Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore علم الكلام، تكوينيته بشكليه القديم والجديد - ابو يعرب المرزوقي

علم الكلام، تكوينيته بشكليه القديم والجديد - ابو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2018-09-05 05:58:48

Description: علم الكلام، تكوينيته بشكليه القديم والجديد- ابو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫علم الكلام‬‫تكوينيته بشكليه القديم والجديد‬ ‫الأسماء والبيان‬





‫المحتويات ‪2‬‬‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثاني ‪6 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثالث ‪11 -‬‬‫‪ -‬الفصل الرابع ‪16 -‬‬‫‪ -‬الفصل الخامس ‪21 -‬‬

‫‪--‬‬‫كما أسلفت في المحاولة السابقة أطمأن قلبي لما اهتديت إليه من حل أقنعني شخصيا ولا‬‫أدعي السعي لأقناع غيري بما اقتنعت به في مسألة الصورة البشعة التي قدمت عن الله يوم‬‫الحساب لكأنه كائن سادي يتلذذ بتعذيب مخلوقاته في جهنم حتى باسم العدل جزاء لما فعلوا‪:‬‬ ‫والحل قرآني خالص كما سأزيد توضيحه‪.‬‬‫فالمسألة في الآخرة تتعلق بما يشبه التنزيه الإلهي في مسألة العدل الإلهي في الدنيا‪ .‬ففي‬‫الدنيا الغاية هي تنزيه الله عن الشر الغالب عليها‪ .‬وفي الاخرة الغاية هي تنزيه الله عن‬‫السادية التي عرضت بها علينا للتخويف بلغ حد نفي الرحمة عن الله حتى بلغ الأمر إلى‬ ‫تبديل جلد لمزيد الحرق‪.‬‬‫وكانت السبيل إلى الحل هي الوصل بين النوعين من التنزيه‪ :‬فلا يمكن أن أحمل الإنسان‬‫الشر (الظلم والعدوان) في الدنيا وأنزهه منه في الآخرة ولا يمكن أن أحمل الله الشر في‬‫الآخرة (التعذيب) وأنزهه في الدنيا‪ .‬فكان الحل التلازم بين الأمرين‪ .‬مسؤولية الإنسان‬ ‫هي اختيار مصيره في الآخرة‪.‬‬‫فما يحصله من موجب القيم الخمس في الدنيا خلال اختبار أهليته للخلافة بحرية الإرادة‬‫والمعرفة والقدرة والحياة والوجود من موجبات يصبح عين كيانه في الخلود في النعيم‬‫(الجنة) وما يحصله من سوالبها خلال نفس الاختبار يصبح عين كيانه في الخلود الجحيم‬ ‫(النار)‪ :‬والنار هي ما يتلبسه من إبليس‪.‬‬‫ولست أدعي أن الامر في ذاته هو كذلك فالغيب لا يعلمه إلا الله‪ .‬وقد أعطانا القدرة‬‫على الفهم المتناسق المناسب لما يجعلنا نرضى عن الله راجين رضاه عنا‪ .‬فهو قد أذن بأن‬‫ندعوه بأي من أسمائه الحسنى التي لا تمثل تعددا في ذاته بل تعدد في تصوراتنا له‬ ‫بالإضافة إلى ما يجعلنا نلجأ إليه بالدعاء‪.‬‬‫فالقرآن نفسه جعل علامة العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه هي تبادل الرضا (رضي‬‫الله عنهم ورضوا عنه) ولا يمكن أن يحصل ذلك إذا بقي في النفس شيء مما يبدو غير‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لائق بأن نتصوره في الله من جعله وكأنه حاكم مستبد من حكام الدنيا وهو أرحم الراحمين‪.‬‬ ‫ولا أخفي أني عانيت كثيرا من الرؤى السابقة‪.‬‬‫خاصة وهذا الحل يحقق كل ما يمكن أن يعتبر مفيدا من الصورة القديمة بمعنى الردع لمن‬‫لا يخاف الله إذ قد جعله دائما من منطلق تحميل الإنسان مسؤولية المآل الذي يختاره بأعماله‬‫التي هي عين مآله بعد انتقاله من عالم الفناء إلى عالم البقاء‪ :‬جهز بحرية الاختيار ومن‬ ‫ثم فليتحمل مسؤوله الاختبار‪.‬‬‫اخترت هذا المدخل لعلاج مسألة جوهرية في مراحل علم الكلام التي يمكن أن تقبل‬‫تحديدا لتصوراتنا عن الله دون الزعم بأنها حقيقة الله في ذاته‪ .‬فلو كان يعترف بأن ما‬‫يقوله في الإلهيات كلام على تصورات الإنسان وليس على الله ذاته لكان مقبولا شرطا‬ ‫للاطمئنان لما يدركه الإنسان دون إطلاق‪.‬‬‫بعبارة أخرى فلو تحرر علم الكلام من نظرية المعرفة المطابقة التي ترد الوجود إلى‬‫الإدراك (ابن خلدون) فيتوهم أنه مقياس الوجود حتى الشاهد فضلا عن الغائب لأمكن‬‫الكلام على علم الكلام في الإلهيات سواء كان فلسفيا أو دينيا مما ليس منه بد حتى في حديث‬ ‫النفس لأن الإنسان لا تطمئن نفسه من دونه‪.‬‬‫آفة علم الكلام ليس في كون الإنسان لا يمكن أن يستغني عن شيء منه بل في كون صاحبه‬‫بمنطق نظرية المعرفة المطابقة بمجرد أن يرد الوجود إلى الإدراك يصبح عابدا لتصوراته‬‫التي هي أوثان إذا اعتبرت وخاصة في الإلهيات عين حقيقة موضوعه فيكون الله مثلا عين‬ ‫تصور الإنسان له‪.‬‬‫لكن إذا تحررنا من نظرية المعرفة المطابقة واعترفنا بأن الإنسان لما يتوجه إلى الله‬‫بالدعاء لا يستطيع ألا يكون له تصور ما هو ما يقصده عندما يختار الاسم الذي يدعوه به‬‫بحسب الدافع إلى الدعاء إما الغفور أو العفو أو الجبار أو أي اسم من الأسماء يطابق‬ ‫حاجة دافعة إلى نوع الدعاء فهذا حتم‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لكنه من الوجدانيات ولا يمكن أن يصح مادة لتعليم الغير وكأنه علم بحقيقة الله ناهيك‬‫عن جعلها سلطانا يفرض تصورات زيد على تصورات عمرو‪ .‬وذلك هو معنى الوساطة التي‬‫تجعل القرآن مثلا لا يكون خطاب الله الموجه لكل ذات عينها بل يمر بسلطان الوسيط فتصبح‬ ‫تصوراته أوثانا يستعبد بها غيره‪.‬‬‫وما أريد الكلام فيه هو مراحل هذه التصورات في التاريخ الإنساني من منطلق المعادلة‬‫الوجودية التي سبق فبينت دلالتها وعناصرها‪ .‬وهي بدورها من جنس التصورات التي تتكلم‬‫على تصورنا لذواتنا ولعلاقتنا المباشر بالله وغير المباشرة به عن طريق الطبيعة والتاريخ‬ ‫وما ورائهما وصلا لهما به وبنا‪.‬‬‫والغاية هي دحض مسلمة هيجل الأساسية التي تؤول في الغاية إلى أن الله ليس إلا تصور‬‫الإنسان له لأن الله نفسه يعرف نفسه في الإنسان الذي هو عين الروح الكلي المتعين في‬‫الإنسان بتوسط المسيح‪ :‬فمحايثة الله في الإنسان بتوسط المسيح وسيطا ونائبته الكنسية‬ ‫ثيولوجيا مسيحية رد هيجل الفلسفة إليها‪.‬‬‫وهذا الرد حول الدين والفلسفة إلى إيديولوجيا تكنيس العالم وتحزيبه والأول هو شكلها‬‫الديني (يمينه) والثاني هو عينه ولكن في شكله المعلمن (يساره)‪ :‬لا فرق بين الحلين‬‫الهيجلي والماركسي لان كليهما يصوغ المسيحية الحلولية إما بشكل يحافظ على الكنسية أو‬ ‫بشكل يعوضها بالحزب الشيوعي وسيطا ووصيا‪.‬‬‫وما من أحد ينظر ببصيرة في سلوك المتحزبين بالمعنى السوفياتي والستاليني والتفتت‬‫الفرقي وشبه الطائفي في الاحزاب الشيوعية لا يحد نفس الظاهرات التي تعرفها الكنسية‬‫والفرق والطوائف الدينية في كل دين انحرف فأعاد الوساطة والوصاية أي ألغى تورتي‬ ‫الإسلام‪ :‬الحرية الروحية والحرية السياسية‪.‬‬‫وسأنطلق من قلب المعادلة الوجودية أي علاقة الإنسان بربه المباشرة لأنظر في مرحلتين‬‫قبلها ومرحلتين بعدها بمقتضى عناصرها‪ :‬فقبلها الطبيعة والله وبعدها التاريخ والإنسان‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فتكون مراحل التصورات المنطلقة من هذه المعادلة مراحل حتمية يمر بها وجدان الإنسان‬ ‫في فهمها وفهم القلب منها‪.‬‬‫وسبق أن بينت في كلامي على العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة شرطا في قيامه‬‫العضوي لا تكون مباشرة معها أبدا حتى في نحلة العيش الأكثر بداوة أعني مجرد جني ما‬‫تنتجه الطبيعة من سد الحاجة الغذائية بل لا بد فيها من عادات وتقاليد ودور السلف عند‬ ‫كل خلف‪ .‬ولا نستطيع تصور بداية مطلقة‪.‬‬‫لذلك فكل التصورات عما وراء الطبيعة ستكون مستمدة من التاريخ بمعنى أن الميثولوجيا‬‫هي الشكل الارجح كبداية لعلم الكلام المتعلق بالتصورات التي تظن حقيقة الأشياء‬‫المتصورة لأن نظرية المعرفة الاولى كانت قائلة بالمطابقة‪ .‬علم الكلام الاول هو الميثولوجيا‪.‬‬ ‫والقطيعة معه تعكس فتقدم الطبيعة‪.‬‬‫وحينها ننتقل من الميثولوجيا ذات النموذج التاريخي إلى الميثولوجيا ذات النموذج‬‫الطبيعي‪ .‬وهما المرحلتان الأوليان في صوغ ما يتصوره الإنسان دينا مطابقا للعلاقة المباشرة‬‫بالله أو بالآلهة التي تكون إما في شكل تاريخ وكأن الآلهة مثل البشر تتوالد وتتحارب ولها‬ ‫ما للبشر من الهموم‪.‬‬‫أو لكأنها قوى طبيعية تتصادم وتتفاعل بما تتفاعل به القوى الطبيعة التي تصبح أوثانا‬‫تعبد مثل الريح والبرق والرعد ثم يجمع بين الامرين فيكون لكل ظاهرة طبيعية إله يحمل‬‫اسمها كإله البحر وإله الأنواء إلخ‪ ..‬وهو المعلوم من الميثولوجيا‪ .‬وكل ذلك خلط بين‬ ‫التصور الحقيقة برد الوجود إلى الإدراك‪.‬‬‫وتكون نهاية المرحلتين الاوليين إما إلى الوحدانية المطلقة أو إلى الواحد فوق الكثرة من‬‫الأوثان التي هي في آن آلهة حالة في قوى طبيعية ومستعملة لها وهما المرحلتان المتقدمتان‬‫على قلب المعادلة الوجودية أو العلاقة المباشرة بين الله والإنسان في تصور الإنسان لها‬ ‫وليس في حقيقتها الغيبية‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وهذه الحال في الكلام قبل أن تحصل القطيعة في ما صار يسمى فلسفة أو محاولة الخروج‬‫من التعبير الشعري عن هذه التصورات إلى المعالجة العلمية للطبيعة والتاريخ أو بصورة‬‫أدق للتمييز بين القوى الطبيعية بوصفها خاضعة للضرورة والقوى الإنسانية بوصفها‬ ‫خاضعة للحرية‪.‬‬‫ومذئذ بدا الصراع بين الكلام بوصفه يعرف نفسه خطابا لاهوتيا والفلسفة بوصها تعرف‬‫نفسها خطابا عقليا ثم صار للفلسفة لاهوت عقلي وللكلام فلسفة لاهوتية وظل الأمر كذلك‬‫إلى أن أخرج الرسول الخاتم مفهوم الوحي والعقل من التنافي بين سبيلين إلى تصور الحقيقة‬ ‫مع نفي نظرية المطابقة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لكن تحرير الإنسان من نظرية المعرفة المطابقة بمعتقد الغيب الذي أصبح العلم الإنساني‬‫بمقتضاه غير محيط ما يجعل الإيمان بالمطابقة مستحيلا لم يحل دون هذين النوعين من‬‫اللاهوت الكلامي واللاهوت الفلسفي من البقاء والصراع حول ما يزعم من تعارض بين‬ ‫الإيمان والعلم ورد الأول إلى الثاني‪.‬‬‫وما حصل من ذلك في الحضارة الإسلامية منه ما هو سابق على وجودها ومعاصر لمراحل‬‫ازدهارها ولكن الأهم منه هو ما كان لاحقا ويفسر النقلة من الكلام القديم إلى الكلام‬‫الجديد وما ننوي الكلام فيه حتى نتبين الأبيض من الاسود من مما يدور حوله من لغط‬ ‫أكثره جعجة بلا طحين‪.‬‬‫قبل مواصلة العلاج لا بد من الإشارة إلى أن الحل الذي رضيت عنه لمسألة ذات الله التي‬‫هي من الغيب والتي لا أتكلم فيها ومثلها الكلام في اليوم الآخر في ذاته جزاء وعقابا لا‬‫ينبغي أن يفهم التمييز فيه بين كونه تصوري الذي يطمئن عقلي ولا يعاكس عقيدتي أنه‬ ‫من جنس قول ما بعد الحداثة‪.‬‬‫فالقول بأن العلم كله سرديات من جنس الأدب ليس له مرجعية وراءه وإن كان يقبل الفهم‬‫على أنه لا ينافي الإيمان بالغيب كالقول السوفسطائي الذي يدعي أن الوجود لا يوجد وإذا‬‫وجد لا يعلم وإذا علم لا ينقال فلا يتنافى مع الإيمان بوجود ما لا يعلم فإن الغالب عليه‬ ‫النيتشوية ونفي الماوراء‪.‬‬‫فيرد إلى الإنسان مقياس كل شيء موجوده ومعدومه‪ .‬وليس ذلك قصدي بل قصدي أن‬‫العلم الإنساني غير محيط وأن الغيب موجود حقا‪ .‬فالعلم مهما بلغ لا يمكن أن يرد إليه‬‫الوجود فيتطابق معه ومن ثم فعلمنا ليس إلا علما بإضافة الموجود إلينا في حدود الممكن‪.‬‬ ‫وإذن فما يقال عن الله هو من هذا الجنس‪.‬‬‫والفرق شاسع بين الرؤيتين‪ :‬فهذه تؤمن بوجود الحقيقة وتعترف بأن علمنا بها لا يطابقها‬‫مطابقة مطلقة لما فيها من الغيب ولمحدودية مداركنا وهو ما يتبين يوما بعد يوم حتى في‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫علومنا الوضعية ومن باب اولى أن يكون ذلك كذلك بل وأكثر في علومنا الروحية التي هي‬ ‫وجدانية وسر الإيمان الملازم للوعي‪.‬‬‫فلا يوجد علم وضعيا كان أو وجدانيا لا يؤمن بأن علمه يبقى دائما دون موضوعه مهما‬‫اقترب من الاحاطة الإدراكية به حتى إن هوسرل اعتبر ذلك هو معنى التعالي أعني أن‬‫الموجود الخارجي يبقى دائما خارجيا وما في الأعيان يبقى دائما غير ما في الأذهان عند أي‬ ‫إنسان في كل الأزمان‪.‬‬‫وهذا الفرق بين نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة ونظرية المعرفة القائلة بعدمها‪ .‬والقول‬‫بأن أنساق المعرفة سرديات قد يعني أنه قائل بالنوع الأول أو بالنوع الثاني والغالب عليها‬‫القول بالنوع الأول (رورتي) وهو قول نيتشوي لأن السرديات تكون بهذا المعنى مجرد‬ ‫إبداع فني ليس له مرجعية خارجية‪.‬‬‫الآن وقد وضحت ما أقصده بأن ما يريحني للخروج من مآزق فهم الوصف القرآني للعذاب‬‫بعد الحساب الأخروي وما استبشعه من تصوير للرحمن وكأنه مثل ملوك الأرض يعذب بلا‬‫رحمة مع الاحتراز بأن رؤيتي ذاتية بإطلاق ولا يمكن أن تصبح عقيدة لغيري فإني سأمر‬ ‫لعلم الكلام الجديد وكيف حصل‪.‬‬‫فما يحصل يوم الدين هو ما تجمع في الاختبار الدنيوي فيصبح الحال الدائمة التي يخلد‬‫عليها صاحب الحصيلة‪ :‬فمن نجح في اختبار أهلية الاستخلاف يخلد في الحرية والحقيقة‬‫والخير والجمال والجلال ومن يفشل فيه يخلد في سوالبها أي في عبوديته للشيطان والباطل‬ ‫والشر والقبح والذل‪ .‬وحاله نار الشيطان‪.‬‬‫وذلك هو معنى الفرصة الثانية التي كانت رهانا على أبناء آدم وضدهم ينتهي بنتيجة‬‫الرهان واختبار الاهلية للخلافة ويكفي تدبر الآيات التالية‪ :‬آل عمران ‪( 154‬الاختبار)‬‫والإسراء ‪ 65-61‬والاعراف ‪ 18-11‬للرهان حول نتيجة الفرصة الثانية بعد العفو على‬ ‫آدم وذريته التزاما بالأعراف ‪.173-172‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫كيف نشأ علم الكلام الجديد؟ أو كيف مات علم الكلام القديم لأنه لم يكن تعبيرا عن‬‫تصور لا يدعي تجاوز البحث عن حلول ذاتية في تناسق صاحبها الروحي بين علمه بالشاهد‬‫وإيمانه بالغيب بل كان يزعم أن ما يحقق التناسق في ذاته حقيقة مطلقة هي العقائد التي‬ ‫ينبغي ان تفرض فهما وحيدا للقرآن والإسلام‪.‬‬‫فهذا هو ما اعتبرته آل عمران ‪ 7‬دليل مرض القلب وابتغاء الفتنة وهو ما حاول ابن‬‫تيمية وابن خلدون تخليص المسلمين منه بلا جدوى ولا زلت تسمع اليوم بعض الادعياء‬‫يعودون إلى الكلام فيحيون الفتن والاقتتال بين الفرق بدعوى صوغ العقائد صوغا ينبغي‬ ‫أن يفرض لكأنه أبلغ من القرآن في صوغها‪.‬‬‫وظل الامر كذلك عند المسيحيين بعد أن انحطت الحضارة الإسلامية وتواصلت الحضارة‬‫الغربية في الانتقال المتدرج خلال مرحلتين في العلاقة بين الكلام والفلسفة بمقياس نظرية‬ ‫المعرفة المطابقة ثم غير المطابقة‪:‬‬ ‫‪.1‬تخلي الفلاسفة عن رد الديني إلى الفلسفي (ديكارت)‬ ‫‪.2‬تجاوز نظرية المطابقة (كنط)‪.‬‬‫وكانت حصيلة المرحلة الديكارتية أو تسليم الفلاسفة بأن الدين له ما به يتجاوز العلاج‬‫الفلسفي فنتج عن ذلك سقوط كل محاولات التوفيق الجنيسة لما كان عندنا وأصبح ذلك‬‫مجرد منظومة عقائد (دوجم) تعليمي بسلطة الكنيسة ولا يمكنه أن يدعي الاستناد إلى‬ ‫الفلسفة‪ :‬بداية موت اللاهوت العقلي‪.‬‬‫لكن المرحلة الكنطية هي التي مثلت الضربة القاضية للاهوت العقلي رغم أنه كتب الدين‬‫في حدود العقل بمجرده‪ .‬ذلك أن هذا المصنف يعني ما يعنيه تأسيس الاخلاق على المسلمات‬‫الثلاث لاستعمال العقل النظري عمليا أعني وجود الله والحرية وخلود النفس وعنها يترتب‬ ‫وجود اليوم الآخر‪.‬‬‫وأساس الموت التام لعلم الكلام القديم هو نظرية المعرفة غير المطابقة بمعنى أن العلم‬‫الإنساني العقلي والفلسفة لم يعد لهما مزاعم القول بأن ما نعلمه من الوجود يمكن أن يرد‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫إليه الوجود أو بمصطلح ابن خلدون بأن الوجود يرد إلى الإدراك بل أصبح الإدراك‬ ‫العلمي لا يتجاوز ظاهر الوجود‪.‬‬‫فحصل امران يبدوان متناقضين لكهما متكاملان‪-1 :‬الإيمان أصبح ممكنا لأن شرطه أنه‬‫يتعلق بما لا يبقى الاستدلال العقلي عليه غير ضروري بل وضار به لأنه يرده إلى ظاهر‬‫الوجود في حين أنه إيمان بما يتعالى على الظاهر وخاصة بالغيب‪ :‬إذ هو يعني الإيمان‬ ‫بالحقيقة والاعتراف بعجزنا عن علمها‪.‬‬‫ثم ‪-2‬والإيمان نوع ثان من المعرفة الوجدانية التي تطابق أعماق كيان الإنسان الذي‬‫يؤسس لاستعمال العقل النظري استعمالا عمليا يؤسس الأخلاق على تجربة روحية مختلفة‬‫تماما عن التجربة الطبيعية التي تتأسس على الضرورة‪ :‬تتأسس على وجدان الحرية‬ ‫والحقيقة والخير والجمال والجلال وتميزها عن سوالبها‪.‬‬‫ولذلك ففي النهج الكنطي كان لا بد أن يكون نقد ملكة الحكم بداية ممكنة لعلم كلام‬‫جديد من جنس تجربة كيركوجارد لو لم ينهه الحل الهيجلي بصنف آخر من كلام يجمع بين‬‫الفلسفي والديني على منوال ما كان عليه في القرون الوسطى باستعادة نظرية المطابقة‬ ‫وبوضع منطق الجدل فجعل الفلسفة والدين كلاما‪.‬‬ ‫بعبارة أوضح‪:‬‬‫‪ .1‬كنط فتح الباب للوجوديات المؤمنة الفردية التي تنطلق من التجارب الوجدانية وفيها‬ ‫لتجربة الجمال والجلال الأول (من نقد ملكة الحكم)‬‫‪ .2‬وهيجل فتح الباب للدنيويات التي تنطلق من نفس التجارب ولكن بوصفها جمعية‬ ‫متعينة في التاريخ الروحي والسياسي للإنسانية (أرواح الشعوب)‪.‬‬‫وبإيجاز فيه إخلال دون شك‪ :‬يمكن القول إن علم الكلام الجديد هو بالأساس الوجوديات‬‫بنوعيها المؤمنة والملحدة والدينيوات بنوعيها الهيجلي والماركسي‪ .‬والهيجلي هو الليبرالي‬‫والماركسي هو اليساري‪ .‬والأساليب الاربعة في الكلام لم تعد تميز بين الديني والفلسفي‬ ‫وبين الدنيا وما وراءها‪ :‬تلك جدتها‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والجدة مضاعفة‪:‬‬‫‪ .1‬أولا الفرق بين الوجوديات بنوعيها والدنيويات هو كالفرق بين الوجداني الفردي‬ ‫والوجودي الجمعي‪.‬‬‫‪ .2‬وثانيا الاشتراك بينهما في عدم المقابلة بين دنيا وآخرة أو لنقل إن الآخرة لم تعد‬ ‫أمرا موجودا أصلا لكأن المقابلة بينهما تحولت إلى مقابلة ظاهر الوجود وباطنه‪.‬‬‫وقد يكون التعبير الأوضح عن هذه المقابلة تعبير هيدجر رغم إلحاده عن الوجود‬‫الحقيقي في أعماق الذات ووجدانها والوجود الخارجي الذي يشيه دلالة الدنيا بالمعنى‬‫القرآني‪ :‬لهو وظاهر ومن الوجود الذي لا يساوي جناح بعوضة بالقياس إلى حقيقة الوجود‬ ‫الذي هو الحضور الدائم للعلاقة بين المؤمن وربه‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وصلنا الآن إلى بيت القصيد‪ :‬فالكلام القديم نهايته مع كنط يمكن تمييزه يكون مركزه‬‫الله‪ .‬والكلام الجديد من كنط فنازلا مركزه الإنسان‪ .‬فالأول الكلام اللاهوتي أو ثيولوجيا‬‫والثاني الكلام الناسوتي أي انثروبولوجيا الوجوديات مؤمنها وملحدها والدنيويات هيجليها‬ ‫وماركسيها‪ :‬رؤية الإنسان لذاته‪.‬‬‫والانتقال من المركز الأول إلى المركز الثاني يجعل من كان في موقع الذات يتحول إلى‬‫موقع الموضوع ومن كان في موقع الموضوع يتحول إلى موقع الذات‪ .‬ففي الكلام القديم كان‬‫الله هو الذات والإنسان هو الموضوع وفي الكلام الجديد انعكس الأمر فصار الإنسان هو‬ ‫الذات والله هو الموضوع‪.‬‬‫ويوجد بين المواقف الاربعة (اثنان وجوديان مؤمن وملحد واثنان دنيويان هيجلي‬‫وماركسي) وسط متحرر منها جميعا وفيه منها بعض شيء هو الموقف النيتشوي الذي هو في‬‫آن لا واحد منها ويبدو وكأنه مشروط بها لما فيها من سوالبها فلا هو إنسان ولا هو إله ولا‬ ‫هو مؤمن ولا هو ملحد ولا هو ليبرالي ولا هو يساري‪.‬‬‫لكنه في آن إنسان إله صفته الأساسية الخلق والأبداع لأن الوجود كله إبداع فني وهو‬‫من ثم مؤمن وملحد دينيا وليبرالي ويساري دنيويا وفي الجملة هو ثورة على كل القيم‬‫المعتادة التي تقبل الرد إلى المسيحية والافلاطونية كما يعرف نفسه هداما بمطرقته لكل‬ ‫الألهة بشرط ألا يهدم نفسه إنسانا إلها‪.‬‬‫وهذه المواقف الخمسة هي فروع علم الكلام الجديد‪ .‬لكن لا بد من العودة إلى ما بدأنا‬‫به‪ .‬فالقديم كما رأينا له مرحلتان قبل قلب المعادلة الوجودية الذي هو العلاقة المباشرة‬‫بين الله والإنسان‪ .‬وسنرى أن علم الكلام الجديد له كذلك مرحلتان بعد هذا القلب نفسه‬ ‫ومدارهما عكس مدار القديم‪.‬‬‫مدار علم الكلام القديم بمرحلتيه هو العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة والتاريخ‪:‬‬‫ويمكن القول إن المرحلة الأولى هي الميثولوجيا ذات النموذج التاريخي (الأوائل نموذجا‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لعالم الآلهة) والنموذج الطبيعي (نظام العالم هو عينه عالم الألهة)‪ :‬الكلام مصدره ألغاز‬ ‫العلاقة العمودية وقيام الإنسان‪.‬‬‫أما علم الكلام الجديد فله مثل القديم مرحلتان ومداره العلاقة الأفقية بين الإنسان‬‫والتاريخ وبينه وبين الطبيعة‪ .‬والمرحلتان ميثولوجيتان كذلك ولكن بمعنى ثان لأن العلاقة‬‫الأفقية تتصل بالتواصل وليس بالتبادل‪ .‬والقصد أن الأمر يتعلق بالقيام الروحي في‬ ‫مبدعات البشر التي عالجت القيام العضوي‪.‬‬‫لم يعد الأمر متعلقا بأسرار الوجود في الطبيعة والتاريخ وما بعدهما بل بأسرار ما جهز‬‫الإنسان به لعلاجهما أعني النظر والعقد في المعرفة والعمل والشرع في الممارسة‪ .‬وحتى‬‫أيسر فهم الامر فلنقل إن المدار الأول كان علاقة الإنسان المادية بما وراء الطبيعة‬ ‫والتاريخ والثاني صار علاقته الرمزية به‪.‬‬‫فلكأن كل ما كان ينسب إلى الله من فاعلية وخلق وإبداع بوصفه ما وراء الطبيعة‬‫والتاريخ صار ينسب إلى الإنسان بوصفه ما وراء التاريخ والطبيعة‪ .‬وما كان يدرس بوصفه‬‫ألغاز اللاهوت صار يبحث بوصفه ألغاز الناسوت‪ .‬وما كان يدرس بالانثروبومورفيا صار‬ ‫يدرس بالثيومورفيا‪ .‬وكلاهما أسقاط‪.‬‬‫فالانثروبومورفيا هي تصور الله بتشبيهه بالإنسان‪ .‬والثيومورفيا هي تصور الإنسان‬‫بتشبيهه بالله‪ .‬وفي النهاية العمليتان هما مرحلتان في تصور الله بالإنسان ليصبع تصورا‬‫للإنسان به‪ .‬ومن ثم فنحن لم نخرج من العلاقة المباشرة بين الله والإنسان وكأنهما في وضع‬ ‫التمانع‪ :‬وضع هذا نفي ذاك‪.‬‬‫والحل القرآني يحرر الإنسان من هذه العلاقة التمانعية بين الله والإنسان بنظرية‬‫الخلافة‪ .‬فالعلاقة المباشرة بينهما هي علاقة الخليفة بالمستخلف‪ .‬وهي علاقة بين سطلتين‬‫مطلقة ونسبية من حيث الصفات وخاصة في ما يسميه علم الكلام بالصفات الذاتية الخمس‪:‬‬ ‫الوجود والحياة والقدرة والعلم والإرادة‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فهي صفات مطلقة عند الله ونسبية عند الإنسان‪ :‬فالله مريد بإطلاق والإنسان بنسبية‬‫والله عالم بإطلاق والإنسان بنسبية والله قادر بإطلاق والإنسان بنسبية والله حي بإطلاق‬‫والإنسان بنسبية والله موجود بإطلاق والإنسان بنسبية‪ .‬وهما متواصلان بعلاقة الاستخلاف‬ ‫في النظر والعقد وفي العمل والشرع‪.‬‬‫فيكون قلب المعادلة الوجودية (الله‪-‬الطبيعية (الله‪-‬الإنسان) (التاريخ‪-‬الإنسان) التي‬‫سبق فشرحناها في غير موضع أو العلاقة المباشرة بينهما (الله‪-‬الإنسان) متعينة كذلك في‬‫العلاقة غير المباشرة ما تقدم على (الله الإنسان) وما تلاها في المعادلة أو هي الماوراء في‬ ‫الحالتين وبينة الوعي الإنساني‪.‬‬‫ولذلك فليس بالصدفة أن كانت الميثولوجيات أو محاولات الإنسان فهم الغاز قيامه‬‫العضوي في المثيولوجيتين الأوليين وفهم ألغاز قيامه الروحي في الميثولوجويتين الأخرتين‬‫والجمع بين نوعي الألغاز في الرؤية النيتشوية للإنسان الإله المبدع للأكوان كلها إذ عنده‬ ‫لا وجود لما وراء هذا الإبداع الفني‪.‬‬‫وهنا يكمن الفرق‪ :‬فهذا الموقف النيتشوي والذي هو أساس ما يسمى بما بعد الحداثة هو‬‫النوع الثاني من القول بالمطابقة لأن نفي ما وراء المبدعات (الإنسانية‪ :‬واضعها بين قوسين‬‫لأن الإبداع هو في آن مبدع ذاته وليس له ذات وراءه هي الفاعل) قول بمطابقته لذاته‬ ‫ولا يوجد غير هو وراء لمضمون الوعي‪.‬‬‫فعندما تنفي المطلق وراء النسبي يبقى النسبي وحده فلا يكون نسبيا بل يصبح هو‬‫المطلق‪ .‬وهذا هو المعنى النيتشوي لنفي الماوراء‪ .‬وهو في الحقيقة مسبوق‪ .‬فجوهر فلسفة‬‫هيجل تقول بوحدة الوجود ولا تذهب إلى حد الوحدة المطلقة فليس قصده أن الوجود‬ ‫الخارجي من وهم الإنسان بل الروح المطلق متعين فيه‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن هيجل يلغي الثنائية في ما سميناه لب المعادلة (الله‪-‬الإنسان) معتبرا الله‬‫هو الروح المطلق المتعين في الإنسان الذي هو تجليه بوصفه الكلي المتعين وهو إذن روح العالم‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الذي هو تجليه في الطبيعة والتاريخ ولا يوجد شيء وراء الطبيعة و التاريخ كالمقابلة بين‬ ‫الدنيا والآخرة‪.‬‬‫فلكأن الإنسان شيفرة العالم لأنه الروح الكلي المتعين بشرط أن يكون مسيحيا لأن الروح‬‫الكلي تعين في المسيح ومن ثم فالإنسان لا يكون إنسانا ما لم يؤمن بالمسيحية‪ .‬ولولا إيماني‬‫بأن هذا الفهم للدين هو سر كل ما تعاني منه الإنسانية لما نقلت فلسفته الدينية حتى نفهم‬ ‫الفاشيات الغربية بنوعيها‪.‬‬‫فهذا التصور للإنسان يعود في النهاية إلى الرؤية السوفسطاية التي تجعل الإنسان‬‫مقياس كل شيء موجوده ومعدومه ولا يوجد ما يتعالى على إرادته وعلمه وقدرته وحياته‬‫ووجوده وهو بالضبط القصد بالفاشية سواء كانت ليبرالية بالطريقة الامريكية التي بشرى‬ ‫هيجل أو بالطريقة السوفياتية بشرى ماركس‪.‬‬‫ولذلك فكلاهما كان مدافعا عما يسمى المهمة التحضيرية الاستعمارية وبالعولمة المادية‬‫التي ليس وراءها من قاض غير التاريخ المحكوم بمنطق القوة أو بمنطق التاريخ الطبيعي‪.‬‬‫وفي الظاهر يبدو المفكران وكأنهما يسعيان لجعل المثال واقعا لكنهما في الحقية اعتبروا‬ ‫الأمر الواقع مثالا وهو سر الفاشية‪.‬‬‫وكما هو معلوم وكما أثبته في مقدمات الترجمة فهيجل عاد إلى القول بالمطابقة وعادة‬‫النظر في النقد الكنطي وخاصة في ما يتعلق بأدلة وجود الله التي هي سر تغييره نظرية‬‫القضية الجملية لتغيير مبادئ المنطق التقليدي الثلاثة الهوية والتناقض والثالث المرفوع‬ ‫ليعيد تأسيس اللاهوت العقلي‪.‬‬‫وبعبارة تقريبية يمكن القول إن وضع منطق الجدل كان السبيل الوحيدة للخروج من‬‫معضلات المواقف الاعتزالية في تقاليدنا الفكرية‪ :‬فلا يمكن الخروج من مثنوية الكلام‬‫الاعتزالي ‪-‬أو من مجوسيته‪-‬من دون التحرر من المنطق الارسطي يوضع مبدا وحدة‬ ‫المتناقضين في ثالث موضوع وليس مرفوعا‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فبفضل هذا الحل مثلا يمكن القول إن الإنسان خالق لأفعاله بالمعنى الاعتزالي الذي‬‫يبدو غير ممكن بالمنطق الأرسطي لأن يؤدي إلى وجود إلهين لكنه يصبح ممكنا بالمنطق‬‫الهيجلي لأن وحدة المتناقضين ممكنة فلا نحتاج إلى ذاتين فاعلتين كما يحاول أصحاب‬ ‫الكسب البحث عن مخرج من المثنوية‪.‬‬‫وأختم هذا الفصل بالاعتذار للقراء عن تعقيد المسألة وعدم الإطناب في شرحها بما قد‬‫يساعد على تيسيرها لان كل عنصر من عناصرها قد يتطلب المزيد من الجزئيات التي تغرق‬‫الباحث فلا يرى الجوهري ويبقى في شكليات اكاديمية ليس هذا محلها وبعضها وارد في‬ ‫مقدمات ترجمة فلسفة الدين لهيجل‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ولا بد هنا من مقارنة سريعة للعلاقة بين أفلاطون وأرسطو ودورهما بالنسبة إلى الفكر‬‫القديم دينيه وفلسفيه وبين كنط وهيجل ودورهما بالنسبة إلى الفكر الحديث دينيه‬‫وفلسفيه لأن ذلك من شروط فهم العلاقة بين اللاهوت العقلي في الفكر الديني واللاهوت‬ ‫العقلي في الفكر الفلسفي بصورة عامة‪.‬‬‫ومعنى \"بصورة عامة\" تعني في آن ما يندرج فيه الفكران الديني والفلسفي عندنا إيجابا‬‫وسلبا‪ .‬فهو يندرج فيه إيجابا بالانتساب العام إليه لأني لا أسمي فكرا ما كان خصوصيا‬‫لحضارة دون حضارة وفي ذلك أختلف مع من يعتبر أهمية الفكر في خصوصيته لكأنه لا يميز‬ ‫بين الفكر والفلكلور الشعبي‪.‬‬‫ولا بأس من الإشارة هنا إلى أن الكلام في البعد البراجماتي أو التداولي في الفكر لا‬‫يعني الخصوصية في شيء فالتداولية الفكرية هي تداولية الجماعة العلمية التي هي كونية‬‫بالجوهر‪ .‬وهي تتجاوز المتعاصرين إلى المتوالين فما من علم أو فلسفة تتقدم إلا بحوار‬ ‫أحياء المبدعين أمواتهم في العلوم والفنون‪.‬‬‫والوجه السلبي في هذا الاندراج في الفكر الإنساني المتجاوز للخصوصيات هو مساهمته في‬‫تجاوز ما تقدم عليه والأعداد لما تلاه بصورة ذات دلالة أعني بإحداث منعرج أشبه بالذي‬‫أحدث بارمينيدس وهو منعرج سعى إليه سقراط واهتم به أفلاطون لكنه لم يوصله إلى ما‬ ‫أوصلته إليه المدرسة النقدية‪.‬‬‫وتلك هي علة اهتمامي بهذه المدرسة (الغزالي وابن تيمية وابن خلدون) من دون قصد‬‫الرد على ما ادعاه هيجل في تاريخه للفلسفة (لا تمثل دورا كيفيا) وكان فيه معذورا لأن‬‫اطلاعه على الفكر الإسلامي والعربي كان مقصورا على مراجع قليلة ولم يكن من بين من‬ ‫ورد فيها ابن تيمية ولا ابن خلدون‪.‬‬‫وقد تكلمت في الامر في غير موضع ويكفي التذكير بالزبدة‪ :‬فأول من بدأ التمييز بين‬‫الوضعي من العلم والكلام في ما وراء الوضعي منه وأول من شكك في إمكانية المطابقة في‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫نظرية المعرفة وأول من صاغها بصورة لا مراء فيها هم فلاسفة المدرسة النقدية الثلاثة‪:‬‬ ‫الغزالي وابن تيمية وابن خلدون‪.‬‬‫لكن المنعرج لم يكتمل إلا عند ابن خلدون لما قلب العلاقة بين الطبيعي والإنساني من‬‫العلوم فصار ما بعد التاريخ عنده شاغلا موقع ما بعد الطبيعة في دور العلم الرئيس المؤطر‬‫لكل نظر وعقد ولكل عمل وشرع وهو ما كان يأمله سقراط وحاوله أفلاطون وعطله أرسطو‬ ‫الذي فضل ما بعد الطبيعة لهذا الدور‪.‬‬‫وكان أرسطو في عصره على حق لأن القطيعة مع الميثولوجيا التي أحدثتها الفلسفة في‬‫الظاهر لأن الفلسفة هي بدورها ميثولوجية عند أفلاطون أكثر ولكنها حتى عند أرسطو‬‫لأن نظام العالم الفلكي فيه شيء من الميثولوجيا التي بلغت الذروة من بعدها عندما أصبح‬ ‫الأفلاك ذات أرواح وعقول محركة بالجاذبية‪.‬‬‫فإله أرسطو ‪-‬في الميتافيزيقا‪ -‬محرك لا يتحرك وهو يحرك بالجاذبية والمتحركات تتحرك‬‫بالشوق الناقل لما هو موجود بالقوة في موادها انجذابا لإلهه الذي لا ينشغل إلا بنفسه ولا‬‫يعلم سواها‪ .‬وما ما قصدته عندما تكلمت على آلهة الميثولوجيا والإله الواحد المقيسة على‬ ‫البشر في الفصول السابقة‪.‬‬‫لكن قطيعة ابن خلدون كانت حاسمة‪ .‬فما كان ليثبت نسب التاريخ إلى الحكمة لو لم‬‫يكن يعد الكليات التي تعلمها الفلسفة كائنات تاريخية وحصيلة التراكم المعرفي سواء كان‬‫من المقدرات الذهنية أو من الخبرات التجريبية (ابن تيمية) وليست كما يظنها الفلاسفة‬ ‫في عصره ثوابت لا تاريخية وصور الموجودات‪.‬‬‫ولهذه العلة كتبت ذات مرة أن نسبة أرسطو إلى نشأة علوم الطبيعة هي عينها نسبة بن‬‫خلدون إلى نشأة علوم الإنسان‪ .‬فمبدأ علوم الإنسان كانت الفلسفة اليونانية لا تعترف به‬‫بل هي ترد العلوم العملية إلى العلوم الطبيعية‪ :‬فالتاريخ يتعلق بالعرضيات وليس‬ ‫بالجوهريات ومن ثم فهو ليس علما أصلا‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لن تجده في منظومة العلوم الفلسفية لأنه كما قال أرسطو عنه في كتاب الشعر أقل قربا‬‫من الكليات من الشعر الذي يتكلم في الكلي الممكن والفلسفية في الكل الفعلي لكن التاريخ‬‫يتكلم في الجزئي الاتفاقي أو الذي يحدث عرضا وبتلاقي الصدف ككل عرض غير ذاتي‬ ‫(آسف مضطر للاصطلاح الأرسطي)‪.‬‬‫ولهذه العلة فمقدمة ابن خلدون من حيث الدور الأبستمولوجي في تأسيس علوم الإنسان‬‫تناظر التحليلات الأواخر في تأسيس علوم الطبيعة‪ .‬ذلك أن ابن خلدون أثبت فيها أن‬‫التاريخ المديد غير التاريخ الذي كان أرسطو محقا في إخراجه من الفلسفة‪ .‬والتاريخ‬ ‫المديد هو أساس كل علوم الإنسان‪.‬‬‫وهو يتعلق بالتحولات الكيفية التي تمثل إطار التأويل لأحداث التاريخ القصير دلالات‬‫ومعان‪ .‬ولا يمكن فهم ذلك من دون أن تصبح الكليات هي بدورها تاريخية لأنها حصيلة‬‫تطور المعرفة والخبرة وليست قائمة بذاتها في صور الموجودات‪ .‬ولا يمكن أن يحصل ذلك لو‬ ‫كان يقول بنظرية المعرفة المطابقة‪.‬‬‫فمن يدرس التحليلات الأواخر التي وضع فيها أرسطو شروط تطبيق التحليلات الأوائل‬‫على الوجود الخارجي يدرك نه يبحث في شروط الانتقال من المتغيرات في اشكال القياس‬‫لتعويضها بقيم معينة مستمدة من الوجود الخارجي وتبقى العلاقات القياسية صالحة‬ ‫فتستكمل مهمة الميتافيزيقا القائلة بنظرية المطابقة‪.‬‬‫وقد يعترض علي بان ابن خلدون يستعمل كل مصطلحات أرسطو في تأسيسه علم التاريخ‬‫المديد الذي هو العمود الفقري للعلوم الإنسانية‪ .‬لكني بينت كيف أنها استعارات وليس‬‫بدلالتها الأرسطية‪ .‬فما يسميه ابن خلدون التاريخ المديد لطبائع العمران والاجتماع لا‬ ‫تتكلم على طبائع وضرورة بل على شرائع وحرية‪.‬‬‫وبعد هذا الاستطراد على منزلة الحقبة العربية الإسلامية في تاريخ الفكر الإنساني‬‫أعود إلى المقارنة بين الزوجين الأولين أفلاطون وأرسطو والزوجين الأخيرين كنط وهيجل‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ليس بصورة عامة بل من منظور تكوينية علم الكلام اللاهوتي والناسوتي ومآله إلى ما بعد‬ ‫الحداثة النيتشوية‪.‬‬‫ولكن لإثبات رأيي في كونية الفكر ورفضي للخصوصية التي هي فلكلورية وليست فكرية‬‫أود أن استكمل الاستطراد بالتذكير بعنوان القسم التكميلي من رسالتي في الدكتوراه حول‬‫منزلة الكلي في الفلسفة العربية‪ :‬فاصلاح العقل عنوانه من أرسطو وأفلاطون إلى ابن‬ ‫تيمية وابن خلدون‪.‬‬‫ولأضف إلى ابن تيمية وابن خلدون قبلهما ما أضفته المقارنة بين علاقة أفلاطون بأرسطو‬‫أي علاقة كنط بهيجل أضيف ابن سينا والغزالي‪ .‬فالنسبة بين أفلاطون‪-‬أرسطو قديما‬‫وكنط‪-‬هيجل حديثا يمكن أن تفهم بدقة أكبر إذا قورنت بالنسبة بين ابن سينا‪-‬الغزالي‬ ‫بداية وابن تيمية‪-‬ابن خلدون غاية في فكرنا‪.‬‬‫وطبعا لست غافلا عن الفروق وخاصة الزمانية‪ .‬فلا الغزالي عاصر ابن سينا ولا ابن‬‫خلدون ابن تيمية بخلاف المثالين القديمين والحديثين في الفكر الغربي‪ .‬لكن التعاصر الذي‬‫يعنيني ليس تعاصر الحيوات بل تعاصر الأعمال‪ .‬فلا يمكن فهم فكر الغزالي دون ابن سينا‬ ‫ولا فكر ابن خلدون دون ابن تيمية‪.‬‬‫فمن نقل ميتافيزيقا أرسطو إلى النسقية القابلة لنقد الغزالي هو ابن سينا‪ .‬ومن نقل‬‫نظرية المعرفة الارسطية إلى الإحراج الفلسفي العميق القابل لنقد ابن خلدون لإضفاء‬‫التاريخية على الفلسفة هو ابن تيمية‪ .‬ومقالة الالف لأرسطو هدفها إثبات نهاية تاريخ‬ ‫الكلي بنظريته في العلل الأربع‪.‬‬‫وحتى التعاصر الزماني لم يكن ما يعارضه بالكبير فبين ميلاد الغزالي ووفاة ابن سينا‬‫ربع قرن وأقل من ذلك بين ابن تيمية وابن خلدون‪ .‬والمكان لا يذكر لأن الأرض الإسلامية‬‫كانت واحدة والتبادل المعرفي كان على قدم وساق وخاصة بمناسبة الحج والرحلة العلمية‬ ‫طلبا للعلم من كبار العلماء ومنابعه‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وهذا مما لا يحتاج إلى اثبات بالنسبة إلى ابن سينا والغزالي لكن بالنسبة إلى ابن تيمية‬‫وابن خلدون فالأمر عسير‪ .‬فيبدو أن ابن خلدون يجهل ابن تيمية رغم أن ابن تيمية لا‬‫يجهل ابن رشد مثلا ولا كبار علماء المغرب في جميع الفنون التي يعتد بها‪ .‬فما مصدر نفي‬ ‫المطابقة وتاريخية موضوع الفلسفة؟‬‫لما كانت الفكرتان غير موجودتين عند الفلاسفة التقليديين ولم تكونا بارزتين إلا عند‬‫ابن تيمية قبله فالحل هو أحد أمرين‪ :‬إما أنه كان على علم بفكر أبن تيمية أو أنه أبدعهما‬‫مثله‪ .‬وليست مهتما بأعيان المفكرين بل بالمشترك بين افكارهم‪ .‬وقد يكون ابن خلدون‬ ‫أبدع الامرين معا‪ .‬وهذا فيه مزيد فضل‪.‬‬‫انتهى الاستطراد وسأعود في الفصل المقبل إلى المقارنة بين علاقة أرسطو بأفلاطون‬‫وعلاقة هيجل بكنط بخصوص تكوينية علم الكلام اللاهوتي (علم الكلام القديم) وعلم‬‫الكلام الناسوتي (علم الكلام الجديد) وهو موضوع بحثي والاستطراد لا يهدف لتعطيل‬ ‫العلاج بل لفهم دور فكر في تطور الفكر عامة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫سأقتصر في هذا الفصل الاخير من المحاولة على المقارنة بين الزوجين القديمين والزوجين‬‫الحديثين ودور كلا الزوجين في نشوئية علم الكلام اللاهوتي القديم وعلم الكلام الناسوتي‬‫الجديد وأترك جانبا الزوجين الأولين والأخيرين في فكرنا لدرسي إياهما في ضميمة‬ ‫المثالية الالمانية‪.‬‬‫وابدأ بالزوجين الأولين‪ :‬افلاطون وأرسطو‪ .‬وأول ملاحظة أن الأسلوب الميثولوجي‬‫مسيطر على أفلاطون وأقل سيطرة على أرسطو‪ .‬وأفضل رمز لهذا الاسلوب ليس محاولة‬‫المدينة الفاضلة فهي أقرب مصنفاته إلى الأسلوب العلمي الخالص في نظرية التربية والحكم‬ ‫رغم مثاليته التي هي في الحقيقة أساس كل علم‪.‬‬‫فالعلم إبداع لنماذج تعبر عما وراء ظاهر \"الواقع\" أو عن حقيقة \"الواقع\" أو عما يعني‬‫العلم من \"الواقع\" أو بصورة أدق عما يفسر ما يتجلى منه للإدراك الإنساني‪ .‬ولهذا فقد‬‫عرف أفلاطون النظرية بكونها النموذج الرياضي الذي \"يحفظ أو ينجي\" المظاهر بمعنى أن‬ ‫يعلل ظهورها على ما تظهر عليه‪.‬‬‫لكن أبرز مثال يصل بين الميثولوجي والفلسفي هو دون منازع كتاب الطيماوس‪ .‬لكنه‬‫بخلاف الحل الأرسطي لا يعتبر المثل محايثة للطبيعة فيلغي بقاءها متعالية عليها (باستثناء‬‫الله في المقالة ‪ 12‬من الميتافيزيقا) بل هو يبقي على الفصل بين عالمين أعلى وأدنى ويبني‬ ‫الثاني بمبادي رياضية من الأول‬‫فيكون الواقع الحقيقي هو العالم الاعلى والواقع النسبي هو ما بنى بمبادئه وليس إلا‬‫نسخة دنيا منه لما فيه من مقاوم للمثل أو رافض لما فيها من حقيقة ونظام وجمال وجلال‪.‬‬‫ولهذه العلة فهو يعتبر هذا الرفض من علامات الطبيعة الشريرة للمادة التي تستعصي‬ ‫على التصوير بالمثل الرياضية‪.‬‬‫وهذه ترجمة فلسفية لرؤية دينية ميثولوجية فيها الكثير من الفيثاغورية مع فرق كبير‬‫أغفله أرسطو في نقد الافلاطونية‪ :‬فالفيثاغورية تعتبر المبادئ الرياضية كامنة تفسير‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫العالم ونظامه من دون تدخل إله صانع هو الذي يبني العالم الطبيعي بالنماذج الرياضية‪.‬‬ ‫نظرية أفلاطون أعمق من الفيثاغورية‪.‬‬‫ويتضح ذلك خاصة في فلسفة أفلاطون العملية‪ :‬فالفيلسوف في السياسة هو النظري التام‬‫للإله الصانع في الطبيعة‪ .‬فمثلما أن الفيلسوف بعلم الرياضيات المثالية‪-‬لا التطبيقية‪-‬يبني‬‫المدينة أي الدولة فكذلك يبني الإله الصانع محاكاة لعالم المثل العالم الطبيعي‪ .‬وهذا‬ ‫وجه الشبه بينه وبين كنط كما سنرى‪.‬‬‫كلاهما يعتبر العلم تشريع للطبيعة وليس محاكاة لها‪ .‬وفي ذلك نوع من التحرر من القول‬‫بنظرية المطابقة أو على الأقل عكس لها‪ .‬الطبيعة تطابق العقل وليس العقل هو الذي‬‫يطابق الطبيعة لأن للمطابقة مدخلان من العقل المشرع إلى الطبيعة أو من الطبيعة‬ ‫المشرعة إلى العقل‪ .‬ومن ذلك حداثة أفلاطون‪.‬‬‫وبلغة قرآنية فإن الدنيا تكون بتعمير الإنسان الخليفة لها في نسبتها إلى الاخرى مناظرة‬‫لنسبة الطبيعة التي يبينها الإله الصانع في اليتماوس والمدينية التي يبنيها الفيلسوف في‬‫المدينة الفاضلة إلى عالم المثل ويكون الله في الآخرى مثل مثال الخير في الأفلاطونية مع‬ ‫الفارق بين المنبعين دون شك‪.‬‬‫فالإنسان المستخلف في القرآن مكلف بتعمير الارض بقيم الاستخلاف التي هي فطرية فيه‬‫‪-‬تماما كما يرى أفلاطون بالنسبة إلى العلم‪-‬والتي علمها لها تذكر لموجود وليس تحصيلا‬‫لمعدوم‪ :‬وتتحقق إنسانيته بالتناسب مع تعمير الارض بقيم الاستخلاف التي تؤدي دور‬ ‫الرياضيات المثالية عند أفلاطون‪.‬‬‫لكن القرآن لا يعتبر الإنسان إلها صانعا للطبيعة بنماذج رياضية يصور بها المادة العصية‬‫بل بالعكس هو يعتبر الطبيعة نفسها خلقت بقدر ومعنى ذلك أن الإنسان لا يشرع لها بل‬‫يطلب نظامها القانوني بالبحث فيها جمعا بين النماذج الرياضية التي يبدعها والتجربة‬ ‫العلمية التي يختبرها بها‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وهذا هو الفرق الذي يبين الطابع الميثولوجي في نظرية أفلاطون وقصورها‬‫الأبستمولوجي لتوهم صاحبها أن الطبيعة فوضى مادية يأتيها النظام بتدخل وسيط بين‬‫مثال الخير والعالم الحسي (الإله الصانع في التيماوس)‪ .‬فاعلية الإنسان في الطبيعة وفي‬ ‫المدينة هو البحث عن تناغم التشريعين فيه وفيهما‪ :‬خلافة‪.‬‬‫وهذا ما جعل المدرسة المشائية العربية تميل إلى الأرسطية في الغالب وهي تغفل أمرين‬‫يجعلانه في الفلسفة القديمة في نسبة هيجل إلى الفلسفة الحديثة‪ .‬لم يبق من الدين إلا‬‫رسمه‪ .‬فربه لا علاقة له بالعالم إلا كمحرك خرافي لا يتحرك بمعزل عما يجري آليا أعمى‬ ‫بصدف حركات الافلاك والكون والفساد‪.‬‬‫التحييث الارسطي للصور‪-‬وهي ليست رياضية بل من طبيعة كيفية لا يمكن أن تصبح‬‫قوانين تحقق تعمير الارض‪-‬أصبح حائلا دون تحقيق مهمة التعمير بقيم الاستخلاف‪:‬‬‫فالضرورة الطبيعية تلغي دور القيم والكيفية الطبيعية تلغي اكتشاف القوانين‪ .‬فكان‬ ‫الفلسفة عقيمة لم تبدع معرفة حقيقية تتجاوز الموروث‪.‬‬‫فالوصف الكيفي للطبيعة بحسب ملاحظات بالصدفة لا يمكن أن تؤسس لعلم طبيعي‬‫يساعد في اكتشاف قوانينها التي هي شرط تعميرها‪ .‬وهذا طبعا مناقض لأمرين‪ :‬فالقرآن‬‫يقول الطبيعة خلقت بقدر أي رياضية والتعمير مشروط بعلمها الرياضي المدعوم‬ ‫بالتجريبية القصدية وليس الملاحظات التي تحصل بالصدفة‪.‬‬‫ولأختم الكلام في الزوجين الاولين وما آل إليه تأثيرهما في اللاهوت خاصة‪ .‬فهي‬‫محاولات لم تتحرر من الميثولوجيا حتى عند الفلاسفة وأكثر منهم كان المتكلمون عندنا وفي‬‫أوروبا القرون الوسطى‪ .‬لكن ما عجزت المدرسة النقدية عندنا في جعله توجها عاما نجحت‬ ‫فيه أوروبا في بداية حداثتها‪.‬‬‫ما فعله أرسطو بأفلاطون فعله هيجل بكنط‪ .‬لكن المجال مختلف‪ .‬فالنقلة الارسطية كنت‬‫في فلسفة الطبيعة والدين والقيم المتعالية والنقلة الارسطية في فلسفة التاريخ والدين‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫والقيم المتعالية‪ .‬وما فعلته الأرسطية وتلامذته بفكر فلاسفتنا القدامى فعله هيجل‬ ‫وتلامذته في فكر \"حداثيينا\" فكان العقم ثانية‪.‬‬‫وكما كان فلاسفتنا القدامى شراح نصوص ودعاة دغمائية وإيديولوجيون أصبح‬‫\"حداثيونا\" شراح نصوص ودعاة دغمائية وإيديولوجيون‪ .‬والنتيجة في الحالتين قول‬‫بالمطابقة والتقية الباطنية لعلم كلام ينكر الغيب ويدعي ملك حقيقة أسمى من الدين التي‬ ‫يعتبرونه موجه للعامة أو إيديولوجيا بالمعنى الماركسي‪.‬‬‫وقد يبدو ابن رشد مستثنى من هذا الموقف ربما بسبب تربيته وانتسابه إلى أسرة علم‬‫ديني لكن تأويله لآل عمران ‪ 7‬ودعواه رفض علم الكلام بعلم كلام لا يقل عنه دغمائية‬‫تظن علم أرسطو حقيقة نهائية يلغي الاستثناء لأن ما يقبل الرد بالتأويل العقلي إليها نفي‬ ‫محظ للغيب دون شك‪.‬‬‫ولا يميز الدين الحق عن الميثولوجيا سواء كانت صريحة أو متدثرة بالفلسفة هو الإيمان‬‫بالغيب الذي ينتج عنه حتما رفض القول بنظرية المعرفة المطابقة ومن ثم بالتمييز بين‬‫الإلهي والإنساني تمييزا جوهريا لا يمكن رد أحدهما إلى الثاني ولا إلى تصوره وحتى‬ ‫تصور الإنسان لذاته فهو غير مطابق لها‪.‬‬‫واصدق قولة أرى فيها فضل ديكارت كله هي قوله إنه من أيسر الامور على العقل أن‬‫يثبت وجود الله ومن أعسرها أن يثبت وجود العالم المادي‪ .‬وأيسر الأمور أن نعلم صفات‬‫العالم الطبيعي إذا آمنا بوجوده وأعسرها أن نعلم شيئا من صفات الله عدا كونها بالقياس‬ ‫إلى صفاتنا هي اللامتناهي والتام والمطلق‬‫وأختم بتلخيص المقصود بعلم الكلام الجديد الذي أرى أن أكثر المتكلمين فيه لا يعلمون‬‫حقيقته ما هي لعدم وصلهم إياه بهذه التكوينية التي حاولت إجمالها في المحاولة‪ :‬فهو بقايا‬‫الميثولوجيا حول علاقة الله بالإنسان إما مباشرة أو بتوسط ما وراء الطبيعة وما وراء‬ ‫التاريخ‪ .‬وهما شكلا الكلام‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فأما الشكل القديم فكان محوره الله ورؤية تقيسه على الإنسان وأما الشكل الحديث‬‫فمحوره الإنسان ورؤية تقيسه على الله‪ .‬ولعل أصدق كلمة قالها فيورباخ ليس في وصف‬‫حقيقة الله بل في وصف رؤية الكلام الحديد هي تصور الله صورة الإنسان المثلى تعويضا‬ ‫عن نقائصه‪ :‬وذلك سر تهديمه ذاته والعالم‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook