Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore حقيقة السلطة أو معضلة العلاقة بين الشرائع والطبائع - ابو يعرب المرزوقي

حقيقة السلطة أو معضلة العلاقة بين الشرائع والطبائع - ابو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2017-05-28 10:35:24

Description: حقيقة السلطة أو معضلة العلاقة بين الشرائع والطبائع - ابو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أو معضلة العلاقة بين الشرائع والطبائع‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫أو معضلة العلاقة بين الشرائع والطبائع‬

‫المحتويات‬ ‫‪1‬‬ ‫‪6‬‬‫‪11‬‬‫‪16‬‬‫‪21‬‬

‫أكثر معضلات الأنظمة التي يبدعها الإنسان‪ ،‬للسلطان على حياته فردية كانت أو‬ ‫جماعية‪ ،‬تتمثل في طبيعة هذا السلطان ما هي‪ ،‬وإلى من يمكن أن ننسبها؟‬‫أعلم أن لأستاذي ميشال فوكو اجتهادات في المسألة‪ ،‬وأنه يؤمن بكونها ظاهرة متفشية في‬ ‫كل شيء وفي كل سلوك‪ ،‬وأنها عسيرة التحديد‪ .‬ومع ذلك سأحاول الفهم‪.‬‬‫وسأبدأ بما اعتبره سر السلطة‪ :‬فلأسم سلطان الإنسان على شؤونه بنظام الشرائع‪،‬‬ ‫ولأسأل عن علاقته بسلطان الطبائع‪ .‬ما طبيعة علاقتهما وصلتها بالسر؟‬‫فعلاج هذا السر‪ ،‬يشبه عندي علاج العائق دون فهم طبيعة السلطة وطبيعة من تنسب‬ ‫إليه فعلا‪ ،‬لنفهم سر الفرق بين ما تحدده النصوص‪ ،‬وما يتعين في الممارسات‪.‬‬‫وبصورة شبه عامية‪ :‬من يحكم في الشؤون البشرية بمستوياتها الخمسة‪ ،‬أي أصناف‬ ‫النخب‪ ،‬أنظمة سلطوية‪ :‬مستوى الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود؟‬‫بعبارة وجيزة‪ :‬ما طبيعة السلطة في مجالات الإرادة (السياسة) والعلم (المعرفة)‬ ‫والقدرة (الاقتصاد) والحياة (الفنون) والوجود (الرؤى دينية وفلسفية)؟‬‫ما طبيعة السلطة السياسية؟ وهل هي كما تحددها الدساتير؟ والسلطة العلمية؟ وهل‬ ‫هي كما تعرضها التواريخ؟ والسلطة الاقتصادية؟ وهل هي كظاهرها؟‬‫السؤال الأهم‪ :‬لعلها كلها من طبيعة واحدة وخاضعة لنفس القوانين‪ ،‬فتكون الشرائع‬ ‫(أنظمة السلطة الوضعية) ذات صلة بالطبائع (أنظمة السلطة الطبيعية)‪.‬‬‫لكن إذا صدقت فرضيتي‪ ،‬ألا يعني ذلك أن الشرائع خدائع‪ ،‬وأنها في الحقيقة مبينة على‬ ‫أن ما يحكم البشر لا يختلف عما يحكم الكائنات الحية الأخرى؟‬‫أيكون الإنسان ‪-‬الذي يتوهم أن له ما به يسود على التاريخ الطبيعي لحيوانيته‪-‬قد‬ ‫ابتدع حيلا يبرر بها إخفاءه لخضوعه في الحقيقة للتاريخ الطبيعي؟‬ ‫‪26 1‬‬

‫وحينئذ يصبح سؤال دور الأديان محيرا‪ :‬هل هي من نفس الجنس المخادع‪ ،‬الذي يزعم‬ ‫به الإنسان تجاوز حيوانيته إلى ما يسمو به عليها‪ ،‬نحو إنسانية فعلية؟‬‫ومعنى ذلك أني لو لم تكن مسألة الدين تعترضني‪ ،‬لرضيت بالجواب البسيط الذي يرد‬ ‫الشرائع للطبائع‪ ،‬معتبرا ما يتجاوز الأخيرة وهما إنسانيا بلا حقيقة‪.‬‬‫لولا الدين لكان الامر هينا ولقبلت بأن ما يتجاوز به الإنسان الحيوان‪ ،‬وهم إنسان‪.‬‬ ‫فعندي أن الإنسان لا يتجاوز الطبيعة إلا بالشريعة القرآنية‪.‬‬‫لكن الشريعة القرآنية ليست ما يفهمه الفقهاء بهذا المفهوم‪ ،‬أي إنها ليست الأحكام‪ ،‬بل‬‫ما يجعل الأحكام تكون بعض تطبيقاتها‪ :‬إنها الماوراء المطلق‪ ،‬فلولاها‪ ،‬لكانت الإرادة مجرد‬‫غريزة‪ ،‬والمعرفة مجرد انفعال‪ ،‬والقدرة مجرد قوة طبيعية‪ ،‬والحياة مجرد نوازع‪ ،‬والوجود‬ ‫حصيلة لمفعول الطبائع في الإنسان‪.‬‬‫إنها ما به يكون الإنسان أهلا للاستخلاف‪ ،‬أو ما لأجله كرم الله الإنسان فجعله أسمى من‬ ‫الملائكة‪ ،‬رغم أنه يفسد ويسفك الدماء بسلطان الطبيعة عليه‪.‬‬‫الوعي بهذه المنزلة الوجودية للإنسان‪ ،‬هي الدين ولا شيء سواها‪ ،‬وهي شرط الحرية‪،‬‬ ‫أي السمو على قانون الطبيعة (الضرورة)‪ ،‬من ثم فهي اساس الأخلاق‪.‬‬‫ويكذب من يزعم أن كنط يفصل بين الدين والأخلاق‪ ،‬بمعنى الفصل الذي يجعل الإنسان‬‫يمكن أن يكون حرا مستثنى من قانون الطبيعة‪ ،‬من دون مسلماته الدينية‪ ،‬فمن دون مسلمة‬‫الحرية (أي الاستثناء من الضرورة الطبيعية) وخلود النفس ووجود الله‪ ،‬لا يمكن أن نفهم‬ ‫الحاجة إلى التمييز بين الفينومان والنومان‪.‬‬‫فكل ما يرد لقانون الضرورة الطبيعية‪ ،‬من الفينومان‪ ،‬وكل ما يتجاوزه للحرية الخلقية‪،‬‬ ‫من النومان‪ .‬فقانون الطبائع أو الضرورة لا يقبل أي استثناء‪.‬‬‫والخلقي شرطه يقتضي الاستثناء من قانون الطبيعة‪ :‬الحرية‪ ،‬وعلاقة القانون الطبيعي‬ ‫والخلقي هي القضية الام في الفلسفة عامة‪ ،‬وفي نظرية المعرفة خاصة‪.‬‬‫الفصل بين مجالين من مجالات البحث الفلسفي (الدين والأخلاق) لا يعني الفصل بين‬‫الديني والخلقي‪ :‬فشرطهما الحرية أو التعالي على قانون الضرورة‪ .‬والحرية أو التعالي‬ ‫‪26 2‬‬

‫على قانون الضرورة هو جوهر الديني في كل دين‪ ،‬وهو عين التكريم الذي يؤسس‬ ‫للاستخلاف أو للتحرر من كل معبود سوى الله‪ :‬مطلق الحق‪.‬‬‫والأهم من ذلك‪ ،‬هو أن الضرورة لا يمكن أن تتحمل الاستثناء‪ ،‬والحرية تتحمله‪ ،‬ما‬ ‫يعني أنه علينا ليكون للحرية مكان أن تكون متقدمة على الضرورة‪.‬‬‫ومن هنا يصبح نظام الوجود شرائع متقدمة وطبائع تالية‪ ،‬بوصفها استثناء أو خيارات‬ ‫ثابتة من لدن حرية مطلقة متقدمة الوجود عليها‪ ،‬تضعها حدودا للكيان‪.‬‬‫وهذا هو مفهوم التشريع بمعنى السنن التي لا تتبدل ولا تتحول‪ ،‬لأنها من وضع حكيم‪،‬‬ ‫أوهي خيارات منتخبة من الإمكان المطلق إلى الإمكان الأفضل للكائن‪.‬‬‫وهذا هو مبدأ الترجيح‪ ،‬فمن بين عدة امكانات عقلية مجردة‪ ،‬يقع انتخاب أحدها بوصفه‬ ‫الأفضل للكيان وللغرض من إيجاده‪ ،‬تماما كما نفعل في التكنولوجيا‪.‬‬‫ودون قيس على عملنا على علم‪ ،‬يؤمن المتدين أن الله خالق الموجودات والوجود على‬‫هذا النحو من الانتخاب الحر لأفضل الحلول‪ ،‬ويجعلها ذاتية التعديل‪ ،‬فيجعل الحرية‬‫الإلهية التي تعني الخلق عملا على علم‪ ،‬متقدمة على الطبائع بوصفها خيارات خاضعة‬ ‫لانتخاب حل أفضل‪ ،‬يبرمج ليكون ذاتي التعديل‪ :‬طبيعة‪.‬‬‫ولما كان مفهوم \"طبيعة\" يعني فعلا يبدو لنا مضطرا‪ ،‬فيعسر الجمع بينه وبين الحرية‪،‬‬ ‫فلنسمه كما يفعل الغزالي \"خلقة\"‪ ،‬ففعل الخلق الحر هو الأصل فيه‪.‬‬‫وتلك هي العلة التي جعلت لايبنتز يميز بين الضرورة الرياضية والضرورة الطبيعية‪،‬‬ ‫وحتى أرسطو فإنه قد ميز قبله بين الضرورة والضرورة الشرطية‪.‬‬‫افترض لايبنتز النقلة من الرياضي إلى الطبيعي‪ ،‬مشروطا بتدخل عناية إلهية تنتخب‬ ‫الأفضل من بين الممكنات العقلية‪ ،‬لتكون طبيعة ذاتية التعديل‪.‬‬‫لكن أرسطو اعتبر هذه النقلة هي الفرق بين الضرورة العمياء‪ ،‬غير المشروطة بانتخاب‬ ‫آلة طبيعية تحقق غاية متقدمة‪ ،‬والضرورة المشروطة بها لتحقق غاية‪.‬‬‫وذلك هو قصده بالعلة الرابعة أو العلة الغائية في كل كائن‪ .‬فلكأن كل طبيعة هي جهاز‬‫من الأعضاء‪ ،‬وظيفتها تحقيق غاية‪ ،‬هي ما به تكون الطبيعة كائنا‪ ،‬ومنظومة كل الكائنات‬ ‫‪26 3‬‬

‫أو العالم الطبيعي‪ ،‬هي بدورها من هذا الجنس أو طبيعة الطبائع‪ ،‬التي تجعلها هي بدورها‬ ‫جهازا من الآليات غايتها نظام العالم‪.‬‬‫وهذا الجهاز الكلي الذي ينتظم به العالم كله‪ ،‬هو نظام حركات الأفلاك التي تحرك‬ ‫الكائنات الجزئية‪ ،‬في عملية تخلق شبه ذاتي لكنه رهن النظام العام‪.‬‬‫وفي الخطاب الفلسفي‪ ،‬تبدو الفلسفة العملية (نظرية الشرائع) وكأنها تقاس على‬ ‫الفلسفة النظرية(نظرية الطبائع)‪ ،‬لكن الحقيقة هي العكس تماما‪ :‬العالم دولة‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن الرؤية الدينية التي تقدم الشرائع على الطبائع‪ ،‬هي التي أصبحت رؤية‬ ‫فلسفية بمجرد أن قالت بأن الطبائع حصيلة خيارات من الممكن العام‪.‬‬‫فبفضل هذا التمييز بين الضرورة العمياء والضرورة التي تحقق غاية أو المشروطة‬ ‫بغاية‪ ،‬ننتقل من عالم فوضوي إلى عالم عمل على علم‪ ،‬بغائية سابقة‪.‬‬‫ولذلك‪ ،‬فكل أدلة الفلسفة على وجود الله ‪-‬والكلام‪-‬تعود إلى هذا الدليل الوحيد في‬ ‫الحقيقة‪ :‬فالنظام في العالم لا يعلل بالصدفة‪ ،‬بل بعمل على علم‪.‬‬‫لكن الغريب في الأمر هو أن العامي الذي لا يدرك ذلك‪ ،‬قد جعل الشرائع المشروطة في‬‫الطبائع تحت مسمى القضاء والقدر‪ ،‬اساسا للجبرية بدلا من الحرية‪ .‬وأقول العامي ولست‬‫غافلا عن القائلين بالجبر من كبار الفلاسفة والمتكلمين‪ ،‬فهؤلاء ايضا هم عامة لأنهم الغوا‬‫الحرية بحجة رفض الاستثناء في الطبيعة‪ ،‬ورمز هذا الرفض قولة سبينوزا الشهيرة‪:‬‬‫الإنسان ليس دولة (حريته) في الدولة (ضرورة الطبائع)‪ .‬والرؤية الاسلم تجعل الطبائع‬ ‫شرائع ثابتة في نظام تام‪.‬‬ ‫وفي تلك الحالة تصبح الحرية‪ ،‬التي هي أوسع‪ ،‬قابلة لأن توجد نوعين من الكائنات‪:‬‬ ‫‪ -‬طبائع هي شرائع ثابتة‬ ‫‪ -‬وشرائع هي طبائع متغيرة‪.‬‬ ‫وهذه ضمن تلك‪.‬‬‫فيكون لدينا نوعين من الحرية مطلقة‪ ،‬هي حرية الخالق‪ ،‬ونسبية‪ ،‬هي حرية خليفته‪.‬‬ ‫ونوعين من الطبائع هي‪ :‬طبيعة الطبيعة‪ ،‬وطبيعة هي سنن التاريخ الإنساني‪.‬‬ ‫‪26 4‬‬

‫ولهذا فلا يوجد من هو أغبى من نفاة نظرية الدولة في الإسلام‪ :‬فالقرآن كله مبني على‬ ‫أن العالم مؤلف من دولتين‪ :‬غاية هي الآخرة‪ ،‬وبداية هي الدنيا‪.‬‬‫ودولة الآخرة هي دولة الشفافية المطلقة‪ ،‬حيث إن كل الكائنات يكون ظاهرها مطابقا‬ ‫لباطنها‪ ،‬حتى إن الأعضاء تشهد في أخرى الكائن على فعله في دنياه‪.‬‬‫وهذا شرط حرية الإنسان‪ :‬فلو كان ظاهره مطابقا لباطنه في دنياه‪ ،‬لما كان مكلفا بالصدق‬ ‫تكليفا تقاس به مجاهدته‪ ،‬ليسهم في كماله تحريرا من الضرورة‪.‬‬‫لكأن الله بمفهوم الاستخلاف‪ ،‬أبقى للإنسان مجالا ليكون \"مبدع\" نفسه فيما يمكن اعتباره‬ ‫مساحة حريته‪ ،‬التي بمجرد إمكانها نال التكريم والتكليف‪.‬‬‫هذه تأملات فلسفية ودينية يمكن أن تسهم في إخراج بعض الشباب مما تردى إليه‬ ‫الخطاب الذي ج ّمد مفهوم المجاهدة غاية من التربية الدينية على الحرية‪.‬‬ ‫‪26 5‬‬

‫مساحة الحرية هي مجال السلطة الفعلي‪ ،‬أو بصورة أدق‪ :‬ما يقبل الرد إلى قدرة انسانية‬ ‫ذاتية‪ ،‬للعمل على علم‪ ،‬مقابل المسؤولية فلسفيا‪ ،‬والتكليف دينيا‪.‬‬ ‫فكيف نقدر هذه المساحة؟‬‫هي ما اعتبره ديكارت منطلقا لإثبات وجود الله‪ :‬إنها الوعي بالفرق بين صفات يعيها‬ ‫الإنسان في نفسه وكونها دون مثالها الأعلى‪.‬‬ ‫لم يتكلم ديكارت على كل هذه الصفات‪ ،‬لكنه اكتفى بصفتين‪:‬‬ ‫‪ -‬الوعي بالإرادة‬ ‫‪ -‬وبالحكم العقلي‪.‬‬ ‫فهذا دون ذاك‪ ،‬وكلاهما دون مثالهما الأعلى كمالا‪ :‬التضايف‪.‬‬‫فتضايف الوعي بالنقص‪ ،‬والوعي بالكمال‪ ،‬ملازم لكل وعي إنساني‪ ،‬وهو بصورة مبسطة‪،‬‬ ‫تضايف الوعي بالذات وبالله معا‪ ،‬والمسافة بين الذاتين هي مساحة الحرية‪.‬‬‫إنها مساحة المسعى الإنساني لاستكمال ذاته‪ ،‬مع العلم بأن المثال لا يدرك‪ ،‬لكن المهم هو‬ ‫السعي‪ ،‬لأن الأمر يتعلق بواجب السعي وليس بواجب النتيجة‪.‬‬‫وواجب السعي وعي بسلطان يجعل سلطان الذات على ذاتها أولى علامات الحرية‪،‬‬ ‫وجوهر كل سلطان على الغير‪ ،‬سواء كان بشرا أو حجرا‪ :‬الوعي بالذات هو السلطان‪.‬‬‫فكيف يتجلى هذا السلطان في المساحة الفاصلة بين الصفات الخمس‪ ،‬في نسبتها إلى‬ ‫الإنسان وفي نسبتها إلى ملازمه‪ ،‬أو الله‪ ،‬للتضايف بين النسبي والمطلق؟‬ ‫والصفات الخمس سبق أن تكلمنا عليها بإفاضة‪:‬‬ ‫‪ .1‬الإرادة‬ ‫‪ .2‬والعلم‬ ‫‪ .3‬والقدرة‬ ‫‪26 6‬‬

‫‪ .4‬والحياة‬ ‫‪ .5‬والوجود‪.‬‬ ‫والمساحة هي الفرق بينها صفات للإنسان نسبية‪ ،‬وصفات لله مطلقة‪.‬‬‫التضايف بين الذات الإنسانية والذات الإلهية‪ ،‬أو بين المتناهي واللامتناهي‪ ،‬يتعين في‬ ‫الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود‪ .‬والفرق كيفي لا كمي‪.‬‬‫ولعل أبرز مثال أن الإنسان مصيره الموت‪ ،‬حتى لو كان خاتم الرسل‪ .‬والله قيوم حي لا‬ ‫يموت‪.‬‬ ‫وهما مختلفان كيفيا أي بالجوهر‪ .‬فاللامتناهي ليس متناهيا أكبر‪.‬‬‫ومن ثم فالسلطان الإنساني متناه‪ ،‬وهو غير معلوم الطبيعة‪ ،‬وغير محدد المرجع‪ :‬فمثلا‬ ‫لا ندري من يحكم لأنه دائما مؤلف من متدخلين كثر‪ ،‬ومجهول جلهم‪.‬‬‫لا أنكر أن الملحد يمكن ألا يعتبر هذا الفرق دليلا على وجود المثال‪ ،‬معتبرا الوعي‬ ‫بالتضايف بين الحاصل من الممكن‪ ،‬وغير الحاصل منه‪ ،‬مجرد وهم إنساني‪.‬‬‫ما أعيبه على الملحدين هو القصور الذهني الذي يجعله لا يدرك أن نفيه غير الحاصل‬ ‫من الممكن‪ ،‬يجعل الحاصل واجبا‪ ،‬فينفي الحرية ويصبح قائلا بالجبر‪.‬‬‫وبذلك‪ ،‬فبدعوى التحرر من سلطان فوقه‪ ،‬ينفي كل سلطان ينسبه إلى نفسه‪ :‬الملحد‬ ‫قائل بالضرورة الطبيعية دون سواها‪ ،‬وناف لكل حرية‪ .‬إنه قشة في مهب الريح‪.‬‬‫الملحد من حيث لا يعلم‪ ،‬وبدعوى التحرر من القيود الدينية‪ ،‬ينتهي إلى أن يتحول إلى‬ ‫\"فاتاليست\" اي قائلا بالحتمية الطبيعية‪ ،‬ونافيا لمساحة الفعل الحر‪.‬‬‫وعندما يصبح الإنسان خاضعا للقانون الطبيعي‪ ،‬فإنه يفقد كل سلطان على ذاته وعلى‬ ‫غيره‪ ،‬ويكون السلطان كله للآليات الطبيعية بتأثير مجهول الطبيعة‪.‬‬‫فالكلام على أخلاق الملحد كذبة‪ ،‬لخلط صاحبها بين مرجع الأخلاق‪ ،‬أو الفعل الحر‬ ‫الواعي بسلطانه‪ ،‬ومجرد العمل بالعادات كأخلاق موضوعية طبيعة ثانية‪.‬‬‫الملحد الصادق أفضل من المؤمن المنافق بمعيار الأخلاق الموضوعية‪ .‬لكنه بصدقه‪ ،‬يكون‬ ‫قد تجاوز مجرد السلوك إلى الوعي بأساسه‪ ،‬فلم يبق ملحدا بحق‪.‬‬ ‫‪26 7‬‬

‫لا يكتفي برد سلوكه الصادق إلى مجرد عادة‪ ،‬بل هو يدرك أن له سلطانا على أفعاله‬ ‫يتجاوز مجرد العادة إلى الوعي بحرية الاختيار فلم يبق \"فاتاليست\"‪.‬‬‫وإذ لم يبق \"فاتاليست\" فإنه قد ميز بين القانون الطبيعي والقانون الخلقي‪ ،‬فأصبح يؤمن‬‫بأن الإنسان له ما به يسمو على مجرى الطبيعي إلى مجرى الشريعة‪ ،‬فيدرك أن له من‬‫مجرى الشريعة نصيبا‪ ،‬فيفهم معنى الاستخلاف‪ :‬أي إن النظام الطبيعي هو بدوره ذو‬ ‫مرجعية تفترض الحرية قبل الضرورة كالنظام التاريخي‪.‬‬‫ولا يبقى إ ّلا الترتيب بين النظامين‪ :‬المؤمن يؤمن بأن الطبيعة نفسها ظاهرة تاريخية‪ ،‬أي‬ ‫إن لها صيرورة مثل التاريخ‪ ،‬وطبعا فمبدعها ليس الإنسان‪.‬‬‫والطبيعة ليست مبدعة ذاتها‪ ،‬فضلا عن أن تكون مبدعة الإنسان والتاريخ الحضاري‪.‬‬ ‫مجرد فهم ذلك هو معنى الدين (إرادة الله) ومعنى الفلسفة (عقل الله)‪.‬‬‫ولأسارع بالقول إن هذا الكلام لا علاقة له بالغيب‪ .‬فكل ما ذكرنا كلام على ما يشهده‬ ‫الإنسان من نفسه وعيا بذاتها‪ ،‬وبما يلازم هذا الوعي من مقومات‪.‬‬‫وما يلازم الوعي بالذات من مقومات‪ ،‬هو ما أطلقنا عليه اسم المعادلة الوجودية‪ :‬أي إن‬ ‫أي إنسان مهما كان غافلا‪ ،‬بمجرد أن يعي ذاته‪ ،‬يعي بنية وعيه‪.‬‬‫وقد تكون هذه البنية مبتورة من أحد قطبيها‪ ،‬فتنتهي إلى فقدان قطبها الثاني‪ ،‬ولا‬ ‫يبقى منها إلى وسطيها الطبيعة والتاريخ وفوضى التخبط بينهما‪.‬‬‫والقطبان المتلازمان والمتضايفان تضايف المتناهي واللامتناهي‪ ،‬أو نسبي الحاصل من‬‫الممكن والممكن المطلق‪ :‬ذات الإنسان وذات الله في وعي الإنسان‪ .‬عندئذ يتحول فوضى‬‫التخبط بين الوسيطين الطبيعة والتاريخ إلى عملية وصل منتظم بين القطبين‪ ،‬بتوسط العلم‬ ‫بقوانين الوسيطين مجالا لحرية الإنسان‪.‬‬‫وهذا المجال الذي تتعين فيه حرية الإنسان‪ ،‬أو العمل على علم‪ ،‬تقتضي أن يقلب‬ ‫الإنسان العلاقة بين الطبائع والشرائع‪ ،‬فيجعل هذه أصل تلك‪ :‬حرية الله‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن الإنسان لا يمكن أن يكون حرا‪ ،‬إلا كخليفة‪ ،‬أي إلا إذا كانت طبائع العالم‬ ‫كله ذات نظام هو شريعتها الأتم‪ ،‬وعمل الإنسان محتذيا لسننها‪.‬‬ ‫‪26 8‬‬

‫وقد نبهت إلى أن ما أتكلم عليه من الشاهد لا من الغيب‪ ،‬فكما يعلم الجميع ارفض علم‬ ‫الكلام الذي يقيس الغيب على الشاهد‪ ،‬للخلط بينه وبين الغائب‪.‬‬‫والشاهد في وعي الإنسان من كيانه الطبيعي والخلقي‪ ،‬وفي نص القرآن الذي يدعونا‬‫إلى رؤية حقيقته في ما يرينا الله من آياته في الآفاق والأنفس‪ ،‬ففي الآفاق‪ ،‬نرى آيات‬‫العلاقة بين الذاتين بتوسط الطبيعة والتاريخ‪ ،‬أو تعين التشريعين المطلق (الطبيعة شرط‬ ‫وجود) والنسبي (التاريخ شرط وعي به)‪.‬‬‫فإذا أضفنا وظيفة الرسالة الخاتمة‪-‬القرآن‪ -‬بوصفها تذكيرا بالديني فيها‪ ،‬وليس وضعا‬ ‫له‪ ،‬أمكننا أن نفهم ان الوصل بين القطبين له مساران نازل وصاعد‪.‬‬‫وامتياز الرسالة الخاتمة‪ ،‬أنها تعتبر النازل ليس حكرا على أمة دون أمة‪ ،‬بل هو كوني‪،‬‬ ‫بمعنى أن كل أمة لها رسول بلسانها يذكر بالديني في كيان الإنسان‪.‬‬‫والرسالة الخاتمة تضيف أنها بخلاف ما تقدم عليها‪ ،‬ليست خاصة بأمة دون أمة‪ ،‬بل هي‬‫كونية أي إن جوهرها هو النساء ‪ 1‬والحجرات ‪ :13‬الأخوة والمساواة‪ ،‬وتحريف الرسالة يرد‬‫في القرآن إلى ظاهرتي الوساطة بين المؤمن وربه‪ ،‬والحكم بالحق الإلهي‪ ،‬وأهم شرطين‬‫لتحقيق الاخوة والمساواة‪ ،‬التحرر منهما‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬فالأمر كله يعود إلى تحريف السلطتين‬‫الروحية والسياسية‪ :‬فالوساطة الكنسية تحريف لسلطة الرب الروحية‪ ،‬والحكم بالحق‬ ‫الإلهي تحريف للاستخلاف‪.‬‬‫سلطة الكنسية وساطة بين المؤمن وربه‪ ،‬وسلطة الحكم بالحق الإلهي وساطة بين المؤمنين‬ ‫وشأنهم العام‪ ،‬وإلغاء الوساطتين‪ :‬ثورة الإسلام لتحرير الإنسان‪.‬‬‫وتحريره هنا يعني استرداد سلطانه الذي ينتج عن حريته وتكليفه‪ :‬فما يحاسب عليه‬‫قرآنيا هو اجتهاده وجهاده في تحقيق الحريتين الروحية والسياسية‪ ،‬لذلك فكل كلام على‬‫غياب مفهوم الدولة في الإسلام‪ ،‬دليل على العمى العقلي والروحي‪ :‬فجوهر الدين هو‬‫التربية والحكم بما يترتب على حرية الإنسان‪ ،‬والدليل القاطع‪ ،‬هو تعريف المؤمن إنشاء‬‫(آل عمران ‪ )104‬وخبرا (آل عمران ‪ )110‬بما يترتب على الحرية روحيا وسياسيا‪ :‬الأمر‬ ‫بالمعروف والنهي عن المنكر‪.‬‬ ‫‪26 9‬‬

‫وبين أن الأمر والنهي هما جوهر السلطة‪ .‬فإذا عرف المؤمن بهما‪ ،‬فإذن الاستخلاف هو‬ ‫سلطة الإنسان المترتبة على تكليفه‪ ،‬وحريته ومسؤوليته علة تكريمه‪.‬‬‫وإذا كان كل مؤمن له حق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وواجبهما‪ ،‬فالسيادة التي‬ ‫تنتج عن الدور في السلطتين الروحية والسياسة هي جوهر الإيمان‪.‬‬‫وقد وصف ابن خلدون الإنسان بكونه \"رئيسا بالطبع\" معللا ذلك \"بمقتضى الاستخلاف‬ ‫الذي خلق له\"‪.‬‬‫في الإسلام المؤمن يعرف بدوره في التربية والحكم‪ .‬وقد أزالت الوظيفتين استعادة‬‫الكنسية للفاسقين (الحديد ‪ )27‬والحكم بالحق الإلهي أو الطبيعي للمستبدين والفاسدين‪،‬‬ ‫ففقدت الأمة شرطي الإيمان الحق‪.‬‬ ‫لذلك فالثورة الجارية حاليا هي بداية الاستئناف بالمعنيين‪:‬‬ ‫‪ -‬استئناف التحرر من التحريفين‬ ‫‪ -‬واستئناف بناء التربية والحكم باسترداد رئاسة الإنسان‬‫ولا يمكن استرداد سيادة الإنسان الروحية والسياسية من دون التحرر من الاستبداد‬ ‫والفساد داخليا‪ ،‬والاستضعاف والاستتباع خارجيا‪ :‬مرضا الأمة حاليا‪.‬‬‫فثورة الشباب كانت موجتها الأولى ثورة على الاستبداد والفساد‪ ،‬وصارت موجتها الثانية‬ ‫ثورة على الاستضعاف والاستتباع‪ :‬وكلتاهما فخر شباب تونس‪.‬‬‫وشباب تونس حتى في مطالب الموجة الأولى‪ ،‬كان مدركا لأبعادها الإسلامية‪ :‬فبيتا الشابي‬ ‫تصويب لرؤية القضاء والقدر لاسترداد دور المسلم في التاريخ‪.‬‬ ‫‪26 10‬‬

‫بينا في الفصل الثاني شروط نسبة أي سلطة للإنسان‪ ،‬مختلفة عما فيه من سلطة تنسب‬‫إلى ما فيه من طبيعي‪ ،‬ليس له عليه سلطان مباشر‪ :‬وظائف كيانه العضوي‪ ،‬ويمكن أن نعتبر‬‫ما يتعلق بكيان الجماعة متضمنا كذلك ما ليس للإنسان عليه سلطان‪ ،‬بمعنى أن للطبيعة‬‫سلطان على الإنسان في كيانه الفردي والجمعي‪ .‬فيكون ما نعنيه بسلطان الإنسان في كيانه‬‫الفردي والجمعي‪ ،‬هو ما به يتميز الإنسان عن الحيوان عامة‪ ،‬من سلطان للوعي بأحكام‬ ‫الطبائع المؤثرة في الشرائع‪.‬‬‫والوعي بأحكام الطبائع ليس طبيعة‪ ،‬وإلا لع ّم كل البشر ولما أحتاج إلى الجهد الحضاري‬ ‫الذي يتمثل في العلم بقوانين الطبائع واستعمالها للسلطان عليها‪.‬‬‫وقد رمز القرآن لذلك كله‪ ،‬بخاصية هي التي جعلت الله يعتبر الإنسان جديرا‬ ‫بالاستخلاف‪ ،‬رغم كونه قابلا لأن يفسد في الأرض ويسفك الدماء بشهادة الملائكة‪.‬‬‫وهذه الخاصية هي القدرة على التسمية‪ .‬ولما كان القرآن يعتبر التسمية تقبل الكذب‬‫(أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم)‪ ،‬والصدق‪ ،‬فالمقصود هو الثاني والسلطان‪ ،‬سلطان‬‫الإنسان هو ما له من فهم وعلم بأحكام الطبائع‪ ،‬محررين من سلطانها بقدر معين‪ ،‬لا يتجاوز‬ ‫العمل بها على علم‪ ،‬وليس نفيها‪ ،‬فلا سلطان عليها إلا بها‪.‬‬‫وبهذا يتبين أن الإنسان من حيث هو إنسان‪ ،‬وبمقتضى صفاته الخمس‪ ،‬ذو سلطان هو أثر‬ ‫حريته التي تتعين في وعيه بها‪ :‬إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده‪.‬‬‫فيكون سلطانه على ما عداه‪ ،‬مشروطا بسلطانه على مقومات ذاته‪ ،‬التي هي الإرادة‬ ‫والعلم والقدرة والحياة والوجود‪ .‬فليس للإنسان سلطان مباشر على غيره‪.‬‬‫سلطانه على غيره‪ ،‬بشرا كان أو حجرا‪ ،‬أساسه سلطانه على ذاته في تعينات مقوماتها‪،‬‬ ‫إرادة وعلما وقدرة وحياة ووجودا‪ ،‬وشرطها وعيه بها وبشروط فاعليتها‪.‬‬ ‫‪26 11‬‬

‫لكن هذه المقومات لا تفعل في خلاء‪ ،‬بل إن بعدها الفردي يسبح في مجال شبه مغناطيسي‪،‬‬ ‫هو الجماعة وثقافتها‪ ،‬والتفاعل الفردي والجمعي في مناخها الروحي‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود‪ ،‬رغم كونها صفات ذاتية للفرد‬ ‫يختلف فعلها وانفعالها في المناخ الجمعي عنهما في وعي صاحبها‪.‬‬‫فالسلطان في وجوده الفعلي يتحدد في المقام الأول بهذا المستوى الثاني‪ ،‬أكثر مما يتحدد‬ ‫في المستوى الأول‪ :‬الوجود في الجماعة هو المحدد الأول بحق‪.‬‬‫فلا علم النفس ولا علم الاجتماع بكافيين‪ .‬بل لابد من علم النفس الجمعي‪ ،‬الذي هو‬ ‫أساس الانثروبولوجيا التاريخية والثقافية مع تاريخ الإنسان الطبيعي‪.‬‬‫والانثروبولوجيا (نظرية الإنسان)‪ ،‬ببعديها الطبيعي والتاريخي اللذين يمتزجان في‬ ‫الثقافي‪ ،‬بوصفه الترجمة الرمزية للحصيلة‪ ،‬هي مدخلنا لمفهوم السلطة‪.‬‬‫ولن أعجب من تعجب الكثير عندما أقول إن أفضل من فهم الظاهرة هو ابن خلدون‬ ‫بمفهوم \"الإنسان رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف\"‪ :‬الإنسان حر بالطبع‪.‬‬‫و\"الإنسان رئيس بالطبع\" بتعليل استخلافي‪ ،‬يجمع بين الطبيعي والثقافي‪ .‬فـ\"التعليل\" لما‬ ‫هو بالطبع‪ ،‬لم يكن ضروريا لو كان في حضارة تكفي بالطبائع‪.‬‬‫ابن خلدون يعلل ظاهرة موجودة بالطبع‪ ،‬بأساس ديني الاستخلاف‪ ،‬وذلك لأن مرجعيته‬ ‫الدينية تعتبر ما يوجد بالطبع هو ما يسميه الدين الخاتم فطرة الله‪.‬‬‫إذا عوضنا الطبيعة بالخلقة أو الفطرة‪ ،‬كانت الطبائع تالية عن الشرائع‪ ،‬ومن ثم‬ ‫فسلطان الإنسان على مقومات ذاته‪ ،‬هو كيانه وأداته للسلطان على ما عداها‪.‬‬‫وسلطانه على مقوماته هو‪ ،‬وعيه بذاتيه وبعلاقته بما عداها‪ ،‬ويرد ذلك كله إلى المعادلة‬ ‫الوجودية‪ :‬القطبان الله والإنسان‪ ،‬والوسيطان الطبيعة والتاريخ‪.‬‬‫والوصل بين القطبين بتوسط الوعي بالوسيطين وقوانينهما‪ ،‬للعمل على علم‪ ،‬يجعل‬ ‫الإنسان مشدودا دائما إلى الكونين الدنيوي(الطبيعة والتاريخ)وما وراءه‪.‬‬‫وما وراء الدنيوي محايث ومفارق للدنيوي‪ ،‬وهو تجلي الله والإنسان فيهما‪ ،‬بأفعالهما‬ ‫المطلقة والنسبية‪ :‬وإذن فاللقاء بين القطبين هو لقاء حريتين‪:‬‬ ‫‪26 12‬‬

‫‪ -‬حرية متقدمة‬ ‫‪ -‬وحرية تالية‬‫والأولى قبل الطبيعة والتاريخ‪ ،‬والثانية بعدهما وهما دلالتا \"ما وراء\" بعبارة ابن سينا‬ ‫عندما اقترح ما قبل بدل ما بعد‪.‬‬‫في الحقيقة لا ينبغي استبدال ما بعد بما قبل‪ ،‬استجابة لمقترح ابن سينا‪ ،‬بل لا بد من الما‬ ‫قبل والما بعد‪ .‬فتصور الإنسان حرا ما بعد‪ ،‬يشترط ما قبل‪.‬‬‫إذا نفينا وجود الله‪ ،‬امتنع أن نثبت وجود الإنسان‪ ،‬أي حريته‪ ،‬لأن وجوده من دون‬ ‫حريته يعني أنه مجرد ظاهرة طبيعية مثلها مثل الحجر ودون الشجر‪.‬‬‫وإذن فمن دون القطبين (الله والإنسان) لا يمكن فهم الوسيطين (الطبيعة والتاريخ)‬ ‫وما لا يمكن فهمه‪ ،‬هو ما يمسك بمقوماتهما ويوحد بينها في فعلها‪.‬‬‫وكل ذلك هو عين كيان الإنسان وعين المعادلة الوجودية‪ ،‬وهي اساس الدين والفلسفة‬ ‫مرسومين في بينة الوعي الإنساني‪ ،‬فكان الدين الخاتم تذكيرا بحاصل‪.‬‬‫القرآن نص ديني وفلسفي في آن‪ :‬والدليل القاطع أنه ينفي حاجة الرسول الخاتم لغيره‪،‬‬ ‫دلالة بنظام العالم‪ ،‬حتى وإن كان يحكي معجزات غيره بخرق النظام‪.‬‬‫والعلاقة بين نظام العالم وقابليته للخرق الإعجازي‪ ،‬دليل على أن النظام هو المعجز‪،‬‬ ‫لأنه انتخاب المعين من اللامعين الذي هو مضمون الإمكان المطلق‪.‬‬‫وانتخاب المعين من اللامعين للإمكان المطلق‪ ،‬يفيد بأن الباري يعمل بمطلق الحرية التي‬ ‫تختار من بين ما لا يتناهى من الإمكانات‪ ،‬أفضلها ليبدعه عن عدم‪.‬‬‫فاللامتناهي الإمكاني هو العدم‪ .‬والوجود ينشأ عليه نتوء الصورة على خلفيتها وبروزه‪،‬‬ ‫هو مفهوم الآية في الآفاق والأنفس دليلا على أن القرآن حق‪.‬‬ ‫وهذا هو الماقبل المطلق‪.‬‬‫والمابعد هو الإبداع الحضاري‪ ،‬ابداعا مشروطا بالإرادة والعلم والقدرة والحياة‬ ‫والوجود‪ ،‬أي بتجليات رئاسته أو استخلافه‪.‬‬ ‫‪26 13‬‬

‫والوصل الصاعد من القطب الإنساني إلى القطب الإلهي‪ ،‬هو أفعال الإنسان أو الإبداع‬ ‫الحضاري‪ ،‬وهو مستحيل التصور من دون تلق مضاعف للآفاق والأنفس‪.‬‬‫فالإنسان لا يبدع إلا بما يقدر ما يتلقى آيات الآفاق والأنفس‪ ،‬بنص القرآن الذي لا‬ ‫يعتبر نفسه هو مصدر المعرفة‪ ،‬بل هو المذكر بمصدرها والمنبه لطرقها‪.‬‬‫الوحي الخاتم بمقتضى فصلت ‪ 53‬لا يثبت حقيقته بالمعجزات الخارقة للنظام‪ ،‬بل بالدعوة‬ ‫إلى ما يتجلى من آيات في الآفاق والانفس‪ ،‬فيثبت أنه هو الحق‪.‬‬‫ولما كنت ألجأ دائما إلى شواهد من فكرنا‪ ،‬فسأورد مرة أخرى شاهدا من ابن خلدون \"وأما‬‫الأفعال الحيوانية لغير البشر فليس فيها انتظام لعدم الفكر الذي يعثر به الفاعل على‬‫الترتيب فيما يفعل إذ الحيوانات إنما تدرك بالحواس ومدركاتها متفرقة خلية من الربط‬‫لأنه لا يكون إلا بالفكر ولما كانت الحواس المعتبرة في عالم الكائنات هي المنتظمة وغير‬‫المنتظمة إنما هي تبع لها اندرجت حينئذ أفعال الحيوانات فيها فكانت مسخرة للبشر‬‫واستولت أفعال البشر على عالم الحوادث بما فيه فكان كله في طاعته وتسخره‪ .‬وهذا معنى‬‫الاستخلاف المشار إليه في قوله تعالى {إني جاعل في الأرض خليفة} فهذا الفكر هو الخاصة‬‫البشرية التي تميز بها البشر عن غيره من الحيوان‪ .‬وعلى قدر حصول الأسباب والمسببات‬ ‫في الفكر مرتبة تكون إنسانيته\"‬ ‫(المقدمة الباب ‪ 6‬الفصل ‪11‬في أن عالم الحوادث الفعلية إنما يتم بالفكر)‪.‬‬‫يمكن القول إن هذا الشاهد يتضمن أغلب ما سبق أن حاولنا بيانه في البحث‪ ،‬فنحن نجد‬‫العلاقة البينة بين مفهومي سلطان الإنسان الفلسفي والديني مجموعين في مفهوم الفكر‬ ‫الإنساني والتعليل السببي‪ ،‬رابطة الانتظام في العالم‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن التسخير مشروط بخاصية إدراك الروابط‪ ،‬بين المدركات بالنظام السببي‬ ‫وهو شارط لمفهوم الاستخلاف الذي يجعل الإنسان رئيسا بالطبع‪.‬‬‫سلطان الإنسان في أي مستوى من مستويات السلطة‪ ،‬يعود إلى هذه القدرة الفكرية التي‬ ‫تمكن من إدراك الترابط النظري والعملي الملازمين لوجود الإنسان‪.‬‬ ‫‪26 14‬‬

‫فإدراك العلاقة بين المقدمة والنتيجة‪ ،‬في النظر وبين الغاية والوسيلة في العمل‪ ،‬هما‬ ‫أساس كل سلطان إنساني‪ ،‬وشرطا رئاسته حتى لو كان عبدا لغيره‪.‬‬‫فالعبودية بالفعل لا تنفي السيادة بالقوة‪ ،‬وبينهما تطبيق هذا الفكر الذي يدرك العلاقة‬ ‫بين الحالين‪ ،‬فيعود من التالي مشروطا إلى المقدم شرطا ليتحرر‪.‬‬‫فيكتشف أن سلطان غيره عليه علته عدم سلطانه على ذاته‪ .‬فيكتشف أن استعادة‬ ‫سلطانه على ذاته‪ ،‬هو المنطلق للتحرر من سلطان غيره عليه بترابط الانتظام‪.‬‬‫فتصبح السيادة بالطبع هي هذه القدرة بالقوة على استعادة السلطان على الذات‪ ،‬لنقلها‬‫من منزلة الإنسان الشيء إلى منزلة الإنسان الواعي بمنزلته‪ ،‬وهذا هو الانتقال من مجرد‬‫ملكة الإدراك إلى إدراك الإدراك‪ ،‬أو من المعرفي الغفل بإدراك منزلة الذات الملازمة‬ ‫لكرامتها‪ ،‬فيكون المعرفي خلقيا‪.‬‬‫وهذا هو الوازع الذاتي الخلقي الذي يعتبره ابن خلدون مقدما على الوازع الأجنبي‪،‬‬ ‫أو السياسي‪ ،‬وشارطا لأدائه وظائفه بلطف‪ ،‬بدلا من أدائها بعنف‪.‬‬ ‫‪26 15‬‬

‫ونصل الآن إلى بيت القصيد في إشكالية السلطة‪ :‬حل ابن خلدون لمعضلة السلطة لم‬‫يقتصر على وجهها السياسي‪ ،‬بل هو نظر فيها انطلاقا من أصل وأربعة فروع‪ .‬فنظرته تجمع‬‫بين المنطلقين الفلسفي والديني‪ ،‬والأصل هو منزلة الإنسان الوجودية التي عرفها فلسفيا‬ ‫بدور الفكر الرابط‪ ،‬وعللها دينيا بمفهوم الاستخلاف‪.‬‬‫دور الفكر الرابط فلسفيا والاستخلاف‪ ،‬يفيدان نفس المعنى‪ ،‬أي أصل سلطان الإنسان‬‫على ذاته وبتوسطه على كل ما عداه بفضل علم النظر وعلم العمل على علم‪ ،‬فيكون كلا‬‫العلمين النظري والعملي استراتيجية سلطان‪ ،‬أو خطة لتحقيق شروط السلطة التي للإنسان‬ ‫على نفسه وعلى غيره بمنطق علاقة الغاية بالوسيلة‪.‬‬ ‫فما طبيعة الأصل الاستخلافي في منزلة وجودية للإنسان؟‬‫سماه ابن خلدون \"الإنسان رئيس بالطبع\"‪ ،‬وهذه الرئاسة تتعين في التاريخ الفعلي سلطة‬ ‫وحب تأله‪.‬‬‫لكأننا قلنا بعبارة نيتشوية الإنسان \"إرادة قوة\" بالقوة تصبح‪ ،‬إن تحققت بالفعل‪ ،‬قوة‬‫إرادة سماها ابن خلدون بحب التأله الذي تحكم علاقات الإنسان‪ ،‬فيكون الاجتماع محكوما‬‫بما يبدو صراع إرادات يحسم بوضع إرادة متعالية على الجميع‪ ،‬هي أصل الإرادة الشارعة‬ ‫للتعدد السلمي‪ ،‬توحده إرادة متعالية‪.‬‬‫وهذا هو مفهوم الشرائع التي تنسب إلى إرادة متعالية على الأفراد‪ ،‬سواء نسبت إلى‬‫الجماعة أو من فوضت له تمثيل إرادتها‪ ،‬أو إلى شرع ديني فوق الجميع‪ .‬فتكون الشرائع‬‫نظام السلط أو البنية التي تحول حب التأله بمعنى لا ديني (قوة طبيعية) اساس العبودية‪،‬‬ ‫إلى حب تأله ديني (قوة خلقية) أساس الحرية‪.‬‬‫وبهذا المعنى نفهم نظرية ابن تيمية في الحرية‪ :‬الحرية هي العبودية لله‪ ،‬بمعنى أن‬ ‫البشر لا يكونوا أحرارا‪ ،‬فلا يستعبد بعضهم البعض إلا بعبادة الله‪.‬‬ ‫‪26 16‬‬

‫عبادة الله ليست العبادات‪ ،‬لأن هذه مجرد شهادة وتربية لئلا ينسى الإنسان العبادة‬ ‫الحقة أي وعي الإنسان بمنزلته خليفة‪ ،‬أو راعي الشرائع في العالم‪.‬‬‫والشرائع هي هذه النقلة من مفهوم حب التأله اللاديني (صراع القوى) إلى حب التأله‬ ‫الديني‪ ،‬أو احترام شروط حرية كل إنسان‪ ،‬بوصفه مستخلفا ومكرما‪.‬‬‫لذلك أرفض منطق الجدل‪ .‬فهو نكوص إلى قانون التاريخ الطبيعي حيث يكون السلطان‬ ‫على الغير بغياب السلطان على الذات‪ ،‬أو عدم الوعي بكرامة الإنسان‪.‬‬‫وإذن فالفتح رسالة خلقية لا استعمارا‪ ،‬فحقيقته \"نحرركم من عبادة العباد إلى عبادة رب‬ ‫العباد\" ولن نحاربكم إلا إذا منعتمونا من تبليغ الرسالة‪.‬‬‫وشرط هذه الرسالة أن يكون من يدعيها قد تحرر قبل ذلك من عبادة العباد‪ ،‬وآمن بأن‬‫الحرية هي كرامة الإنسان‪ ،‬لأنه بها وحدها يكون أهلا للاستخلاف‪ ،‬ومن ثم فلا تاريخ‬‫إنساني من دون هذا المعنى للديني في الأديان‪ ،‬والفلسفي في الفلسفات‪ :‬الشرائع شرط‬ ‫تعالي الإنسان على تاريخه الطبيعي الى الخلقي‪.‬‬‫وهذا أساس قانون أفلاطون الجنائي في العلاقة بالإيمان بالأديان في المقالة العاشرة من‬ ‫الشرائع أو النواميس‪ ،‬وفرضياته الثلاث حول دور الله‪.‬‬‫فني وجود الله أو اعتباره غير مبال بما يجري في العالم‪ ،‬أو قابلا لأن يرشى بالهدايا‬ ‫والأضاحي‪ ،‬هي الفرضيات الثلاث التي ينزه افلاطون الله عنها‪.‬‬‫فالأولى تعني أن العالم خاضع للضرورة العمياء‪ ،‬والثانية تعني أن الله جعل الإنسان‬ ‫مجرد حيوان‪ ،‬والثالثة تعني أن الله حاكم فاسد‪ .‬وثلاثتها جرائم‪.‬‬‫ومن ثم‪ ،‬فالمشكل المتعلق بالسلطان في التاريخ‪ ،‬هو مشكل ديني بالأساس كما يحدده‬ ‫افلاطون فلسفيا والإسلام دينيا‪ ،‬وتلك هي فلسفة التاريخ الخلدونية‪.‬‬‫وعبارة الإنسان \"رئيس بالطبع\" و\"الإنسان مستخلف\" و\"سياسي بالطبع\" أو \"مدني بالطبع\"‬ ‫عبارات مترادفة‪ .‬وهي تعني أن الإنسان بالجوهر كائن سلطاني‪.‬‬‫وكونه سلطانيا يعني أن له إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود‪ ،‬بل إنه هذه المقومات ولا‬ ‫شيء سواها‪ .‬فإن حضرت‪ ،‬فصلاح معاني الإنسانية‪ ،‬وإن غابت‪ ،‬ففسادها‪.‬‬ ‫‪26 17‬‬

‫وقبل أن ندرس هذه الصفات التي هي الكينونة السلطانية للإنسان من حيث هو إنسان‬ ‫مفكر أو مستخلف‪ ،‬لا بد أن أتكلم على الاستخلاف بأصله وفروعه الأربعة‪.‬‬ ‫وسأنطلق من شواهد خلدونية‪:‬‬ ‫‪ -‬شاهد للأصل‬ ‫‪ -‬وشاهد لكل فرع من الفروع الأربعة‬ ‫حتى يفهم الجميع أن فلسفة التاريخ الخلدونية بما بعدها الفلسفي والديني‪.‬‬ ‫‪ -‬شاهد للأصل‪:‬‬‫\"وفيه (أي في إسراع الفناء لمن يملكه غيره‪ ،‬أي للمستعبد) والله أعلم سر آخر (السر‬‫الأول هو التكاسل عن الاعتمار بسبب فقدان الأمل) وهو أن الإنسان رئيس بطبعه بمقتضى‬‫الاستخلاف الذي خلق له‪ .‬والرئيس إذا غلب على رئاسته وكبح عن غاية عزه تكاسل حتى‬‫عن شبع بطنه وري كبده‪ .‬وهذا موجود في أخلاق الأناسي‪ .‬ولقد يقال مثله في الحيوانات‬‫المفترسة وإنها لا تسافد إذا كانت في ملكة الآدميين‪ .‬فلا يزال هذا القبيل المملوك عليه‬ ‫أمره في تناقص واضمحلال إلى أن يأخذهم الفناء\"(المقدمة الباب ‪ 3‬الفصل ‪.)23‬‬ ‫صفة الرئاسة بالطبع (فلسفيا)تترتب على كرامة الاستخلاف (دينيا)‬‫والإنسان من دونها‪ ،‬يتكاسل عن شروط حياته العضوية (الأكل والشرب) وهي إشارة‬ ‫إلى أن الإنسان المدرك لمنزلته الوجودية يفضل الموت على العبودية‪.‬‬‫وهي إشارة إلى التمييز القرآن بين \"حياة\" و\"الحياة\" كما هو معلوم‪ .‬فالحرص على \"حياة\"‬ ‫علته عدم الوعي بالمنزلة الإنسانية ومعنى الحياة الحرة‪.‬‬‫ذلك هو الأصل‪ ،‬وابن خلدون يقيسه إن نظرنا إليه كقوة طبيعية‪ ،‬إلى خاصية توجد‬ ‫عند الحيوان المفترس الذي يتوقف عن المسافدة (علة التكاثر) لما يدجن‪.‬‬‫وتدجين الإنسان هي العبودية‪ ،‬وهي في فلسفة التاريخ الخلدونية إفقاد الإنسان القدرة‬ ‫على المدافعة بسبب فساد معاني الإنسانية‪ ،‬فيصبح الإنسان عالة‪.‬‬‫والعرب الذين كانوا أمة الأحرار‪ ،‬بالمعنى الذي قاسه ابن خلدون على الحيوانات‬ ‫المفترسة‪ ،‬صاروا بفضل الإسلام أحرارا‪ ،‬بالشرائع المتعالية‪ ،‬صاروا عالة‪.‬‬ ‫‪26 18‬‬

‫وهم عالة بسبب السلطان الوهمي لأنظمة تابعة تحتمي بالأعداء من شعوبها‪ ،‬بعد أن‬ ‫صارت عاجزة عن الحماية والرعاية الذاتيتين‪ :‬فساد معاني الإنسانية‪.‬‬ ‫‪ -‬وهكذا نصل إلى الفروع الأربعة‪:‬‬‫التي نحن عاجزون عنها بسبب الاستبداد والفساد المستند إلى الاستضعاف والاستتباع في‬ ‫علم النظر وعلم العمل على علم‪.‬‬‫ولألاحظ أنه لا فضل لي فيما أعرض هنا‪ ،‬إنما أنا مجرد مترجم لفلسفة ابن خلدون‪،‬‬ ‫التي غفل عنها قراؤه المتعجلون لبحثهم على ما يظنونه رفعا من شأنه‪.‬‬‫ابن خلدون وضع فلسفة لا تدانيها فلسفة كونت ولا فلسفة ماركس‪ ،‬وهو متقدم عليهما‬ ‫وعلى الفلسفة العملية (علوم الإنسان بالمعنى الحديث) بأشواط لا تقدر‪.‬‬ ‫وأريد هنا أن أذكر ظاهرة عجيبة‪ :‬صلتنا بثروتنا وبتراثنا‪.‬‬‫فثروة دار الإسلام احتاجت لتقدم الإنسانية العلمي لتظهر‪ .‬ونفس الأمر بالنسبة إلى‬ ‫تراثها‪.‬‬‫وقصدي أن المهندس العربي الذي يستخرج قيمة ثروة دار الإسلام‪ ،‬تكون في الحضارة‬ ‫الغربية الحديثة‪ .‬والفيلسوف الذي يستخرج قيمة تراثها‪ ،‬تكون فيها كذلك‪.‬‬‫ولا عيب ولا غضاضة في ذلك‪ :‬فكما استفدنا من تراث الإنسانية قبلنا‪ ،‬واستفادت‬ ‫الإنسانية من تراثنا بعد سبوتنا‪ ،‬فها نحن نعود لنستفيد ثانية دون عقد‪.‬‬‫والفائدة هي \"معية الترابط\"‪ ،‬فكل ما أنسبه إلى ابن خلدون يبدو غريبا لمن قرأه ولم‬‫ير ما أقول‪ ،‬لأني أضفت الوصل بين ما كان نتفا مشتتة في عمله‪ ،‬وهي إضافة منهجية‬‫بالأساس‪ :‬فابن خلدون مثله مثل ابن تيمية‪ ،‬لهما ومضات العبقرية التي لم تعد على ذاتها‬ ‫لتنسقها فتستخرج منها البنية الموحدة‪.‬‬‫والبنية الموحدة في القرآن الكريم هي فلسفة ما بعد التاريخ‪ :‬إنها بنيته‪ ،‬موحدة‬ ‫للإنسانية‪ ،‬سميتها استراتيجية توحيد مع عينة منها‪ :‬السياسة المحمدية‪.‬‬‫وهي ما بعد الأخلاق‪ ،‬لأنها مبنية على تقدم الشرائع على الطبائع‪ ،‬وهي في الإسلام نظير‬ ‫ما بعد الطبيعة في الفلسفة التي كانت تقول بالتقديم المقابل‪.‬‬ ‫‪26 19‬‬

‫لكن الفلسفة الحديثة أصلحت نظرية المعرفة ‪-‬التحرر من المطابقة‪ -‬تميل إلى الخيار‬ ‫الديني في الترتيب‪ ،‬وقد تقدم عليها ثالوث مدرسة فلسفتنا النقدية‪.‬‬‫فالغزالي وابن تيمية وابن خلدون‪ ،‬تحرروا من القول بالمطابقة (علم الإنسان غير‬ ‫محيط)‪ ،‬وعندهم الشرائع متقدمة على الطبائع في الطبيعة والتاريخ معا‪.‬‬‫وهذا التقدم يعني أن السلطان حتى في الطبيعة ليس طبيعيا‪ ،‬ففيه مثل النظر والعمل‬ ‫على علم‪ ،‬علاقة ثابتة بين الغاية والوسيلة وبين المقدمة والنتيجة‪.‬‬‫وما كان فيه هذا الانتظام الذي هو جوهر التشريع لأنظمة القوة‪ ،‬هو السلطة سواء كان‬ ‫القانون طبيعيا أو خلقيا‪ ،‬والثاني أسمى من الأول لاتصافه بالوعي‪.‬‬‫واتصافه بالوعي يجعله في آن قوة إرادة وإرادة قوة‪ .‬والأولى طبيعية والثانية خلقية‪.‬‬ ‫فإرادة القوة عودة على قوة الإرادة‪ ،‬وعيا بشروطها لتحقيقها‪.‬‬‫وإرادة القوة هي التي يسميها ابن خلدون حب التأله‪ .‬وقد يكون حب التأله مجرد قوة‬ ‫إرادة لم ترتق إلى شروط تحققها للجميع‪ ،‬حتى تصبح أصل الشرائع‪.‬‬‫والوعي بالشرط يحولها إلى أصل للشرائع‪ ،‬وهو الوعي بالأهلية الاستخلافية التي هي‬ ‫السياسة‪ ،‬مؤسسات الحماية والرعاية شرطي السلم والحرية في الجماعة‪.‬‬‫وإذن فالشريعة في الإسلام‪ ،‬هي السياسة‪ ،‬لأنها في آن نظام تربية ونظام حكم‪ ،‬ومن ثم‬ ‫فهي التعين المؤسسي للدولة المتعالية على التأله اللاديني‪.‬‬ ‫‪26 20‬‬

‫بقي علينا في فصل خامس وأخير أن نجيب عن سؤالين‪:‬‬ ‫‪ -‬ما فروع هذا الأصل الأربعة؟‬ ‫‪ -‬وكيف تتعين السلطة في الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود؟‬‫حددت في الفصل الرابع أصل السلط كلها اعتمادا على نص ابن خلدون‪ ،‬وانتهيت إلى‬ ‫وضع السؤالين‪ ،‬وجوابهما هو موضوع الفصل الخامس والأخير من إشكالية السلطة‪.‬‬‫وقد صاغ ابن خلدون هذا الأصل بعدة صيغ أهمها مفهوم \"الرئاسة بالطبع\" وعلله‬ ‫بـ\"مقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"‪ .‬وهو تعريف مغاير للتعريف الفلسفي‪.‬‬‫فالرئاسة الإنسانية أو حب التأله‪ -‬ويكون دينيا أو غير ديني‪ -‬كما بينا‪ ،‬ويرد إلى إرادة‬ ‫القوة‪ ،‬وإذا عاد على نفسه‪ ،‬قوة الإرادة مقوما لمعاني الإنسانية‪.‬‬‫وزوال هذا المعنى باضطهاده يفسد معاني الإنسانية ويؤدي إلى الاندثار‪ ،‬فلكأن ابن‬ ‫خلدون اعتبر إرادة القوة أو الرئاسة بالطبع هي حقيقة الإنسان‪.‬‬‫وحتى خاصية العقل بمراحله الثلاثة التي يعرف بها الفلاسفة الإنسان (التميزي‬ ‫والتجريبي أو الخلقي والنظري) يجملها ابن خلدون في الفكر‪ ،‬ويردها إلى السلطة‪.‬‬‫وهذا هو الأصل الذي علينا تحديد فروعه الأربعة التي بنى عليها ابن خلدون نظرية‬‫الإنسان(الانثروبولوجيا) الفلسفية والدينية أساسا لمقدمته ببعديها‪ .‬وهذه الفروع‬‫الأربعة‪ ،‬هي تعينات الإرادة أو الرئاسة الإنسانية في الصفات الأربعة الباقية‪ ،‬ببنية عجيبة‬ ‫سأحاول بيان دورها الثوري رغم صوغها باصطلاح عصره‪.‬‬‫لذلك فدوري هنا يقتصر على ترجمة معاني ابن خلدون الفلسفية والدينية بلغة عصرنا‪،‬‬ ‫لأن مصطلحه الأرسطي قد يحول دون فهم ما يعنيه‪ .‬وليس في الترجمة تكلف‪.‬‬ ‫ذلك ان سندي فلسفي وديني‪:‬‬ ‫‪-1‬يعرف الإنسان بالرئاسة بالطبع‪ ،‬وليس بالمدنية بالطبع‪.‬‬ ‫‪26 21‬‬

‫‪-2‬ويعتبر الفكر أداة سلطوية‪ ،‬والمعرفة سلطة تنظيم بهدف العمل‪.‬‬ ‫والسند الديني مثل الفلسفي مضاعف‪:‬‬ ‫‪-1‬بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له‬‫‪-2‬بمقتضى الاستعمار في الأرض الذي كلف به‪ :‬تناظر بين عنصري السندين المضاعفين‪.‬‬‫ولا شيء من ذلك يمكن أن يتأسس على فلسفة أرسطو حتى وإن قيل بالمصطلح الأرسطي‪.‬‬ ‫لذلك فما في المقدمة ببعديها‪ ،‬قاطع مع الفلسفة القديمة والوسطية‪.‬‬ ‫الفروع الأربعة هي إذا فرعا العمران وفرعا الاجتماع‪:‬‬ ‫فالمقدمة عنوانها\" علم‪:‬‬ ‫‪-1‬العمران البشري‬ ‫‪-2‬و(علم) الاجتماع الإنساني\"‬ ‫ويقدمهما فلسفيا ودينيا‪.‬‬ ‫فالعمران البشري يقابل الاجتماع الإنساني مقابلة العلم والقدرة للحياة والوجود‪.‬‬ ‫الأول يحتاج لمعرفة قوانين العالم للعيش فيه وتعميره بعمل على علم‪.‬‬‫وهنا تكون السلطة للعلم بالطبائع وللعلم بالشرائع‪ ،‬والأول اساس الاقتصاد والثاني‬ ‫أساس السياسة‪ :‬وبهما يتم العمران البشري الذي هو لسد الحاجات‪.‬‬‫نوعان من الاستخلاف والسلطان الفرعي الناتج عن الإرادة‪ ،‬بوصفها إرادة قوة وسلطان‬ ‫على الطبيعة وعلى التاريخ‪ .‬إنها مرحلة أولى من الإنسانية‪ :‬بشرية‪.‬‬‫النوعان الفرعيان الآخران تكتمل بهما الإنسانية‪ ،‬وهما الحياة والوجود‪ ،‬أو الفنون‬ ‫ورؤى العالم‪ .‬فننتقل من العمران البشري إلى الاجتماع الإنساني‪.‬‬ ‫والاجتماع غاية العمران‪ ،‬والإنساني غاية البشري‪.‬‬ ‫‪ -1‬لسد الحاجات‬‫‪ -2‬للأنس بالعشير بذوق الحياة (الفنون)‪ ،‬وإضفاء المعنى (الفلسفة والدين)‪:‬‬ ‫سلطان روحي‪.‬‬ ‫‪26 22‬‬

‫العلم بالطبائع يحقق سلطان الإنسان ليستخرج منها رزقه‪\" :‬أما الصنائع فهي ثانيتها (بعد‬‫الزراعة) ومتأخرة عنها لأنها مركبة وعلمية تصرف فيها الأفكار والأنظار‪ .‬ولهذا لا توجد‬ ‫غالبا إلا في أهل الحضر الذي هو متأخر عن البدو وثان عنه\" (الباب ‪ 5‬الفصل ‪.)2‬‬ ‫ومنه نظرية‪ :‬القيمة=كمية العمل‪.‬‬‫وطبعا‪ ،‬فحتى الزراعة قبل الصناعة والتجارة بعدها لا يكون أي منهما من دون الأفكار‬ ‫والأنظار عندما يتعقد الاجتماع ويكثر التنافس على الرزق‪.‬‬‫فالعلم (الأفكار والأنظار) بتطبيقاته‪ ،‬سلطان على الطبيعة‪ ،‬يمكن الإنسان من سد‬ ‫الحاجات‪ .‬لكن وجود الأفكار والأنظار والعلم رهن نظام التعليم والبحث‪.‬‬‫وهذان المرحلتان بدورهما‪-‬إنتاج العلم وتوظيفه لإنتاج الرزق‪ -‬مشروطان بوجود‬ ‫الجماعة المنظمة‪ ،‬وهما من الرعاية التي تفترض قبلها وظيفة الحماية‪.‬‬‫فيكون علم الشرائع وأنظمة الحكم وبنى الدول‪ ،‬متقدما عليها جميعا حتى وإن اتت هذه‬ ‫كلها تنشأ في البداية من دون علم نشأة بدائية وكأنها جبلة‪.‬‬‫وفي تلك الحالة ‪-‬وقد أشار إليها ابن خلدون‪-‬يكون الإنسان رهن الطبيعة والجغرافيا‬ ‫والمناخ‪ ،‬وليس ذا سلطان عليهما في مقامه ولا في سد حاجاته‪.‬‬‫وهذان هما الفرعان الأولان‪ :‬سلطان الإنسان الاقتصادي والسياسي ثمرة سلطان العلم‬ ‫على قوانين الطبائع والشرائع‪ .‬وكلاهما تعين للأصل‪ :‬رئاسة الإنسان‪.‬‬‫وهي تجليات الاستخلاف الأصل بالاصطلاح الديني‪ ،‬وبمقتضاه كان الإنسان رئيسا بالطبع‬ ‫أو الأصل بالاصطلاح الفلسفي‪ ،‬ويعودان إلى إرادة القوة أو التأله‪.‬‬‫وإرادة القوة هنا يغلب عليها التأله الذي يبرز في الاستبداد أصل كل فساد‪ :‬بتوهم العلم‬ ‫محيطا‪ ،‬والسياسة استبدادا‪ ،‬والاقتصاد سلطان ثروة لا يحد‪.‬‬‫أما فرعا الحياة (الفنون) والوجود (الرؤى الفلسفية والدينية) فيغلب عليهما تأله‬‫متحرر من وهم احاطة العلم واستبداد السياسة وطغيان المادة‪ ،‬فنسبة الذوق (الحياة‬‫والفنون) إلى الوجود (رؤى العالم) في تأله الوجود‪ ،‬هي عينها نسبة العلم إلى تأله‬ ‫القدرة‪ :‬أصل الفرق بين مفهومي الرئاسة‪.‬‬ ‫‪26 23‬‬

‫ففي التأله المادي يمكن للإنسان بالعلم والقدرة أن يتصور نفسه إلها مستغنيا عن الإله‬ ‫الديني‪ ،‬فيطغى ويستبد سياسيا واقتصاديا‪ .‬وهو ظاهرة عمرانية‪.‬‬‫أما في التأله الروحي بالذوق والوجود‪ ،‬فالإنسان لا يطغى فيدعي أنه هو الله بل يعتبر‬ ‫نفسه آية من آيات الله بموقف جمالي وجلالي من الوجود السامي‪.‬‬‫ومشكل المشاكل‪ ،‬هو طغيان وهم الاستغناء عن أحدهما‪ ،‬أو اعتباره مجرد أداة للآخر‪:‬‬ ‫فالإنسان بما هو إرادة قوة لا يقتصر وجوده على الطبائع والشرائع‪.‬‬‫بل إن الفرعين الأخيرين‪-‬الذوق والوجود‪-‬يسموان به إلى ما يتعالى على الطبائع‬ ‫والشرائع‪ ،‬فيجعله كائنا ما بعد طبيعي وما بعد تشريعي‪ :‬ما بعد الأخلاق‪.‬‬‫وما بعد الأخلاق الإسلامي يعرف الإنسان مستعمرا في الأرض ومستخلفا فيها‪ .‬وكونه‬ ‫مستعمرا في الأرض هو الفرعان الأولان‪ ،‬ومستخلف‪ ،‬الفرعان الثانيان‪.‬‬‫فإذا فقد سلطان الاستعمار في الأرض‪ ،‬بات عبدا لمستعمريها فيعجز عن التحرر مما قد‬ ‫ينجر عن الاستعمار في الأرض‪ ،‬فيصبح مستخلفا بما يتعالى عليها‪.‬‬‫وقد خصص ابن خلدون الباب السادس لهذه الفروع‪ ،‬أو بصورة أدق‪ ،‬للعلاقة بين العلم‬ ‫وثمراته وبين الذوق وثمراته وأدواتهما الرمزية وشروطهما الاجتماعية‪.‬‬ ‫ولنشرع في الجواب عن سؤالنا الثاني‪:‬‬‫كيف تتعين السلطة في الصفات الخمس‪ ،‬أو مقومات حقيقة الإنسان‪ ،‬أي في الإرادة والعلم‬ ‫والقدرة والحياة والوجود؟‬‫رأينا أن الإرادة هي الاصل بخلاف التعريف الفلسفي للإنسان غير الكلي‪ .‬فيمكن أن‬ ‫يوجد إنسان غير ناطق‪ ،‬إما لعاهة عضوية أو لظرف حال دون تعلم النطق‪.‬‬‫لكنه لا يوجد إنسان غير مريد إرادة إنسانية‪ ،‬أي إنها تفترض الصفات الأربع الباقية‬ ‫أي العلم والقدرة والحياة والوجود‪ ،‬فتختلف عن النزوع الحيواني‪.‬‬‫والإرادة بهذا المعنى طلب سلطة على المطلوب‪ ،‬أو على من بيده المطلوب أو على من يحول‬ ‫دون المطلوب‪ ،‬فتكون دائما دافع لخطة للحصول على المطلوب‪.‬‬ ‫‪26 24‬‬

‫فالغائية في الإرادة التي بهذه الصفات‪ ،‬لها وجودان في الأذهان وفي الأعيان‪ .‬وقد وصفها‬ ‫ابن خلدون في كلامه على الأصل‪ :‬غاية الفكرة بداية العمل‪.‬‬‫الإرادة تحرك الفكر فيكون إحدى أدواتها وليس هو الأصل‪ .‬لذلك كانت معضلة ديكارت‬ ‫المنهجية هي كيف أحرر الحكم المتناهي من الإرادة اللامتناهية‪.‬‬‫كل مشكل الحكم العلمي عند ديكارت‪ ،‬وكل غاية المنهج هي تمكين المفكر من السيطرة‬ ‫على الإرادة الجامحة التي لا حد لما تريد‪ ،‬حتى يكون الحكم علميا‪.‬‬‫بعبارة أوجز‪ ،‬يمكن أن نقول إن العقل هو الملكة التي تأتي بعد الإرادة \"لعقلنتها\" أو‬ ‫للسيطرة عليها‪ ،‬وتلك هي بداية سلطان الإنسان على ذاته بذاته‪.‬‬‫لكن هذا الوازع الذاتي العقلي الذي يسعى للسيطرة على الإرادة لا يكفي‪ ،‬بل لا بد من‬ ‫وازع أجنبي يحد من الإرادة بصورة حاسمة وتلك هي وظيفة القدرة‪.‬‬‫فالإنسان ليس فعالا لما يريد ولا على كل شيء قدير‪ ،‬فيشرع في فهم حدوده ولا يتأله‬ ‫بالمعنى السلبي الذي وصفنا‪ .‬والاستبداد هو وهم القدرة المطلقة‪.‬‬‫وإذن فالإنسان مدني بالطبع لا يتعلق بالبعد السياسي فحسب‪ ،‬بل إن ذلك مقوم للذات‬ ‫الفردية‪ :‬فالقدرة إضافية إلى العالم وإلى الجماعة كحائل أو مساعد‪.‬‬‫لا تتحدد الإرادة الفعلية إلا بعد تحدد وجهي السلطان عليها الذاتي (العقل)‬ ‫والموضوعي (شروط القدرة الطبيعية والاجتماعية)‪ :‬سلطان ذاتي وموضوعي‪.‬‬‫علم النفس يعرف هذه العلاقة بين الإرادة وشروط القدرة بالعلاقة بين مبدأ الشوق‬ ‫ومبدأ الواقع‪ .‬وليست علاقة صراع‪ ،‬بل علاقة مقومات سلطان الإرادة‪.‬‬‫الإرادة تكون سلطانا إذا تعقلنت فقدرت‪ .‬ومن هنا يكون العلم في خدمة الإرادة لتحقيق‬ ‫القدرة‪ .‬إدراك ذلك إدراك لنسبية السلطان‪ ،‬فيزول الاستبداد‪.‬‬‫ليس للإنسان من حيث هو فرد سلطان على أي شيء إلا بسلطانه على ذاته‪ ،‬لتكون إرادته‬ ‫قابلة للتحول إلى قدرة‪ .‬وذلك مشروط بعلم الطبائع والشرائع‪.‬‬‫ومن ثم فكل سلطان تسهم فيه كل الجماعة‪ ،‬بسبب إسهامها في شروطه العلمية والتقنية‬ ‫والتعبيرية وهو بالضرورة عمل جماعي في كل مراحله حتى الذهنية‪.‬‬ ‫‪26 25‬‬

‫كل ما في الأمر هو أن هذا التكون الجمعي للسلطان‪ ،‬يكون في الأذهان رمزيا وهو في‬ ‫الأعيان فعلي‪ .‬إنه سلطان \"خفي الاسم\" كالأدب الشعبي‪ :‬فاعله لا محدد‪.‬‬‫لا شك أنه رسميا وفي الظاهر فالقرار في الحكم مثلا يعود لمن هو حاكم في النصوص‪ .‬لكن‬ ‫القرار أشبه بما يجري في الإدارة الأمريكية‪ ،‬باطنه غير ظاهره‪.‬‬‫والوصف يصح على سلطان الذات على ذاتها‪ ،‬وسلطان الأب في الأسرة‪ ،‬وسلطان اي مدير‬ ‫على إدارته‪ ،‬وأي حاكم على نظامه‪ ،‬وأي جماعة على أحداثها‪ :‬اللامحدد‪.‬‬‫وكل أوهام المتكلمين على الدول الغربية وعلى سلطانها المطلق على ما يجري في العالم‬ ‫ومنها نظرية المؤامرة‪ ،‬أوهام‪ :‬ظاهر السلطان غير حقيقته‪.‬‬ ‫وسأكتفي بمثالين‪ :‬من الاقتصاد ومن السياسة‪.‬‬‫نعم الشعوب المتقدمة تسيطر عليهما أكثر من الشعوب المتخلفة‪ .‬لكن الأمرين مبنيان على‬ ‫مبدأ لا عقلاني‪.‬‬‫فرغم كل تخطيط مسبق‪ ،‬يبقى الاقتصاد محتكما إلى مبدأ لا عقلاني‪ ،‬وهو أن السوق‬ ‫تعدل نفسها بنفسها‪ ،‬وكلنا يعلم أن العامل النفسي والشائعات يزلزلانه‪.‬‬‫والديمقراطية هي اللاعقلانية بافتراض أن الجماعة لا تجمع على خطأ‪ .‬وإذن فأساس‬ ‫الاقتصاد والديمقراطية‪ ،‬الاعتراف بنسبية العلم‪ ،‬والرضا بالممكن منه‪.‬‬‫والرضا بالممكن‪ ،‬ينتج عن إدراك حدود السلطان الإنساني‪ .‬وإدراك الحدود‪ ،‬هو‬ ‫السلطان الفعلي بالمقابل مع الإرادة التي يمكن تغفل عن العقل والقدرة‪.‬‬‫وللإنسان مخرج يمثله الذوق والوجود‪ ،‬فهما يجعلان الإرادة مشاركة في الخلق على‬ ‫المستوى الرمزي لتذوق الحياة ولتصور الوجود‪ ،‬وتلك هي العبادة الحقة‪.‬‬ ‫‪26 26‬‬



‫‪02 01‬‬ ‫‪01‬‬ ‫‪02‬‬‫تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي‪ :‬محمد مراس المرزوقي‬