أبو يعرب المرزوقيما الذي يحول دون إدراك كنهها؟ الأسماء والبيان
المحتويات 1 -الفصل الأول 1 - -الفصل الثاني 8 - -الفصل الثالث 13 - -الفصل الرابع 18 - -الفصل الخامس 23 - -الفصل السادس 29 - -الفصل السابع 35 -
--المعلوم أن الباب السادس من مقدمة ابن خلدون يحتوي على عرض نسقي لذروة الحضارة استكمالا لشكل العمران الحضري بعد الأساس الضروري لكل عمران: .1البدوي من الاعتماد على انتاج الطبيعة .2فتنشئة الدولة .3ثم المدينة .4فالانتاج الإنساني .5فغاية أي حضارة بعودتها على ذلك كله وأدواتها. مواد المقدمة: .1الشروط الطبيعية والرمزية لنشأة العمران وتفاعلهما في الاتجاهين وذلك هو الأساس المشترك لكل أشكال العمران. .2العمران البدوي وأساسه إنتاج الطبيعة .3الدولة .4المدينة .5الاقتصاد وأساسه انتاج الإنسان .6العلوم وأدواتها وشروطها المادية (متناسبة مع العمران) والتربوية (متثامرة معالمناهج التربوية) عودة على كل ما تقدم لتجعله عملا على علم :دورة ثابتة ذات مستويات متوالية.ومعنى ذلك أن العمل يتقدم على النظر في العمران البدوي والعكس في العمران الحضري.أبو يعرب المرزوقي 1 الأسماء والبيان
--والعلة هي تراكم الخبرة وتوالي العادات النظرية على الممارسات العملية إلى أن يصبحالإنسان لا يعمل إلا بشكل الاستراتيجيا العملية التي هي تطبيق لنظريات سابقة متعلقة بمجال العمل أيا كان والخبرة المتعلقة به وبطرقه ووسائله.إذا اعتبرنا الباب الأول مشتركا بين العمرانين بقيت لنا خمسة أبواب هذه بنيتها :الرابعهو القلب وهو المدينة التي تفصل بين العمرانين .المدينة غاية البدوي وبداية الحضري.والنقلة من بداية البدوي إلى غايته علتها الدولة أو الحماية ومن بداية الحضري إلى غايته علتها الاقتصاد أو الرعاية.تكون نسبة المدينة (الباب )4إلى الدولة والحماية (الباب )3عين نسبة المعرفة (الباب )6إلى الاقتصاد والرعاية (الباب .)5ومن ثم علة النقلة من الإنتاج الطبيعي إلى الإنتاج الإنساني متناسبة مع علة النقلة من انتاج الصناعات العفوية إلى انتاج الصناعات النظرية أو العلمية. والصناعات سواء كانت عفوية أو نظرية تتعلق بموضوعين: • صناعة الإنسان• صناعة ما يحتاج إليه الإنسان إما لما يسد به حاجاته أو للأدوات التي يصنع بها ما يسد به حاجاته.فتكون على خمسة أصناف كل منها مضاعف :الأصل هو صناعة الجماعة نفسها لتكون حامية وراعية لذاتها ويتفرع عنها أربع \"صناعات\" مضاعفة.فـ\"صناعة\" الإنسان الحامي والراعي وهو موضوع التربية و\"صناعة\" الإنسان لما يسدحاجاته في الرعاية وفي الحماية ولأدوات ما به يصنع ما يسد حاجاته في الحماية والرعاية.وكل واحد منها يكون إما رعوانيا أي معتمدا على الخبرة العفوية أو علميا أي معتمدا على الخبرة ذات الأساس النظري والعلمي.هذه البنية بأصنافها ثابتة لا تتغير مهما تقدمت البشرية .ما يتغير هو أشكال الدولةالناقلة من العمران البدوي إلى العمران الحضري وأنظمتها ومؤسساتها وقوانينها لكنهاأبو يعرب المرزوقي 2 الأسماء والبيان
--تبقى أساسا وظيفة الحماية الداخلية والخارجية هي التي تحدد حقيقتها أصلا لبقاء الجماعة واستقرارها والتفرغ لرعاية ذاتها.وما يتغير هو أشكال الاقتصاد أو تطوير شروط الاستقلال عن الإنتاج الطبيعي بفضلالنظرية المطبقة عليه فيطور تربية الإنسان (لجعله قادرا على حماية ذاته ورعايتها)ويطور سد الحاجات بالإنتاج وإنتاج ما به يقع الإنتاج أدوات ومناهج .فنكتشف بعدي السياسة الإنسانية :حكم الإنسان وتكوينه.والمقدمة هي في الحقيقة بحث في هذين البعدين :الحضارة علاقة بين الطبيعة والثقافةأو بين ما يستمده الإنسان من الطبيعة المحيطة به ومن طبيعته ليجعله شبه طبيعة ثانيةتحرره من الأولى بالتدريج بفضل الحكم والتكوين وهما سلطتان :الأولى للحماية والثانية للرعاية .وهما متشارطتان فعلا وانفعالا.موضوع المقدمة (أو ثورتها) هو البحث في هذا التشارط وما يترتب عليه في الهندسةالعمرانية ودورها في مسار الإنسانية التاريخي الذي حددت معادلته في الباب الاول بمخمس عجيب هو: .1الشرط الطبيعي .2الشرط الرمزي أو الروحي .3أثر الثاني في الأول .4أثر الأول في الثاني .5الحصيلة هي الحضارة الإنسانية موضوع العلم الذي اكتشفه ابن خلدون فصار بذلكمؤسس العصر الأول من العلوم الإنسانية تأسيس أرسطو للعصر الأول من العلوم الطبيعية. الشرط الطبيعي معلوم :درسه ابن خلدون وهو الجغرافيا الطبيعية والمناخ.أما الشرط الرمزي أو الروحي فيعسر تحديده :فهو درسه واعتبر منطلقه الخوف منالمستقبل ويمكن اعتباره ترجمة للخوف من فقدان شروط البقاء المستمد من الطبيعة وهو إذن خوف مما ينتظر الإنسان من مجهول في طلب لقمة العيش.أبو يعرب المرزوقي 3 الأسماء والبيان
--ولهذا ربطه ابن خلدون بالتوقع والنبوءات والتنجيم وبكل ما له علاقة باستشرافالمجهول .وينتج عنه حتما الاستعداد له .فيكون الامر متعلقا بالرعاية (سد الحاجات) والحماية (الدفاع عن الذات).وإذن فالبعد الروحي أو الرمزي المحدد لطبيعة التعامل مع الطبيعة المحيطة تعبير عن طبيعة الإنسان المحاطة.ولما كانت الطبيعة المحاطة فيها كيان عضوي هو البدن وهو الذي يطلب سد حاجته وكانفيها كيان روحي يعي هذا الطلب فإن الإنسان قاس الطبيعة المحيطة على ذاته فاعتبرهاهي بدورها ذات كيان عضوي هو ما يشاهده منها وكيان روحي هو ما يعتبره في نسبته إليها مثل ما لديه فاعتبرها ذات روح.فأصبح له معها تعاملان :مادي بينها وبين بدنه وروحي بين روحه وروحها .ومن هنا نشأتعلاقتان بين كيان الإنسان وكيان المحيط .وبدأت العلاقة تتجاوز مجرد اللقاء بين كيانينماديين إلى لقاء بين كيانين ذوي روحين تتصادقان وتتعاديان وتتواصلان .وقد درس الباب الأول هذا التفاعل في الاتجاهين.وكل ما سيأتي في الأبواب الخمسة الموالية هو ثمرة هذا التفاعل المتطور من المادي إلىالروحي ثم العائد من الروحي إلى المادي .والباب الأخير السادس هو غاية الحضارةالإنسانية أو اكتمال الإنسانية والباب الثاني الأول في هذا التفاعل هو بداية الحضارة الإنسانية أو شروع الإنسانية في التحقق.وبهذا المعنى فالمقدمة لها موضوعان رئيسيان :تكوينية نظام الحماية وتكوينية نظامالرعاية والجامع بينهما هو تكوينية الإنسان غاية وأداة .لكن التكوينيتين لتحقيقالإنسانية عامة دون كلام على حضارة معينة إلا بوصفها عينة من الحضاري عامة تفهمانمن خلال علاقة نوعي الأحياز المحيطة بكيان الإنسان فردا وجماعة والمحاطة كيان الإنسان فردا وجماعة.أبو يعرب المرزوقي 4 الأسماء والبيان
--وتصح الإحاطية والمحاطية ليس على الجماعة الجزئية بل على الفرد وعلى كل جماعةوعلى كل الإنسانية وعلى كل الموجودات العينية :فكل موجود سواء كان حيا أو جامدا محاطبكل العالم ومحيط بكل العالم :فهو محاط ومحيط .وهذه هي الحجة الأساسية لنفيي القول بالمنطق الجدلي وبالعلم المحيط لأي موجود معين.ما يعني أن مجرد هذا بحد ذاته دليل كاف على وجود الله وإحاطته بكل شيء إرادة وعلماوقدرة وحياة ووجودا .فالوجود ككل لا يمكن تصوره عديم المبدأ الموحد ولا يمكن أن يكونالمبدأ الموحد حالا فيه وإلا لكان محاطا وليس محيطا فحسب وبذلك يكون أحد الموجودات وليس مبدأ وجودها.فالأحياز المحيطة هي أبعاد الطبيعة الخارجية وما لها من أثر على ما به تقوم الطبيعةالداخلية قيامها العضوي والروحي .والأحياز المحاطة هي أبعاد الطبيعة الداخلية أو كيانالإنسان وما لها من أثر على الأحياز الخارجية من أجل تحقيق شروط قيامها العضوي والروحي :التفاعلات بين النوعين هي الأهم.ويجمع ابن خلدون هذه التفاعلات في مفهوم شديد التعقيد رغم كونه يبدو شديدالبساطة \"نحلة العيش\" .وهو يميز بين نحلتين أساسيتين لكل منهما أشكال مختلفة تذهب منالأبسط إلى الأعقد هما النحلة البدوية والنحلة الحضرية .ولكل منهما بداية وغاية.وغاية نحلة العيش البدوية (تقدم الطبيعي على الثقافي) هي في آن بداية نحلة العيش الحضرية (تقدم الثقافي على الطبيعي).ويمكن القول إن جنسي النحلة لا يختلفان من حيث البنية والوظيفة لكنهما يختلفان منحيث دور الأحياز المحيطة ودور الأحياز المحاطة أو طبيعة الفاعلية الغالبة على الجماعةوليس على الفرد :ففي النحلة البدوية الفاعلية الغالبة هي للأحياز المحيطة أو الطبيعة الخارجية .وفي النحلة الحضرية العكس.والأحياز الخارجية هي المكان والزمان وأثر الأول في الثاني وأثر الثاني في الأول والأصلفيها جميعا هو المرجعية التي يتلاحم فيها الوصل في كل حيز ثم بين الأحياز .وأثر المكان فيأبو يعرب المرزوقي 5 الأسماء والبيان
--الزمان هو التراث أو الواصل الرمزي بين أفراد الجماعة .وأثر الزمان في المكان هو الثروةأو الواصل المادي بين أفراد الجماعة .والأصل مرجعية كيانية لأنها زمانية رمزية ومكانيةمادية تصل بين الوصلين بالرمزي (التراث) وبالمادي (الثروة) غير القابلين للفصل حتى في كيان الإنسان العضوي والروحي.ولا يمكن أن يكون الأصل إلا مرجعية ميثولوجية أو دينية حتى لو توهم أصحابها أنهاتحررت منهما فادعوا أنها فلسفية مثل المادية الجدلية .فهذه بخلاف أوهام أصحابها أكثرميثولوجية من الأديان .فما تنسبه الأديان إلى ما يتعالى على الطبيعة تنسبه هي إلى الطبيعة دون أن تبين طبيعية العقلي في المادة بغير مجرد الاعتقاد اللاواعي.فمادية النظام في المادي أو ما في الشكل من المضمون أو ما في القانون مما هو له قانون \"سر\"يصعب جعله من جنسه .والميثولوجيات والأديان أكثر منطقية في الفصل بينهما وجعلهماعالمين مختلفين حتى وإن أبقت العالم الشكلي تعليلا غائيا من طبيعة مختلفة مجهولة في الغالب فلا تردها تحكميا إلى المعلوم.وخرافة وحدة الوجود لا تنفي تعدد المقومات التي تزعم واحدة لأن مجرد التمييز بينالطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة لتأسيس ما يعتبر على ذاته -كاوزا سوي-من أكثرالمفهومات اسطورية في الفلسفة أو التصوف اللذين يزعمان نفسيهما بديلا من الدين حتى في شكله الأكثر بدائية أو الميثولوجيا.فما هو معلوم هو الفرق بين الأمر الواقع في المضمون والامر الواجب في الشكل إذ مهمافعلنا فلا يمكن رد أي مضمون لشكله القانوني ولا يمكن اعتبار شكله القانوني مجرد كائنذهني وإلا لصارما في الأذهان هو المحرك لما في الأعيان .فقوانين الطبيعة التي أعلمها لا تحرك الطبيعة وإن عبرت عن نظامها.فإذا اعتبرتها \"كائنات\" فعلية غير التي في ذهني كانت عالما آخر غير ما في ذهني وغير مافي خارجه وهي إذن ما تصورته الميثولوجيات نظاما ربوبيا متعاليا وإن قاسته على النظامأبو يعرب المرزوقي 6 الأسماء والبيان
--الإنساني كما في الميثولوجيا اليونانية .لكن الأديان المنزلة تتكلم عليه مثل الميثولوجيا مع احتراز ليس كمثله شيء.أبو يعرب المرزوقي 7 الأسماء والبيان
-- ونأتي الآن إلى الأحياز الذاتية. • فكل فرد له حيز مكاني هو بدنه. • وله حيز زماني هو روحه أو وعيه بذاته.• وله حيز ناتج عن أثر الأول في الثاني هو تراثه أو مخزونه الرمزي الذي يسد حاجاته الروحية.• وله حيز ناتج عن أثر الثاني في الأول هو ثروته أو مخزونه المادي مما يسد حاجاته العضوية.• والحيز الذي هو أصلها جميعا هو ذاته الواصلة بين بدنه وروحه زاده العضوي وزاده الروحي.والتفاعل بين هذه الأحياز الذاتية في كائن فرد والأحياز الخارجية التي تحيط به وبكلجماعة لا تكون بدون وساطة الجماعة بفضل تقاسم العمل المادي المنتج للثروة أو الاقتصادوالعمل الرمزي المنتج للتراث أو الثقافة وبين نوعي الأحياز ونوعي العمل وكلاهما مشروط بالحماية والرعاية وأداتيهما :أي حكم الإنسان وتكوينه.وهنا نكتشف سر الثورة الخلدونية :فهو يعتبر تعطيل هذا التفاعل بين الأحياز الذاتيةللأفراد والأحياز الخارجية التي تحيط بهم علة \"فساد معاني الإنسانية\" أو تعطل فاعليات الجماعات البشرية وعلة الانحطاط.فالتكوين (تربية الأفراد) والحكم (تنظيم حياة الجماعة) تزيلان رئاسة الإنسانفتفقدانه حرية إرادة وصدق علمه وخير قدرته وجمال حياته وجلال وجوده فلا يبقى أهلا للخلافة. جوهر المقدمة:مرافعة فلسفية للدفاع عن الحرية في التكوين وفي الحكم أداتي تحرير من الطاغوتين(الطبيعي والسياسي) أو أداتي تدجين بهما (الخضوع لطاغوت الطبيعة في العمرانأبو يعرب المرزوقي 8 الأسماء والبيان
--البدوي والخضوع لطاغوت الثقافة في العمران الحضري) والبحث هو لدرس الطاغوتين وشروط التحرر منهما.وقد سبق لي أن درست هاتين الثورتين في الرؤية القرآنية عندما شرحت سورة هود لأبيندلالة \"لقد شيبتني هود وأخواتها\" المنسوبة إلى الرسول الخاتم .فالتحرر من سلطانالطبيعة يرمز إليه تكليف نوح بأخذ زوجين اثنين من كل شيء لجعله زرعا إنسانيا وليس نباتا طبيعيا بداية للتحرر من الطاغوت الأول.والتحرر من سلطان الطاغوت الثقافي هو التحرر من طغيان الفرعونية ويرمز إليه موسى.لكن التحررين سرعان ما يحرفان فيتحولان إلى عبودية أدهى وأمر هي عبودية دينالعجل :أي عبودية الاقتصاد ورمزها معدن العجل وعبودية الثقافة ويرمز إليها خوار العجل .وذلك هو دين العجل= الأبيسيوقراطيا.وهذه الأبيسيوقراطيا اكتملت في النظام العالمي الجديد عالم العبودية للبنك (رمزهامعدن العجل) وعبودية الإعلام والملاهي (رمزها خوار العجل) بحيث إن الإنسانية كلهاصارت مستعبدة لأصحاب البنوك والربا ولأصحاب الإلام والملاهي المسيطرين على البشرية والتي بها تحارب مافيات العالم الإسلام وحضارته.فالإسلام يجعل التفاعلات بين الأحياز الذاتية للفرد والأحياز العامة للجماعة فرض عينوسماها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين بل أكثر من ذلك هو يعرف بها الإنسانالمسلم (آل عمران )104إنشاء ويحدد انتسابه إلى الخيرية بتحقيقها خبرا (آل عمران .)110لكن المسلمين غفلوا عنهما فانحطوا.والعنف الذي يتكلم عليه ابن خلدون بوصفه علة \"فساد معاني الإنسانية\" فتصبحالجماعات تصبح عالة على غيرها والافراد فاقدين \"الرئاسة التي لهم بالطبع بمقتضىالاستخلاف الذي خلقوا له\" يرجعها ابن خلدون إلى دلالة التأله بوصفه من الأسماء الأضداد :التأله العنيف والتأله اللطيف مرضي الإنسانية الدائمين.أبو يعرب المرزوقي 9 الأسماء والبيان
--فالتأله العنيف هو الطاغوت المادي ويغلب على الحكم والتأله اللطيف هو الطاغوتالروحي ويغلب على التربية .ويبدو التألهان وكأنهما متناقضان لكنهما في الحقيقة منطبيعة واحدة :فالمستبد السياسي يتأله بمعنى أنه يعتبر نفسه ربا في الأرض .والمتصوف أو العابد يتأله فيظن نفسه قد فنى في الله.وقد تكلم ابن خلدون على التألهين لكنه لم ير إلا أثر التأله العنيف حتى في التكوين أوالتربية وحصره في تعنيف المتعلم من المعلم وضربه مثلا .لكنه لم يكتشف أن العنف الرمزيالذي يدعي فيه المعلم أنه ليس مذكرا بل وسيط بين المؤمن وربه أخطر على \"رئاسة الإنسان بالطبع\" من العنف المادي.ومعنى ذلك أنه رغم اكتشافه أن التأله من الأضداد لم ير دور التأله اللطيف في الوساطة(تكوين الإنسان وتربيته) وعلاقته بالتألـه العنيف في الوصاية (حكم الإنسان وتدجينه)لكأن الوصل بين \"إنما أنت مذكر\" و\"لست عليهم بمسيطر\" لم تفهم الفهم العميق الذي يعني نفي الكنسية والحكم بالحق الالهي.وذلك ما حاولت النهضة الأوروبية محاكاته في الإصلاح الديني والسياسي :التحررالروحي من الوساطة الكنسية بين المؤمن وربه والتحرر السياسي بين المواطن وشأنه منالحكم بالحق الإلهي .فالحداثة الغربية بدأت بهما لكنها عوضتهما بما يناظرها وإن بشكل حديث من الوساطة والوصاية عالجناهما في عديد المحاولات السابقة.فالرسول الخاتم ليس وسيطا بين المؤمن وربه بل مذكر وليس وصيا يحكم بالحق الإلهي.لكن ما صاروا يسمون أنفسهم \"أولى الأمر\" نسوا \"منكم\" وجعلوها \"عليكم\" وزعم أصحابولاية الأمر في التربية (العلماء) ورثة الأنبياء في ما لا يملكون وأصحاب ولاية الأمر في الحكم (الأمراء) ورثة الله نفسه.وبذلك تم تحريف ثورتي الإسلام الروحية بأن أصبح التكوين وساطة وليس تذكيراللإنسان بما فطر عليه والحكم وصاية وليس خدمة فرض كفاية بشرطي الأمانة والعدلأبو يعرب المرزوقي 10 الأسماء والبيان
--تحت رقابة الأمة لأن حكمها لذاتها فرض كفاية لأن الأمر أمرها (الشورى )38وهي التي تديره بشوراها في المجالين الروحي والاقتصادي-الاجتماعي.فالشورى 38تبدأ بالمجال الروحي (الاستجابة للرب دون سواه) وتنتهي بالمجال الاقتصادي(الانفاق من الرزق) وبين الحدين وعلامة الاستجابة (أقاموا الصلاة) وتحديد طبيعةالحكم (أمر الأمة=راسبوبليكا) وأسلوب الحكم (شورى بينهم=ديمقراطية) فتكون الآيةمحددة لشرطي المحافظة على رئاسة الإنسان التي له بالطبع لكونه خليفة :الاستجابة للرب والإنفاق من الرزق.مفهوم \"الإنسان رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" مفهوم وضعه ابن خلدونلبيان ما وضعه في الباب الأول من المقدمة عندما وضع الشرط الطبيعي (الجغرافياالطبيعية والمناخ) والشرط الروحي (ما لدى الإنسان من استخلاف شرطه تعمير الأرض). وبذلك فهو يتجاوز حصر الروحي في العقلي.وهذا التجاوز يجعل العقل إحدى أدوات الروحي وليس هو الروحي في الإنسان ومن ثمفالعلم مقوم أداتي والروحي مقوم غائي .والمقومات الأداتية التي غايتها الروحية هي كونالإنسان رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له خمسة :الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود .والغاية قيمها.وما يسميه ابن خلدون \"فساد معاني الإنسانية\" هو فساد قيم هذه المقومات الأداتية أيغاياتها التي بتحققها يحقق الإنسان جدارة الاستخلاف :فالإرادة قيمتها الحرية والعلمقيمته الحقيقة والقدرة قيمتها الخير والحياة قيمتها الجمال والوجود قيمته الجلال. فالرئيس بالطبع يكون حرا صادقا خيرا جميلا وجليلا.وفساد معاني الإنسانية هو فساد قيم المقومات الخمسة .فيكون الإنسان الذي فسدت فيهمعاني الإنسانية عبد الإرادة كاذب العلم شرير القدرة قبيح الحياة وذليل الوجود .وبهذايصف ابن خلدون الشعوب والافراد عندما تكون ضحايا العنف .ورغم اقتصاره على العنف المادي فإن نفاذه الفلسفي كان فعلا نفاذا عبقريا.أبو يعرب المرزوقي 11 الأسماء والبيان
--فالمهم أنه اكتشف أن فساد معاني الإنسانية ليس ظاهرة طبيعية بل هي ظاهرة ثقافيةعلتها عنف التربية وعنف الحكم .وعنف التربية أشمل من العنف المادي :وساطة المعلمالذي لم يعمل بـ\"فذكر إنما أنت مذكر\" وعنف الحكم أشمل من العنف المادي :وصاية الحاكم الذي لم يعمل بـ\"لست عليهم بمسيطر\".فالوساطة تجعل المتعلم متلق من وسيط ولا دور له إلى حفظ ما يملى عليه وكأنه حقيقة لايمكنه اكتشافها بنفسه إذا كان المعلم مذكر له بما نساه أو بما غفل عنه وهو مرسوم فيفطرته بالمعنى الذي يمكن ان نفهمه من المنهج السقراطي أعني منهج التوليد :فالقابلة تساعد الحامل على الوضع لا غير.أما الوسيط فهو يجعل المتعلم عقيما لا يساعده على وضع ما هو حامل به بل هو يحملهأسفارا كالحمار الناقل لها بمنطق القطب الذي يعامل المتعلم معاملة المغسل للميت .ومن ثمفهو يقتله ثم يحشوه بما وضعه هو فيحول دونه وحرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال الوجود.وكما بينت آل عمران فإن هذه الوساطة تتحالف مع الوصاية أي إن المؤسسة التربية منحيث هي كنسية تتوسط بين المؤمن وربه تتحالف مع الوصاية أي مؤسسة الحكم من حيث هيتأله ودعوى الحكم بالحق الإلهي أو باسم شرع الله حتى يصبح للاستبداد أساسا يزعم دينيا وهو كفر بكل ما هو ديني بحق.فيجمع هامان وفرعون أو خوار العجل ومعدنه ويصبح الإنسان فاقدا لرئاسته بالطبعبمقتضى الاستخلاف الذي خلق له بمصطلح ابن خلدون .وتلكما هما علتا ما تعاني منه الامةاليوم من فشل في علاقتها العمودية بالطبيعة سدا لحاجات قيامها المادي وفي علاقتها بالتاريخ سدا لحاجات قيامها الروحي.أبو يعرب المرزوقي 12 الأسماء والبيان
--ورغم أن ابن خلدون لم يصل بين العنفين اللذين هما وجها التأله من حيث هوالأضداد-التأله العنيف الحاكم المستبد أو الوصي الذي يظن نفسه إلها والتآلف اللطيف\"العالم\" الوسيط بين المؤمن وربه فإن لم يكتف بنقد الحكام بل نقد المربين بصنفيهم النظري والعملي :المتكلم والفيلسوف في والفقيه والمتصوف.لكن نقده للفقهاء في العمل وللمتكلمين في النظر لم يكن بالوضوح الذي نقد به الطرفالثاني من الصنفين أي المتصوف في العمل والفيلسوف في النظر .وقد يكون ذلك ناتجا عنالحذر السياسي الذي عرف به ابن خلدون وتجبنه المشاكل معهما لعلمه بما لهما من سلطان لدى أصحاب سلطان التأله العنيف.ومع ذلك فالمقدمة وخاصة سيرته الذاتية لم تخلوا من نقد جذري للفقهاء (في السيرة)المتكلمين (في المقدمة) وأتكلم على ذلك لاحقا .ما يعنيني هو كلامه في الفلاسفة (فيالمقدمة) والمتصوفة (في المقدمة وفي شفاء السائل) .فجل نقده المتعلق بالتأله اللطيف يدور حول \"الفلسفة\" والتصوف.وحتى لا يقع القارئ في الخلط السائد بين الفلسفة والعلوم العقلية وبين التصوف والزهدالديني فلا بد من التنبيه إلى أن ما يقصده ابن خلدون بالفلسفة هو الميتافيزيقا التي تقولبرد الوجود إلى الإدراك وهو أشبه بقول المتصوفة بالكشف وما يقصده بالتصوف هو التصوف مدعي القدرة على كشف الغيب.وقد يكون ابن رشد جامعا بين التصورين لأن القول بنظرية المعرفة المطابقة -العلمبالشيء على ما هو عليه-هو أساس ظنه أن الراسخين في العلم معطوفة على الله في آلعمران 7ومن ثم فالمتشابه قابل للتأويل على أساس علم الفيلسوف بالحقيقة المطلقة وفي ذلك نفي للغيب.فإذا كان تأويل المتشابه ممكن للراسخين في العلم فعلمهم من ثم محيط إحاطة علم اللهبالمعلوم .وتأويل القرآن يصبح مجرد البحث عن دلالته في الفلسفة -بمعنى العلم المطلق أوأبو يعرب المرزوقي 13 الأسماء والبيان
--الميتافيزيقا عنده-وهي التي ألف ابن خلدون في إبطالها وبيان فساد منتحليها فصلا من المقدمة في بابها السادس والأخير.أما نقد نظير الميتافيزيقا في علوم الملة فهو نقد \"علم الكلام\" وخاصة جزؤه المتعلق بجليلـهحول الذات والصفات وعلاقة أفعال العباد به وبسلطانه على الموجودات .وهو نقد يشيرإليه ابن خلدون نوعين من الإشارة عندما يتكلم في المشترك بينه وبين الفلسفة ثم في ما يختلف به عن رؤية السلف عامة.فيكون نقد التأله اللطيف هو عينه بيان حدود المعرفة العقلية بالعقل نفسه :ومعنى ذلكأن العقل يصل إلى درجة من الرشد يعلم بها أن الوجود لا يرد إلى الإدراك وأن نظريةالمعرفة القائلة بالمطابقة منافية للعقل ذاته ومن ثم فالروح أبعد غورا من العقل دون أن يعني ذلك القول بشناعة الكشف الصوفي.وكلنا يعلم التحالف الصريح بين القائلين بالكشف الصوفي والقائلين بالحاكم ظلا لله فيالأرض .فهما يمثلان وجهي التأله اللذين أبانهما ابن خلدون في المقدمة واعتبرهما مرضالإنسانية لانهما يسلبان من الإنسان من حيث هو إنسان \"الرئاسة التي له بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\".وعندما تنزع عنه هذه الصفة التي هي ثمرة الاستخلاف يفقد حرية الإرادة (عبد لعبد)وصدق المعرفة (باطل) وخير القدرة (شر) وجمال الحياة (قبح) وجلال الوجود (ذل).وهذه الصفات السلبية هي التي تصبح طبيعته الثانية فيقع الإنسان في الخسر :لا يؤمن بشيء ولا يعمل صالحا ولا يتواصى بالحق ولا يتواصي بالصبر.وهذا هو الإنسان الذي يعتبره ابن خلدون فقد \"فسدت فيه معاني الإنسانية\" فصار عالةعلى غيره لا يعيش إلى بالغش والكذب والخداع والنفاق وخاصة بفقدان ما يسميه ابنخلدون الصفات المدنية أي الرعاية والحماية الذاتيتين فيصبح تابعا لنوعي التأله :اللطيف يستعبده روحيا والعنيف يستعبده ماديا.أبو يعرب المرزوقي 14 الأسماء والبيان
--ويؤسفني ويؤلمني أن أقول إن هذه الصفات هي الغالبة اليوم على نخب العرب وخاصةعلى من لم يثر منهم بعد وعلى من يقود الثورة المضادة ضدهم .فهؤلاء عبيد لحماتهم إماالذراع الإيرانية أو الذراع الإسرائيلية أو حامي إيران وحامي إسرائيل للنخب التي \"فسدت فيها معاني الإنسانية\" وهم مرضى بيننا ولا علاج لهم.ورغم أن التصوف السني الذي لم يتجاوز المجاهدتين الشرعتين أعني مجاهدة التقوىومجاهدة الاستقامة كانوا من قادة حرب التحرير في جل بلاد المسلمين فإن التصوف الذييدعي التفلسف والكشف ويتجاوز الزهد إلى نفاق الباطنية كان ولا يزال منه عملاء الاستعمار والاستبداد :خدم الغرب وعملائه.وهم في الحقيقة باطنية متنكرة أو شيعية غالية تمثلها المرجعيات التي كانت ولا تزالحليفة لكل محارب للإسلام ولحضارته منذ مغول الشرق إلى مغول الغرب (الولاياتالمتحدة) ويحالفون البرتغاليين والصليبيين والاستعمار كما نرى ذلك عند ما يسمىمرجعيات في العراق حلفاء بريمر وأمراء الثورة المضادة في الخليج وبقية الأقطار العربية وفيهم من لا يقل عداء للإسلام من الباطنية وعلامتهم العمالة لترومب وصهره.ويخطئ من يتصور أن هذا الحلف بين التألهين المادي للاستبداد السياسي والرمزيللاستبداد التربوي هو حلف بين الجهل (الحكام) والعلم (المربين) بل هو بين جهلين جهلبسيط عند الحكام جهل مركب عند \"العلماء\" :فمن يتأله بسلطان رمزي محرف أخطر ممن يتأله بسلطان مادي محرف.وحتى نطبق الكلام على ما يجري حاليا فإن ما يفعله الطاغوت السياسي في بلاد العرب لهأساس في طاغوت تربوي عند كاريكاتور النخب التأصيلية وكاريكاتور النخب التحديثية التيهي من أكثر النخب جهلا في العالم .فهم مرتزقة وعندنا منهم في تونس نخب اليسار خاصة واغلبهم من أدوات المخابرات والحانات.ويكفي أن ترى ما يجري في مصر وسوريا والعراق وليبيا والإمارات والسعودية وطبعا فيتونس وكيف تدار الدول والمجتمعات من السفارات والمخابرات والاحتماء بإيران وإسرائيلأبو يعرب المرزوقي 15 الأسماء والبيان
--ومن وراء إيران ومن وراء إسرائيل وهم في الغالب مافيات صهيونية ومسيحية صهيونية إذ كل الحكام العرب دمى بيدهم.من يصدق أن يقود مصر حمار مثل السيسي وسوريا أرنب مثل بشار والسعودية أحمقمثل صاحب المنشار وليبيا جبان مثل حفتر والعراق كل خونة العراق الذين رباهم ملاليإيران ونصبهم بريمر واحتلوا العراق بالدبابة الأمريكية والمليشيات الإيرانية وتونستديرها السفارات وهلم جرا حتى لا اسمي الكثير ممن أجهل أسماءهم وتاريخهم وأفعالهم من نفس الجنس.وليست هذه الحال من الصفات العرقية ولا من القضاء والقدر بل هي بفعل فاعل داخليوخارجي :فأما الفاعل الداخلي فهو الحكم والتربية وأما الفاعل الخارجي فهو الانتخابالمفروض بحيث إن من ينصب عليهما يقع اختياره بصورة تجعله مخربا حتى بغير قصد لأنه يختار من فاقدي الشرطين :الكفاءة والأخلاق.والمعلوم أن الوحشية والعنف متناسبان مع فقدان هذين الشرطين :فنسبة الإحرامطردية في المكلف بالتربية وبالحكم مع فقدان الكفاءة والأخلاق ولعل ما حدث مع خاشقجيمن أكبر الادلة وقبله ما حدث في رابعة وفي العراق وفي سوريا وفي ليبيا وتونس الجزائر حتى قبل الثورة والخفي أكثر من الجلي.ولما ينصب هؤلاء يصبح بيدهم تنصيب من هو دونهم كفاءة وأخلاق في العلم والقدرةوالحياة والوجود .فتصبح كل النخب -نخبة الإرادة-الساسة ونخبة المعرفة-الجامعيينونخبة القدرة الاقتصاديين والمثقفين ونخبة الذوق الفنانين ونخبة الوجود أصحاب الرؤى الدينية والفلسفية من أسفل ما عرفت البشرية.لذلك فلا تعجب عندما تسمع هذه النخب تخلط بين الدفاع عن الأوطان والدفاع عنالمجرمين الذين يحكمونها رغم أنف شعوبها بفرض أجنبي إذ تحميهم القواعد والمستشارينوالاعلام إما الصهيوني أو الصفوي ومن ورائهما من اللوبيات في أمريكا وروسيا بتمويل عربي من أحفاد المعادين للإسلام وثورته.أبو يعرب المرزوقي 16 الأسماء والبيان
--لذلك فلا شيء مما يحدث وليد الصدف بل توجد استراتيجية لمنع العرب خاصة والمسلمينعامة من تحقيق شروط استئناف دورهم بوصفهم أمة عظيمة .والبحث في هذه الاستراتيجيةهو الموضوع الاساسي في مقدمة ابن خلدون لأن السؤال الحارق الذي كان يطلب جوابه هو: ما علل الانحطاط وفساد معاني الإنسانية؟صحيح أن العلاج الخلدوني ينتسب إلى العلاج النظري لكن المطلوب عملي .فهو كانيريد تأسيس علم النقد التاريخي على ما بعد التاريخ أو علم العمران البشري (سدالحاجات المادية) والاجتماع الإنساني (سد الحاجات الروحية) بوصفهما ما بمقتضاه يتحدد التاريخ الإنساني عامة صعودا وهبوطا.أبو يعرب المرزوقي 17 الأسماء والبيان
--حالت الاحداث دوني ومواصلة البحث في \"الثورة الخلدونية :ما الذي يحول دون إدراككنهها\" عند الفصل الثالث ولم انهه ببيان بعدي الثورة التي غفل عنها مؤرخو الفكرالفلسفي في حضارتنا والتي كانت غاية ما توصلت إليه المدرسة التي وصفتها بالنقدية عامة وفكر ابن خلدون خاصة.أما وقد أسهمت بما أستطيع في فهم الأحداث التي اعتبرتها بداية الموجة الثانية من ثورةالشباب المسلم بجنسيه فإني استأنف الكلام في هذه الثورة بإبراز مجالي صوغها المتردد عندابن خلدون .وقد كان الصوغ مترددا لأنه ككل البدايات ليس يسير النسقية إذ هو شبه حدوس لم تترابط مقوماتها بوضوح.والوصل بين الثورتين اللتين صيغتا في فصل علم الكلام ( 10من الباب )6وفصل إبطالالفلسفة وفساد منتحلها ( 31من الباب )6نجده في فصل علم الإلهيات ( 27من الباب )6 لأنه يحقق أمرين: .1تتحدد الثورتان ردا على اختلاط الكلام والفلسفة في عصره .2يفصل الديني عن الكلامي والعلمي عن الفلسفي.فلو لم يحصل الاختلاط بين الكلامي والفلسفي في كل منهما وخاصة في التصوف المتفلسفلما حصلت الوعي بالثورة التي كانت معالمها تبرز بالتدريج في المدرسة النقدية حتى أصبحبالوسع الوصول إلى الفصل بين الكلامي والديني وبين الفلسفي والعلمي :صار الكلام والفلسفة يعنيان فساد الديني وفساد العلمي.لكن ما جاء صريحا في الكلام على الفلسفي جاء ضمنيا في الكلام على الكلامي والصوفيالمتفلسفين :والفلسفي حينئذ لا يعني شيئا آخر غير الزعم بقدرة العقل على العلم المحيطأي دعوى المطابقة التي تجعل ما يعلمه هو حقيقة الشيء على ما هو عليه إذا كان مما يتجاوز التجربة العلمية الممكنة.أبو يعرب المرزوقي 18 الأسماء والبيان
--وإذا أردنا صوغ الأمر بوضوح فيكفي أن نقوله بالسلب :نفي القول بنظرية المعرفةالمطابقة التي تعني امرين لا دليل عليهما أي شفافية الوجود المطلقة وإحاطة العقل بعلمهالمطلق .وهذا يعني أن التجربة الروحية والتجربة الطبيعية فيهما ما وراء يتجاوز الكلام والفلسفة وكل رد لهما إليهما دعوى باطلة.وهذا هو موضوع \"اللطيفة\" التي قدم بها ابن خلدون فصل علم الكلام ( )10وإبطالالفلسفة (الميتافزيقا أو الإلهيات) وفساد منتحلها ( .)31ويتحد الدحضان لعلم الكلامالذي صار ميتافيزيقا بعد الرازي وللفلسفة التي اقتصرت على الميتافيزيقا وحفظ بعض علوم أرسطو في الفصل ( 27علم الإليهات).والحصيلة قابلة للصوغ في عبارة وجيزة لخص فيها ابن خلدون ثورة المدرسة النقدية التيهي قطيعة فعلية مع الفلسفة القديمة وعلم الكلام الذي انتهى في الغاية إلى الاندماج فيها:وهم الفلاسفة والمتكلمين هو رد الوجود إلى الإدراك :ابستمولوجيا نظرية المعرفة المطابقة علما للشيء على ما هو عليه.وكل من له دراية بالفلسفة القديمة والوسيطة يعلم أن أرسطو قد حاول في مقالة الكاف(الحادية عشرة) من الميتافيزيقا دحض النظرية السوفسطائية القائلة بالإنسان مقياسكل شيء .لكنه في الحقيقة أطلقها لأن ما دحضه هو النسبة إلى الفرد الإنساني وليس إلىالإنسان من حيث هو إنسان :نفاها عن الفرد وأثبتها للنوع للظن أن العقل الإنساني ذو علم مطابق للوجود فأطلق مبدأ السفسطة :الإنسان مقياس كل شيء موجوده ومعدومه.ما دحضته المدرسة النقدية العربية هو نفي المبدأ السوفسطائي المطلق الذي بقي فينظرية أرسطو وهو ان العقل الإنساني عندما يستعمل المنطق ويتحرر من الذاتياتالفردية يصبح قادرا على الإحاطة بالوجود على ما هو عليه .فهنا يكون الإنسان من حيث هو إنسان مقياس الوجود :وهو المرفوض الآن.فدينيا يمكن أن نسمي ذلك الإيمان بالغيب .وفلسفيا يمكن أن نسمي ذلك التحرر منالقول بنظرية المعرفة المطابقة والاعتراف بأن العقل الإنسان مهما تحوط منهجيا وتسلحأبو يعرب المرزوقي 19 الأسماء والبيان
--تقينا لإدراك الموجود فهو يبقى دائما دون تحقيق الإحاطة والمطابقة بين علمه وموضوععلمه :ما نجهله لامتناه وما نعلمه متناه .والآن يمكن أن نفهم الفصلين 10و 31من المقدمة:• الأول جاءت فيه \"لطيفة\" بدأ بها ابن خلدون فصل علم الكلام ليبين أن سبل المعرفةالإنسانية المعتمدة على العقل لا تغني في العقائد الدينية ومن ثم فعلم الكلام لا يمكن ان يعتبر علما بما وراء التجربة.• والثاني يثبت نفس الحقيقة مع حكمين قاسيين .فأما الحكم الأول فهو \"إبطال\" الفلسفةوأما الثاني فهو \"فساد\" منتحلها في الفصل .27وقد ورد في الفصل 10وهما الضلال والخسران.والحكمان على الفلسفة من طبيعة معرفية (باطل) وخلقية (فاسد) والحكمان على الكلاممن طبيعة دينية (ضلال) وخلقية (خسران) .ويشتركان في الخلقي وتحرير العلميوالديني .ولأوجز الثورة بلسان ابن خلدون في غاية لطيفته التي قدم بها عرضه لعلمالكلام منطلقا من الغاية التي وصل إليها الكلام في عصره بعد أن اختلط فيه حابلالميتافيزيقا بنابل التصوف قبل أن أعالج صورتيها في الفصل 10والفصل 31من الباب السادس من المقدمة أي في عرضه وجهيها الممتزجين.\"فإذا علمت هذا (استحالة الاحاطة بالأسباب ورد الوجود إلى الإدراك) فلعل هناكضربا من الإدراك غير مدركاتنا لأن إدراكاتنا مخلوقة محدثة وخلق الله أبر من خلقالإنسان .والحصر مجهول والوجود أوسع نطاقا من ذلك والله من ورائهم محيط .فاتهمادراكك ومدركاتك في الحصر واتبع ما أمرك الشارع به في اعتقادك وعملك فهو أحرصعلى سعادتك وأعلم بما ينفعك لأنه من طور فوق إدراكك ومن نطاق أوسع من عقلك.وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه بل العقل ميزان صحيح فأحكامه يقينية لا كذب فيها.غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة وحقيقة النبوة وحقائق الصفاتالإلهية وكل ما وراء طوره فإن ذلك طمع في محال ( )...........وإذا تبين ذلك فلعلالأسباب إذا تجاوزت في الارتقاء نطاق إدراكنا ووجودنا خرجت عن أن تكون مدركة فيضلأبو يعرب المرزوقي 20 الأسماء والبيان
--العقل في بيداء الأوهام ويحار وينقطع .فإذن التوحيد هو العجز عن إدراك الأسبابوكيفيات تأثيراتها وتفويض ذلك إلى خالقها المحيط بها إذ لا فاعل غيره .وكلها ترتقيإليه وترجع إلى قدرته وعلمنا به إنما هو من حيث صدورنا عنه .وهذا هو معنى ما نقل عن بعض الصديقين\" العجز عن الإدراك إدراك\" .فتكون الثورة ذات مرحلتين: .1بيان أن علم الكلام تفلسف فصار ميتافيزيقا واكتمل هذا الخلط بعد الرازي. .2والميتافيزيقا مبنية على دعوى المطابقة والسببية وكلتاهما دعوى بلا دليل.لو اقتصر الكلام على الفلسفة والميتافيزيقا لكان كلام ابن خلدون شبه تكرار لما قالهالغزالي قبل أن يرتد من النقد إلى التسليم بحلين كلاهما هما ما فرض على ابن خلدون القيام بنقد أكثر عمقا:فالغزالي بعد التهافت عاد فأصبح قائلا بميتافيزيقا المدرسة المشائية المزيجة التي أسسها ابن سينا.والغزالي خلط بين \"طور ما وراء العقل\" والكشف الصوفي بمعنى أنه نسب إليه الإحاطة التي وإن لم تتحقق بالعقل فهي تتحقق بالكشف.ولهذا اعتبرت الفصل 27في الإلهيات وصلا واصلا بين النقدين في الفصل 31للفلسفة(الميتافيزيقا) وفي الفصل ( 10اللطيفة) :أي اختلاط الفلسفة والكلام والتصوفالمتفلسف .ومعنى ذلك أن ثورة التحرر من القول بالمطابقة التي هي رد الوجود إلىالإدراك أو إطلاق الرؤية السوفسطائية القائلة إن الإنسان مقياس كل شيء موجوده ومعدومه هو أساس الفلسفة القديمة والوسيطة وهو أساس يسلم أمرين لا دليل عليهما: .1شفافية الوجود للعقل. .2إحاطة علم الإنسان العقلي به.وينتج عن ذلك أمران معرفي وخلقي أو مرضان ابستمولوجي وأكسيولوجي .ففي النظرينتج وهم العلم المطلق وفي العلم وهم الحكم المطلق .والأول هو أساس الاستبداد المعرفيأبو يعرب المرزوقي 21 الأسماء والبيان
--والعقلي والثاني هو إساسا الاستبداد السياسي والخلقي= أساس التعليمية الباطنية بأركانها الثلاثة :الفيلسوف والإمام والقطب.وفي ذلك يشترك الفلاسفة والمتكلمون والمتصوفة وصلتهم بالباطنية وخاصة بعد أن تمالتوحيد بينها في غاية اكتمال هذه المدارس :والأمر صريح عند الفارابي وابن سينا وابنرشد .فهذا يكفي فهمه للآية 7من آل عمران وابن سينا رؤيته للحاجة إلى القطب والفارابي أكثرهم صراحة في ذلك.أبو يعرب المرزوقي 22 الأسماء والبيان
--لم يحيرني شيء في مقدمة ابن خلدون أكثر من \"لطيفته\" الواردة في مفتتح فصل علمالكلام من الباب السادس من المقدمة (الفصل العاشر) .فهي لطيفة غريبة حقا لأن وجهاللطافة فيها ليس بين اللطف .ما اللطيف بمعنى ما الشيء الذي -سابتل-بحيث احتاج ابن خلدون لوصفه بهذا يفيد الدقة وعسر الفهم؟استغربت شديد الاستغراب أن يحاول ابن خلدون اثبات التوحيد -لأن هذا هو موضوعاللطيفة-بما قد يبدو دحضا للسببية من جنس دحض الغزالي لها .لكن ذلك فهم سطحيلأن الغزالي نفى الضرورة السببية ولم ينف قابليتها للعلم .وابن خلدون لم ينف الضرورة بل نفى قدرة العقل الإنساني على علمها بمعنيين. المعنى الأول :لا يمكن للإنسان قطع التسلسل والدور فيها. والمعنى الثاني :لا يمكن أن يحدد طبيعة التأثير السببي.وهما وجهان لم يتكلم عليهما الغزالي في المقالة السابعة عشرة من التهافت التي خصصهالنفي الضرورة السببية من أجيل اثبات أمرين هما المعجزات أو الحرية الإلهية بصورة صريح.لكن فيها شيء من نظرية أفعال العباد أو الحرية والتكليف الإنسانيين بصورة ضمنيةلأن بقية المقالات من 18إلى 20كانت مخصصة للابستمولوجيا بعد الكسمولوجيا والثويولوجيا في المقالات المتقدمة على السابعة عشرة.لكن المحير أكثر هو أنه كما يعلم كل من له دراية بالكلام وحتى بالفلسفة فإن السببيةلم تستعمل لأثبات وحدانية الله بل لأثبات وجوده .واللطيفة تتعلق بإثبات التوحيد وليسوجود الله .وجهان محيران يجعلان اسم اللطيفة ذا دلالة .وشرط إدراك هذه الدلالة هو دور الفصل 27في الوصل بين 10و.37 وهذا الوصل ليس من عندي.أبو يعرب المرزوقي 23 الأسماء والبيان
--هذا ابن خلدون نفسه يقول فيه\" :ولما وضع المتأخرون في علوم القوم ودونوا فيها وردعليهم الغزالي ما رده منها ثم خلط المتأخرون من ا لمتكلمين مسائل علم الكلام بمسائلالفلسفة لاشتراكهما في المباحث نشابه موضوع علم الكلام بموضوع الإلهيات ومسائلهبمسائلها فصارت كأنها فن واحد ثم خيروا ترتيب الحكماء في مسائل الطبيعيات والإلهياتوخلطوهما فنا واحدا قدموا فيه الكلام في الامور العامة ثم ابتعوه بالجمسانيات وتوابعهاثم بالروحيانيات وتوابعها إلى آخر العلم كما فعله الإمام ابن الخطيب في المباحث المشرقيةوجميع من بعده من علماء الكلام وصار علم الكلام مختلطا بمسائل الحكمة وكتبه محشوةبها كأن الغرض من موضوعهما ومسائلهما واحد والتبس ذلك على الناس ( )...وكذا جاءالمتأخرون من غلاة المتصوفة والمتكلمين بالمواجد فخلطوا مسائل الفنين بفنهم وجعلوا الكلامواحدا فيها كلها ثم كلامهم في النبوات والاتحاد والحلول والوحدة وغير ذلك .والمدارك فيهذه الفنون الثلاثة مختلفة .وأبعدها من جنس الفنون والعلوم مدارك المتصوفة .لأنهميدعون فيها الوجدان ويفرون من الدليل .والوجدان بعيد عن المدارك العلمية وأبحاثهاوتوابعها كما بيناه ونبينه\" .وبذلك نبدأ في إمساك الخيط الدال على اللطافة :اختلاف مدارك الفنون الثلاثة.فتكون اللطيفة منتسبة إلى ما يترتب على هذا التمييز بين الفنون الثلاثة من حيثالطبيعة المعرفية .واذن فالبحث مابعد معرفي أو ابستمولوجي :الفلسفة تعتمد على التعليلالسببي في الطبائع واللطيفة تبين استحالة الإحاطة العلمية بالسببية وليس بيان عدم دلالتها على وجود الله فضلا عن الوحدانية.وهذا يعني دحض الخلط بين علم الكلام والإلهيات الفلسفية .فيكون الوصل بين اللطيفة (الفصل )10وإبطال الفلسفة وفساد منتحلها متعلقا بنفس الغرض :دحض قابلية الانتقال من العلومالطبيعية التي تعتمد على السببية والطبائع بالعقل والتجربة الطبيعية إلى الإلهيات والروحانيات وطبعا الكلام والتصوف.أبو يعرب المرزوقي 24 الأسماء والبيان
--اللطيفة هي إذن رد على الكلام والتصوف المتأخرين من تبني الرؤية الفلسفية فيالإلهيات للكلام في الدينيات والروحانيات .فتكون اللطافة في البحث الجديد الذي هو ابستمولوجي بالجوهر ويتمثل في: .1الفصل بين الفنون المعرفية المختلفة. .2وبيان وهاء أساس الفلسفة المتجاوزة للتجربة الممكنة.وعدم فهم \"التجربة الممكنة\" هو الذي يجعل المتكلمين يخلطون بين الغائب والغيب.فالغائب هو ما يقبل التجربة حتى وإن لم تحصل بعد والغيب هو المحجوب عن الإدراكالإنساني ومن ثم فهو خارج التجربة الممكنة .فعندما أقيس ما ينتسب إلى عالم الشهادةحتى وإن لم أشهده بعد فأنا أتكلم على الغائب وليس على الغيب .لكن كلامي على الآخرة مثلا من الغيب أو على الروح أو خاصة على الله ذاته وصفاته.فيتبين من ثم أن اللطيفة جزء لا يتجزأ من ثورة المدرسة النقدية ثورتها الابتسمولوجيةالتي مكنت من تجاوز الفلسفة القديمة والوسيطة :بيان حدود المعرفة العقلية وصلتها بمايقبل التجربة وامتناع حصر الوجود في الإدراك ومن ثم الانتقال من نظرية المعرفة المطابقة إلى القول بامتناعها عقليا.وعندما أقول \"عقليا\" فالقصد أن القول بحدود المعرفة العقلية لم يعد قضية إيمانية منجنس القول بأن العلم النقلي متجاوز للعلم العقلي بل هي قضية ابستمولوجية وتتمثل فيالقول إن العقل نفسه صار مدركا لحدوده لأنه فهم أن القول بالمطابقة يعود في الحقيقة إلى القول بالإنسان مقياس كل شيء.فيكون ما حاول أرسطو دحضه هو في الحقيقة الذهاب به إلى غايته :ففي المستوى الأولظن أرسطو أن الإنسان مقياس كل شيء يتعلق بالذاتيات الإضافية إلى الأفراد من جنسعمى الألوان أو الأذواق مثل المرور الذي لا يميز بين الحلو والمر متوهما أن التخلص من ذلك يؤدي إلى المطابقة.أبو يعرب المرزوقي 25 الأسماء والبيان
--نفي المطابقة مطلق هنا :حتى الإنسان كإنسان وليس الأفراد المختلفين لا يمكنه أن يدعيأن ما يدركه من الأشياء مطابق لما عليه الأشياء في ذاته من دون أن يكون بذلك قد زعمأن مدارك الإنسان من حيث إنسان مطابقة لحقائق الوجود في ذاته وليس لما يناسب مداركه فحسب :وهذه هي الذاتية المطلقة.والسطحيون يتصورون ابن تيمية قد نقد المنطق الأرسطي من حيث صحة قوانينهالصورية وهو ما لم يدعه ولم يقم به (التحليلات الأوائل :نظرية المنطق) بل هو نقدأسسه الميتافيزيقية التي تؤسس للمطابقة (التحليلات الأواخر :نظرية العلم) .فالظن أنالمنطق يحرر المعرفة من الذاتية صحيح إذا اقتصرنا على الفردي منها .لكنه لا يحررها من الذاتية النوعية (الإنسان كإنسان).توهم التحرر من الذاتية النوعية يعني رد الوجود في ذاته إلى الوجود في إدراك الإنسانله ومن ادعاء كل ما يتجاوز مدارك الإنسان عدم .وهو المبدأ الذي أسس عليه بارمينيدسفلسفته وصار بداية الفصل بين \"الفلسفي\" وغير الفلسفي أو بين اللوجوس (عين الوجود) والميتوس (أوهام إنسانية).لكن ذلك هو في الحقيقة حصر للوجود في ما يعقله الإنسان واعتبار ما لا يعقله غيرموجود .وهذا هو معنى جعل الإنسان كنوع مقياس كل شيء موجوده ومعدومه وهو جوهرالموقف السوفسطائي في مستواه الثاني بمعنى الإضافة إلى الإنسان كنوع وليس إلى هذا الفرد أو ذاك من البشر.عندما وضع الغزالي مفهوم \"طور ما وراء العقل\" كان يمكن أن يكون ذلك بداية لهذاالتمييز بين ماوراء عقل الفرد وما وراء عقل النوع وكان يمكن أن يكون بداية التحرر منالقول بنظرية المعرفة المطابقة أي التي ترد الوجود إلى الإدراك .لكننا رأينا أنه نكص إلى السينوية والكشف الصوفي.بمعنى أنه صار يقول بالمطابقة في الميتافيزيقا (رد المنقول إلى المعقول بالتأويل وهو أولمن وضع قانون التأويل) وفي الكشف الصوفي .لكن ابن تيمية أدرك أن ذلك مستحيل وأنأبو يعرب المرزوقي 26 الأسماء والبيان
--الإحاطة بالوجود غير ممكنة لغير علم الله بالوجود .وهذا هو الفرق الجوهري بين العلمين الإلهي والإنساني.ومن ثم يستنتج ابن تيمية أن \"الهيلومورفية\" (المادة والصورة) التي ينبني عليها مفهومالمطابقة والتي تجعل بنى اللغة الطبيعية \"النحوية\" عندما ترفع إلى مستوى البنى المنطقيةتوهم بان الوجود الخارجي مؤلف من ذوات وأعراض عامة وذاتية وأن ما يجري في الأذهانمطابق لما في الأعيان كلها ذاتيات لا شيء يثبتها بحق .وكل النقد الخلدوني للفلسفة هو منهذا الجنس ولا يختلف عنه في شيء كما بينا تبين في الفصول السابقة .ولا يعني ذلك أنهاخذه منه .لأنه لا دليل عندنا عن علم ابن خلدون بثورة ابن تيمية الابستمولوجية .فهيثورة مشتركة بين فلاسفة المدرسة النقدية التي رفضت نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة إمابدافع ديني (الإيمان بالغيب) أو بعلاج ابستمولوجي من خلال بيان امتناع الإحاطة فيالعلم الذي هو اجتهادي دائما وليس مطابقا :الغزالي قبل نكوصه ثم ابن تيمية وابن خلدون.وهي إذن \"صور\" لنا عن الوجود غيرها ممكن وهي مقبولة في حدود التجربة وتتغيربتغيرها وليس فيها ما هو يقيني بل هي تصورات يمكن تجاوزها إلى تصورات أدق .ومعنىذلك أننا بمجرد أن نعوض المتغيرات في خانات الأشكال المنطقية (يرمز إليها أرسطوبحروف) بمضامين تجريبية تحصل لنا صورة عن الموجود لا يرد إليها الموجود .فكان من ثم منطلق تمييزه بين أمرين في المعرفة: .1المقدرات الذهنية وهي الوحيدة التي فيها معرفة كلية لأنها تعمل على متغيرات مجردة يبدعها العقل الإنساني كما في الرياضيات .2المعطيات النقلية أو معطيات التجربة وهي لا ترد إلى تصوراتنا حولها ومن ثم فعلمنا فيها يقبل التجويد بصورة لا متناهية.فتكون المقدرات الذهنية مصدر الشكل المعرفي أو أداة صوغ المعطيات التجريبية وتكونصيغ المعطيات التجريبية معرفة نسبية قابلة للتجويد صوريا بإبداع الشكل الذي هو تقديرأبو يعرب المرزوقي 27 الأسماء والبيان
--ذهني وماديا بتدقيق التجربة وأدوات الإدراك الحسي .لكن هذا العمل يبقى دائما صورةمن الموضوع لا تصل إلى المطابقة معه لأن الإحاطة ممتنعة على العلم الإنساني .والمهم في ذلك كله أمران: .1العقل يصبح أكثر تواضعا منفتحا على تجاوز كل تجاربه السابقة فيتقدم علمه ولا يتصور نفسه بلغ الغاية في أي علم .2الإيمان بأن ذلك لا يكفي لوجود الإنسان لأن عالمه الذي يسميه \"الواقع\" ليس إلا أحد الممكنات عقلا ومن ثم فأفق الانسان أوسع من العالم المادي والطبيعي.أبو يعرب المرزوقي 28 الأسماء والبيان
-- يبقى السؤال الآن:ما الذي يجعل النخب العربية بصنفيها التي تدعي التأصيل والتي تدعي التحديث تنكصإلى ما تقدم على هذه الثورة رغم أنها حدثت مرتين عندنا -في القرن الرابع عشر للميلاد- الثامن للهجرة-وفي الغرب الحديث -في نهاية القرن الثامن عشر-في الرؤية الكنطية؟ فكلتا النخبتين عادت إلى ما يترتب على الرؤية القائلة بالمطابقة دغمائية وضيق أفق. وطبعا الثورة لم تنتظر كنط إلا من حيث الصوغ.لكنها كانت ضمنية منذ ديكارت :فلا يوجد فيلسوف كبير في الحداثة الأوروبية من ديكارتإلى كنط لم يكن قائلا ضمنا بأن العلم ليس محيطا .وكانوا يقولون ذلك بصورة مهذبة وهيأن في الدين ما لا يدركه العقل ولذلك نرفع الحكم فلا نتكلم في \"الإلهيات\" بما يردها إلى العقليات وكأن للإنسان علما محيطا :وتلك هي بداية التحرر من القول بالمطابقة.فالنخبة التي تدعي التأصيل توهمت أن موضة القبول بالفلسفة التي تسمى إسلامية والتيكانت مرفوضة يعطيها ما تفاخر به عند الكلام على تأثير ثقافتنا في غرب العصور الوسطىإلى حدود بداية الحداثة فصارت تدافع عما كانت ترفضه كلاما وفلسفة وتصوفا .وهو دليل سوء فهم بين لهذه الثورة.والنخبة التي تدعي التحديث تنقسم إلى نوعين :الحداثي المترمكس والحداثي المتلبرل.والأول يعتبر الحداثة بدأت مع الماركسية لظنه أنها تجاوزت من تقدم عليها بحجة قلب فكرهيجل الذي كان يمشي إلى رأسه فجعلوه يمشي على رجليه .والثاني يعود إلى دور ابن رشد المزعوم أصلا لـحداثة العلمنة الغربية.وإذا تجوزت فاستعملت مصطلح ارنست بلوخ في كلامه على اليمين واليسار الأرسطي قياساعلى اليمين واليسار الماركسي أمكن القول إن نوعي النخبة التي تدعي التحديث يمثلهايسار الارسطية ويسار الهيجلية أو عابد الجابري (الرشدية الجديدة) والطيب تيزيني. وبنحو ما فـحسن حنفي يجمع بينهما مترددا بين الرشدية والفيورباخية.أبو يعرب المرزوقي 29 الأسماء والبيان
--أما باقي محاولات الوصل المباشر بين فكرنا وفكر ما بعد الحداثة بدعوى التداولياتوالسرديات فهي من الخرافات التي لم تستقر بعد على تأسيس فلسفي قابل للوصل بمدرسةبينة سواء بحثنا عنها في تاريخ فكرنا أو في تاريخ الفكر الغربي القديم أو الوسيط أو الحديث أو ما بعده.ورغم هذا التنوع فإن هذه المدارس كلها تقبل الرد إلى أمر مشترك هو القول بالمطابقةسواء المطابقة برد الوجود إلى الإدراك في ما اصطلح عليه بلوخ بيسار الأرسطية (بمنطقثنائي القيمة) وبيسار الهيجلية (بمنطق ثلاثي القيمة) وكلا المنطقين ينكص إلى المطابقة المتقدمة على نقد كنط والتالية لنقده. والمقابلة طبعا صارت ذات عنوانين بينين:فما كان يسمى قبل نشأة الفلسفة القديمة التي تواصلت في الوسيطة إلى مدرستنا النقديةفي فكرنا وإلى مدرسة كنط النقدية في فكر الغرب مقابلة بين علمي ولا علمي أو خرافي صاريعتبر مقابلة بين علمي وإيديولوجي أو برهاني وغير برهاني بمصطلح المرحوم الجابري.وصار عند تلاميذ هذه المدارس من الموسوسين الذين يريدون الظهور بمظهر علماء النقدالديني والفلاسفة بانتحال الالقاب (مثل بعض خريجي العربية ممن يدعون تمثيل الفكرالديني النقدي مثل أركون وأبي زيد والشرفي وبينهم تفاضل رغم أنهم في الحضيضالفكري) فالمقابلة صارت بين الواقع والنص نظرا لعلمهم بـ\"الواقع\" مباشرة دون وسائط نصية حتما لأن المعرفة العلمية في أي مجال نصوص نظرية.وقد سبق فقدمت محاولة في ما ترتب على موقف ابن رشد من أدلة وجود الله الكلاميةوموقف هيجل من أدلة وجود الله الكنطية لكون العودة إلى القول بالمطابقة عند الثانيجعله يشترك مع الاول في جعل الكلام في الإلهيات يحصل عندهما على ما تبين ثورة ابن خلدون عندنا وثورة كنط في الغرب استحالته.ما يعنيني هو التطابق بين النكوصين :فالعائد إلى الفلسفة العربية ممثلة بابن رشدباعتبارها يسارا أرسطيا بلغة بلوخ والقائل بالماركسية باعتبارها يسارا هيجليا كلاهما عادأبو يعرب المرزوقي 30 الأسماء والبيان
--إلى نظرية المعرفة المطابقة أو إن شئنا القول بسذاجة رد الوجود إلى الإدراك وإطلاق العلم واعتبار ما عداه ايديولوجيا.وينتج عن هذا النكوص الإبستمولوجي الذي يطلق العلم ويعتبر ما عداه إيديولوجيا فيرؤية اليسار الهيجلي (الماركسيين بلغة بلوخ) وظاهرا نقليا ما فيه من حقيقة هي باطنةالقابل للرد إلى العقلي بالتأويل في رؤية اليسار الأرسطي(الرشديين بلغة بلوخ) نكوص أكسيولوجي وهو الخلقي نتيجة الدغمائية المعرفية.والمعلوم أن بلوخ قد استعمل هذه المقارنة في كلامه على ابن سينا والغزالي في كتابه حولاليسار الأرسطي ثم خاصة في محاضرته التي ألقاها في ألفية ابن سينا وتحدث فيها علىظلامية الغزالي لأنه يمثل يمين الأرسطية ومنها جاءت كل سطحيات اليسار العربي الذي يعتبر الغزالي سر انحطاط حضارتنا.ولم يدر بخلدهم أنه لا يوجد فيلسوف عربي واحد تجاوز أرسطو لا في المنجزات العلمية ولافي المنجزات ما بعد العلمية .ذلك أن كل النظريات التي ليست من هذين النوعين ليست إلارؤى وجودية يمكن نسبتها إلى مجال آخر وهو مجال لم نر له أثر حقيقي على تحولات قيميةوحضارية في تاريخ فكرنا بدليل حصول التحول النوعي الحداثي في رؤى الوجود الإنسانيةوقع خارج حضارتنا بسبب منع هذه الرؤى من رؤية رؤاها بمحاولة ردها الديني إلى ما تصوروه علما مطابقا للوجود مطابقة تنتهي إلى حصره فيه.والمعلوم أن رؤى الوجود إذا لم تبق متعددة باعتبارها تأويلات لما يرتسم في الذهن الإنسانيمن نظام يأتي بعديا لصوغ ما حصل من تجارب إنسانية في النظر والعمل والفنون يصبحبلغة ابن خلدون إطارا يصوغ الماضي ويستمد منه استراتيجية لتصور المستقبل فيكون مابعدا لما تقدم عليه وما قبلا لما يتلوه فإنها تتحول إلى جمود ودغمائية تفرض على المستقبل عادات الماضي وكأنها حقائق نهائية.وبذلك أصل إلى الهدف من إضافة هذا الفصل السادس للمحاولة :كيف نفهم الدغمائيةالمعرفية الناتجة عن هذا النكوص الأبستمولوجي للقول بالمطابقة والتعصب الخلقي الناتجأبو يعرب المرزوقي 31 الأسماء والبيان
--عن هذا النكوص الأكسيولوجي .فضيق الافقي الذي يرد الوجود إلى الإدراك في النظر يؤدي إلى رد التاريخ إلى الإرادة في العمل.والجامع بين هذين النكوصين هو المقولة السخيفة التي يجمع عليها المنتسبون إلى المدرستين:يكفي تأويلا للواقع وعلينا تغييره .وهو ما يعني أن علمنا \"الواقع\" علم نهائي ومطلق وعليناأن نغير \"الواقع\" ليطابق علمنا .وكنت أقبل مثل هذا الرأي لو تعلق التغيير بتصوره ليطابقالنظرية .وهذا هو معنى المادية الجدلية عند الماركسي ومعنى تأويل الأديان لتطابق علمالراسخين عند الفلاسفة والمتكلمين القائلين بالمطابقة وخاصة في صورتهم الحديثة عند المفكرين العرب.مثال ذلك أن تغيير نظام حركات الأفلاك حول الشمس بدل الأرض أو الانتقال منبطليموس إلى كوبرانيكوس هو تغيير تصور نظام الحركات وليس تغيير الحركات نفسها.في الماركسية لم يكن القصد تغيير رؤية العلاقة بين الاقتصادي وما عداه بل تغيير المجتمع نفسه حتى يطابق الرؤية الماركسية.وذلك للظن بأن الرؤية الماركسية \"مطابقة\" للـ\"الواقع\" .وبهذه الرؤية يقرأ أبو زيد تاريخفكرنا وما يسميه نصوصا دينية يحاكمها بما يسميه واقعا وهو في الحقيقة بالرؤية الماركسيةالتي صارت صورة مطابقة للأصل الذي هو الواقع .فتفهم حينها كيف يقرأ ناصر حامد أبوزيد القرآن في ضوء الواقع-ويغفل عن كون ما يسميه واقع هو صورة الماركسية عن \"الواقع\".وكذلك كيف يقابل الجابري بين البرهاني الرشدي والبياني والعرفاني غير البرهانييناللذين يعتبرهما دون البرهاني فائدة معرفية .وهو يقصد بالبرهاني ما يقصده أبوزيدبعلم \"الواقع\" الموضوعي علما مطلقا كما يفهم ذلك ابن رشد وكل القائلين بنظرية المعرفة المطابقة.وطبعا فلا أبو زيد يدرك دلالة كلمة \"واقع\" ولا الجابري يدرك معنى \"برهان .وإلا لما وقعفي مثل هذا الفهم الرديء .فالبرهان في لغة أرسطو يعني ما يستمد من مقومات جوهرأبو يعرب المرزوقي 32 الأسماء والبيان
--الموضوع (أو الجواهر الثواني التي يتألف منها حده أعني الجنس والفرق النوعي)وأعراضه الذاتية هي مقدمات الاستدلال البرهاني المطابق للوجود بالمعنى الأرسطي أي حقيقة ما يدركه العقل بالإدراك الحدسي أو الحقيقة في ذاتها جوهر موضوعه.ومعلوم أن العلم الحديث لم يعد يقول بشيء من هذا الجنس لأن كل التعريفات التيينطلق منها العلم تعتبر دائما توصيفا للموضوع مؤقتا تبنى عليه فرضيات التفسير ولا تقبلإلا في حدود ما يفسر حصيلة التجارب التي يجمع عليها علماء المجال في لحظة من لحظات تاريخ الفن وهي كعلم في تغير دائم.فيكون ما يسمى واقعا أمرا مجهولا دائما والمعلوم هو صورة مؤقتة من شيء مجهول حصلتعلى اجماع أهل الاختصاص بتناسب مع ما اطلعوا عليه من تجلياته في تجاربهم المتغيرة بتغيرالنسق العلمي التفسيري ما يعني أن منظومة النظريات العلمية هي التي تحدد صورة\"الواقع\" أي ما يظن موجودا في الأعيان وخارج الأذهان وعباراتها النصية أو التصورية وليس العكس.ولو كان هؤلاء \"الواقعيون\" والبرهانيون مطلعين فعلا على الأبستمولوجيا الحديثة -دوهامرغم كونه من بداية القرن الماضي وكواين-لأدركوا أن \"الواقع\" والبرهان بمعنى المطابقةلحقيقة المقومات الجوهرية والذاتية للواقع -صور تبدعها النظرية وليست حقائق موضوعية ما يجعل العلم يقرب من \"السردية الذهنية\".ولو قلنا بالسرديات فاتبعنا الزعم المقابل للإبقاء على المطابقة لقلنا بنيتشوية مطلقة يكونفيها العلم من جنس الابداع الفني الذي يبدع الموضوع ابداعه لعلمه أو لصورته فلا يكونالموضوع إلى الصورة التي يبدعها الفن نفسه .وهذا ايضا قول بالمطابقة ردا للوجود إلى الإدراك ونفيا للتعالي.وأهمية النقد سواء في مدرستنا أو في مدرسة كنط هو أثبات التعالي أو ما يتجاوز الإدراكمهما سما هذا الإدراك وتوهم صاحبه أنه أحاط بالموضوع .فلا توجد إحاطة مطلقة بأيموضوع مهما كان بسيطا .وحتى بالمنظور الفينومينولوجي فمن خصائص الإدراك أنه دائماأبو يعرب المرزوقي 33 الأسماء والبيان
--فعل عناية ذهنية متوجهة (القصدية) إلى أمر يتجاوزه ويتعالى عليه حتى لو كان ذاته حتى لو لم يضعه موجودا في الأعيان.فحتى إدراك المرء لذاته فإنه ليس مطابقا بل إن إدراك الذات لذاتها غير ذاتها وهو دائماشبه موقف للذات من ذاتها وكلنا يعلم أننا مهما حاولنا أن نطابق ذواتنا فإننا نشعر دائما أننا إما قبلها نتفرج عليها وكأنها توقع أو بعدها وكأنها ذكرى. أما التطابق بين الوعي بالذات والذات فمستحيل.وبذلك يتبين أن هذا النكوص الإبستمولوجي (رؤية محرفة للنظر) يؤدي إلى نكوصأكسيولوجي (رؤية محرفة للعمل) هو جوهر كاريكاتور الحداثة عند النخب العربية التيتدعي التحديث وهو أصل الفاشية والإرهاب سواء كان ماركسيا أو قوميا ويقابله جوهر كاريكاتور عند النخب العربية التي تدعي التأصيل بنفس النكوصين المرضيين.فكلتا النخبتين لهما رؤية ابستمولوجية قروسطية يمثلها النكوص إلى القول بنظرية المعرفةالمطابقة التي تردي الوجود إلى الإدراك بتوسط ابن رشد الناكص لأرسطو وماركس الناقصلهيجل والأربعة يقولون بالمطابقة ويعتمدون مقابلة دغمائية بين العلم المطلق واللاعلم المطلق لردهم الوجود إلى الإدراك.ولذلك فهم الأربعة وكل المتتلمذين عليهم لا يمكن الا يكون لهم نفس النكوصالأكسيولوجي في العمل بحيث إن تصورهم الدغمائي للعلم يؤدي إلى تصورهم الإرهابيللعمل .فتكون الفاشية العلمانية والقومية ثمرة هذين النكوصين عند كاريكاتور التحديث وكاريكاتور التأصيل حزبي الحرب الأهلية العربية.أبو يعرب المرزوقي 34 الأسماء والبيان
--ولولا هذا التحليل هذه العلاقة بين النكوص الابستمولوجي وما ترتب عليه من نكوصأكسيولوجي لما أمكن لي فهم ظاهرتين عجيبتين صحرت الأرواح في الحضارة العربيةالإسلامية الحالية :فالذين يدعون تمثيل الروحانيات تقتصر عندهم على قشورها والذين يدعون تمثيل العقليات تقتصر عندهم على حسياتها عندهم.ما الذي يجعل الدين يتحول إلى قشور تعبدية عند ادعياء التأصيل سواء كانوا فقهاءأو متصوفة والذي يحول الفلسفة إلى قشورية مادية -وهي تعبدية عندهم-سواء كانوافلاسفة أو متشاعرين؟ لماذا هذا التهالك على ما لا يتجاوز سطح الوجود الروحي والمادي دون عمق روحي أو عقلي؟وهنا يلتقي بحثي في النكوصين الابستمولوجي والاكسيولوجي ببحث آخر يتعلق بمستوياتإدراك أبعاد الوجود من خلال مقومي كيان الفرد من حيث هو شبه جهاز وصل بين الطبيعةعامة والحياة العضوية خاصة يأخذ من الأولى ويعطي للثانية ببعدي قيامه العضوي رمزا لهما بأخذ شرط قيامه واعطاء شرط بقاء النوع.وقد رمزت لهذا الجهاز بالفرد الإنسان ممثلا في كيانه العضوي والروحي ومن حيث كونكونه حدا أوسط بين الطبيعة والحياة باستعارتي المائدة والسرير .فالمائدة ترمز إلى الغذاءالمستمد من الطبيعة والسرير يرمز إلى الجنس المعطي للحياة .وبهذا يمكن أن أصنف كل مراحل المناخ الذي يتم فيه الإدراك الإنساني للوجود بمستويات ما دونهما وما فوقهما. والفكرة يوحي بها القرآن من خلال الكلام على مفهومين هما: .1مفهوم الأكل أكل الأنعام .2ومفهوم الإخلاد إلى الأرض.أبو يعرب المرزوقي 35 الأسماء والبيان
--وكلاهما يجعلان الإنسان فاقدا لما يتميز به عن الحيوان .فالمفهوم الأول بين تعلقه بالأخذمن الطبيعة والثاني مثله لكن الأول قياس على أكل الحيوان عامة والثاني على لهيث الكلاب.وسأحاول وصف مستويات الإدراك الوجودي باستعمال هذين الوجهين المادي (الأكل أكلالانعام) والمعنوي (استعارة لهيث الكلاب) حول الأكل رمزا إليه بالمادة والجنس رمزا إليهبالسرير في بعديهما المادي والمعنوي بحيث يمكن التمييز بين خمسة مستويات من الإدراك الوجودي بمقتضاهما. المستويات: .1ما دون المائدة والسرير .2المائدة والسرير .3ما دون فن المائدة وفن السرير .4فن المائدة والسرير .5ما فوق فن المائدة والسرير.والوسط هو \"ما دون فن المائدة والسرير\" وهو قلب المعادلة التي تحدد مستويات الإدراك الوجودي التي تمثل درجات تجاوز الحيوانية والسمو إلى الإنسانية أو البقاء دونها.وهذه الرؤية التي تنبني على دور \"نحلة العيش\" في تحديد الرؤى الوجودية للجماعاتوصفات سلوكها وحتى خصائصها النفسية الفردية والجماعية رؤية خلدونية (بصوغ جديدأنسبه إلى نفسي انطلاقا من رفض المنطق الجدلي التثليثي وبه يتم تجاوز فرويد وماركسوداروين لأنها قابلة للتطبيق على الحي من حيث هو حي) مختلفة تماما عن الرؤيةالماركسية التي يتوهم الكثير أن ابن خلدون ينتسب إلى ما يعد إليها بل هو يحرر منها كما بينا في غير موضع. فلنشرح دلالتها: .1مستوى ما دون المائدة والسرير هو السعي للحصول عليهماأبو يعرب المرزوقي 36 الأسماء والبيان
-- .2مستوى المائدة والسرير عند الحصول عليهما .3ما دون فن المائدة والسرير هو السعي للحصول عليهما .4فن المائدة والسرير عند الحصول عليهما .5والأخيرة ما بعد فن المائدة والسرير وفيها تبدأ الدائرة المفرغة أو التقاء البداية والغاية بسبب انحطاط الترف.لماذا اعتبرت المستوى التي يمثل الوسط \"ما دون فن المائدة والسرير\" بين المستويينالاثنين المتقدمين عليه والمستويين الاثنين المتأخرين عنه مركزيا؟ لأنه هو المستوى الذييتضح فيه لصاحبه التأرجح والنوسان بين الاشرئباب إلى ما يتجاوز اكل الأنعام والإخلاد إلى الأرض والانشداد إليهما.ورغم أن هذا التصنيف والتسميات هي من وضعي فإنها تعتبر أساس التفسير الخلدونيوالافلاطوني لدورة العلاقة بين السياسي كسلطة وازع أجنبي (حكم الغير للذات) ودورالاقتصادي والاجتماعي في مسار الجماعة والخلقي كسلطة وازع ذاتي (حكم الذات لذاتها) ودور الخلقي والاجتماعي في مسار الفرد والجماعة.وإذا كان أفلاطون يدرس المسارين في الجمهورية من منطلق نظريته في بينة النفس المثلثة(العقل والغضب والشوق) فإن ابن خلدون يدرسهما في المقدمة من منطلق أبعد غورا حتىوإن كان لا يستثني البعد النفسي الذي يجعله تابعا له وهو البعد الذي يسميه \"نحلة العيش\" المادي والمعنوي.سأترك افلاطون جانبا وسأكتفي بمواصلة الكلام على ثورة ابن خلدون\" :فنحلة\" العيشعند ابن خلدون مفهوم جوهري في نظريته لأنه يشمل نوعي العمران البدوي والحضريويؤسس لتناظر عجيب بين اقصى البداوة (العرب بمعنى رعاة الأبل منهم ومن غيرهم) وأقصى الحضارة (الترف في كل جماعة) :البداية والغاية.ورغم أني عربي صميم فإني سأقول ما يحجم الكثير عن قوله :مشكلة العرب الحالية أنهمعاشوا سابقا ويعيشون الجمع بين كل عيوب البداية وكل عيوب الغاية أعني ما يترتب علىأبو يعرب المرزوقي 37 الأسماء والبيان
--شظف العيش والترف دون أن يكون بين الامرين الجهد الإبداعي الذي ينقلهم من الأول إلى الثاني وذلك في كل تاريخهم.ففي الماضي كانوا في هذا الوضع لأن العلية منهم كانوا عاطلين وغيرهم يخدمهم .البقيةكانوا توابع لم يخرجوا مما كانوا عليه في الجاهلية .وهم اليوم في نفس الوضع :من كانلهم في ارضهم ثروة طبيعية يبيعونها ولا يعملون ومن ثم فليس لهم دور إنتاجي لا مادي ولا ثقافي يعالج مشكلتي الإنسان.ومشكلتا قيام الإنسان الحر والكريم هما حل العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعية(الاستعمار في الأرض) بعلم قوانينها للاستفادة من خيراتها وحل العلاقة الافقية بينالإنسان والإنسان (الاستخلاف في الأرض) بعلم سنن التاريخ للاستفادة من انظمة الوجودالمشترك الذي ييسر التبادل والتواصل بين البشر بصورة تجعلهم أحرارا يرعون أنفسهم ويحمونها.ويمكن القول إن ابن خلدون قد وصف ذلك وصفا نشعر فيه بالكثير من الألم عندماخصص فصولا لعلاقة العرب (بالمعنى الذي بينت) بالآثار الحضارية (ممثلا ببني هلال)وعلاقتهم بالحضارة نفسها عند كلامه على آثار ترف الأقوياء ومجاعة الضعفاء وما يترتبعليهما من انحطاط خلقي حتى يختلط الحابل بالنابل و\"تفسد كل معاني الإنسانية\" (مصطلح خلدوني).ولا تحتاج إلى الكثير من قراءة التاريخ فيكفي أن ترى المدن العربية الكبرى والمقارنةبين أغنيائها وفقرائها أو بين سكانها في الأحياء المرفهة وفي ما حولها من مدن قصديريةفترى كيف تلتقي أقصى البداوة بأقصى الحضارة التي هي حضارة الانحطاط والترف والاستهلاك وليست حضارة بناء الحضارة.لكن الجديد-وهو مرض الوضع العربي الحالي المتمثل في نخب الكاريكاتورين التأصيليوالتحديثي-هو أنظمة التعليم العقيم الذي عم في المجتمعات العربية والتي جعلته لاأبو يعرب المرزوقي 38 الأسماء والبيان
--يتجاوز ما يناسب هذه المستويات التي تتعلق بـ\"نحل العيش\" الذي لا يعد للقدرة على حل العلاقتين العمودية والافقية :تكوين متطفلين لا يقدرون على شيء.فتبدي الأعيان وتحضر الأذهان يجعل الأصالة والحداثة قوليتين وليستا فعليتين .لذلكفكاريكاتور التأصيل جيش من الايديولوجيين الدينيين الذين لا يصلحون للدنيا وليس لهممن الدين إلى الكلام عليه .وكاريكاتور التحديث جيش من الإيديولوجيين لا يصلحون للأخرى وليس لهم من الدنيا إلى الكلام عليها.وكلام كلا الكاريكاتورين على غايته تنحصر في ذم غاية الثاني :كاريكاتور الحداثةالكلامية صار حربا على الآخرة وذمها وكاريكاتور الأصالة الكلامية صار حربا على الدنياوذمها لكنهما كلاهما عبيد الدنيوي الذي يعيشانه بنكهة الآخرة أي إن الدنيا صارت غاية مثلى لأنها حاضرة حضور المنشود المعدوم.ولذلك فهم يجدونها في عبادة من يمثلها :كلا الكاريكاتورين عبيد لمن بيدهم السلطةالسياسية والاقتصادية .هم عبيد للدنيا التي يتنازلون على كل ما عداها ولو للحصول علىفتاتها .وذلك هو عين ما يعنيه القرآن بالأكل أكل الأنعام والإخلاد إلى الأرض .ولتحضرأي لقاء للمثقفين في أي بلد عربي ولن ترى إلا كمن جاء من بعد مجاعة إلى مطعم وحانة.وليس بالصدفة أن كانت الأوساط الثقافية والفنية-قد يظن أنها تحاكي نظائرها فيالغرب بمعنى النموذج المتحلل خلقيا والمتجاوز للقيم التي لا توجد كما يقول أرسطو إلا فيالوسط لان الطبقة الأدنى لم تصل إليها والطبقة الاعلى تجاوزتها-كلها من الطبقة الوسطى التي تدعي تجاوزها قبل أن تصل إليها.ذلك أن التناظر الذي اكتشفه ابن خلدون بين أقصى البداوة وأقصى الحضارة من حيثرمزية التهديم الحضاري ينطبق الآن على المستوى الثاني والمستوى الرابع فيكون التناظربين الاول والخامس له نظير هو التناظر بين الثاني والرابع وبنفس الأثر :مستوى المائدة والسرير ومستوى فنيهما.أبو يعرب المرزوقي 39 الأسماء والبيان
--ولهذين المستويين اسم علم في بلاد العرب على الاقل عندنا في تونس وهم من نسميهمالأغنياء الجدد :فهم وصلوا إلى المائدة والسرير أي تجاوز ما ربوا عليه من فقر سابق ماديالكنهم لم يتجاوزوه روحيا ونفسيا فأصبح ذلك يبرز في سلوكهم التبذيري وفي الحرص على رموز الثراء المادي مع الفقر الروحي.فعندهم فن المائدة وفن السرير يمثلان عدم الذوق المطلق وهذا تراه خاصة في موائدالعرب وأعراسهم وفي علاقاتهم الجنسية التي هي أقرب إلى الحيوانية منها إلى جماليات الحياة العاطفية والجنسية.وكلا الفنين من \"أقعر\" ما عرفت البشرية لأن أهم شيء فيهما هو التبذير والتفاخر وليس الذوق الفني.ولأختم بعبارة قد تعاب علي للظن أني اقصد بها بعض العرب دون بعضهم الآخر :واعنيالافراط في العمران المحاكي لأمريكا سواء العمران الناطح للسحب عند عرب الخليج أوالعمران المتعلق بمساكن الاسر المرفهة .فلو أنفق العرب ما وضعوه في الحجارة باسم العمارة لكانت لهم فعلا حضارة.أبو يعرب المرزوقي 40 الأسماء والبيان
--أبو يعرب المرزوقي 41 الأسماء والبيان
Search
Read the Text Version
- 1 - 44
Pages: