Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore ما الانسان؟ أو ما معنى {صُمٌّ بُكْمٌ عُمِيٌ فَهُمُ لَا يَعْقِلُونَ}؟ – أبو يعرب المرزوقي

ما الانسان؟ أو ما معنى {صُمٌّ بُكْمٌ عُمِيٌ فَهُمُ لَا يَعْقِلُونَ}؟ – أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2018-07-08 12:50:21

Description: ما الانسان؟ أو ما معنى {صُمٌّ بُكْمٌ عُمِيٌ فَهُمُ لَا يَعْقِلُونَ}؟ – أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫الأسماء والبيان‬





‫المحتويات ‪2‬‬‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثاني ‪6 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثالث ‪11 -‬‬‫‪ -‬الفصل الرابع ‪16 -‬‬‫‪ -‬الفصل الخامس ‪21 -‬‬

‫‪--‬‬‫لم أفهم قوله تعالى {صم بكم عمي فهم لا يعقلون} إلا بفضل ما أسمعه من حداثيينا‬‫إذ يتكلمون على القرآن الكريم‪ .‬فهمت حقا كيف يمكن للقرآن أن يقول عمن يسمع ويتكلم‬‫ويرى ويعقل أنه أصم وأبكم وأعمى ولا يعقل؟ بل أكثر من ذلك أنه يتصور سمعه وكلامه‬ ‫وبصره وعقله عين الحقيقة التي على غيره اتباعها‪.‬‬‫وهذا الوجه الثاني من مواقفهم هو الذي دفعني إلى الحيرة أمام هذا \"اليقين\" الذي‬‫لهم في دعاواهم المعرفية والقيمية التي توصلهم إلى رؤية وجودية تجعلهم يكتفون بالمادية‬‫أكسيولوجيا والوضعية أبستمولوجيا وتصورما يتجاوز المادي منهما قابلا لأن يرد إليه فيرد‬ ‫مقومي الإنسان إلى حاستي السمع والبصر‪.‬‬‫ويتعامل مع القرآن بهذه الرؤية التي تتصور أن النطق هو عدم البكم والعقل هو عدم‬‫العمى وما يفيد ذلك من بعدي المادية في الإنسان (الكلام والعقل أداتي البث والتلقي‬‫المعرفيين) وفي ما عداه من الموجودات (المسموع والمرئي ما يقبل القول والتصور منها لأن‬ ‫الحواس الأخرى لا تنقال)‪.‬‬‫وكما سبق أن بينت فإن المحسوسات التي تنقال وتدرك عقليا هي المسموع والمرئي‪ .‬أما‬‫المذوق والملموس فندركه دون مشاركة مع أي مدرك آخر إلا برده إليهما لنتكلم عليهما‬‫بالإشارة والتعبير الجسدي المصاحب لهما مثل التلذذ في الأكل والتأوه في اللمس ‪-‬إذا كان‬ ‫الملموس حارقا أو لطيفا مثلا‪.‬‬‫فالملذوذ والملموس شخصيان بإطلاق وهما من الوجدانيات المادية الخالصة وهي تحصل‬‫فينا وإضافية إلينا ولا نستطيع أن نعتبرها صفات ذاتية للشيء المأكول أو للشيء الملموس‬‫والفروق فيهما متناسبة مع الأفراد والثقافات‪ .‬لكن الشم فيه من النوعين‪ :‬خاصيات المسموع‬ ‫والمرئي ومن خاصيات المذوق والملموس‪.‬‬‫ويغلب عليه الوجه الثاني‪ .‬وحتى المسموع والمرئي فهو لا يخلو من النسبوية الثقافية لأن‬‫رؤية الالوان مثلا وسماع الاصوات ليس واحدا بين الجماعات الثقافية المختلفة لكن الغالب‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫هو أن الصوت المسموع والشكل المرئي تغلب عليهما الصفات القابلة للعبارة الرياضية التي‬ ‫تحرر من الذاتية الثقافية‪.‬‬‫كل هذا يمكن ألا يختلف فيه مادي ومثالي مؤمن وملحد لأنه نقاش حول الصفات بنوعيها‬‫الأولية والثانوية وهي قضية معلومة في الأبستمولوجيا القديمة والوسطية وحتى بدايات‬‫الحديثة ثم أهملت القضية واعتبرت المحسوسات التي تقبل العبارة الرياضية أي القيس‬ ‫والترتيب هي التي تعني التجربة العلمية خاصة‬‫لكن إذا تعلق الامر بمعرفة الإنسان العلمية فإن بقية الحواس تدخل في الاعتبار‪ .‬لأن‬‫اختبار علامات الصحة البدنية والنفسية لا تتوقف عند المسموع والمرئي بل هي تدرس‬‫المشموم والمذوق والملموس بوصفها من علامات العنفوان العضوي والكيان الحي بدنيا ونفسيا‬ ‫ولعلها أهم من السمع والبصر‪.‬‬‫وهي دون شك أهم من السمع والبصر وأبعد غورا بل لعلي أقول ‪-‬إذا سلمنا برؤية مادية‬‫ووضعية‪-‬إن السمع والبصر أداتان وهما غايتان بمعنى أن الإنسان يسمع ويرى خدمة‬‫لحاجة الذوق واللمس في أصلهما العضوي الحيوي‪ .‬فالذوق عضويا علاقة بالغذاء واللمس‬ ‫عضويا علاقة بالجنس‪ .‬والسمع والبصر أداتان لطلبهما‪.‬‬‫وانطلاقا من هذه التأملات التي أوجزتها اضطررت لتعميم المقابلة بين \"البصير‬‫والبصيرة\" فوضعت وراء كل حاسة ما يناظر البصيرة‪ .‬فوضعت السميعة والشميمة‬‫والذويقة واللميسة وهي كلها صيغ مبالغة أنثت لتسمية الحواس المؤنثة لكنها من جنس عليم‬ ‫وعليمة وعظيم وعظمية وفهيم وفهيمة‪.‬‬‫والغاية هي فهم \"صم بكم عمي فهم لا يعقلون‪-‬لا يفقهون‪-‬لا يرجعون‪-‬لهم قلوب لا‬‫يفقهون بها‪-‬أم على قلوب أقفالها‪-‬وكل لها نفس الدلالة التي لا يمكن أن تفهم بالانطلاق‬‫من المنظور الذي شرحناه والذي أستوجب الخروج منه وضع نظائر البصيرة بالنسبة إلى‬ ‫كل الحواس لتعريف الإنسان بما يتجاوز الحسي‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وما دفعني لذلك لمفارقة التي تتضمنها عبارة \"صم بكم عمي فهم لا يقعلون\"‪ .‬فالعلاقة‬‫بين صم وبكم علاقة ترابط ضروري وهي قانون بايولوجي الأصم لا يتكلم‪ .‬يصوت لكنه لا‬‫يتكلم ومن ثم فصممه علة بكمه‪ .‬لكن لا يمكن أن نقول أن عماه هو عله عدم عقله‪ .‬العلاقة‬ ‫تفترض أن الكلام لم يعد متعلقا بالحاسة‪.‬‬‫فيكون الزوجان الثانيان قابلين للقراءة إما بالضم إلى الزوجين الأولين فيكون الإنسان‬‫الفاقد للسمع وللنطق عاجزا عن العقل إذا فقد معهما البصر‪ .‬حينها أيضا نكون في مجال‬‫الحواس والمادة‪ .‬لكن الآية تتكلم على من ليس فاقدا للسمع والنطق والبصر‪ .‬هي تتكلم‬ ‫على واجدهما وفاقد فائدتهما‪.‬‬‫ذلك هو منطلقي‪ .‬ما الفائدة المفقودة في هذه الحالة عند من إدراكه الحسي ومفعوله بثا‬‫(النطق) وتلقيا (العقل) سليم ومع ذلك تعتبره الآية لا يعقل وهو طبعا يعقل‪ .‬وهذا‬‫يعني أيضا أن العقل له بعد ثان يناظر البصيرة بالنسبة البصر وما عممته على السمع‬ ‫والشم والذوق واللمس ولنسمه العقيلة‪ :‬فما هو؟‬‫وحتى نوجز القصد‪ :‬فلكأن القرآن لا يعرف الإنسان بالحواس الخمس والعقل بل‬‫بالحوادس التي وراء الحواس أي البصيرة والسميعة والشميمة والذويقة واللميسة‬‫والعقيلة التي هي القلوب المتحررة من أقفالها وتكون الأقفال هي ما يجعل الحواس تكتفي‬ ‫بالحس ولا ترقى إلى الحدس والعقل لا يتجاوز عالمها‪.‬‬‫من له دراية بأهم قضية في الفلسفة من بدايتها الأفلاطونية الأرسطية إلى غايتها‬‫الكنطية الهيجلية أعني قضية العلاقة بين المادة والصورة وبين الواقع والمثال يعلم أنها‬‫قضية ذات بعدين ابستمولوجي ويتعلق ببنية الموجود وأكسيولوجي ويتعلق بشرط وجود ما‬ ‫يتعالى على الموجود أي المنشود‪.‬‬‫وإذا وجد ما يتعالى على الموجود أو المنشود يفهم أن ذلك هو شرط الحياة في الوجود لأن‬‫الانتقال من الموجود إلى المنشود فيه حركة والحركة هي علامة الحياة‪ .‬المشكل في الفلسفة‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫القديمة والحديثة أنها تريد تفسير الحركة والحياة بالعلاقة بين جامدين الموجود جامد‬ ‫والمنشود جامد عند هؤلاء‪.‬‬‫حاول شلنج (في كتاب الحرية ‪ )1809‬تجاوز هذا المشكل بحل ظنه أفضل من حل هيجل‬‫(كتاب فينومينولوجيا الروح ‪ )1807‬بأن أدخل الحركة في المثال ولم يقصرها على الممثول‬‫ولكن بالرد إلى الحركة الطبيعية بخلاف رد هيجل لها إلى الحركة الروحية‪ .‬فكانت الطامة‬ ‫في الماركسية بردها إلى المادية التاريخية‪.‬‬‫ولذلك فالجمع بين المادية والوضعية في الماركسية ليس هيجليا إلا بمنهج الجدل‪-‬الصراع‬‫بين النقيضين‪-‬لكنه في الجوهر شلنجي‪ .‬ولا يمكن أن أشرح ذلك هنا‪ .‬لكن يكفي أن نعلم‬‫أن مفهوم اللاوعي سواء في مستوى الفرد (فرويد) أو الجماعة (ماركس) أو الجمع بينهما‬ ‫(نيتشة) بوصفه شبه فتاليسم مفهوم شلنجي‪.‬‬‫وكل هذه المعاني التي تصل الفلسفي بالديني وتصلهما بالطبيعي والتاريخي غائبة عن‬‫أذهان أدعياء الحداثة العرب الذين أهم علامة على أنهم \"صم بكم عمي فهم لا يعقلون\"‬‫هو أنهم يقرؤون القرآن فلا يتزلزلون لأنهم لا يتجاوزون الحواس إلى الحوادس والعقل‬ ‫إلى العقيلة‪ :‬مادية ووضعية ساذجتين وغبيتين‪.‬‬‫ذلك أن ارسطو في علاقته بأفلاطون وهيجل بكنط كانا يعالجان قضية الأول من الزوجين‬‫يدرك أن المثال الموجود منشود ولا يرد إليه والثاني دون أن ينفي وجود المنشود الذي‬‫ينسب إليه التحريك الغائي وما لا يرد إليه هو ما ينقص الموجود ويمكن أن يكتمل في‬ ‫الطبيعي (أرسطو) وفي التاريخي (هيجل)‪.‬‬‫وهذا المعنى المنشود المحرك كان عند أرسطو مطلق المفارقة يحرك ما في المادة من وجود‬‫بالقوة ولا يتحرك‪ .‬وصار عند هيجل مطلق المحايثة يحرك ما في التاريخ من وجود بالقوة‬‫ولا يتحرك‪ .‬والفرق أن أرسطو لا يعتقد أن الحركة الطبيعية تتوقف عند غاية لأنها‬ ‫دورية‪ .‬لكن هيجل يعتقد أن التاريخ ينتهي‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وهذه النهاية الوهمية التي جعلها ماركس غاية الفاعلية الإنسانية المادية البديل من‬‫المحرك الهجيلي الذي هو الفاعلية الإنسانية الروحية‪ .‬فلسفة الدين وفلسفة التاريخ‬‫الهيجليتين اصبحتا فلسفة المادية والمادية التاريخية الماركسيتين‪ .‬وهذه ليست فلسفة بل‬ ‫علمنة الخرافات المسيحية اليهودية ‪.‬‬‫أعود إلى \"صم بكم عمي فهم لا يعقلون\" هي أعادة تعريف للإنسان‪ .‬فكيان الإنسان‬‫العضوي يقبل التعريف من حيث علاقته بالعالم الطبيعي والتاريخي بالحاستين الأداتين‬‫(السمع والبصر) اللتين تمدان الحاستين الغائتين (الذوق واللمس) بما يحتاج إليه ليعقل‬ ‫شروط بقائه العضوي‪ .‬لكن للإنسان كيان ثان‪.‬‬‫والكيان الثاني غاية إلى الكيان الأول الذي هو أداة‪ .‬فالإنسان معمر للأرض شرط قيام‬‫عضوي‪ .‬لكنه معمر لها بقيم الاستخلاف شرط قيام روحي‪ .‬فخلال تحقيق شرط القيام‬‫العضوي يمكن أن يكون متساميا للقيام الروحي ويمكن أن يبقى لصيقا بالقيام العضوي دون‬ ‫ما يتعالى عليه محددا لمنزلته الوجودية‪.‬‬‫فيكون شرط القيام العضوي شرطا ضروريا غير كاف لمعاني الإنسانية (بلغة ابن خلدون)‬‫ومن ثم فلا بد أن يكون كل ما هو مادي في الإنسان وفي عالميه الطبيعي والتاريخي في منزلة‬‫الشروط الأداتية وليس في منزلة المقومات الغائية لإنسانيته‪ .‬وهذا هو معنى \"صم بكم‬ ‫عمي فهم لا يعقلون\"‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ودلالة الإدراك المتجاوز للإدراك الحسي التي من جنس البصيرة وراء البصر ليست‬‫خاصة باللسان العربي فكل الألسن فيها ما يجانسها‪ .‬فكلمة \"اسمع\" بالفرنسية لها معنى‬‫السمع الحسي ومعنى الفهم وكلمة \"أرى\" لها دلالة الرؤية الحسية وإدراك المعنى إلخ‪..‬‬ ‫والكلام كبث له معنيان كذلك التلفظ والإفادة‪.‬‬‫والعقل تلقيا له كذلك معنيان تلقي المعقول من الدرجة الأولى وما ورائه وغالبا ما يكون‬‫رهن الوصل بكل عناصر سياق التلقي خلال عملية التواصل الحي ولذلك فالتداول هو أعسر‬‫وجوه التواصل اللساني الحي الذي لا يعوضه أي تواصل مكتوب مهما حاول النص تضمين‬ ‫محددات المعنى والدلالة في المتن والتهميش‬‫لذلك فالسؤال يتعلق بما غاب لدى من يوصفون بـ{ ُص ٌّم بُكْمٌ عُ ِم ٌي َفهُ ُم لَا يَعْ ِق ُلو َن}‪ .‬فما‬‫هم بفاقدي السمع ولا النطق ولا البصر ولا العقل\" لكنهم يوصفون بهذه الصفات لعدم‬‫حضور المكملات السياقية للإدراكات الحسية التي يتميز بها الإنسان حتى تكون محققة‬ ‫لمعاني حقيقة الإنسان المتجاوزة لبعدها المادي‪.‬‬‫ما المفقود عند الأصم الذي يسمع؟ وما المفقود على لأعمى الذي يرى؟ ولماذا يكون نطقه‬‫بكما؟ وفهمه لا عقلا؟ إذا اعتبرنا أن وراء السمع سميعة ووراء البصر بصيرة فما تكون‬‫النطيقة وراء النطق والعقيلة وراء العقل؟ ألسنا نميز في النطق درجات وفي العقل‬ ‫مستويات؟ ما طبيعة هذا التمييز؟‬‫بعبارة أوجز‪ :‬هل يوجد عالم يمكن الخروج إليه بالطفو فوق عالم السمع والنطق وعالم‬‫البصر والعقل أي وراء العالم المقتصر القيام المادي وأثره سواء كان فينا أو حولنا أم إن‬‫الإنسان حتى عندما يجنح خياله يبقى حبيس هذا العالم وكل ما عداه ليس إلى تعويضا‬ ‫للوعي بما ينقصه؟ وكيف يعي بالنقص؟‬‫هل ا لوعي بالنقص إضافي إلى الكمال النسبي فأكون مثلا أنقص من حيث الثروة من‬‫جاري الذي يملك ما أتمنى امتلاكه ولا أستطيع؟ حسن لكن جاري مائت مثلي فلماذا أعتبر‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫موتي نقصا؟ وجاري يمرض مثلي فلماذا أتمنى ألا أمرض؟ وما الذي يجعلني أعتبر الفناء‬ ‫دون البقاء قيمة؟ من أين لي بمعنى الفناء والبقاء؟‬‫والأهم من ذلك ما معنى \"أعي\"؟ يمكن اعتبار الميكروفون يسمع ويضخم الصوت لكن هل‬‫يعيه؟ ويمكن اعتبار آلة التسجيل تنطق بما سجلت هل تعي ما تنطق به؟ ويمكن اعتبار أي‬‫جهاز كمبيوتر \"يعقل\" ما يتلقاه من مدخلات إذا تمت بحسب البرمجات التي فيه فهل يعي‬ ‫أنه يعقل؟ المشكل هو \"يعي\"‪ .‬هي تعني الوعاء‪.‬‬‫الكمبيوتر \"وعاء\" ومخ الإنسان \"وعاء\"‪ .‬لكن الوعاء الثاني يعي والاول لا يعي‪ .‬والوعاء‬‫الثاني يعي أن وعيه يفترض من هو أوعى منه ومن هو الأوعى بإطلاق‪ .‬لكن الوعاء الأول‬‫لا يعي ولا يعي أنه صنيعة من يعي وأن صانعه يعي أنه صنيعة من يعي أكثر منه حتى لو‬ ‫نسب ذلك إلى الطبيعة لأنه يكون قد روحنها‪.‬‬‫عندما أضع وراء السمع السميعة ووراء البصر البصيرة ووراء الشم الشميمة ووراء‬‫الذوق الذويقة ووراء اللمس اللميسة فلست اعتمد المقارنة النسبية بين الاكثر قدرة على‬‫السمع مني كما يكون الامر عندما أقارن سمعي بسمع الموسيقار المحترف فأكون مجرد ثقيل‬ ‫السمع بل القصد معنى آخر‪.‬‬‫فيمكن أن أكون أثقل سمعا من الموسيقار لكني سميع وهو أصم‪ .‬ويمكن أن أكون أعمش‬‫بصرا واقوى بصيرة من الرسام‪ .‬إلخ‪...‬ومن ثم الامر لا يتعلق بفرق في قوة الإدراك‬‫الحسي بل بما يمكن أن نصطلح على تسميته البروحنة أو بما يسميه ابن خلدون معاني‬ ‫الإنسانية التي تفسدها التربية والحكم العنيفان‪.‬‬‫وهذا المعنى أسمى من الإبستمولوجي والاكسيولوجي المستندين إلى المقوم المادي‬‫الضروري وغير الكافي للوجود الإنساني‪ .‬فالإدراك بالمعنى الذي وصفنا من دون المفقود‬‫المتعالي على الموجود طلبا للمنشود الذي وراء قيام الإنسان المادي كاف وزيادة للعلمي أداة‬ ‫وللقيمي العضوي غاية‪ :‬الحيوان له ذلك‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فالحيوان يعلم بالسمع والبصر وينطق بثا ويعقله صنيفه تلقيا (مستوى الادوات)‬‫لتحصيل الغذاء والجنس (مستوى الغايات) وهذه هي شروط القيام العضوي المشتركة بين‬‫الحيوان عامة والحيوان الإنسان خاصة‪ .‬وحتى لو أضفنا الجمال والخير والجلال بالمعنى‬ ‫المادي فذلك لا يغير من الامر شيئا‪.‬‬‫لأن الجمال يكون في خدمة الغذاء والجنس والجلال يكون في خدمة السلطة عليهما‬‫والخير هو تحصيلهما فيكون أسمى ما في الإنسان المادي عائدا إلى ما فيه من أصل ماديته‬‫أي الغذاء والجنس‪ :‬الجمال في اختيار المأكول والمنكوح والجلال في السلطان عليهما والخير‬ ‫في الزيادة منهما‪.‬‬‫وهذه هي أبعاد الرؤية المادية للوجود أبستمولوجيا وأكسيولوجيا‪ .‬ومعنى ذلك أنه لا‬‫يوجد في الغاية عند الإنسان ما يتعالى على المرحاض نهاية الاكل والحيض والنفاس نهاية‬‫الجنس والموت نهاية الحياة‪ .‬وهذه رؤية تبدو واقعية‪ .‬لكن من أين يأتي اليقين بأنها هي‬ ‫الحقيقة وأن التي تتعالى عليها هم؟‬‫ما الذي يجعل هذه الرؤية حقيقة وليست قابلة لأن تعتبر هي بدورها دوجم؟ ما الدليل‬‫على أن كل ما يتعالى على كيان الإنسان العضوي ينبغي أن يرد إليه رغم أننا لسنا على‬ ‫يقين من أمرين يفترضهما أصحاب هذه الرؤية مفروعا منهما‪:‬‬ ‫‪ .1‬هل نعلم فعلا حقيقة العضوي والمادي؟‬ ‫‪ .2‬وهل الوجود يرد إلى الإدراك؟‬‫ما أن نسأل هذين السؤالين حتى نتأكد من أن أصحاب هذه الرؤية رغم انتفاخ أوداجهم‬‫ودعواهم احتقار \"التكتب الصفراء\" كتبهم سوداء لأنهم يصادرون على المطلوب‪ .‬يتوهمون‬‫أن نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة حقيقة مطلقة فيتوهمون أن الوجود مردود إلى الإدراك‬ ‫ومن ثم يردون كل شيء إلى المادة‪.‬‬‫فيعرفون الإنسان بكيانه العضوي‪\" :‬يسمع وينطق ويرى ويعقل\"‪ .‬لكن القرآن يبين أن‬‫هذا التعريف يتعلق بالشرط الضروري للإنسانية لكنه ليس كافيا‪ .‬فقد بينا أن كل‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الحيوانات تسمع وتنطق وترى وتعقل وذلك كاف للدور العضوي أي للتواصل من أجل‬ ‫الغذاء والجنس والحياة الدنيا المشتركة لكل حيوان‪.‬‬‫وقد أعترف للحداثي \"الغالط في نفسه\" بموقفه النزيه من ذاته لو تواضع فاعتبر ذلك‬‫اعترافا بأنه لا يرى في نفسه إلى كيانه العضوي الذي يرده إلى ما يتوهم نفسه قد علمه‬‫منه‪ .‬لكنه يزعم أن ذلك هو الحقيقة المطلقة ويضحك ممن يؤمن بأن للإنسان منزلة أسمى‬ ‫وليست منزلة التعويض الفيورباخي‪.‬‬‫فيكون معنى \"صم\" ليس عدم السمع بل السمع الحيواني‪ .‬وأبكم ليس عدم النطق بل‬‫النطق الحيواني‪ .‬وعدم البصر ليس عدم الرؤية بل الرؤية الحيوانية عدم العقل ليس‬‫عدم الفهم بل الفهم الحيواني‪ .‬القصد غياب السميعة والنطيقة والبصيرة والعقيلة التي‬ ‫تجعل العلمي والقيمي يتجاوزان العضوي إلى الروحي‬‫فرد الجمالي إلى الوظيفة العضوية يجعله جزءا من مغريات الغذاء والجنس فيفسر بهما‬‫ورد الجلالي إلى الوظيفة العضوية يجعله جزءا من مغريات السلطان الذي هو أداة أدوات‬‫المقومين الاولين للعضوي أي الغذاء والجنس مع الأبهة المصاحبة للسيطرة عليهما‪ .‬وهذا‬ ‫هو الأفق المطلق للحياة الدنيا والمادية‪.‬‬‫لكن عندئذ ينبغي أن يتخلى صاحب هذه الرؤية عن الكلام في العدل والحرية إلخ‪..‬‬‫لأن ذلك مناف للقانون الطبيعي كما يحدده كاليكلاس قديما واليمين المسيحي الأمريكي‬‫حديثا وكل الفاشيات والدكتاتوريات والمافيات التي تحكم العالم‪ .‬فلماذا يتناقض الحداثي‬ ‫العربي فلجعل كلامه مثل فعله حيث هو حليفهم؟‬‫ما حاجته إلى التقية فجعل قوله وكأنه ذو نزعة مثالية وروحية يدافع علن الحقوق‬‫والقيم وفعله ذو نزعة واقعية ومادية يحالف الفاشيات القبلية والعسكرية في الداخل‬‫وأسيادهم واسياده الذين كلفوهم غوافير وطراطير لإدارة المستعمرات التي ما تزال‬ ‫محميات بسبب رؤية هؤلاء الحداثيين بالتقليد؟‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫هل هم حقا يعادون الدين من حيث هو دين أم يعادون الإسلام دون سواه من الاديان‬‫رغم أنه ليس أحد الأديان بل هو الديني في كل دين كما يعرف نفسه ويثبت تعريفه‬‫بالتاريخ النقدي للتحريفات الدينية التي هم أجبن الناس على الكلام فيها لأن إسرائيل‬ ‫وإيران واليمين الغربي وكل الفاشيات تتأسس عليها؟‬‫لم أسمع أي متشدق بنقد القرآن قال كلمة واحدة في التوراة وهي أبشع نص ديني عرفته‬‫البشرية‪ .‬ولا يمكن لأحد السكوت عن بشاعتها إذا لم يكن من المؤمنين بنظرية شعب الله‬‫المختار (إسرائيل) أو بنظرية اسرة الله المختارة (إيران) ومن ثم باحتقار نفسه ومحاولة‬ ‫الانضمام إلى من يعتبره \"جوهيم\"‪.‬‬‫لذلك فلا يمكن أن يكون الحداثيون العرب وخاصة من يتشدق بنقد القرآن منهم إلا‬‫\"أصم وأبكم وأعمى ولا يعقل\" لأنه قرأ القرآن ويدعي نقده دون أن يكون كيانه العميق‬‫قد تزلزل بحق فأدرك أن كل تخريفه حول الحداثة دليل جهل ليس بالدين فحسب بل‬ ‫خاصة بالفلسفة التي يدعون الكلام باسمها‪.‬‬‫فلا يوجد فيلسوف يعتد به في تاريخ الفلسفة ‪-‬وهذه ملاحظة غزالية في مقدمات‬‫التهافت‪-‬يقول بما يقول به المتشبهون بالفلاسفة ‪-‬وهؤلاء هم علة كتابة التهافت‪-‬ممن‬‫يتصور أن الفلسفي من حيث الانتساب إلى حب الحكمة قابل للفصل عن الديني من حيث‬ ‫هو الانتساب إلى حكمة الحب‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫\"حب الحكمة\" أو الفلسفة ‪-‬فيلو (حب) سوفيا (حكمة)‪-‬من صلة بـ\"حكمة الحب\" أو‬‫الدين اعترافا بدين للديان أو حب الله رمزا لحب القيم الخمس التي هي جوهر كيان‬‫الإنسان وهو معنى كونه خليفة أي حرية الإرادة وحقيقة العلم وخير القدرة وجمال الحياة‬ ‫وجلال الوجود تصبح عبودية للطبيعة والتاريخ‪.‬‬‫هذا هو المعنى العميق الذي يدركه من يقرآ القرآن دون أن يكون من {صُ ٌمّ ُب ْك ٌم عُ ِم ٌي‬‫فَ ُه ُم َلا َي ْعقِ ُلو َن}‪ .‬وهذا ما أبينه في هذه المحاولة لأثبت أن أدعياء الحداثة والعلمانية لا‬‫علاقة له بحب الحكمة (الفلسفة) فضلا عن حكمة الحب لأن ما يمجدونه ‪-‬التصوف‪-‬تحريف‬ ‫لحكمة الحب مثل تحريهم هم لحب الحكمة‪.‬‬‫والتحريف الصوفي لحكمة الحب يقدم دليلا فعليا على صحة نظرية فيورباخ التي تعتبر‬‫الكمال الإلهي تعويضا إنسانيا عن نقصه‪ .‬فالتصوف بجعل العبادة نفيا للدنيا يجعلها في‬‫الحقيقة غاية الوجود لأن فقدان شروط القيام العضوي يجعله الهدف الأول من الوجود‬ ‫فيكون كل التدين نفسه سلبيا وتعويضا لفقدانها‪.‬‬‫ولذلك فالإسلام ينفي كل إمكانية للعبادة غير المشروطة بتعمير الارض وسد الحاجات‬‫الدنيوية‪ .‬فأكثر الناس عبودية للدنيا هم المحرومين من شروطها الدنيا‪ .‬ولا يمكن تصور‬‫أي عبادة إسلامية غير مشروطة بسد الحاجات الدنيوية والرمز الأوضح هو الزكاة‪ :‬فهي‬ ‫لا تجب إلا على من له النصاب أي سد حاجات سنة‪.‬‬‫العبادة في الإسلام نوعان كلاهما ينتج عن بعدي كيانه‪ :‬فهو مستعمر في الأرض لتحقيق‬‫شروط كيانه العضوي وهذه هي العبادة الاولى‪ .‬وهي الشرط الضروري غير الكافي‬‫لتحديد منزلته الإنسانية‪ .‬والبعد الثاني هو كونه مستخلف في الأرض لتحقيق شروط‬ ‫كيانه الروحي وهذه هي العبادة الثانية‪.‬‬‫والعبادة الثانية لا تكون كافية من دون الضرورية‪ .‬فإذا غابت الضرورية صارت سلبية‬‫وليست إيجابية لأنها تعويضية وليست خالصة لوجه الله‪ .‬فحرم القرآن الرهبانية‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫واعتبرها ليست من الإسلام بل من تحريف المسيحية وعوضها بالاجتهاد للحاجة‬ ‫العضوية(النظر والعقد)والجهاد للحاجة الروحية(العمل والشرع)‪.‬‬‫فلو اكتفى الإنسان بالاجتهاد بالنظر والعقد ماديا لكانت الأبستمولوجيا والأكسيولوجيا‬‫مقتصرتي على علاج العلاقة العمودية مع الطبيعة شرطا التبادل المادي في الجماعة‪ .‬لكن‬‫الحياة الجماعية لا يكفي فيها النظر والعقد والتبادل بل لا بد من التواصل الروحي غاية‬ ‫للجماعة وشرطا لتسالم والتآخي‪.‬‬‫ولذلك وفي غياب حكمة الحب يصبح ما يسمى بحب الحكمة كذبة لأنها تؤدي إلى جعل‬‫الوجود حرب الكل على الكل وذلك هو أساس نظرية المعرفة القائلة بالتطابق وبمنطق‬‫الجدل القائل بالصراع وبنظرية الجماعة التي هي في حرب أهلية دائمة حول الأدوات في‬ ‫غياب الغايات‪ :‬الجميع يصبح مرتزقا‪.‬‬‫ماذا يعني الجميع يصبح مرتزقا؟ لماذا لم أقل مسترزقا؟ طلب الرزق واجب‪ .‬الارتزاق‬‫غير‪ .‬فطلب الرزق هو تعمير للأرض‪ .‬والارتزاق ليس طلبا للرزق من وجوهه بالنظر‬‫والعقد اجتهاد لحل مشاكل العلاقة العمودية بالطبيعة وبالعمل والشرع لحل العلاقة‬ ‫الأفقية بالتاريخ بل هو استغلال تبعية للمستبد بهما‪.‬‬‫لذلك فلا يوجد حداثي عربي ليس عميلا لصاحب سلطان محلي أو لصاحب سلطان على‬‫صاحب السلطان المحلي‪ .‬وذلك هو الارتزاق‪ .‬ولأن النخب لم تعد مسترزقة بل صارت‬‫مرتزقة فإن بلاد العرب لا تنتج لا ثروة مادية وتراثا رمزيا بل هي كما وصفها ابن خلدون‬ ‫\"عالة\" فسدت فيها معاني الإنسانية‪.‬‬‫وما أقوله عن النخب التي تدعي الحداثة يقال مثله أو أكثر منه عن النخب التي تدعي‬‫الأصالة‪ .‬كلهم مرتزقة ولا أحد منهم مسترزق‪ .‬وأقصد أنهم لا يساهمون في علاج علاقة‬‫الجماعة بالطبيعة لسد حاجات العمران (ابن خلدون) ويؤججون حربا أهلية تحول دون‬ ‫علاج العلاقة بالتاريخ وحاجات الاجتماع (ابن خلدون)‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫والآن تفهم لماذا لم يعد شيء من القيم مطلوبا لذاته بل كله صار من أدوات بعدي‬‫العجل‪ :‬معدنه (الاقتصاد) وخواره (الأيديولوجيا)‪ .‬فالجمال الطبيعي ذروته المرأة عند‬‫الرجل والرجل عند المرأة‪ .‬لكن لم يعد أحد يطلبهما لذاتهما‪ .‬فالمرأة مثلا للتسويق‬ ‫الاقتصادي وللتحيل السياسي والاستعلامي‪.‬‬‫وعندما تصبح الأغلبية في القوة الاقتصادية والسياسية نسوية سينقلب السلوك‪ :‬يصبح‬‫الرجل مجرد حامل للتسويق الاقتصادي وللتحيل السياسي والاستعلامي‪ .‬وفي الحالتين يعود‬‫الجمال ليكون في خدمة الغذاء والجنس وليس تعاليا عليهما لأنه يصبح أداتهما ولا معنى‬ ‫له غير هذا الدور في الفن المنحط‪.‬‬‫فعندما تفاخر وزيرة خارجية إسرائيل بأنها رقدت مع زيد أو عمر من زعماء فتح أو‬‫غيرها من الزعماء العرب فهي تعطينا مثالا جيدا يبين القصد من قلب العلاقة بين القيم‬‫في مثل هذه الحالات‪ .‬والظاهرة عامة وليست عربية‪ .‬فأحد كبار زعماء ألمانيا‪-‬وهو أول‬ ‫من دعانا كشباب سنة ‪-64‬سقط لهذه العلة‪.‬‬‫وكل مخابرات العالم تعمل بهذه الطريقة‪ .‬والفن تردى لهذه العلة وخاصة المرئي منه‬‫ولذلك فلا عجب أن تتنافس المغنيات والراقصات في التعري بلا توقف‪ .‬صحيح أن الفن‬‫مرتبط بالحواس‪ .‬فالكلمة اليونانية للاستيتيك تعني الحس‪ .‬لكن الجمالي في الحسي ليس‬ ‫الحسي بل ما وراءه اي الحدسي المتعين في الحسي‪.‬‬‫فيكون الحسي خادما لا مخدوما‪ .‬فإذا بالغنا في إظهار المثير من الحسي أصبح الجمال‬‫الحسي خادما لأن ما سيغلب عليه هو الإثارة الجنسية أكثر من الإثارة الروحية وإلا لما كان‬‫الفن بحاجة للتعرية‪ .‬فإذا أضفنا أن التغطية الشفافة أكثر قدرة على الإثارة والتعالي‬ ‫عليها فهمنا أن الفن المنحط غبي‪.‬‬‫فتضاريس بدن المرأة عند الرجل وتضاريس بدن الرجل عند المرأة أكثر إثارة مغطاة‬‫منها معراة‪ .‬ذلك أن الأولى تبقي على الخيال والثانية تزيحه‪ .‬ولا معنى للفن من دون‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫بقاء الخيال ولا خيال من دون \"ما وراء حجاب\" وهو نوع من \"الغيب\" في الجماليات‪ .‬لإن‬ ‫الإيحاء قريب من الوحي في الوعي الجمالي‪.‬‬‫والعالم المادي من حيث صلته بحكمة الحب عمل جمالي هو بدن إذ خلا من الإيحاء بما‬‫ورائه فقد كل معنى وأصبح جلمود صغر تماما كالمرأة العارية التي لم يعد فيها أدنى سر‪.‬‬‫ولولا هذا المعنى لما كان الستريبتيز ذا معنى‪ .‬وما أظن العالم جلمود صخر بل كما يقول‬ ‫القرآن آيات لمعان لامتناهية تحيط به‪.‬‬‫لذلك فعندما أسمع حداثيي العرب يفاخرون بأنهم المبدعون بالقياس إلى عقم‬‫الإسلاميين وخاصة بعد أن صار زعماء الإسلاميين يصدقون هذه الخرافة ويتجاهلون أنهم‬‫هم سبب العقم لأن جعلوا الدين عديم الصلة الفنون وقصروه على وظيفة العبادات‬ ‫والدجل من أجل الحزبيات والغاية القريبة لا أصدق ما أسمع‪.‬‬‫فبئس الإبداع إذا كان من جنس ما يحبره حداثيو العرب ويصوروه في مسلسلاتهم‬‫وافلامهم‪ .‬هي أعمال دون التاريخ في الروايات الشعبية‪ .‬وقد قال أرسطو إن الشعر أقرب‬‫إلى الفلسفة من التاريخ‪ .‬لكن الشعراء العرب جعلوه دون التخريف الشعبي والفلكلور‪.‬‬ ‫يتوهمون أن مضع بعض الكليشيهات الوجودية فلسفة‪.‬‬‫لم أر أبلد من المسرح والسينما المصريين ودونهما محاكاتهما في الخليج وفي المغرب‬‫العربي‪ .‬فكل ذلك بلادة وركاكة وقلب لعلاقة الفن بما يتعالى على دنايا الموجود إلى ما‬‫فيه من آثار المنشود التي تضفي على الوجود معنى الخلود‪ .‬لو كان الفن مجعولا لمحاكاة‬ ‫الموجود لأغنى عنه الطبيعة والتاريخ‪.‬‬‫وما قلناه عن الفن يمكن أن نقول أكثر منه عن الرياضة‪ .‬فهي جزء لا يتجزأ من التربية‬‫وهي جزء لا يتجزأ من شروط صحة الكيان العضوي وجماله وعنفوانه‪ .‬لكنها تحولت مجدر‬‫أداة للفرجة التي تعوض الحاجة الفاعلة بالحاجة المنفعلة‪ .‬والعلة هي جعلها مجرد تجارة‬ ‫في حاجة التلهي الوجودية‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ومثلها التواصل‪ .‬فأدوات التواصل الحديثة تبدو معبرة عن حاجة البشر للتواصل‪ .‬لكنها‬‫في الحقيقة لا تعبر عن التواصل بل عن التلهي المغني عن التواصل الحي‪ .‬فالثرثرة في‬‫الهاتف النقال لا تعبر عن حب من الطالب للمطلوب بل عادة إما عن حاجة أو خاصة عن‬ ‫ثلب لثالث بين الطالب والمطلوب‪.‬‬‫صار الفن والرياضة والتواصل بعكس دورها الروحي وحتى العضوي أدوات وفقدت‬‫طبيعتها الغائية فالأول يفيد الذوق والثانية تشجع الكسل والرابعة تغني عن اللقاء الحي‬‫وثلاثتها تحولت إلى أدوات سياسية واقتصادية فيكون الإنسان نفسه أداة لبعدي العجل‪:‬‬ ‫معدنه وخواره‪ .‬وذلك حتمي‪.‬‬‫فإذا لم لكن للفن وللرياضة وللتواصل منزلة الغاية فلا بد أن تتحول ثلاثتها إلى أداة‬‫ما هو غاية في الرؤية الشاملة التي تجعل العالم طبيعيه وتاريخيه عديم الغاية‪ .‬فالعالم‬‫الطبيعي والتاريخ لكاهما عمل فني ورياضي وتواصلي بينه وبين الإنسان من حيث هو‬ ‫متعال على ما فيه من حيوان‪.‬‬‫ما يسمونه فقدان العالم لساحريته ‪ Entzauberung‬يفقده أكثر من السحر بمعنى‬‫ما يتنافى مع واقعية العلم هو يفقده كل ما يجعل الإنسان إنسانا‪ :‬فلا معنى للإرادة إذا صار‬‫الإنسان خاضعة للضرورة وهو هو العالم الوضعي ولا للحقيقة إذا كان الفكر مرآة للواقع‪.‬‬ ‫ولا للخير إذا كانت القدرة قوة عمياء‪.‬‬‫ولا معنى للجمال إذا كانت محاكاة الموجود فنا ولا معنى للجلال إذا كان الاجل هو ما‬‫حصل‪ .‬المنشود للإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود هو ما به يكون الإنسان إنسانا‬‫وهو أسرار الوجود الذي هو سحر ليس بمعنى الوهم بل معنى ما يحيط بالموجود من متعال‬ ‫عليه هو تحريك المنشود للموجود‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫أعلم أن كل هذه الابعاد المتعلقة بدلالة \"صم بكم عمي فهم لا يعقلون\" لم تدر بخلد‬‫المفسرين‪ .‬ولا غرابة في ذلك‪ .‬فالمفسرون كلهم تركوا ما أمرت به فصلت ‪ 53‬وخاضوا في ما‬‫نهت عنه آل عمران ‪ 7‬فحرفوا كل معاني القرآن متوهمين أن تبين حقيقته توجد في شرح‬ ‫ألفاظه بدلا من آيات الله في الآفاق والانفس‪.‬‬‫ثم ازداد الطين بلة لما تصور البعض أن تخليص التفسير من الخرافات التي كان مصدرها‬‫الإسرائيليات والجاهليات يقتضي البحث عن الاعجاز العلمي لكأن الرسالة التي وجهها الله‬‫للإنسانية تذكيرا أخيرا كان هدفها أن يجعل المسلمين \"يربعون أيديهم\" ويكتفون بأخذ ما‬ ‫يكتشفه غيرهم ليزعمونه سبقا للقرآن‪.‬‬‫فلا يكون القرآن رؤية وجودية تذكر الإنسان بما جهز به ليؤدي الوظيفة التي هي‬‫مضمون التذكير والتي هي رؤية متعلق بالمرسل والمرسل اليه والرسول ومضمون الرسالة‬‫وطريقة التربية والحكم لتحقيق ما تطلب من المرسل إليه في مهمتيه المحددتين‪ :‬تعمير‬ ‫الارض والاستخلاف فيها‪.‬‬‫فأفسدوا التربية والحكم وجعلوا الأمة عالة على غيرها بما أفسدوا معاني الإنسانية فيها‬‫لأنها أصبحت عاجزة عن البحث في الآفاق لمعرفة قوانين العالم الطبيعي والتاريخي وسنن‬‫الحضارات والاكتفاء بحشو الذاكرة بتخريف حول الغيب الذي لا يمكن حسم أي خلاف‬ ‫حول تأويلها لعدم وجود مرجعية يحتكم اليها‪.‬‬‫والقرآن ألغى كل مرجعية يحتكم اليها مثل مرجعية الوساطة (لأن النبي نفسه مذكر‬‫وليس وسطا ولا سلطان له على مخاطبيه لست عليهم بمسيطر) أو مرجعية الوصاية (لأن‬‫النبي نفسه كحاكم لا يحكم بحق إلهي ومعصوما بل بوصفه مجتهدا وبالشورى)‪ .‬والقرآن‬ ‫يأمره بأن يشاورهم في الامر الذي هو أمرهم‪.‬‬‫ومن نسب الأمر للجماعة وجعل الحكم بشورى الجماعة هو الله نفسه في الشورى ‪.38‬‬‫كل هذه المعاني التي هي من آيات الله في الآفاق والانفس أهملت وعوضتها معان متعلقة‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫بالغيب الذي نهي عن تأويله لأن في ذلك تأسيسا لوساطة من يدعون وراثة النبي في ما لا‬ ‫يملك بمعنى سني وإن كان دون الشيعي‪.‬‬‫فالشيعة تدعي الوساطة (المرجعية الدينية) والوصاية (الحق الإلهي في الحكم) والسنة‬‫جعلت وظيفة التربية بالتدريج تتحول إلى وساطة لأن من يدعون الرسوخ في العلم زعموا‬‫أنهم مثل الله يستطيعون تأويل المتشابه ثم لم يخوضوا إلا فيه سواء كانوا متكلمين وفقهاء‬ ‫أو خاصة فلاسفة ومتصوفة‪.‬‬‫فصار الجميع يكذب باسم النقل أو باسم العقل الكلامي أو باسم العقل الفلسفي أو باسم‬‫الكشف الصوفي‪ .‬وكلها دجل في دجل‪ .‬ذلك أن الوعي بما يتجاوز الحسي والعقلي المبني‬‫عليه مفهوم حد وليس علما‪ .‬بمعنى أنه مفهوم يبين ما لا يحق للعقل ادعاؤه ولا يبين علما‬ ‫متجاوزا للعقل‪ :‬شرط الإيمان والتعالي‪.‬‬‫فالإيمان هو أساس القيم الخمس التي لا يمكن للعلم أن يثبتها والحمد لله أنه لا يستطيع‬‫كذلك نفيها‪ :‬حرية الإرادة وحقيقة المعرفة وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود‪.‬‬‫ولولاه لاستسلمنا للضرورة الطبيعية التي تعني أن القانون الوحيد هو القوة وما بين القوى‬ ‫من نسب تماما كما يقول كاليكلاس‪.‬‬‫وعندئذ تفهم أن الحرية هي إرادة القوة والعلم هو رأيه والخير هو فعله والجمال هو‬‫ذوقه والجلال هو سلطانه‪ .‬وبهذا يؤمن كل الحداثيين وخاصة العرب منهم رغم زعم‬‫اقوالهم العكس‪ .‬فهم مع الاقوى في الداخل الذي هو الأضعف في الخارج‪ :‬هم طغاة النخب‬ ‫العبيد لطغاة الحكام العبيد لحاميهم الاستعماري‪.‬‬‫ولست بحاجة لبيان أنهم يعتبرون الحرية والحقيقة والخير والجمال والجلال كلها مطلوبة‬‫لغيرها وليس لذاتها والدليل أن فنهم وفكرهم كله يجعل هذه القيم في خدمة الحاجتين‬‫العضويتين أي فن المائدة وفن السرير‪ .‬هم معذورون‪ .‬فالنفس التي تسلم بأن حياتها هي‬ ‫دنياها لا تنتظر منها أن تفكر في ما وراها‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫بالمناسبة لما عاد باني ماليزيا للحكم اكتشفنا أن رئيس الحكومة الذي خسر الانتخابات‬‫سرق ما لا يقدر من المال فتساءل ابني يعرب‪ :‬ماذا يمكن أن يفعل بهذا المال الذي سرقه؟‬‫السرقة ليست بسبب سد الحاجة كما يسرق الجائع الخبز‪ .‬السرقة هنا هي اللامتناهي‬ ‫الفاسد بمعناه الهيجلي‪.‬‬‫فهي لا تتعلق بالمال وحده بل خاصة بالدعوة الشهيرة في الخليج \"طويل العمر\"‪ .‬لا يمكن‬‫لمسلم مؤمن بحياة أخرى أن يجعل هذه الدعوة أفضل دعوة تسمع في بلاد الخليج لم تصلنا‬‫بعد لكنها ستصل دون شك لأن رئيسنا لم يشعر بعد أن وصل إلى السن التي يرجع فيها‬ ‫الإنسان إلى ربه قبل فوات الأوان‪.‬‬‫فمن لا يفكر في الموت لم يفهم لا الدين ولا الفلسفة‪ .‬ومن ينسى الموت ولو للحظة لا‬‫يفهم معنى الحياة ولم هي بالذات من آيات الله في الانفس التي بها يمكن للإنسان أن يتعالى‬‫على كل ما يتوهمه من إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود لأنها التجربة الروحية الأسمى‬ ‫التي تبين الانسان خليفة الله بحق‪.‬‬‫لما تنظر في سرقات حكام العرب وفي تبذيرهم لثروات شعوبهم تعلم أن قارون ليس قصة‬‫قرآنية فسحب بل هو مرض إنساني وهو \"عشش\" في بلاد العرب حتى إن شعب اليمن المسكين‬‫كان يتضور جوعا وحاكمه اللص والطالح كان قد سرق خمس مرات ميزانية تونس التي هي‬ ‫غنية حتى حاليا غنية بالقياس إلى اليمن‪.‬‬‫لما تسأل عن ثروات تونس التي سرقت في عهد ابن علي ومازالت تسرق لأن مافياته ما‬‫تزال هي الحاكمة ولما تسأل عن ثروات مصر وسوريا والعراق وكل بلاد العرب فأنت لا‬‫يمكن أن تفسر ذلك بحب المال فحسب لأن حب المال يمكن يبلغ حدا يصبح صاحبه زاهدا في‬ ‫المزيد لو لم ينس أنه مائت لامحالة‪.‬‬‫هذا المفهوم الذي يجعل الإنسان يتخلق من اللامتناهي الزائف هو المعنى الذي يجعل‬‫الإنسان يدرك أن الأبستمولوجي والاكسيولوجي المقصورين على ساد الحاجات الأولية‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫أداتان وليسا غايتين‪ .‬وهما أداتان توصلان الإنسان الذي ليس اصم وأبكم وأعمى يعقل‬ ‫أن ما وراء كيانه العضوي كيان روحي فوق الأدوات‪.‬‬‫ذلك أنه في كل الحالات إذا بقي في عالم الأدوات فسيكون هو بدوره مجرد أداة‪ :‬فما‬‫يكدسه من مال ويحرم منه أصحابه سيرثه غيره مهما \"طال عمره\" الدعوى المشؤومة لعجائز‬‫الحكام العرب الذين يعيشون على مص دماء شعوبهم التي يأخذون منها قطرات لأن الباقي‬ ‫هو الجزية لحماتهم ضد شعوبهم‪.‬‬‫وهنا يأتي دور النخب العربية بجل صنفيها‪ :‬التي تدعي التأصيل وخاصة الدعاة الجدد‬‫والتي تدعي التحديث وخاصة \"النقاد\" الجدد للقرآن وللسنة وللتاريخ الإسلامي واصحاب‬‫الوسطية من الصنفين والتي تعني السماح لإيران وإسرائيل ومن ورائهما عبيدهما من حكام‬ ‫العرب يرمون الفتات لهؤلاء \"المفكرين\"‪.‬‬‫وليس أيسر عليهم من رميك بتهمة الإرهاب لأنك فضحتهم‪ .‬اعرف الكثير من \"مفكري\"‬‫تونس الذي أصبحوا محامين على قومية بشار وثورية السيسي و\"مقاومية\" عميل إيران في‬‫الضاحية وإيران ثم أخيرا محامين على التطبيع مع إسرائيل لأن مموليهم طبعوا بمعنيي‬ ‫الطبعة والطبيعة‪.‬‬‫وانهال الصم والبكم والعمي والذين لا يعقلون بكل سيوف قبائل العرب ليس على محمد‬‫بل على القرآن والسنة وعلى التاريخ الإعلامي إن واحدة من أغبى ما رأيت بين أساتذة‬‫الاعلام أن محمدا كان زعيم قطاع الطرق ضد قوافل المتحضرين مثلها من عتاة تجار قريش‬ ‫لكأن من أخذ أرزاق المهاجرين غيرهم‪.‬‬‫لم يعد أحد يستحي من الدفاع عن الجاهلية وعن الاستعمار وعن الاستبداد وعن الفساد‬‫وعن تجويع العباد وتقتيل الاطفال والشيوخ ذكورا ونساء في الشام وفي اليمن وفي مصر‬‫وفي ليبيا وفي تونس التي كانوا يخططون لقتل الكلفة المقبولة من ذوي الدم غير الاحمر‬ ‫(‪ 20‬ألف) باسم الحداثة والتقدمية والتنوير‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فبينوا بل وأثبتوا بل وبرهنوا على أن القرآن بعبارة \"صم بكم عمي فهم لا يعقلون\"‬‫يقصد رهطهم الموجود في كل عصر وفي كل مصر ليس عندنا فحسب بل العالم اليوم محكوم‬‫بهذه الرؤية ومن ثم فالرسالة القرآنية أصبحت من جديد المخرج الوحيد لتحرير الإنسانية‬ ‫من هذا المرض الخبيث جذام العصر‪.‬‬‫هذا هو الخطاب الذي يتفوه به أنصاف المثقفين في تونس ومصر وكل بلاد العرب ويسمون‬‫ذلك تقدمية وحداثة وتنوير‪ .‬وهي في الحقيقة عين ما وصفه ابن خلدون بالبداوة الأولى‬‫التي لا تعرف قانون إلا القانون ا لطبيعي ولا تعرف أخلاق إلا أخلاق التاريخ الطبيعي أي‬ ‫صراع القوى المادية‪.‬‬‫وليس لهؤلاء من دواء إلا بالتي هي الداء‪ .‬فإذا كانوا قلة من المرضى لم يفيد معهم‬‫دواء التي هي أحسن أي مخاطبهم بوصفهم بشرا يسمعون وينطقون ويبرون ويعقلون فأهلا‬‫وسهلا‪ .‬وإلا فدواؤهم بدائهم‪ .‬يريدون استئصال الاغلبية وهم عاجزون فقد يضطروا‬ ‫الغالبية لاستئصالهم كما يحدث في كل ثورة‪.‬‬‫فتكون براقش قد جنت على نفسها‪ .‬وليكونوا واثقين أن من يحميهم ليس من يحمي‬‫حكامهم‪ .‬فحكامهم سيفرون بما سرقوه وخزنوه في بنوك الغرب‪ .‬وسيقع لكم ما وقع‬‫للحركيين في الجزائر ولبقايا نظام فياتنام الجنوبية إذ حتى \"السوق السوداء\" في الجزائر‬ ‫لن يعترفوا بكم‪ .‬فاتعظوا إن كان لكم ألباب‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫آن أوان شرح الآية بنصفها الأول‪{ :‬وَ َم َثلُ الَّ ِذي َن َكفَ ُروا كَ َمثَ ِل ا َّل ِذي يَنْ ِعقُ بِ َما َلا َيسْمَعُ‬‫ِإ َّلا ُدعَا ًء َو ِن َداءً ۚ صُ ٌّمَ ُبكْمٌ عُمْيٌ فَ ُهمْ لَا َي ْع ِق ُلو َن} (‪ 171‬البقرة)‪ .‬فلا علاقة لـ\"كفروا\"‬ ‫بالحكم الفقهي وصفا لعلاقة بدين معين بل القصد \"ينعق بما لا يسمع\" فلنشرح‪.‬‬‫فالنعيق هو صوت الغراب‪ .‬والغراب كما يعلم الجميع له دلالة الحيوان الذي علم الإنسان‬‫التعامل مع سوأة أخيه‪ .‬وفيه إذن دلالة أن الإنسان عندما يجرم يصبح أقل عقلانية من‬‫الغراب الذي علمه كيف يواري سوأة اخيه‪ .‬لكن الامر هنا يتعلق بمواراة سوأة ذاته‪ .‬وهذا‬ ‫هو الكفر بالقيم‪.‬‬‫فلنترجم الآن الآية \"من لا سميعة له لا نطيقة له‪ .‬ومن لا بصيرة له لا عقيلة له\"‪.‬‬‫فالنعيق منطق غراب ومحاكيه في قتل أخيه ومواراة سوأته سلوكه أقصى ما يبلغه فهم‬‫الدعاء والنداء تماما كحال الحيوانات فيكون بلا عقل تابع لمن يأمره فيتأمر مثل البهائم‬ ‫وتلك حال النخب التي تأتمر بأوامر مموليها‪.‬‬‫قبل هذه الترجمة لم يكن الجملة مفهوما من الجملة إلا العلاقة الأولى بين السمع‬‫والنطق‪ .‬فالأصم أبكم وهذا قانون عضوي معلوم‪ .‬لكن لا توجد نفس العلاقة بين الأعمى‬‫وغير العاقل‪ .‬فالكثير من العميان أعقل من الكثير من البصيرين‪ .‬لكن بمجرد أن ننتقل‬ ‫من البصير إلى البصيرة تصبح العلاقة مثل الاولى‪.‬‬‫إذن فمن لا بصيرة له حتى لو كان يرى لا عقل له‪ .‬هو يرى لكنه لا يعقل‪ .‬وهذا هو‬‫عمى البصيرة المساوي لفقدان العقل‪ .‬ثم نعود إلى بداية الجملة‪ .‬فيكون المقصود ليس‬‫العلاقة بين السمع والنطق العاديين بل بين السميعة والنطيقة مثل العلاقة الثانية بين‬ ‫البصيرة والعقيلة‪ .‬فيكون فاقد الاربعة دون الغراب‪.‬‬‫لماذا هو دون الغرب ودون قاتل أخيه؟ لأن الغراب رغم كونه حيوانا وارى سوأة اخيه‬‫ووراى جريمته‪ .‬لكن من كان بهذه الصفات من البشر يفاخر بجريمته ولا يواريها ويعتبر‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫التنكيل بسوأة اخيه بطولة‪ .‬وهذا هو الجاري حاليا‪ :‬اسمع قومي عربي ويساري عربي‬ ‫وداعية مدخلي ولحاس ليبرالي عما يفرحهم حاليا‪.‬‬‫القومي واليساري يدعي تأييد ما يسميه ممانعة فتراهم فرحون بجرائم بوتين وحزب‬‫الله وإيران وعبدهم ومبرر وجوده في الدبلوماسية الدولية زعيم النصيرية في دمشق‪.‬‬‫والدعاة الجدد والجامية يدعي تأييد عبيد إسرائيل بدعوى الصمود إمام الصف الأول فلا‬ ‫تجد بينهم إلا مليشيا السلاح أو مليشيا القلم‪.‬‬‫وأغلبهم كالطبل يأكل من الوجهين وهم توابع السيسي ومموله الأساسي لأن هؤلاء‬‫يدعون معاداة إيران في الظاهر وهم أعداء السعودية في الباطن ويدعون معادة إسرائيل‬‫في الظاهر وهم أعداء فلسطين في الباطن‪ .‬وفي الحقيقة اغلبهم ينقل المعكرة إلى ما أوراق‬ ‫التوت‪ :‬الحداثة والعلمانية والحريات الفردية‬‫والحقيقة الثابتة هي أنهم جميعا لا يعتبرون القيم حقائق فعلية بل هي ذرائع‬‫أيدولوجية تماما كما هو الدين في رؤية الملالي والحاخامات‪ .‬ذلك أن المعبود الوحيد عنهم‬‫هو البقرة أم العجل الذهبي (التي سميت سورة البقرة باسمها) فذبحها يعني التحرر من‬ ‫عبادة أم العجل ودينه معدنا وخوارا‪ :‬إحياء القيم‪.‬‬‫وحتى إذا فقدوا كل حجة فذبحوها فسيكون بوما كادوا يفعلون أي ذبحها كان في الظاهر‬‫لكن العجل بقي حيا فيه‪ :‬يعبدون بعدي العجل أي الذهب والخوار‪ .‬نعيق الغراب والخوار‬‫شيء واحد‪ .‬الأول هو نطقهم الحيواني والثاني هو عقلهم الإيديولوجي‪ .‬وفي الجملة‬ ‫فالآية تشخيص أنثروبولوجي للدنيوية والمادية‪.‬‬‫ولو لم أكن قد بينت أن المثال لا يكون صادقا إذا كان المتكلم عليه منطلقه التعويض‪.‬‬‫فقد بينت أن الإسلام يبدأ بوظيفة الإنسان الاولى شرطا ضروريا غير كاف لإنسانيته أي‬‫تعمير الأرض لأن سد الحاجات يغنيه عن الفقر المادي فيوعيه بالفقر الوجودي أي بأن‬ ‫الإنسان لا يمكن أن يرد إلى بعده العضوي‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ولهذه العلة نفى الإسلام تقديم العبادة المشعرية على العبادة القيامية‪ .‬فاعتبر المال‬‫قياما للبشر (النساء ‪ )5‬قبل سن الرشد وجعل كل الفروض الخمسة مرتهنة بالحد الكافي‬‫من سد الحاجات المادية حتى تكون العباة المشعرية بحق عبادة صادقة وليس تعويضية‪.‬‬ ‫والرمز هو الزكاة والحج‪ .‬لكن المبدأ واحد‪.‬‬‫فالصلاة مكلفة لأنها تحتاج إلى النظافة والصحة وكلتاهما بحاجة لقدر كاف من الثروة‬‫والصوم مثل الصلاة وهو أحوج للصحة منها ولم يبق إلا الشهادة وهي وحدها عتبة الإسلام‬‫وليست كافية إلا إذا سعى الأنسان لسد الحاجات ولم يوفقه الله أو كان من ذوي العاهات‬ ‫فهو عندئذ معذور شرعا‪.‬‬‫الإنسان مكلف بالاستخلاف غاية والتعمير أداة وامتحان أهلية الإنسان للأول لا يحصل‬‫إلا بسلوكه في الثاني‪ :‬وتلك هي العبادة غير المشعرية التي من دونها ومن دون أن تكون‬‫خلالها لا معنى لها لأن كل العبادات المشعرية وكل الأحكام الشرعية تعليلها خلقي حتما‪.‬‬ ‫والخلقي هو التعامل مع الغير كالذات‪.‬‬‫لذلك فليس في كلامي على المثال تزهيدا في الواقع‪ .‬كلامي فيه هو اعتبار الواقع ليس‬‫الحاصل فحسب بل هو ممكن التحصيل ومن ثم فهو المسافة الفاصلة بين الامر الواقع‬‫والواحب أو بين الموجود والمنشود وذلك هو مضمار التسابق في الخيرات أو فسحة القيم‬ ‫الخمسة‪ :‬الحرية والحقيقة والخير والجمال والجلال‪.‬‬‫فتكون الآية ‪ 171‬من البقرة محددة للانثروبولوجيا أو نظرية الإنسان القرآنية وهو‬‫تحديد يضع لمعاني الإنسانية مستويين‪ :‬الأول تسعى إليه علوم الدنيا وهي غاية حب‬‫الحكمة إذا أوصلت صاحبها إلى معاني ما وراء الدنيا أو حكمة الحب فيتجاوز الإنسان عبادة‬ ‫الفاني ويشرئب للباقي‪.‬‬‫والاشرئباب إلى الباقي هو المنشود المرسوم في كيان الإنسان وهو معنى الفطرة الإسلامية‪:‬‬‫أي إن الإنسان مفطور على الحرية والحقيقة والخير والجمال والجلال‪ .‬وعندما ينساها‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫يكون كما تقول الآية محمد ‪\" 24‬أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها\"‪ .‬الأقفال هي‬ ‫ما وصفنا في هذه المحاولة‪.‬‬‫وقد يتوهم الحداثي أنه تخلص بها مما يسميه دينا خلطا بين الديني كما يعرفه القرآن‬‫والدين كما يعرف يسار الماركسية وقبلهما فولتار وقبل قبلهما الباطنية‪ :‬توظيفه لخدمة‬‫بعدي العدل أي معدنه وخواره‪ .‬لذلك فالأفعال نوعان‪ .‬الأول هو معدن العجل المؤجر‬ ‫لصاحب الخوار أي الإيديولوجي ليحارب الديني‬‫ولا أدعي أن أصحاب الخوار كلهم مأجورون فبعضهم انطمست روحه فلم يعد له ذائقة‬‫وجودية يمكن أن يزلزلها تدبر القرآن فيكونوا كما وصفهم القرآن صما بكما عميا لا يعقلون‬‫ولكن لأن قلوبهم أقفلت وعقولهم صدئت ولم يعد لهم ما به يمكن أن يتأسى بقاتل أخيه‬ ‫محاكاة للغراب‪.‬‬‫لكن من يدعون الزعامة بينهم هم الذين يجرمون مع سبق الاصرار‪ .‬وكم أعرف منهم من‬‫هم أجهل خلق الله وغالبهم لا علاقة له لا بالدين ولا بالفلسفة بل أكثرهم من دارسي‬‫الآداب وفاقدي الأدب يقرأون كتابا أو كتابين فيصبحون زعماء وما أيسر الزعامة كما قال‬ ‫الفارابي‪ :‬فرئيس العامة هو أكثرهم عامية‪.‬‬‫ومن أهم علاماتهم هي أسقاط تبعيتهم لبعدي العجل على غيرهم‪ .‬وغيرهم ليس‬‫بالضرورة من معاصريهم‪ .‬فهم يقرؤون مثلا الغزالي على أنه عميل السلاجقة وابن تيمية‬‫عميل الأيوبيين وكم اتهموني بالوهابية لأني درست ابن تيمية وهم لا يعلمون معايير ابن‬ ‫تيمية تلغي كل من يؤمن بالوساطة والوصاية‪.‬‬‫والوهابية انحرفت إلى حد يجعلها تشبع خفي لأن العلماء صاروا وسطاء والأمراء صاروا‬‫أوصياء حتى اعتبروا حاكمهم ولي الأمر نفيا صريحا للشورى ‪ 38‬التي تعتبر الامر امر‬‫الجماعة‪ .‬ثم أفتوا بصحة البيعة المفروضة وبشرعية المتغلب ومن ثم فدعوى الحق الإلهي‬ ‫في الحكم عوضتها دعوى الحق الطبيعي فيه‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ولا شيء من هذا له علاقة بابن حنبل فضلا عن ابن تيمية الذي هو أكثر وضوحا‬‫وتأسيسا نظريا لهذه الامور منه‪ .‬وعندي أن الوهابية في شكلها الذي نراه لا تقل خطرا‬‫عن الإسلام من الخمينية‪ :‬الفرق الوحيد هو انتحال الصفة أهدهما في الانتساب على سلفية‬ ‫أبو بكر والثاني إلى سلفية علي‪.‬‬‫فشيعة علي تكذب عليه وشيعة أبو بكر تكذب عليه‪ .‬وعلي خليفة وليس إماما مثله مثل‬‫أبو بكر ابو بكر ليس ولي أمر بل الأمر للامة وهي الوحيدة التي بوصفها الجماعة المستجيبة‬‫لربها (الشورى ‪ )38‬هي صاحبة الامر وهي تسوسه الشورى ويمكن أن تولي من تنوبه تحت‬ ‫رقابتها في شأنها وخاصة في الانفاق من رزقها‪.‬‬‫أبو بكر لما كلف بالخلافة ذهب للعمل في السوق‪ .‬فاتفقت الامة على التكفل بشروط حياته‬‫المادية حتى يتفرغ للقيام نياية عن الامة بشؤون الدولة‪ .‬لمن يكن يغرف من بيت مال‬‫المسلمين ويدفع الجزية لأي قوة تحمي نظامه ضد شعبه وحقوقه في ثروته‪ :‬ومما رزقناهم‬ ‫ينفقون‪ .‬ونفس الامر في إيران‪.‬‬‫فالملالي والحرس المزعوم ثوريا مافيتان تجوعان الشعب الإيراني المسكين‪ .‬وربما يوجد‬‫فرق بين الملالي وعلماء الدين السنة‪ .‬فهؤلاء مغلوبون على أمرهم وليس لهم ما للملالي‬‫من سلطان يجعلهم قسماء المافية التي تسمى حرس‪ .‬مافية حكام العرب عبيد لحاميهم‬ ‫الاستعماري ويستعبدون العلماء والشعوب‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬