Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore مأساة التربية النظامية واللانظامية العربيتين – أبو يعرب المرزوقي

مأساة التربية النظامية واللانظامية العربيتين – أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2019-01-16 06:03:52

Description: مأساة التربية النظامية واللانظامية العربيتين – أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫النظامية واللانظامية العربيتين‬ ‫الأسماء والبيان‬



‫المحتويات ‪1‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪8 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪14 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪20 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪25 -‬‬ ‫خاتمة ‪31‬‬

‫‪--‬‬ ‫لماذا يمكن الجزم بأن إصلاح التربية والتعليم في أي بلد عربي صار مستحيلا؟‬ ‫وهو ليس الوحيد من حياتنا الجماعية على هذا الوضع الحائل‪ .‬فمآزقه تراكمت لعلل‬ ‫كثيرة‪.‬‬ ‫وسأكتفي بالكلام عليهما في تونس‪.‬‬ ‫فالوضع لم يعد بالإمكان علاجه بدون عملية جراحية كبرى‪ .‬لكن ذلك يقتضي التشخيص‬ ‫الأمين‪.‬‬ ‫وكل تشخيص أمين ينطلق من منظومة معايير تقاس بها الحالة كما في الطب مثلا حيث إن‬ ‫ما يريد تحديده هو حالة البدن بمعايير تتعلق بوظائفه والمعدلات التي تعتبر الصحة‬ ‫موجودة أو معدومة بمقتضى ما تحدده من هامش بين الأدنى والأقصى الذي يعتبر سليما‬ ‫وما دونه وما فوقه يتعبر دالا على خلل صحي‪.‬‬ ‫وكل وظائف المجتمعات ودولها خاصة ‪-‬تسليما بأن لنا دولا لأنها عندنا محميات وليست‬ ‫دولا بسبب عدم توفر رمزي السيادة أي القدرة على الرعاية على الحماية الذاتيتين‪-‬‬ ‫تخضع لهذا النوع من التعيير المشروط في التشخيص‪.‬‬ ‫ويمكن رد هذه المعايير إلى جنسين‪:‬‬ ‫• نوع الإنسان المطلوب‬ ‫• بأدواره في الجماعة‪.‬‬ ‫والجنس الأول‪-‬نوع الإنسان المطلوب‪-‬أعسر تحديدا لأنه ينتسب إلى الأكسيولوجي‪.‬‬ ‫والجنس الثاني‪-‬وظائف الإنسان في الجماعة‪-‬أيسر لأنه ينتسب إلى الإبستمولوجي العام‬ ‫والمطبق على الوظائف التي يؤديها الفرد في الجماعة وهي على نوعين في نظام التبادل أو‬ ‫توزيع العمل وفي نظام التواصل شرط حكم الجماعة لذاتها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ومثلما أن الجنس الإبستمولوجي على نوعين فكذلك الجنس الأكسيولوجي على نوعين لأن‬ ‫الإبستمولوجي يتعلق بالشروط التقنية في النظر والعقد لعلاج العلاقة العمودية بين‬ ‫الإنسان والطبيعة لسد حاجاته بالتبادل والأكسيولوجي يتعلق بالشروط القيمية في العمل‬ ‫والشرع لعلاقة الأفقية بين البشر بالتواصل‪.‬‬ ‫وبذلك فقد حددنا سلم المعايير التي تمكن من تحديد السوي وغير السوي في مسألة‬ ‫التربية والتعليم بوصفها بهدفين هما‪:‬‬ ‫تكون الإنسان بمعايير سأحاول بيانها وقد سماها ابن خلدون معاني الإنسانية‬ ‫وإعداده لوظائف في حياة الجماعة التي ترعى نفسها وتحميها سأحاول بيانها وهي شروط‬ ‫العيش المشترك‪ .‬وتيسيرا لتحديد هذا السلم المحدد للمعايير التي تشبه معايير الصحة‬ ‫والخلل الذي يمكن تشخيصه فيها فيمكن الاقتصار على عنوان مقدمة ابن خلدون‪:‬‬ ‫‪ .1‬شروط العمران‬ ‫‪ .2‬شروط الاجتماع‪.‬‬ ‫فالأولى تساكن للتعاون في سد الحاجات‪ :‬في الرعاية والحماية‪.‬‬ ‫والثانية تساكن للتواصل في الانس بالعشير‪ :‬تعايش وأنس‪.‬‬ ‫وإذن خمسة معايير سنحاول تطبيقها لمعرفة الحالة الصحية لنظام التربية والتعليم في بلاد‬ ‫العرب عامة معتبرين تونس عينة منها‪:‬‬ ‫• هل يصلح معاني الإنسانية أم يفسدها في‪:‬‬ ‫• تحقيق شروط الرعاية‬ ‫• تحقيق شروط الحماية‬ ‫• تحقيق التعايش السلمي‬ ‫• تحقيق التآنس أم التناغص بين البشر‪.‬‬ ‫لا أعتقد أني بحاجة للجواب في الأسئلة الأربعة المتفرعة عن الاول‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فالجميع يعترف بأن نظام التربية والتعليم لا يحقق شروط الرعاية (كل العرب متسولون‬ ‫بمن فيهم من يتصورون أنفسهم أغنياء من أصحاب الثروة الطبيعية) ولا شروط الحماية‬ ‫(كل اقطار العرب محميات) ولا شروط التعايش ولا أخيرا التآنس‪.‬‬ ‫لا أعتقد أنه يوجد عربي واحد إذا صدق نفسه القول يمكن أن يقول إن نظام التربية‬ ‫والتعليم في بلادنا يحقق شروط الرعاية والحماية الذاتيتين أو يحقق شروط التعايش‬ ‫السلمي في الجماعة أو خاصة شروط التآنس فيها بل ما نراه هو التسول في الرعاية وفي‬ ‫الحماية والتناحر والتناغص في كل بلاد العرب‪.‬‬ ‫وما يزعجني حقا هو التشخيص الساذج الذي يرد ذلك كله إلى النخبة السياسية وينسى‬ ‫أنها هي بدورها منتج هذا النظام التربوي والتعليمي الذي ‪-‬وهنا يأتي دور ابن خلدون‪-‬‬ ‫صار مفسدا \"لمعاني الإنسانية\" في كل النخب الخمسة حتى وإن بدا المرض في النخبة‬ ‫السياسية خاصة بسبب ما لها من سلطان هو رمز الفساد‪.‬‬ ‫لكن التشخيص الذي أنوي عرضه يجعل \"السلطان\" الذي يفسد معاني الإنسانية ليس‬ ‫مقصورا على سلطان النخب السياسية بل هو موزع على النخب الاربعة الباقية‪ :‬نخبة المعرفة‬ ‫ونخبة القدرة ونخبة الذوق ونخبة الرؤية الوجودية‪ .‬وكلها مضاعفة مثل النخبة السياسية‬ ‫التي هي نوعان‪ :‬حاكمة ومعارضة‪.‬‬ ‫• فنخبة المعرفة مضاعفة طبيعية وإنسانية‬ ‫• ونخبة القدرة مضاعفة مادية (الاقتصاد) ورمزية (الثقافة)‬ ‫• ونخبة الذوق مضاعفة (الفنون والملاهي)‬ ‫• ونخبة الرؤى مضاعفة (المنظور الديني والمنظور الفلسفي)‪.‬‬ ‫وإذن فنحن أمام عشرة سلاطين كل واحد منها له سهم في الوضع المتردي لنظام التربية‬ ‫والتعليم‪.‬‬ ‫والسهم مضاعف‪ :‬مباشر لأن لكل من هذه النخب دور في التربية والتعليم النظاميين‬ ‫(خلال حياة التمدرس) وله دور في المناخ العام الذي هو أيضا نظام تربوي غير نظامي هو‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫نظام التبادل وتوزيع العمل ونظام التواصل وملء الوقت في ما عداه من الحياة المشتركة‬ ‫بين البشر أو أوقات \"الأنس\" بالعشير‪.‬‬ ‫وأفضل مثال يبين القصد بهذين القسطين من المسؤولية المباشرة غير المباشرة هو فساد‬ ‫نظام الانتخاب في التربية النظامية وفي التربية العامة‪ .‬فالانتخاب في التعليم لا يعتمد على‬ ‫قدرات المتعلم وكفاءته بل صار محكوما بمعيار الوساطة والعلاقات المستفيد من الوضع‬ ‫المتردي للمعلمين والحط منهم‪.‬‬ ‫والأخطر منه هو فساد نظام الانتخاب في النظام التربوي اللانظامي أعني في التوظيف‬ ‫بعد التخرج‪ .‬فهنا يغيب تماما دور القدرات والكفاءة ولا يبقى إلى دور الوساطة والجاه‬ ‫والسلطة التي لأصحاب الجاه ما يجعل التعليم النظامي وكأنه أمر لا فائدة منه ولا معنى له‬ ‫فضلا عن كون الشهادات مغشوشة‪.‬‬ ‫والمسألة في الحالتين ليست مسألة أخلاق بالمعنى العادي فحسب بل هي فساد نسقي لشروط‬ ‫التبادل ولشروط التواصل يؤديان إلى الفشل المطلق في علاج العلاقة العمودية بالطبيعة‬ ‫(مسألة ابستمولوجية تؤدي إلى الفشل المعرفي التقني‪ :‬لا وجود للعلم وتطبيقه)‪ :‬مناخ‬ ‫الخصاصة علة صراع سد الحاجات الأولية‪.‬‬ ‫والأهم من ذلك الفشل المطلق في علاج العلاقة الأفقية بين البشر (مسألة أكسولوجية‬ ‫تؤدي إلى الفشل الروحي والخلقي‪ :‬لا وجود للتعارف وتطبيقه)‪ :‬مناخ التنافس في الندرة‬ ‫الماحقة تؤدي إلى صراع المنازل في السلم الاجتماعي ليس بشروطه المشروعة بل بالتحيل‬ ‫والغش والخداع \"فساد معاني الإنسانية\"‪.‬‬ ‫والحصيلة أنك لا يمكن أن تفهم ما يجري في مجتمعاتنا بالنظر إليه على أنه مجتمع إنساني‬ ‫يخضع للتاريخ الحضاري بل هو مجمع ما دون إنساني يخضع للتاريخ الطبيعي لكنه معكوس‪:‬‬ ‫في التاريخ الطبيعي إن سلمنا به وهو الظاهر يكون التغالب مفيدا للانتخاب الطبيعي لأنه‬ ‫خاضع لعوامل القوة العضوية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكنه في المجتمع الإنساني دليل نكوص وليس تغالبا بما يتميز به الإنسان من قوة بل بما‬ ‫يتخلى عنه الإنسان من شروط قوته ـأي قدراته العقلية وصفاته الخلقية‪ .‬فينعكس عنده‬ ‫سلم الانتخاب‪ :‬في البايولوجيا سلم الانتخاب هو القوة الحيوية‪ .‬ومن المفروض ان يكون‬ ‫عند الإنسان القوة العقلية والخلقية‪.‬‬ ‫لكن ما نصفه من فساد في النخب الخمسة المضاعفة يقلب العلاقة فيبعد هذه القوة‬ ‫ويعوضها بقوة السلطة في الإرادة حكما ومعارضة وفي المعرفة طبيعية وإنسانية وفي القدرة‬ ‫اقتصادا وثقافة وفي الذوق فنا ولهوا وفي الوجود دينا وفلسفة‪ :‬كل ذلك يصبح مغشوشا‬ ‫بسبب \"فساد معاني الإنسانية\"‪.‬‬ ‫وداهية الدواهي هي أن الأطراف الخمسة المتدخلة في التربية النظامية كلها دون استثناء‬ ‫مشاركة في هذا الإفساد النسقي بل وتدفع من اجله الاموال حتى يبقى ساري المفعول‪.‬‬ ‫فالأطراف الخمسة هي‪:‬‬ ‫• ‪ 1‬و‪ 2‬المتعلم والمعلم‬ ‫• ‪ 3‬و‪ 4‬أهل المتعلم والمحتاجون للمتعلم أو رجال الاعمال‬ ‫• ‪.5‬الدولة‪.‬‬ ‫وكل هؤلاء يسهمون في إفساد التربية بمستوييها‪:‬‬ ‫• التكوين العلمي أولا بعدم إيلاء أهمية لـأمانة التكوين الحقيقي في العلم بحد ذاته‬ ‫والكفاءة المترتبة عليه‪.‬‬ ‫• والتكوين الخلقي بعدم إيلاء أهمية لعدل الانتخاب والترتيب العادل للمتعلمين بحسب‬ ‫المؤهلات والكفاء الفعلية‪.‬‬ ‫ولأبدأ بالواضح والبين‪ :‬الأولياء ورجال الأعمال‪.‬‬ ‫فالولي الذي يدفع المال لينجح أبنه دون أن يعنيه تكوينه السليم هل يسهم في الغش أم‬ ‫لا؟‬ ‫ورجل الأعمال الذي يوظف بالوساطة ولا تعنيه الكفاءة هل يسهم في الغش أم لا؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ثم الدولة التي تغض الطرف عن ذلك هل تسهم في الغش أم لا؟‬ ‫ولنأت الآن إلى الطرفين اللذين من المفروض أن يكونا منزهين عن الغش‪.‬‬ ‫فالمتعلم حتى لو لم كن يطلب التكوين السليم لذاته فمن المفروض أن يطلبه لأنه شرط‬ ‫نجاحه في معترك الحياة‪.‬‬ ‫لكن لما يعلم أنه لم يعد شرطا فإنه يصبح مسهما بقصد في الغش نعم في غش نفسه بأن‬ ‫ينجح حتى بالغش في الامتحان‪.‬‬ ‫والمعلم من المفروض أن يكون أمينا ونزيها حتى بسبب احترامه لنفسه‪ .‬لكن احترام‬ ‫النفس لا يمكن أن يصمد أمام مجتمع لا يحترم إلا النجاح المادي ويهزأ ممن يتكلم على‬ ‫النجاح الخلقي بل يعتبر المتمسكين به سذجا ويحتقرهم‪ .‬فإذا أضفنا الوضعية المادية المزرية‬ ‫فقد نفهم ما يدفع إلى نفس الخلل‪.‬‬ ‫وللمعلم وظيفة ثانية أهم حتى من التعليم‪ :‬إنها وظيفة الانتخاب‪.‬‬ ‫فكما بينت في محاولة الانتخاب يصعب التعليم اكتشاف المواهب وترتيب المتعلمين بمقتضى‬ ‫سلم يكون فيه المعلم حكما‪ .‬والحكم اشترط فيه القرآن شرطين (النساء ‪ :)58‬الأمانة‬ ‫والعدل‪.‬‬ ‫وغالبا ما يتعلق الفساد الخلقي في وظيفة الانتخاب بهذين الوجهين من وظيفة التعليم‬ ‫فضلا عن الخلل العلمي والمنهجي اللذين يمكن إصلاحهما بسهولة‪.‬‬ ‫لكن الأمانة للقيم الانتخابية والعدل في الترتيب في السلم الناتج عنها هما مناط الصلاح‬ ‫والفساد في التعليم وخاصة في نتائجه لاحقا عندما ينتقل المتعلم من مرحلة التحصيل إلى‬ ‫دوره في الجماعة من خلال تقسيم العمل والمحل الذي سيشغله فيه‪ .‬وغالب نكبات الأمة في‬ ‫الانتاجين المادي والثقافي وفي القيام عليهما عندما يكون المرء مكلفا بإدارتهما والسهر عليهما‬ ‫سواء في مسؤولية مباشرة او في مسؤولة على المسؤولية المباشرة (السياسة) تضيف فساد‬ ‫الانتخاب الثاني في العمل بعد فساد الانتخاب في التكوين‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بعد هذا التشخيص الذي حرصت فيه على الأمانة والصدق والذهاب بالأمر إلى غايته‬ ‫دون الخجل من بيان ما عليه حال التربية في بلاد العرب ولا اظن ما وصفت في تونس هو‬ ‫الأسوأ فاعتقد ‪-‬نظرا إلى ما رايته في مصر وما سمعت عنه في الخليج‪-‬أن الوضع في تونس‬ ‫هو \"مما يختار من الهم\" (مثل تونسي)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أنهيت الفصل الأول بما يشبه الاعتذار للجميع‪:‬‬ ‫• اعتبرت تونس من جنس \"ثم في الهم ما تختار\" بالقياس إلى بقية العرب‬ ‫• واعتبرت المعلم معذورا بالقياس إلى وضعه‬ ‫• واعتبرت التلميذ معذورا باعتبار عدم الحاجة للتكوين السليم‬ ‫• واعتبرت الأسرة معذورة خوفا على المستقبل‬ ‫• واعتبرت رب العمل معذورا لأنه تابع‪.‬‬ ‫ألست بذلك وكأني أقصر المسؤولية على من بيده السلطة السياسية فأكون قد برهنت على‬ ‫عكس ما أردت البرهان عليه؟‬ ‫في الحقيقة ليس ذلك ما ينبغي استنتاجه بل هو النكوص الذي يعبر عنه هذا الاعتذار‬ ‫الذي قلته بوصفي ناطقا بلسانهم تعبيرا عن النكوص إلى منطق التاريخ الطبيعي‪ :‬التكيف‬ ‫مع الموجود‪.‬‬ ‫فاعتباري تونس ينطبق عليها مثال في \"الهم ثم ما تـختار\" بالقياس إلى بقية العرب حصرا‬ ‫للمسألة في المقارنة بمن يعتبرهم التونسي دونه في المسألة التربوية‪ -‬وهو اعتبار فضلا عن‬ ‫عدم صحته‪ -‬فإنه حتى بهذه الصفة لن يزيل المشكل التونسي ولا يفيد أن العرب الآخرين‬ ‫حتى لو كانوا أفضل هم بخير لأن الداء عام حقا‪.‬‬ ‫وما أظنني بحاجة إلى الدليل‪ .‬فالعناوين التي قد تجعل البلد العربي الفلاني على رأس‬ ‫القائمة العربية لا تعني شيئا لأن الأول بين الفشلة ليس ناجحا علما وأن تقدمه على البقية‬ ‫ليس لنجاح في التكوين بل في إمكاناته والغش الأكبر فيه‪ .‬فاعتبار عمل الورادين وكأنه‬ ‫عمل أهل البلد خدعة لا تنطلي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ومن السخف معاملة التربية مثل الرياضة‪ :‬تشتري اللاعبين في كرة القدم ممكن وقد‬ ‫يقبل لكن الكفاءات التي تسير الأوطان وتنتج ما يسد الحاجات المادية والروحية لا يمكن‬ ‫أن يستعاض عنها بشرائها وخاصة بتواطؤ خطير بين باعة الشهادات وشراتها‪.‬‬ ‫مثال ذلك إذا سمعت بأن الجماعة الفلانية ‪-‬في السعودية مثلا‪-‬أنها مذكورة في ترتيب‬ ‫الجامعات الكبرى فاعلم أن ذلك لا يدل على حقيقة سعودية أو عربية بل على وجود‬ ‫متعاونين أجانب ينشرون باسمها أو بالاشتراك مع بعض أبناء البلد وخاصة في البلدان التي‬ ‫لأهلها القدرة على شراء الشهادات‪.‬‬ ‫ولست أعرض بأي بلد عربي فقد بدأت ببلدي‪ .‬فما تزال تونس بعد خمس وسبعين سنة‬ ‫من التغريب الاستعماري وما يقرب منها بعد الاستقلال متخلفة في البحث العلمي وفي التربية‬ ‫إلى حد جعل \"التكيف\" الاسمي مع هذا الواقع المتردي يحول دون تحقيق شروط النظام‬ ‫التربوي المحرر بحق للجماعة في الرعاية والحماية‪.‬‬ ‫ما زالت تونس مثلها مثل بقية العرب تستورد من الابرة إلى المنشار ومن الأنسولين إلى‬ ‫الفيتامين بحيث إنها ليس لها من التحديث الموهوم إلى بروباغندا التقدم المزعوم‪.‬‬ ‫والعلاقة القاطعة أن أثرياءها وحكامها لا يتداوون فيها وحتى في مصحاتها الأرقى ناهيك‬ ‫عن نظامها الصحي المتردي الأشبه بالمسالخ‪.‬‬ ‫ففي خلال السنة الوحيدة التي كنت فيها وزيرا مستشارا لدى رئيس حكومة الثورة الأولى‬ ‫مسؤولا عن ملف التربية اكتشفت أن حال العمران المدرسي في تونس أشبه بمراحيض‬ ‫المقاهي والبارات ذات المستوى المتدني واكتشفت أن ميزانية التربية كلها رغم تقدمها على‬ ‫الوزارات الأخرى لا تكفي لعمران مدرسي لائق‪.‬‬ ‫وليس هذا هو البعد الأول من العامل الأول من الخلل البنيوي في النظام التربوي أعني‬ ‫من منزلة التكوين والبحث في ثقافتنا والوعي بعلاقتهما في حل مشكل الرعاية والحماية‬ ‫شرطي السيادة لأن البعد الثاني هو منزلة المعلم عامة‪ .‬فهو في وضع مزر لا يتخيله عاقل‬ ‫لأن أجره لا يمكن أن يحصنه ضد \"المسكنة\" شبه الحتمية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫المعلمون بكل مستوياتهم من الروضة إلى الجامعة \"مساكين\"‪ .‬ولذلك فأغلبهم صاروا توابع‬ ‫لذوي الجاه يستخدمونهم في غير ما هم معدون له ومن ثم فوظائفهم النبيلة جعلت أدنى‬ ‫شيء يمكن أن يكون علة لحياة محترمة فجعلوا من ضرورات بقائهم أحد أمرين‪:‬‬ ‫‪ .1‬خدمة النظام وإهانة التعليم‬ ‫‪ .2‬أو استغلال المتعلم‪.‬‬ ‫هذا هو الداء الأول‪ :‬تمويل التكوين الذي يمكن من علاج العلاقتين العمودية (العلاقة‬ ‫بالطبيعة) والأفقية (العلاقة بالتاريخ) شبه مستحيل سواء في ما يتعلق بالتجهيز العمراني‬ ‫والأدواتي في البحث العلمي والتقني أو في تحقيق كرامة المعلم من الروضة إلى الجامعة‪.‬‬ ‫فما هو الداء الثاني الآن؟‬ ‫إذا كان الداء الأول اقتصاديا فالداء الثاني ثقافي‪:‬‬ ‫ما يزال التعليم عند العرب معتمدا على ثقافة ذات غايتين كلتاهما تقضيان على كل تكوين‬ ‫هادف لتحقيق شروط الرعاية والحماية أعني لمقومي السيادة في أ ي أمة لها وعي بمنزلتها‬ ‫في التاريخ الإنساني‪:‬‬ ‫• الثقافة العامة‬ ‫• والوظيفة الإيديولوجية للمدرسة‪.‬‬ ‫فخذ مضامين التعليم في أي بلد عربي وستجد أنك لو تحررت من هذين العاملين العقيمين‬ ‫لاستطعت أن تتخلص من أكثر من ‪ 90‬في المائة من تكوين الإنسان أولا ومن إعداده‬ ‫لوظيفتيه من حيث هو ذو سهم في توزيع العمل المنتج لسد الحاجات المشروط بالتعاون‬ ‫والتبادل وفي التعارف المشروط بالتواصل والتآنس‪.‬‬ ‫فالمدرسة تسهم في تكوين الإنسان عامة إذا صارت جماعة إنسانية بكل معاني الكلمة بمعنى‬ ‫أنها تصبح حياة الجماعة في شكل مصغر أهله يقومون بكل الوظائف التي تجعله قائم على‬ ‫نفسه وليس مجرد \"ثكنة\" لتلقي الدروس فتكون المدرسة شبه دولة مصغرة فيها كل وظائف‬ ‫المجتمع ويقوم بها أهلها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهي تكون الإنسان من حيث إعداده ليكون ذا دور في توزيع العمل في الجماعة الكبرى‬ ‫فتكون هذه الأدوار هي الاختصاصات التي تعد المؤسسة التعليمية طلبتها إليها خلال حياتهم‬ ‫المدرسية التي هي حياة كاملة وليس لتعلم الاختصاص فسحب بل لتعلم الحياة كلها بالممارسة‬ ‫فيكون خدما لأنفسهم فيها‪.‬‬ ‫لا معنى لإعداد الإنسان إلى الحياة عامة وإلى سهمه في توزيع العمل بعد التخرج خاصة‬ ‫إذا لم يكن ذلك خلال ممارسة الحياة كاملة في المدرسة أولا كإنسان وثانيا كمتعلم يستعد‬ ‫لدور في تقسيم العمل بعد التخرج‪ .‬المدرسة ينبغي أن تتغير لتصبح عينا مصغرة من‬ ‫الجماعة ككل فلا تبقى للتلقي القولي‪.‬‬ ‫وما يتعلم ينبغي أن نميز فيه بين أمرين‪ :‬ما يتعلم من أدوات التعلم وما لا يحتاج إلى تعليه‬ ‫بعد الحصول على أدوات التعلم لأنه يصبح مما يتعلم بالتعلم الذاتي‪ .‬وهذا يقتضي أن‬ ‫تصبح المدرسة في آن مكتبة ومتحف طبيعي وحضاري ومكتبات مختصة وتجهيزات البحث‬ ‫العلمي كلها بحسب الاختصاصات‪.‬‬ ‫وليس ذلك لأن المسلمين كانت لهم هذه المؤسسات التي أتكلم عليها بل لأن المدرسة في ذلك‬ ‫الوقت كانت المجتمع كله في أعيان منه هي القبائل العربية التي تخرج منها قادة كبار في كل‬ ‫مجالات الحياة الخمسة‪:‬‬ ‫• في السياسة التي تعبر عن الكلي في إرادة الأمة‪.‬‬ ‫• وفي المعرفة التي تعبر عن الكلي في خبرة الأمة (معرفة العصر)‬ ‫• وفي الاقتصاد الذي يعبر عن الكلي في سد الأمة لحاجاتها المادية‪.‬‬ ‫• وفي الثقافة التي تعبر عن الكلي في سد الأمة لحاجاتها الروحية‪.‬‬ ‫• وفي الفنون التي تعبر عن الكلي في ذوق الأمة‬ ‫• وفي الرؤى التي تعبر عن الكلي في خيارات الأمة الوجودية‪.‬‬ ‫وهذا الأصناف من الكليات لا يمكن أن تكون عفوية وإلا فلا معنى للتكوين والتموين‬ ‫خلاله‪ :‬لذلك فقد اعتبر أفلاطون أن \"وزارة\" التربية أهم حتى من رئاسة الدولة‪ .‬ومن ثم‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فإذا كان يشترط في ترؤس الدولة الفلسفة‪-‬وهو يعني المعرفة الكلية في النظر والعقد وفي‬ ‫العمل والشرع ‪-‬فمن باب أولى أن يشترط ذلك في من يعتبره أهم من رئيس الدولة‪.‬‬ ‫لكنك تجد التربية في بلاد العرب مهملة تماما لأنه ليس الوزير وحده لا علاقة له بهذه‬ ‫الكليات الخمسة بل حتى المصالح التي تختص في البرمجة وفي التفقد وفي التنظيم التكويني‬ ‫والتمويني خاضعة لأدنى شروط التمكن منها‪ .‬فما رأيت واحدا من المسؤولين على هذه‬ ‫المصالح عرف بشيء من البحث العلمي في مجال الاختصاص الذي تديره‪ .‬كلها خاضعة‬ ‫لمعايير سياسوية وإيديولوجية‪.‬‬ ‫ولهذه العلة لم أجد حقا ما أفعله لما كلفت بالقطاع التربوي وزيرا مستشارا لرئيس الحكومة‬ ‫ففهمت أن التكليف كان ترضية رمزية ليس القصد منها أن أفعل شيئا بل أن أوهم بأني‬ ‫مكلف بأمر مهم عندي لكنه عند \"المسؤولين\" آخر اهتمامهم‪ .‬ولعلهم معذورون فالأمر عام‬ ‫وليس خاصا بهم‪ .‬وحتى لو أرادوا فعل شيء لاستحال ذلك بسبب العادات وخاصة بسبب‬ ‫استبداد النقابة بالأمر والاعتراض من المعارضات وحربها الإيديولوجية على كل من يريد‬ ‫أن يحرر التكوين من الثقافة العامة والايديولوجيا‪ :‬ذلك أن الثقافة العامة تابعة للخيار‬ ‫الأيديولوجي في الحرب الاهلية التي تعتبر التربية فيها أحد أسلحة كاريكاتور التأصيل‬ ‫وكاريكاتور التحديث‪.‬‬ ‫ولأزد الداء الثاني شرحا فهو أخطر حتى من الداء الاقتصادي لأنه هو الذي يفاقمه‪.‬‬ ‫فالحشو الناتج عن الثقافة العامة وخاصة عن الوظيفة الأيديولوجية للمدرسة العربية هو‬ ‫الذي يجعل التعليم لمدة عشرين سنة على الأقل قابلا لأن يلخص في أقل من نصفها لو تحررنا‬ ‫من الحشو الناتج عنهما كما أبين‪.‬‬ ‫ولأبدأ بالوظيفة الإيديولوجية‪ :‬فالمدرسة العربية ورثت عن المدرسة الإسلامية التقليدية‬ ‫ثقافة اللغو مما يسمى علوم الملة الغائية والأداتية وورثت الصراع بين الحداثة والأصالة‬ ‫من المدرسة الفرنسية التي تدعي الثورة على الدين‪ .‬وهذا هو جوهر ما يسمى بالمدرسة‬ ‫الجمهورية في الرؤية اليعقوبية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولا يكفي أنه يفسد تحصل أي من الثقافيتين لا التأصيلية ولا التحديثية بما ينتج عنه من‬ ‫صراع عقيم بينهما وبين الطلبة ‪-‬ولك مثال في جيل النكبة الذي يفسر ما عليه تونس اليوم‬ ‫من صراع الهوية‪-‬فإن يؤدي إلى تنافس نوعين من الحشو في ما سميته الثقافة العامة‬ ‫والخيارات الإيديولوجية اللتين يكون التكوين بهما \"كمن يغذي المتعلمين بالتبن\"‪.‬‬ ‫ولما تعلم أن كلا النوعين من الحشو مضاعف في المدارس العربية لأنه يتألف من ثقافتين‬ ‫عامتين ومن خيارين إيديولوجيين كلاهما لا يبني شيئا إيجابيا في حقيقة الأمر بل همه‬ ‫الأول والأخير هو الحرب على الثاني فهمت مآل المنظومة التكوينية ومضمونها التمويني‬ ‫وعلل التخلف في التأصيل والتحديث في آن‪ :‬حرب بين كاريكاتورين مما يزعمان تمثيله‪.‬‬ ‫وبخلاف ما قد يتوهم الكثير فإن ذلك ليس خاصا بالمغاربة‪ .‬فالمشارقة هم بدورهم تأثروا‬ ‫بالمدرسة اليعقوبية لأن مصر وخاصة باشواتها قبل الاستعمار الانجليزي صاروا يعتبرون‬ ‫البريستيج يستمد من الفرنسية ولأن بعثاتهم الأولى كانت لفرنسا فاستمرأوا سخافات‬ ‫الثقافة العامة والتنوير اليعقوبي المزعوم‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فالمدرسة العربية ضحية للكاريكاتورين كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور‬ ‫التحديث وكلاهما إيديولوجي ولا علاقة له بشرطي قيام الأمم‪:‬‬ ‫• علاج قضايا الرعاية‬ ‫• وعلاج قضايا الحماية‬ ‫فالرعاية والحماية هما ما من دونه لا يمكن للفرد ولا للجماعة أن يكونا قائمين بذاتيهما‬ ‫قادرين على الاستقلال من التبعية‪.‬‬ ‫فالكثير من الناس يعتقدون أن التبعية سياسية فحسب‪ .‬صحيح أن الظاهر من التبعية هو‬ ‫الوجه السياسي وعلاماته البارزة على نوعين‪:‬‬ ‫• التبعية في الرعاية وعلامتها مد اليد‪ .‬للمعونات ‪-‬التسول‪-‬الغالب على \"فقراء\" العرب‬ ‫• والتبعية في الحماية وعلامتها مد اليد للحمايات‪-‬القواعد‪-‬الغالب على \"أغنيائهم\"‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن هل هذا المظهر السياسي ‪-‬تسول المعونات وتسول الحمايات‪-‬سياسي بذاته؟‬ ‫أم هو سياسي لأن ما كان يمكن أن يغني عنه من طبيعة أخرى هو ما نسبته إلى النخب‬ ‫الأربعة الباقية التي قبلت بأن تعتبر هذا الوضع السياسي حقيقة لا بد من التكيف معها‬ ‫وعدم البحث في عللها لعلاجها وهي من \"عندهم\"؟‬ ‫من منا يصدق مع نفسه ولا يعترف بأن النخبة السياسية المعارضة لا تختلف عن النخبة‬ ‫السياسية الحاكمة إلا في مرحلة المعارضة؟ وأنها بمجرد أن تصبح حاكمة لا تتصرف إلا‬ ‫بالتكيف مع نفس الوضعية؟‬ ‫ولنا في ذلك تجربتان‪:‬‬ ‫‪ .1‬ثورات ما بعد نكبة فلسطين العسكرية أو حقيقة استكمال لنكبة سقوط الخلافة‬ ‫وتقسم جغرافيتها وعلامتها سايكس بيكو نتيجة هذه النكبة وشرط تلك‪.‬‬ ‫‪ .2‬ثورات الربيع العربي أو ما بعد نكبة كل الاقطار العربية بـ\"الدولة\" القبلية‬ ‫والعسكرية (وهي في الحقيقة محميات وليست دولا)‪ .‬فـمن يجهل ذلك؟‬ ‫لكن هل النخب الاربع الباقية بصنفي كل واحدة منها بريئة من هذا \"التطبيع\" مع الوضع‬ ‫والتكيف معه بما يتطلبه من \"فساد معاني الإنسانية\" الخلدوني؟ هل يوجد ما هو أفسد من‬ ‫نخبة المعرفة بصنفيها عندنا؟‬ ‫وقس علينا نخبة القدرة بصنفيها ونخبة الذوق بصنفيها ونخبة الوجود بصنفيها‪ :‬التكيف‬ ‫مع الوضع‪.‬‬ ‫لا أحد يكون صادقا مع نفسه ويمكن أن يرى الاستبداد والفساد مقصورا على النخبة‬ ‫السياسية حاكمها معارضها بل إن ذلك عام وشامل لنخبة المعرفة ولنخبة القدرة ولنخبة‬ ‫الذوق ولنخبة الرؤية الوجودية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫إنها ثقافة عامة نكصت بالإنسان إلى قانون التاريخ الطبيعي فيتكيف مع الموجود ولا يهتم‬ ‫بالمنشود‪.‬‬ ‫ولأذكر بما يعنيه ابن خلدون بفساد معاني الإنسان وطابعه النكوصي في كل مظاهر الحياة‬ ‫الإنسانية‪\" :‬ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم‪:‬‬ ‫‪ .1‬سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل‬ ‫‪ .2‬وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في=ضميره خوفا من انبساط‬ ‫الأيدي بالقهر عليه‬ ‫‪ .3‬وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا‬ ‫‪ .4‬وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية‬ ‫والمدافعة عن نفسه أو منزله وصار عيالا على غيره في ذلك‬ ‫‪ .5‬بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها‬ ‫ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد أسفل سافلين\" (المقدمة الباب ‪ 6‬الفصل ‪.)40‬‬ ‫ولا أعتقد أن أحدا يصدق نفسه يمكن أن يعتبر هذا الوصف الخلدوني قاصر وصف حال‬ ‫العرب اليوم في شيء يذكر‪ :‬فلكأنه يعيش بيننا ويصف ما يجري في نكوصنا إلى منطق‬ ‫التاريخ الطبيعي في مجتمعاتنا‪.‬‬ ‫ونصل الآن إلى الداءين الأخطر من هذين الأولين واللذين أصبحا من علامات الفشل‬ ‫الأصلي لكل فشل‪:‬‬ ‫‪ .1‬داء الدولة الحاضنة أعني في الحقيقة الدولة المستبدة بالأرزاق ومن ثم الحائلة‬ ‫دون شروط الحرية الفعلية للإنسان الذي يتحول إلى عالة على إدارة بيروقراطية تحول‬ ‫دون حيوية الجماعة المنتجة لشروط بقائها رعاية وحماية‪.‬‬ ‫‪ .2‬وداء مجانية أهم بضاعة وخدمة في الجماعة لأنها هي الشارطة لكل ما عداها من‬ ‫البضائع والخدمات أعني بضاعة تكوين الإنسان عامة وتكوين المسهم في الانتاج المادي‬ ‫والروحي خاصة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وبعد هذين الداءين واستكمال المربع المرضي الذي تعاني منه الأمة أصل إلى الأصل‬ ‫الذي تترفع عنه هذا لا دواء الأربعة وهو عين ما آل إليه أمر الامة من انحطاط أعني‬ ‫انحراف الرؤية الدينية والفلسفية في مسارنا الحضاري بسبب الصراعين بين العلم والإيمان‬ ‫وبين القانون والأخلاق تحريفا للإسلام‪.‬‬ ‫فماذا تعني الدولة الحاضنة؟‬ ‫بخلاف أوهام الكثير من أدعياء الشعبوية والحرية والتنوير الدولة الحاضنة هي‬ ‫بالضبط الدولة المستبدة والفاسدة لأنها تحول ما وظيفته تنظيم حماية الجماعة ورعايتها‬ ‫لذاتها إلى بديل من دور الجماعة الحرة يجعل بعضها مسيطرا عليها بدعوى حمايتها‬ ‫ورعايتها فتصبح جماعة عبيد لا أحرار‪.‬‬ ‫وسأضرب مثالين أحدهما عشته شخصيا والثاني نراه في ما حصل في الثورة السورية مثلا‬ ‫عندما تحولت إلى ما يشبه الحرب الأهلية بعد أن سيطر أمراء الحرب عليها فأفسدوها لأنها‬ ‫من دونهم كانت ستنتصر على النظام ومليشيات إيران وإيران وحتى على بوتين الذي‬ ‫أنقذهم من ثورة الشعب السوري‪.‬‬ ‫المثال الأول عشته شخصيا في التجربة التي سميت بتجربة التعاضد في تونس‪.‬‬ ‫فأنا من البادية ومن أسرة مزارعة‪ .‬التعاضد كان تأميما متنكرا للأرض والزراعة‪ .‬صار‬ ‫فرع قبيلتي عمالا عند الدولة ففسدت الزراعة صار الجميع تابعا للسلطة السياسية عامة‬ ‫والحزبية خاصة وفقدت الأشياء قيمها تماما‪ .‬كنا أحرارا فصرنا عبيدا‪ .‬كنا نستطيع ألا‬ ‫نحتاج إلى السوق لنعيش لأن كل أسرة كانت في الصيف تضمن أمرين‪:‬‬ ‫• غذاءها على الأقل لسنة مقبلة‪.‬‬ ‫• وبذور زراعتها في الفصل الزراعي المقبل‪.‬‬ ‫ولم يكن للدولة إلا دور واحد‪ :‬حماية الناس والحقوق في الداخل وحماية الجماعة من‬ ‫الخارج وطبعا بتجنيد الشباب للأمن والدفاع‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن الله لطف وتوقفت التجربة فكان فشل ما يسمى بالإصلاح الزراعي دليل نجاح‬ ‫الجماعة في التحرر من استبداد الدولة والمستبدين بها برعايتها‪.‬‬ ‫إلا أن توقفها لم ينه اعتماد العشب على الدولة في الرعاية وتجاوز دورها الحماية‪.‬‬ ‫فأصبح جل الشباب عاطلا لأنه ينتظر التوظيف من الدولة وأصبحت الأسر حتى في البادية‬ ‫محتاجة للسوق يوميا بحيث إنه لو حدث حرب مثلا لحصلت مجاعة بعد أسبوع‪.‬‬ ‫المثال الثاني من سوريا وهو أكثر تفاؤلا‪.‬‬ ‫من يكتفي بالمظاهر سيقول إن الحرب السورية وقعت في المدن الكبرى وأن الصمود جاء‬ ‫منها‪ .‬وهذه كذبة تغطي عن أمر آخر أهم وأعمق‪ .‬فلو لم تكن الارياف التي حافظت على‬ ‫شروط البقاء في الرعاية المستقلة عن الدولة لانهزمت الثورة السورية بعد أسبوع‪.‬‬ ‫لولا الأرياف واستقلالها الغذائي عن الدولة الحاضنة لاستحال على الشعب السوري‬ ‫الصمود ثمانية سنوات وطبعا هي لم تكف بدليل اللجوء والهجرة لكنها مكنت من شروط‬ ‫البقاء والصمود للثورة والثوار وخاصة لحاضنتها التي حققت غايتين‪ :‬الاستقلال الغذائي‬ ‫لأسر الثوار ‪-‬الغوطة مثلا‪-‬ومطاولة المقاومة‪.‬‬ ‫وليس معنى ذلك أني ضد التقدم والمدينة واحبذ حياة الارياف لكني أقصد أن المجتمع‬ ‫الاهلي هو الذي ينبغي أن ينتج ما يسد حاجاته ولا تتكفل الدولة بذلك لأنها تقع في‬ ‫خطأين هم سر نكبات الدول العربية في الاقتصاد‪:‬‬ ‫‪ .1‬يصبح الاقتصاد مؤمما ويصبح المنتجون موظفين عقيمين‪.‬‬ ‫‪ .2‬تبعية سد الحاجة للاستيراد صارت عامة في بلاد العرب‪.‬‬ ‫وأقوى الأمثلة هي الحالات المحيرة‪ :‬حالة العراق وحالة الجزائر ناهيك عن حالة‬ ‫السودان‪.‬‬ ‫فهذه البلاد العربية الثلاثة تستورد حاجاتها الضرورية للحياة في حين أنها كبيرة وفيها‬ ‫الماء وسكانها ليسوا قليلا ولها من الثروات ما لا يقدر لو كان شعبها يعتمد على نفسه بدلا‬ ‫من دولة فاشلة تدعي الحضانة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ونأتي الآن إلى مجانية التعليم‪.‬‬ ‫هي حق يراد به باطل‪.‬‬ ‫أولا التعليم بين بفساده أنه لم يعد مجانيا لأن كل الأولياء يدفعون ما هو أكثر من عدم‬ ‫المجانية أعني كلفة الدروس الخصوصية‪ .‬وهي فساد مضاعف‪ :‬لأنها ليست استكمالا للتكوين‬ ‫في المدرسة الرسمية بل هي بديل منه وهي بديل فاسد لأنها رشوة الولي للمعلم للحصول‬ ‫على الدرجات وليس على التكوين المكمل لتكوين صار شبه مفقود في المنظومة التربوية‬ ‫الرسمية‪.‬‬ ‫وهو فاسد لأنه ليس للتكوين بل هو بنحو ما رشوة للحصول على العلامات وليس على‬ ‫التكوين‪ .‬ذلك أن التكوين لا يمكن أن يحصل في الدروس الخصوصية إذا لم مكملة للدروس‬ ‫الرسمية‪ .‬فإذا صارت تلك بديلا من هذه التي لم تعد تقوم بواجبها فمعنى ذلك أن المدرسة‬ ‫الرسمية ضياع وقت الخصوصية رشوة للإيهام‪.‬‬ ‫تلك هي الأدواء الفرعية الأربعة ذكرتها وحاولت تشخيص دلالتها ووصلتها بكل ما تعاني‬ ‫منه الأمة معاناة جمعها ابن خلدون في مفهوم \"فساد معاني الإنسانية\" وفي مفهوم \"العالة\"‪.‬‬ ‫نحن أمة صارت عالة على غيرها لأنها لم تعد قادرة على تكوين الإنسان التكوين الذي‬ ‫يحقق شروط الرعاية والحماية الذاتيتين له ولأمته‪.‬‬ ‫والسؤال الآن هو لماذا اعتبرت ذلك ناتجا عن تحريف الإسلام الذي أدى إلى انحطاط‬ ‫الامة بسبب الصرع بين المتكلمين باسم الإيمان والمتكلمين باسم العلم في النظر والعقد‬ ‫(متكلمون وفلاسفة) وبسبب الصراع بين المتكلمين باسم الأخلاق والمتكلمين باسم القانون في‬ ‫العمل والشرع (فقهاء ومتصوفة)؟‬ ‫بمعنى فلسفي ‪-‬وهذا هو منظوري للأمر‪-‬لماذا اعتبر أصل الداء هو تحريف الإسلام من‬ ‫خلال تحريف رؤيته للنظر والعقد في مجال سيادة الإنسان على شروط مهمته الأولى أي‬ ‫الاستعمار في الارض ورؤيته للعمل والشرع في مجال سيادة الإنسان على شروط مهمته‬ ‫الثانية أي الاستخلاف فيها؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫كل من يدعي أن علوم الملة الخمسة وعلومها المساعدة أو علوم الأداة فيها يكذب إذا زعم‬ ‫أنها يمكن أن تعالج هذين الوجهين من وظيفة النظر والعقد لتعمير الأرض وسد الحاجات‬ ‫الأساسية لوجود الإنسان العضوي أو من وظيفة العمل والشرع للاستخلاف فيها وسد‬ ‫الحاجات الأساسية لوجود الإنسان الروحي‪.‬‬ ‫ولهذه العلة ما تزال الأمة تعيش إما على الثروات الطبيعية والزراعة البدائية‪-‬تدين‬ ‫باستخراجها وتحويلها إلى الاستعمار‪-‬أو إلى التبادل اللامتكافئ ببيع المواد الخام واستيراد‬ ‫ما بات ضروريا لحياة غير بدوية مع ذهنية بدوية لأن من ليس له ما بين الطبيعة والحضارة‬ ‫من أدوات لن يخرج من البداوة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وطبعا لا يمكن أن يكون فساد معاني الإنسانية الذي وصفه ابن خلدون في مسألة التربية‬ ‫مقصورا عليها ولذلك فهو قد اعتبره أيضا موجودا في الحكم‪.‬‬ ‫وعلل الوجود في الحالتين بنوع سلطة المربي وسلطة الحاكم‪.‬‬ ‫ونحن تكلمنا على تحريف الإسلام باعتباره أصلا لهذه الأدواء الأربعة‪ :‬فكيف نفهم ذلك؟‬ ‫سيعجب الكثير من قولي إني أبحث المسألة بمنظور فلسفي ثم أشخصها بكونها ناتجة عن‬ ‫تحريف للإسلام ألا أكون بذلك قد جعلتها دينية؟ طبعا من يعترض هذا الاعتراض يبدو‬ ‫محقا لكنه في الحقيقة ينطلق مما وصفته بالرؤية التي أدلجت دور الفكر ففرضت عليه‬ ‫الرؤية اليعقوبية الفاصلة بين الديني والفلسفي‪.‬‬ ‫فما حرف هو فلسفة الإسلام في التربية وفي الحكم وهي رؤية يمكن أن تصاغ دينيا ويمكن‬ ‫أن تصاغ فلسفيا لأن ما هو رؤية فيها هو تتحد فيه الفلسفة والدين أعني المهمتين اللتين‬ ‫تكلمت عليهما‪ :‬الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها‪ .‬وقد يخالف البعض في الثانية‪ .‬لكنه‬ ‫خلافه لفظي وليس حقيقيا‪.‬‬ ‫فلا أتصور أنه يمكن أن يعتبر الإنسان مستعمرا في الأرض أي مطالبا بتعميرها مثل‬ ‫الحيوانات التي تستغلها ولا تعمرها بل هو حتما يعتقد ‪-‬حتى وإن كان ملحدا‪-‬أن الإنسان‬ ‫في الأرض يطلب أمرين هما عين مفهوم الاستخلاف أي أن يكون حرا وسيدا وأن يجعل‬ ‫الغاية خيرة وليس مجرد الأكل أكل الأنعام‪.‬‬ ‫والفشل في تعمير الارض علته أبستمولوجية أولا أو تصور فاسد للنظر والعقد كان علة‬ ‫العجز دون التعمير وعدم تحقيق ما سميته ثورة نوح في تفسير سورة هود والفشل في‬ ‫الاستخلاف علته أكسيولوجية أو تصور فاسد للعمل والشرع كان علة العجز جون الاستخلاف‬ ‫وعدم تحقيق ما سمتيه ثورة موسى في تفسيرها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫تراهم يكثرون من الكلام على نوح وينسون ما طلب منه ربه قبل أن يمتطي السفينة‪:‬‬ ‫أن يأخذ من كل زوجين اثنين ليعيد تكوين شروط الحياة‪ .‬وهذه هي ثورته في تحرير‬ ‫الإنسان من الخضوع للضرورة الطبيعية فيستنبت شروط قيامه بعلمه وعمله في استئناف‬ ‫الحياة الإنسانية بعد الطوفان‪.‬‬ ‫وتراهم يثرثرون حول موسى ومعجزاته ولا بصيرة لهم في فهم طبيعة الثورة الثانية‬ ‫بعد الأولى التي كلف بها نوح‪ .‬وحضور موسى ونوح الطاغي في القرآن لا يفهم دلالتها إلا‬ ‫من كان فاقدا للبصيرة‪.‬‬ ‫فهذه الثورة الثانية لها منزلة الثورة الاولى‪ :‬بعد ثورة التعمير ثورة الاستخلاف أو‬ ‫الحرية السياسية‪.‬‬ ‫صحيح أن مفسدي الثورة الثانية أعادوا دين العجل الذي ما يزال مسيطرا على البشرية‬ ‫ببعديه‪ :‬بمعدنه أصل الربا المادي أو سرقة المال (الذهب المستعار من المصريين) وبخواره‬ ‫أصل الربا الروحي أو خداع البشر بالإيديولوجيا‪ .‬وكل تحريف للقرآن مصدره هذان‬ ‫الاصلان وخاصة في غياب الثورتين وثمراتهما للجهل بمفهومي الاستعمار والاستخلاف‪.‬‬ ‫إذن وقع تحريف أبستمولوجي لرؤية القرآن للنظر والعقد بسبب الصراع بين المتكلمين‬ ‫والفلاسفة حول العلاقة بين العلم والإيمان فأفسدوا العلم والإيمان‪ .‬ووقع تحريف‬ ‫أكسيولوجي لرؤية القرآن للعمل والشرع بسبب الصراع بين الفقهاء والمتصوفة حول‬ ‫العلاقة بين القانون والأخلاق‪ .‬فأفسدوا العمل والشرع‪.‬‬ ‫وفيم تمثل الفساد؟ في جعل النظر والعقد لا يطلب علاج العلاقة العمودية بين الإنسان‬ ‫والطبيعة لسد حاجته بل يطلب ما وراء الطبيعة والإنسان ليقدم أساطير يتوهمها علما‬ ‫وهي في الحقيقة بمقتضى نص القرآن (آل عمار ‪ )7‬وهم بالإحاطة إما باسم وراثة النبي أو‬ ‫باسم العقل المحيط‪ .‬وكلاهما كذبة‪.‬‬ ‫فلا النبي أدعى علم الغيب فيرثون منه ما يحررهم من آل عمران ‪ 7‬ولا العقل محيط‬ ‫فيجعل ما يسمونه علما عقليا اصلا والدين يرد إليه بالتأويل لأنهم يدعون الرسوخ في‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫العلم الذي يمكنهم من أن يعطفوا علمهم على علم الله في آل عمران ‪ 7‬كما يفعل ابن رشد‬ ‫في مناهج الأدلة في عقائد الملة‪.‬‬ ‫وهذا هو الوجه الأول من التحريف الأبستمولوجي للرؤية القرآنية‪ .‬ويترتب عليه أنهم‬ ‫تركوا ما أمر به القرآن واختاروا ما نهى عنه لينشغلوا به‪ .‬فالقرآن بين أن الاحاطة ليست‬ ‫في متناول الإنسان وأن الغيب مفهوم حد يميز بين العلم الإنساني غير المحيط والعلم الإلهي‬ ‫المحيط‪ :‬نفي نظرية المطابقة‪.‬‬ ‫ونفي نظرية المطابقة تحرر مطلق من أساس الفلسفة القديمة والتي تواصلت في العصر‬ ‫الوسيط بخلاف ما بين القرآن استحالته‪ .‬وحتى القرآن فليس فيه علم بالغيب فيه إعلام‬ ‫بوجود الغيب لكن ليس فيه علم بما ليس بشاهد أبدا‪ .‬لما أعلمك بوجود شيء دون أن‬ ‫أعطيك حقيقة مضمونه فليس ذلك علما به بل إعلام‪.‬‬ ‫أما ما أمر به القرآن ‪-‬فصلت ‪ -53‬فهو أن نرى ما يرينا الله من آياته في الآفاق وفي‬ ‫الانفس لنتبين أن القرآن حق وهو ما يعني أن معرفة حقيقة القرآن ليست في التفسير‬ ‫اللفظي لآيات نصه بل في البحث العلمي لمعرفة قوانين الطبيعة والتاريخ في الأعيان‬ ‫(الآفاق) وفي الأذهان (الأنفس)‪.‬‬ ‫وكلاهما آيات من عالم الشهادة وليس من عالم الغيب‪ .‬وهما لا تعلمان إلا بالبحث العلمي‬ ‫في الطبيعة والتاريخ خارج أنفسنا ثم في أنفسنا لأننا نحن أيضا مؤلفون من طبيعة غالبة‬ ‫على أبداننا وتاريخ غالب على أرواحنا‪ .‬كل ذلك أهملوه وتقاتلوا على تأويل المتشابه لزيغ‬ ‫في القلب ولابتغاء الفتنة‪.‬‬ ‫والزيغ في القلب وابتغاء الفتنة ليس من أجل ثمرة النظر والعقد في التعمير ولا من أجل‬ ‫العمل والشرع في الاستخلاف بل من أجل سلطة في التربية هي الوساطة وسلطة في الحكم‬ ‫هي الوصاية‪.‬‬ ‫والسلطتان في غياب العلم بما كان ينبغي أن يكون مجال سلطة الإنسان الحر والسيد هما‬ ‫علة \"فساد معاني الإنسانية\"‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لذلك فالمعركة بين المتكلم والفيلسوف ليست حول العلاقة بين الإيمان والعلم بل هي حول‬ ‫سلطة الوسيط وهي ليست وساطة بين الإنسان وربه فحسب بل هي تنافس بينهما من أجل‬ ‫سلطان يستمدانه من أرباب الأرض وليس من رب السماء بحجة أنهم يمكن أن يكونوا بها‬ ‫يدعونه منها وسطاء بين ذوي السلطان و\"العامة\"‪ :‬المتكلم يجعل الدين والمتفلسف العقل‬ ‫لطلب سلطان على الإنسان ولفشلهما في جعله معمرا‪.‬‬ ‫وقد لا يكون ذلك جليا في الصراع بين المتكلم والفيلسوف لأنهما يبدوان وكأنهما يبحثان‬ ‫في النظر والعقد العاليين فيوهمان بأنهما ليسا طالبي سلطان على الإنسان بل معرفة‬ ‫الحقيقة لكن ذلك يتجلى من أول واقعة أي محنة ابن حنبل‪ .‬لم يصارعهم بل رفض أن‬ ‫يصبح الحاكم بابا‪ :‬تأسيس الكنسية في الإسلام‪.‬‬ ‫لكن ذلك لا يحتاج إلى دليل في معركة الفقهاء والمتصوفة‪ .‬فليس مشكلهم العلاقة بين‬ ‫القانون والأخلاق لأن الفصل بينهما ليس فيهما بل في الحكم الذي قد يقرض قوانين غير‬ ‫خلقية‪ .‬لكنهم هم جميعا ليسوا إلافي خدمة صاحب السلطان الذي يفرض ما ليس بقانون‬ ‫ولا بأخلاق بل هو إرادة المتغلب التي يبررونها‪.‬‬ ‫وبذلك فبوعي أو بغير وعي كان المتكلم والفيلسوف والفقيه والمتصوف جميعا‪-‬الشواذ‬ ‫عن ذلك قلة ولا يقاس عليهم‪-‬طلبي سلطة من سلطة لا علاقة لها بالإيمان ولا بالعقل ولا‬ ‫بالقانون ولا بالأخلاق لان هذه جميعا بمنظور القرآن رهن تحقيق شروط التعمير‬ ‫والاستخلاف وهم حالوا دون ذلك بتخريفهم‪.‬‬ ‫وبذلك يتبين للقارئ أن ما نراه الآن من صرع بين كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور‬ ‫التحديث ليس إلا مواصلة للمعركة بين المتكلم والفيلسوف وبين الفقيه والمتصوف حول شبيه‬ ‫الإيمان وشبيه العلم وشبيه القانون وشبيه الأخلاق ولا يوجد في أي من ذلك إلا الفشل في‬ ‫معناه الحقيقي أي التعمير والاستخلاف‪.‬‬ ‫ولست بحاجة لأن أثبت ذلك فهم بأنفسهم يعترفون بأنهم ورثة المتكلمين والفلاسفة‬ ‫والفقهاء والمتصوفة بمعنى أن كاريكاتور التحديث يدعي تجديد الاعتزال والرشدية‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وكاريكاتور التأصيل يدعي تديد الفقه والتصوف‪ .‬كاريكاتور التحديث يشرب من النكوص‬ ‫إلى القول بالمطابقة ابستمولوجيا وأكسيولوجيا‪.‬‬ ‫وعندما تسمع الواحد منهم يتكلم على \"عقلانية\" الاعتزال والرشدية فلا يمكن إن كنت‬ ‫فاهما القصد بالعقلانية وخاصة النقدية إلا أن تموت ضحكا‪ .‬ذلك أنه لم يعد أحد يعتقد‬ ‫أن العقل محيط في النظر والعقد وخاصة في العمل والشرع‪ :‬خرافة التحسين والتقبيح‬ ‫العقليين من علامات الحمق لا العقل‪.‬‬ ‫فالقيم لا يمكن أن تتأسس على العقل إلا بمعنى العقل الذريعي أي العقل الذي يعتبر‬ ‫صاحبه القيم ناتجة عن حساب المنافع والمضار‪ .‬وهـي إذن قيم الأخلاق النفعية الخـالصة‪.‬‬ ‫أو البديل الخلقي المؤسس على العقد الديني بمعنى الإيمان بأن الإنسان كائن حر فوق‬ ‫النفعيات ويؤمن بقيم متعالية لأنه يسلم بأن للكون شارعا حدد قيما فيها ما هو معلوم وفيها‬ ‫ما هو من الغيب يعمل بها لإيمان دون أن تكون منافية للعقل‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وصلنا الآن إلى غاية البحث بعد أن حققنا أمرين مهمين‪:‬‬ ‫‪ .1‬جبر الكسر بين الماضي والحاضر من خلال بيان التواصل في الأمراض التي تعاني‬ ‫منها التربية في حضارتنا‬ ‫‪ .2‬والتخلص من كذبة أننا كنا مبدعين بأي من علوم الملة بل كنا نقتات على الصدف‬ ‫والموروث دون أبداع يذكر لأن علوم الملة كلها عقيم‪.‬‬ ‫ولن يستطيع أحد اتهامي بكوني أحقر من الحضارة الإسلامية إذ ليس يمكن لأحد أن‬ ‫يزايد علي في محبتها وخدمتها لأن التشخيص الخاطئ غش للأمة وليس غيرة عليها‪ .‬لم‬ ‫ننحط بالصدفة لأن التحديات التي قد نعلل بها الانحطاط هي من جنس الهجوم الجرثومي‬ ‫الخارجي الذي لا يتغلب إلا بسبب ضعف المناعة‪.‬‬ ‫وتحقق جبر الكسر جبرا موجبا بالوصل بين طموحات المستقبل ورؤية الإسلام المتعقلة‬ ‫بالاستعمار في الارض والاستخلاف فيها‪ .‬وهما مفهومان قرآنيان عليهما أسس ابن خلدون‬ ‫ثورته العلمية أي أول تأسيس للعلوم الإنسانية دون أن تكون الأخيرة مثلما أن تأسيس‬ ‫ارسطو لعلوم الطبيعة كان أولا وليس الأخير‪.‬‬ ‫فبات المطلوب واضحا‪ :‬كيف نجعل نظامنا التربوي (طبعا شرطه نظمنا السياسي) محققا‬ ‫لشروط الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها‪ .‬وللجواب عن هذا السؤال الملخص لكل‬ ‫عناصر المحاولة أبدأ الأن بتقدم العلاج بعد التشخيص والتعليل‪ :‬قدمت بعد صورة المدرسة‬ ‫التي ينبغي تأسيسها وطبيعة التكوين المطلوب‪.‬‬ ‫والآن اعرض العلاج‪:‬‬ ‫• أولا التحرر من الدولة الحاضنة وإرجاع الإنتاج ا لمادي والرمزي للمجتمع الذي لا‬ ‫يمكن أن يكون حرا ما ظلت الدولة حاضنة وهو شرط لكنه لا بد أن ينتظر حتى يثمر‬ ‫إصلاح التعليم بالصورة المقترحة لتخفيفه وتحريره من داءيه الاكبرين‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫• الثقافة العامة‬ ‫• والتوظيف الإيديولوجي‪.‬‬ ‫وهذا التخفيف سيقلل من كلفته لأن جل الحشو فيه علته هذين الداءين‪.‬‬ ‫فمثلا في تونس عندنا حوالي ‪ 100‬ألف أستاذ ثانوي‪ .‬وبهذا التخفيف يمكن أن ينزل‬ ‫عددهم إلى النصف‪ .‬وطبعا لن يطرد النصف الثاني بل ينبغي التعامل معه بالحد منه من‬ ‫فوق ومن تحت‪ :‬لا يعوض المتقاعدون حتى لا يبقى إلا نصف العدد الحالي ونأخذ نسبة‬ ‫مهمة للبحث والتوثيق في الاختصاصات‪ .‬لكن الكلفة تبقى مع ذلك كبيرة لأن المقترح يقتضي‬ ‫أمرين كلاهما مكلف ومكلف جدا‪:‬‬ ‫فكلفة المدرسة كما صورتها مكلف جدا لكنه ثمرته رفيعة جدا‪.‬‬ ‫وكلفة كرامة المعلمين بكل مستوياتهم من الروضة إلى الجامعة مكلفة جدا لكن الثمرة‬ ‫أيضا رفيعة جدا‪.‬‬ ‫والثمرة في الحالة الأولى هي تغير نوعي في الثقافة العربية التي يمكن اعتبارها قاتلة‬ ‫للمواهب لأنها تجعل التكوين تلقينيا ولا تمكن من تجليها خلال التعلم الذاتي‪.‬‬ ‫وهي في الحالة الثانية كذلك تغير نوعي لأن حرفة التعليم تصبح جذابة للمؤهلين‬ ‫لاكتشاف المواهب وتنميتها بمجرد أن يصبح التعليم مجزيا ماديا ومحققا لشروط الكرامة‬ ‫والمنزلة في الجماعة فضلا عن ابعادهم عن الحاجة إلى ما هم مضطرون إليه حاليا مما لا‬ ‫يليق بالمربي‪.‬‬ ‫وهذه لا يمكن أن تبقى على كاهل الدولة التي لا ينبغي أن تبقى حاضنة ولكن التخلص‬ ‫من الوضع الراهن لا يتم إلا بالتدريج بحسب تحقق الـمشاركة الفعلية من الأطراف الأربعة‬ ‫الباقية‪ .‬فمن هي الأطراف الأربعة الباقية‪:‬‬ ‫• الأسر التي تعلم أبناءها‬ ‫• اصحاب الأعمال الذين يحتاجون للخريجين‬ ‫• المتعلم‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫• المعلم‪.‬‬ ‫كل هؤلاء ينبغي أن يسهموا في الجزء الخاص من التعليم‪ .‬ويكون ذلك بإلغاء التعليم‬ ‫الخاص المحض والتعليم العام المحض فلا يبقى إلا تعليم نصف تمويله خاص ونصفه عام‪.‬‬ ‫فتكون المدرسة هي بدورها أحد أنواع الاستثمار الذي تموله الجماعة وهو استثمار مربح‬ ‫حتى بالمعنى الاقتصادي المباشر‪.‬‬ ‫فالأسر عليها أن تسهم بكلفة تعليم أبنائها على الأقل بالحد الذي تدفعه حاليا لواحد من‬ ‫الدروس الخصوصية وليس لها كلها‪ .‬فهذا يحرر أبناءهم ويحفظ كرامة معلميهم‪ .‬ورجال‬ ‫الأعمال عليهم ان يسهموا في تكلفة تكوين الكوادر الذين يحتاجون إليهم في أعمالهم إذا‬ ‫كانوا حقا يريدون إنتاجا حديثا شرطه البحث العملي والتكوين المهني ليكون عملا على‬ ‫علم وتخطيط وليس عملا ساذجا‪.‬‬ ‫والتلميذ في مستوى معين ينبغي أن يسهم في تعليمه ولو في شكل استدانة يسددها لما‬ ‫يتخرج فيرجع دينه للمنظومة التربية التي كونته ووفرت له دورا في الانتاج الذي هو مورد‬ ‫رزق الجميع‪.‬‬ ‫وتبقى الدولة التي عليها أن تدفع نصف الكلفة‪ .‬وليكن النصف بقدر ما تدفعه حاليا‬ ‫سيتضاعف مستوى المدرسة والمعلم‪.‬‬ ‫فإذا فرضنا أن ذلك سيجعل المدرسة كما وصفت وسيضاعف أجر المعلم بعد تخفيف‬ ‫المضامين والتبكير في الاختصاص التكويني مع مراكز بحث في كل اختصاص دون المبالغة في‬ ‫الثقافة العامة ودون الحرب بين ثقافتين بحجة التأصيل وبحجة التحديث فإن عقدا واحدا‬ ‫قد يجعل المدرسة العربية على رأس الترتيب‪.‬‬ ‫وطبعا سيكون الإشراف الإداري والعلمي على المنظومة مزدوج‪ :‬نصفه للسلطة السياسية‬ ‫الشرعية‪-‬وأوكد الشرعية أي التي تمثل حقا ثقافة الأمة وليست العميلة للاستعمار‪-‬ثم‬ ‫مربع الأطراف أي الأسر ورجال الأعمال والتلاميذ من سن التعلم بالقرض والمعلمون بكل‬ ‫مستوياتهم في شركات خفية الاسم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والشيء الثابت أن هذه المنظومة التربوية ستحقق أهم دورين في كل منظومة ذاتية‬ ‫الرعاية والحماية‪ :‬فهي أولا ستسهم في تموين التكوين بمعنى أنها هي التي تنتج مضمون‬ ‫تكوينها ولا تستورده (الكتاب والتجهيزات العلمية والبرامج إلخ‪ )..‬ما يمكن أن يجعلها‬ ‫مصدرة لمنتوجها التربوي وليست موردة له‪.‬‬ ‫• والأمر الثاني وهو الأهم لن تكون التربية قطاعا غير منتج أو يقتصر إنتاجه على‬ ‫التكوين والتموين الذاتي بل ينبغي أن يصبح القطاع منتجا للكثير من الأشياء وخاصة‬ ‫للبراءات التي تطور الانتاج المادي والإنتاج الرمزي في الجماعة‪ .‬وذلك بالبحث العلمي‬ ‫الأساسي والتطبيقي كما في الجامعات الأمريكية خاصة‪.‬‬ ‫فمثلما أن المؤسسات الاقتصادية الكبرى لها مشاركة في الإبداع العلمي فكذلك ينبغي أن‬ ‫يكون للمؤسسات التربوية مشاركة في الإنتاج الاقتصادي أيا كان الاختصاص‪ .‬ففي الأولى‬ ‫العمل المباشر من حيث هو تقني يحرك البحث الأساسي للإبداع وفي الثانية كذلك يكون‬ ‫البحث الأساسـي بقابلية التطبيق محركا للعمل المباشر‪ .‬فيتغاذى البحث الأساسي والبحث‬ ‫التطبيقي في نوعي المؤسسات‪.‬‬ ‫ولما كان ذلك يشمل العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة في مستوى النظر والعقد‬ ‫والعلاقة الأفقية بين الإنسان والإنسان فهو إذن شامل للتعمير (خاصة علوم الطبيعة)‬ ‫وللاستخلاف (خاصة علوم الإنسان)‪ .‬وعندئذ يمكن القول إن الامة قد تخلصت من تحريف‬ ‫رؤية الإسلام لهذين الوجهين من دور الإنسان‪.‬‬ ‫ولست غافلا على أن هذه المحاولة لن ترضى عنها لا اقول اليهود والنصارى بل أصحاب‬ ‫إيديولوجية الدولة الحاضنة والتعليم المجاني‪ .‬وأعلم أن كل الذين لا يريدون بالحق إلا‬ ‫الباطل فإنهم سيعتبرون ذلك ردة على حقوق مستقرة وأنها موقف رأسمالي إلخ‪ ...‬من‬ ‫الكلام الذي أنهى الكرامة باسم الكرامة‪.‬‬ ‫فلا يمكن لتعليم عقيم أن يحقق كرامة أحد‪ .‬ولا يمكن لتعليم صار لا يعتبر ضروريا في‬ ‫سلم الارتقاء الاجتماعي لأن الانتخاب في التعليم وفي العمل لا يعتمد عليه بل على الفساد‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والاستبداد لا يمكن أن يمكن أي أمة من النهوض والتحرر من التسول في الرعاية وفي‬ ‫الحماية ومن ثم التبعية لصاحبيهما‪.‬‬ ‫كما أني لست غافلا عن أن هذا الحل لن يجعل تونس مثلا دولة فتكون قادرة على البحث‬ ‫العلمي المحقق للرعاية والحماية لأن منتوجها القومي الخام لا يكفي حتى للبحث العلمي في‬ ‫مجال واحد من مجالات البحث العلمي الذي يحقق ذلك‪ .‬لكن هذه مسألة الحجوم المناسبة‬ ‫للعصر مسألة أخرى‪.‬‬ ‫وما ظل حجم \"الدول\" العربية كما حاليا ولم يفهم العرب ما فهمته أوروبا حتى تكون ندا‬ ‫لعماليق العصر فإن كل تكوين في بلادنا هو في الحقيقة إضاعة للوقت بالنسبة إلى العموم‬ ‫وتكوين لكوادر للدول الكبرى تهاجر إليهم بعد أن نكونهم لأنهم لن يجدوا ما يفعلونه‬ ‫بتكوينهم لدينا بسبب غياب شروط البحث‪ .‬فالبحث العلمي الاساسي له قاطرتان كلتاهما‬ ‫ليست في متناول الدول القزمة بمعايير عصرنا‪:‬‬ ‫• القاطرة الأولى هي الاقتصاديات ذات الحجم العالمي‪.‬‬ ‫• القاطرة الثانية غزو الفضاء وأسرار المادة والحياة‪.‬‬ ‫وكل ميزانية تونس مثلا لا تكفي للبحث حتى في الطب ناهيك عن البايولوجيا ومن ثم‬ ‫فلا يمكن أن يوجد بحث علمي جدي لأنه من دون هذين المجالين يكون عاجزا دون الشروط‬ ‫الدنيا وأقصى ما يمكن أن يسهم فيه هو التكوين \"الصحفي\" بقراءة النظريات في الكتب‬ ‫والذي يمكن من تخريج بعض الشباب ذوي المواهب والمعدين للتصدير للمجتمعات القادرة‬ ‫عليهما‪.‬‬ ‫لذلك فإذا صادف أن وجد بين شبابنا عباقرة وهم موجودون فهم بين خيارين‪ :‬إما أن‬ ‫يهاجروا ليجدوا موقعا في مراكز بحوث تمكن من ذلك أو يبقوا عندنا وأقصى ما يصلون إليه‬ ‫هو شرب قهوة في مكتب ليس فيه عمل بل فيه مجرد دوام للثرثرة والتنكيت الإيديولوجي‬ ‫ككل النخب العاطلة في جل بلاد العرب‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وقد حاولت سابقا لبيان دور ما وضعت له نظرية الاحياز التي تحدد الحجم المناسب لما‬ ‫يقبل اسم الدولة التي من شروط سيادتها أن تكون قادرة ليس على الأوتارسيا‪-‬الاكتفاء‬ ‫المطلق‪-‬لكن القادرة على رعاية ذاتها وحمايتها وهي في عصرنا ما صارت دول أوروبا تعتبر‬ ‫نفسها دونها منذ الحرب الثانية‪.‬‬ ‫لكن العرب لسوء الحظ صاروا أمة الغباء المطلق بعد أن جعلهم الإسلام أمة الدولة‬ ‫الكونية كل قبيلة فيها تدعي أنها دولة بل وتكذب على نفسها وعلى شعبها فتدعي أن وزير‬ ‫\"خارجيتها\" أو وزير \"دفاعها\" تحادث مع وزير خارجية أمريكا او الصين حول المحاور‬ ‫الاستراتيجية للأمن في العالم‪.‬‬ ‫لكن غفراء هذه \"المحميات\" لما يمرض حتى بالوعواشة سرعان ما تجده في مصحة ألمانية‬ ‫أو فرنسية أو خاصة أمريكية ليتعالج ويترك مستشفيات بلاده للعامة‪ .‬ففي بلاد كليات‬ ‫الطب فيها عمرها قرن ما يزال أنصاف اثريائها يتعالجون في الخارج ناهيك عن ناهبينها من‬ ‫حكامها وأمرائها وأزلامهم‪.‬‬ ‫أف وألف أف من قوم يزعمون أنهم أحفاد دولة الإسلام وأبطالها‪ .‬لما تنظر في صدور من‬ ‫يتصفون حتى بالماريشالية من جنس السيسي وليس وحده فأنت أمام الكاريكاتور في كل‬ ‫شيء‪ .‬وما كان لأي مسرح هزلي أن يضاهي في المسخرة ما عليه هذه الشعوب التي أذلها‬ ‫كلابها من أدعياء نخبها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫لا بد من خاتمة دقيقة حول المضمون المعرفي والخلقي والإطار المناسب لذلك لتكون التربية قاطرة‬ ‫للجماعة بوصفها تحقق في العمران والاجتماع ما تحققه الطبيعة والحياة في قيام النوع وبقائه‪ :‬فهي‬ ‫سر حياة التراث والثروة المتشارطين فكلاهما شرط الثاني وثمرة اللقاء الحي بين الجغرافيا‬ ‫والتاريخ‪.‬‬ ‫ومن ثم فالتربية هي المعمل الثاني لصنع الجماعة للأجيال التي تواصل بقاءها بما تستعد له من‬ ‫وظيفتي رعايتها وحمايتها‪ .‬والمعمل الأول هو الأسرة ولها وظيفة التكاثر أو تجديد الأجيال عضويا‬ ‫فتكون بذلك المؤسسة التي تغلب عليها الوراثة العضوية للزاد العضوي والمدرسة تغلب عليها الإرث‬ ‫الثقافي‪.‬‬ ‫ومثلما أن الوراثة العضوية والتراث الثقافي كلاهما ينقسم إلى وظيفته الخاصة التي لا يشاركه‬ ‫فيها أحد ووظيفة عامة يشاركه فيها بل ويغلب عليه فيها دور الجماعة والمجتمع‪.‬‬ ‫فالزاد العضوي للأسرة فيه الانجاب لكن الرعاية وإن كانت تمر بالأسرة فهي اجتماعية لأنها انتاج‬ ‫الجماعة وتقاسم العمل‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن الأسرة تختص في العضوي الخالص الذي يمر بالأم خاصة (على الأقل ‪ 27‬شهرا‬ ‫وهي المدة التي تجعل الطفل يبدأ التمكن من الكلام بلغة أهله‪ 9 :‬للحمل و‪ 9‬مضاعفة للرضاعة إن‬ ‫تمت) لكن شروط الغذاء والدواء كلها جماعية أي إن الإنتاج بالعمل المتقاسم في الجماعة هو الدي‬ ‫يقيم الأجيال ويبقي تواصلها النوع‪ .‬وهذا بين ولا يحتاج إلى مزيد شرح‪.‬‬ ‫وما أطلت فيه إلا لبيان الخطأ الذي تقع فيه التربية عندما يصبح دورها الثقافة العامة‬ ‫والإيديولوجيا‪ .‬فلكأن الأسرة تحولت إلى مصدر الغذاء والدواء بدلا من الاقتصار على التوريث‬ ‫العضوي والمرحلة الأولى من التغذية والعلاج الذي لا يمكن أن يقع إلا فيها أو ما يماثلها في الوظيفة‬ ‫(المحاضن)‪.‬‬ ‫ينبغي أن تكون المدرسة مثل الاسرة ضرورية لوظيفتها والباقي يعود إلى المجتمع والتعلم الذاتي‪.‬‬ ‫الثقافة العامة والخيارات القيمية هي ما يحصل عليه المتعلم بعد أن تكون المدرسة قد أعدته للتعلم‬ ‫الذاتي وكونته في وظيفتيه من حيث هو مشارك مقبل في نظام الإنتاج المادي والروحي للجماعة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫والمقصود بالإنتاج المادي هو الثروة أو شروط القيام العضوي للفرد والجماعة وهو مفهوم‬ ‫الاستعمار في الارض القرآني‪ .‬والمقصود بالإنتاج الثقافي العلوم وتطبيقاتها والفنون وتطبيقاتها أي‬ ‫شروط القيام الروحي للفرد والجماعة وهو مفهوم الاستخلاف‪ :‬موضوعا المقدمة العمران‬ ‫والاجتماع‪.‬‬ ‫ومثلما أن الأسرة بمجرد قيامها بوظيفة التوالد تواصل زاد الجماعة العضوي فتكون في آن وصلة‬ ‫بين كل الماضي العضوي وكل المستقبل العضوي لجماعتها فكذلك المدرسة بالتكوين في العلوم‬ ‫وتطبيقاتها وفي الفنون وتطبيقاتها تكون في آن وصلة بين كل الماضي الثقافي وكل المستقبل الثقافي‬ ‫لجماعتها‪.‬‬ ‫بل أكثر من ذلك وهذا بين في المدرسة أكثر مما هوبين في الأسرة‪ :‬كلتا المؤسستين تواصلان الزاد‬ ‫الثقافي والزاد العضوي للبشرية كلها لأن التورث العضوي والتوارث الثقافي لا يعترفان بالحدود‬ ‫السياسية والعرقية التي حتى لو لم يتم تجاوزها سلما فتجاوزها يحدث حربا حتى بالسبي الجماعي‬ ‫في الحروب‪.‬‬ ‫ولو أخذت أسرة تونسية اليوم وكان بالوسع متابعة شجرة النسب لوجدت دون شك فيها أن فلان‬ ‫الفلاني قد يكون في شجرته الفرنسي والعربي والأمازيغي والتركي والبيزنطي والوندالي‬ ‫والروماني والقرطاجني وهلم جرا إلى بداية الجنس البشري ثم سيتوالى الأمر بما سيحصل في‬ ‫المستقبل‪ .‬وكل ذلك في كيانه العضوي وفي كيانه الثقافي‪.‬‬ ‫وهنا نصل إلى الحقيقة الموجودة والحقيقة المنشودة في القرآن الكريم‪ .‬ففي النساء ‪ 1‬تقرير‬ ‫حقيقة موجودة وهي أن البشر أخوة لأنهم من نفس واحدة‪ .‬وفي الحجرات ‪ 13‬تذكير بحقيقة‬ ‫منشودة وهي أن البشر الأخوة شعوب وقبائل للتعارف معرفة ومعروفا متساوون ولا يتفاضلون إلا‬ ‫بالتقوى‪.‬‬ ‫ما أريد إذن تحديده مضمونا للتكوين االمتحرر من الثقافة العامة والخيارات الإيديولوجية التي‬ ‫يتعلمها الإنسان بذاته لما تكونه المدرسة في شروط التعلم الذاتي وتعده لوظيفتيه التعميرية‬ ‫والاستخلافية حتى لا يكون كلامي على تخفيف المضمون مجرد أماني بل هو أمر واجدب ولا بديل‬ ‫عنه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وهذا أمر لم يعد خيارا ولم يبق صعبا‪ .‬وهو لم يعد خيارا لأن الحشو مهما بالغنا فيه لا يمكن أن‬ ‫يستوعب الثقافة العامة التي صارت الإنسانية ترزح تحت طوفانها إذ إن ما ينتجه الفكر الإنساني‬ ‫حاليا في يوم يتجاوز ما كان ينتجه في قرن‪ .‬وهو لم يعد عسيرا لتوفر أدوات التواصل والمعلومة‬ ‫والبحث للاطلاع‪.‬‬ ‫ولا ينبغي أن نثقل دور المدرسة بما هو من مهام مؤسسات أخرى‪ :‬فالتربية المدنية والدينية لا‬ ‫يحصل المرء عليهما بالكلام بل بالسلوك الفعلي‪ .‬يكفي أن تكون المدرسة هي بدروها خلية اجتماعية‬ ‫قائمة بكل مهام الجماعة حتى تحصل التربية المدنية والدينية فيها كما في خارجها‪ .‬فينبغي أن تتضمن‬ ‫المؤسسات التي تؤدي هذه الوظائف فتعلم تاريخ الأمة وعقائدها بوصفهما جزءا من الحياة العامة‬ ‫يطلبها الإنسان من حيث هو مشارك فيها وليس كمادة للتدريس‪.‬‬ ‫وما يسهل مهمتي في تحديد تعليم ما يغني عن تجاوز ما يجانس ما نسبته إلى الأسرة في التكوين‬ ‫العضوي‪ .‬يوجد في التكوين الثقافي ما يغني عن نفس النسبة في التكوين العضوي‪ .‬ومعنى ذلك ان‬ ‫الأسرة توصل الطفل من مرحلة الجنين إلى مرحة الاعتماد عن النفس في وظائفه العضوية وقيامه‬ ‫كذات مستقلة عضويا‪.‬‬ ‫فيكون السؤال‪ :‬ما المرحلة التي تجعل الشاب مستغنيا عن التعليم بالتلقي إلى التعليم بالبحث‬ ‫العلمي الذاتي في مجال اختصاص يحبه أو وجه إليه لأن المشرفين على التكوين وجدوا فيه ميولا‬ ‫وقدرات تؤهله لأن يكون فيه أقدر من مجالات اخرى ليس له المؤهلات التي تمكنه من يكون جهده‬ ‫فيها مثمرا حقا‪.‬‬ ‫لكن قبل ذلك يوجد ما هو شرط في أي اختصاص أي ما هو شرط التعلم سوء في مرحلة التلقي‬ ‫القصيرة أو مرحلة التعلم الذاتي‪ .‬وهنا لا بد من التذكير بالقسمة الشهيرة بين العلوم الغائية‬ ‫والعلوم الأداتية‪ .‬فالتعليم ينبغي أن يحسم مسألة العلوم الأداتية قبل التركيز على العلوم الغائية‪.‬‬ ‫والعلوم الأداتية خمسة وهي كونية بمعنى أنه كل البشر يشتركون فيها وهي تتعلم عفويا في‬ ‫الحياة العامة لكنها لا تصبح أداة للعلوم الغائية إلا بعد أن يصبح التمكن منها تمكنا هو بدوره وكأنه‬ ‫غاية أي إن تعلمها ينبغي أن يصبح نسقيا ونظاما لأن من لا يسيطر على الآلة والأداة يسيء‬ ‫استعمالها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫فما هي هذه العلوم الأدوات أو الوسائل التي من دونها لا يمكن تحصيل العلوم الغائية والتي هي‬ ‫علوم لا متناهية التعدد بحسب تعدد الاعمال التي تنتج عن تقسيم العمل في الجماعة المنتجة لما يسد‬ ‫حاجاتها المادية والروحية أي لما تحتاج إليه في التعمير وفي الاستخلاف (العمران والاجتماع‬ ‫خلدونيا)‪ .‬وإليك هذه العلوم الأدوات‪:‬‬ ‫‪ .1‬اللسان‬ ‫‪ .2‬المنطق‬ ‫‪ .3‬التاريخ‬ ‫‪ .4‬الرياضيات‬ ‫‪ .5‬أصل كل الأدوات أو حضور الذات لذاتها (الوعي بالذات وبما يحيط بها) ولعالمها المحيط‬ ‫بها ببعديه الطبيعي والتاريخي وبما بعديهما أو ما يسميه القرآن تبين الحقيقة من خلال رؤية آيات‬ ‫الله في الآفاق وفي الأنفس أو بكلمة بسيطة بصيرة الملاحظة لإدراك النظام في ما يجري للتخلص من‬ ‫الغرق فيه‪.‬‬ ‫وهذا الأصل هو الأصعب لأن الأربعة المتفرعة عنه قد تصحب حائلة دونه‪ .‬ولذلك اعتبرها ابن‬ ‫خلدون حجبا بمعنى أن الكثير من المتعلمين يغرق في الألفاظ أو في الأدلة أو في جمع عناصر المعطى‬ ‫(وهو معنى التاريخ كمنهج وليس تاريخ كذا أو كذا) أو في الحساب الفرضي ولا يلتفت إلى كيفيات‬ ‫الظهور‪.‬‬ ‫جل علوم الملة فاسدة لأنها أهملت هذا الأصل وتحولت إلى ثرثرة (شروح لفظية) وبزنطة‬ ‫(استجلال سوفسطائي حول الغيبيات) وخرافات (حول الأحداث دون تأكد من حدوثها) وإلى حساب‬ ‫من جنس التنجيم (وليس من جنس الفلك) وأخيرا إلى فقدان للبصيرة لتجاهل فصلت ‪.53‬‬ ‫ويكفي أن تسمع من يسمون كبار العلماء‪ .‬فتسمع ساردا لمحفوظات لفظية ومستدلا بـ\"قالت‬ ‫العلماء\" وذاكرا لأحداث لا شيء يثبتها إذ غالبها من الغيب المحجوب ومستعملا بعد الأرقام المهملة‬ ‫وأخيرا غافلا تماما عن \"الشيء\" الذي يتكلم عليه لأنه لم يفتح بصيرته ليرى مجراه ويلاحظه‬ ‫فيفهم ما فيه فعلا في الأعيان مكتفيا بما خزنه من محفوظات الأذهان من آراء فلان أو فلتان‪.‬‬ ‫وهنا يأتي الكلام على الإطار المدرسي‪ .‬لا ينبغي أن تكون المدرسة حتى بعد هذا التركيز على‬ ‫تعليم أدوات التعلم مقصورة على الفروع الأربعة بمعزل عن الاستعمال في الأعيان وخلال حضور‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫الشيء الذي يتعلق به الكلام والمنطق والتاريخ والرياضيات والملاحظة العينية‪ .‬لا بد من وجود‬ ‫الموضوع \"الشيء\"‪.‬‬ ‫والشيء ليس أمرا عاما غير قابل للتحديد الجامع المانع‪ .‬فهو أولا العلوم الأدوات نفسها بمعنى‬ ‫أن المتعلم يتعلمها كممارسة قبل أن يعود عليها كموضوع تنظير مثلا يتعلم اللغة كممارسة ثم يعود‬ ‫عليها ليفهم عللها النحوية والصرفية إلخ‪ ...‬من أنظمة للتمكن من اللغة وهي ليست علوما بل قواعد‬ ‫عملية‪ .‬والبقية موضوعات الاختصاص‪:‬‬ ‫• الأشياء الطبيعية‬ ‫• الأشياء التاريخية‬ ‫• أشياء علاقة التاريخ بالطبيعة أو التقنيات‬ ‫• أشياء علاقة الطبيعة بالتاريخ أو القيميات‬ ‫• أشياء ما وراء تلك الأشياء أي هي ما وراء الطبيعة وما وراء التاريخ وما وراء النظر والعقد‬ ‫وما وراء العمل والشرع‪.‬‬ ‫وكل واحد من هذه الأجناس الكبرى يتفرع إلى ما لا يكاد يتناهى من الأنواع بحسب تطور‬ ‫الجماعة والحضارة وهي تتحدد في الاختصاصات إما من حيث هي ممارسات عملية منتجة للأشياء أو‬ ‫من حيث هي ممارسات نظرية منتجة لنظرياتها ومناهجها‪ .‬تلكما هما وظيفة التكوين التربوي‪ .‬ما‬ ‫عداهما عبث‪.‬‬ ‫فكيف تتحدد ميول التلاميذ ليتم التوجيه إلى الاختصاصات؟‬ ‫لهذه المسالة علاقة مباشرة بالشكل الذي اقترحته للمدرسة‪ .‬فوظيفتها الاولى تعليم العلوم‬ ‫الأدوات الخمسة التي ذكرتها أي الاربعة في إطار الخامس أي ممارستها من خلال امثلة نموذجية‬ ‫بالمعاينة لا بالكلام عليها أي ملاحظتها خلال الممارسة‪ .‬وإذن‪:‬‬ ‫‪ .1‬فاللسان يتعلم بممارسة نصوص نموذجية مع وجوب استعمال الفصحى في التعليم‪.‬‬ ‫‪ .2‬والمنطق بممارسة حوار نموذجي فيه صور الحجاج خلال مناقشة وضعيات فعلية‪.‬‬ ‫‪ .3‬والتاريخ بجمع معطيات وضعيات نموذجية لأن ما يعني في التاريخ هو منهج جمع المعطيات‬ ‫والمعلومات وليس الموضوع أو المجال المدروس‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪35‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪ .4‬والرياضيات بصوغ منطقي لمعطيات معينة في وضعيات تقيس (الكم) وترتب (الكيف) أيا‬ ‫كان المجال الذي يراد صوغه رياضيا بإبداع بنية رمزية تحاكي علاقات فعلية في ظاهرة معينة‪.‬‬ ‫‪ .5‬وكل ذلك بإيقاظ دائم للملاحظة النسقية التي تجيب عن أسئلة نموذجية والاختبار‬ ‫النهائي هو القدرة على التعلم الذاتي‪.‬‬ ‫وهذه القدرة يقع اختبارها بالممارسة في نواد تطبيقية للتعلم الذاتي في الحرف والمهن الأساسية‬ ‫التي تتعلق بأهم الاختصاصات التي توجد في سوق العمل المادية(الاقتصاد) والرمزية (البحث‬ ‫لعلمي) والجامعة بينهما أي التطبيقات العلمية والاقتصادية وفيها تتحدد ميول الشباب لمدة كافية‬ ‫لتحديد الميول‪.‬‬ ‫وتخلو هذه المدة الكافية من أي امتحان يرتب التلاميذ بل يكفي وصف سلوك التلميذ التعلمي‬ ‫وتحديد مراكز اهتمامه التي تؤهله لما سيختاره من التخصصات‪ .‬وبعد ذلك يتم التوجيه في ضوء‬ ‫ملف كل تلميذ بذاته دون مقارنة بين التلاميذ حتى يختار كل واحد منهم ما يعتبر نفسه مؤهلا له‬ ‫وهو في الغالب يكون مبدعا في اختاره إذا تم ذلك بحرية دون فرض‪ .‬فتكون المرحلة الأولى مضاعفة‪:‬‬ ‫• واحدة لتعلم العلوم الأدوات وهي تعليم نسقي من خلال ممارسة كل واحد منها بنماذج من‬ ‫أفضل ما يوجد فيها لسانيا ومنطقيا وتاريخيا ورياضيا وإيقاظ الملاحظة الحية لأشياء تتعين فيها‬ ‫هذه العلوم الأداتية‪.‬‬ ‫• النوادي التي تتجلى فيها المؤهلات ولإبراز المواهب والميول وهي ليست خاضعة لبرامج مشتركة‬ ‫بين المتعلمين بل هي متروكة لهم يختارون منها ما يميلون إليه بكامل الحرية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪36‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪37‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook