Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore سر العبودية، سلطان العجل الذهبي على العالم - أبو يعرب المرزوقي

سر العبودية، سلطان العجل الذهبي على العالم - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2017-09-20 17:06:25

Description: سر العبودية، سلطان العجل الذهبي على العالم - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫الأسماء والبيان‬



‫المحتويات‬ ‫‪1‬‬ ‫‪7‬‬‫‪13‬‬‫‪19‬‬‫‪25‬‬

‫هذه محاولة أخصصها لفهم الآليات التي صار أصحاب \"دين العجل الذهبي\" يحكمون‬ ‫العالم لنفهم علة استهداف الإسلام داخليا وخارجيا وقصة موسى في القرآن‪.‬‬‫وسيكون الكلام في هذه الظاهرة السياسية العالمية وصلتها بالحرب على الإسلام الذي‬ ‫يعاني من تزييف منهج فهمه بقلب فصلت ‪ 53‬والجرأة على آل عمران ‪.7‬‬‫وقد صار بوسعي أن أوجز ما يمكن من فهم الظاهرة والعلاقة بالإسلام وكونيته‬ ‫واستراتيجيته الساعية لتوحيد الإنسانية بقيم الاستخلاف جوهر الديني‪.‬‬‫فالرسالة خاتمة لكونها تمثل الديني الواحد في كل الأديان غاية يسعى إليها كل التاريخ‬ ‫الإنساني‪ .‬والقرآن تذكير بها وتحريفاتها واستراتيجية الإصلاح‪.‬‬‫ومثلما أن الإسلام هو الديني في كل الأديان وأصله فإن دين العجل الذهبي هو التحريفي‬ ‫في كل تحريف وأصله‪ :‬لذلك فحكم العجل حرب دائمة على الإسلام‪.‬‬‫لذلك كان القرآن من ألفه إلى يائه عرضا نقديا وتفكيكيا للتحريفات التي مر بها الديني‬ ‫الواحد في كل الاديان وعرضا إيجابيا لاستراتيجية الإصلاح‪.‬‬‫وهي استراتيجية سياسية بالجوهر‪ :‬لها بعد تربوي ولها بعد حكمي‪ .‬والتربية تكون‬ ‫الإنسان ذوقيا وعلميا لتحقيق شروط العلاقتين الأفقية والعمودية‪.‬‬‫فالتربية الذوقية تحقق شروط العلاقة السلمية بين البشر شرط الاجتماع والتربية‬ ‫العلمية تحقق شروط العلاقة التسخيرية بين البشر والطبيعة شرط العمران‪.‬‬‫ولهذا سمى ابن خلدون ثورته بـ\"علم العمران البشري والاجتماع الإنساني\"‪ .‬فالأول‬ ‫علاقة بالطبيعة شرطا في قيام الإنسان ككائن حي يسخر الطبيعة بالعلم‪.‬‬‫والثاني علاقة الإنسان بالإنسان شرطا لقيامه ككائن روحي (خلقي)‪ .‬وقد وصف ابن‬ ‫خلدون الاول بالتنازل لسد الحاجات والثاني بالتنازل للأنس بالعشير‪.‬‬‫قراءة القرآن االفلسفية أساسها اعتباره استراتيجية دور المسلمين في العالم لتحول‬ ‫الرسالة الخاتمة دون سلطان التحريف وأصله‪ :‬دين العجل الذهبي‪.‬‬ ‫‪31 1‬‬

‫سيعترض علي ممثلو العلوم والأعمال المزيفة الناتجة عن قلب فصلت ‪ 53‬والجرأة على‬ ‫آل عمران ‪ 7‬وأين الدين إذن؟ فهذا عمل سياسي دنيوي لا روحي فيه‪.‬‬‫وهو ما يعني أن اصحاب العلوم والأعمال المزيفة يقولون مثل العلمانيين بأن القسمة دينا‬ ‫قسمة بين وجودين منفصلين لا بين وجهين لنفس الوجود‪.‬‬‫لكأنهم لم يقرأوا مشهد الاستخلاف‪ :‬قرار الاستخلاف هو أصل الوحدة بينهما في فعل‬ ‫الخليفة‪ :‬يستعمر في الأرض (ليعمرها)والاختبار اثبات أهلية الخلافة‪.‬‬‫فالديني الذي يحاسب عليه الإنسان هو التعمير بقيم الدين‪ .‬فما يسمونه دنيويا هو عين‬ ‫الديني الذي يمتحن فيه الإنسان مستعمرا في الأرض بقيم الدين‪.‬‬‫لكن تحريفهم أخرج ذلك كله من الديني وحصر الديني في تضخيم للنوافل معتبرين‬ ‫ذلك هو الديني وما عداه دنيوي يمكن غسل الذنوب فيه بحجة في آخر العمر‪.‬‬‫وبذلك تخلت الأمة بعمى بصيرة \"علمائها\" وباستبداد \"امرائها\" وفسادهم عن جوهر‬ ‫الرسالة وتكاليفها وصاروا عبيد العجل الذهبي ومن ثم عبيدا لأصحابه‪.‬‬‫وما كان ضمنيا خلال العصور الماضية أصبح الآن علنيا وهو السر الذي افتضح نهائيا منذ‬ ‫ثورة الشباب وخاصة منذ ما حصل أخيرا بين أنظمة العرب بصنفيها‪.‬‬‫فالأنظمة القبلية هي التي بيدها \"العجل الذهبي\" والتبعية المطلقة لأصحابه وهي التي‬ ‫تمول الأنظمة العسكرية التي جاهرت بحربها الدائمة على الإسلام‪.‬‬‫صحيح أني بدأت القراءة الفلسفية للقرآن ‪-‬الجلي في التفسير‪ -‬منذ ‪ 2004‬في ماليزيا‬ ‫ولم يكن الربيع قد بدأ بعد‪ .‬لكن ما أصفه فضحه الربيع ولم يوجده‪.‬‬‫وإذا كنت أقر للإخوان بفضل على غيرهم من الإسلاميين فلأنهم ‪-‬رغم الكثير من‬ ‫الأخطاء‪-‬مدركون بضرورة استعادة الإسلام استراتيجيته في سياسة العالم‪.‬‬‫والامر الوحيد الذي أسمح لنفسي بلومهم عليه هو أنهم يريدون ذلك بمنطق تصور‬ ‫متخلف للسياسي تربية وحكما ورثناه عما وصفت من علوم وأعمال زائفة‪.‬‬‫وفي ذلك بينهم وبين التشيع شبه كريه لا يليق بمن يفهم الفرق بين الرؤيتين للسياسي‪.‬‬ ‫لذلك خصصت عدة فصول لنظرية الدولة في مدرسة فلسفتنا النقدية‪.‬‬ ‫‪31 2‬‬

‫ورغم ما أعيبه على الاخوان فإن قربهم من حقيقة الرسالة الخاتمة تجعلني افهم حرب‬ ‫جميع الإسلاميين وخاصة الانظمة التي تدعي الحكم بالإسلام عليهم‪.‬‬‫ما يجري اليوم وما كان قادحه ثورة الشباب التي تبدو بدوافع حداثية (الحريات‬ ‫والحقوق) هو سعي أعداء الإسلام منعه من العودة للفعل التاريخي بقيمه‪.‬‬‫فقيمه ليست ما حددته العلوم والأعمال الزائفة كما بينت بل هي القيم الكونية التي‬ ‫تحقق شروط التعمير بقيم الاستخلاف الكونية وقيم وجود الإنسان‪.‬‬‫فالقرآن كما بينا لم يفصل بين الدين (عبادات) والدنيا(معاملات) بل جعل آدم وأبناءه‬ ‫خلفاء بمعنى تكليفهم بتعمير الارض امتحانا لأهلية الاستخلاف‪.‬‬‫ما يحاسبهم ربهم عليه هو أهلية الاستخلاف‪ :‬والإنسان استخلف وكلف بتعمير الأرض‬ ‫(استعمركم في الأرض) عملا في امتحان لأهليته في الخلافة لا غير‪.‬‬‫والقصة الرمزية في مشهد الاستخلاف وفي مشهد عصيان ابليس للأمر بالسجود مداره‬ ‫واحد‪ :‬هل الإنسان الذي استخلفه الله جدير بذلك أم لا؟ فكان الاختبار‪.‬‬‫لكن أصحاب العلوم والاعمال الزائفة غفلوا عن ذلك فصار الدين بورصة نوافل وربا‬ ‫موجبا للحسنات وسالبا للسيئات وأبقوا العالم لسلطان العجل الذهبي‪.‬‬‫لم تقلب فصلت ‪ 53‬وآل عمران ‪ 7‬وحدهما بل قلب الإسلام كله راسا على عقب فآل الأمر‬ ‫إلى ذل وانحطاط لا يجدر بأي إنسان فضلا عن الشاهدين عن العالمين‪.‬‬‫وحان الوقت لأشرح النظريات التي وضعتها لبيان دلالة السلطان المطلق الذي أصبح بيد‬ ‫اصحاب دين العجل الذهبي في العالم بما في ذلك بين المسلمين‪.‬‬‫والنظريات لا تتعلق بـمضمون \"دين العجل الذهبي\"‪ .‬فهذا المضمون حدده القرآن بكل‬ ‫وضوح‪ .‬موضوعها‪ :‬هو الادوات التي تمكن هذا الدين من حكم العالم‪.‬‬‫ذلك أنه لا يمكن لدين أقلي في العالم إن أخذناه بصورته الدينية العلنية أن يصبح‬ ‫مسيطرا على العالم بكامله لو لم يكن أصحابه قد اكتشفوا السر‪.‬‬‫ما وضعته من محاولات نظرية هدفها بيان هذا السر وآلياته وطبعا فهي آليات تتعلق‬ ‫بالذوق والعلم آليتي التأثير في بعدي الإنسان البدني والروحي‪.‬‬ ‫‪31 3‬‬

‫وهي متعدية فتسيطر على الطبيعة والتاريخ لأن آليات سيطرة أصحاب العجل الذهبي‬ ‫تكون بالسيطرة على فاعلية الابداعين الذوقي والعلمي المؤثرين فيهما‪.‬‬‫فإذا اكتشفنا آليات السيطرة على الطبيعة والتاريخ أي الذوق والعلم وآليات السيطرة‬ ‫على أصحابها أي المبدعين فيهما وترجمتها السياسية‪ ،‬بان السر‪.‬‬‫تلك هي سلسلة الاكتشافات التي مكن الله من بيان تشاجنها وتشابكها في حكم اصحاب‬ ‫العجل الذهبي للعالم ومنه المسلمون منذ بداية حالة الطوارئ‪.‬‬‫وحالة الطوارئ كما هو معلوم مما سبق من المحاولات هي الحالة القانونية والخلقية للأمة‬ ‫منذ الفتنة الكبرى والحروب الأهلية التي تلتها إلى اليوم‪.‬‬‫وضعت أولا نظرية \"المعادلة الوجودية\"‪ :‬الله والطبيعة والتاريخ والإنسان\" والتواصل‬ ‫المباشر بين الأول والاخير ثم غير المباشر بتوسط الثاني والثالث‪.‬‬‫ثم نظرية مقومات الإنسان‪ :‬الإرادة والعلم والقدرة والحياة الوجود وبينت العلاقة بين‬ ‫الأول والاخير وبين الثاني والرابع والقلب هو الأصل والغاية‪.‬‬‫ويناظر هذه الصفات نخب الممثلة لها في الجماعة‪ :‬الساسة والعلماء والاقتصاديون‬ ‫والفنانون واصحاب الرؤى الدينية والفلسفية‪ .‬ومناظرة القلبين مهمة‪.‬‬‫أصحاب القدرة هم أصحاب الاقتصاد‪ .‬ورأينا أن الاقتصاد الذي يمثل القدرة عند الفرد‬ ‫والجماعة هو المحور الاساسي فيهما اصلا وحيدا إما للخير أو للشر‪.‬‬‫وحينئذ بينا أن أصحاب القدرة يستبعون الأول والأخير الذين يستتبعون الثاني والرابع‬ ‫فيصبح السلطان ظاهره سياسي رؤيوي وأداته العلم والذوق‪.‬‬‫صاحب السلطان الفعلي خفي لأنه الباطن هو صاحب القدرة أي الاقتصاد‪ .‬وإذن فطبيعيا‬ ‫الاقتصاد كأداة شر في العجل الذهبي وكأداة خير في الإسلام‪.‬‬‫الحرب ليست بين حقيقتين للاقتصاد بل بين توظيفين سياسيين وخلقيين للاقتصاد‪.‬‬ ‫فالإسلام يحمي الثروة وانتاجها لكنه يرفض تحويله إلى أداة استعباد‪.‬‬‫والاقتصاد لا يتحول إلى أداة استعباد مباشرة بل باستعماله للسيطرة على أصحاب‬ ‫السياسة والرؤى بتوسط سيطرتهم على أصحاب العلم والذوق‪ .‬فما أصلهما؟‬ ‫‪31 4‬‬

‫ولكن قبل الجواب ينبغي أن نسأل‪ :‬لماذا كان الاقتصاد ممثلا للقدرة ولماذا هو الأصل في‬ ‫الخير أو في الشر؟ لماذا يستطيع السيطرة على السياسة والرؤى‪.‬‬‫ولماذا هؤلاء يستطيعون السيطرة على العلم والذوق أو العلماء والفنانين في كل‬ ‫الجماعات وبهؤلاء الاربعة يسيطر المال على البشر‪ :‬العجل الذهبي؟‬‫ما يحول دون تتبع هذه العلاقات المتراكبة والتي بينا تواليها في الفاعلية التي تؤدي إلى‬ ‫سلطان العجل الذهبي بصورة طبيعية هو طبيعة أدوات فعلها‪.‬‬‫لذلك فالوصول إلى هذه الادوات هو المرحلة الأعسر التي كان علينا اكتشاف مقوماتها في‬ ‫شروط التواصل في كيان الإنسان وفي كيان الجماعات البشرية‪.‬‬‫ففي كيان الإنسان نجد حاجة طبيعية لتموينين أحدهما طبيعي (غذاء البدن) والثاني‬ ‫ثقافي (غذاء الروح) وتبعية الأول للثاني قدرة والثاني للأول ثمرة‪.‬‬‫فلا قيام لبدن الفرد من دون غذاء مادي يدين به لعلاقة عمودية (جماعة طبيعة) ولا‬ ‫قيام لروحه من دون غذاء روحي يدين به لعلاقة أفقية (إنسان انسان)‪.‬‬‫فإذا اكتشفنا شرط إمكان العلاقة الأولى والعلاقة الثانية أمكن أن نكتشف الأداتين‬ ‫المطلقتين في العلاقتين وشرط سلطان الإنسان على الإنسان‪.‬‬‫واكتشاف السر أفهمني علة تقدم الغذاء الروحي (الذوق والعلم) على الغذاء المادي‬ ‫(الغذاء والصحة) بالفاعلية التاريخية رغم العكس بالفاعلية العضوية‪.‬‬ ‫ما هي الاداة المطلقة التي تمثل شرط الانتاج المادي؟ التبادل‪.‬‬ ‫وماهي الأداة المطلقة التي تمثل شرط الانتاج الرمزي؟ التواصل‪.‬‬ ‫والثاني شرط الأول‪.‬‬‫لكن تقدم التواصل على التبادل تقدم الشرط على المشروط لا يتعلق بالفاعلية التاريخية‬ ‫إلى إذا تحققت الفاعلية الطبيعية‪ :‬التبادل شرط حياة وبقاء‪.‬‬‫ولذلك فهو الذي يوظف التواصل الشارط لحياته وبقائه وليس العكس‪ .‬فيكون كل‬ ‫المشكل هو توظيف شرط الحياة أي التبادل لشروط التواصل في الخير أو في الشر‪.‬‬ ‫‪31 5‬‬

‫فيكون الإنتاج المادي للثروة موظفا للإنتاج الرمزي للتراث في الخير او الشر وهما‬ ‫الغذاءان في كل ثقافة أولهما للبدن خاصة والثاني للروحي خاصة‪.‬‬‫لكن هذا التوظيف ينبغي أن يصبح أداة يسيرة الاستعمال لأن الثروة والتراث جهازان‬ ‫ثقيلان لا يمكنان من توظيف الإنتاجين في الخير والشر بما نراه‪.‬‬‫وهنا كان الاكتشاف النهائي‪ :‬نظرة الفاعلية الرمزية هي الأصل في الحالتين‪ .‬ففاعلية‬ ‫التبادل الرمزية هي فاعلية الثروة برمزها‪ :‬إنها فاعلية العملة‪.‬‬‫وفاعلية التراث الرمزية هي فاعلية التراث برمزه‪ :‬إنها فاعلية الكلمة‪ :‬أداتان للفاعلية‬ ‫برمز يمثل الثروة وبرمز يمثل التراث في الجماعات وبينها‪.‬‬‫وقد سميت رمز الثروة برمز الفاعلية‪ :‬العملة‪ .‬وسميت رمز التراث بفاعلية الرمز‪:‬‬ ‫الكلمة‪ .‬وبهما يسيطر دين العجل على العالم بجهاز البنك والاعلام‪.‬‬ ‫‪31 6‬‬

‫وصلنا في الفصل الأول إلى الرمزين المطلقين لأنهما شرطا تبادل وتواصل قادرين على‬ ‫تحقيق مقومي الانسان بأفضل صورة‪ :‬العملة للتبادل والكلمة للتواصل‪.‬‬‫نعم يمكن للإنسان أن يتواصل بالإشارة وأن يتبادل بالمقايضة‪ .‬لكن ذلك لن يحقق له‬ ‫أفضل الطرق لتكوين الثروة والتراث شرطي الحرية السياسية والروحية‪.‬‬‫المشكل أن الأداتين المطلقتين يمكن أن تصبحا أداتين للعبودية‪ .‬فبهما يتحرر الإنسان‬ ‫وبهما يستعبد‪:‬‬ ‫‪ .1‬مطلوب الدين القويم‪.‬‬ ‫‪ .2‬مطلوب الدين المحرف‪.‬‬‫وكل التاريخ الإنساني سواء قرئ قراءة دينية أو فلسفية يظل معركة مادية ورمزية‬ ‫حول الوظيفة التي تليق بالإنسان وعليه تحقيقها بهذين الأداتين‪.‬‬‫والاسم الشعبي لهذه المعركة (نسيج التاريخ الإنساني الروحي والمادي) هي معركة‬ ‫الخير والشر‪ .‬وهي تسمية عامية لعدم خلو الصفين منهما وجودا وتوظيفا‪.‬‬‫فإذا كان الله لم يلغ الشر بل أبقى عليه في المخلوقات ولم يكن عاجزا عن إلغائه لا بد‬‫أن فيه حكمة لعل أفضل تبرير إلهي لها في المائدة ‪ .48‬فالآية تبرر تعدد الشرعات‬‫والأديان بكونهما شرط التسابق في الخيرات‪ .‬ومعنى ذلك أن الشر ليس عدما بل هو‬ ‫تحريف السعي للخير‪ :‬عبادة العجل دين محرف‪.‬‬‫وإذن ففيه شيء مما يطلبه الدين‪ :‬الذهب هو رمز العملة إلى الآن رغم سيطرة الدولار‪.‬‬ ‫عبادة الذهب فيها تحريف لتعمير الدنيا التي بإلغاء قيم الاستخلاف‪.‬‬‫فعبادة العجل تحريف بنفي ما يتعالى فوق الدنيا وعبادة العدم الصوفي تحريف ينفي ما‬ ‫يتدانى دون الآخرة‪ :‬أداة الأول بلا غاية‪ .‬وغاية الثاني بلا أداة‪.‬‬‫والإنسان في الانثروبولوجيا القرآنية تحدد منزلته في المعادلة الوجودية بكونه قطبا ثانيا‬ ‫يتواصل مع الله قطبا أولا بالتعمير بقيم الاستخلاف‪.‬‬ ‫‪31 7‬‬

‫وإذن فعابد العجل الذهبي اكتفى بوهم التعمير من دون قيم الاستخلاف وعابد العدم‬ ‫اكتفى بوهم قيم الاستخلاف من دون التعمير‪ :‬كلاهما تحريف للإسلام‪.‬‬‫ولهذه العلة فلا يعجبن أحد من الحلف الدائم بين الباطنية المتنكرة في كذبة الإخلاد إلى‬ ‫السماء والصهيونية المتنكرة في تفوق الإخلاد إلى الأرض‪.‬‬‫حقيقتهما هي عبادة العجل الذهبي المحارب دائما للديني في كل دين أي للإسلام لأنه هو‬ ‫الديني في كل دين منذ بدء الخليقة عند كل من يؤمن بالقرآن‪.‬‬‫لن أطيل الكلام في هذا الحلف سواء تمثل في باطنية بشكل دولة تدعي حب آل البيت أو‬ ‫بشكل جماعة تدعي التمحض للعبادة‪ :‬كلاهما يحالف دين العجل ويخدمه‪.‬‬‫يكفي أن أضيف أن جل حكام العرب ونخبهم من النوعين الذي يدعي التأصيل والذي‬ ‫يدعي التحديث هم أيضا حلفاء لأصحاب دين العجل وهم في خدمتهم دائما‪.‬‬‫ولأمر إلى الأهم‪ :‬هل ما أقدمه شبيه بالقول بالإعجاز العلمي؟ أم هو نقيضه التام؟‬ ‫القائلون بالإعجاز العلمي يغصبون دلالات القرآن بتأويل ألفاظه‪.‬‬‫فيأخذون مكتشفات العلماء الذي جاهدوا كل حياتهم واجتهدوا ليتوصلوا إليها بالبحث‬ ‫العلمي أي بجهد الإنسانية كلها فيزعمون اكتشافها في كلمات القرآن‪.‬‬‫وهي تكملة لقلب فصلت ‪ 53‬وللجرأة على آل عمران ‪ 7‬زاعمين أن القرآن يكشف الغيب‬ ‫فيجعلون التفسير البعدي مغنيا عن البحث القبلي‪ :‬استخلاف دون تعمير‪.‬‬‫وإذن فالقائلون بالإعجاز العلمي محرفون لما طلبه القرآن لمعرفة حقيقته ولما حرمه من‬ ‫توهم الرسوخ في العلم قادرا على تأويل المتشابه مثل الله‪.‬‬‫والغيب ليس الغائب‪ .‬فالغائب الآن يمكن أن يحضر غدا‪ .‬والغيب محجوب بإطلاق وهو‬ ‫موجود في عالم الشهادة والدنيا ولا يعمل إلا في الأخرى بالبصر الحديد‪.‬‬‫والغائب كذلك لا يمكن أن يعلم بقيسه على الشاهد‪ .‬نعم مفهوم القانون العلمي يقتضي‬ ‫الاطراد‪ .‬لكن القبلي منه فرضي والبعدي منه تجريبي‪ .‬الاطراد نسبي‪.‬‬‫إذا أطلقناه وجعلناه مبدأ منهجيا لم يبق فرضيا في القبلي وتجريبيا في البعد بل يصبح‬ ‫علة كل أخطاء العلوم الزائفة‪ :‬تعميم غير مؤسس لا قبل ولا بعد‪.‬‬ ‫‪31 8‬‬

‫طرد العالم القبلي مشروط بكونه فرضيا وطرده البعدي مشروط بكونه تجريبيا‪ .‬كلاهما‬ ‫قبل التجريب أو بعد التجريب علم نسبي لا يليق بالقرآن‪.‬‬‫فما طبيعة ما نستمده من القرآن إذن ليس علما بمعنى العلم الإنساني الذي يتحقق‬ ‫بالبحث العلمي العيني بل هو تحديد غايات وجود الإنسان وأداته‪.‬‬‫وغايات الوجود الإنساني تحقيق كيانه بالاستعمار في الارض والاستخلاف فيها بالتعالم‬ ‫مع أحياز وجوده‪ :‬المكان والزمان وثمرة تفاعليهما وأصلها جميعا‪.‬‬‫وهذه كلها تمثل شروط الانطلاق في البحث العلمي والذوقي اللذين هما أداتا تحقيق‬ ‫كيان الإنسان في العلاقة المضاعفة بين البشر ثم بينهم والاحياز‪.‬‬‫ومع العلم نظرية المعرفة العلمية ومع الذوق نظرية المعرفة الذوقية وبهما يعمل لعلاج‬ ‫العلاقتين بالطبيعة والتاريخ(الاحياز)في الداخل والخارج‪.‬‬‫البحث عن اعجاز علمي في القرآن مفاده هو دعوى عدم الحاجة للبحث العلمي إذ يكفي‬ ‫شرح الالفاظ لمعرفة الحقيقة العلمية حول الطبائع والشرائع‪.‬‬‫هل يكفي تعلم العربية وانتظار الحضارات الأخرى التي تبحث لتعطينا القوانين ثم‬ ‫نذهب إلى القرآن ونغصب لغته حتى نجد فيها ما جاهد غيرنا لاكتشافه‪.‬‬‫تلك ثمرات العلم الزائف ودعوى وراثة الأنبياء رغم أن الرسول الخاتم نفي كل إمكانية‬ ‫لعمل الغيب‪ :‬لو كان في القرآن علما بالغيب لعلمه الرسول‪.‬‬‫الخلط بين الغيب والغائب من سخافات من حرف فصلت ‪ 53‬وتجرأ على آل عمران ‪7‬‬ ‫ليدعي الرسوخ في العلم ويزعم أن الرسوخ إحاطة بالغيب في المتشابه‪.‬‬‫والغريب أن هذا الخطأ لم يقتصر على المتكلمين والفقهاء فحتى الفلاسفة القائلون‬ ‫بنظرية المعرفة المطابقة (علم الشيء على ما هو عليه) وقعوا فيه‪.‬‬‫ولا وجود لعلم محيط بالموضوع بعد علم الله‪ .‬علم الإنساني نسبي دائما ولاوجود للعلم‬ ‫إنساني نهائي‪ .‬قد تصبح كل علومنا الحالية حالات خاصة نتجاوزها‪.‬‬‫والاستثناء الوحيد لا يتعلق بعلم الموجودات بل بالمقدرات الذهنية‪ .‬فهي ليست علوما‬ ‫بموضوع بل إبداع لموضوع ولعمله من جنس الإبداع الأدبي‪.‬‬ ‫‪31 9‬‬

‫ولهذه العلة فما يسمى بالأدب الواقعي أو أدب الترجمات الذاتية ليس أدبا اصلا بل هو‬ ‫شبه تاريخ خال من المنهجية التاريخية‪ :‬ليس علما وليس أدبا‪.‬‬‫ليس علما لأنه تاريخ مزيف لفقدانه شروط الكتابة التاريخية وليس أدبا لأن له‬ ‫مرجعيات عينية ذات وجود خارجي ولم يبدع موضوعاته كالتقدير الذهني‪.‬‬‫وقد سبقني إلى هذا الحكم أكبر شعراء اليونان عندما قال‪-‬كما روى ذلك أرسطو في كتاب‬ ‫الشعر‪-‬الشعر لا يبدأ إلا بعد أن يتجاوز الشاعر الكلام على نفسه‪.‬‬‫وقياسا عليه فإن الرواية التي تترجم لذات الروائي أو التي تسمى أدبا واقعيا ليس أدبا‬ ‫بل هي حكاية لأحوال نفس الروائي خالية من مقومي الأدبية‪.‬‬‫انهي الاستطراد وأعود لموضوعي‪ :‬كيف يمكن رمز الفعل (العملة) وفعل الرمز (الكلمة)‬ ‫دين العجل الذهبي من السيطرة على العالم بالسيطرة على نخبه؟‬‫هنا يكمن سر العبودية المادية والروحية الناتجة عن العولمة بمنطق العجل الذهبي‪:‬‬ ‫النظام البنكي والنظام الإعلامي هدفهما الأول والأخير العبودية‪.‬‬‫والنظام البنكي يعمل برمز الفعل (العملة) والنظام الإعلامي يعمل بفعل الرمز‬ ‫(الكلمة)‪ .‬فالاقتصاد والإعلام الليبراليين هما اداتا الاستعباد‪.‬‬‫مباشرة سيتهمني كل الليبراليين بأني ضد الحرية‪ :‬حرية السوق وحرية الإعلام‪ .‬وطبعا‬ ‫فهم يتجاهلون ممارسة الحريتين بمنطق التاريخ الطبيعي في العولمة‪.‬‬‫فهو منطق الصراع الدائم الذي يكون فيه السلطان لصاحب القوة المادية والرمزية‬ ‫فيكون ما يسمى حرية في الحالتين هو النقيض التام للحرية‪ .‬ولكن كيف؟‬ ‫ما هو سر قوة الاقتصاد الحر؟‬‫إنه سر ذو وجهين‪ :‬البنك يجعل عوامل الإنتاج المادي الخمسة خاضعة للبنك‪ :‬الفكرة‬ ‫والمال والاستهلاك والعمل والإدارة‪.‬‬‫كلهم يتوهمون أنفسهم أحرارا وهم في الحقيقة مرهونون لدى البنك الذي يمكن أن ينزع‬ ‫عنهم أداة حريتهم التي يستمدونها من شروط سد الحاجة لديهم‪.‬‬ ‫‪31 10‬‬

‫يمكن للبنك أن يخرجك من بيتك الذي اشتريته بقرض‪ .‬وهلم جرا‪ .‬فلا بد لمن يتوهمون‬ ‫أنفسهم أحرارا ان يبقوا مطيعين للبنك فكل المستقبل مقابل القرض‪.‬‬ ‫هذا أولا‪.‬‬‫الثاني أخطر رغم أنه ينتج عن الاول‪ :‬فالتنافس بين المؤسسات الاقتصادية يجعلها في‬ ‫حرب دائمة إما قاتل أو مقتول وذابح الجميع هو البنك‪.‬‬‫الاقتصاد الليبرالي ليس اقتصاد حرية بل اقتصاد عبودية‪ .‬حريته هي حرية المتصارعين‬ ‫في ملاعب الصراع الروماني‪ :‬السادة يتفرجون على تقاتل العبيد‪.‬‬ ‫ولهذه العبودية مستويان‪:‬‬ ‫‪ .1‬ما وصفت حتى لدى البلاد المتقدمة‪.‬‬‫‪ .2‬اشد وآلم‪ :‬مساعدة للفقراء إما بالمال أو بنقل صناعاتهم لبلدانهم‪ .‬عبودية‬ ‫مضاعفة‪.‬‬ ‫وليكن مثالنا الهند أو الصين‪ :‬فهما يبدوان ناجحين اقتصاديا‪ .‬لكن ما السر؟‬ ‫أنهما تبنتا عبودية الاقتصاد الحر في الغرب وفي الشرق‪ :‬علة نقل المعامل‪.‬‬‫فالمعامل التي تنقل إلى الهند مثلا ليس حبا فيهم بل طلبا للعمل الرخيص وتحررا من‬ ‫التكنولوجيا المتخلفة التي لم تعد قوانينهم تسمح بتلويثها‪.‬‬‫أما المساعدات فبين أنها رهن للعباد والبلاد وتبعية دائمة لمن يعطيك بعض ما يسرق‬ ‫منك ويجعلك تتوهم أنه صاحب فضل عليك‪ :‬حيلة اقتصاد الحرية‪.‬‬‫أمر إلى اعلام الحرية أو حرية الإعلام‪ .‬كل ما قلته عن اقتصاد الحرية يصح عليه لأن‬ ‫الإعلام أحد أبعاد الاقتصاد لكونه خدمة ولكونه أداة تسويق‪.‬‬‫لكن له ما للاقتصاد من منطق والفرق أنه لا يتعلق بالتأثير المادي بل بالتأثير الروحي‪.‬‬ ‫الاقتصاد يستعبد الإنسان بسلطانه على بحاجات بدنه أساسا‪.‬‬‫والإعلام يستعبده بسبب سلطانه على حاجات روحه‪ .‬فهو أداة الأقوياء للسيطرة على‬ ‫حاجة الضعفاء الروحية كالاقتصاد للسيطرة على حاجة الضعفاء البدنية‪.‬‬ ‫‪31 11‬‬

‫تلك هي الليبرالية‪ .‬لكنها تضيفا بعدا آخر أدهى وأمر‪ :‬حرية الفرد الخلقية‪ .‬وهي أم‬ ‫الأكاذيب في خدمة العبوديتين‪ .‬فبها تكتمل العبودية لتصبح مطلقة‪.‬‬‫فالحرية الخلقية المزعومة هي التي تجعل الإنسان نفسه مجرد بضاعة‪ :‬حرية المرأة‬ ‫وحرية الرجل تعني أن كيانهما نفسه بدنيا وروحيا بضاعة وخدمة‪.‬‬‫وهنا نصل إلى بيت القصيد‪ :‬العبودية المطلقة هي حرية التصرف في البدن والروح في‬ ‫المجالين السوقي والإعلامي‪ :‬الجسد بضاعة والروح خدمة‪.‬‬‫وكلاهما أداة المخابرات التي تحمي سلطان أصحاب البنك وأصحاب الإعلام‪ :‬المرأة ببدنها‬ ‫أو فكرها طعم للرجل ببدنه أو فكره ليكون عميل مخابرات‪.‬‬ ‫‪31 12‬‬

‫ونصل إلى الفصل الثالث وهو قلب المعادلة في كلامي في سلطان العجل الذهبي على العالم‬ ‫وهو سلطان مضاعف على المسلمين‪ :‬عبيده المحليون والعالميون‪.‬‬‫المسلمون عامة والعرب خاصة عبيد مرتين بأبدانهم وأرواحهم للعبيد المحليين حكاما ونخبا‬ ‫الذين هم عبيد للعبودية العالمية لدى الأقوياء وذراعيهما‪.‬‬‫وليس أذل من أمة يحكمها عبيد العبيد رغم أن دينها من البداية عالج هذا الوضعية‬ ‫عندما بين أن اصحاب العجل الذهبي أرادوا تقليد من كان يستعبدهم‪.‬‬‫أهل موسى رفضوا رسالته وحرفوها بدين العجل الذهبي ليكونوا مثل المصريين بعودة‬ ‫إلى نظام العبودية الفرعوني‪ .‬والمسلمون صاروا عبيدا بنفس المنطق‪.‬‬‫نحن اليوم في وضعية بني إسرائيل دون أن نكون مثلهم صانعي هذا الدين لأنهم صنعوه‬ ‫ليكونوا فراعنة العالم ونحن أخذناه لنكون عبيد عبيدهم‪.‬‬‫هزيمتنا الأولى ليست سياسية ولا عسكرية بل هي اساسا روحية‪ :‬صرنا أكثر المتشددين‬ ‫في الحرب الإسلام من كل أعدائه في المعمورة وأدوات لأشرسهم‪.‬‬‫وطبعا فأدعياء الحداثة والأصالة لا تهمهم هذه الحقائق‪ .‬فحمقهم يعميهم عن ثورة‬ ‫المدرسة النقدية وعن دور ابن تيمية أكبر فلاسفة الوسيط والقديم‪.‬‬‫فالتمييز بين العلم الكلي والضروري للمقدرات الذهنية حصرا فيه والعلم الجزئي‬ ‫والإحصائي للموجودات الخارجية من أكبر ثورات العقل الإنسان واثراها‪.‬‬‫صحيح أن ابن تيمية لم يربط علم المقدرات الذهنية بالذوق والفن لكنه ربط بين علم‬ ‫الموجودات الخارجة والعلم‪ .‬اكتشف النوعين ولم يحدد طبيعة الفرق‪.‬‬‫فاضطررت لوضع نظرية الذوق والعلم وأصلهما الواحد في مدارك الإنسان الحسية‬ ‫والحدسية مع فرق التلقيين الذوقي والمعرفي والابداعين الجمالي والعلمي‪.‬‬‫وهذا التمييز التيمي هو الذي يمكن من فهم العلاقة بين الحرية والعبودية في نظام‬ ‫العالم الحديث‪ :‬فلا محرر من العبودية للعباد إلا العبودية لربهم‪.‬‬ ‫‪31 13‬‬

‫والعبودية للعباد تكون بتوسط سلطانهم على ما يسد حاجتهم المادية والروحية أي حاجة‬ ‫البدن الاقتصاد وحاجة الروح الثقافة بتوظيف الثروة والتراث‪.‬‬‫وإذن فالحرب على الحريتين المادية والروحية هي عينها الحرب على الإسلام لأنه هو‬ ‫الذي جعل الرسالة تدور حولهما وألغى مؤسستي العبودية لغير الله‪.‬‬‫ألغى سلطان الكنسية الذي عوضه سلطان الاعلام‪ .‬وألغى سلطان الحاكم بالحق الإلهي‬ ‫أو الوصية الذي عوضه سلطان الحاكم بالحق الطبيعي او الوصاية‪.‬‬‫كاريكاتور التحديث بفهمه المحرف لقيم الحداثة وكاريكاتور التأصيل بفهمه المحرف لقيم‬ ‫الأصالة كلاهما معاد للإسلام لتمثيلهم العبودية للعباد‪.‬‬‫وكل الحكام العرب بصنفيهم القبلي والعسكر ونخبهم هم من هذين الصنفين‪ :‬كلهم عبيد‬ ‫لسيد يحمي استبدادهم وحربهم على الإسلام الذي تؤمن به شعوبهم‪.‬‬‫فكلهم يحكمهم منطق ملوك الطوائف‪ :‬يستمد من الأعداء للبقاء دون مقابل التنازل عن‬ ‫شروط سيادة الأمة بعبودية مطلقة لرب القوة المادية والرمزية‪.‬‬‫وربهما هو المتحكم في رمز الفعل(العملة) وفي فعل الرمز(الكلمة)أي البنوك سيدة‬ ‫الابداع المادي والإعلام سيد الإبداع الرمزي‪ .‬والأولى توظف الثانية‪.‬‬‫وهذا هو دين العجل الذهبي الذي هو النقيض التام للديني في كل دين الذي هو الإسلام‬ ‫كما يحدده القرآن بعلوم لم يزيفها قلب فصلت وتحدي آل عمران‪.‬‬‫لا أنكر أن للحرب على الإسلام عللا تاريخية (بين الغرب والشرق) ومصلحية (بين‬ ‫الاستعمار والشعوب) لكن ذلك محكوم لما يتجاوزه أعني بالأحياز الخمسة‪.‬‬‫والأحياز الخمسة تحكم التاريخي والمصلحي بالجوار وبما لاقتسامها من دور في شرطي قيام‬ ‫الوجود الإنساني أعني غذاء البدن وغذاء الروح في الجماعة‪.‬‬‫فوجود الإسلام في قلب المعمورة وانتشاره فيها يجعله جارا لكل من يعاديه ومطموعا فيه‬ ‫من كل ما يحسده على ما يحوز عليه من احياز الوجود الخمسة‪.‬‬‫علة الحرب عليه يتطابق فيها المحدد التاريخي والمصلحي والمحدد المتعالي عليهما باعتباره‬ ‫ثمرة الاحياز الخمسة وهي دليل على دور قيمه الكونية‪.‬‬ ‫‪31 14‬‬

‫فما كان للأجوار أن يطمعوا فيما لديه وأن يحاربوه لو كانت قيمه تشاركهم ما بنوا عليه‬ ‫حضارة التحيل وتسمية العبوديتين حريتين في نظام العولمة‪.‬‬‫وإذا أردت أن تعرف مَن مِن المسلمين يحارب قيم الإسلام الكونية بأفق النساء‬ ‫‪1‬والحجرات ‪ 13‬وبمنطق التصديق والهيمنة فانظر تجارته‪ :‬فضلات العبوديتين‪.‬‬‫وهي تجارة تابعة لأنه يكون تابعا للبنوك الربوية ذات السلطان دون سلطان وللصحافة‬ ‫المخابراتية ذات السلطان دون سلطان‪ :‬فهو عبد لسادة العبوديتين‪.‬‬‫ولهذا فجل الانظمة بصنفيها القبلي والعسكري والنخب العربية بصنفيها التحديثي‬ ‫والتأصيل توابع وعبيد لسادة عمموا العبودتين في العالم‪ :‬العولمة‪.‬‬ ‫وبذلك تجد الإسلام محاربا من الداخل والخارج‪ .‬ومع ذلك فهو سينتصر لعلتين‪:‬‬ ‫‪ .1‬جل شباب العالم ومفكريه فهموا الخدعتين‪.‬‬ ‫‪ .2‬والإسلام ليس دعوة عزلاء‪.‬‬‫فهو دعوة مجاهدة لا تكتفي بالاجتهاد الفكري بل هي تحقق ما يقتضيه الاجتهاد الفكري‬ ‫بالجهاد العلمي والذوقي المحققين لشروط التعمير بقيم الاستخلاف‪.‬‬‫صحيح أن المسلمين الآن عاجزون عن تحقيق شروط التحدي الذي يضعه الإسلام أمام‬ ‫المؤمنين به‪ :‬فالشهادة على العالمين هي التحدي الأكبر وشروطه موضوعنا‪.‬‬‫وأول شروط الخروج من العجز هو استعادة وحدة أحياز الأمة‪ :‬جغرافيتها شرط ثروتها‬ ‫القادرة وتاريخها شرط تراثها القادر ومرجعيتها شرط كل الشروط‪.‬‬‫فتوحيد جغرافية الامة (دار الإسلام) لا يعني إلغاء الشكل الحالي لتعدد الدول بل‬ ‫بالعكس ففيه ثراء لأن كل جماعة تنمي حيزها بل إضافة شرط سيادتها‪.‬‬‫فولايات أمريكا المتحدة لا تنقصها القوة لكنها تطلب المزيد ليكون المجموع قوة عظمى‬ ‫ذات سيادة بشروط العماليق لا الأقزام الذي يرضى بها العبيد‪.‬‬‫ومثلها تحاول أوروبا والكثير من مناطق العالم الذي لحكامها ونخبها عقل ورشد حتى‬ ‫يحافظوا على شروط الرعاية والحماية مقومي كل سيادة حرية وكرامة‪.‬‬ ‫‪31 15‬‬

‫لم يشذ إلّا المسلمون عامة والعرب خاصة‪ :‬كل قرد يقتطع قطعة من دار الإسلام ويدعي‬ ‫ملكيتها بحلف مع أعداء الأمة ليحموا استبداده وفساده وتبعيته‪.‬‬‫وحتى يضفوا الشرعية على هذا الفتات من دار الإسلام عامة ومن الوطن العربي خاصة‬ ‫تراهم يمزقون التاريخ المشترك فيصبح لها تاريخ متقدم عليه أو لاحق‪.‬‬‫فيفقدون شروط الإنتاج المادي وشروط الانتاج الرمزي فلا يكون لهم ثروة ولا تراث‬ ‫بل بالتدريج يصبحون مجرد قاعدة للأعداء تستورد قوتها مقابل عرضها‪.‬‬‫وتلك هي الاحياز الفرعية ولم يبق صامدا إلا الحيز الأصلي لها جميعا أصل الحصانة‬ ‫الروحية والمناعة المادية للأمة‪ :‬القرآن رسالة ومحمد قائدا‪.‬‬‫لذلك ركزوا الحرب عليهما‪ .‬وهي حرب داخلية وخارجية مادية بالقتال والتهديم ورمزية‬ ‫بالتشويه مستعملين الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي والذراعين‪.‬‬‫ولأن الإسلام قلبت كل قيمه علوم الملة وأعمالها الزائفة انحط المسلمون وظنوا أنه هو‬ ‫العلة وليست فهومه القاصرة فاخترقت الأمة بإصلاح عقيم‪.‬‬‫وتلك هي العلة التي جعلتني أنزل لميدان المعركة الذي يظنه أدعياء التحديث ممن لا‬ ‫علم لهم بأهم مقوماتها منافيا للفكر الفلسفي وهو غايته القصوى‪.‬‬‫فلا يوجد فيلسوف كبير لم يشفع عمله النظري بنظرية في العمل‪ ،‬ومن ثم فهو حتما ناظر‬ ‫في الواحد بين الديني والفلسفي أعني دور القيم في التاريخ‪.‬‬‫وفلسفة العمل واحدة في الفكرين الفلسفي والديني من حيث الغايات ومن حيث‬ ‫الأدوات‪ :‬فالغايات خلقية والأدوات سياسية‪ .‬وشرط التحقيق التربية والحكم‪.‬‬‫لست أبرر موقفي عند أدعياء التحديث حربا على الدين أو أدعياء التأصيل حربا على‬ ‫الفلسفة بل لأني اعتقد أن الصفين قاصرون على فهم العلاقة بينهما‪.‬‬‫هو درس لهم حتى يدركوا طبيعة العلاقة العميقة بين فلسفة العمل في الفلسفة وفلسفته‬ ‫في الدين‪ .‬وذلك منذ أفلاطون إلى آخر صيحات مدرسة فرنكفورت‪.‬‬‫إدراك ذلك مشروط بفلسفة النظر التي نرى أن كلا الصفين هم أبعد الناس عن فهمها‬ ‫بدليل موقفهم من الغزالي وابن تيمية وابن خلدون فلاسفة الأمة‪.‬‬ ‫‪31 16‬‬

‫وفلسفة النظر تألف من نظرية المعرفة ونظرية الوجود‪ .‬وقد حصلت فيها ثورتان عند‬ ‫فلاسفة المدرسة النقدية‪ :‬التحرر من المطابقة والقول بنسبية العلم‪.‬‬‫والثورتان لم تكتفيا بعموميات بل هي بدأت بنقد فلسفة النظر (التهافت) وفلسفة العمل‬ ‫(الفضائح) وبما ورائهما الإيديولوجي وتحرير النظر والعمل منه‪.‬‬‫والنتيجة الأعمق لهذه الثورة هو تغيير نظرية اللسان ووضع مبادئ الوسميات في‬ ‫محاولات ابن تيمية التي سأختم هذا الفصل بأهم نتيجة ترتبت عليها‪.‬‬‫تكلمت على ثورات ابن تيمية العديدة‪ .‬وسأكتفي بتمييزه علم المقدرات الذهنية بالكلية‬ ‫واليقينية عن علم الموجودات الخارجية عديمة الكلية واليقينية‪.‬‬‫وهذا التمييز غابت دلالته لأن قراءه لم يسألوا عن العلاقة بين النوعين‪ .‬فالثاني‬ ‫مستحيل من دون الأول والأول من دون الثاني إبداع رمزي خالص‪.‬‬‫فابن تيمية صريح بأن علم المقدرات الذهنية هو الرياضيات والمنطق‪ .‬هما شرط كل علم‬ ‫للموجودات الخارجية على الأقل كعلوم مساعدة أو أدوات علم‪.‬‬‫العلاقة الشرطية بين علم كلي ويقيني وعلم نسبي ولا يقيني تعني أن الثاني ليس فيه‬ ‫من العلمية إلا أمران‪ :‬ما يستمده من الأول وما يستمده من ذاته‪.‬‬‫فما يستمده من الأول هو قدر من الكلية واليقينية وما يستمده من الثاني هو قدر من‬ ‫المضمون الذي يستمده من تجربته للموضوع وخبرته بخصائصه الفعلية‪.‬‬‫فيكون ما يستمد من المقدرات الذهنية نموذج مجرد ليس فيه إلا بنية رياضية ومنطقية‬ ‫يصوغ بها العالم معطيات تجربته عن الموضوع قيسا عليها‪ :‬علم‪.‬‬‫وهذا هو التعريف الحديث للعلم‪ .‬لكن هذا التعريف الحديث مشروط باكتشاف ثان‪:‬‬ ‫معطيات التجربة لا تحيط بحقيقة الموضوع وصوغها يبقى دون النموذج يقينا‪.‬‬‫لذلك فالعلم دائم التجويد دون نهاية لأن كل تصور يوجد تصور أدق منه بلاحد بلغة‬ ‫ابن تيمية‪ .‬والنتيجة نظرية المطابقة لم تعد صالحة لأنها مستحيلة‪.‬‬ ‫فما العلم إذن إذا لم يكن \"معرفة الموضوع على ما هو عليه\"؟‬ ‫‪31 17‬‬

‫إنه المعرفة التي يتواضع العلماء على منهج الوصول إليها ومعايير التحقق منها في عصر‬ ‫ما‪.‬‬‫القوانين العلمية للموجودات الخارجية صيغ \"ما بين ذاتية\" تجمع بين الإبداع الرمزي‬ ‫الحر والاحتكام إلى التجربة لاختيار ما يناسب منها الوجود الخارجي‪.‬‬ ‫‪31 18‬‬

‫المشكل الذي أخصص له الفصل الرابع يبدو عجيبا‪ :‬كيف استطاع دين العجل الذهبي‬ ‫بالتحريف الناتج عن العلم والعمل المزيفين غزو فكر المسلمين ودارهم؟‬‫وبعبارة مقابلة‪ :‬كيف نكص المسلمون دون الحريتين الروحية والسياسية فأعادوا الكنسية‬ ‫والحق الإلهي في الحكم على أساس الوصية أو شرعية حكم المتغلب؟‬‫فالتحريف بشكلين شيعي وسني آل في حقيقته إلى دين العجل الذهبي لدى النخب‬ ‫بأصنافها الخمسة‪ :‬الساسة والعلماء والاقتصاديون والفنانون وأصحاب الرؤى‪.‬‬‫ولنجمع صيغتي السؤال‪ :‬كيف كان مسار الامة متنازلا من ذروة البداية إلى حضيض‬ ‫الغاية فصارت عزلاء فاقدة للسيادة لعجز انتاجيها المادي والرمزي؟‬‫والعجز في الإنتاجين أفقدها شروط الرعاية وشروط الحماية فتفككت جغرافيتها‬ ‫واضمحلت ثروتها وتشتت تاريخها وتحلل تراثها وبدأت الحرب على مرجعيتها‪.‬‬‫والأدهى هو أن ساستها وعلماءها واقتصادييها وفنانيها وأصحاب رؤاها بعضهما يدعي‬ ‫كاريكاتورا من الاصالة وبعضهم الآخر كاريكاتورا من الحداثة‪.‬‬‫فأصبحوا جميعا دون أن يشعروا معاول تهديم لشروط القيام المستقل لأن كلا منهما يظن‬ ‫كاريكاتور الثاني حقيقيا فيشعلون في الأمة حربا أهلية مدمرة‪.‬‬‫وهي حرب تعمي مدعي التأصيل عن فضائل الحداثة ومراجعتها لنفسها ومدعي التحديث‬ ‫عن فضائل الإسلام وإصلاحه الدائم‪ :‬كلاهما يحارب الفضائل منهما‪.‬‬‫ففكر الحداثة شرع في النقد الذاتي ليدرك ما وصفنا في الفصلين الاولين وفكر الإسلام‬ ‫شرع في النقد الذاتي منذ أن بين قبل فصلت ‪ 53‬وآل عمران ‪.7‬‬‫والمراجعة الإسلامية متقدمة على النقد الذاتي في فكر الحداثة بل وحتى على نشأته‬ ‫لأنها بدأت مع الغزالي وبلغت الذروة مع ابن تيمية وابن خلدون‪.‬‬‫الجواب عن هذه الأسئلة المحيرة يقتضي أن أذكر بثورتي الإسلام وبعلل النكوص منذ‬ ‫الفتنة الكبرى إلى الجاهليتين الفارسية(التشيع) والعربية (التسنن)‪.‬‬ ‫‪31 19‬‬

‫وهذا النكوص الذي سأبين خاصياته السياسية والفكرية يتعلق بتحريف نظرية الإسلام‬ ‫في بعدي السياسة عامة أي في سيطرة طاغوتين على التربية والحكم‪.‬‬‫والرمز هو عادة ولاية الأمر ببعديها‪ :‬العلماء كسلطة طاغوتية أفسدت التربية بالعلم‬ ‫الزائف والأمراء كسلطة طاغوتية أفسدت الحكم بالعمل الزائف‪.‬‬‫وبهذا المعنى فثورة المدرسة النقدية بين نهاية القرن الخامس(الغزالي) ونهاية القرن‬ ‫الثامن لم تنجح سعيها في لإيقاف الانحطاط والتحرر من النكوصين‪.‬‬‫وما يسمى بحركة الإصلاح والنهوض منذ قرنين رغم أنها حافظت على الكيان فإنها أحيت‬ ‫أمراض الماضي دون أن تفهم الحاضر أو تحقق شروط النهوض والإصلاح‪.‬‬‫بل هي أضافت إلى الفتنة الكبرى (الإمامية) وما ترتب عليها الفتنة الصغرى‬ ‫(العلمانية) وما يترتب عليهما‪ .‬والآن نعيش ضربات ما ترتب على الفتنتين‪.‬‬‫فمن فتنة الدولة الثيوقراطية واقعا وواجبا (التشيع) والفيزيوقراطية (الفصامية‪ :‬أمر‬ ‫واقع دون الواجب) (التسنن)إلى الدولة اليعقوبية والليبرالية‪.‬‬ ‫وهكذا فالسنة اليوم محاصرة بكماشتين‪:‬‬ ‫‪ -‬الكماشة الاولى بين ثيوقراطية الشيعة وعلمانية الحداثية‬ ‫‪ -‬والكماشة الثانية بين السلفية والاخوانية‪.‬‬‫ويوجد شبه بين ثيوقراطية التشيع والاخوانية وبين علمانية الحداثة وفيزيوقراطية‬ ‫السلفية‪ .‬والفرق الوحيد في الحالتين متعلق بالبرقع الايديولوجي‪.‬‬‫لكن الكماشتين أفكاكها الأربعة بغير شعور هي أشكال من دين العجل الذهبي بالذات‬ ‫وبالمحاكاة‪ .‬بالذات بمعنى بسبب نكوصها وبالمحاكاة لأنها محميات‪.‬‬‫والحمد لله أن السنة ما يزال فيها التمييز بين الأمر الواقع والامر الواجب حتى وإن كان‬ ‫في شكل مرضي هو فصام بين \"النظر‪-‬العقد\" و\"العمل‪-‬الشرع\"‪.‬‬‫وعلاج هذا الفصام ممكن لأنه من اعراض العلوم والاعمال الزائفة التي تصدى لها نقد‬ ‫الغزالي وابن تيمية وابن خلدون‪ .‬ولست إلا حلقة من السلسلة‪.‬‬ ‫‪31 20‬‬

‫فلنذكر بثورتي الإسلام الروحية والسياسية وما مرت به خلال تاريخنا وكيف حاولت‬ ‫الحداثة محاكاتهما بالحد من الكنسية والحق الإلهي في الحكم‪.‬‬‫لنختم الفصل بالكلام على علل النكوص إلى جاهلية فارس بالتحريف الكسروي للإسلام‬ ‫(التشيع) وإلى جاهلية العرب بالتحريف القبلي للإسلام (التسنن)‪.‬‬‫وكان للمناذرة والغساسنة في ذلك الدور الأول لثورتهم على قريش التي نزلها الإسلام‬ ‫منزلة اصحاب السلطان الإسلامي رغم ضعف عصبيتها (ابن خلدون)‪.‬‬‫فكان دافع الفتنة الكبرى أثر الاستعمارين الفارسي والبيزنطي الثقافي على العرب‬ ‫ودافع الفتنة الصغرى هو أثر الاستعمارين الأوروبي والأمريكي عليهم‪.‬‬‫تخليهم عن ثورتي الإسلام سببه تبعيتهم الثقافية لما تقدم على ثورة الإسلام بداية‬ ‫وتبعيتهم الثقافية لما نتج عن التخلي عنها في الأفعال غاية‬‫لكن شعلة الإسلام لم تنطفئ في قلوب الأمة التي ما تزال قادرة على الاستئناف كما نحاول‬ ‫أن نبين منذ شروعنا في التفسير الفلسفي بداية من ‪.2004‬‬ ‫فما ثورتا الإسلام؟‬‫وكيف حاكاها الغرب وحرفها بدرجتين مختلفتين مثلهما الإصلاح الديني في ألمانيات‬ ‫والسياسي في انجلترا ثم ثورة فرنسا اليعقوبية؟‬‫صدام اوروبا المسيحية مع المسلمين قبل أن يأخذ منهم الانحطاط مأخذه جعلها تتدارك‬ ‫أمرها في الروحي والسياسي حتى تبني ذاتها على محاكاة للثورتين‪.‬‬ ‫كانوا حينها نسبتهم إلينا من جنس نسبتنا إليهم اليوم‪.‬‬‫كانوا يجدون في من غلبهم نموذجا ارادوا أخذ سر غلبته تماما كما نفعل الآن‪ .‬وكل محاكاة‬ ‫قاصرة‪.‬‬‫وتلك علة تحريفهم لما أخدوه من الإسلام وعلة تحريف ما نأخذه من الحداثة‪ .‬وتلك‬ ‫خاصية كل اعتبار للنموذج عينا موجودة وليس مثالا أعلى مبدع بحرية‪.‬‬‫والثورتان هما ثورة الحرية الروحية أو العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه وهي سر‬ ‫الحرية الفكرية وشرط كل أمة مرجعيتها الروحية تشجع الإبداع‪.‬‬ ‫‪31 21‬‬

‫والعلامة القاطعة في ذلك هي اعتبار الاجتهاد مجازى سواء أصاب أو أخطأ‪ .‬وجزاء‬ ‫صوابه مضاعف لأن فيه جزاء الإقدام عليه بصدق مع جزاء النجاح‪.‬‬‫لكن عدم الإصابة فيه مجازى كذلك لأن الاجتهاد بحد ذاته تعبير عن حرية الفكر حتى‬ ‫ولو أخطا فيكون الجزاء على الإقدام الفكري الحر طلبا للحقيقة بصدق‪.‬‬‫وشرط هذه الثورة الروحية تحرير الجماعة من سلطة وسيطة رمزها القاطع هو الكنسية‬ ‫التي تتوسط بين الإنسان وربه بسلطان التخويف من الخطأ والبدع‪.‬‬‫والعلوم والأعمال الزائفة التي عللت به الانحطاط أعادت هذه الوساطة والتخويف من‬ ‫البدع فمات الاجتهاد تجنبا للخطأ فصار الشعب عامة تحكمه خاصة‪.‬‬‫وهي علنية في النكوص إلى كسروية التشيع لكنها متخفية في النكوص جاهلية التسنن في‬ ‫شكلين‪ :‬تربية فقهاء السلطان واختراق متصوفة البهتان للسنة‪.‬‬‫الداءان كانا مسيطرين على أوروبا فحاكوا المسلمين عندما لم يكن لهما اليد العليا في‬ ‫حضارتهم‪ .‬فتم التبادل أخذوا فضائلنا وأخذنا رذائلهم حينها‪.‬‬‫أصلحوا التربية بتحريرها من سلطان الوساطة الكنسية وأصلحوا الحكم بتحريره من‬ ‫سلطان الحكم بالحق الإلهي‪ .‬لكنهم ذهبوا في الغاية إلى العكس تماما‪.‬‬‫فإصلاح التربية في بدايته الألمانية حافظ على دور الدين‪ .‬أما غايته الفرنسية فألغته‪:‬‬ ‫وتلك هي العلمانية اليعقوبية الملحدة نموذج نخب العرب‪.‬‬‫ونفس الأمر حصل في السياسة‪ .‬البداية كانت انجليزية وفيها ألغت الحق الإلهي في الحكم‬ ‫لكنها لم تعوضه بالحق الطبيعي أي بالفاشية بل بالديموقراطية‪.‬‬‫مهزومو الحرب العالمية الأولى (إيطاليا وألمانيا وتركيا وروسيا) أسسوا للأنظمة الفاشية‬ ‫التي تطلب التحديث المستبد وهذا نموذج النخب العربية‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن النخب العربية أخذت أفسد ما في الحداثة وجمعته ما أفسد ما في الأصالية‬ ‫فصارت فاشيات طائفية سواء حكمت بالقبيلة أو بالعسكر‪.‬‬‫وهي في الحقيقة تحكم بهما معا‪ .‬ذلك أن القبيلة لا تحكم بأخلاق القبيلة التقليدية بل‬ ‫بأدوات الدول الحديثة أي المخابرات والأجهزة الأمنية‪.‬‬ ‫‪31 22‬‬

‫والعسكر لا يحكم بأخلاق الجيوش التي تخدم دولا سوية بل هي تحكم بأخلاق الطائفية‬ ‫التي تخدم قبيلة أو طائفة أو عرق مع تبعية للحامي الاستعماري‪.‬‬‫وما حدث في الغرب نفسه بمنطق الحريتين المزيفتين لتحيل أصحاب العجل الذهبي هو‬ ‫تعويض الكنيسة الدينية بالكنيسة العلمانية أو التضليل الإعلامي‪.‬‬‫وعوض الحق الإلهي في الحكم بالحق الطبيعي للقوة أو قانون البقاء للأقوى أو تحريف‬ ‫الديموقراطية حتى صارت حكم مافيات خفية بقوة المال والإعلام‪.‬‬‫وهذه الأمراض الأربعة‪-‬نوعا الانظمة العربية تربية وحكما ونوعا الأنظمة الغربية‬ ‫تربية وحكما‪ -‬هي التي تحارب الإسلام حاليا وهو سينتصر بحريتيه‪.‬‬‫وسينتصر إذا استعادت الأمة حريتي ثورته‪ :‬الحرية الروحية أو العلاقة المباشرة بين‬ ‫المؤمن وربه حتى يكون حر الفكر والضمير والحرية السياسية‪.‬‬ ‫فما الحرية السياسية التي جاء به الإسلام؟‬‫إنها ما حددته الآية ‪ 38‬من الشورى التي حرفتها العلوم والأعمال الزائفة بخدعة‬ ‫سلطان العلماء والأمراء‬‫ولا يوجد ما هو أوضح من الآية‪ :‬عرفت المخاطب (الذين استجابوا لربهم) وأعطت‬‫علامتهم (أقاموا الصلاة) ونسبت لهم الأمر دون سواهم (أمرهم) وحددت أسلوب تسييره‬‫(شورى بينهم) وختمت بنظامها الاقتصادي (الانفاق من الرزق)‪ .‬فهل يوجد أوضح من‬ ‫هذا للحل السياسي؟‬ ‫أهملوا \"منكم\" في أولي الامر‪.‬‬‫حرفوا منكم فصاروا وكأنهم العلماء (للتربية) والأمراء (للحكم)بالوراثة لأن الأولين‬ ‫يدعون وراثة علم النبي والثانين يرثون الحكم بتغلب العصبية‪.‬‬‫والآية كما بينا واضحة‪ :‬فالمخاطب هو الامة المؤمنة‪ .‬وطبيعة الحكم بينة بمجرد أن نترجم‬ ‫\"أمر‪+‬هم\" بمصطلح الفلسفة السياسية‪ :‬أمر الجماعة=راس بوبليكا‪.‬‬ ‫‪31 23‬‬

‫واســــ لوب ا لح كم أيضـــــا ي ك في ل تحـديـده ب ن فس الاصــــ طلاح‪\" :‬شــــورى بين‬‫الجمـاعـة\"=ديموقراطيــة‪ .‬فيكون نظـام الحكم‪ :‬ريبوبليـك ديمقراتيـك=جمهوريـة‬ ‫ديموقراطية‪.‬‬‫ويكون النظام الاقتصادي جامعا بين الاقتصادي والاجتماعي لأن الإنفاق من الرزق‬ ‫محدد بدقة في القرآن (البقرة ‪ .)177‬فأوجه الأنفاق الاجتماعي معلومة‪.‬‬‫كل هذه المقومات التي تحقق الحرية السياسية والاجتماعية للإنسان لم يحددها القرآن‬ ‫للمؤمنين بالإسلام وحده بل للبشرية كلها بدليل حقيقة المخاطب‪.‬‬‫فالآية تكلمت على المستجيب للرب وليس لله‪ .‬والربوبية كما هو معلوم تشمل كل البشر‬ ‫لأنها مضطرة بخلاف الألوهية التي هي اختيارية بالنسبة للمؤمنين‪.‬‬‫فالحريتان الروحية والسياسية قيمتان كونيتان وقلب الديني في كل الأديان‪ :‬أي حصيلة‬ ‫وجهي الرسالة الخاتمة نقدا للتحريف وتحقيقا لدولة الإسلام‪.‬‬‫ودولة الإسلام كونية من حيث المبدأ حتى وإن ظل العالم متعدد الدول‪ .‬فالقانون‬ ‫الإسلامي قيمه الخلقية كونية لا فرق فيه بين الداخلي والخارجي‪.‬‬‫فواجب العدل والشهادة في القانون الإسلامي الداخلي هو عين الواجب في القانون‬ ‫الدولي الذي وضعه الإسلام‪ .‬والعلة بينة‪ :‬متعال على اختلاف الأديان‪.‬‬‫فهو يعتبر تعدد الأديان شرط التسابق في الخيرات (المائدة ‪ )48‬ووحدة الدولة لا تعني‬ ‫وحدة الشريعة بل يعترف لمواطنيها بحق تطبيق شرائعهم الخاصة‪.‬‬‫والعلوم والاعمال الزائفة الغت نظرية الدولة الإسلامية وشرط كونيتها فصارت دولة‬ ‫الحق الإلهي بالوصية (الشيعة) أو حق القوة الطبيعي (السنة)‪.‬‬ ‫‪31 24‬‬

‫أما الفصل الخامس والأخير من \"عبودية سلطان العجل الذهبي\" فسيكون علاج مقدمة‬ ‫ابن خلدون للمسألة بمفهوم الاستخلاف الذي يحقق التحرر من العبوديتين‪.‬‬ ‫شرحت مفهوم الاستخلاف بدلالتين قاست الأمة على الثانية مفهوم الخلافة السياسية‪:‬‬ ‫‪ .1‬منزلة آدم وأبنائه‪.‬‬ ‫‪ .2‬منزلة الجماعة التي تأهلت لهذا التكريم‪.‬‬‫والجماعة قاست على أهلية الجماعة من تعتبره الجماعة ممثلا لأهليتها ليكون خليفة‬ ‫بالمعنى السياسي معبرا عن إرادتها وقيمها حاكما أمينا وعادلا‪.‬‬‫والمعنى الثاني ‪-‬الجماعة التي برهنت عن الأهلية لهذا التكريم‪ -‬ما كان ليكون ممكنا لو‬ ‫لم يكن المعنى الأول منزلة بالقوة تصبح بالفعل بعد امتحان‪.‬‬‫وهذا الامتحان هو استعمار الإنسان في الأرض بقيم الاستخلاف‪ :‬فإن نجح كان أهلا لأن‬ ‫يكون مستخلفا بحق وإلا فمنزلته تبقى من الإمكان غير الحاصل‪.‬‬‫وهذا هو معنى الحياة الدنيا‪ :‬هي هذا الامتحان الذي يبرهن فيه الإنسان أنه أهل‬ ‫لاستعماره في الارض بقيم الاستخلاف جوابا على رمز التحدي إبليس‪.‬‬‫وإبليس كرمز للتحدي هو \"أبو ليس\" أي مصدر العدم لأن ليس مؤلفة من \"لا\" \"أيس\"‬ ‫والأيس هي الوجود والليس هو العدم (الكندي)‪ :‬أبو العدم تحدى الوجود‪.‬‬‫والعرض الرمزي للاستخلاف في المشهد الحواري يكمله مشهد رمزي حواري مع إبليس‬ ‫وكانت نتيجته هذا الامتحان ليس بالدنيا بل بالخيارين‪ :‬بقيمه أو بعدمها‪.‬‬‫الرسالة الخاتمة‪ :‬تحديد استراتيجية تحقيق الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف ليس‬ ‫لقوم دون قوم بل للإنسانية كلها‪ :‬استراتيجية تحقيق أهلية التكريم‪.‬‬‫وبذلك نفهم لم كان عنوان المقدمة \"علم العمران البشري والاجتماع الإنساني\"‪:‬‬ ‫فالبشري والإنساني يتجاوز المعنى الناتج عن العلوم والأعمال المزيفة‪.‬‬ ‫‪31 25‬‬

‫ذلك هو المعنى التام للإسلام في القرآن‪ :‬فهو لا يعني من أسلم بالمعنى الخاص بالمسلمين‬ ‫الحاليين بل كل من اتبع الإسلام بمعنى الديني في كل دين‪.‬‬‫القرآن لا يعتبرنا وحدنا مسلمين بل كل الاديان التي يقص أحداثها وأحاديثها من آمن‬ ‫برسالة أنبيائها كانوا مسلمين بالفعل مثلنا ولا فرق بيننا‪.‬‬‫أما من بقي على التحريف الذي ربي عليه فهو مسلم بالقوة لذا يعترف الإسلام بأديانهم‬ ‫أمرا واقعا شرط التسابق في الخيرات‪ :‬فقد يتحرروا من التحريف‪.‬‬‫وحتى نفهم هذه العناصر المقومة لمفهوم الاستخلاف وخاصة للقياس عليهما في مسألة‬ ‫الخلافة مؤسسة للحكم وضعت مفهومين يصلان بين ‪ 1‬و‪ 2‬وبين ‪ 2‬و‪.3‬‬‫فالله كرم آدم بالاستخلاف وشرطه الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود وهي‬ ‫علامات الحرية والمسؤولية‪ .‬لكنه أخضعه لامتحان اهلية الاستخلاف‪.‬‬‫المفهوم الأول الذي وضعته لم أبتدعه بل هو موضوع المشهد الحواري الثاني بين الله‬ ‫وأبو العدم (ابليس)‪ :‬امتحان الاستعمار بالفعل والاستخلاف بالقوة‪.‬‬‫يستعمر الإنسان في الأرض ويبقى استخلافه معلقا إلى أن يحقق قيم الاستخلاف‪ .‬فيكون‬ ‫حينها أهلا لان يكون خليفة بالفعل‪ .‬وهذا هو امتحان الجماعات‪.‬‬‫لكن امتحان الأفراد من الجماعات للاستخلاف بمعنى الحكم الأمين والعادل ينسب إلى‬ ‫الجماعة وليس إلى الله مباشرة‪ :‬يختارون من يولون لمعرفتهم به‪.‬‬‫لذلك فكيفما يكون البشر يكون من يولى عليهم أفاضلهم إن كانوا أهلا للاستخلاف يكون‬ ‫من يولى عليهم أراذلهم إن لم يكونوا أهلا للاستخلاف‪.‬‬‫المفهومان اللذان أضفتهما بين المعاني الثلاث المعلومة لمفهوم الاستخلاف مستمدان من‬ ‫القرآن في استخلاف الجماعات والأفراد بتوسطها خيرا أو شرا‪.‬‬‫أعددنا أرضية الكلام في علاج ابن خلدون لشروط التحرر من العبوديتين المادية‬ ‫والرمزية لأصحاب العجل الذهبي وتلك هي ثورة مقدمته في فلسفة العمل‪.‬‬ ‫ثلاث مراحل‪:‬‬ ‫‪ .1‬الغزالي نقد النظر (التهافت) والعمل(الفضائح)‬ ‫‪31 26‬‬

‫‪ .2‬تأسيس النظر البديل بمنطق ثورتي الإسلام (ابن تيمية)‬ ‫‪ .3‬تأسيس العمل البديل (ابن خلدون)‬ ‫ولهذه المراحل الثلاث‪:‬‬ ‫‪ -‬أصل هو القرآن‬ ‫‪ -‬وغاية هي ما نحاول بيانه في محاولاتنا‪:‬‬ ‫تحرير الإسلام من تحريف العلوم والأعمال الزائفة علة انحطاط الأمة‪.‬‬‫إنها مراحل الفلسفة التي تؤسس لاستئناف دور الأمة بمنطق القرآن الكريم وتعليم‬ ‫السنة الشريفة‪ :‬السنة هي تعليم الرسول لمعاني الرسالة قولا وفعلا‪.‬‬‫ولما كانت السنة هي اجتهاد الرسول في تعليم القرآن فإنها تابعة بالجوهر للقرآن وقلب‬ ‫العلاقة بينهما من نتائج العلوم والاعمال الزائفة التي بينا‪.‬‬‫فقلب فصلت ‪ 53‬والجرأة على آل عمران ‪ 7‬جعلت العلوم والاعمال الزائفة تعكس‬ ‫العلاقة بين القرآن والسنة حتى تسند كذبة وراثة الانبياء للراسخين‪.‬‬‫لم يدع الرسول علم الغيب ولم يؤول المتشابه وما لا يطابق ما يعتبره القرآن دليل‬ ‫حقيقته كذب عليه‪ :‬فأدعياء \"الرسوخ\" يرثون من النبي ما لا يملك‪.‬‬‫لذلك فابن خلدون يطلب حقيقة القرآن من آيات الله في الآفاق (الطبيعة والتاريخ)‬ ‫وفي الأنفس (انثروبولوجيا الإنسان القرآنية)‪ :‬مضمون المقدمة‪.‬‬‫وقد فهم ابن الأزرق الأمر هذا الفهم‪-‬بدائع السلك‪-‬فأخرج التناظر بين ما ستخرجه ابن‬ ‫خلدون من الآفاق والانفس وما يؤيده به من القرآن في ‪ 20‬دليل‪.‬‬‫أطنبت في كلامي على المقدمة‪ .‬سأقتصر على علاج العبوديتين أو عوائق الحريتين ودور‬ ‫فعل الرمز(العملة والاقتصاد) ورمز الفعل (الكلمة والثقافة) فيه‪.‬‬‫وبهذا أنسب ما قد أنسبه من دور لاجتهاداتي دون تخل عن مسؤوليتي فيها‪ .‬لا تعدو أن‬ ‫تكون مجرد ترجمة فلسفية لثوة الغزالي وابن تيمية وابن خلدون‪.‬‬‫وثورتهم تتعلق بفلسفة النقد النظري والعملي والتأسيس لبديل من الفلسفة اليونانية‬ ‫في نظرية المعرفة ونظرية العمل وعلاقتهما بنظرية الوجود والقيم‪.‬‬ ‫‪31 27‬‬

‫ودافعهم كان ما لاحظوه من تعارض تام بين أثر هذه النظريات اليونانية في الفلسفة‬ ‫وكلام الإسلاميين وبدائلها القرآنية التي استوحوا منها علاجهم‪.‬‬‫فالقرآن نقد التجارب الدينية السابقة لتحديد الديني في الاديان واستراتيجية تحقيقه‪:‬‬ ‫ثورة الإسلام الروحية والسياسية لتحرير الإنسانية وتوحيدها‪.‬‬‫استوحى هؤلاء الفلاسفة منهجيته بنقد التجارب الفلسفية وتحديد الفلسفي في الفلسفات‬ ‫واستراتيجية تحقيقه لئلا يتنافى مع الثورتين الروحية والسياسية‪.‬‬‫بعبارة وجيزة‪ :‬دافعهم ديني بالمعنى القرآني وعملهم فلسفي بالمعنى العميق لكلمة‬ ‫\"فلسفة\" أي حب الحكمة التي تتطابق فيها مطالب الروح والعقل‪.‬‬‫وتطابق الروح والعقل هو جوهر الإنسان السوي الذي يدرك أن منزلته الوجودية هي‬ ‫عين وعيه بالمعادلة الوجودية كما وصفناها في غير موضع عديد المرات‪.‬‬‫ولنذهب الآن إلى ما وعدنا به‪ :‬هل المقدمة محاولة للصوغ العلمي الذي يمكن من فهم‬ ‫استراتيجية العبودية (بتحريف الحريتين) واستراتيجية التحرر منها؟‬‫سنقتصر هنا على قراءة المقدمة بهذا المنظور‪ :‬كيف فهم ابن خلدون آليات العبودية ودور‬ ‫رمز الفعل وفعل الرمز فيها وكيف حدد استراتيجية التحرر منهما؟‬‫أقدم الجواب ثم أدلل عليه بعد ذلك‪ :‬في بداية المقدمة وفي غايتها‪ :‬دور التربية والحكم‬ ‫(بعدي السياسة) في المحافظة على معاني الإنسانية أو افسادها‪.‬‬‫وواضح أن دورهما في التربية يتعلق بالحرية الروحية ودورهما في الحكم يتعلق بالحرية‬ ‫السياسية وإذن فمعاني الإنسانية هي الحرية الروحية والسياسية‪.‬‬‫فيتبين أن مطلوب المقدمة هو عين ما نبحث عنه في تشخيص مرض العبوديتين وعلاجهما‬ ‫بالحريتين شرطين في التربية والحكم لئلا تفسد معاني الإنسانية‪.‬‬‫فلنثبت هذه القضية التي لم تعد مجرد دعوى‪ .‬إنها فرضية علمية حول دور العاملين‬ ‫الاقتصادي (ورمزه العملة) والثقافي (ورمزه الكلمة) في علمي المقدمة‪.‬‬‫وإذ استعملت \"علمي\" المقدمة رغم أن ابن خلدون سماهما علما واحدا \"علم العمران‬ ‫البشري والاجتماع الإنساني\" فلكأني اضفت علم أمام القسم الثاني‪.‬‬ ‫‪31 28‬‬

‫فتكون المقدمة علما للعمران البشري وعلما للاجتماع الإنسان وهما علمان مختلفان‪ .‬لكن‬ ‫ما يعني ابن خلدون هو علم تفاعلهما برمز الفعل وفعل الرمز‪.‬‬‫بوضوح أكثر المقدمة لا تدرس العمران والاجتماع كلا على حدة بل هي تدرس تفاعلهما‬ ‫في الاقتصاد ورمز فعله (العملة) وفي الثقافة ورمز فعلها (الكلمة)‪.‬‬‫فكلاهما له صلة بالعلاقتين العمودية(الإنسان‪-‬الطبيعة) والأفقية (الإنسان‪-‬الإنسان)‬ ‫بتوسط ما بين قطبي المعادلة الوجودية من تواصل‪ :‬الخليفة والمستخلف‪.‬‬‫وهذا التواصل موجود دائما إيجابا عند المؤمنين وسلبا عند الملحدين‪ :‬المؤمن يعتبر ما بين‬ ‫الإنسان والطبيعة وما بينه وبين الإنسان شرطها الاستخلاف‪.‬‬‫والملحد لا يختلف عنه إلا بطبيعة من ينسب إليه شرط هذين العلاقتين‪ .‬الطبيعة أو‬ ‫التاريخ‪ .‬فيؤله المنسوب إليه وإن ادعى نكران الحاجة إلى الدين‪.‬‬‫لا شك أن القارئ الذي يرفض التعقيد بعبارة \"ويني وذنك\" قد عيل صبره‪ :‬متى يأتي‬ ‫تحليل المقدمة بهذا المنظور لإثبات الدعوى التي صارت فرضية علمية؟‬‫فلنتوكل طالبين من القارئ فتح المقدمة ومتابعة التحليل‪ .‬ماذا في الباب الأول من‬ ‫المقدمة؟ ‪:‬‬ ‫‪ .1‬الجغرافيا والمناخ‪.‬‬ ‫‪ .2‬وشروط عيش البشر في المعمورة‪.‬‬ ‫وهي العلاقة العمودية بشر‪-‬طبيعة‪ .‬والعلاقة الأفقية بشر‪-‬بشر‪:‬‬ ‫‪ .3‬الثقافة أو الانتاج الرمزي‪.‬‬ ‫‪ .4‬شروط العيش الروحي‪.‬‬ ‫‪ .5‬وحدتهما‪ :‬التفاعل بينهما‪.‬‬‫من قرأ المقدمة بتدبر لن يجد في الباب الأول غير ما ذكرنا‪ :‬مشكل ابن خلدون فيها هو‪:‬‬ ‫العلاقة بين الطبيعة والثقافة وأثر تفاعلهما في الإنسان‪.‬‬‫ولما يعمق التحليل يجد أن العامل الثقافي ينسبه ابن خلدون إلى خوف الإنسان من المجهول‬ ‫في علاقته بالمكان (الطبيعة)‪ :‬وتلك علاقته بالزمان‪.‬‬ ‫‪31 29‬‬

‫علاقة الطبيعة بالثقافة هي عين علاقته بحيزي وجوده الأولين المكان والزمان‪ .‬وعلاقته‬ ‫بالحيزين الطبعيين تنتج الحيزين التاريخيين‪ :‬الثروة والتراث‪.‬‬‫وأصل الثروة ورمزها العملة أو رمز الفعل‪ .‬وأصل التراث ورمزه الكلمة أو فعل الرمز‪.‬‬ ‫والثروة مصدرها الطبيعة أولا والتراث مصدره التاريخ أولا‪.‬‬‫وأولا تعني أن لكل منهما دورا في الثاني‪ .‬وهم الأهم‪ :‬رمز الفعل (العملة رمز الاقتصاد)‬ ‫وفعل الرمز (الكلمة رمز الثقافة) متفاعلان في دوريهما‪.‬‬‫ولنضرب مثالين‪ :‬فلا يمكن للثروة أن تستخرج من الطبيعة من دون العلم وهو من‬ ‫التراث‪ .‬ولا يمكن للتراث أن يبدعه الإنسان من دون تمويل البحث العلمي‪.‬‬‫الاقتصاد (علاقة عمودية أولا) والثقافة (علاقة أفقية أولا) يصبحان ثانيا ضروريين‬ ‫في العلاقتين العمودية والأفقية وتفاعلهما هو أصل كل سلطان‪.‬‬‫والسلطان يكون على الطبيعة وعلى الأنسان بتوسط السلطان على حاجاته المادية‬ ‫والروحية‪ .‬وهذا السلطان هو الذي يمكن أن يكون سلطان عبودية العجل‪.‬‬‫بقية المقدمة أي الأبواب الخمسة الموالية تبحث هذه المسألة‪ :‬كيف يكون السلطان‬ ‫السياسي ببعديه التربوي والحكمي محررا من العجل أو مستعبدا بالعجل‪.‬‬‫لا فائدة من مواصلة الاستدلال فليقرأ أي باحث الأبواب الخمسة الموالية بهذا المنظور‬ ‫وسيفهم الثورة بمجرد الانتباه إلى نظريته في العملة والكلمة‪.‬‬‫ففي الباب الثاني‪-‬العمران البدوي‪-‬التركيز على دور الطبيعة التي هي مورد الرزق‬ ‫المباشر بثقافة دينية محرفة تعبد قوى الطبيعة أو سوية تحرر منها‪.‬‬‫الباب الثالث وبالقوة الطبيعية الأولى المناسبة لهذه العلاقة بالطبيعة تتكون الجماعات‬ ‫على أساس عصبية الدم (القبلية) فتحتاج إلى الوازع الأجنبي‪.‬‬‫الباب الثالث‪ :‬ومعنى ذلك أن الوازع الذاتي لم يعد كافيا فتتكون سلطة فوق الجماعة‬ ‫هي بداية الدولة التي يبقى أساسها العصبية مع بداية فكرة العقد‪.‬‬‫وهذا المرور من الوازع الذاتي في العمران البدوي إلى الوازع الأجنبي علته الصراع على‬ ‫رمز الفاعلية (العملة) وعدم كفاية فاعلية الرمز(الكلمة)‪.‬‬ ‫‪31 30‬‬

‫الباب الرابع‪ :‬الدولة تنظيم الصراع على الثروة خاصة فيحصل شرطا العيش المشترك‪:‬‬ ‫التربية والحكم‪ .‬وذلك هو جوهر التوازن في العمران الحضري‪.‬‬‫الباب الخامس‪ :‬فإذا تم للعمران الحضري بالتربية والحكم الاستقرار الكافي يصبح‬ ‫الانتاج الاقتصادي متحررا من انتاج الطبيعة‪ :‬الاقتصاد الصناعي‪.‬‬‫الباب الأخير‪ :‬فتكون غاية العلاقة هي التحرر من سلطان الطبيعة ومن يحتكر سلطان‬ ‫الثروة وسلطان التراث بالثقافة الأتم الحامية لمعاني الإنسانية‪.‬‬‫لكن ذلك لا يحصل من دون سلطان متعال على الطبيعة والثقافة‪ :‬فالعقد السياسي العقلي‬ ‫متناقض لاعتماده على القوة وفيها لا يتساوى الحاكم والمحكوم‪.‬‬‫وذلك هو جوهر الحرية الخديعة في نظرية العقد بين رب العمل والعامل مثلا‪ .‬لا بد من‬ ‫سلطة يتساوى فيها طرفا العقد فتضمن العدل بين المتعاقدين‪.‬‬‫وتلك هي المرجعية الروحية ‪-‬أيا كان الصيغة‪ -‬وهي ما يحرر من دين العجل الذهبي‪.‬‬ ‫وهو ما يفسد نظرية العقد والقانون بنفي شرطي العدل والأمانة‪.‬‬‫وذلك ما كان علينا بيانه‪ :‬لا يمكن اخراج الإنسانية من أكاذيب الحرية الاقتصادية‬ ‫والإعلامية في العولمة من دون التحرر من العجل بالدين الإسلامي‪.‬‬ ‫‪31 31‬‬





‫‪02 01‬‬ ‫‪01‬‬ ‫‪02‬‬‫تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي‪ :‬محمد مراس المرزوقي‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook