أبو يعرب المرزوقي الأسماء والبيان
نشرع في تأصيل وظائف الدولة بعد أن أصلنا نوعي الوظائف وما بينهما من علاقات ثم فروعهما وعلاقتها وننطلق من تعريف الجماعة صاحبة الدولة السيدة.اليوم عيد تحرير الإنسان من التضحية بالإنسان وبداية وعيه بتكريمه خليفة يشرئب لمثاله الأعلى الذي هو جوهر الإيمان رمزا إليه بأسئلة إبراهيم.وهي أفضل لحظة من تاريخ الأمة للبحث في شروط استئنافها هذا الاشرئباب للتحرر من الغرق فيما ألهاها عن أهلية للخلافة :طالت غيبتها عن التاريخ.فما الجماعة التي تستأهل الاستخلاف الجزئي طريقا إلى الاستخلاف الكلي غاية لاستراتيجية الإسلام توحيدا للبشرية بقيم كونية تحررها من العبوديتين؟ ولماذا وصفها القرآن بأنها الجماعة الشاهدة على العالمين؟ وماذا تعني الشهادة على العالمين إثباتا أو نفيا لهذه الأهلية منزلة وجودية للإنسان؟تأصيل صنفي وظائف الدولة وفرعهما يبين القيم التي تحكمها لتحقق هذه الاستراتيجية بمرحلتيها :تحقيق عينة حاصلة بالفعل من غاية ما تزال بالقوة.فالعينة هي السهم الحاملة للرسالة وباقي الإنسانية مجال الدعوة لنقل الإنسانية من العبوديتين إلى الحريتين الروحية (الذات) والسياسية (المواطن).ويقتضي ذلك الانتقال من الرحم الجزئي علة تعدد الجماعات عائق الحريتين إلى الرحم الكلي شرط الأخوة الإنسانية وتجاوز الفروق العرقية والطبقية.ذلك أن الجماعة الجزئية مبنية على خمسة أصناف من الإرث المنافي للوحدة الأصلية فيها جميعا: -ارث عضوي -وإرث تراث 81
-وارث ثروة -وارث مكاني -وارث زمانيكل جماعة جزئية بسبب صراع البشر على الاحياز بمنطق التاريخ الطبيعي تتحول إلى كيانات منغلقة عما حولها من الجماعات بهذه الموروثات الخمسة.فانغلاق جماعة بحيازة قطعة من المكان (توارث الثروة) خلال قطعة من الزمان (توارث التراث) فينتج التزاوج الداخلي (توارث عضوي) :رحم جزئي يهمل الكلي.فتصبح الجماعات الإنسانية الجزئية حربا على وحدة الإنسانية بسبب الحرب على تقاسم المكان والزمان مصدري الثروة والتراث بمرجعيات ترسخ الانغلاق.إنها المعوقات التي يرفضها الإسلام مع علاجها كحقيقة متأتية من دور التاريخ الطبيعي في التاريخ الخلقي بوصف الإنسان طبيعيا وخلقيا في آن.والعلاج تحدده آيتان هما جوهر الرسالة الإسلامية بما هي استراتيجية توحيد الإنسانية توحيدا يقبل تعدد الجماعات في إطار تعايش الأخوة المتساوين.وهو تعايش الاخوة المتساوين في نفس الجماعة وبين الجماعات فالقانون السياسي والخلقي القرآني لا يفرق بين داخل وخارج بل هو في آن محلي ودولي.والآيتان هما النساء 1والحجرات 13وقد سبق أن شرحناهما .وتأصيلنا لوظائف الدولة تأصيل للقانونين المدني والخلقي في أي جماعة وفي العالم في آن.وهذا يعني أن الوظائف العشر التي تتفرع إليها وظيفتا الرعاية والحماية كونية لا يمكن أن تختلف من جماعة إلى جماعة وتلك هي ثمرة ثورتي الاسلام.وهذه الحقائق هي ما كان يؤمن به المسلمون قبل حصول الفتنة الكبرى والحروب الأهلية التي أدت إلى نكوص الامة بإعادة عائقي الحريتين :الطاغوتين.فحرفت كل علوم الامة بسبب قلب العلاقة بين الدستور واجراءات تطبيقه القانونية التي صارت أصلا وقلبت فصلت 53وتجرأ \"العلماء\" على آل عمران .7 82
تجرأ \"الأمراء\" على الدستور بأن جعلوه تابعا لإجراءاتهم التي استردت طاغوت الحكم فتجرأ \"العلماء\" على الابستمولوجيا لاسترداد طاغوت التربية.والمعلوم أن ابن خلدون فسر فساد معاني الإنسانية بهذين الطاغوتين :وقد عرضنا نصيه المتعلقين بأثرهما في الفرد والجماعة فلا تبقى أهلا للخلافة.فاقد أهلية الخلافة لا يشهد على العالمين لفقدانه الشهادة على كونية قيم الدستور القرآني ونكوصه إلى قانون التاريخ الطبيعي داخل الجماعة وخارجها.هذا هو الوضع الراهن للأمة التي تحولت إلى جماعات متفاصلة ومتحاربة وليس لها ما يغري بقية البشرية لاعتبارها نموذجا للأخوة والمساواة الموحدتين.التأصيل الذي سنباشره الآن هدفه بيان حقيقة هذه الوظائف بكونية القيم القرآنية التي تغري جميع البشر باحتذائها فتنجح استراتيجية التوحيد القرآني.وأبدأ بتأصيل الفرع الأول من الرعاية أي التربية النظامية التي تبدو جزءا من التربية اللانظامية لأنها بعض من كل ومع ذلك فهي أشمل منها بكثير.فالتربية النظامية تحصل في مجتمع مصغر هو عينة من المجتمع وظيفته اعداد النشء بتحصيل الخبرة الإنسانية بصورة نسقية تتجاوز جماعته الحية.وما لدى الجماعة الحية التي هي المجتمع ككل يبقى دائما دون ما لدى هذه الجماعة المختصة في التربية من حيث تحصيل الخبرة الكونية ذات النسقية.فتكون التربية النظامية قاطرة التربية اللانظامية .ورغم كونها بعضا من الكل فهي أوسع وأشمل من الكل والكل يبقى دائما وراءها من حيث كونية القيم.واليوم-يوم الاضحى أو تحرير الإنسان من تضحية الطاغوتين به .اتضحت لي ترجمته القرآنية ثورة على الطاغوتين بتبين الرشد من الغي أصلا للإيمان الحر.إنه مدلول الوصل بين 255و 256من البقرة :تعريف إله الإسلام موصول بتعريف الإيمان الحر الذي لا إكراه فيه مشروطا بتبين الرشد والكفر بالطاغوت.واليوم بعد فهم هذه العلاقة أستطيع أن أعرف دوري في الترقي إلى هذه الحقيقة التي تمثل عندي جوهر الرسالة الإسلامية :آخر خطوة في فهم طبيعتها. 83
فأصلها القرآن استراتيجية توحيد الإنسانية بمفهوم الاخوة البشرية والمساواة شرطين لسياسة العالم بقيم الاستخلاف وفروعها أعلام المدرسة النقدية. والأعلام هم: -الأول حررها من التحريفين الموظفين للفلسفة والدين -والثاني حرر الفلسفة النظرية والعقدية -والثالث حرر الفلسفة العلمية والشرع. -أما الرابع-وهو دوري في المدرسة النقدية -هو فهم هذه المراحل وبيان طبيعة ما تصدت إليه دون أن تستطيع تحديد طبيعته :عكس النظر والعمل القرآنيين.وبفهم دور الغزالي وابن تيمية وابن خلدون وما أضيفه ببيان ما لم يقع تحديده ليتم هذا الدور يصبح بوسعنا تأصيل وظائف الدولة بقيم الرسالة.تأصيل التربية بالنظامية وفهم علاقتها باللانظامية شرطه تجاوز تحريف الفلسفة والدين (الغزالي) وبوضع نظريتي النظر والعمل (ابن تيمية وابن خلدون).وشرط التجاوز فهم معوقاته وأصلها علة قلب الحكم والتربية القرآنيين :رد الدستور إلى القانون (فلسفة التاريخ) ورد الوجود إلى العلم (فلسفة المعرفة).دوري لا يتجاوز بيان حقيقتين :القرآن فلسفة نظر وعقد وفلسفة عمل وشرع وهو يؤسس فلسفة الطبيعة على الرياضيات وفلسفة التاريخ على الأخلاقيات.ولا يمكن أن يكون القرآن كما وصفت من دون نظرية في المعرفة تنفي الإحاطة المعرفية و نظرية في العمل تنفي الإحاطة العملية :نسبية الاجتهاد والجهاد.وبهذين النسبتين يؤصل حصر السلطة في حفظ شروط التعايش بين المتعدد بالجوهر في العقائد والشرائع أي شروط التعاون والتعاوض العادل رعاية وحماية.فكل ما يتعلق بالعقائد والشرائع يرجئه القرآن للحساب إلى يوم الدين وينهى الرسول عن تجاوز دور المبلغ والمبشر والمنذر فهو ليس {عليهم بمسيطر}.وأهم مبدأ في شريعة الإسلام أن الله يمكن أن يعفو فيما علاقة الإنسان به ولا يمكن أن يعفو في علاقة الإنسان بالإنسان ومنها الكفر بالله. 84
فالكفر بالله علاقة إيمان بغيره ويعود دائما للإنسان لأن ما يعبده الإنسان من دون الله هو حاجته وغالبا ما تكون بيد إنسان آخر فيعبده من أجلها.والشريعة لا تنطبق إلا على شروط العيش المشترك وإذا تعلقت بعلاقة الله بالإنسان فهي تجاوز ما لم يكن الأمر متعلقا بعدوان البعض على عقائد البعض.وإذن فيمكن القول إن الشريعة وظيفتها حماية التعدد وليس نفيه وذلك لأن القرآن في المائدة 48يعتبره شرط التسابق في الخيرات وحرية العقد الديني.فلا يتبين الإنسان الرشد من الغي ما لم يقتنع بنفسه خلال مقارنة ما يوجد في الجماعة من بدائل تسابقا في الخيرات فيختار الإسلام ذروة للرشد.هذه هي أحكام الدستور القرآني التي حرفت بعد أن قلبت العلاقة بينها وبين الأحكام الظرفية التي احتيج إليها في قوانين تطبيقية جزئية جعلت أصلا.وقد بينت سابقا دلالة ذلك في القانون وفلسفة الحق :فلا يمكن للأحكام الخاصة بظرفيات محدودة أن تصبح هي الاصل في الدستور أصلها ومحدد مدى نفاذها.فالعلاقة بالمختلف في الحرب غيرها به في السلم .والعلاقة بالآخر المعتدي غيرها بالآخر المتعامل .فدار الحرب لا تشمل الآخر عامة بل الآخر المعادي.والأمثلة كثيرة وهي من هذا الجنس .فالاجتهاد والجهاد ينطبق عليهما هذا العلاج: حدهما في الدستور القرآني أصل وتطبيقاتهما يحدها ظرفها الخاص. فلنعين الآن: .1مضمون التربية النظامية .2وطرقها .3وغاياتها .4وأطرافها .5والأصل صلتها بعلاقة جماعتها الحية بالإنسانية عقلا ونقلا في آنوكالعادة فهذه معادلة مخمسة قلبها هو الأساس في فهم علاقة عنصرها الأول بالأخير وعنصرها الثاني بما قبل الأخير كعادتنا في كل معادلات تحليلنا. 85
مضمون التربية النظامية لا يفهم إلا بالعلاقة بين الجماعة الحية والإنسانية :الزاد المعرفي الإنساني حول الطبيعة والتاريخ لتجويد حياة الإنسان.وهذا الزاد بنص القرآني أصل علاقته بالطبيعة هو فهمها الرياضي وأصل علاقته بالتاريخ هو فهمه الخلقي والأصل الجامع هو علاقة الإنسان بها أربعتها.فسلطان الطبيعة على الإنسان هو أنها مصدر رزقه وسلطان الإنسان عليها بقدر علمه بقوانينها لذاته ومن أجل رزقه الذي يستمده منها بعمله على علم.وسلطان التاريخ على الإنسان هو سلطان الإنسان على الإنسان .وسلطان الإنسان على الإنسان شرطه سلطان الإنسان على ذاته :وسلطانه على ذاته أخلاق.والعلاقة بين الطبيعة والتاريخ وجودا وبين الرياضيات والاخلاقيات معرفة هو المضمون الحقيقي لكل تربية إنسانية والبقية مكملات .الأربعة كونية. ماذا أعني بأن الأربعة كونية؟الإنسانية كلها مشاركة في اكتشاف الطبيعة والتاريخ وفي اكتشاف قوانين الأولى الرياضية وقواني الثاني الخلقية.ومن يقرأ القرآن بتدبر يتبين له ذلك لأن مضمونه كوني يتكلم على الإنسانية كلها من حيث علاقتها بالطبيعة والتاريخ ويدعو مخاطبيه لمعرفة قوانينهما.لذلك لم أر أسخف ممن يبحث عن تأثر القرآن بما تقدم عليه من الأديان والفلسفات: فالقرآن لا ينفي ذلك بل هو يعلن عنه ولكن بمنطق التصديق والهيمنة.موقفه كوني لكنه نقدي .فالتصديق يعني أنه لا يرفض الحصيلة الموجبة من التجربة البشرية والهيمنة تعني أنه هو الذي يحدد معايير الصادق والكاذب.إنه الكلي الخاتم .لنضرب مثال نقده لليهودية والمسيحية والمجوسية والصابئية والشرك (الأديان الخمسة التي يعترف بها ويرجئ الحكم فيها ليوم الدين).فمنهج التصديق والهيمنة هنا يتكون من أمرين :بيان الديني وتحريفه بمعايير حددها الدين الخاتم ثم يعلل ضرورة التعايش معها بالتسابق في الخيرات. 86
فيحدد مضمون التربية الروحية والسياسية التي تؤسس لاستراتيجية توحيد البشرية ليس بقانون التاريخ الطبيعي كما في العولمة بل بالتسابق في الخيرات. نمر إلى الثاني (الطرق) والرابع (الاطراف) .ولنبدأ بالأطراف :وهي خمسة: -المتعلم -والمعلم -ومصدر النشء المربى -وغاية النشء المربى -ثم السلطة الشرعيةالجماعة التي يأتي منها النشء والجماعة التي تستعمل النشء في الانتاجين المادي والرمزي .هما نفس الجماعة ولكن بالتخصيص هم الأسر ورجال الاعمال.والعملية التربوية شغل المتعلم والمعلم باحثين علميين رغم أن الثاني أكثر خبرة من الاول .لكن خبرته تتعلق بتبليغ الموجود منها وليس باكتشافه.فغالبا ما يكون المتعلم أكثر قدرة على الاكتشاف من المعلم ولكن بشرط حرية التفكير والإبداع في تعليم استكشافي يعلو تلقين \"الشيخ\" الذي يغسل ميتا.وهنا تأتي وظيفة السلطة الشرعية التي تحدد شرائع التربية كما يصفها ابن خلدون لئلا تصبح مفسدة لمعاني الإنسانية .وهو أولى علل أمراض الامة.الطرفان الأولان يمولان التربية النظامية بالنشء وبكلفة تكوينهم .والطرفان الثانيان يتكونان وينتجان الرزقين المادي والروحي .والطرف الخامس يشرع.وهو يشرع باعتبار حرية المعرفة العلمية والخلقية ما يتبعها من الإبداعات الفنية والجمالية والتقنية عامة وباعتبار الحاجة الظرفية للجماعة خاصة.وهكذا نصل إلى قلب المعادلة :الغايات من التربية النظامية .تكلمنا عليها بصورة عامة عند الكلام على شروط الانتاجين تكوينا وعملا على علم ومنهج.تلك هي الغايات العاجلة في كل جماعة :تكون النشء لتستمر في الوجود بما ينتجه النشء المكون من تراث وثروة ثمرتين للعمل على علم بالطبيعة والتاريخ. 87
وللتربية غايات آجلة منتسبة إلى التاريخ المديد واللامتناهي :ففي التاريخ المديد الغاية هي رفع مستوى الجماعة بالتراكم من خلال النشء المتعلم.وفي التاريخ اللامتناهي يكون هدف التربية النظامية وصل الإنسان بما يتجاوز التاريخ الأدنى إلى التاريخ الأسمى :وهو مجال الاديان والفلسفات. 88
02 01 01 02تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي :محمد مراس المرزوقي
Search
Read the Text Version
- 1 - 14
Pages: