Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore الثورة الخلدونية، ما الذي يحول دون إدراك كنهها؟ – أبو يعرب المرزوقي

الثورة الخلدونية، ما الذي يحول دون إدراك كنهها؟ – أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2018-12-11 16:29:28

Description: الثورة الخلدونية، ما الذي يحول دون إدراك كنهها؟ – أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬‫ما الذي يحول دون إدراك كنهها؟‬ ‫الأسماء والبيان‬



‫المحتويات ‪1‬‬‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثاني ‪8 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثالث ‪13 -‬‬‫‪ -‬الفصل الرابع ‪18 -‬‬‫‪ -‬الفصل الخامس ‪23 -‬‬‫‪ -‬الفصل السادس ‪29 -‬‬‫‪ -‬الفصل السابع ‪35 -‬‬

‫‪--‬‬‫المعلوم أن الباب السادس من مقدمة ابن خلدون يحتوي على عرض نسقي لذروة الحضارة‬ ‫استكمالا لشكل العمران الحضري بعد‬ ‫الأساس الضروري لكل عمران‪:‬‬ ‫‪ .1‬البدوي من الاعتماد على انتاج الطبيعة‬ ‫‪ .2‬فتنشئة الدولة‬ ‫‪ .3‬ثم المدينة‬ ‫‪ .4‬فالانتاج الإنساني‬ ‫‪ .5‬فغاية أي حضارة بعودتها على ذلك كله وأدواتها‪.‬‬ ‫مواد المقدمة‪:‬‬‫‪ .1‬الشروط الطبيعية والرمزية لنشأة العمران وتفاعلهما في الاتجاهين وذلك هو الأساس‬ ‫المشترك لكل أشكال العمران‪.‬‬ ‫‪ .2‬العمران البدوي وأساسه إنتاج الطبيعة‬ ‫‪ .3‬الدولة‬ ‫‪ .4‬المدينة‬ ‫‪ .5‬الاقتصاد وأساسه انتاج الإنسان‬‫‪ .6‬العلوم وأدواتها وشروطها المادية (متناسبة مع العمران) والتربوية (متثامرة مع‬‫المناهج التربوية) عودة على كل ما تقدم لتجعله عملا على علم‪ :‬دورة ثابتة ذات مستويات‬ ‫متوالية‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن العمل يتقدم على النظر في العمران البدوي والعكس في العمران‬ ‫الحضري‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫والعلة هي تراكم الخبرة وتوالي العادات النظرية على الممارسات العملية إلى أن يصبح‬‫الإنسان لا يعمل إلا بشكل الاستراتيجيا العملية التي هي تطبيق لنظريات سابقة متعلقة‬ ‫بمجال العمل أيا كان والخبرة المتعلقة به وبطرقه ووسائله‪.‬‬‫إذا اعتبرنا الباب الأول مشتركا بين العمرانين بقيت لنا خمسة أبواب هذه بنيتها‪ :‬الرابع‬‫هو القلب وهو المدينة التي تفصل بين العمرانين‪ .‬المدينة غاية البدوي وبداية الحضري‪.‬‬‫والنقلة من بداية البدوي إلى غايته علتها الدولة أو الحماية ومن بداية الحضري إلى‬ ‫غايته علتها الاقتصاد أو الرعاية‪.‬‬‫تكون نسبة المدينة (الباب ‪ )4‬إلى الدولة والحماية (الباب ‪ )3‬عين نسبة المعرفة (الباب‬ ‫‪ )6‬إلى الاقتصاد والرعاية (الباب ‪.)5‬‬‫ومن ثم علة النقلة من الإنتاج الطبيعي إلى الإنتاج الإنساني متناسبة مع علة النقلة من‬ ‫انتاج الصناعات العفوية إلى انتاج الصناعات النظرية أو العلمية‪.‬‬ ‫والصناعات سواء كانت عفوية أو نظرية تتعلق بموضوعين‪:‬‬ ‫• صناعة الإنسان‬‫• صناعة ما يحتاج إليه الإنسان إما لما يسد به حاجاته أو للأدوات التي يصنع بها ما يسد‬ ‫به حاجاته‪.‬‬‫فتكون على خمسة أصناف كل منها مضاعف‪ :‬الأصل هو صناعة الجماعة نفسها لتكون حامية‬ ‫وراعية لذاتها ويتفرع عنها أربع \"صناعات\" مضاعفة‪.‬‬‫فـ\"صناعة\" الإنسان الحامي والراعي وهو موضوع التربية و\"صناعة\" الإنسان لما يسد‬‫حاجاته في الرعاية وفي الحماية ولأدوات ما به يصنع ما يسد حاجاته في الحماية والرعاية‪.‬‬‫وكل واحد منها يكون إما رعوانيا أي معتمدا على الخبرة العفوية أو علميا أي معتمدا على‬ ‫الخبرة ذات الأساس النظري والعلمي‪.‬‬‫هذه البنية بأصنافها ثابتة لا تتغير مهما تقدمت البشرية‪ .‬ما يتغير هو أشكال الدولة‬‫الناقلة من العمران البدوي إلى العمران الحضري وأنظمتها ومؤسساتها وقوانينها لكنها‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫تبقى أساسا وظيفة الحماية الداخلية والخارجية هي التي تحدد حقيقتها أصلا لبقاء‬ ‫الجماعة واستقرارها والتفرغ لرعاية ذاتها‪.‬‬‫وما يتغير هو أشكال الاقتصاد أو تطوير شروط الاستقلال عن الإنتاج الطبيعي بفضل‬‫النظرية المطبقة عليه فيطور تربية الإنسان (لجعله قادرا على حماية ذاته ورعايتها)‬‫ويطور سد الحاجات بالإنتاج وإنتاج ما به يقع الإنتاج أدوات ومناهج‪ .‬فنكتشف بعدي‬ ‫السياسة الإنسانية‪ :‬حكم الإنسان وتكوينه‪.‬‬‫والمقدمة هي في الحقيقة بحث في هذين البعدين‪ :‬الحضارة علاقة بين الطبيعة والثقافة‬‫أو بين ما يستمده الإنسان من الطبيعة المحيطة به ومن طبيعته ليجعله شبه طبيعة ثانية‬‫تحرره من الأولى بالتدريج بفضل الحكم والتكوين وهما سلطتان‪ :‬الأولى للحماية والثانية‬ ‫للرعاية‪ .‬وهما متشارطتان فعلا وانفعالا‪.‬‬‫موضوع المقدمة (أو ثورتها) هو البحث في هذا التشارط وما يترتب عليه في الهندسة‬‫العمرانية ودورها في مسار الإنسانية التاريخي الذي حددت معادلته في الباب الاول بمخمس‬ ‫عجيب هو‪:‬‬ ‫‪ .1‬الشرط الطبيعي‬ ‫‪ .2‬الشرط الرمزي أو الروحي‬ ‫‪ .3‬أثر الثاني في الأول‬ ‫‪ .4‬أثر الأول في الثاني‬‫‪ .5‬الحصيلة هي الحضارة الإنسانية موضوع العلم الذي اكتشفه ابن خلدون فصار بذلك‬‫مؤسس العصر الأول من العلوم الإنسانية تأسيس أرسطو للعصر الأول من العلوم الطبيعية‪.‬‬ ‫الشرط الطبيعي معلوم‪ :‬درسه ابن خلدون وهو الجغرافيا الطبيعية والمناخ‪.‬‬‫أما الشرط الرمزي أو الروحي فيعسر تحديده‪ :‬فهو درسه واعتبر منطلقه الخوف من‬‫المستقبل ويمكن اعتباره ترجمة للخوف من فقدان شروط البقاء المستمد من الطبيعة وهو‬ ‫إذن خوف مما ينتظر الإنسان من مجهول في طلب لقمة العيش‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ولهذا ربطه ابن خلدون بالتوقع والنبوءات والتنجيم وبكل ما له علاقة باستشراف‬‫المجهول‪ .‬وينتج عنه حتما الاستعداد له‪ .‬فيكون الامر متعلقا بالرعاية (سد الحاجات)‬ ‫والحماية (الدفاع عن الذات)‪.‬‬‫وإذن فالبعد الروحي أو الرمزي المحدد لطبيعة التعامل مع الطبيعة المحيطة تعبير عن‬ ‫طبيعة الإنسان المحاطة‪.‬‬‫ولما كانت الطبيعة المحاطة فيها كيان عضوي هو البدن وهو الذي يطلب سد حاجته وكان‬‫فيها كيان روحي يعي هذا الطلب فإن الإنسان قاس الطبيعة المحيطة على ذاته فاعتبرها‬‫هي بدورها ذات كيان عضوي هو ما يشاهده منها وكيان روحي هو ما يعتبره في نسبته إليها‬ ‫مثل ما لديه فاعتبرها ذات روح‪.‬‬‫فأصبح له معها تعاملان‪ :‬مادي بينها وبين بدنه وروحي بين روحه وروحها‪ .‬ومن هنا نشأت‬‫علاقتان بين كيان الإنسان وكيان المحيط‪ .‬وبدأت العلاقة تتجاوز مجرد اللقاء بين كيانين‬‫ماديين إلى لقاء بين كيانين ذوي روحين تتصادقان وتتعاديان وتتواصلان‪ .‬وقد درس الباب‬ ‫الأول هذا التفاعل في الاتجاهين‪.‬‬‫وكل ما سيأتي في الأبواب الخمسة الموالية هو ثمرة هذا التفاعل المتطور من المادي إلى‬‫الروحي ثم العائد من الروحي إلى المادي‪ .‬والباب الأخير السادس هو غاية الحضارة‬‫الإنسانية أو اكتمال الإنسانية والباب الثاني الأول في هذا التفاعل هو بداية الحضارة‬ ‫الإنسانية أو شروع الإنسانية في التحقق‪.‬‬‫وبهذا المعنى فالمقدمة لها موضوعان رئيسيان‪ :‬تكوينية نظام الحماية وتكوينية نظام‬‫الرعاية والجامع بينهما هو تكوينية الإنسان غاية وأداة‪ .‬لكن التكوينيتين لتحقيق‬‫الإنسانية عامة دون كلام على حضارة معينة إلا بوصفها عينة من الحضاري عامة تفهمان‬‫من خلال علاقة نوعي الأحياز المحيطة بكيان الإنسان فردا وجماعة والمحاطة كيان الإنسان‬ ‫فردا وجماعة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وتصح الإحاطية والمحاطية ليس على الجماعة الجزئية بل على الفرد وعلى كل جماعة‬‫وعلى كل الإنسانية وعلى كل الموجودات العينية‪ :‬فكل موجود سواء كان حيا أو جامدا محاط‬‫بكل العالم ومحيط بكل العالم‪ :‬فهو محاط ومحيط‪ .‬وهذه هي الحجة الأساسية لنفيي القول‬ ‫بالمنطق الجدلي وبالعلم المحيط لأي موجود معين‪.‬‬‫ما يعني أن مجرد هذا بحد ذاته دليل كاف على وجود الله وإحاطته بكل شيء إرادة وعلما‬‫وقدرة وحياة ووجودا‪ .‬فالوجود ككل لا يمكن تصوره عديم المبدأ الموحد ولا يمكن أن يكون‬‫المبدأ الموحد حالا فيه وإلا لكان محاطا وليس محيطا فحسب وبذلك يكون أحد الموجودات‬ ‫وليس مبدأ وجودها‪.‬‬‫فالأحياز المحيطة هي أبعاد الطبيعة الخارجية وما لها من أثر على ما به تقوم الطبيعة‬‫الداخلية قيامها العضوي والروحي‪ .‬والأحياز المحاطة هي أبعاد الطبيعة الداخلية أو كيان‬‫الإنسان وما لها من أثر على الأحياز الخارجية من أجل تحقيق شروط قيامها العضوي‬ ‫والروحي‪ :‬التفاعلات بين النوعين هي الأهم‪.‬‬‫ويجمع ابن خلدون هذه التفاعلات في مفهوم شديد التعقيد رغم كونه يبدو شديد‬‫البساطة \"نحلة العيش\"‪ .‬وهو يميز بين نحلتين أساسيتين لكل منهما أشكال مختلفة تذهب من‬‫الأبسط إلى الأعقد هما النحلة البدوية والنحلة الحضرية‪ .‬ولكل منهما بداية وغاية‪.‬‬‫وغاية نحلة العيش البدوية (تقدم الطبيعي على الثقافي) هي في آن بداية نحلة العيش‬ ‫الحضرية (تقدم الثقافي على الطبيعي)‪.‬‬‫ويمكن القول إن جنسي النحلة لا يختلفان من حيث البنية والوظيفة لكنهما يختلفان من‬‫حيث دور الأحياز المحيطة ودور الأحياز المحاطة أو طبيعة الفاعلية الغالبة على الجماعة‬‫وليس على الفرد‪ :‬ففي النحلة البدوية الفاعلية الغالبة هي للأحياز المحيطة أو الطبيعة‬ ‫الخارجية‪ .‬وفي النحلة الحضرية العكس‪.‬‬‫والأحياز الخارجية هي المكان والزمان وأثر الأول في الثاني وأثر الثاني في الأول والأصل‬‫فيها جميعا هو المرجعية التي يتلاحم فيها الوصل في كل حيز ثم بين الأحياز‪ .‬وأثر المكان في‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الزمان هو التراث أو الواصل الرمزي بين أفراد الجماعة‪ .‬وأثر الزمان في المكان هو الثروة‬‫أو الواصل المادي بين أفراد الجماعة‪ .‬والأصل مرجعية كيانية لأنها زمانية رمزية ومكانية‬‫مادية تصل بين الوصلين بالرمزي (التراث) وبالمادي (الثروة) غير القابلين للفصل حتى‬ ‫في كيان الإنسان العضوي والروحي‪.‬‬‫ولا يمكن أن يكون الأصل إلا مرجعية ميثولوجية أو دينية حتى لو توهم أصحابها أنها‬‫تحررت منهما فادعوا أنها فلسفية مثل المادية الجدلية‪ .‬فهذه بخلاف أوهام أصحابها أكثر‬‫ميثولوجية من الأديان‪ .‬فما تنسبه الأديان إلى ما يتعالى على الطبيعة تنسبه هي إلى‬ ‫الطبيعة دون أن تبين طبيعية العقلي في المادة بغير مجرد الاعتقاد اللاواعي‪.‬‬‫فمادية النظام في المادي أو ما في الشكل من المضمون أو ما في القانون مما هو له قانون \"سر\"‬‫يصعب جعله من جنسه‪ .‬والميثولوجيات والأديان أكثر منطقية في الفصل بينهما وجعلهما‬‫عالمين مختلفين حتى وإن أبقت العالم الشكلي تعليلا غائيا من طبيعة مختلفة مجهولة في‬ ‫الغالب فلا تردها تحكميا إلى المعلوم‪.‬‬‫وخرافة وحدة الوجود لا تنفي تعدد المقومات التي تزعم واحدة لأن مجرد التمييز بين‬‫الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة لتأسيس ما يعتبر على ذاته ‪-‬كاوزا سوي‪-‬من أكثر‬‫المفهومات اسطورية في الفلسفة أو التصوف اللذين يزعمان نفسيهما بديلا من الدين حتى‬ ‫في شكله الأكثر بدائية أو الميثولوجيا‪.‬‬‫فما هو معلوم هو الفرق بين الأمر الواقع في المضمون والامر الواجب في الشكل إذ مهما‬‫فعلنا فلا يمكن رد أي مضمون لشكله القانوني ولا يمكن اعتبار شكله القانوني مجرد كائن‬‫ذهني وإلا لصارما في الأذهان هو المحرك لما في الأعيان‪ .‬فقوانين الطبيعة التي أعلمها لا‬ ‫تحرك الطبيعة وإن عبرت عن نظامها‪.‬‬‫فإذا اعتبرتها \"كائنات\" فعلية غير التي في ذهني كانت عالما آخر غير ما في ذهني وغير ما‬‫في خارجه وهي إذن ما تصورته الميثولوجيات نظاما ربوبيا متعاليا وإن قاسته على النظام‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الإنساني كما في الميثولوجيا اليونانية‪ .‬لكن الأديان المنزلة تتكلم عليه مثل الميثولوجيا مع‬ ‫احتراز ليس كمثله شيء‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ونأتي الآن إلى الأحياز الذاتية‪.‬‬ ‫• فكل فرد له حيز مكاني هو بدنه‪.‬‬ ‫• وله حيز زماني هو روحه أو وعيه بذاته‪.‬‬‫• وله حيز ناتج عن أثر الأول في الثاني هو تراثه أو مخزونه الرمزي الذي يسد حاجاته‬ ‫الروحية‪.‬‬‫• وله حيز ناتج عن أثر الثاني في الأول هو ثروته أو مخزونه المادي مما يسد حاجاته‬ ‫العضوية‪.‬‬‫• والحيز الذي هو أصلها جميعا هو ذاته الواصلة بين بدنه وروحه زاده العضوي وزاده‬ ‫الروحي‪.‬‬‫والتفاعل بين هذه الأحياز الذاتية في كائن فرد والأحياز الخارجية التي تحيط به وبكل‬‫جماعة لا تكون بدون وساطة الجماعة بفضل تقاسم العمل المادي المنتج للثروة أو الاقتصاد‬‫والعمل الرمزي المنتج للتراث أو الثقافة وبين نوعي الأحياز ونوعي العمل وكلاهما مشروط‬ ‫بالحماية والرعاية وأداتيهما‪ :‬أي حكم الإنسان وتكوينه‪.‬‬‫وهنا نكتشف سر الثورة الخلدونية‪ :‬فهو يعتبر تعطيل هذا التفاعل بين الأحياز الذاتية‬‫للأفراد والأحياز الخارجية التي تحيط بهم علة \"فساد معاني الإنسانية\" أو تعطل فاعليات‬ ‫الجماعات البشرية وعلة الانحطاط‪.‬‬‫فالتكوين (تربية الأفراد) والحكم (تنظيم حياة الجماعة) تزيلان رئاسة الإنسان‬‫فتفقدانه حرية إرادة وصدق علمه وخير قدرته وجمال حياته وجلال وجوده فلا يبقى‬ ‫أهلا للخلافة‪.‬‬ ‫جوهر المقدمة‪:‬‬‫مرافعة فلسفية للدفاع عن الحرية في التكوين وفي الحكم أداتي تحرير من الطاغوتين‬‫(الطبيعي والسياسي) أو أداتي تدجين بهما (الخضوع لطاغوت الطبيعة في العمران‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫البدوي والخضوع لطاغوت الثقافة في العمران الحضري) والبحث هو لدرس الطاغوتين‬ ‫وشروط التحرر منهما‪.‬‬‫وقد سبق لي أن درست هاتين الثورتين في الرؤية القرآنية عندما شرحت سورة هود لأبين‬‫دلالة \"لقد شيبتني هود وأخواتها\" المنسوبة إلى الرسول الخاتم‪ .‬فالتحرر من سلطان‬‫الطبيعة يرمز إليه تكليف نوح بأخذ زوجين اثنين من كل شيء لجعله زرعا إنسانيا وليس‬ ‫نباتا طبيعيا بداية للتحرر من الطاغوت الأول‪.‬‬‫والتحرر من سلطان الطاغوت الثقافي هو التحرر من طغيان الفرعونية ويرمز إليه موسى‪.‬‬‫لكن التحررين سرعان ما يحرفان فيتحولان إلى عبودية أدهى وأمر هي عبودية دين‬‫العجل‪ :‬أي عبودية الاقتصاد ورمزها معدن العجل وعبودية الثقافة ويرمز إليها خوار‬ ‫العجل‪ .‬وذلك هو دين العجل= الأبيسيوقراطيا‪.‬‬‫وهذه الأبيسيوقراطيا اكتملت في النظام العالمي الجديد عالم العبودية للبنك (رمزها‬‫معدن العجل) وعبودية الإعلام والملاهي (رمزها خوار العجل) بحيث إن الإنسانية كلها‬‫صارت مستعبدة لأصحاب البنوك والربا ولأصحاب الإلام والملاهي المسيطرين على البشرية‬ ‫والتي بها تحارب مافيات العالم الإسلام وحضارته‪.‬‬‫فالإسلام يجعل التفاعلات بين الأحياز الذاتية للفرد والأحياز العامة للجماعة فرض عين‬‫وسماها الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين بل أكثر من ذلك هو يعرف بها الإنسان‬‫المسلم (آل عمران ‪ )104‬إنشاء ويحدد انتسابه إلى الخيرية بتحقيقها خبرا (آل عمران‬ ‫‪ .)110‬لكن المسلمين غفلوا عنهما فانحطوا‪.‬‬‫والعنف الذي يتكلم عليه ابن خلدون بوصفه علة \"فساد معاني الإنسانية\" فتصبح‬‫الجماعات تصبح عالة على غيرها والافراد فاقدين \"الرئاسة التي لهم بالطبع بمقتضى‬‫الاستخلاف الذي خلقوا له\" يرجعها ابن خلدون إلى دلالة التأله بوصفه من الأسماء‬ ‫الأضداد‪ :‬التأله العنيف والتأله اللطيف مرضي الإنسانية الدائمين‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فالتأله العنيف هو الطاغوت المادي ويغلب على الحكم والتأله اللطيف هو الطاغوت‬‫الروحي ويغلب على التربية‪ .‬ويبدو التألهان وكأنهما متناقضان لكنهما في الحقيقة من‬‫طبيعة واحدة‪ :‬فالمستبد السياسي يتأله بمعنى أنه يعتبر نفسه ربا في الأرض‪ .‬والمتصوف أو‬ ‫العابد يتأله فيظن نفسه قد فنى في الله‪.‬‬‫وقد تكلم ابن خلدون على التألهين لكنه لم ير إلا أثر التأله العنيف حتى في التكوين أو‬‫التربية وحصره في تعنيف المتعلم من المعلم وضربه مثلا‪ .‬لكنه لم يكتشف أن العنف الرمزي‬‫الذي يدعي فيه المعلم أنه ليس مذكرا بل وسيط بين المؤمن وربه أخطر على \"رئاسة الإنسان‬ ‫بالطبع\" من العنف المادي‪.‬‬‫ومعنى ذلك أنه رغم اكتشافه أن التأله من الأضداد لم ير دور التأله اللطيف في الوساطة‬‫(تكوين الإنسان وتربيته) وعلاقته بالتألـه العنيف في الوصاية (حكم الإنسان وتدجينه)‬‫لكأن الوصل بين \"إنما أنت مذكر\" و\"لست عليهم بمسيطر\" لم تفهم الفهم العميق الذي يعني‬ ‫نفي الكنسية والحكم بالحق الالهي‪.‬‬‫وذلك ما حاولت النهضة الأوروبية محاكاته في الإصلاح الديني والسياسي‪ :‬التحرر‬‫الروحي من الوساطة الكنسية بين المؤمن وربه والتحرر السياسي بين المواطن وشأنه من‬‫الحكم بالحق الإلهي‪ .‬فالحداثة الغربية بدأت بهما لكنها عوضتهما بما يناظرها وإن بشكل‬ ‫حديث من الوساطة والوصاية عالجناهما في عديد المحاولات السابقة‪.‬‬‫فالرسول الخاتم ليس وسيطا بين المؤمن وربه بل مذكر وليس وصيا يحكم بالحق الإلهي‪.‬‬‫لكن ما صاروا يسمون أنفسهم \"أولى الأمر\" نسوا \"منكم\" وجعلوها \"عليكم\" وزعم أصحاب‬‫ولاية الأمر في التربية (العلماء) ورثة الأنبياء في ما لا يملكون وأصحاب ولاية الأمر في‬ ‫الحكم (الأمراء) ورثة الله نفسه‪.‬‬‫وبذلك تم تحريف ثورتي الإسلام الروحية بأن أصبح التكوين وساطة وليس تذكيرا‬‫للإنسان بما فطر عليه والحكم وصاية وليس خدمة فرض كفاية بشرطي الأمانة والعدل‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫تحت رقابة الأمة لأن حكمها لذاتها فرض كفاية لأن الأمر أمرها (الشورى ‪ )38‬وهي التي‬ ‫تديره بشوراها في المجالين الروحي والاقتصادي‪-‬الاجتماعي‪.‬‬‫فالشورى ‪ 38‬تبدأ بالمجال الروحي (الاستجابة للرب دون سواه) وتنتهي بالمجال الاقتصادي‬‫(الانفاق من الرزق) وبين الحدين وعلامة الاستجابة (أقاموا الصلاة) وتحديد طبيعة‬‫الحكم (أمر الأمة=راسبوبليكا) وأسلوب الحكم (شورى بينهم=ديمقراطية) فتكون الآية‬‫محددة لشرطي المحافظة على رئاسة الإنسان التي له بالطبع لكونه خليفة ‪ :‬الاستجابة للرب‬ ‫والإنفاق من الرزق‪.‬‬‫مفهوم \"الإنسان رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" مفهوم وضعه ابن خلدون‬‫لبيان ما وضعه في الباب الأول من المقدمة عندما وضع الشرط الطبيعي (الجغرافيا‬‫الطبيعية والمناخ) والشرط الروحي (ما لدى الإنسان من استخلاف شرطه تعمير الأرض)‪.‬‬ ‫وبذلك فهو يتجاوز حصر الروحي في العقلي‪.‬‬‫وهذا التجاوز يجعل العقل إحدى أدوات الروحي وليس هو الروحي في الإنسان ومن ثم‬‫فالعلم مقوم أداتي والروحي مقوم غائي‪ .‬والمقومات الأداتية التي غايتها الروحية هي كون‬‫الإنسان رئيسا بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له خمسة‪ :‬الإرادة والعلم والقدرة‬ ‫والحياة والوجود‪ .‬والغاية قيمها‪.‬‬‫وما يسميه ابن خلدون \"فساد معاني الإنسانية\" هو فساد قيم هذه المقومات الأداتية أي‬‫غاياتها التي بتحققها يحقق الإنسان جدارة الاستخلاف‪ :‬فالإرادة قيمتها الحرية والعلم‬‫قيمته الحقيقة والقدرة قيمتها الخير والحياة قيمتها الجمال والوجود قيمته الجلال‪.‬‬ ‫فالرئيس بالطبع يكون حرا صادقا خيرا جميلا وجليلا‪.‬‬‫وفساد معاني الإنسانية هو فساد قيم المقومات الخمسة‪ .‬فيكون الإنسان الذي فسدت فيه‬‫معاني الإنسانية عبد الإرادة كاذب العلم شرير القدرة قبيح الحياة وذليل الوجود‪ .‬وبهذا‬‫يصف ابن خلدون الشعوب والافراد عندما تكون ضحايا العنف‪ .‬ورغم اقتصاره على العنف‬ ‫المادي فإن نفاذه الفلسفي كان فعلا نفاذا عبقريا‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فالمهم أنه اكتشف أن فساد معاني الإنسانية ليس ظاهرة طبيعية بل هي ظاهرة ثقافية‬‫علتها عنف التربية وعنف الحكم‪ .‬وعنف التربية أشمل من العنف المادي‪ :‬وساطة المعلم‬‫الذي لم يعمل بـ\"فذكر إنما أنت مذكر\" وعنف الحكم أشمل من العنف المادي‪ :‬وصاية الحاكم‬ ‫الذي لم يعمل بـ\"لست عليهم بمسيطر\"‪.‬‬‫فالوساطة تجعل المتعلم متلق من وسيط ولا دور له إلى حفظ ما يملى عليه وكأنه حقيقة لا‬‫يمكنه اكتشافها بنفسه إذا كان المعلم مذكر له بما نساه أو بما غفل عنه وهو مرسوم في‬‫فطرته بالمعنى الذي يمكن ان نفهمه من المنهج السقراطي أعني منهج التوليد‪ :‬فالقابلة‬ ‫تساعد الحامل على الوضع لا غير‪.‬‬‫أما الوسيط فهو يجعل المتعلم عقيما لا يساعده على وضع ما هو حامل به بل هو يحمله‬‫أسفارا كالحمار الناقل لها بمنطق القطب الذي يعامل المتعلم معاملة المغسل للميت‪ .‬ومن ثم‬‫فهو يقتله ثم يحشوه بما وضعه هو فيحول دونه وحرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة‬ ‫وجمال الحياة وجلال الوجود‪.‬‬‫وكما بينت آل عمران فإن هذه الوساطة تتحالف مع الوصاية أي إن المؤسسة التربية من‬‫حيث هي كنسية تتوسط بين المؤمن وربه تتحالف مع الوصاية أي مؤسسة الحكم من حيث هي‬‫تأله ودعوى الحكم بالحق الإلهي أو باسم شرع الله حتى يصبح للاستبداد أساسا يزعم دينيا‬ ‫وهو كفر بكل ما هو ديني بحق‪.‬‬‫فيجمع هامان وفرعون أو خوار العجل ومعدنه ويصبح الإنسان فاقدا لرئاسته بالطبع‬‫بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له بمصطلح ابن خلدون‪ .‬وتلكما هما علتا ما تعاني منه الامة‬‫اليوم من فشل في علاقتها العمودية بالطبيعة سدا لحاجات قيامها المادي وفي علاقتها بالتاريخ‬ ‫سدا لحاجات قيامها الروحي‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ورغم أن ابن خلدون لم يصل بين العنفين اللذين هما وجها التأله من حيث هو‬‫الأضداد‪-‬التأله العنيف الحاكم المستبد أو الوصي الذي يظن نفسه إلها والتآلف اللطيف‬‫\"العالم\" الوسيط بين المؤمن وربه فإن لم يكتف بنقد الحكام بل نقد المربين بصنفيهم النظري‬ ‫والعملي‪ :‬المتكلم والفيلسوف في والفقيه والمتصوف‪.‬‬‫لكن نقده للفقهاء في العمل وللمتكلمين في النظر لم يكن بالوضوح الذي نقد به الطرف‬‫الثاني من الصنفين أي المتصوف في العمل والفيلسوف في النظر‪ .‬وقد يكون ذلك ناتجا عن‬‫الحذر السياسي الذي عرف به ابن خلدون وتجبنه المشاكل معهما لعلمه بما لهما من سلطان‬ ‫لدى أصحاب سلطان التأله العنيف‪.‬‬‫ومع ذلك فالمقدمة وخاصة سيرته الذاتية لم تخلوا من نقد جذري للفقهاء (في السيرة)‬‫المتكلمين (في المقدمة) وأتكلم على ذلك لاحقا‪ .‬ما يعنيني هو كلامه في الفلاسفة (في‬‫المقدمة) والمتصوفة (في المقدمة وفي شفاء السائل)‪ .‬فجل نقده المتعلق بالتأله اللطيف يدور‬ ‫حول \"الفلسفة\" والتصوف‪.‬‬‫وحتى لا يقع القارئ في الخلط السائد بين الفلسفة والعلوم العقلية وبين التصوف والزهد‬‫الديني فلا بد من التنبيه إلى أن ما يقصده ابن خلدون بالفلسفة هو الميتافيزيقا التي تقول‬‫برد الوجود إلى الإدراك وهو أشبه بقول المتصوفة بالكشف وما يقصده بالتصوف هو‬ ‫التصوف مدعي القدرة على كشف الغيب‪.‬‬‫وقد يكون ابن رشد جامعا بين التصورين لأن القول بنظرية المعرفة المطابقة ‪-‬العلم‬‫بالشيء على ما هو عليه‪-‬هو أساس ظنه أن الراسخين في العلم معطوفة على الله في آل‬‫عمران ‪ 7‬ومن ثم فالمتشابه قابل للتأويل على أساس علم الفيلسوف بالحقيقة المطلقة وفي‬ ‫ذلك نفي للغيب‪.‬‬‫فإذا كان تأويل المتشابه ممكن للراسخين في العلم فعلمهم من ثم محيط إحاطة علم الله‬‫بالمعلوم‪ .‬وتأويل القرآن يصبح مجرد البحث عن دلالته في الفلسفة ‪-‬بمعنى العلم المطلق أو‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الميتافيزيقا عنده‪-‬وهي التي ألف ابن خلدون في إبطالها وبيان فساد منتحليها فصلا من‬ ‫المقدمة في بابها السادس والأخير‪.‬‬‫أما نقد نظير الميتافيزيقا في علوم الملة فهو نقد \"علم الكلام\" وخاصة جزؤه المتعلق بجليلـه‬‫حول الذات والصفات وعلاقة أفعال العباد به وبسلطانه على الموجودات‪ .‬وهو نقد يشير‬‫إليه ابن خلدون نوعين من الإشارة عندما يتكلم في المشترك بينه وبين الفلسفة ثم في ما‬ ‫يختلف به عن رؤية السلف عامة‪.‬‬‫فيكون نقد التأله اللطيف هو عينه بيان حدود المعرفة العقلية بالعقل نفسه‪ :‬ومعنى ذلك‬‫أن العقل يصل إلى درجة من الرشد يعلم بها أن الوجود لا يرد إلى الإدراك وأن نظرية‬‫المعرفة القائلة بالمطابقة منافية للعقل ذاته ومن ثم فالروح أبعد غورا من العقل دون أن‬ ‫يعني ذلك القول بشناعة الكشف الصوفي‪.‬‬‫وكلنا يعلم التحالف الصريح بين القائلين بالكشف الصوفي والقائلين بالحاكم ظلا لله في‬‫الأرض‪ .‬فهما يمثلان وجهي التأله اللذين أبانهما ابن خلدون في المقدمة واعتبرهما مرض‬‫الإنسانية لانهما يسلبان من الإنسان من حيث هو إنسان \"الرئاسة التي له بالطبع بمقتضى‬ ‫الاستخلاف الذي خلق له\"‪.‬‬‫وعندما تنزع عنه هذه الصفة التي هي ثمرة الاستخلاف يفقد حرية الإرادة (عبد لعبد)‬‫وصدق المعرفة (باطل) وخير القدرة (شر) وجمال الحياة (قبح) وجلال الوجود (ذل)‪.‬‬‫وهذه الصفات السلبية هي التي تصبح طبيعته الثانية فيقع الإنسان في الخسر‪ :‬لا يؤمن‬ ‫بشيء ولا يعمل صالحا ولا يتواصى بالحق ولا يتواصي بالصبر‪.‬‬‫وهذا هو الإنسان الذي يعتبره ابن خلدون فقد \"فسدت فيه معاني الإنسانية\" فصار عالة‬‫على غيره لا يعيش إلى بالغش والكذب والخداع والنفاق وخاصة بفقدان ما يسميه ابن‬‫خلدون الصفات المدنية أي الرعاية والحماية الذاتيتين فيصبح تابعا لنوعي التأله‪ :‬اللطيف‬ ‫يستعبده روحيا والعنيف يستعبده ماديا‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ويؤسفني ويؤلمني أن أقول إن هذه الصفات هي الغالبة اليوم على نخب العرب وخاصة‬‫على من لم يثر منهم بعد وعلى من يقود الثورة المضادة ضدهم‪ .‬فهؤلاء عبيد لحماتهم إما‬‫الذراع الإيرانية أو الذراع الإسرائيلية أو حامي إيران وحامي إسرائيل للنخب التي‬ ‫\"فسدت فيها معاني الإنسانية\" وهم مرضى بيننا ولا علاج لهم‪.‬‬‫ورغم أن التصوف السني الذي لم يتجاوز المجاهدتين الشرعتين أعني مجاهدة التقوى‬‫ومجاهدة الاستقامة كانوا من قادة حرب التحرير في جل بلاد المسلمين فإن التصوف الذي‬‫يدعي التفلسف والكشف ويتجاوز الزهد إلى نفاق الباطنية كان ولا يزال منه عملاء‬ ‫الاستعمار والاستبداد‪ :‬خدم الغرب وعملائه‪.‬‬‫وهم في الحقيقة باطنية متنكرة أو شيعية غالية تمثلها المرجعيات التي كانت ولا تزال‬‫حليفة لكل محارب للإسلام ولحضارته منذ مغول الشرق إلى مغول الغرب (الولايات‬‫المتحدة) ويحالفون البرتغاليين والصليبيين والاستعمار كما نرى ذلك عند ما يسمى‬‫مرجعيات في العراق حلفاء بريمر وأمراء الثورة المضادة في الخليج وبقية الأقطار العربية‬ ‫وفيهم من لا يقل عداء للإسلام من الباطنية وعلامتهم العمالة لترومب وصهره‪.‬‬‫ويخطئ من يتصور أن هذا الحلف بين التألهين المادي للاستبداد السياسي والرمزي‬‫للاستبداد التربوي هو حلف بين الجهل (الحكام) والعلم (المربين) بل هو بين جهلين جهل‬‫بسيط عند الحكام جهل مركب عند \"العلماء\"‪ :‬فمن يتأله بسلطان رمزي محرف أخطر ممن‬ ‫يتأله بسلطان مادي محرف‪.‬‬‫وحتى نطبق الكلام على ما يجري حاليا فإن ما يفعله الطاغوت السياسي في بلاد العرب له‬‫أساس في طاغوت تربوي عند كاريكاتور النخب التأصيلية وكاريكاتور النخب التحديثية التي‬‫هي من أكثر النخب جهلا في العالم‪ .‬فهم مرتزقة وعندنا منهم في تونس نخب اليسار خاصة‬ ‫واغلبهم من أدوات المخابرات والحانات‪.‬‬‫ويكفي أن ترى ما يجري في مصر وسوريا والعراق وليبيا والإمارات والسعودية وطبعا في‬‫تونس وكيف تدار الدول والمجتمعات من السفارات والمخابرات والاحتماء بإيران وإسرائيل‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ومن وراء إيران ومن وراء إسرائيل وهم في الغالب مافيات صهيونية ومسيحية صهيونية إذ‬ ‫كل الحكام العرب دمى بيدهم‪.‬‬‫من يصدق أن يقود مصر حمار مثل السيسي وسوريا أرنب مثل بشار والسعودية أحمق‬‫مثل صاحب المنشار وليبيا جبان مثل حفتر والعراق كل خونة العراق الذين رباهم ملالي‬‫إيران ونصبهم بريمر واحتلوا العراق بالدبابة الأمريكية والمليشيات الإيرانية وتونس‬‫تديرها السفارات وهلم جرا حتى لا اسمي الكثير ممن أجهل أسماءهم وتاريخهم وأفعالهم‬ ‫من نفس الجنس‪.‬‬‫وليست هذه الحال من الصفات العرقية ولا من القضاء والقدر بل هي بفعل فاعل داخلي‬‫وخارجي‪ :‬فأما الفاعل الداخلي فهو الحكم والتربية وأما الفاعل الخارجي فهو الانتخاب‬‫المفروض بحيث إن من ينصب عليهما يقع اختياره بصورة تجعله مخربا حتى بغير قصد لأنه‬ ‫يختار من فاقدي الشرطين‪ :‬الكفاءة والأخلاق‪.‬‬‫والمعلوم أن الوحشية والعنف متناسبان مع فقدان هذين الشرطين‪ :‬فنسبة الإحرام‬‫طردية في المكلف بالتربية وبالحكم مع فقدان الكفاءة والأخلاق ولعل ما حدث مع خاشقجي‬‫من أكبر الادلة وقبله ما حدث في رابعة وفي العراق وفي سوريا وفي ليبيا وتونس الجزائر‬ ‫حتى قبل الثورة والخفي أكثر من الجلي‪.‬‬‫ولما ينصب هؤلاء يصبح بيدهم تنصيب من هو دونهم كفاءة وأخلاق في العلم والقدرة‬‫والحياة والوجود‪ .‬فتصبح كل النخب ‪-‬نخبة الإرادة‪-‬الساسة ونخبة المعرفة‪-‬الجامعيين‬‫ونخبة القدرة الاقتصاديين والمثقفين ونخبة الذوق الفنانين ونخبة الوجود أصحاب الرؤى‬ ‫الدينية والفلسفية من أسفل ما عرفت البشرية‪.‬‬‫لذلك فلا تعجب عندما تسمع هذه النخب تخلط بين الدفاع عن الأوطان والدفاع عن‬‫المجرمين الذين يحكمونها رغم أنف شعوبها بفرض أجنبي إذ تحميهم القواعد والمستشارين‬‫والاعلام إما الصهيوني أو الصفوي ومن ورائهما من اللوبيات في أمريكا وروسيا بتمويل‬ ‫عربي من أحفاد المعادين للإسلام وثورته‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لذلك فلا شيء مما يحدث وليد الصدف بل توجد استراتيجية لمنع العرب خاصة والمسلمين‬‫عامة من تحقيق شروط استئناف دورهم بوصفهم أمة عظيمة‪ .‬والبحث في هذه الاستراتيجية‬‫هو الموضوع الاساسي في مقدمة ابن خلدون لأن السؤال الحارق الذي كان يطلب جوابه هو‪:‬‬ ‫ما علل الانحطاط وفساد معاني الإنسانية؟‬‫صحيح أن العلاج الخلدوني ينتسب إلى العلاج النظري لكن المطلوب عملي‪ .‬فهو كان‬‫يريد تأسيس علم النقد التاريخي على ما بعد التاريخ أو علم العمران البشري (سد‬‫الحاجات المادية) والاجتماع الإنساني (سد الحاجات الروحية) بوصفهما ما بمقتضاه يتحدد‬ ‫التاريخ الإنساني عامة صعودا وهبوطا‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫حالت الاحداث دوني ومواصلة البحث في \"الثورة الخلدونية‪ :‬ما الذي يحول دون إدراك‬‫كنهها\" عند الفصل الثالث ولم انهه ببيان بعدي الثورة التي غفل عنها مؤرخو الفكر‬‫الفلسفي في حضارتنا والتي كانت غاية ما توصلت إليه المدرسة التي وصفتها بالنقدية عامة‬ ‫وفكر ابن خلدون خاصة‪.‬‬‫أما وقد أسهمت بما أستطيع في فهم الأحداث التي اعتبرتها بداية الموجة الثانية من ثورة‬‫الشباب المسلم بجنسيه فإني استأنف الكلام في هذه الثورة بإبراز مجالي صوغها المتردد عند‬‫ابن خلدون‪ .‬وقد كان الصوغ مترددا لأنه ككل البدايات ليس يسير النسقية إذ هو شبه‬ ‫حدوس لم تترابط مقوماتها بوضوح‪.‬‬‫والوصل بين الثورتين اللتين صيغتا في فصل علم الكلام (‪ 10‬من الباب ‪ )6‬وفصل إبطال‬‫الفلسفة وفساد منتحلها (‪ 31‬من الباب ‪ )6‬نجده في فصل علم الإلهيات (‪ 27‬من الباب ‪)6‬‬ ‫لأنه يحقق أمرين‪:‬‬ ‫‪ .1‬تتحدد الثورتان ردا على اختلاط الكلام والفلسفة في عصره‬ ‫‪ .2‬يفصل الديني عن الكلامي والعلمي عن الفلسفي‪.‬‬‫فلو لم يحصل الاختلاط بين الكلامي والفلسفي في كل منهما وخاصة في التصوف المتفلسف‬‫لما حصلت الوعي بالثورة التي كانت معالمها تبرز بالتدريج في المدرسة النقدية حتى أصبح‬‫بالوسع الوصول إلى الفصل بين الكلامي والديني وبين الفلسفي والعلمي‪ :‬صار الكلام‬ ‫والفلسفة يعنيان فساد الديني وفساد العلمي‪.‬‬‫لكن ما جاء صريحا في الكلام على الفلسفي جاء ضمنيا في الكلام على الكلامي والصوفي‬‫المتفلسفين‪ :‬والفلسفي حينئذ لا يعني شيئا آخر غير الزعم بقدرة العقل على العلم المحيط‬‫أي دعوى المطابقة التي تجعل ما يعلمه هو حقيقة الشيء على ما هو عليه إذا كان مما‬ ‫يتجاوز التجربة العلمية الممكنة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وإذا أردنا صوغ الأمر بوضوح فيكفي أن نقوله بالسلب‪ :‬نفي القول بنظرية المعرفة‬‫المطابقة التي تعني امرين لا دليل عليهما أي شفافية الوجود المطلقة وإحاطة العقل بعلمه‬‫المطلق‪ .‬وهذا يعني أن التجربة الروحية والتجربة الطبيعية فيهما ما وراء يتجاوز الكلام‬ ‫والفلسفة وكل رد لهما إليهما دعوى باطلة‪.‬‬‫وهذا هو موضوع \"اللطيفة\" التي قدم بها ابن خلدون فصل علم الكلام (‪ )10‬وإبطال‬‫الفلسفة (الميتافزيقا أو الإلهيات) وفساد منتحلها (‪ .)31‬ويتحد الدحضان لعلم الكلام‬‫الذي صار ميتافيزيقا بعد الرازي وللفلسفة التي اقتصرت على الميتافيزيقا وحفظ بعض‬ ‫علوم أرسطو في الفصل ‪( 27‬علم الإليهات)‪.‬‬‫والحصيلة قابلة للصوغ في عبارة وجيزة لخص فيها ابن خلدون ثورة المدرسة النقدية التي‬‫هي قطيعة فعلية مع الفلسفة القديمة وعلم الكلام الذي انتهى في الغاية إلى الاندماج فيها‪:‬‬‫وهم الفلاسفة والمتكلمين هو رد الوجود إلى الإدراك‪ :‬ابستمولوجيا نظرية المعرفة المطابقة‬ ‫علما للشيء على ما هو عليه‪.‬‬‫وكل من له دراية بالفلسفة القديمة والوسيطة يعلم أن أرسطو قد حاول في مقالة الكاف‬‫(الحادية عشرة) من الميتافيزيقا دحض النظرية السوفسطائية القائلة بالإنسان مقياس‬‫كل شيء‪ .‬لكنه في الحقيقة أطلقها لأن ما دحضه هو النسبة إلى الفرد الإنساني وليس إلى‬‫الإنسان من حيث هو إنسان‪ :‬نفاها عن الفرد وأثبتها للنوع للظن أن العقل الإنساني ذو‬ ‫علم مطابق للوجود فأطلق مبدأ السفسطة‪ :‬الإنسان مقياس كل شيء موجوده ومعدومه‪.‬‬‫ما دحضته المدرسة النقدية العربية هو نفي المبدأ السوفسطائي المطلق الذي بقي في‬‫نظرية أرسطو وهو ان العقل الإنساني عندما يستعمل المنطق ويتحرر من الذاتيات‬‫الفردية يصبح قادرا على الإحاطة بالوجود على ما هو عليه‪ .‬فهنا يكون الإنسان من حيث‬ ‫هو إنسان مقياس الوجود‪ :‬وهو المرفوض الآن‪.‬‬‫فدينيا يمكن أن نسمي ذلك الإيمان بالغيب‪ .‬وفلسفيا يمكن أن نسمي ذلك التحرر من‬‫القول بنظرية المعرفة المطابقة والاعتراف بأن العقل الإنسان مهما تحوط منهجيا وتسلح‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫تقينا لإدراك الموجود فهو يبقى دائما دون تحقيق الإحاطة والمطابقة بين علمه وموضوع‬‫علمه‪ :‬ما نجهله لامتناه وما نعلمه متناه‪ .‬والآن يمكن أن نفهم الفصلين ‪ 10‬و‪ 31‬من المقدمة‪:‬‬‫• الأول جاءت فيه \"لطيفة\" بدأ بها ابن خلدون فصل علم الكلام ليبين أن سبل المعرفة‬‫الإنسانية المعتمدة على العقل لا تغني في العقائد الدينية ومن ثم فعلم الكلام لا يمكن ان‬ ‫يعتبر علما بما وراء التجربة‪.‬‬‫• والثاني يثبت نفس الحقيقة مع حكمين قاسيين‪ .‬فأما الحكم الأول فهو \"إبطال\" الفلسفة‬‫وأما الثاني فهو \"فساد\" منتحلها في الفصل ‪ .27‬وقد ورد في الفصل ‪ 10‬وهما الضلال‬ ‫والخسران‪.‬‬‫والحكمان على الفلسفة من طبيعة معرفية (باطل) وخلقية (فاسد) والحكمان على الكلام‬‫من طبيعة دينية (ضلال) وخلقية (خسران)‪ .‬ويشتركان في الخلقي وتحرير العلمي‬‫والديني‪ .‬ولأوجز الثورة بلسان ابن خلدون في غاية لطيفته التي قدم بها عرضه لعلم‬‫الكلام منطلقا من الغاية التي وصل إليها الكلام في عصره بعد أن اختلط فيه حابل‬‫الميتافيزيقا بنابل التصوف قبل أن أعالج صورتيها في الفصل ‪ 10‬والفصل ‪ 31‬من الباب‬ ‫السادس من المقدمة أي في عرضه وجهيها الممتزجين‪.‬‬‫\"فإذا علمت هذا (استحالة الاحاطة بالأسباب ورد الوجود إلى الإدراك) فلعل هناك‬‫ضربا من الإدراك غير مدركاتنا لأن إدراكاتنا مخلوقة محدثة وخلق الله أبر من خلق‬‫الإنسان‪ .‬والحصر مجهول والوجود أوسع نطاقا من ذلك والله من ورائهم محيط‪ .‬فاتهم‬‫ادراكك ومدركاتك في الحصر واتبع ما أمرك الشارع به في اعتقادك وعملك فهو أحرص‬‫على سعادتك وأعلم بما ينفعك لأنه من طور فوق إدراكك ومن نطاق أوسع من عقلك‪.‬‬‫وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه بل العقل ميزان صحيح فأحكامه يقينية لا كذب فيها‪.‬‬‫غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والآخرة وحقيقة النبوة وحقائق الصفات‬‫الإلهية وكل ما وراء طوره فإن ذلك طمع في محال (‪ )...........‬وإذا تبين ذلك فلعل‬‫الأسباب إذا تجاوزت في الارتقاء نطاق إدراكنا ووجودنا خرجت عن أن تكون مدركة فيضل‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫العقل في بيداء الأوهام ويحار وينقطع‪ .‬فإذن التوحيد هو العجز عن إدراك الأسباب‬‫وكيفيات تأثيراتها وتفويض ذلك إلى خالقها المحيط بها إذ لا فاعل غيره‪ .‬وكلها ترتقي‬‫إليه وترجع إلى قدرته وعلمنا به إنما هو من حيث صدورنا عنه‪ .‬وهذا هو معنى ما نقل‬ ‫عن بعض الصديقين\" العجز عن الإدراك إدراك\"‪ .‬فتكون الثورة ذات مرحلتين‪:‬‬ ‫‪ .1‬بيان أن علم الكلام تفلسف فصار ميتافيزيقا واكتمل هذا الخلط بعد الرازي‪.‬‬ ‫‪ .2‬والميتافيزيقا مبنية على دعوى المطابقة والسببية وكلتاهما دعوى بلا دليل‪.‬‬‫لو اقتصر الكلام على الفلسفة والميتافيزيقا لكان كلام ابن خلدون شبه تكرار لما قاله‬‫الغزالي قبل أن يرتد من النقد إلى التسليم بحلين كلاهما هما ما فرض على ابن خلدون‬ ‫القيام بنقد أكثر عمقا‪:‬‬‫فالغزالي بعد التهافت عاد فأصبح قائلا بميتافيزيقا المدرسة المشائية المزيجة التي أسسها‬ ‫ابن سينا‪.‬‬‫والغزالي خلط بين \"طور ما وراء العقل\" والكشف الصوفي بمعنى أنه نسب إليه الإحاطة‬ ‫التي وإن لم تتحقق بالعقل فهي تتحقق بالكشف‪.‬‬‫ولهذا اعتبرت الفصل ‪ 27‬في الإلهيات وصلا واصلا بين النقدين في الفصل ‪ 31‬للفلسفة‬‫(الميتافيزيقا) وفي الفصل ‪( 10‬اللطيفة)‪ :‬أي اختلاط الفلسفة والكلام والتصوف‬‫المتفلسف‪ .‬ومعنى ذلك أن ثورة التحرر من القول بالمطابقة التي هي رد الوجود إلى‬‫الإدراك أو إطلاق الرؤية السوفسطائية القائلة إن الإنسان مقياس كل شيء موجوده‬ ‫ومعدومه هو أساس الفلسفة القديمة والوسيطة وهو أساس يسلم أمرين لا دليل عليهما‪:‬‬ ‫‪ .1‬شفافية الوجود للعقل‪.‬‬ ‫‪ .2‬إحاطة علم الإنسان العقلي به‪.‬‬‫وينتج عن ذلك أمران معرفي وخلقي أو مرضان ابستمولوجي وأكسيولوجي‪ .‬ففي النظر‬‫ينتج وهم العلم المطلق وفي العلم وهم الحكم المطلق‪ .‬والأول هو أساس الاستبداد المعرفي‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫والعقلي والثاني هو إساسا الاستبداد السياسي والخلقي= أساس التعليمية الباطنية بأركانها‬ ‫الثلاثة‪ :‬الفيلسوف والإمام والقطب‪.‬‬‫وفي ذلك يشترك الفلاسفة والمتكلمون والمتصوفة وصلتهم بالباطنية وخاصة بعد أن تم‬‫التوحيد بينها في غاية اكتمال هذه المدارس‪ :‬والأمر صريح عند الفارابي وابن سينا وابن‬‫رشد‪ .‬فهذا يكفي فهمه للآية ‪ 7‬من آل عمران وابن سينا رؤيته للحاجة إلى القطب‬ ‫والفارابي أكثرهم صراحة في ذلك‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لم يحيرني شيء في مقدمة ابن خلدون أكثر من \"لطيفته\" الواردة في مفتتح فصل علم‬‫الكلام من الباب السادس من المقدمة (الفصل العاشر)‪ .‬فهي لطيفة غريبة حقا لأن وجه‬‫اللطافة فيها ليس بين اللطف‪ .‬ما اللطيف بمعنى ما الشيء الذي ‪-‬سابتل‪-‬بحيث احتاج ابن‬ ‫خلدون لوصفه بهذا يفيد الدقة وعسر الفهم؟‬‫استغربت شديد الاستغراب أن يحاول ابن خلدون اثبات التوحيد ‪-‬لأن هذا هو موضوع‬‫اللطيفة‪-‬بما قد يبدو دحضا للسببية من جنس دحض الغزالي لها‪ .‬لكن ذلك فهم سطحي‬‫لأن الغزالي نفى الضرورة السببية ولم ينف قابليتها للعلم‪ .‬وابن خلدون لم ينف الضرورة‬ ‫بل نفى قدرة العقل الإنساني على علمها بمعنيين‪.‬‬ ‫المعنى الأول‪ :‬لا يمكن للإنسان قطع التسلسل والدور فيها‪.‬‬ ‫والمعنى الثاني‪ :‬لا يمكن أن يحدد طبيعة التأثير السببي‪.‬‬‫وهما وجهان لم يتكلم عليهما الغزالي في المقالة السابعة عشرة من التهافت التي خصصها‬‫لنفي الضرورة السببية من أجيل اثبات أمرين هما المعجزات أو الحرية الإلهية بصورة‬ ‫صريح‪.‬‬‫لكن فيها شيء من نظرية أفعال العباد أو الحرية والتكليف الإنسانيين بصورة ضمنية‬‫لأن بقية المقالات من ‪ 18‬إلى ‪ 20‬كانت مخصصة للابستمولوجيا بعد الكسمولوجيا‬ ‫والثويولوجيا في المقالات المتقدمة على السابعة عشرة‪.‬‬‫لكن المحير أكثر هو أنه كما يعلم كل من له دراية بالكلام وحتى بالفلسفة فإن السببية‬‫لم تستعمل لأثبات وحدانية الله بل لأثبات وجوده‪ .‬واللطيفة تتعلق بإثبات التوحيد وليس‬‫وجود الله‪ .‬وجهان محيران يجعلان اسم اللطيفة ذا دلالة‪ .‬وشرط إدراك هذه الدلالة هو‬ ‫دور الفصل ‪ 27‬في الوصل بين ‪ 10‬و‪.37‬‬ ‫وهذا الوصل ليس من عندي‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫هذا ابن خلدون نفسه يقول فيه‪\" :‬ولما وضع المتأخرون في علوم القوم ودونوا فيها ورد‬‫عليهم الغزالي ما رده منها ثم خلط المتأخرون من ا لمتكلمين مسائل علم الكلام بمسائل‬‫الفلسفة لاشتراكهما في المباحث نشابه موضوع علم الكلام بموضوع الإلهيات ومسائله‬‫بمسائلها فصارت كأنها فن واحد ثم خيروا ترتيب الحكماء في مسائل الطبيعيات والإلهيات‬‫وخلطوهما فنا واحدا قدموا فيه الكلام في الامور العامة ثم ابتعوه بالجمسانيات وتوابعها‬‫ثم بالروحيانيات وتوابعها إلى آخر العلم كما فعله الإمام ابن الخطيب في المباحث المشرقية‬‫وجميع من بعده من علماء الكلام وصار علم الكلام مختلطا بمسائل الحكمة وكتبه محشوة‬‫بها كأن الغرض من موضوعهما ومسائلهما واحد والتبس ذلك على الناس (‪ )...‬وكذا جاء‬‫المتأخرون من غلاة المتصوفة والمتكلمين بالمواجد فخلطوا مسائل الفنين بفنهم وجعلوا الكلام‬‫واحدا فيها كلها ثم كلامهم في النبوات والاتحاد والحلول والوحدة وغير ذلك‪ .‬والمدارك في‬‫هذه الفنون الثلاثة مختلفة‪ .‬وأبعدها من جنس الفنون والعلوم مدارك المتصوفة‪ .‬لأنهم‬‫يدعون فيها الوجدان ويفرون من الدليل‪ .‬والوجدان بعيد عن المدارك العلمية وأبحاثها‬‫وتوابعها كما بيناه ونبينه\"‪ .‬وبذلك نبدأ في إمساك الخيط الدال على اللطافة‪ :‬اختلاف‬ ‫مدارك الفنون الثلاثة‪.‬‬‫فتكون اللطيفة منتسبة إلى ما يترتب على هذا التمييز بين الفنون الثلاثة من حيث‬‫الطبيعة المعرفية‪ .‬واذن فالبحث مابعد معرفي أو ابستمولوجي‪ :‬الفلسفة تعتمد على التعليل‬‫السببي في الطبائع واللطيفة تبين استحالة الإحاطة العلمية بالسببية وليس بيان عدم‬ ‫دلالتها على وجود الله فضلا عن الوحدانية‪.‬‬‫وهذا يعني دحض الخلط بين علم الكلام والإلهيات الفلسفية‪ .‬فيكون الوصل بين اللطيفة‬ ‫(الفصل ‪)10‬‬‫وإبطال الفلسفة وفساد منتحلها متعلقا بنفس الغرض‪ :‬دحض قابلية الانتقال من العلوم‬‫الطبيعية التي تعتمد على السببية والطبائع بالعقل والتجربة الطبيعية إلى الإلهيات‬ ‫والروحانيات وطبعا الكلام والتصوف‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫اللطيفة هي إذن رد على الكلام والتصوف المتأخرين من تبني الرؤية الفلسفية في‬‫الإلهيات للكلام في الدينيات والروحانيات‪ .‬فتكون اللطافة في البحث الجديد الذي هو‬ ‫ابستمولوجي بالجوهر ويتمثل في‪:‬‬ ‫‪ .1‬الفصل بين الفنون المعرفية المختلفة‪.‬‬ ‫‪ .2‬وبيان وهاء أساس الفلسفة المتجاوزة للتجربة الممكنة‪.‬‬‫وعدم فهم \"التجربة الممكنة\" هو الذي يجعل المتكلمين يخلطون بين الغائب والغيب‪.‬‬‫فالغائب هو ما يقبل التجربة حتى وإن لم تحصل بعد والغيب هو المحجوب عن الإدراك‬‫الإنساني ومن ثم فهو خارج التجربة الممكنة‪ .‬فعندما أقيس ما ينتسب إلى عالم الشهادة‬‫حتى وإن لم أشهده بعد فأنا أتكلم على الغائب وليس على الغيب‪ .‬لكن كلامي على الآخرة‬ ‫مثلا من الغيب أو على الروح أو خاصة على الله ذاته وصفاته‪.‬‬‫فيتبين من ثم أن اللطيفة جزء لا يتجزأ من ثورة المدرسة النقدية ثورتها الابتسمولوجية‬‫التي مكنت من تجاوز الفلسفة القديمة والوسيطة‪ :‬بيان حدود المعرفة العقلية وصلتها بما‬‫يقبل التجربة وامتناع حصر الوجود في الإدراك ومن ثم الانتقال من نظرية المعرفة‬ ‫المطابقة إلى القول بامتناعها عقليا‪.‬‬‫وعندما أقول \"عقليا\" فالقصد أن القول بحدود المعرفة العقلية لم يعد قضية إيمانية من‬‫جنس القول بأن العلم النقلي متجاوز للعلم العقلي بل هي قضية ابستمولوجية وتتمثل في‬‫القول إن العقل نفسه صار مدركا لحدوده لأنه فهم أن القول بالمطابقة يعود في الحقيقة‬ ‫إلى القول بالإنسان مقياس كل شيء‪.‬‬‫فيكون ما حاول أرسطو دحضه هو في الحقيقة الذهاب به إلى غايته‪ :‬ففي المستوى الأول‬‫ظن أرسطو أن الإنسان مقياس كل شيء يتعلق بالذاتيات الإضافية إلى الأفراد من جنس‬‫عمى الألوان أو الأذواق مثل المرور الذي لا يميز بين الحلو والمر متوهما أن التخلص من‬ ‫ذلك يؤدي إلى المطابقة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫نفي المطابقة مطلق هنا‪ :‬حتى الإنسان كإنسان وليس الأفراد المختلفين لا يمكنه أن يدعي‬‫أن ما يدركه من الأشياء مطابق لما عليه الأشياء في ذاته من دون أن يكون بذلك قد زعم‬‫أن مدارك الإنسان من حيث إنسان مطابقة لحقائق الوجود في ذاته وليس لما يناسب مداركه‬ ‫فحسب‪ :‬وهذه هي الذاتية المطلقة‪.‬‬‫والسطحيون يتصورون ابن تيمية قد نقد المنطق الأرسطي من حيث صحة قوانينه‬‫الصورية وهو ما لم يدعه ولم يقم به (التحليلات الأوائل‪ :‬نظرية المنطق) بل هو نقد‬‫أسسه الميتافيزيقية التي تؤسس للمطابقة (التحليلات الأواخر‪ :‬نظرية العلم)‪ .‬فالظن أن‬‫المنطق يحرر المعرفة من الذاتية صحيح إذا اقتصرنا على الفردي منها‪ .‬لكنه لا يحررها من‬ ‫الذاتية النوعية (الإنسان كإنسان)‪.‬‬‫توهم التحرر من الذاتية النوعية يعني رد الوجود في ذاته إلى الوجود في إدراك الإنسان‬‫له ومن ادعاء كل ما يتجاوز مدارك الإنسان عدم‪ .‬وهو المبدأ الذي أسس عليه بارمينيدس‬‫فلسفته وصار بداية الفصل بين \"الفلسفي\" وغير الفلسفي أو بين اللوجوس (عين الوجود)‬ ‫والميتوس (أوهام إنسانية)‪.‬‬‫لكن ذلك هو في الحقيقة حصر للوجود في ما يعقله الإنسان واعتبار ما لا يعقله غير‬‫موجود‪ .‬وهذا هو معنى جعل الإنسان كنوع مقياس كل شيء موجوده ومعدومه وهو جوهر‬‫الموقف السوفسطائي في مستواه الثاني بمعنى الإضافة إلى الإنسان كنوع وليس إلى هذا‬ ‫الفرد أو ذاك من البشر‪.‬‬‫عندما وضع الغزالي مفهوم \"طور ما وراء العقل\" كان يمكن أن يكون ذلك بداية لهذا‬‫التمييز بين ماوراء عقل الفرد وما وراء عقل النوع وكان يمكن أن يكون بداية التحرر من‬‫القول بنظرية المعرفة المطابقة أي التي ترد الوجود إلى الإدراك‪ .‬لكننا رأينا أنه نكص‬ ‫إلى السينوية والكشف الصوفي‪.‬‬‫بمعنى أنه صار يقول بالمطابقة في الميتافيزيقا (رد المنقول إلى المعقول بالتأويل وهو أول‬‫من وضع قانون التأويل) وفي الكشف الصوفي‪ .‬لكن ابن تيمية أدرك أن ذلك مستحيل وأن‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الإحاطة بالوجود غير ممكنة لغير علم الله بالوجود‪ .‬وهذا هو الفرق الجوهري بين العلمين‬ ‫الإلهي والإنساني‪.‬‬‫ومن ثم يستنتج ابن تيمية أن \"الهيلومورفية\" (المادة والصورة) التي ينبني عليها مفهوم‬‫المطابقة والتي تجعل بنى اللغة الطبيعية \"النحوية\" عندما ترفع إلى مستوى البنى المنطقية‬‫توهم بان الوجود الخارجي مؤلف من ذوات وأعراض عامة وذاتية وأن ما يجري في الأذهان‬‫مطابق لما في الأعيان كلها ذاتيات لا شيء يثبتها بحق‪ .‬وكل النقد الخلدوني للفلسفة هو من‬‫هذا الجنس ولا يختلف عنه في شيء كما بينا تبين في الفصول السابقة‪ .‬ولا يعني ذلك أنه‬‫اخذه منه‪ .‬لأنه لا دليل عندنا عن علم ابن خلدون بثورة ابن تيمية الابستمولوجية‪ .‬فهي‬‫ثورة مشتركة بين فلاسفة المدرسة النقدية التي رفضت نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة إما‬‫بدافع ديني (الإيمان بالغيب) أو بعلاج ابستمولوجي من خلال بيان امتناع الإحاطة في‬‫العلم الذي هو اجتهادي دائما وليس مطابقا‪ :‬الغزالي قبل نكوصه ثم ابن تيمية وابن‬ ‫خلدون‪.‬‬‫وهي إذن \"صور\" لنا عن الوجود غيرها ممكن وهي مقبولة في حدود التجربة وتتغير‬‫بتغيرها وليس فيها ما هو يقيني بل هي تصورات يمكن تجاوزها إلى تصورات أدق‪ .‬ومعنى‬‫ذلك أننا بمجرد أن نعوض المتغيرات في خانات الأشكال المنطقية (يرمز إليها أرسطو‬‫بحروف) بمضامين تجريبية تحصل لنا صورة عن الموجود لا يرد إليها الموجود‪ .‬فكان من ثم‬ ‫منطلق تمييزه بين أمرين في المعرفة‪:‬‬‫‪ .1‬المقدرات الذهنية وهي الوحيدة التي فيها معرفة كلية لأنها تعمل على متغيرات‬ ‫مجردة يبدعها العقل الإنساني كما في الرياضيات‬‫‪ .2‬المعطيات النقلية أو معطيات التجربة وهي لا ترد إلى تصوراتنا حولها ومن ثم‬ ‫فعلمنا فيها يقبل التجويد بصورة لا متناهية‪.‬‬‫فتكون المقدرات الذهنية مصدر الشكل المعرفي أو أداة صوغ المعطيات التجريبية وتكون‬‫صيغ المعطيات التجريبية معرفة نسبية قابلة للتجويد صوريا بإبداع الشكل الذي هو تقدير‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ذهني وماديا بتدقيق التجربة وأدوات الإدراك الحسي‪ .‬لكن هذا العمل يبقى دائما صورة‬‫من الموضوع لا تصل إلى المطابقة معه لأن الإحاطة ممتنعة على العلم الإنساني‪ .‬والمهم في‬ ‫ذلك كله أمران‪:‬‬‫‪ .1‬العقل يصبح أكثر تواضعا منفتحا على تجاوز كل تجاربه السابقة فيتقدم علمه ولا‬ ‫يتصور نفسه بلغ الغاية في أي علم‬‫‪ .2‬الإيمان بأن ذلك لا يكفي لوجود الإنسان لأن عالمه الذي يسميه \"الواقع\" ليس إلا‬ ‫أحد الممكنات عقلا ومن ثم فأفق الانسان أوسع من العالم المادي والطبيعي‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫يبقى السؤال الآن‪:‬‬‫ما الذي يجعل النخب العربية بصنفيها التي تدعي التأصيل والتي تدعي التحديث تنكص‬‫إلى ما تقدم على هذه الثورة رغم أنها حدثت مرتين عندنا ‪-‬في القرن الرابع عشر للميلاد‪-‬‬ ‫الثامن للهجرة‪-‬وفي الغرب الحديث ‪-‬في نهاية القرن الثامن عشر‪-‬في الرؤية الكنطية؟‬ ‫فكلتا النخبتين عادت إلى ما يترتب على الرؤية القائلة بالمطابقة دغمائية وضيق أفق‪.‬‬ ‫وطبعا الثورة لم تنتظر كنط إلا من حيث الصوغ‪.‬‬‫لكنها كانت ضمنية منذ ديكارت‪ :‬فلا يوجد فيلسوف كبير في الحداثة الأوروبية من ديكارت‬‫إلى كنط لم يكن قائلا ضمنا بأن العلم ليس محيطا‪ .‬وكانوا يقولون ذلك بصورة مهذبة وهي‬‫أن في الدين ما لا يدركه العقل ولذلك نرفع الحكم فلا نتكلم في \"الإلهيات\" بما يردها إلى‬ ‫العقليات وكأن للإنسان علما محيطا‪ :‬وتلك هي بداية التحرر من القول بالمطابقة‪.‬‬‫فالنخبة التي تدعي التأصيل توهمت أن موضة القبول بالفلسفة التي تسمى إسلامية والتي‬‫كانت مرفوضة يعطيها ما تفاخر به عند الكلام على تأثير ثقافتنا في غرب العصور الوسطى‬‫إلى حدود بداية الحداثة فصارت تدافع عما كانت ترفضه كلاما وفلسفة وتصوفا‪ .‬وهو‬ ‫دليل سوء فهم بين لهذه الثورة‪.‬‬‫والنخبة التي تدعي التحديث تنقسم إلى نوعين‪ :‬الحداثي المترمكس والحداثي المتلبرل‪.‬‬‫والأول يعتبر الحداثة بدأت مع الماركسية لظنه أنها تجاوزت من تقدم عليها بحجة قلب فكر‬‫هيجل الذي كان يمشي إلى رأسه فجعلوه يمشي على رجليه‪ .‬والثاني يعود إلى دور ابن‬ ‫رشد المزعوم أصلا لـحداثة العلمنة الغربية‪.‬‬‫وإذا تجوزت فاستعملت مصطلح ارنست بلوخ في كلامه على اليمين واليسار الأرسطي قياسا‬‫على اليمين واليسار الماركسي أمكن القول إن نوعي النخبة التي تدعي التحديث يمثلها‬‫يسار الارسطية ويسار الهيجلية أو عابد الجابري (الرشدية الجديدة) والطيب تيزيني‪.‬‬ ‫وبنحو ما فـحسن حنفي يجمع بينهما مترددا بين الرشدية والفيورباخية‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫أما باقي محاولات الوصل المباشر بين فكرنا وفكر ما بعد الحداثة بدعوى التداوليات‬‫والسرديات فهي من الخرافات التي لم تستقر بعد على تأسيس فلسفي قابل للوصل بمدرسة‬‫بينة سواء بحثنا عنها في تاريخ فكرنا أو في تاريخ الفكر الغربي القديم أو الوسيط أو‬ ‫الحديث أو ما بعده‪.‬‬‫ورغم هذا التنوع فإن هذه المدارس كلها تقبل الرد إلى أمر مشترك هو القول بالمطابقة‬‫سواء المطابقة برد الوجود إلى الإدراك في ما اصطلح عليه بلوخ بيسار الأرسطية (بمنطق‬‫ثنائي القيمة) وبيسار الهيجلية (بمنطق ثلاثي القيمة) وكلا المنطقين ينكص إلى المطابقة‬ ‫المتقدمة على نقد كنط والتالية لنقده‪.‬‬ ‫والمقابلة طبعا صارت ذات عنوانين بينين‪:‬‬‫فما كان يسمى قبل نشأة الفلسفة القديمة التي تواصلت في الوسيطة إلى مدرستنا النقدية‬‫في فكرنا وإلى مدرسة كنط النقدية في فكر الغرب مقابلة بين علمي ولا علمي أو خرافي صار‬‫يعتبر مقابلة بين علمي وإيديولوجي أو برهاني وغير برهاني بمصطلح المرحوم الجابري‪.‬‬‫وصار عند تلاميذ هذه المدارس من الموسوسين الذين يريدون الظهور بمظهر علماء النقد‬‫الديني والفلاسفة بانتحال الالقاب (مثل بعض خريجي العربية ممن يدعون تمثيل الفكر‬‫الديني النقدي مثل أركون وأبي زيد والشرفي وبينهم تفاضل رغم أنهم في الحضيض‬‫الفكري) فالمقابلة صارت بين الواقع والنص نظرا لعلمهم بـ\"الواقع\" مباشرة دون وسائط‬ ‫نصية حتما لأن المعرفة العلمية في أي مجال نصوص نظرية‪.‬‬‫وقد سبق فقدمت محاولة في ما ترتب على موقف ابن رشد من أدلة وجود الله الكلامية‬‫وموقف هيجل من أدلة وجود الله الكنطية لكون العودة إلى القول بالمطابقة عند الثاني‬‫جعله يشترك مع الاول في جعل الكلام في الإلهيات يحصل عندهما على ما تبين ثورة ابن‬ ‫خلدون عندنا وثورة كنط في الغرب استحالته‪.‬‬‫ما يعنيني هو التطابق بين النكوصين‪ :‬فالعائد إلى الفلسفة العربية ممثلة بابن رشد‬‫باعتبارها يسارا أرسطيا بلغة بلوخ والقائل بالماركسية باعتبارها يسارا هيجليا كلاهما عاد‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫إلى نظرية المعرفة المطابقة أو إن شئنا القول بسذاجة رد الوجود إلى الإدراك وإطلاق‬ ‫العلم واعتبار ما عداه ايديولوجيا‪.‬‬‫وينتج عن هذا النكوص الإبستمولوجي الذي يطلق العلم ويعتبر ما عداه إيديولوجيا في‬‫رؤية اليسار الهيجلي (الماركسيين بلغة بلوخ) وظاهرا نقليا ما فيه من حقيقة هي باطنة‬‫القابل للرد إلى العقلي بالتأويل في رؤية اليسار الأرسطي(الرشديين بلغة بلوخ) نكوص‬ ‫أكسيولوجي وهو الخلقي نتيجة الدغمائية المعرفية‪.‬‬‫والمعلوم أن بلوخ قد استعمل هذه المقارنة في كلامه على ابن سينا والغزالي في كتابه حول‬‫اليسار الأرسطي ثم خاصة في محاضرته التي ألقاها في ألفية ابن سينا وتحدث فيها على‬‫ظلامية الغزالي لأنه يمثل يمين الأرسطية ومنها جاءت كل سطحيات اليسار العربي الذي‬ ‫يعتبر الغزالي سر انحطاط حضارتنا‪.‬‬‫ولم يدر بخلدهم أنه لا يوجد فيلسوف عربي واحد تجاوز أرسطو لا في المنجزات العلمية ولا‬‫في المنجزات ما بعد العلمية‪ .‬ذلك أن كل النظريات التي ليست من هذين النوعين ليست إلا‬‫رؤى وجودية يمكن نسبتها إلى مجال آخر وهو مجال لم نر له أثر حقيقي على تحولات قيمية‬‫وحضارية في تاريخ فكرنا بدليل حصول التحول النوعي الحداثي في رؤى الوجود الإنسانية‬‫وقع خارج حضارتنا بسبب منع هذه الرؤى من رؤية رؤاها بمحاولة ردها الديني إلى ما‬ ‫تصوروه علما مطابقا للوجود مطابقة تنتهي إلى حصره فيه‪.‬‬‫والمعلوم أن رؤى الوجود إذا لم تبق متعددة باعتبارها تأويلات لما يرتسم في الذهن الإنساني‬‫من نظام يأتي بعديا لصوغ ما حصل من تجارب إنسانية في النظر والعمل والفنون يصبح‬‫بلغة ابن خلدون إطارا يصوغ الماضي ويستمد منه استراتيجية لتصور المستقبل فيكون ما‬‫بعدا لما تقدم عليه وما قبلا لما يتلوه فإنها تتحول إلى جمود ودغمائية تفرض على المستقبل‬ ‫عادات الماضي وكأنها حقائق نهائية‪.‬‬‫وبذلك أصل إلى الهدف من إضافة هذا الفصل السادس للمحاولة‪ :‬كيف نفهم الدغمائية‬‫المعرفية الناتجة عن هذا النكوص الأبستمولوجي للقول بالمطابقة والتعصب الخلقي الناتج‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫عن هذا النكوص الأكسيولوجي‪ .‬فضيق الافقي الذي يرد الوجود إلى الإدراك في النظر‬ ‫يؤدي إلى رد التاريخ إلى الإرادة في العمل‪.‬‬‫والجامع بين هذين النكوصين هو المقولة السخيفة التي يجمع عليها المنتسبون إلى المدرستين‪:‬‬‫يكفي تأويلا للواقع وعلينا تغييره‪ .‬وهو ما يعني أن علمنا \"الواقع\" علم نهائي ومطلق وعلينا‬‫أن نغير \"الواقع\" ليطابق علمنا‪ .‬وكنت أقبل مثل هذا الرأي لو تعلق التغيير بتصوره ليطابق‬‫النظرية‪ .‬وهذا هو معنى المادية الجدلية عند الماركسي ومعنى تأويل الأديان لتطابق علم‬‫الراسخين عند الفلاسفة والمتكلمين القائلين بالمطابقة وخاصة في صورتهم الحديثة عند‬ ‫المفكرين العرب‪.‬‬‫مثال ذلك أن تغيير نظام حركات الأفلاك حول الشمس بدل الأرض أو الانتقال من‬‫بطليموس إلى كوبرانيكوس هو تغيير تصور نظام الحركات وليس تغيير الحركات نفسها‪.‬‬‫في الماركسية لم يكن القصد تغيير رؤية العلاقة بين الاقتصادي وما عداه بل تغيير المجتمع‬ ‫نفسه حتى يطابق الرؤية الماركسية‪.‬‬‫وذلك للظن بأن الرؤية الماركسية \"مطابقة\" للـ\"الواقع\"‪ .‬وبهذه الرؤية يقرأ أبو زيد تاريخ‬‫فكرنا وما يسميه نصوصا دينية يحاكمها بما يسميه واقعا وهو في الحقيقة بالرؤية الماركسية‬‫التي صارت صورة مطابقة للأصل الذي هو الواقع‪ .‬فتفهم حينها كيف يقرأ ناصر حامد أبو‬‫زيد القرآن في ضوء الواقع‪-‬ويغفل عن كون ما يسميه واقع هو صورة الماركسية عن‬ ‫\"الواقع\"‪.‬‬‫وكذلك كيف يقابل الجابري بين البرهاني الرشدي والبياني والعرفاني غير البرهانيين‬‫اللذين يعتبرهما دون البرهاني فائدة معرفية‪ .‬وهو يقصد بالبرهاني ما يقصده أبوزيد‬‫بعلم \"الواقع\" الموضوعي علما مطلقا كما يفهم ذلك ابن رشد وكل القائلين بنظرية المعرفة‬ ‫المطابقة‪.‬‬‫وطبعا فلا أبو زيد يدرك دلالة كلمة \"واقع\" ولا الجابري يدرك معنى \"برهان‪ .‬وإلا لما وقع‬‫في مثل هذا الفهم الرديء‪ .‬فالبرهان في لغة أرسطو يعني ما يستمد من مقومات جوهر‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الموضوع (أو الجواهر الثواني التي يتألف منها حده أعني الجنس والفرق النوعي)‬‫وأعراضه الذاتية هي مقدمات الاستدلال البرهاني المطابق للوجود بالمعنى الأرسطي أي‬ ‫حقيقة ما يدركه العقل بالإدراك الحدسي أو الحقيقة في ذاتها جوهر موضوعه‪.‬‬‫ومعلوم أن العلم الحديث لم يعد يقول بشيء من هذا الجنس لأن كل التعريفات التي‬‫ينطلق منها العلم تعتبر دائما توصيفا للموضوع مؤقتا تبنى عليه فرضيات التفسير ولا تقبل‬‫إلا في حدود ما يفسر حصيلة التجارب التي يجمع عليها علماء المجال في لحظة من لحظات‬ ‫تاريخ الفن وهي كعلم في تغير دائم‪.‬‬‫فيكون ما يسمى واقعا أمرا مجهولا دائما والمعلوم هو صورة مؤقتة من شيء مجهول حصلت‬‫على اجماع أهل الاختصاص بتناسب مع ما اطلعوا عليه من تجلياته في تجاربهم المتغيرة بتغير‬‫النسق العلمي التفسيري ما يعني أن منظومة النظريات العلمية هي التي تحدد صورة‬‫\"الواقع\" أي ما يظن موجودا في الأعيان وخارج الأذهان وعباراتها النصية أو التصورية‬ ‫وليس العكس‪.‬‬‫ولو كان هؤلاء \"الواقعيون\" والبرهانيون مطلعين فعلا على الأبستمولوجيا الحديثة ‪-‬دوهام‬‫رغم كونه من بداية القرن الماضي وكواين‪-‬لأدركوا أن \"الواقع\" والبرهان بمعنى المطابقة‬‫لحقيقة المقومات الجوهرية والذاتية للواقع ‪-‬صور تبدعها النظرية وليست حقائق‬ ‫موضوعية ما يجعل العلم يقرب من \"السردية الذهنية\"‪.‬‬‫ولو قلنا بالسرديات فاتبعنا الزعم المقابل للإبقاء على المطابقة لقلنا بنيتشوية مطلقة يكون‬‫فيها العلم من جنس الابداع الفني الذي يبدع الموضوع ابداعه لعلمه أو لصورته فلا يكون‬‫الموضوع إلى الصورة التي يبدعها الفن نفسه‪ .‬وهذا ايضا قول بالمطابقة ردا للوجود إلى‬ ‫الإدراك ونفيا للتعالي‪.‬‬‫وأهمية النقد سواء في مدرستنا أو في مدرسة كنط هو أثبات التعالي أو ما يتجاوز الإدراك‬‫مهما سما هذا الإدراك وتوهم صاحبه أنه أحاط بالموضوع‪ .‬فلا توجد إحاطة مطلقة بأي‬‫موضوع مهما كان بسيطا‪ .‬وحتى بالمنظور الفينومينولوجي فمن خصائص الإدراك أنه دائما‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فعل عناية ذهنية متوجهة (القصدية) إلى أمر يتجاوزه ويتعالى عليه حتى لو كان ذاته‬ ‫حتى لو لم يضعه موجودا في الأعيان‪.‬‬‫فحتى إدراك المرء لذاته فإنه ليس مطابقا بل إن إدراك الذات لذاتها غير ذاتها وهو دائما‬‫شبه موقف للذات من ذاتها وكلنا يعلم أننا مهما حاولنا أن نطابق ذواتنا فإننا نشعر دائما‬ ‫أننا إما قبلها نتفرج عليها وكأنها توقع أو بعدها وكأنها ذكرى‪.‬‬ ‫أما التطابق بين الوعي بالذات والذات فمستحيل‪.‬‬‫وبذلك يتبين أن هذا النكوص الإبستمولوجي (رؤية محرفة للنظر) يؤدي إلى نكوص‬‫أكسيولوجي (رؤية محرفة للعمل) هو جوهر كاريكاتور الحداثة عند النخب العربية التي‬‫تدعي التحديث وهو أصل الفاشية والإرهاب سواء كان ماركسيا أو قوميا ويقابله جوهر‬ ‫كاريكاتور عند النخب العربية التي تدعي التأصيل بنفس النكوصين المرضيين‪.‬‬‫فكلتا النخبتين لهما رؤية ابستمولوجية قروسطية يمثلها النكوص إلى القول بنظرية المعرفة‬‫المطابقة التي تردي الوجود إلى الإدراك بتوسط ابن رشد الناكص لأرسطو وماركس الناقص‬‫لهيجل والأربعة يقولون بالمطابقة ويعتمدون مقابلة دغمائية بين العلم المطلق واللاعلم‬ ‫المطلق لردهم الوجود إلى الإدراك‪.‬‬‫ولذلك فهم الأربعة وكل المتتلمذين عليهم لا يمكن الا يكون لهم نفس النكوص‬‫الأكسيولوجي في العمل بحيث إن تصورهم الدغمائي للعلم يؤدي إلى تصورهم الإرهابي‬‫للعمل‪ .‬فتكون الفاشية العلمانية والقومية ثمرة هذين النكوصين عند كاريكاتور التحديث‬ ‫وكاريكاتور التأصيل حزبي الحرب الأهلية العربية‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ولولا هذا التحليل هذه العلاقة بين النكوص الابستمولوجي وما ترتب عليه من نكوص‬‫أكسيولوجي لما أمكن لي فهم ظاهرتين عجيبتين صحرت الأرواح في الحضارة العربية‬‫الإسلامية الحالية‪ :‬فالذين يدعون تمثيل الروحانيات تقتصر عندهم على قشورها والذين‬ ‫يدعون تمثيل العقليات تقتصر عندهم على حسياتها عندهم‪.‬‬‫ما الذي يجعل الدين يتحول إلى قشور تعبدية عند ادعياء التأصيل سواء كانوا فقهاء‬‫أو متصوفة والذي يحول الفلسفة إلى قشورية مادية ‪-‬وهي تعبدية عندهم‪-‬سواء كانوا‬‫فلاسفة أو متشاعرين؟ لماذا هذا التهالك على ما لا يتجاوز سطح الوجود الروحي والمادي‬ ‫دون عمق روحي أو عقلي؟‬‫وهنا يلتقي بحثي في النكوصين الابستمولوجي والاكسيولوجي ببحث آخر يتعلق بمستويات‬‫إدراك أبعاد الوجود من خلال مقومي كيان الفرد من حيث هو شبه جهاز وصل بين الطبيعة‬‫عامة والحياة العضوية خاصة يأخذ من الأولى ويعطي للثانية ببعدي قيامه العضوي رمزا‬ ‫لهما بأخذ شرط قيامه واعطاء شرط بقاء النوع‪.‬‬‫وقد رمزت لهذا الجهاز بالفرد الإنسان ممثلا في كيانه العضوي والروحي ومن حيث كون‬‫كونه حدا أوسط بين الطبيعة والحياة باستعارتي المائدة والسرير‪ .‬فالمائدة ترمز إلى الغذاء‬‫المستمد من الطبيعة والسرير يرمز إلى الجنس المعطي للحياة‪ .‬وبهذا يمكن أن أصنف كل‬ ‫مراحل المناخ الذي يتم فيه الإدراك الإنساني للوجود بمستويات ما دونهما وما فوقهما‪.‬‬ ‫والفكرة يوحي بها القرآن من خلال الكلام على مفهومين هما‪:‬‬ ‫‪ .1‬مفهوم الأكل أكل الأنعام‬ ‫‪ .2‬ومفهوم الإخلاد إلى الأرض‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪35‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وكلاهما يجعلان الإنسان فاقدا لما يتميز به عن الحيوان‪ .‬فالمفهوم الأول بين تعلقه بالأخذ‬‫من الطبيعة والثاني مثله لكن الأول قياس على أكل الحيوان عامة والثاني على لهيث‬ ‫الكلاب‪.‬‬‫وسأحاول وصف مستويات الإدراك الوجودي باستعمال هذين الوجهين المادي (الأكل أكل‬‫الانعام) والمعنوي (استعارة لهيث الكلاب) حول الأكل رمزا إليه بالمادة والجنس رمزا إليه‬‫بالسرير في بعديهما المادي والمعنوي بحيث يمكن التمييز بين خمسة مستويات من الإدراك‬ ‫الوجودي بمقتضاهما‪.‬‬ ‫المستويات‪:‬‬ ‫‪ .1‬ما دون المائدة والسرير‬ ‫‪ .2‬المائدة والسرير‬ ‫‪ .3‬ما دون فن المائدة وفن السرير‬ ‫‪ .4‬فن المائدة والسرير‬ ‫‪ .5‬ما فوق فن المائدة والسرير‪.‬‬‫والوسط هو \"ما دون فن المائدة والسرير\" وهو قلب المعادلة التي تحدد مستويات الإدراك‬ ‫الوجودي التي تمثل درجات تجاوز الحيوانية والسمو إلى الإنسانية أو البقاء دونها‪.‬‬‫وهذه الرؤية التي تنبني على دور \"نحلة العيش\" في تحديد الرؤى الوجودية للجماعات‬‫وصفات سلوكها وحتى خصائصها النفسية الفردية والجماعية رؤية خلدونية (بصوغ جديد‬‫أنسبه إلى نفسي انطلاقا من رفض المنطق الجدلي التثليثي وبه يتم تجاوز فرويد وماركس‬‫وداروين لأنها قابلة للتطبيق على الحي من حيث هو حي) مختلفة تماما عن الرؤية‬‫الماركسية التي يتوهم الكثير أن ابن خلدون ينتسب إلى ما يعد إليها بل هو يحرر منها كما‬ ‫بينا في غير موضع‪.‬‬ ‫فلنشرح دلالتها‪:‬‬ ‫‪ .1‬مستوى ما دون المائدة والسرير هو السعي للحصول عليهما‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪36‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬مستوى المائدة والسرير عند الحصول عليهما‬ ‫‪ .3‬ما دون فن المائدة والسرير هو السعي للحصول عليهما‬ ‫‪ .4‬فن المائدة والسرير عند الحصول عليهما‬‫‪ .5‬والأخيرة ما بعد فن المائدة والسرير وفيها تبدأ الدائرة المفرغة أو التقاء‬ ‫البداية والغاية بسبب انحطاط الترف‪.‬‬‫لماذا اعتبرت المستوى التي يمثل الوسط \"ما دون فن المائدة والسرير\" بين المستويين‬‫الاثنين المتقدمين عليه والمستويين الاثنين المتأخرين عنه مركزيا؟ لأنه هو المستوى الذي‬‫يتضح فيه لصاحبه التأرجح والنوسان بين الاشرئباب إلى ما يتجاوز اكل الأنعام والإخلاد‬ ‫إلى الأرض والانشداد إليهما‪.‬‬‫ورغم أن هذا التصنيف والتسميات هي من وضعي فإنها تعتبر أساس التفسير الخلدوني‬‫والافلاطوني لدورة العلاقة بين السياسي كسلطة وازع أجنبي (حكم الغير للذات) ودور‬‫الاقتصادي والاجتماعي في مسار الجماعة والخلقي كسلطة وازع ذاتي (حكم الذات لذاتها)‬ ‫ودور الخلقي والاجتماعي في مسار الفرد والجماعة‪.‬‬‫وإذا كان أفلاطون يدرس المسارين في الجمهورية من منطلق نظريته في بينة النفس المثلثة‬‫(العقل والغضب والشوق) فإن ابن خلدون يدرسهما في المقدمة من منطلق أبعد غورا حتى‬‫وإن كان لا يستثني البعد النفسي الذي يجعله تابعا له وهو البعد الذي يسميه \"نحلة‬ ‫العيش\" المادي والمعنوي‪.‬‬‫سأترك افلاطون جانبا وسأكتفي بمواصلة الكلام على ثورة ابن خلدون‪\" :‬فنحلة\" العيش‬‫عند ابن خلدون مفهوم جوهري في نظريته لأنه يشمل نوعي العمران البدوي والحضري‬‫ويؤسس لتناظر عجيب بين اقصى البداوة (العرب بمعنى رعاة الأبل منهم ومن غيرهم)‬ ‫وأقصى الحضارة (الترف في كل جماعة)‪ :‬البداية والغاية‪.‬‬‫ورغم أني عربي صميم فإني سأقول ما يحجم الكثير عن قوله‪ :‬مشكلة العرب الحالية أنهم‬‫عاشوا سابقا ويعيشون الجمع بين كل عيوب البداية وكل عيوب الغاية أعني ما يترتب على‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪37‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫شظف العيش والترف دون أن يكون بين الامرين الجهد الإبداعي الذي ينقلهم من الأول‬ ‫إلى الثاني وذلك في كل تاريخهم‪.‬‬‫ففي الماضي كانوا في هذا الوضع لأن العلية منهم كانوا عاطلين وغيرهم يخدمهم‪ .‬البقية‬‫كانوا توابع لم يخرجوا مما كانوا عليه في الجاهلية‪ .‬وهم اليوم في نفس الوضع‪ :‬من كان‬‫لهم في ارضهم ثروة طبيعية يبيعونها ولا يعملون ومن ثم فليس لهم دور إنتاجي لا مادي‬ ‫ولا ثقافي يعالج مشكلتي الإنسان‪.‬‬‫ومشكلتا قيام الإنسان الحر والكريم هما حل العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعية‬‫(الاستعمار في الأرض) بعلم قوانينها للاستفادة من خيراتها وحل العلاقة الافقية بين‬‫الإنسان والإنسان (الاستخلاف في الأرض) بعلم سنن التاريخ للاستفادة من انظمة الوجود‬‫المشترك الذي ييسر التبادل والتواصل بين البشر بصورة تجعلهم أحرارا يرعون أنفسهم‬ ‫ويحمونها‪.‬‬‫ويمكن القول إن ابن خلدون قد وصف ذلك وصفا نشعر فيه بالكثير من الألم عندما‬‫خصص فصولا لعلاقة العرب (بالمعنى الذي بينت) بالآثار الحضارية (ممثلا ببني هلال)‬‫وعلاقتهم بالحضارة نفسها عند كلامه على آثار ترف الأقوياء ومجاعة الضعفاء وما يترتب‬‫عليهما من انحطاط خلقي حتى يختلط الحابل بالنابل و\"تفسد كل معاني الإنسانية\"‬ ‫(مصطلح خلدوني)‪.‬‬‫ولا تحتاج إلى الكثير من قراءة التاريخ فيكفي أن ترى المدن العربية الكبرى والمقارنة‬‫بين أغنيائها وفقرائها أو بين سكانها في الأحياء المرفهة وفي ما حولها من مدن قصديرية‬‫فترى كيف تلتقي أقصى البداوة بأقصى الحضارة التي هي حضارة الانحطاط والترف‬ ‫والاستهلاك وليست حضارة بناء الحضارة‪.‬‬‫لكن الجديد‪-‬وهو مرض الوضع العربي الحالي المتمثل في نخب الكاريكاتورين التأصيلي‬‫والتحديثي‪-‬هو أنظمة التعليم العقيم الذي عم في المجتمعات العربية والتي جعلته لا‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪38‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫يتجاوز ما يناسب هذه المستويات التي تتعلق بـ\"نحل العيش\" الذي لا يعد للقدرة على حل‬ ‫العلاقتين العمودية والافقية‪ :‬تكوين متطفلين لا يقدرون على شيء‪.‬‬‫فتبدي الأعيان وتحضر الأذهان يجعل الأصالة والحداثة قوليتين وليستا فعليتين‪ .‬لذلك‬‫فكاريكاتور التأصيل جيش من الايديولوجيين الدينيين الذين لا يصلحون للدنيا وليس لهم‬‫من الدين إلى الكلام عليه‪ .‬وكاريكاتور التحديث جيش من الإيديولوجيين لا يصلحون‬ ‫للأخرى وليس لهم من الدنيا إلى الكلام عليها‪.‬‬‫وكلام كلا الكاريكاتورين على غايته تنحصر في ذم غاية الثاني‪ :‬كاريكاتور الحداثة‬‫الكلامية صار حربا على الآخرة وذمها وكاريكاتور الأصالة الكلامية صار حربا على الدنيا‬‫وذمها لكنهما كلاهما عبيد الدنيوي الذي يعيشانه بنكهة الآخرة أي إن الدنيا صارت غاية‬ ‫مثلى لأنها حاضرة حضور المنشود المعدوم‪.‬‬‫ولذلك فهم يجدونها في عبادة من يمثلها‪ :‬كلا الكاريكاتورين عبيد لمن بيدهم السلطة‬‫السياسية والاقتصادية‪ .‬هم عبيد للدنيا التي يتنازلون على كل ما عداها ولو للحصول على‬‫فتاتها‪ .‬وذلك هو عين ما يعنيه القرآن بالأكل أكل الأنعام والإخلاد إلى الأرض‪ .‬ولتحضر‬‫أي لقاء للمثقفين في أي بلد عربي ولن ترى إلا كمن جاء من بعد مجاعة إلى مطعم وحانة‪.‬‬‫وليس بالصدفة أن كانت الأوساط الثقافية والفنية‪-‬قد يظن أنها تحاكي نظائرها في‬‫الغرب بمعنى النموذج المتحلل خلقيا والمتجاوز للقيم التي لا توجد كما يقول أرسطو إلا في‬‫الوسط لان الطبقة الأدنى لم تصل إليها والطبقة الاعلى تجاوزتها‪-‬كلها من الطبقة الوسطى‬ ‫التي تدعي تجاوزها قبل أن تصل إليها‪.‬‬‫ذلك أن التناظر الذي اكتشفه ابن خلدون بين أقصى البداوة وأقصى الحضارة من حيث‬‫رمزية التهديم الحضاري ينطبق الآن على المستوى الثاني والمستوى الرابع فيكون التناظر‬‫بين الاول والخامس له نظير هو التناظر بين الثاني والرابع وبنفس الأثر‪ :‬مستوى المائدة‬ ‫والسرير ومستوى فنيهما‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪39‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ولهذين المستويين اسم علم في بلاد العرب على الاقل عندنا في تونس وهم من نسميهم‬‫الأغنياء الجدد‪ :‬فهم وصلوا إلى المائدة والسرير أي تجاوز ما ربوا عليه من فقر سابق ماديا‬‫لكنهم لم يتجاوزوه روحيا ونفسيا فأصبح ذلك يبرز في سلوكهم التبذيري وفي الحرص على‬ ‫رموز الثراء المادي مع الفقر الروحي‪.‬‬‫فعندهم فن المائدة وفن السرير يمثلان عدم الذوق المطلق وهذا تراه خاصة في موائد‬‫العرب وأعراسهم وفي علاقاتهم الجنسية التي هي أقرب إلى الحيوانية منها إلى جماليات‬ ‫الحياة العاطفية والجنسية‪.‬‬‫وكلا الفنين من \"أقعر\" ما عرفت البشرية لأن أهم شيء فيهما هو التبذير والتفاخر وليس‬ ‫الذوق الفني‪.‬‬‫ولأختم بعبارة قد تعاب علي للظن أني اقصد بها بعض العرب دون بعضهم الآخر‪ :‬واعني‬‫الافراط في العمران المحاكي لأمريكا سواء العمران الناطح للسحب عند عرب الخليج أو‬‫العمران المتعلق بمساكن الاسر المرفهة‪ .‬فلو أنفق العرب ما وضعوه في الحجارة باسم العمارة‬ ‫لكانت لهم فعلا حضارة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪40‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪41‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook