Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore متممات في مفهوم الدولة ومقوماتها – أبو يعرب المرزوقي

متممات في مفهوم الدولة ومقوماتها – أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2018-06-22 09:58:31

Description: متممات في مفهوم الدولة ومقوماتها – أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫الأسماء والبيان‬



‫المحتويات ‪1‬‬‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثاني ‪6 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثالث ‪11 -‬‬‫‪ -‬الفصل الرابع ‪16 -‬‬‫‪ -‬الفصل الخامس ‪21 -‬‬

‫‪--‬‬‫نترك الكلام في المسائل التاريخية العينية ونعود إلى البحث المجرد لنستكمل علاج مسألة‬‫الدولة وطبيعة مقوماتها أيا كانت الجماعة التي تنسب إليها الدولة وفي أي عصر ذلك أن‬‫العلاج المفهومي يضع بين قوسين ما يتعلق بالعلاج التاريخي ليتكلم على البنية المجردة دون‬ ‫ملئها بالمضمون التاريخي‪.‬‬‫ولست غافلا عن كون النزعة التاريخانية تعتبر الكلام على البنى المجردة وعلى المقابلة‬‫بين المفهومي والتاريخ من بقايا الميتافيزيقا وليست مناسبة لعصر العلم الوضعي‪ .‬لكن أكثر‬‫ميلا لاعتبار هذا الرأي هو الغفلة بعينها لأن العلم الوضعي تجاوزه العلم المدرك لحدوده‬ ‫ولحاجته لما يضفي عليه معنى‪.‬‬‫لذلك فنسبة العلاج المفهومي للعلاج التاريخي هي عين نسبة البنى الرياضية للمضامين‬‫الفيزيائية فيما يظن علما وضعيا‪ .‬والأولى يمكن اعتبارها مقدرات ذهنية خالية من‬‫المضمون عدا منطق النسقية في البناء الرمزي المجرد والثانية تعدلها تعديل المضمون‬ ‫للعبارة عنه باسترماز أو ترجمة رمزية مناظرة‪.‬‬‫ذلك أن العلم بخلاف الأباديع الفنية ليس متحررا من مرجعية من خارجه تتمثل في أن‬‫الأباديع العلمية تختلف عن الأباديع الأدبية فالنظرية تختلف عن الرواية‪ .‬النظرية رواية‬‫مقيدة بمضمون مستقل عن كاتبها والرواية نظرية صاحبها هو الذي يبدعها ويبدع‬ ‫المضمون معها ومن ثم فهو أكثر حرية من العالم‪.‬‬‫ولكن مهما كان أكثر حرية من العالم لعدم تبعية أبدوعته لموضوع ليس من صنع المبدع‬‫ويمكن أن نقيس عليه الرياضي فإنهما مع ذلك خاضعان لما يمكن اعتباره هو بدوره حائلا‬‫دون الخلط بين الإبداع والخيال الذي ليس له نظام مفهومي‪ :‬ومعنى ذلك أن الرياضي‬ ‫والروائي هما بدورهما خاضعان للمفهوم‪.‬‬‫والمفهوم يتجاوز الحدود الاولية وقوانين تأليفها بداية للإبداع الرياضي أو الروائي‬‫وبمجرد وضع هذه الحدود الأولية وقوانين التأليف بينها (شرطا كل اكسيومية) يصبحان‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫مقيدين بما يفرضه المفهوم الذي هو علاقات مطلقة الاستقلال عن تحكم الشخص الذي‬ ‫أبدعهما لأن ما سيترتب عليهما مستقل تماما عنهما‪.‬‬‫وإذن ففكر الإنسان يوجد بين فكي كماشة‪ :‬أحدهما يحكم الوجود في الأعيان والاحتكام‬‫إليه قانونه هو تجربة الوجود الخارجي والثاني هو الوجود في الأذهان والاحتكام إليه‬‫قانونه هو تجربة الوجود الذهني ‪-‬وهو غير النفسي ‪-‬إنه الوجود المنطقي أو الرمزي وما‬ ‫يترتب عليه من نظام ونسقية مستقلين تماما‪.‬‬‫صحيح أن الروائي يبدو وكأنه مطلق الحرية في قص أحداث روايته‪ .‬لكن هذا القص‬‫بخلاف ما يتوهم الكثير ليس مطلق الحرية‪ :‬فما أن يبدع الروائي شخوص روايته ويحدد‬‫صفاتهم الاساسية يصبح خاضعا لتناسق هذه الصفات فيما يعرضه من أحداث تفرض عليه‬ ‫فرضا ولا يستطيع من دون إفساد الحبكة أن يغيرها‪.‬‬‫وحتى ما يقدم عليه من إفساد للنسق فهو مما يحتمله النسق بمعنى أنه ضمن الإمكانات‬‫التي تنتج عن الحدود الأولية وقوانين التأليف التي تنتج عن مفهوماتها وما تبيحه وما‬‫تحظره وما يمكن أن يصبح بالإباحة والحظر من مجملات القص أو هكذا تفهم حتى لو لم‬ ‫تكم بقصد من الروائي‪ .‬ونفس الأمر في العلم‪.‬‬‫لذلك فأحيانا يكون ما يظن من الاخطاء فتحا في الإبداعين الروائي والرياضي‪ .‬وبعد‬‫هذه المحاولة لتعليل الحاجة إلى ما يجانس هذه العلاقة بين فك الأذهان وفك الأعيان‬‫المحيطين بعمل الإبداع علميا كان أو أدبيا أعود إلى موضوعي‪ :‬نظرية الدولة التي يمكن‬ ‫إبداعها في الأذهان بصرف النظر عن الأعيان‪.‬‬‫فهذا هو المستوى المفهومي الذي مع المستوى التاريخي يمكن أن يؤطر المستوى العلمي من‬‫السياسة‪ :‬وإذن فما أقدمه له علاقة بنظرية الدولة مفهوميا بالمقابل مع واقع الدولة‬‫تاريخيا اساسين للعم الدولة وضعيا‪ .‬ثلاثة مستويات‪ :‬المفهوم والتاريخ والعلم الوضعي‪.‬‬ ‫والعلم الوضعي ممتنع من دون الآخرين‪.‬‬‫فيكون العلم دائما مشدودا إلى حدين أحدهما هو الإبداع في الأذهان والثاني هو الحصول‬‫في الأعيان وهو محاولة المطابقة بقدر الاستطاعة بين الإبداع في الأذهان والحصول في‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الأعيان ومن ثم فالعلم وصل بين المفهومي والتاريخي أو بين المنطقي الرياضي والوجودي‬ ‫التجريبي‪ :‬والآن فلنستكمل مفهوم الدولة‪.‬‬‫حددت فيما سبق المقومات التي تتألف منها الدولة (صورة العمران بلغة ابن خلدون)‬‫بوصها الجماعة وقد صارت ذاتا مشرعة لذاتها ومبدعة لكيانها وشروط بقائه حماية ورعاية‬ ‫فحصرتها في العناصر التالية‪:‬‬ ‫‪ .1‬مرجعية‬ ‫‪ .2‬قوى سياسية‬ ‫‪ .3‬دستور‬ ‫‪ .4‬هيئة حاكمة ومعارضة‬ ‫‪ .5‬وظائف الحماية والرعاية‪.‬‬‫وهذه العناصر المقومة الخمسة شرحتها بإفاضة في مستوى التحليل المفهومي وأحيانا في‬‫مستوى الحصول التاريخي دون أن أدعي الوصول إلى النظرية العلمية التي تجمع بين‬‫التحليل المفهومي والحصول التاريخي لتكون فعلا معرفة وضعية تستخرج قوانين علمية قابلة‬ ‫للامتحان التجريبي في الهندسة السياسية‪.‬‬ ‫فتكون العملية الكاملة مؤلفة من‪:‬‬ ‫‪ .1‬تحليل مفهومي أو وجود في الأذهان‬ ‫‪ .2‬وتوصيف تاريخي أو وجود في الأعيان‬ ‫‪ .3‬ومن تنظير علمي ووضعي‬ ‫‪ .4‬يؤسس لتفعلي عملي في الهندسة السياسة أو في الاستراتيجية السياسية لبناء الدول‬ ‫‪ .5‬والجامع بين هذه العناصر هو المعنى التام للسياسة في الفلسفة وفي الدين‪.‬‬ ‫فما الذي غاب في المحاولات السابقة وعلينا استكماله؟‬‫لما تكلمت على المرجعية (المقوم الأول) وعلى الوظائف (المقوم الأخير) غاب أهم عناصر‬‫أدوات الفعل فيهما وفيما بينهما أعني في القوى السياسية والدستور والهيئة \"الحاكمة‪-‬‬ ‫المعارضة‪ :‬أعني الرمزين المقومين للفاعلية الإنسانية عامة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فلا يمكن تصور جماعة فضلا عن الدولة التي هي الجماعة وقد صارت ذاتا مشرعة لذاتها‬‫ومبدعة لكيانها ‪-‬وهي الوحيدة التي يمكن القول إنها ‪-‬كاوزا سوي‪-‬أي علة وجودها‬‫واستمرارها وكذلك علة عدمها وزوالها‪-‬من دون الرمزين‪ :‬رمز الفاعلية أو العملة وفاعلية‬ ‫الرمز أو الكلمة‪.‬‬‫وحتى لا ننتظر طويلا فلنقل إن هذين الرمزين مجتمعين يمثلان عند فصلهما عن الغايات‬‫المتعالية على الدنيا دين العجل الذهبي‪ :‬العملة هي مادته أو الذهب والكلمة هي صورته‬‫أو الخوار‪ .‬ومن ثم فهذان الرمزان مشتركان بين دين الله إذا وصلت الأولى بالآخرة‬ ‫مستويين متكاملين ودين العجل إذا خلطتا‪.‬‬‫والخلط بينهما يكون إما برد السياسة إلى الثيوقراطيا أو بردها إلى الانثروبوقراطيا‪:‬‬‫ففي الأولى الوسيط والوصي يدعي الكلام باسم الله ويلغي الإنسان وفي الثانية يدعي‬‫الكلام باسم الإنسان ويلغي الله‪ .‬ولما كان الإلغاء مستحيلا فالإنسان يتربب سرا في الاولى‬ ‫وجهرا في الثانية‪ :‬وحدة الفتنتين‪.‬‬‫وإذن فالعملة رمز الفاعلية والكلمة فاعلية الرمز لا بد منهما في كل دولة والمشكل هو كيف‬‫يحال دون أن يصبحا عنصري دين العجل الذهبي ذي الخوار‪ .‬كل مشكل المرجعية متعلق‬‫بهذه الإشكالية‪ .‬الدولة بوصها ذات الجماعة لا تعمل من دونهما لكنهما يمكن أن يصبحا‬ ‫ممثلين لدين العجل أو لدين الله‪.‬‬‫وما يرمز إلى هذه الضرورة هو بالأساس ما يجعل وزارة المالية ووزارة الإعلام وزارتي‬‫سيادة حتى وإن كانت بنية الحكومات لا تعتبرهما كذلك‪ :‬لكن ما من حكومة يمكن أن تعمل‬‫من دون المالية شرط التبادل ومن دون الإعلام شرط التواصل‪ .‬لذلك فوزارات السيادة‬ ‫ثمان وليست أربعا‪.‬‬‫فبالإضافة إلى القضاء والداخلية والخارجية والدفاع لا بد من إضافة المالية والأعلام‬‫والاستعلام والبحث العلمي النظري والعملي‪ .‬فالحماية والرعاية لا تعملان من دون هذه‬ ‫السلط الثمانية‪:‬‬ ‫أربع للفاعلية التنفيذية وأربع لشروط العمل على علم في الحماية والرعاية‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بذلك تكون الدولة وعي الجماعة‪.‬‬‫وهذه الإضافة تتعلق بالهيئة الحاكمة‪-‬المعارضة (الهيئة مضاعفة لأن أي معارضة جدية‬‫لها حكومة ظل تستعد للتداول وهي إذن حاكمة بالقوة والأولى حاكمة بالفعل)‪ .‬لكن‬‫ينبغي أن نثبت دور ذلك في المرجعية وفي القوى السياسية وفي الدستور وفي الوظائف العشر‬ ‫التي هي أعضاء فعل الدولة‪.‬‬‫عبارة \"أعضاء فعل الدولة\" فيها اضمار أن الدولة كائن حي يعمل بجوارح هي التي تؤدي‬‫الوظائف العشر‪ :‬أي الحماية الداخلية (القضاء والأمن) والحماية الخارجية (الدبلوماسية‬‫والدفاع) وجهازها العصبي اي الأعلام والاستعلام حتى يكون عمل الدولة على علم بما‬ ‫يجري في الداخل والخارج‪.‬‬‫ونفس ما قلناه عن الحماية يصح على الرعاية‪ .‬فللدولة جوارح تقوم بوظائف الرعاية‬‫التي هي رعاية التكوين أو التربية النظامية والعامة ورعاية التموين التي هي الإنتاج‬‫الرمزي أو الثقافة بكل ابعادها والإنتاج المادي أو الاقتصاد بكل أبعاده وجهازها العصبي‬ ‫أو البحث والإعلام العلميين‪.‬‬‫وفي الحقيقة فإن الرمزين مضمران في الجهازين العصبيين‪ :‬ذلك أن رمز الفعل أو العملة‬‫وفعل الرمز أو الكلمة كلاهما تابع للحماية وللرعاية وجود في الداخل (التبادل والتواصل)‬‫وشرط إمكان في الخارج‪ .‬وشرط الإمكان في الخارج دليله شرط الوجود في الداخل‪ :‬المهابة‬ ‫مبنية على هذه العلاقة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫نترك الكلام في المسائل التاريخية العينية ونعود إلى البحث المجرد لنستكمل علاج مسألة‬‫الدولة وطبيعة مقوماتها أيا كانت الجماعة التي تنسب إليها الدولة وفي أي عصر ذلك أن‬‫العلاج المفهومي يضع بين قوسين ما يتعلق بالعلاج التاريخي ليتكلم على البنية المجردة دون‬ ‫ملئها بالمضمون التاريخي‪.‬‬‫ولست غافلا عن كون النزعة التاريخانية تعتبر الكلام على البنى المجردة وعلى المقابلة‬‫بين المفهومي والتاريخ من بقايا الميتافيزيقا وليست مناسبة لعصر العلم الوضعي‪ .‬لكن أكثر‬‫ميلا لاعتبار هذا الرأي هو الغفلة بعينها لأن العلم الوضعي تجاوزه العلم المدرك لحدوده‬ ‫ولحاجته لما يضفي عليه معنى‪.‬‬‫لذلك فنسبة العلاج المفهومي للعلاج التاريخي هي عين نسبة البنى الرياضية للمضامين‬‫الفيزيائية فيما يظن علما وضعيا‪ .‬والأولى يمكن اعتبارها مقدرات ذهنية خالية من‬‫المضمون عدا منطق النسقية في البناء الرمزي المجرد والثانية تعدلها تعديل المضمون‬ ‫للعبارة عنه باسترماز أو ترجمة رمزية مناظرة‪.‬‬‫ذلك أن العلم بخلاف الأباديع الفنية ليس متحررا من مرجعية من خارجه تتمثل في أن‬‫الأباديع العلمية تختلف عن الأباديع الأدبية فالنظرية تختلف عن الرواية‪ .‬النظرية رواية‬‫مقيدة بمضمون مستقل عن كاتبها والرواية نظرية صاحبها هو الذي يبدعها ويبدع‬ ‫المضمون معها ومن ثم فهو أكثر حرية من العالم‪.‬‬‫ولكن مهما كان أكثر حرية من العالم لعدم تبعية أبدوعته لموضوع ليس من صنع المبدع‬‫ويمكن أن نقيس عليه الرياضي فإنهما مع ذلك خاضعان لما يمكن اعتباره هو بدوره حائلا‬‫دون الخلط بين الإبداع والخيال الذي ليس له نظام مفهومي‪ :‬ومعنى ذلك أن الرياضي‬ ‫والروائي هما بدورهما خاضعان للمفهوم‪.‬‬‫والمفهوم يتجاوز الحدود الاولية وقوانين تأليفها بداية للإبداع الرياضي أو الروائي‬‫وبمجرد وضع هذه الحدود الأولية وقوانين التأليف بينها (شرطا كل اكسيومية) يصبحان‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫مقيدين بما يفرضه المفهوم الذي هو علاقات مطلقة الاستقلال عن تحكم الشخص الذي‬ ‫أبدعهما لأن ما سيترتب عليهما مستقل تماما عنهما‪.‬‬‫وإذن ففكر الإنسان يوجد بين فكي كماشة‪ :‬أحدهما يحكم الوجود في الأعيان والاحتكام‬‫إليه قانونه هو تجربة الوجود الخارجي والثاني هو الوجود في الأذهان والاحتكام إليه‬‫قانونه هو تجربة الوجود الذهني ‪-‬وهو غير النفسي ‪-‬إنه الوجود المنطقي أو الرمزي وما‬ ‫يترتب عليه من نظام ونسقية مستقلين تماما‪.‬‬‫صحيح أن الروائي يبدو وكأنه مطلق الحرية في قص أحداث روايته‪ .‬لكن هذا القص‬‫بخلاف ما يتوهم الكثير ليس مطلق الحرية‪ :‬فما أن يبدع الروائي شخوص روايته ويحدد‬‫صفاتهم الاساسية يصبح خاضعا لتناسق هذه الصفات فيما يعرضه من أحداث تفرض عليه‬ ‫فرضا ولا يستطيع من دون إفساد الحبكة أن يغيرها‪.‬‬‫وحتى ما يقدم عليه من إفساد للنسق فهو مما يحتمله النسق بمعنى أنه ضمن الإمكانات‬‫التي تنتج عن الحدود الأولية وقوانين التأليف التي تنتج عن مفهوماتها وما تبيحه وما‬‫تحظره وما يمكن أن يصبح بالإباحة والحظر من مجملات القص أو هكذا تفهم حتى لو لم‬ ‫تكم بقصد من الروائي‪ .‬ونفس الأمر في العلم‪.‬‬‫لذلك فأحيانا يكون ما يظن من الاخطاء فتحا في الإبداعين الروائي والرياضي‪ .‬وبعد‬‫هذه المحاولة لتعليل الحاجة إلى ما يجانس هذه العلاقة بين فك الأذهان وفك الأعيان‬‫المحيطين بعمل الإبداع علميا كان أو أدبيا أعود إلى موضوعي‪ :‬نظرية الدولة التي يمكن‬ ‫إبداعها في الأذهان بصرف النظر عن الأعيان‪.‬‬‫فهذا هو المستوى المفهومي الذي مع المستوى التاريخي يمكن أن يؤطر المستوى العلمي من‬‫السياسة‪ :‬وإذن فما أقدمه له علاقة بنظرية الدولة مفهوميا بالمقابل مع واقع الدولة‬‫تاريخيا اساسين للعم الدولة وضعيا‪ .‬ثلاثة مستويات‪ :‬المفهوم والتاريخ والعلم الوضعي‪.‬‬ ‫والعلم الوضعي ممتنع من دون الآخرين‪.‬‬‫فيكون العلم دائما مشدودا إلى حدين أحدهما هو الإبداع في الأذهان والثاني هو الحصول‬‫في الأعيان وهو محاولة المطابقة بقدر الاستطاعة بين الإبداع في الأذهان والحصول في‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الأعيان ومن ثم فالعلم وصل بين المفهومي والتاريخي أو بين المنطقي الرياضي والوجودي‬ ‫التجريبي‪ :‬والآن فلنستكمل مفهوم الدولة‪.‬‬‫حددت فيما سبق المقومات التي تتألف منها الدولة (صورة العمران بلغة ابن خلدون)‬‫بوصها الجماعة وقد صارت ذاتا مشرعة لذاتها ومبدعة لكيانها وشروط بقائه حماية ورعاية‬ ‫فحصرتها في العناصر التالية‪:‬‬ ‫‪ .1‬مرجعية‬ ‫‪.2‬قوى سياسية‬ ‫‪ .3‬دستور‬ ‫‪.4‬هيئة حاكمة ومعارضة‬ ‫‪.5‬وظائف الحماية والرعاية‪.‬‬‫وهذه العناصر المقومة الخمسة شرحتها بإفاضة في مستوى التحليل المفهومي وأحيانا في‬‫مستوى الحصول التاريخي دون أن أدعي الوصول إلى النظرية العلمية التي تجمع بين‬‫التحليل المفهومي والحصول التاريخي لتكون فعلا معرفة وضعية تستخرج قوانين علمية قابلة‬ ‫للامتحان التجريبي في الهندسة السياسية‪.‬‬ ‫فتكون العملية الكاملة مؤلفة من‪:‬‬ ‫‪.1‬تحليل مفهومي أو وجود في الأذهان‬ ‫‪.2‬وتوصيف تاريخي أو وجود في الأعيان‬ ‫‪.3‬ومن تنظير علمي ووضعي‬ ‫‪ .4‬يؤسس لتفعلي عملي في الهندسة السياسة أو في الاستراتيجية السياسية لبناء الدول‬ ‫‪.5‬والجامع بين هذه العناصر هو المعنى التام للسياسة في الفلسفة وفي الدين‪.‬‬ ‫فما الذي غاب في المحاولات السابقة وعلينا استكماله؟‬‫لما تكلمت على المرجعية (المقوم الأول) وعلى الوظائف (المقوم الأخير) غاب أهم عناصر‬‫أدوات الفعل فيهما وفيما بينهما أعني في القوى السياسية والدستور والهيئة \"الحاكمة‪-‬‬ ‫المعارضة‪ :‬أعني الرمزين المقومين للفاعلية الإنسانية عامة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فلا يمكن تصور جماعة فضلا عن الدولة التي هي الجماعة وقد صارت ذاتا مشرعة لذاتها‬‫ومبدعة لكيانها ‪-‬وهي الوحيدة التي يمكن القول إنها ‪-‬كاوزا سوي‪-‬أي علة وجودها‬‫واستمرارها وكذلك علة عدمها وزوالها‪-‬من دون الرمزين‪ :‬رمز الفاعلية أو العملة وفاعلية‬ ‫الرمز أو الكلمة‪.‬‬‫وحتى لا ننتظر طويلا فلنقل إن هذين الرمزين مجتمعين يمثلان عند فصلهما عن الغايات‬‫المتعالية على الدنيا دين العجل الذهبي‪ :‬العملة هي مادته أو الذهب والكلمة هي صورته‬‫أو الخوار‪ .‬ومن ثم فهذان الرمزان مشتركان بين دين الله إذا وصلت الأولى بالآخرة‬ ‫مستويين متكاملين ودين العجل إذا خلطتا‪.‬‬‫والخلط بينهما يكون إما برد السياسة إلى الثيوقراطيا أو بردها إلى الانثروبوقراطيا‪:‬‬‫ففي الأولى الوسيط والوصي يدعي الكلام باسم الله ويلغي الإنسان وفي الثانية يدعي‬‫الكلام باسم الإنسان ويلغي الله‪ .‬ولما كان الإلغاء مستحيلا فالإنسان يتربب سرا في الاولى‬ ‫وجهرا في الثانية‪ :‬وحدة الفتنتين‪.‬‬‫وإذن فالعملة رمز الفاعلية والكلمة فاعلية الرمز لا بد منهما في كل دولة والمشكل هو كيف‬‫يحال دون أن يصبحا عنصري دين العجل الذهبي ذي الخوار‪ .‬كل مشكل المرجعية متعلق‬‫بهذه الإشكالية‪ .‬الدولة بوصها ذات الجماعة لا تعمل من دونهما لكنهما يمكن أن يصبحا‬ ‫ممثلين لدين العجل أو لدين الله‪.‬‬‫وما يرمز إلى هذه الضرورة هو بالأساس ما يجعل وزارة المالية ووزارة الإعلام وزارتي‬‫سيادة حتى وإن كانت بنية الحكومات لا تعتبرهما كذلك‪ :‬لكن ما من حكومة يمكن أن تعمل‬‫من دون المالية شرط التبادل ومن دون الإعلام شرط التواصل‪ .‬لذلك فوزارات السيادة‬ ‫ثمان وليست أربعا‪.‬‬‫فبالإضافة إلى القضاء والداخلية والخارجية والدفاع لا بد من إضافة المالية والأعلام‬‫والاستعلام والبحث العلمي النظري والعملي‪ .‬فالحماية والرعاية لا تعملان من دون هذه‬ ‫السلط الثمانية‪:‬‬ ‫أربع للفاعلية التنفيذية وأربع لشروط العمل على علم في الحماية والرعاية‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بذلك تكون الدولة وعي الجماعة‪.‬‬‫وهذه الإضافة تتعلق بالهيئة الحاكمة‪-‬المعارضة (الهيئة مضاعفة لأن أي معارضة جدية‬‫لها حكومة ظل تستعد للتداول وهي إذن حاكمة بالقوة والأولى حاكمة بالفعل)‪ .‬لكن‬‫ينبغي أن نثبت دور ذلك في المرجعية وفي القوى السياسية وفي الدستور وفي الوظائف العشر‬ ‫التي هي أعضاء فعل الدولة‪.‬‬‫عبارة \"أعضاء فعل الدولة\" فيها اضمار أن الدولة كائن حي يعمل بجوارح هي التي تؤدي‬‫الوظائف العشر‪ :‬أي الحماية الداخلية (القضاء والأمن) والحماية الخارجية (الدبلوماسية‬‫والدفاع) وجهازها العصبي اي الأعلام والاستعلام حتى يكون عمل الدولة على علم بما‬ ‫يجري في الداخل والخارج‪.‬‬‫ونفس ما قلناه عن الحماية يصح على الرعاية‪ .‬فللدولة جوارح تقوم بوظائف الرعاية‬‫التي هي رعاية التكوين أو التربية النظامية والعامة ورعاية التموين التي هي الإنتاج‬‫الرمزي أو الثقافة بكل ابعادها والإنتاج المادي أو الاقتصاد بكل أبعاده وجهازها العصبي‬ ‫أو البحث والإعلام العلميين‪.‬‬‫وفي الحقيقة فإن الرمزين مضمران في الجهازين العصبيين‪ :‬ذلك أن رمز الفعل أو العملة‬‫وفعل الرمز أو الكلمة كلاهما تابع للحماية وللرعاية وجود في الداخل (التبادل والتواصل)‬‫وشرط إمكان في الخارج‪ .‬وشرط الإمكان في الخارج دليله شرط الوجود في الداخل‪ :‬المهابة‬ ‫مبنية على هذه العلاقة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫أكره شيء عندي تعريف الإسلام بالسلبين لا هو كذا ولا هو كذا أي تلك الفكرة السخيفة‬‫التي ظن أصحابها أن ارسطو يعرف الفضيلة بوصفها وسطا بين رذيلتين‪ .‬ومن يصدق هذا‬‫الفهم لأخلاق أرسطو كمن يصدق أن الكلام بالمماثلة في القرآن يعطينا حقيقة الله وينسى‬ ‫ليس كمثله شيء‪ .‬تقريب المفهوم صار عينه‪.‬‬‫وأكره منه عندي القول إن الإسلام هو الحل الثالث بين الحلين الرأسمالي والاشتراكي‪.‬‬‫فمن نتائج هذا الفهم العقيم للإسلام‪-‬الذي من جنس هم مسلمون دون إسلام ونحن إسلام‬‫دون مسلمين‪-‬أنهم أخذوا رذيلتي النظامين‪ :‬فلا حققوا العدالة ولا حققوا الحرية لأن‬ ‫الأول هو عين الظلم والثاني هو عين العبودية‪.‬‬‫فمن يصدق أن الاشتراكية تحقق العدالة كمن يصدق أن الصفوية تدافع عن الإسلام‬‫ومن يصدق أن الرأسمالية تحقق الحرية كمن يصدق أن الصهيونية تدافع عن‬‫الديموقراطية‪ .‬وكلنا يعلم أن القوتين وذراعيهما هم سر أغلب ما نعاني منه من ظلم‬ ‫واستبداد‪ .‬لولا إيران وإسرائيل ما عانت سوريا ما تعاني منه الآن‪.‬‬‫ليس الإسلام حلا ثالثا بل هو الحل الأول بل الحل الوحيد لأن الحلين الآخرين ليسا‬‫حلين أصلا بل هما ثيوقراطيا تخفي دين العجل وانثروقوراطيا تعترف به دينا وحيدا‪ .‬ولا‬‫فرق بين هذين الحلين الوهميين‪ :‬لأن الأنسان يكون في الحالتين عبدا للعجل أي لغير الله‬ ‫باسمه أو لغير الإنسان باسمه‪.‬‬‫ولذلك فهما ليسا حلين على المسلمين أن يختاروا وسطا بينهما معتبرين ذلك هو الإسلام‬‫وهو ما يخرف بعض من يسمون أنفسهم فقهاء الواقع‪ .‬وطبعا لما أقول هذا الكلام ينبغي ألا‬‫أكتفي بالدعوى بل لا بد من تقديم الحل الذي يعتبر هذا الحلان الوهمان تحريفه (آل‬ ‫عمران)‪ :‬حلف الوسطي والوصي‬‫والرمز هو تأليه عيسى عليه السلام (آل عمران ‪ )79‬ولهذه التأليه وجهان هما التنكر‬‫في الثيوقراطيا وفي الانثروبوقراطيا‪ :‬الله=عيسى‪ .‬فهي طردا تنكر الثيوقراطيا في‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الانثروبوقراطيا وعكسا تنكر الانثروقراطيا في الثيوقراطيا‪ .‬الناسوت يتأله واللاهوت‬ ‫يتأنس‪ :‬الطرد والعكس النيتشوي دون حاجة للقلب‪.‬‬‫علي إذن أن أعرف الإسلام بصورة إيجابية تحرر فكرنا من السلبين لا هو يهودية ولا هو‬‫مسيحية ولا هو مادية ولا هو روحانية ولا هو رأسمالية ولا هو اشتراكية ويمكن ان ترصف‬‫الف الأزواج من هذه المقابلات التي تجعل الإسلام دين السلب وليس دين الإيجاب وهو ما‬ ‫يدعم القراءة الهيجلة للإسلام‪.‬‬‫لن أطيل الكلام على هذه الأزواج التي قلت إنها أكره شيء في فكر الأمة وهو ما جعلني‬ ‫أدرسها واكتشف سر وهائها وتحريفها لفلسفات القرآن وأصلها‪:‬‬ ‫‪ .1‬فلسفة الديني في الأديان أصلا لفروعها الأربعة‬ ‫‪ .2‬فلسفة الطبيعة‬ ‫‪ .3‬وفلسفة التاريخ‬ ‫‪ .4‬وفلسفة النظر والعقد‬ ‫‪ .5‬وفلسفة العمل والشرع‪:‬‬‫وفلسفة الديني في الأديان هي ما بعد الأخلاق (متمم مكارم الأخلاق جوهر الرسالة‬‫الخاتمة أو التذكير الأخير أو أنطولوجيا عامة) وفلسفة الطبيعة (نظام رياضي تجريبي)‬‫وفلسفة التاريخ (نظام سياسي تجريبي) وفلسفة النظر والعقد نظرية معرفة‬ ‫(ابستمولوجيا) وفلسفة العمل والشرع نظرية قيم (أكسيولوجيا)‪.‬‬‫والانطولوجيا العامة أعطيها هنا معنى لا يوجد في غير القرآن‪ :‬فمن حيث يتكلم على‬‫الربوبية والألوهية يمكن اعتباره بالمعنى التقليدي قسما من الانطولوجيا الخاصة‬‫(الثيولوجيا والكوسمولوجيا والانثروبولوجيا) فيظن أن غفلت عن هذه الدلالة بهذا‬ ‫الاعتبار المضاعف‪ :‬ما بعد الاخلاق والانطولوجيا العامة‪.‬‬‫واعتقد أن السر فيما تكلمت عليه من تحريف انسبه إلى علوم الملة هو أنها لم تنتبه إلى‬‫الكلام في الله له مستويان في القرآن‪ :‬مستوى الربوبية ويتعلق بالخلق والضرورة ومستوى‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الألوهية ويتعلق بالأمر والحرية‪ .‬ومن ثم فالله ليس موضوع انطولوجيا خاصة مثل العالم‬ ‫والإنسان كما يرى الفلاسفة‪.‬‬‫بل هو كما يتبين من القرآن الكريم سر الجمع بين الضرورة والحرية وبين الطبيعة‬‫والتاريخ أو ما يبدوا متعارضا أي الخلق والأمر وهو جوهر الخلقي الذي لأجله سميت‬‫القرآن ما بعد الاخلاق‪ :‬فهو لا يذكر بشيء آخر غير ما يجعل الأنسان جامعا بين هذين‬ ‫البعدين الطبيعي المضطر والتاريخي الحر‪.‬‬‫فالطبيعي فيه هو كونه مستعمرا في الأرض أي إنه لا يقوم إلا بفضل ما توفره له الطبيعة‬‫بقوانينها المضطرة شروط قيامه العضوي فيكون في هذه الحالة تابعا لعالم الربوبية والخلق‬‫لكنه متعال على هذا الوجه الأول لأنه مستخلف وليس مجرد مستعمر في الارض وهو حينها‬ ‫تابع للألوهية والأمر‪ :‬طبيعي خلقي‪.‬‬‫وذلك هو معنى الديني في الإنسان فطري‪ :‬اي إن طبيعة الإنسان رغم كونها خاضعة‬‫لقانون الضرورة الطبيعية فيها ما يجعلها تتعالى عليها لتكون متحررة منها بما لها من‬‫استخلاف يضفي القيمة والمعنى على الاستعمار في الارض‪ .‬وهذا لا ضديد له إلا دين‬ ‫العجل أي الحلين الآخرين المزعومين‪.‬‬‫ومهما قلبت آيات القرآن الكريم فلن تجد نصا واحدا يسعى لإثبات الربوبية بل هي‬‫معتبرة مسلمة من جميع البشر ما يثبته القرآن هو الالوهية التي تتعلق بالأمر والحرية‬‫وليس بالخلق والضرورة‪ .‬فالآية الأولى من النساء تبين هذه العلاقة‪ :‬وحدة الإنسانية‬ ‫خلقا(الربوبية) واختلافها أمرا (الألوهية)‪.‬‬‫ويتبين ذلك خاصة من الآية الأولى من سورة النساء‪ :‬فالبشرية واحدة خلقا وتتبع نظام‬‫الربوبية أو قانون الضرورة لكنها مختلفة أمرا وتتبع نظام الألوهية أو القانون الحرية‪.‬‬‫فيكون للإنسان رحمان كوني (الإنسانية) وخصوصي (الأرحام)‪ .‬والمقابلة بينه من الكلام‬ ‫على رقابة القانون الثاني‪.‬‬‫وهذه الثنائية ليست في ذات الله كما قد يتوهم من يتعجل في قراءة التحليل‪ :‬بل في‬‫علاقته بالمخلوقات التي فيها ما يأتي ربه كرها وفيها ما يأتيه طوعا والإنسان فيه النوعان‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فهو كمخلوق يأتي ربه كرها لكنه كمأمور يأتيه طوعا‪ .‬وذلك هو معنى التكليف بالاستخلاف‬ ‫الذي هو قيم الاستعمار في الدنيا‪.‬‬‫وحتى نبني نظاما سياسيا ببعديه تربية وحكما متحررا من وجهي العجل الذهبي لا بد‬‫من الاعتماد على الحرية الروحية أساس الوزع الذاتي أو الضمير الخلقي (العلاقة المباشرة‬‫بين المؤمن وربه) والحرية السياسية اساس الوزع الأجنبي الشرعي أو سياسة الجماعة‬ ‫لذاتها تربية وحكما كما تبين الشورى ‪.38‬‬‫وقد شرحت ذلك وبينت علة بدئها بالاستجابة إلى الرب (بمعنى الجمع بين الربوبية‬‫والألوهية أو بين القانونين الطبيعي والخلقي) وختمها بالإنفاق من الرزق وبين البداية‬‫والغاية طبيعة الحكم وأسلوبه‪ .‬فطبيعته ينتج عنها أنه أمر الجماعة (جمهورية) وأسلوبه‬ ‫ينتج عنه أنه يساس بالشورى (ديموقراطية)‪.‬‬‫فكلمة أمر الجماعة تعني راس بوبليكا وإذن فطبيعة الحكم جمهوري وكلمة شورى بين‬‫الجماعة تعني ديموقراطية وإذن فأسلوب الحكم ديموقراطي أو شورى‪ .‬والشورى حددت‬‫في سورة العصر بكونها تواصيا بالحق (في النظر والعقد) وتواصيا بالصبر (في العمل‬ ‫والشرع) لمواطنين يؤمنون ويعملون صالحا‪.‬‬‫وهذه الشروط العناصر الاربعة تمكن من الاستثناء من الخسر الذي هو دين العجل‪ :‬اي‬‫عندما يصبح الإنسان مستعمرا في الارض دون قيم الاستخلاف هذه فيكون عبدا للمال وللهو‬‫الذي يبعد الإنسان عما يضفي قيم الاستخلاف على الاستعمار في الارض‪ :‬بتجاهل أبعاد‬ ‫المعادلة الوجودية‪.‬‬‫وهذه المعادلة الوجودية التي وضعت نظريتها هي التي تجعل الحل الإسلامي هو الأصل‬‫وكل خلل في أحد عناصرها وخاصة في تصور قطبيها يؤدي إلى الحلين الذي يحرفان الحل‬‫القرآني‪ :‬فالمعادلة هي العلاقة المباشرة بين الإنسان والله والعلاقة غير المباشرة بينهما بما‬ ‫وراء الطبيعة والتاريخ ضد النسيان‪.‬‬‫طبيعة السياسة ببعد الحكم والتربية وأسلوبها بالشورى فيهما هما ما يحرر مما يعتبره‬‫ابن خلدون علة فساد معاني الإنسانية أي ما يحول دون الحرية الروحية أو الوازع الذاتي‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫والحرية السياسية أو الوازع الاجنبي الشرعي وكلاهما يمكن أن يتحولا إلى أداتي استعباد‬ ‫يفسد معاني الإنسانية‪.‬‬‫والاستعباد الأول هو سلطة الوسطاء الذين يفسدون طبيعة التربية والاستعباد الثاني‬‫هو سلطة الأوصياء الذين يفسدون طبيعة الحكم‪ .‬وفسادهما يحصل بنفس الآليات التي‬‫تكون خفية في الثيوقراطيا وجلية في الانثروبوقراطيا ومن ثم فليس فالحل ليس وسطا بين‬ ‫رذيلتين بل أصل هما تحريفاه‪.‬‬‫وبهذا المعنى يكون الإسلام كما كان أول مرة استئنافا لسعي البشرية للتحرر من الطاغوت‬‫السياسي تربية وحكما وهو معنى تبين الرشد من الغي الذي يؤدي إلى الإيمان بالله‬‫والاستمساك بالعروة الوثقى دون سلطان وسطاء أو سلطان اوصياء‪ :‬تلكما هما حريتا‬ ‫الإسلام ومضمون الرسالة‪.‬‬‫والمعادلة الوجودية هي في آن مضمون الرسالة الخاتمة وبنية السياسية التي تحقق‬‫الفلسفات الخمس‪ :‬فلسفة الديني وفلسفة الطبيعة وفلسفة التاريخ وفلسفة النظر والعقد‬‫وفلسفة العمل والشرع وهي في آن بنية الوعي الإنساني‪ :‬القطبان الله والإنسان في علاقة‬ ‫مباشرة ثم غير مباشرة بما وراء الطبيعة والتاريخ‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫رأينا دور الرمزين‪-‬رمز الفعل (العملة) وفعل الرمز (الكلمة)‪-‬في المرجعية والقوى‬‫السياسية وبقي تعميق البحث في دورهما في الدستور والهيئة الحاكمة‪-‬المعارضة‪ .‬فالدستور‬‫كما أسلفنا في محاولات فهم مقومات الدولة السابقة ‪-‬سواء كان مكتوبا أو عرفيا‪-‬هو فهم‬ ‫المرجعية الادنى المشترك بين القوى السياسية‪.‬‬‫وقبل الكلام في دور الرمزين في الفهم الأدنى المشترك بين القوى السياسية التي تصوغه‬‫دستورا مكتوبا أو تتبعه عرفا في الممارسة لا بد أن نميز بين الدساتير المثالية التي يصوغها‬‫فيلسوف أو رسول متخلصا من علاقات القوة بين القوى السياسية بل هو خاضع لهذه العلاقات‬ ‫وهو إذن عقد غير متوازن‪.‬‬‫هو من الحاصل التاريخي وليس من المفهوم العقلي (حددنا هذين المفهومين سابقا) ومن‬‫ثم فهو منطبع بخلل التوازن المعبر عن القوى المتفاعلة في الجماعة نفسها أو في بينها وبين‬‫الجماعة التي فرضته عليها (تذكروا دستور بريمن في العراق) ومن ثم فالدستور صورة من‬ ‫هذا التوازن المختل‪.‬‬‫وقد شاركت بعض المشاركة في دستور الثورة ولم أكن موافقا على الكثير مما جاء فيه بل‬‫وقدمت اعتراضاتي في محاضرات وكتابات لأني أومن بهذا المبدأ أولا ولأني لم أكن أثق في‬‫النقل السطحي للدساتير التي توجد في بلدان أخرى لها تقاليد مديدة في الديموقراطية‬ ‫وتعتبره أداة عمل وليس مجرد نص‪.‬‬‫وسبق أن نقلت إلى العربية كتاب وودي هولتون حول الخصومات التي صاحبت كتابة‬‫الدستور الأمريكي وصادف أن تم ذلك في خلال سنة الثورة قبل أن اشارك شكليا في الحكم‬‫بعد الانتخابات الأولى وكنت أعلم ما يجري في كواليس كتابة الدستور من صراع القوى‬ ‫للوصول إلى الحد الأدنى من فهم المرجعية‪.‬‬‫وكان المشاركون في كتابة الدستور الأمريكي بخلاف المشاركين في كتابة الدستور التونسي‬‫متمرسين في الفلسفة السياسية ومن ذوي الثقل في القوى السياسية التي تتنازع السلطة في‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫نقل ولايات امريكا الثلاثة عشر حينها من وضعية الكنفدرالية إلى وضعية الفدرالية شرط‬ ‫بروز القوة البديلة عن أوروبا العتيقة‪.‬‬‫وقد سبقنا ابن خلدون كعادته فبين أن الدستور المبني على العقل وحده بنوعيه ‪-‬لصالح‬‫الحكام أو لصالح الحاكم والمحكوم‪-‬يكون دائما مبنيا على حساب المصالح وليس على ما‬‫يتعالى عليها بمعنى أنه يكون دائما خاضعا وإن بغير إعلان على دين العجل أي الرمزين‬ ‫دون ما يحررهما من العجل معدنا وخوارا‪.‬‬‫الدستور الخاضع للعقل وحده يعتبره ابن خلدون عقدا يترجم توازن قوى بين الحاكم‬‫والمحكوم ‪-‬أي بين قوى سياسية‪-‬يبدأ بما يشبه الاحتكار لصالح الحاكم ثم يتدرج عندما‬‫يشعر الحاكم أنه عليه أن يراعي بعض مصالح المحكومين حتى يحصل على الطاعة بقدر‬ ‫الفائدة التي يستفيدها المحكوم من حكمه‪.‬‬‫وهذه الفائدة تقاس بالعملة وتزين بالكلمة‪ .‬ومعنى ذلك أن توازن القوة بين القوى‬‫السياسية يعير بحساب المصالح (العملة) وبحساب الآراء (الكلمة) ولابد إذن من معدن‬‫العجل وخواره‪ .‬وهذا هو السائد في بلاد العرب والمسلمين‪ .‬وطبعا اغلبهم ما يزال في المرحلة‬ ‫الأولى‪ :‬فلا وجه للمقارنة بين المصلحتين‪.‬‬‫وكم أتقزز عندما اسمع كلمة \"مكرمات\" الحاكم للمحكوم‪ :‬لا يكفيه أنه يستحوذ على كل‬‫حقوقه التي ليس له أدنى حق في التصرف فيها من دون أن يوليه المحكوم أمانة الحكم‬‫بالعدل (النساء ‪ )58‬حتى يتفضل عليه بفتات المائدة ويسمى ذلك مكرمة وهي في الحقيقة‬ ‫حرابة علنية لأنه يستبد بها بعنف الدولة‪.‬‬‫ولما كان عنف الدولة مضاعف‪ :‬عنف التربية وعنف الحكم كان لا بد أن يكون للحكام‬‫فقهاء ‪-‬شرع أو وضع‪-‬وظيفتهم تأدية دور خوار العجل أي إضفاء الشرعية على ما هو‬‫بالجوهر عديم الشرعية‪ .‬فيكذبون على الرسول ويعللون ما يعلمه كل من يسمع الجامية‬ ‫العربية فحدث ولا حرج‪.‬‬‫وهنا يبرز معنى العقل الذي يوظف فيه الدين أو الايديولوجيا لإضفاء الشرعية على‬‫عدم الأمانة وعدم العدل في الحكم فيكون دوره من جنس دور الشحم في المحرك وليس دور‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫المثال الذي يحرر الإنسان من دور الرمزين إذ يصبحان ممثلين للعجل‪ :‬معدنه وخواره‪ .‬كل‬ ‫العرب والمسلمين يحكمهم العجل وخواره‪.‬‬‫والخوار أو القول الذي يضفي الشرعية على ما ليس بشرعي يمكن أن يكون فقها وضعيا‬‫أو فقها وضعيا‪ :‬وأصحابه هم من سميتهم كاريكاتور الأصالة وكاريكاتور الحداثة‪ .‬وكان‬‫الأول في خدمة الأنظمة القبلية والثاني في فخدمة الأنظمة العسكرية وكلاهما في خدمة‬ ‫النوعين وخاصة منذ أن اتحد نوعا النظام‪.‬‬‫وأضاف ابن خلدون العامل الذي من المفروض أن يعدل توازن القوى بالمعنى الفيزيائي‬‫للكلمة رغم وجود الخوار المضفي للشرعية الزائفة ما لو كان بالفعل صادقا لعدل التعاقد‬‫الذي لن يكون بين طرفين حاكم ومحكوم يكون فيه الأول قاضيا ومتقاضيا بل إضافة طرف‬ ‫ثلاث الجميع متساوون لديه‪ :‬الدين الحق‪.‬‬‫والقصد بالدين الحق في مسألة الدستور هو ما حاولت وصفه في الفصول السابقة (شرح‬‫الشورى ‪ )38‬وخاصة هو ما يشترطه في الحاكم وفي طاعته‪ .‬فأولا الحاكم ليس هو صاحب‬‫الامر بل هو نائب صاحبه الذي هو الجماعة وله معياران هما الأمانة والعدل (فضلا عن‬ ‫القدرة والعلم) ثم يبقى المحكوم مراقبا دائما‪.‬‬‫وهو معنى الامر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ .‬وله خمس درجات الرسول ذكر منها ثلاثة‬‫وبدأها بأقواها‪ :‬اليد فاللسان فالقلب‪ .‬وبين اليد واللسان وصل وبين اللسان والقلب وصل‪.‬‬‫وفي الحقيقة ما ذكره النبي فيه الحد الأعلى من المراقبة لكن الحاصل في التاريخ عند غياب‬ ‫الدين الحق هو العكس تماما‪.‬‬‫أي إن عدم الأمانة والظلم من الحاكم يثير الغضب في القلوب فيتراكم فتتحرك الألسن‬‫فتتراكم حتى ينفجر الامر فتتدخل اليد أي الثورة‪ .‬وما كان الامر ينقلب ترتيبه لو لم‬‫يحصل التراكمان بمعنى أن السكوت في البداية هو الذي جعل التراكم يحصل‪ .‬فلو كان‬ ‫الحاكم يخشى شعبه لما وصلت الأمور إلى الحاصل‪.‬‬‫وليس معنى ذلك أن الرسول كان يدعو للثورة الدائمة‪-‬اليد‪-‬بل كان يدعو لما يردع ما‬‫يجعل الجماعة تضطر في الغاية إلى اليد‪ .‬علم الحاكم بأن الجماعة لا تقبل طاعته إذا لم‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫يكن أمينا وعادلا لو حصل من البداية لألغى ما نحن عليه منذ ‪ 14‬قرنا من القوانين‬ ‫الاستثنائية وحالات الطوارئ التي لا تنتهي‪.‬‬‫والوصلتان اللتان أضفتهما لثالوث قول الرسول هما تراكم الغضب في القلب وتراكم‬‫القول في اللسان قبل الانفجار‪ .‬لكن تبرير الفقهاء بصنفيهم ‪-‬الشرعي والوضعي‪-‬للتغلب‬‫هو الذي جعل المهروب منه يصبح القانون العام‪ :‬فالخوف من الفوضى عند منع المتغلب جعل‬ ‫الحكم لا يحصل إلى بالتغلب المتوالي‪.‬‬‫فالحاكم بالفعل حتى يبقى يضاعف شروط التغلب والحاكم بالقوة أي الذي يتربص به‬‫حتى يتغلب عليه ‪-‬وهو سر الانقلابات‪ -‬لا بد أن يزيحه بالقوة‪ :‬فتكون الفوضى التي يعللون‬‫بتجنبها شرعية المتغلب القانون العام لكي يبقى المتغلب ويجتمع التغلب واللاشرعية‪ .‬ويصبح‬ ‫المحظور هو القانون باسم الضرورة‪.‬‬‫وهذا الذي وصفت هو الدستور الفعلي أي الممارس ولا معنى للدساتير المكتوبة في الدول‬‫العربية فهي نصوص لا يعمل بها أحد‪ .‬وهذا الدستور الفعلي لا يحكمه إلا معدن العدل‬‫وخواره‪ :‬فبالأول تشترى الضمائر وبالثاني تزيف الأوعاء‪ .‬فتصبح الجماعة قابلة بما يجري‬ ‫وكأنه قضاء وقدر‪.‬‬‫وقد تضاعف هذا الإجرام لأن الحكام عديمي الأمانة والعدل لا يكتفون باستعمال بعدي‬‫العجل في الداخل بل هم يستعملونهما في الخارج‪ :‬ذلك أن الإعلام والاستعلام ليسا في خدمة‬‫الجماعة بل في خدمة من يحمي الحكام ليستبد بالجماعة ويخدم حماته فيحمي مصالحهم‬ ‫فيمول الدعاية العالمية ببعدي نفس العجل‪.‬‬‫لو أنفق الحكام العرب على تنمية شعوبهم ما ينفقونه على تلميع وجوههم البشعة لكانت‬‫الأمة سامقة في ترتيب الأمم بمعيار منجزها الحضاري فلا يبقى العرب فضيحة العصر في كل‬‫مصر وخاصة في مصر‪ .‬هل يعقل أن يكون مركز الثقل العربي بيد هذا المعتوه الذي يسمى‬ ‫بلحة ويجد من يكاد يؤلهه من نوعي الفقهاء‪.‬‬‫ولأختم هذا الفصل بالكلام على الكلفتين اللتين يكلفهما الاغبياء الذين من جنس بلحة‬‫ومموليه‪ :‬فهم يدفعون لتلميعه أموالهم التي ستعود عليهم حصرة وهو يدفع من سيادة مصر‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لمن يلمعونه في الغرب ويسكتون عنه الرأي العام الدولي وأقصد إسرائيل التي تأخذ عينيا‬ ‫كل ما تطلبه من سيادة مصر والعرب‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ها نحن قد وصلنا في الفصل الاخير إلى فشو السرطان في البدن‪-‬الميتاستاز‪-‬عندما يسيطر‬‫دين العجل على الوظائف العشر خمستها المتعلقة بالحماية وخمستها المتعلقة بالرعاية وفيها‬‫يجمع بعدا الأزمة فيتبين بأن المرجعية أساس الدولة والوظائف غاية الدولة يلغيان المناعة‬ ‫المادية والحصانة الروحية‪.‬‬‫فالوظائف العشر تشبه بما يتجلى فيها التجربة بالنسبة إلى النظريات العلمية‪ :‬ومعنى‬‫ذلك أنها \"الواقع\" الحقيقي الذي يبين دور بعدي العجل مادته وخواره (رمز الفعل وفعل‬‫الرمز) في الأخلاق العامة (المرجعية كمزاعم عقدية) والممارسة الفعلية في مؤسسات الدولة‬ ‫التي لها علاقة مباشرة بالجماعة‪.‬‬‫وفي ذلك تتجلى نظرية ابن خلدون في \"فساد معاني الإنسانية\"‪ .‬فالفساد المالي (الرشوة‬‫خاصة) والفساد الخلقي (النفاق خاصة) يصبحان الطابع الجوهري لكل وظائف الدولة‪.‬‬‫ويبدأ الفساد بالجهازين العصبيين جهاز الاستعلام والاعلام أصل وظائف الحماية وجهاز‬ ‫البحث والإعلام العلمي أصل وظائف الرعاية‪.‬‬‫سلطان العجل الذهبي بمعدنه وبخواره هو السرطان الذي يجعل الدول تفقد وظائف‬‫الحماية ووظائف الرعاية فلا يبقى لها مناعة مادية ولا حصانة روحية وتصبح كحال بلداننا‬‫قطعة جبن الكل فيها يبيع ويشري في كل شيء ولا يبقى شيئا محظورا على خلقيا ولا وطنيا‬ ‫ولا دينيا بل يزول معنى الكرامة والرجولة‪.‬‬‫ومن العلامات الدالة عليه أن الوظائف كلها‪-‬عشرتها‪-‬تصبح مجرد أسماء بدون مسميات‪:‬‬‫فلا قضاء ولا أمن ولا دبلوماسية ولا دفاع ولا خاصة الجهاز العصبي لوظائف الحماية‪-‬‬‫الاستعلام والأعلام‪-‬داخلها وخارجها‪ :‬كلها تصبح أسماء بلا مسمى لأن يصبح خاضعا لمن‬ ‫يدفع أكثر (معدن العجل) ولمن يبرر أكثر(خواره)‪.‬‬‫وما أظن أحدا ينتظر مني أمثلة‪ :‬فيكفي أن ينظر في تصنيف الدول العربية في قائمات‬‫الفساد والاستبداد ولينظر فيما يجري في جل البلاد‪ .‬ذلك أنك لا يمكن أن تصدق أن بلدا‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫صغيرا مثل تونس يحتاج لمائتي حزب وآلاف منظمات المجتمع المدني لو يكن ذلك قد أصبح‬ ‫تجارة ومداخل الاختراق العدواني‪.‬‬‫وفي مثل هذه المناخات يسعر أن يلوم أحد أحدا فالكل يغض الطرف عن الكل تماما كما‬‫يحصل عندما تسيطر الرذيلة في جماعة فلم أحد يلوم أحدا لأن الجميع يفعل نفس الشي‬‫فيتستر على غيره تستره على نفسه‪ :‬فتعم الفاحشة ولا شيء أفحش من هذا الفشو المرضي‬ ‫للاستبداد والفساد في كل الوظائف‪.‬‬‫وأخطر ما في الأمر هو تزييف الشهادات العملية نظريها وعمليها حتى إنك لتعجب عندما‬‫ترى كم الدالات التي تسبق الأسماء ولما ترى كيف تفكر تدرك أنها ربما لم تحصل حتى‬‫على الابتدائية وأنها اشترت الدال بدون مدلول‪ .‬ونفس الأمر في المراتب الوظيفية في‬ ‫إدارة اجهزة الدولة وخاصة السيادي منها‪.‬‬‫فمن منا لم يصبه الذهول عندما سمع قضاة القضاء الذي يقال عنه أنه شامخ في‬‫محاكمات مصر الاخيرة وفضائح قراءتهم لأوراقهم ناهيك عن جهلهم حتى ببعض آيات‬‫القرآن الكريم‪ .‬ما سمعت في حياتي مستشرقا أكثر فهاهة من قضاة مصر الذين عرضتهم‬ ‫المحاكمات السيساوية‪ .‬طبعا يوجد أفاضل لكنهم مبعدون‪.‬‬‫سآخذ الآن وظائف الدولة ذات العلاقة المباشرة مع حياة المواطن اليومية والمتعلقة‬‫بالحماية والرعاية الواحدة تلو الأخرى لأبين ما يتجلى فيها من فقدان للمناعة المادية‬‫والحصانة الروحية ومن ثم علاقة بين بعدي دين العجل في هذه الامراض التي تجعل‬ ‫المجتمعات خربا أقرب إلى أعجاز النخل الخاوية‬‫ولا أستبعد أن يعتبرني الكثير من القراء مبالغا في وصف الظاهرة التي لعلها لا تبرز‬‫للعيان إلا في الحالات التي صارت مضرب الأمثال‪ :‬خذ العراق وخذ سوريا وخذ مصر وقس‬‫عليها وهي أكبر بلاد العرب وأكثرها تمثيلا لحضارتهم بوصفها من المراكز الكبرى‪ .‬وستفهم‬ ‫علة ما يبدوا تعميما ومبالغة‪.‬‬‫ولا أظن أنه يوجد بلد عربي واحد ‪-‬حتى من الغني منها في الخليج أو في المغرب العربي‪-‬‬‫يمكن أن يستثنى من هذا الوصف رغم أن الثراء يمكن أن يخفي هذه الأمراض لأنه لم‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫يصل إلى الحد الذي يصبح أول الادواء التي يعاني منها المواطن لأن السرقة فيها قد لا‬ ‫تصل بالمواطن إلى مخ عظامه قرار آلامه‪.‬‬‫وحتى نفهم الظاهرة فينبغي أن نفهم معنى الحماية والرعاية كما ينبغي‪ .‬فمن أهم معاني‬‫الحماية ما يتعلق بالغذاء والصحة‪ .‬وكلاهما يسيطر عليه الغش والإهمال ولا يمكن‬‫الاعتماد على رقابة الدولة بسبب رشوة المراقبين وحتى مداخيل الدولة من الجباية فهي‬ ‫لا يصل منها للدولة إلا القليل لنفس السبب‪.‬‬‫ذلك أن الحماية ليست مقصورة على حماية العباد بعضهم من البعض داخليا وحماية‬‫البلاد من العدوان الخارجي وهما مستحيلان بسبب فساد القضاء والامن والاختراق‬‫الاجنبي بل حماية الصحة غذاء ودواء وماء وهواء وحماية العناية في التكوين والتموين‬ ‫للأذهان فضلا عنهما للأبدان‪ :‬تخريب ذاتي نسقي‪.‬‬‫فتحتار وتكاد ترفع يديك قائلا لا حول ولا قوة إلا بالله‪ .‬وقد تقول بلسان تونسي فصيح‬‫\"من أين تردها؟\" فاض الكيل فلا المعلم معلم ولا الطبيب ولا الأمني أمني ولا العسكر‬‫عسكري واللاءات لا تكاد تتوقف‪ .‬وليست بحاجة للأدلة‪ :‬فالجيوش تهزم في أقل ربع ساعة‬ ‫وكانت لا تفلح إلا في قمع شعوبها‪.‬‬‫وإذا كان الاستعلام لا يستعلم إلى على ما يمكن من هتك ستر المواطن وقمعه وكان‬‫الإعلام لا يهدف إلا إلى تزييف الوعي والكذب على المواطن وكان ذلك لخدمة من يخدم‬‫حاميه في البلاد فكيف يمكن عندئذ أن تتكلم على الحماية؟ حماية من ممن؟ حماية المستبد‬ ‫والفاسد من الشعب حتى يخدم من نصبه عليه؟‬‫ولأذكر الوظائف بالترتيب بدءا بوظائف الحماية الخمسة‪ :‬القضاء والأمن للحماية‬‫الداخلية والدبلوماسية والدفاع للحماية الخارجية والجهاز العصبي لوظائف الحماية هذه‬‫أي ما يجعلها تؤدي دورها على علم بما تعالجه الدولة ويلتحم معه الشعب‪ :‬الاستعلام‬ ‫والإعلام‪ .‬ثم وظائف الرعاية الخمسة كذلك‪.‬‬‫فهذه تتألف من وظيفتين للتكوين هما نظام التربية النظامية ونظام التربية في المناخ‬‫الاجتماعي العام وهو أشمل من الأول وأكثر تأثيرا وخاصة في أخلاق الجماعة العامة‪ .‬ثم‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫من وظيفتين للتموين هما الإنتاج الرمزي الممون للتكوين الروحي والعلمي والإنتاج المادي‬ ‫الممون للتكوين البدني والصحي‪.‬‬‫ولهذه الوظائف كذلك جهاز عصبي هو البحث والاعلام العلمي الذي هو مادة التكوين‬‫ومصدر إنتاج التموين ومن ثم هو شرط وظائف الرعاية والحماية لأن الحماية بحاجة إلى‬‫التكوين والتموين‪ .‬مثلما أن الجهاز العصبي للحماية يعمل بعكس واجبه فالجهاز العصبي‬ ‫للرعاية معطل تماما ولا يعمل اصلا‪.‬‬‫فالجامعات العربية عاجزة حتى عن أنتاج ما يسد حاجتها هي فضلا عما يسد حاجات‬‫الجماعة‪ .‬لا توجد جامعة عربية واحدة تنتج أدوات عملها التعليمي العادي (تبليغ‬‫الموجود) فضلا عن أن تنتج ما لم يوجد بعد من المعرفة وفضلا عن أن تسد حاجات الوظائف‬ ‫العشر حماية ورعاية‪ .‬هي بالكاد مراكز لمحو الأمية‪.‬‬‫ولعل أكبر دليل هو أن إسرائيل أحيت لغة ميتة منذ آلاف السنين وهم قتلوا لغة عالمية‬‫حية إلى بداية العصر الحديث‪ .‬هذا وحده كاف للدلالة على أن الجامعات العربية هي أول‬‫أسباب التخلف في بلادنا‪ :‬فهي سيست إداريا وأدلجت فكريا و\"نقبت\" اجتماعيا وافقرت‬ ‫اقتصاديا ولم يبق فيها إلا الدالات المشتراة‪.‬‬‫وأفصح علامتين وأخطر داءين على ما أقول أحدهما يتعلق بالحماية الخارجية أعني‬‫انتاج السلاح والاستدفاع والثاني يتعلق بالرعاية الصحية أعني انتاج الدواء والاستشفاء‪:‬‬‫فبعد قرن من نشأة هذه المحميات التي يسميها أصحابها دولا ما زال أدنى حويكم يتعالم‬ ‫خارج البلاد ويشتري سلاح حاميته من شعبه‪.‬‬‫والمعلوم أن هذين العلامتين لا جدال في دلالتهما ولا في أهميتهما ولا خاصة في صحة‬‫الوصف الذي قلته عنهما‪ .‬ولا يعني ذلك أن عقولنا عاجزة بل يعني أن سياستنا لا يعنيها‬‫تحقيق شروط السيادة التي هي بالأساس الحماية والرعاية بوظائفها العشر‪ .‬وليس عندي‬ ‫ما يمكن أن أضيفه‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook