرية التي تميز بها البشر عن غيره من الحيوان .وعلى قدر حصول الأسباب والمسببات في الفكر مرتبة تكون إنسانيته\" (المقدمة الباب 6الفصل 11في أن عالم الحوادث الفعلية إنما يتم بالفكر).يمكن القول إن هذا الشاهد يتضمن أغلب ما سبق أن حاولنا بيانه في البحث ،فنحن نجدالعلاقة البينة بين مفهومي سلطان الإنسان الفلسفي والديني مجموعين في مفهوم الفكر الإنساني والتعليل السببي ،رابطة الانتظام في العالم.ومعنى ذلك أن التسخير مشروط بخاصية إدراك الروابط ،بين المدركات بالنظام السببي وهو شارط لمفهوم الاستخلاف الذي يجعل الإنسان رئيسا بالطبع.سلطان الإنسان في أي مستوى من مستويات السلطة ،يعود إلى هذه القدرة الفكرية التي تمكن من إدراك الترابط النظري والعملي الملازمين لوجود الإنسان. 26 14
فإدراك العلاقة بين المقدمة والنتيجة ،في النظر وبين الغاية والوسيلة في العمل ،هما أساس كل سلطان إنساني ،وشرطا رئاسته حتى لو كان عبدا لغيره.فالعبودية بالفعل لا تنفي السيادة بالقوة ،وبينهما تطبيق هذا الفكر الذي يدرك العلاقة بين الحالين ،فيعود من التالي مشروطا إلى المقدم شرطا ليتحرر.فيكتشف أن سلطان غيره عليه علته عدم سلطانه على ذاته .فيكتشف أن استعادة سلطانه على ذاته ،هو المنطلق للتحرر من سلطان غيره عليه بترابط الانتظام.فتصبح السيادة بالطبع هي هذه القدرة بالقوة على استعادة السلطان على الذات ،لنقلهامن منزلة الإنسان الشيء إلى منزلة الإنسان الواعي بمنزلته ،وهذا هو الانتقال من مجردملكة الإدراك إلى إدراك الإدراك ،أو من المعرفي الغفل بإدراك منزلة الذات الملازمة لكرامتها ،فيكون المعرفي خلقيا.وهذا هو الوازع الذاتي الخلقي الذي يعتبره ابن خلدون مقدما على الوازع الأجنبي، أو السياسي ،وشارطا لأدائه وظائفه بلطف ،بدلا من أدائها بعنف. 26 15
ونصل الآن إلى بيت القصيد في إشكالية السلطة :حل ابن خلدون لمعضلة السلطة لميقتصر على وجهها السياسي ،بل هو نظر فيها انطلاقا من أصل وأربعة فروع .فنظرته تجمعبين المنطلقين الفلسفي والديني ،والأصل هو منزلة الإنسان الوجودية التي عرفها فلسفيا بدور الفكر الرابط ،وعللها دينيا بمفهوم الاستخلاف.دور الفكر الرابط فلسفيا والاستخلاف ،يفيدان نفس المعنى ،أي أصل سلطان الإنسانعلى ذاته وبتوسطه على كل ما عداه بفضل علم النظر وعلم العمل على علم ،فيكون كلاالعلمين النظري والعملي استراتيجية سلطان ،أو خطة لتحقيق شروط السلطة التي للإنسان على نفسه وعلى غيره بمنطق علاقة الغاية بالوسيلة. فما طبيعة الأصل الاستخلافي في منزلة وجودية للإنسان؟سماه ابن خلدون \"الإنسان رئيس بالطبع\" ،وهذه الرئاسة تتعين في التاريخ الفعلي سلطة وحب تأله.لكأننا قلنا بعبارة نيتشوية الإنسان \"إرادة قوة\" بالقوة تصبح ،إن تحققت بالفعل ،قوةإرادة سماها ابن خلدون بحب التأله الذي تحكم علاقات الإنسان ،فيكون الاجتماع محكومابما يبدو صراع إرادات يحسم بوضع إرادة متعالية على الجميع ،هي أصل الإرادة الشارعة للتعدد السلمي ،توحده إرادة متعالية.وهذا هو مفهوم الشرائع التي تنسب إلى إرادة متعالية على الأفراد ،سواء نسبت إلىالجماعة أو من فوضت له تمثيل إرادتها ،أو إلى شرع ديني فوق الجميع .فتكون الشرائعنظام السلط أو البنية التي تحول حب التأله بمعنى لا ديني (قوة طبيعية) اساس العبودية، إلى حب تأله ديني (قوة خلقية) أساس الحرية.وبهذا المعنى نفهم نظرية ابن تيمية في الحرية :الحرية هي العبودية لله ،بمعنى أن البشر لا يكونوا أحرارا ،فلا يستعبد بعضهم البعض إلا بعبادة الله. 26 16
عبادة الله ليست العبادات ،لأن هذه مجرد شهادة وتربية لئلا ينسى الإنسان العبادة الحقة أي وعي الإنسان بمنزلته خليفة ،أو راعي الشرائع في العالم.والشرائع هي هذه النقلة من مفهوم حب التأله اللاديني (صراع القوى) إلى حب التأله الديني ،أو احترام شروط حرية كل إنسان ،بوصفه مستخلفا ومكرما.لذلك أرفض منطق الجدل .فهو نكوص إلى قانون التاريخ الطبيعي حيث يكون السلطان على الغير بغياب السلطان على الذات ،أو عدم الوعي بكرامة الإنسان.وإذن فالفتح رسالة خلقية لا استعمارا ،فحقيقته \"نحرركم من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد\" ولن نحاربكم إلا إذا منعتمونا من تبليغ الرسالة.وشرط هذه الرسالة أن يكون من يدعيها قد تحرر قبل ذلك من عبادة العباد ،وآمن بأنالحرية هي كرامة الإنسان ،لأنه بها وحدها يكون أهلا للاستخلاف ،ومن ثم فلا تاريخإنساني من دون هذا المعنى للديني في الأديان ،والفلسفي في الفلسفات :الشرائع شرط تعالي الإنسان على تاريخه الطبيعي الى الخلقي.وهذا أساس قانون أفلاطون الجنائي في العلاقة بالإيمان بالأديان في المقالة العاشرة من الشرائع أو النواميس ،وفرضياته الثلاث حول دور الله.فني وجود الله أو اعتباره غير مبال بما يجري في العالم ،أو قابلا لأن يرشى بالهدايا والأضاحي ،هي الفرضيات الثلاث التي ينزه افلاطون الله عنها.فالأولى تعني أن العالم خاضع للضرورة العمياء ،والثانية تعني أن الله جعل الإنسان مجرد حيوان ،والثالثة تعني أن الله حاكم فاسد .وثلاثتها جرائم.ومن ثم ،فالمشكل المتعلق بالسلطان في التاريخ ،هو مشكل ديني بالأساس كما يحدده افلاطون فلسفيا والإسلام دينيا ،وتلك هي فلسفة التاريخ الخلدونية.وعبارة الإنسان \"رئيس بالطبع\" و\"الإنسان مستخلف\" و\"سياسي بالطبع\" أو \"مدني بالطبع\" عبارات مترادفة .وهي تعني أن الإنسان بالجوهر كائن سلطاني.وكونه سلطانيا يعني أن له إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود ،بل إنه هذه المقومات ولا شيء سواها .فإن حضرت ،فصلاح معاني الإنسانية ،وإن غابت ،ففسادها. 26 17
وقبل أن ندرس هذه الصفات التي هي الكينونة السلطانية للإنسان من حيث هو إنسان مفكر أو مستخلف ،لا بد أن أتكلم على الاستخلاف بأصله وفروعه الأربعة. وسأنطلق من شواهد خلدونية: -شاهد للأصل -وشاهد لكل فرع من الفروع الأربعة حتى يفهم الجميع أن فلسفة التاريخ الخلدونية بما بعدها الفلسفي والديني. -شاهد للأصل:\"وفيه (أي في إسراع الفناء لمن يملكه غيره ،أي للمستعبد) والله أعلم سر آخر (السرالأول هو التكاسل عن الاعتمار بسبب فقدان الأمل) وهو أن الإنسان رئيس بطبعه بمقتضىالاستخلاف الذي خلق له .والرئيس إذا غلب على رئاسته وكبح عن غاية عزه تكاسل حتىعن شبع بطنه وري كبده .وهذا موجود في أخلاق الأناسي .ولقد يقال مثله في الحيواناتالمفترسة وإنها لا تسافد إذا كانت في ملكة الآدميين .فلا يزال هذا القبيل المملوك عليه أمره في تناقص واضمحلال إلى أن يأخذهم الفناء\"(المقدمة الباب 3الفصل .)23 صفة الرئاسة بالطبع (فلسفيا)تترتب على كرامة الاستخلاف (دينيا)والإنسان من دونها ،يتكاسل عن شروط حياته العضوية (الأكل والشرب) وهي إشارة إلى أن الإنسان المدرك لمنزلته الوجودية يفضل الموت على العبودية.وهي إشارة إلى التمييز القرآن بين \"حياة\" و\"الحياة\" كما هو معلوم .فالحرص على \"حياة\" علته عدم الوعي بالمنزلة الإنسانية ومعنى الحياة الحرة.ذلك هو الأصل ،وابن خلدون يقيسه إن نظرنا إليه كقوة طبيعية ،إلى خاصية توجد عند الحيوان المفترس الذي يتوقف عن المسافدة (علة التكاثر) لما يدجن.وتدجين الإنسان هي العبودية ،وهي في فلسفة التاريخ الخلدونية إفقاد الإنسان القدرة على المدافعة بسبب فساد معاني الإنسانية ،فيصبح الإنسان عالة.والعرب الذين كانوا أمة الأحرار ،بالمعنى الذي قاسه ابن خلدون على الحيوانات المفترسة ،صاروا بفضل الإسلام أحرارا ،بالشرائع المتعالية ،صاروا عالة. 26 18
وهم عالة بسبب السلطان الوهمي لأنظمة تابعة تحتمي بالأعداء من شعوبها ،بعد أن صارت عاجزة عن الحماية والرعاية الذاتيتين :فساد معاني الإنسانية. -وهكذا نصل إلى الفروع الأربعة:التي نحن عاجزون عنها بسبب الاستبداد والفساد المستند إلى الاستضعاف والاستتباع في علم النظر وعلم العمل على علم.ولألاحظ أنه لا فضل لي فيما أعرض هنا ،إنما أنا مجرد مترجم لفلسفة ابن خلدون، التي غفل عنها قراؤه المتعجلون لبحثهم على ما يظنونه رفعا من شأنه.ابن خلدون وضع فلسفة لا تدانيها فلسفة كونت ولا فلسفة ماركس ،وهو متقدم عليهما وعلى الفلسفة العملية (علوم الإنسان بالمعنى الحديث) بأشواط لا تقدر. وأريد هنا أن أذكر ظاهرة عجيبة :صلتنا بثروتنا وبتراثنا.فثروة دار الإسلام احتاجت لتقدم الإنسانية العلمي لتظهر .ونفس الأمر بالنسبة إلى تراثها.وقصدي أن المهندس العربي الذي يستخرج قيمة ثروة دار الإسلام ،تكون في الحضارة الغربية الحديثة .والفيلسوف الذي يستخرج قيمة تراثها ،تكون فيها كذلك.ولا عيب ولا غضاضة في ذلك :فكما استفدنا من تراث الإنسانية قبلنا ،واستفادت الإنسانية من تراثنا بعد سبوتنا ،فها نحن نعود لنستفيد ثانية دون عقد.والفائدة هي \"معية الترابط\" ،فكل ما أنسبه إلى ابن خلدون يبدو غريبا لمن قرأه ولمير ما أقول ،لأني أضفت الوصل بين ما كان نتفا مشتتة في عمله ،وهي إضافة منهجيةبالأساس :فابن خلدون مثله مثل ابن تيمية ،لهما ومضات العبقرية التي لم تعد على ذاتها لتنسقها فتستخرج منها البنية الموحدة.والبنية الموحدة في القرآن الكريم هي فلسفة ما بعد التاريخ :إنها بنيته ،موحدة للإنسانية ،سميتها استراتيجية توحيد مع عينة منها :السياسة المحمدية.وهي ما بعد الأخلاق ،لأنها مبنية على تقدم الشرائع على الطبائع ،وهي في الإسلام نظير ما بعد الطبيعة في الفلسفة التي كانت تقول بالتقديم المقابل. 26 19
لكن الفلسفة الحديثة أصلحت نظرية المعرفة -التحرر من المطابقة -تميل إلى الخيار الديني في الترتيب ،وقد تقدم عليها ثالوث مدرسة فلسفتنا النقدية.فالغزالي وابن تيمية وابن خلدون ،تحرروا من القول بالمطابقة (علم الإنسان غير محيط) ،وعندهم الشرائع متقدمة على الطبائع في الطبيعة والتاريخ معا.وهذا التقدم يعني أن السلطان حتى في الطبيعة ليس طبيعيا ،ففيه مثل النظر والعمل على علم ،علاقة ثابتة بين الغاية والوسيلة وبين المقدمة والنتيجة.وما كان فيه هذا الانتظام الذي هو جوهر التشريع لأنظمة القوة ،هو السلطة سواء كان القانون طبيعيا أو خلقيا ،والثاني أسمى من الأول لاتصافه بالوعي.واتصافه بالوعي يجعله في آن قوة إرادة وإرادة قوة .والأولى طبيعية والثانية خلقية. فإرادة القوة عودة على قوة الإرادة ،وعيا بشروطها لتحقيقها.وإرادة القوة هي التي يسميها ابن خلدون حب التأله .وقد يكون حب التأله مجرد قوة إرادة لم ترتق إلى شروط تحققها للجميع ،حتى تصبح أصل الشرائع.والوعي بالشرط يحولها إلى أصل للشرائع ،وهو الوعي بالأهلية الاستخلافية التي هي السياسة ،مؤسسات الحماية والرعاية شرطي السلم والحرية في الجماعة.وإذن فالشريعة في الإسلام ،هي السياسة ،لأنها في آن نظام تربية ونظام حكم ،ومن ثم فهي التعين المؤسسي للدولة المتعالية على التأله اللاديني. 26 20
بقي علينا في فصل خامس وأخير أن نجيب عن سؤالين: -ما فروع هذا الأصل الأربعة؟ -وكيف تتعين السلطة في الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود؟حددت في الفصل الرابع أصل السلط كلها اعتمادا على نص ابن خلدون ،وانتهيت إلى وضع السؤالين ،وجوابهما هو موضوع الفصل الخامس والأخير من إشكالية السلطة.وقد صاغ ابن خلدون هذا الأصل بعدة صيغ أهمها مفهوم \"الرئاسة بالطبع\" وعلله بـ\"مقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" .وهو تعريف مغاير للتعريف الفلسفي.فالرئاسة الإنسانية أو حب التأله -ويكون دينيا أو غير ديني -كما بينا ،ويرد إلى إرادة القوة ،وإذا عاد على نفسه ،قوة الإرادة مقوما لمعاني الإنسانية.وزوال هذا المعنى باضطهاده يفسد معاني الإنسانية ويؤدي إلى الاندثار ،فلكأن ابن خلدون اعتبر إرادة القوة أو الرئاسة بالطبع هي حقيقة الإنسان.وحتى خاصية العقل بمراحله الثلاثة التي يعرف بها الفلاسفة الإنسان (التميزي والتجريبي أو الخلقي والنظري) يجملها ابن خلدون في الفكر ،ويردها إلى السلطة.وهذا هو الأصل الذي علينا تحديد فروعه الأربعة التي بنى عليها ابن خلدون نظريةالإنسان(الانثروبولوجيا) الفلسفية والدينية أساسا لمقدمته ببعديها .وهذه الفروعالأربعة ،هي تعينات الإرادة أو الرئاسة الإنسانية في الصفات الأربعة الباقية ،ببنية عجيبة سأحاول بيان دورها الثوري رغم صوغها باصطلاح عصره.لذلك فدوري هنا يقتصر على ترجمة معاني ابن خلدون الفلسفية والدينية بلغة عصرنا، لأن مصطلحه الأرسطي قد يحول دون فهم ما يعنيه .وليس في الترجمة تكلف. ذلك ان سندي فلسفي وديني: -1يعرف الإنسان بالرئاسة بالطبع ،وليس بالمدنية بالطبع. 26 21
-2ويعتبر الفكر أداة سلطوية ،والمعرفة سلطة تنظيم بهدف العمل. والسند الديني مثل الفلسفي مضاعف: -1بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له-2بمقتضى الاستعمار في الأرض الذي كلف به :تناظر بين عنصري السندين المضاعفين.ولا شيء من ذلك يمكن أن يتأسس على فلسفة أرسطو حتى وإن قيل بالمصطلح الأرسطي. لذلك فما في المقدمة ببعديها ،قاطع مع الفلسفة القديمة والوسطية. الفروع الأربعة هي إذا فرعا العمران وفرعا الاجتماع: فالمقدمة عنوانها\" علم: -1العمران البشري -2و(علم) الاجتماع الإنساني\" ويقدمهما فلسفيا ودينيا. فالعمران البشري يقابل الاجتماع الإنساني مقابلة العلم والقدرة للحياة والوجود. الأول يحتاج لمعرفة قوانين العالم للعيش فيه وتعميره بعمل على علم.وهنا تكون السلطة للعلم بالطبائع وللعلم بالشرائع ،والأول اساس الاقتصاد والثاني أساس السياسة :وبهما يتم العمران البشري الذي هو لسد الحاجات.نوعان من الاستخلاف والسلطان الفرعي الناتج عن الإرادة ،بوصفها إرادة قوة وسلطان على الطبيعة وعلى التاريخ .إنها مرحلة أولى من الإنسانية :بشرية.النوعان الفرعيان الآخران تكتمل بهما الإنسانية ،وهما الحياة والوجود ،أو الفنون ورؤى العالم .فننتقل من العمران البشري إلى الاجتماع الإنساني. والاجتماع غاية العمران ،والإنساني غاية البشري. -1لسد الحاجات -2للأنس بالعشير بذوق الحياة (الفنون) ،وإضفاء المعنى (الفلسفة والدين): سلطان روحي. 26 22
العلم بالطبائع يحقق سلطان الإنسان ليستخرج منها رزقه\" :أما الصنائع فهي ثانيتها (بعدالزراعة) ومتأخرة عنها لأنها مركبة وعلمية تصرف فيها الأفكار والأنظار .ولهذا لا توجد غالبا إلا في أهل الحضر الذي هو متأخر عن البدو وثان عنه\" (الباب 5الفصل .)2 ومنه نظرية :القيمة=كمية العمل.وطبعا ،فحتى الزراعة قبل الصناعة والتجارة بعدها لا يكون أي منهما من دون الأفكار والأنظار عندما يتعقد الاجتماع ويكثر التنافس على الرزق.فالعلم (الأفكار والأنظار) بتطبيقاته ،سلطان على الطبيعة ،يمكن الإنسان من سد الحاجات .لكن وجود الأفكار والأنظار والعلم رهن نظام التعليم والبحث.وهذان المرحلتان بدورهما-إنتاج العلم وتوظيفه لإنتاج الرزق -مشروطان بوجود الجماعة المنظمة ،وهما من الرعاية التي تفترض قبلها وظيفة الحماية.فيكون علم الشرائع وأنظمة الحكم وبنى الدول ،متقدما عليها جميعا حتى وإن اتت هذه كلها تنشأ في البداية من دون علم نشأة بدائية وكأنها جبلة.وفي تلك الحالة -وقد أشار إليها ابن خلدون-يكون الإنسان رهن الطبيعة والجغرافيا والمناخ ،وليس ذا سلطان عليهما في مقامه ولا في سد حاجاته.وهذان هما الفرعان الأولان :سلطان الإنسان الاقتصادي والسياسي ثمرة سلطان العلم على قوانين الطبائع والشرائع .وكلاهما تعين للأصل :رئاسة الإنسان.وهي تجليات الاستخلاف الأصل بالاصطلاح الديني ،وبمقتضاه كان الإنسان رئيسا بالطبع أو الأصل بالاصطلاح الفلسفي ،ويعودان إلى إرادة القوة أو التأله.وإرادة القوة هنا يغلب عليها التأله الذي يبرز في الاستبداد أصل كل فساد :بتوهم العلم محيطا ،والسياسة استبدادا ،والاقتصاد سلطان ثروة لا يحد.أما فرعا الحياة (الفنون) والوجود (الرؤى الفلسفية والدينية) فيغلب عليهما تألهمتحرر من وهم احاطة العلم واستبداد السياسة وطغيان المادة ،فنسبة الذوق (الحياةوالفنون) إلى الوجود (رؤى العالم) في تأله الوجود ،هي عينها نسبة العلم إلى تأله القدرة :أصل الفرق بين مفهومي الرئاسة. 26 23
ففي التأله المادي يمكن للإنسان بالعلم والقدرة أن يتصور نفسه إلها مستغنيا عن الإله الديني ،فيطغى ويستبد سياسيا واقتصاديا .وهو ظاهرة عمرانية.أما في التأله الروحي بالذوق والوجود ،فالإنسان لا يطغى فيدعي أنه هو الله بل يعتبر نفسه آية من آيات الله بموقف جمالي وجلالي من الوجود السامي.ومشكل المشاكل ،هو طغيان وهم الاستغناء عن أحدهما ،أو اعتباره مجرد أداة للآخر: فالإنسان بما هو إرادة قوة لا يقتصر وجوده على الطبائع والشرائع.بل إن الفرعين الأخيرين-الذوق والوجود-يسموان به إلى ما يتعالى على الطبائع والشرائع ،فيجعله كائنا ما بعد طبيعي وما بعد تشريعي :ما بعد الأخلاق.وما بعد الأخلاق الإسلامي يعرف الإنسان مستعمرا في الأرض ومستخلفا فيها .وكونه مستعمرا في الأرض هو الفرعان الأولان ،ومستخلف ،الفرعان الثانيان.فإذا فقد سلطان الاستعمار في الأرض ،بات عبدا لمستعمريها فيعجز عن التحرر مما قد ينجر عن الاستعمار في الأرض ،فيصبح مستخلفا بما يتعالى عليها.وقد خصص ابن خلدون الباب السادس لهذه الفروع ،أو بصورة أدق ،للعلاقة بين العلم وثمراته وبين الذوق وثمراته وأدواتهما الرمزية وشروطهما الاجتماعية. ولنشرع في الجواب عن سؤالنا الثاني:كيف تتعين السلطة في الصفات الخمس ،أو مقومات حقيقة الإنسان ،أي في الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود؟رأينا أن الإرادة هي الاصل بخلاف التعريف الفلسفي للإنسان غير الكلي .فيمكن أن يوجد إنسان غير ناطق ،إما لعاهة عضوية أو لظرف حال دون تعلم النطق.لكنه لا يوجد إنسان غير مريد إرادة إنسانية ،أي إنها تفترض الصفات الأربع الباقية أي العلم والقدرة والحياة والوجود ،فتختلف عن النزوع الحيواني.والإرادة بهذا المعنى طلب سلطة على المطلوب ،أو على من بيده المطلوب أو على من يحول دون المطلوب ،فتكون دائما دافع لخطة للحصول على المطلوب. 26 24
فالغائية في الإرادة التي بهذه الصفات ،لها وجودان في الأذهان وفي الأعيان .وقد وصفها ابن خلدون في كلامه على الأصل :غاية الفكرة بداية العمل.الإرادة تحرك الفكر فيكون إحدى أدواتها وليس هو الأصل .لذلك كانت معضلة ديكارت المنهجية هي كيف أحرر الحكم المتناهي من الإرادة اللامتناهية.كل مشكل الحكم العلمي عند ديكارت ،وكل غاية المنهج هي تمكين المفكر من السيطرة على الإرادة الجامحة التي لا حد لما تريد ،حتى يكون الحكم علميا.بعبارة أوجز ،يمكن أن نقول إن العقل هو الملكة التي تأتي بعد الإرادة \"لعقلنتها\" أو للسيطرة عليها ،وتلك هي بداية سلطان الإنسان على ذاته بذاته.لكن هذا الوازع الذاتي العقلي الذي يسعى للسيطرة على الإرادة لا يكفي ،بل لا بد من وازع أجنبي يحد من الإرادة بصورة حاسمة وتلك هي وظيفة القدرة.فالإنسان ليس فعالا لما يريد ولا على كل شيء قدير ،فيشرع في فهم حدوده ولا يتأله بالمعنى السلبي الذي وصفنا .والاستبداد هو وهم القدرة المطلقة.وإذن فالإنسان مدني بالطبع لا يتعلق بالبعد السياسي فحسب ،بل إن ذلك مقوم للذات الفردية :فالقدرة إضافية إلى العالم وإلى الجماعة كحائل أو مساعد.لا تتحدد الإرادة الفعلية إلا بعد تحدد وجهي السلطان عليها الذاتي (العقل) والموضوعي (شروط القدرة الطبيعية والاجتماعية) :سلطان ذاتي وموضوعي.علم النفس يعرف هذه العلاقة بين الإرادة وشروط القدرة بالعلاقة بين مبدأ الشوق ومبدأ الواقع .وليست علاقة صراع ،بل علاقة مقومات سلطان الإرادة.الإرادة تكون سلطانا إذا تعقلنت فقدرت .ومن هنا يكون العلم في خدمة الإرادة لتحقيق القدرة .إدراك ذلك إدراك لنسبية السلطان ،فيزول الاستبداد.ليس للإنسان من حيث هو فرد سلطان على أي شيء إلا بسلطانه على ذاته ،لتكون إرادته قابلة للتحول إلى قدرة .وذلك مشروط بعلم الطبائع والشرائع.ومن ثم فكل سلطان تسهم فيه كل الجماعة ،بسبب إسهامها في شروطه العلمية والتقنية والتعبيرية وهو بالضرورة عمل جماعي في كل مراحله حتى الذهنية. 26 25
كل ما في الأمر هو أن هذا التكون الجمعي للسلطان ،يكون في الأذهان رمزيا وهو في الأعيان فعلي .إنه سلطان \"خفي الاسم\" كالأدب الشعبي :فاعله لا محدد.لا شك أنه رسميا وفي الظاهر فالقرار في الحكم مثلا يعود لمن هو حاكم في النصوص .لكن القرار أشبه بما يجري في الإدارة الأمريكية ،باطنه غير ظاهره.والوصف يصح على سلطان الذات على ذاتها ،وسلطان الأب في الأسرة ،وسلطان اي مدير على إدارته ،وأي حاكم على نظامه ،وأي جماعة على أحداثها :اللامحدد.وكل أوهام المتكلمين على الدول الغربية وعلى سلطانها المطلق على ما يجري في العالم ومنها نظرية المؤامرة ،أوهام :ظاهر السلطان غير حقيقته. وسأكتفي بمثالين :من الاقتصاد ومن السياسة.نعم الشعوب المتقدمة تسيطر عليهما أكثر من الشعوب المتخلفة .لكن الأمرين مبنيان على مبدأ لا عقلاني.فرغم كل تخطيط مسبق ،يبقى الاقتصاد محتكما إلى مبدأ لا عقلاني ،وهو أن السوق تعدل نفسها بنفسها ،وكلنا يعلم أن العامل النفسي والشائعات يزلزلانه.والديمقراطية هي اللاعقلانية بافتراض أن الجماعة لا تجمع على خطأ .وإذن فأساس الاقتصاد والديمقراطية ،الاعتراف بنسبية العلم ،والرضا بالممكن منه.والرضا بالممكن ،ينتج عن إدراك حدود السلطان الإنساني .وإدراك الحدود ،هو السلطان الفعلي بالمقابل مع الإرادة التي يمكن تغفل عن العقل والقدرة.وللإنسان مخرج يمثله الذوق والوجود ،فهما يجعلان الإرادة مشاركة في الخلق على المستوى الرمزي لتذوق الحياة ولتصور الوجود ،وتلك هي العبادة الحقة. 26 26
02 01 01 02تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي :محمد مراس المرزوقي
Search
Read the Text Version
- 1 - 32
Pages: