أبو يعرب المرزوقي النظامية واللانظامية العربيتين الأسماء والبيان
المحتويات 1 -الفصل الأول 1 - -الفصل الثاني 8 - -الفصل الثالث 14 - -الفصل الرابع 20 - -الفصل الخامس 25 - خاتمة 31
-- لماذا يمكن الجزم بأن إصلاح التربية والتعليم في أي بلد عربي صار مستحيلا؟ وهو ليس الوحيد من حياتنا الجماعية على هذا الوضع الحائل .فمآزقه تراكمت لعلل كثيرة. وسأكتفي بالكلام عليهما في تونس. فالوضع لم يعد بالإمكان علاجه بدون عملية جراحية كبرى .لكن ذلك يقتضي التشخيص الأمين. وكل تشخيص أمين ينطلق من منظومة معايير تقاس بها الحالة كما في الطب مثلا حيث إن ما يريد تحديده هو حالة البدن بمعايير تتعلق بوظائفه والمعدلات التي تعتبر الصحة موجودة أو معدومة بمقتضى ما تحدده من هامش بين الأدنى والأقصى الذي يعتبر سليما وما دونه وما فوقه يتعبر دالا على خلل صحي. وكل وظائف المجتمعات ودولها خاصة -تسليما بأن لنا دولا لأنها عندنا محميات وليست دولا بسبب عدم توفر رمزي السيادة أي القدرة على الرعاية على الحماية الذاتيتين- تخضع لهذا النوع من التعيير المشروط في التشخيص. ويمكن رد هذه المعايير إلى جنسين: • نوع الإنسان المطلوب • بأدواره في الجماعة. والجنس الأول-نوع الإنسان المطلوب-أعسر تحديدا لأنه ينتسب إلى الأكسيولوجي. والجنس الثاني-وظائف الإنسان في الجماعة-أيسر لأنه ينتسب إلى الإبستمولوجي العام والمطبق على الوظائف التي يؤديها الفرد في الجماعة وهي على نوعين في نظام التبادل أو توزيع العمل وفي نظام التواصل شرط حكم الجماعة لذاتها. أبو يعرب المرزوقي 1 الأسماء والبيان
-- ومثلما أن الجنس الإبستمولوجي على نوعين فكذلك الجنس الأكسيولوجي على نوعين لأن الإبستمولوجي يتعلق بالشروط التقنية في النظر والعقد لعلاج العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة لسد حاجاته بالتبادل والأكسيولوجي يتعلق بالشروط القيمية في العمل والشرع لعلاقة الأفقية بين البشر بالتواصل. وبذلك فقد حددنا سلم المعايير التي تمكن من تحديد السوي وغير السوي في مسألة التربية والتعليم بوصفها بهدفين هما: تكون الإنسان بمعايير سأحاول بيانها وقد سماها ابن خلدون معاني الإنسانية وإعداده لوظائف في حياة الجماعة التي ترعى نفسها وتحميها سأحاول بيانها وهي شروط العيش المشترك .وتيسيرا لتحديد هذا السلم المحدد للمعايير التي تشبه معايير الصحة والخلل الذي يمكن تشخيصه فيها فيمكن الاقتصار على عنوان مقدمة ابن خلدون: .1شروط العمران .2شروط الاجتماع. فالأولى تساكن للتعاون في سد الحاجات :في الرعاية والحماية. والثانية تساكن للتواصل في الانس بالعشير :تعايش وأنس. وإذن خمسة معايير سنحاول تطبيقها لمعرفة الحالة الصحية لنظام التربية والتعليم في بلاد العرب عامة معتبرين تونس عينة منها: • هل يصلح معاني الإنسانية أم يفسدها في: • تحقيق شروط الرعاية • تحقيق شروط الحماية • تحقيق التعايش السلمي • تحقيق التآنس أم التناغص بين البشر. لا أعتقد أني بحاجة للجواب في الأسئلة الأربعة المتفرعة عن الاول. أبو يعرب المرزوقي 2 الأسماء والبيان
-- فالجميع يعترف بأن نظام التربية والتعليم لا يحقق شروط الرعاية (كل العرب متسولون بمن فيهم من يتصورون أنفسهم أغنياء من أصحاب الثروة الطبيعية) ولا شروط الحماية (كل اقطار العرب محميات) ولا شروط التعايش ولا أخيرا التآنس. لا أعتقد أنه يوجد عربي واحد إذا صدق نفسه القول يمكن أن يقول إن نظام التربية والتعليم في بلادنا يحقق شروط الرعاية والحماية الذاتيتين أو يحقق شروط التعايش السلمي في الجماعة أو خاصة شروط التآنس فيها بل ما نراه هو التسول في الرعاية وفي الحماية والتناحر والتناغص في كل بلاد العرب. وما يزعجني حقا هو التشخيص الساذج الذي يرد ذلك كله إلى النخبة السياسية وينسى أنها هي بدورها منتج هذا النظام التربوي والتعليمي الذي -وهنا يأتي دور ابن خلدون- صار مفسدا \"لمعاني الإنسانية\" في كل النخب الخمسة حتى وإن بدا المرض في النخبة السياسية خاصة بسبب ما لها من سلطان هو رمز الفساد. لكن التشخيص الذي أنوي عرضه يجعل \"السلطان\" الذي يفسد معاني الإنسانية ليس مقصورا على سلطان النخب السياسية بل هو موزع على النخب الاربعة الباقية :نخبة المعرفة ونخبة القدرة ونخبة الذوق ونخبة الرؤية الوجودية .وكلها مضاعفة مثل النخبة السياسية التي هي نوعان :حاكمة ومعارضة. • فنخبة المعرفة مضاعفة طبيعية وإنسانية • ونخبة القدرة مضاعفة مادية (الاقتصاد) ورمزية (الثقافة) • ونخبة الذوق مضاعفة (الفنون والملاهي) • ونخبة الرؤى مضاعفة (المنظور الديني والمنظور الفلسفي). وإذن فنحن أمام عشرة سلاطين كل واحد منها له سهم في الوضع المتردي لنظام التربية والتعليم. والسهم مضاعف :مباشر لأن لكل من هذه النخب دور في التربية والتعليم النظاميين (خلال حياة التمدرس) وله دور في المناخ العام الذي هو أيضا نظام تربوي غير نظامي هو أبو يعرب المرزوقي 3 الأسماء والبيان
-- نظام التبادل وتوزيع العمل ونظام التواصل وملء الوقت في ما عداه من الحياة المشتركة بين البشر أو أوقات \"الأنس\" بالعشير. وأفضل مثال يبين القصد بهذين القسطين من المسؤولية المباشرة غير المباشرة هو فساد نظام الانتخاب في التربية النظامية وفي التربية العامة .فالانتخاب في التعليم لا يعتمد على قدرات المتعلم وكفاءته بل صار محكوما بمعيار الوساطة والعلاقات المستفيد من الوضع المتردي للمعلمين والحط منهم. والأخطر منه هو فساد نظام الانتخاب في النظام التربوي اللانظامي أعني في التوظيف بعد التخرج .فهنا يغيب تماما دور القدرات والكفاءة ولا يبقى إلى دور الوساطة والجاه والسلطة التي لأصحاب الجاه ما يجعل التعليم النظامي وكأنه أمر لا فائدة منه ولا معنى له فضلا عن كون الشهادات مغشوشة. والمسألة في الحالتين ليست مسألة أخلاق بالمعنى العادي فحسب بل هي فساد نسقي لشروط التبادل ولشروط التواصل يؤديان إلى الفشل المطلق في علاج العلاقة العمودية بالطبيعة (مسألة ابستمولوجية تؤدي إلى الفشل المعرفي التقني :لا وجود للعلم وتطبيقه) :مناخ الخصاصة علة صراع سد الحاجات الأولية. والأهم من ذلك الفشل المطلق في علاج العلاقة الأفقية بين البشر (مسألة أكسولوجية تؤدي إلى الفشل الروحي والخلقي :لا وجود للتعارف وتطبيقه) :مناخ التنافس في الندرة الماحقة تؤدي إلى صراع المنازل في السلم الاجتماعي ليس بشروطه المشروعة بل بالتحيل والغش والخداع \"فساد معاني الإنسانية\". والحصيلة أنك لا يمكن أن تفهم ما يجري في مجتمعاتنا بالنظر إليه على أنه مجتمع إنساني يخضع للتاريخ الحضاري بل هو مجمع ما دون إنساني يخضع للتاريخ الطبيعي لكنه معكوس: في التاريخ الطبيعي إن سلمنا به وهو الظاهر يكون التغالب مفيدا للانتخاب الطبيعي لأنه خاضع لعوامل القوة العضوية. أبو يعرب المرزوقي 4 الأسماء والبيان
-- لكنه في المجتمع الإنساني دليل نكوص وليس تغالبا بما يتميز به الإنسان من قوة بل بما يتخلى عنه الإنسان من شروط قوته ـأي قدراته العقلية وصفاته الخلقية .فينعكس عنده سلم الانتخاب :في البايولوجيا سلم الانتخاب هو القوة الحيوية .ومن المفروض ان يكون عند الإنسان القوة العقلية والخلقية. لكن ما نصفه من فساد في النخب الخمسة المضاعفة يقلب العلاقة فيبعد هذه القوة ويعوضها بقوة السلطة في الإرادة حكما ومعارضة وفي المعرفة طبيعية وإنسانية وفي القدرة اقتصادا وثقافة وفي الذوق فنا ولهوا وفي الوجود دينا وفلسفة :كل ذلك يصبح مغشوشا بسبب \"فساد معاني الإنسانية\". وداهية الدواهي هي أن الأطراف الخمسة المتدخلة في التربية النظامية كلها دون استثناء مشاركة في هذا الإفساد النسقي بل وتدفع من اجله الاموال حتى يبقى ساري المفعول. فالأطراف الخمسة هي: • 1و 2المتعلم والمعلم • 3و 4أهل المتعلم والمحتاجون للمتعلم أو رجال الاعمال • .5الدولة. وكل هؤلاء يسهمون في إفساد التربية بمستوييها: • التكوين العلمي أولا بعدم إيلاء أهمية لـأمانة التكوين الحقيقي في العلم بحد ذاته والكفاءة المترتبة عليه. • والتكوين الخلقي بعدم إيلاء أهمية لعدل الانتخاب والترتيب العادل للمتعلمين بحسب المؤهلات والكفاء الفعلية. ولأبدأ بالواضح والبين :الأولياء ورجال الأعمال. فالولي الذي يدفع المال لينجح أبنه دون أن يعنيه تكوينه السليم هل يسهم في الغش أم لا؟ ورجل الأعمال الذي يوظف بالوساطة ولا تعنيه الكفاءة هل يسهم في الغش أم لا؟ أبو يعرب المرزوقي 5 الأسماء والبيان
-- ثم الدولة التي تغض الطرف عن ذلك هل تسهم في الغش أم لا؟ ولنأت الآن إلى الطرفين اللذين من المفروض أن يكونا منزهين عن الغش. فالمتعلم حتى لو لم كن يطلب التكوين السليم لذاته فمن المفروض أن يطلبه لأنه شرط نجاحه في معترك الحياة. لكن لما يعلم أنه لم يعد شرطا فإنه يصبح مسهما بقصد في الغش نعم في غش نفسه بأن ينجح حتى بالغش في الامتحان. والمعلم من المفروض أن يكون أمينا ونزيها حتى بسبب احترامه لنفسه .لكن احترام النفس لا يمكن أن يصمد أمام مجتمع لا يحترم إلا النجاح المادي ويهزأ ممن يتكلم على النجاح الخلقي بل يعتبر المتمسكين به سذجا ويحتقرهم .فإذا أضفنا الوضعية المادية المزرية فقد نفهم ما يدفع إلى نفس الخلل. وللمعلم وظيفة ثانية أهم حتى من التعليم :إنها وظيفة الانتخاب. فكما بينت في محاولة الانتخاب يصعب التعليم اكتشاف المواهب وترتيب المتعلمين بمقتضى سلم يكون فيه المعلم حكما .والحكم اشترط فيه القرآن شرطين (النساء :)58الأمانة والعدل. وغالبا ما يتعلق الفساد الخلقي في وظيفة الانتخاب بهذين الوجهين من وظيفة التعليم فضلا عن الخلل العلمي والمنهجي اللذين يمكن إصلاحهما بسهولة. لكن الأمانة للقيم الانتخابية والعدل في الترتيب في السلم الناتج عنها هما مناط الصلاح والفساد في التعليم وخاصة في نتائجه لاحقا عندما ينتقل المتعلم من مرحلة التحصيل إلى دوره في الجماعة من خلال تقسيم العمل والمحل الذي سيشغله فيه .وغالب نكبات الأمة في الانتاجين المادي والثقافي وفي القيام عليهما عندما يكون المرء مكلفا بإدارتهما والسهر عليهما سواء في مسؤولية مباشرة او في مسؤولة على المسؤولية المباشرة (السياسة) تضيف فساد الانتخاب الثاني في العمل بعد فساد الانتخاب في التكوين. أبو يعرب المرزوقي 6 الأسماء والبيان
-- بعد هذا التشخيص الذي حرصت فيه على الأمانة والصدق والذهاب بالأمر إلى غايته دون الخجل من بيان ما عليه حال التربية في بلاد العرب ولا اظن ما وصفت في تونس هو الأسوأ فاعتقد -نظرا إلى ما رايته في مصر وما سمعت عنه في الخليج-أن الوضع في تونس هو \"مما يختار من الهم\" (مثل تونسي). أبو يعرب المرزوقي 7 الأسماء والبيان
-- أنهيت الفصل الأول بما يشبه الاعتذار للجميع: • اعتبرت تونس من جنس \"ثم في الهم ما تختار\" بالقياس إلى بقية العرب • واعتبرت المعلم معذورا بالقياس إلى وضعه • واعتبرت التلميذ معذورا باعتبار عدم الحاجة للتكوين السليم • واعتبرت الأسرة معذورة خوفا على المستقبل • واعتبرت رب العمل معذورا لأنه تابع. ألست بذلك وكأني أقصر المسؤولية على من بيده السلطة السياسية فأكون قد برهنت على عكس ما أردت البرهان عليه؟ في الحقيقة ليس ذلك ما ينبغي استنتاجه بل هو النكوص الذي يعبر عنه هذا الاعتذار الذي قلته بوصفي ناطقا بلسانهم تعبيرا عن النكوص إلى منطق التاريخ الطبيعي :التكيف مع الموجود. فاعتباري تونس ينطبق عليها مثال في \"الهم ثم ما تـختار\" بالقياس إلى بقية العرب حصرا للمسألة في المقارنة بمن يعتبرهم التونسي دونه في المسألة التربوية -وهو اعتبار فضلا عن عدم صحته -فإنه حتى بهذه الصفة لن يزيل المشكل التونسي ولا يفيد أن العرب الآخرين حتى لو كانوا أفضل هم بخير لأن الداء عام حقا. وما أظنني بحاجة إلى الدليل .فالعناوين التي قد تجعل البلد العربي الفلاني على رأس القائمة العربية لا تعني شيئا لأن الأول بين الفشلة ليس ناجحا علما وأن تقدمه على البقية ليس لنجاح في التكوين بل في إمكاناته والغش الأكبر فيه .فاعتبار عمل الورادين وكأنه عمل أهل البلد خدعة لا تنطلي. أبو يعرب المرزوقي 8 الأسماء والبيان
-- ومن السخف معاملة التربية مثل الرياضة :تشتري اللاعبين في كرة القدم ممكن وقد يقبل لكن الكفاءات التي تسير الأوطان وتنتج ما يسد الحاجات المادية والروحية لا يمكن أن يستعاض عنها بشرائها وخاصة بتواطؤ خطير بين باعة الشهادات وشراتها. مثال ذلك إذا سمعت بأن الجماعة الفلانية -في السعودية مثلا-أنها مذكورة في ترتيب الجامعات الكبرى فاعلم أن ذلك لا يدل على حقيقة سعودية أو عربية بل على وجود متعاونين أجانب ينشرون باسمها أو بالاشتراك مع بعض أبناء البلد وخاصة في البلدان التي لأهلها القدرة على شراء الشهادات. ولست أعرض بأي بلد عربي فقد بدأت ببلدي .فما تزال تونس بعد خمس وسبعين سنة من التغريب الاستعماري وما يقرب منها بعد الاستقلال متخلفة في البحث العلمي وفي التربية إلى حد جعل \"التكيف\" الاسمي مع هذا الواقع المتردي يحول دون تحقيق شروط النظام التربوي المحرر بحق للجماعة في الرعاية والحماية. ما زالت تونس مثلها مثل بقية العرب تستورد من الابرة إلى المنشار ومن الأنسولين إلى الفيتامين بحيث إنها ليس لها من التحديث الموهوم إلى بروباغندا التقدم المزعوم. والعلاقة القاطعة أن أثرياءها وحكامها لا يتداوون فيها وحتى في مصحاتها الأرقى ناهيك عن نظامها الصحي المتردي الأشبه بالمسالخ. ففي خلال السنة الوحيدة التي كنت فيها وزيرا مستشارا لدى رئيس حكومة الثورة الأولى مسؤولا عن ملف التربية اكتشفت أن حال العمران المدرسي في تونس أشبه بمراحيض المقاهي والبارات ذات المستوى المتدني واكتشفت أن ميزانية التربية كلها رغم تقدمها على الوزارات الأخرى لا تكفي لعمران مدرسي لائق. وليس هذا هو البعد الأول من العامل الأول من الخلل البنيوي في النظام التربوي أعني من منزلة التكوين والبحث في ثقافتنا والوعي بعلاقتهما في حل مشكل الرعاية والحماية شرطي السيادة لأن البعد الثاني هو منزلة المعلم عامة .فهو في وضع مزر لا يتخيله عاقل لأن أجره لا يمكن أن يحصنه ضد \"المسكنة\" شبه الحتمية. أبو يعرب المرزوقي 9 الأسماء والبيان
-- المعلمون بكل مستوياتهم من الروضة إلى الجامعة \"مساكين\" .ولذلك فأغلبهم صاروا توابع لذوي الجاه يستخدمونهم في غير ما هم معدون له ومن ثم فوظائفهم النبيلة جعلت أدنى شيء يمكن أن يكون علة لحياة محترمة فجعلوا من ضرورات بقائهم أحد أمرين: .1خدمة النظام وإهانة التعليم .2أو استغلال المتعلم. هذا هو الداء الأول :تمويل التكوين الذي يمكن من علاج العلاقتين العمودية (العلاقة بالطبيعة) والأفقية (العلاقة بالتاريخ) شبه مستحيل سواء في ما يتعلق بالتجهيز العمراني والأدواتي في البحث العلمي والتقني أو في تحقيق كرامة المعلم من الروضة إلى الجامعة. فما هو الداء الثاني الآن؟ إذا كان الداء الأول اقتصاديا فالداء الثاني ثقافي: ما يزال التعليم عند العرب معتمدا على ثقافة ذات غايتين كلتاهما تقضيان على كل تكوين هادف لتحقيق شروط الرعاية والحماية أعني لمقومي السيادة في أ ي أمة لها وعي بمنزلتها في التاريخ الإنساني: • الثقافة العامة • والوظيفة الإيديولوجية للمدرسة. فخذ مضامين التعليم في أي بلد عربي وستجد أنك لو تحررت من هذين العاملين العقيمين لاستطعت أن تتخلص من أكثر من 90في المائة من تكوين الإنسان أولا ومن إعداده لوظيفتيه من حيث هو ذو سهم في توزيع العمل المنتج لسد الحاجات المشروط بالتعاون والتبادل وفي التعارف المشروط بالتواصل والتآنس. فالمدرسة تسهم في تكوين الإنسان عامة إذا صارت جماعة إنسانية بكل معاني الكلمة بمعنى أنها تصبح حياة الجماعة في شكل مصغر أهله يقومون بكل الوظائف التي تجعله قائم على نفسه وليس مجرد \"ثكنة\" لتلقي الدروس فتكون المدرسة شبه دولة مصغرة فيها كل وظائف المجتمع ويقوم بها أهلها. أبو يعرب المرزوقي 10 الأسماء والبيان
-- وهي تكون الإنسان من حيث إعداده ليكون ذا دور في توزيع العمل في الجماعة الكبرى فتكون هذه الأدوار هي الاختصاصات التي تعد المؤسسة التعليمية طلبتها إليها خلال حياتهم المدرسية التي هي حياة كاملة وليس لتعلم الاختصاص فسحب بل لتعلم الحياة كلها بالممارسة فيكون خدما لأنفسهم فيها. لا معنى لإعداد الإنسان إلى الحياة عامة وإلى سهمه في توزيع العمل بعد التخرج خاصة إذا لم يكن ذلك خلال ممارسة الحياة كاملة في المدرسة أولا كإنسان وثانيا كمتعلم يستعد لدور في تقسيم العمل بعد التخرج .المدرسة ينبغي أن تتغير لتصبح عينا مصغرة من الجماعة ككل فلا تبقى للتلقي القولي. وما يتعلم ينبغي أن نميز فيه بين أمرين :ما يتعلم من أدوات التعلم وما لا يحتاج إلى تعليه بعد الحصول على أدوات التعلم لأنه يصبح مما يتعلم بالتعلم الذاتي .وهذا يقتضي أن تصبح المدرسة في آن مكتبة ومتحف طبيعي وحضاري ومكتبات مختصة وتجهيزات البحث العلمي كلها بحسب الاختصاصات. وليس ذلك لأن المسلمين كانت لهم هذه المؤسسات التي أتكلم عليها بل لأن المدرسة في ذلك الوقت كانت المجتمع كله في أعيان منه هي القبائل العربية التي تخرج منها قادة كبار في كل مجالات الحياة الخمسة: • في السياسة التي تعبر عن الكلي في إرادة الأمة. • وفي المعرفة التي تعبر عن الكلي في خبرة الأمة (معرفة العصر) • وفي الاقتصاد الذي يعبر عن الكلي في سد الأمة لحاجاتها المادية. • وفي الثقافة التي تعبر عن الكلي في سد الأمة لحاجاتها الروحية. • وفي الفنون التي تعبر عن الكلي في ذوق الأمة • وفي الرؤى التي تعبر عن الكلي في خيارات الأمة الوجودية. وهذا الأصناف من الكليات لا يمكن أن تكون عفوية وإلا فلا معنى للتكوين والتموين خلاله :لذلك فقد اعتبر أفلاطون أن \"وزارة\" التربية أهم حتى من رئاسة الدولة .ومن ثم أبو يعرب المرزوقي 11 الأسماء والبيان
-- فإذا كان يشترط في ترؤس الدولة الفلسفة-وهو يعني المعرفة الكلية في النظر والعقد وفي العمل والشرع -فمن باب أولى أن يشترط ذلك في من يعتبره أهم من رئيس الدولة. لكنك تجد التربية في بلاد العرب مهملة تماما لأنه ليس الوزير وحده لا علاقة له بهذه الكليات الخمسة بل حتى المصالح التي تختص في البرمجة وفي التفقد وفي التنظيم التكويني والتمويني خاضعة لأدنى شروط التمكن منها .فما رأيت واحدا من المسؤولين على هذه المصالح عرف بشيء من البحث العلمي في مجال الاختصاص الذي تديره .كلها خاضعة لمعايير سياسوية وإيديولوجية. ولهذه العلة لم أجد حقا ما أفعله لما كلفت بالقطاع التربوي وزيرا مستشارا لرئيس الحكومة ففهمت أن التكليف كان ترضية رمزية ليس القصد منها أن أفعل شيئا بل أن أوهم بأني مكلف بأمر مهم عندي لكنه عند \"المسؤولين\" آخر اهتمامهم .ولعلهم معذورون فالأمر عام وليس خاصا بهم .وحتى لو أرادوا فعل شيء لاستحال ذلك بسبب العادات وخاصة بسبب استبداد النقابة بالأمر والاعتراض من المعارضات وحربها الإيديولوجية على كل من يريد أن يحرر التكوين من الثقافة العامة والايديولوجيا :ذلك أن الثقافة العامة تابعة للخيار الأيديولوجي في الحرب الاهلية التي تعتبر التربية فيها أحد أسلحة كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث. ولأزد الداء الثاني شرحا فهو أخطر حتى من الداء الاقتصادي لأنه هو الذي يفاقمه. فالحشو الناتج عن الثقافة العامة وخاصة عن الوظيفة الأيديولوجية للمدرسة العربية هو الذي يجعل التعليم لمدة عشرين سنة على الأقل قابلا لأن يلخص في أقل من نصفها لو تحررنا من الحشو الناتج عنهما كما أبين. ولأبدأ بالوظيفة الإيديولوجية :فالمدرسة العربية ورثت عن المدرسة الإسلامية التقليدية ثقافة اللغو مما يسمى علوم الملة الغائية والأداتية وورثت الصراع بين الحداثة والأصالة من المدرسة الفرنسية التي تدعي الثورة على الدين .وهذا هو جوهر ما يسمى بالمدرسة الجمهورية في الرؤية اليعقوبية. أبو يعرب المرزوقي 12 الأسماء والبيان
-- ولا يكفي أنه يفسد تحصل أي من الثقافيتين لا التأصيلية ولا التحديثية بما ينتج عنه من صراع عقيم بينهما وبين الطلبة -ولك مثال في جيل النكبة الذي يفسر ما عليه تونس اليوم من صراع الهوية-فإن يؤدي إلى تنافس نوعين من الحشو في ما سميته الثقافة العامة والخيارات الإيديولوجية اللتين يكون التكوين بهما \"كمن يغذي المتعلمين بالتبن\". ولما تعلم أن كلا النوعين من الحشو مضاعف في المدارس العربية لأنه يتألف من ثقافتين عامتين ومن خيارين إيديولوجيين كلاهما لا يبني شيئا إيجابيا في حقيقة الأمر بل همه الأول والأخير هو الحرب على الثاني فهمت مآل المنظومة التكوينية ومضمونها التمويني وعلل التخلف في التأصيل والتحديث في آن :حرب بين كاريكاتورين مما يزعمان تمثيله. وبخلاف ما قد يتوهم الكثير فإن ذلك ليس خاصا بالمغاربة .فالمشارقة هم بدورهم تأثروا بالمدرسة اليعقوبية لأن مصر وخاصة باشواتها قبل الاستعمار الانجليزي صاروا يعتبرون البريستيج يستمد من الفرنسية ولأن بعثاتهم الأولى كانت لفرنسا فاستمرأوا سخافات الثقافة العامة والتنوير اليعقوبي المزعوم. وبهذا المعنى فالمدرسة العربية ضحية للكاريكاتورين كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث وكلاهما إيديولوجي ولا علاقة له بشرطي قيام الأمم: • علاج قضايا الرعاية • وعلاج قضايا الحماية فالرعاية والحماية هما ما من دونه لا يمكن للفرد ولا للجماعة أن يكونا قائمين بذاتيهما قادرين على الاستقلال من التبعية. فالكثير من الناس يعتقدون أن التبعية سياسية فحسب .صحيح أن الظاهر من التبعية هو الوجه السياسي وعلاماته البارزة على نوعين: • التبعية في الرعاية وعلامتها مد اليد .للمعونات -التسول-الغالب على \"فقراء\" العرب • والتبعية في الحماية وعلامتها مد اليد للحمايات-القواعد-الغالب على \"أغنيائهم\". أبو يعرب المرزوقي 13 الأسماء والبيان
-- لكن هل هذا المظهر السياسي -تسول المعونات وتسول الحمايات-سياسي بذاته؟ أم هو سياسي لأن ما كان يمكن أن يغني عنه من طبيعة أخرى هو ما نسبته إلى النخب الأربعة الباقية التي قبلت بأن تعتبر هذا الوضع السياسي حقيقة لا بد من التكيف معها وعدم البحث في عللها لعلاجها وهي من \"عندهم\"؟ من منا يصدق مع نفسه ولا يعترف بأن النخبة السياسية المعارضة لا تختلف عن النخبة السياسية الحاكمة إلا في مرحلة المعارضة؟ وأنها بمجرد أن تصبح حاكمة لا تتصرف إلا بالتكيف مع نفس الوضعية؟ ولنا في ذلك تجربتان: .1ثورات ما بعد نكبة فلسطين العسكرية أو حقيقة استكمال لنكبة سقوط الخلافة وتقسم جغرافيتها وعلامتها سايكس بيكو نتيجة هذه النكبة وشرط تلك. .2ثورات الربيع العربي أو ما بعد نكبة كل الاقطار العربية بـ\"الدولة\" القبلية والعسكرية (وهي في الحقيقة محميات وليست دولا) .فـمن يجهل ذلك؟ لكن هل النخب الاربع الباقية بصنفي كل واحدة منها بريئة من هذا \"التطبيع\" مع الوضع والتكيف معه بما يتطلبه من \"فساد معاني الإنسانية\" الخلدوني؟ هل يوجد ما هو أفسد من نخبة المعرفة بصنفيها عندنا؟ وقس علينا نخبة القدرة بصنفيها ونخبة الذوق بصنفيها ونخبة الوجود بصنفيها :التكيف مع الوضع. لا أحد يكون صادقا مع نفسه ويمكن أن يرى الاستبداد والفساد مقصورا على النخبة السياسية حاكمها معارضها بل إن ذلك عام وشامل لنخبة المعرفة ولنخبة القدرة ولنخبة الذوق ولنخبة الرؤية الوجودية. أبو يعرب المرزوقي 14 الأسماء والبيان
-- إنها ثقافة عامة نكصت بالإنسان إلى قانون التاريخ الطبيعي فيتكيف مع الموجود ولا يهتم بالمنشود. ولأذكر بما يعنيه ابن خلدون بفساد معاني الإنسان وطابعه النكوصي في كل مظاهر الحياة الإنسانية\" :ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم: .1سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل .2وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في=ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه .3وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا .4وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله وصار عيالا على غيره في ذلك .5بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد أسفل سافلين\" (المقدمة الباب 6الفصل .)40 ولا أعتقد أن أحدا يصدق نفسه يمكن أن يعتبر هذا الوصف الخلدوني قاصر وصف حال العرب اليوم في شيء يذكر :فلكأنه يعيش بيننا ويصف ما يجري في نكوصنا إلى منطق التاريخ الطبيعي في مجتمعاتنا. ونصل الآن إلى الداءين الأخطر من هذين الأولين واللذين أصبحا من علامات الفشل الأصلي لكل فشل: .1داء الدولة الحاضنة أعني في الحقيقة الدولة المستبدة بالأرزاق ومن ثم الحائلة دون شروط الحرية الفعلية للإنسان الذي يتحول إلى عالة على إدارة بيروقراطية تحول دون حيوية الجماعة المنتجة لشروط بقائها رعاية وحماية. .2وداء مجانية أهم بضاعة وخدمة في الجماعة لأنها هي الشارطة لكل ما عداها من البضائع والخدمات أعني بضاعة تكوين الإنسان عامة وتكوين المسهم في الانتاج المادي والروحي خاصة. أبو يعرب المرزوقي 15 الأسماء والبيان
-- وبعد هذين الداءين واستكمال المربع المرضي الذي تعاني منه الأمة أصل إلى الأصل الذي تترفع عنه هذا لا دواء الأربعة وهو عين ما آل إليه أمر الامة من انحطاط أعني انحراف الرؤية الدينية والفلسفية في مسارنا الحضاري بسبب الصراعين بين العلم والإيمان وبين القانون والأخلاق تحريفا للإسلام. فماذا تعني الدولة الحاضنة؟ بخلاف أوهام الكثير من أدعياء الشعبوية والحرية والتنوير الدولة الحاضنة هي بالضبط الدولة المستبدة والفاسدة لأنها تحول ما وظيفته تنظيم حماية الجماعة ورعايتها لذاتها إلى بديل من دور الجماعة الحرة يجعل بعضها مسيطرا عليها بدعوى حمايتها ورعايتها فتصبح جماعة عبيد لا أحرار. وسأضرب مثالين أحدهما عشته شخصيا والثاني نراه في ما حصل في الثورة السورية مثلا عندما تحولت إلى ما يشبه الحرب الأهلية بعد أن سيطر أمراء الحرب عليها فأفسدوها لأنها من دونهم كانت ستنتصر على النظام ومليشيات إيران وإيران وحتى على بوتين الذي أنقذهم من ثورة الشعب السوري. المثال الأول عشته شخصيا في التجربة التي سميت بتجربة التعاضد في تونس. فأنا من البادية ومن أسرة مزارعة .التعاضد كان تأميما متنكرا للأرض والزراعة .صار فرع قبيلتي عمالا عند الدولة ففسدت الزراعة صار الجميع تابعا للسلطة السياسية عامة والحزبية خاصة وفقدت الأشياء قيمها تماما .كنا أحرارا فصرنا عبيدا .كنا نستطيع ألا نحتاج إلى السوق لنعيش لأن كل أسرة كانت في الصيف تضمن أمرين: • غذاءها على الأقل لسنة مقبلة. • وبذور زراعتها في الفصل الزراعي المقبل. ولم يكن للدولة إلا دور واحد :حماية الناس والحقوق في الداخل وحماية الجماعة من الخارج وطبعا بتجنيد الشباب للأمن والدفاع. أبو يعرب المرزوقي 16 الأسماء والبيان
-- لكن الله لطف وتوقفت التجربة فكان فشل ما يسمى بالإصلاح الزراعي دليل نجاح الجماعة في التحرر من استبداد الدولة والمستبدين بها برعايتها. إلا أن توقفها لم ينه اعتماد العشب على الدولة في الرعاية وتجاوز دورها الحماية. فأصبح جل الشباب عاطلا لأنه ينتظر التوظيف من الدولة وأصبحت الأسر حتى في البادية محتاجة للسوق يوميا بحيث إنه لو حدث حرب مثلا لحصلت مجاعة بعد أسبوع. المثال الثاني من سوريا وهو أكثر تفاؤلا. من يكتفي بالمظاهر سيقول إن الحرب السورية وقعت في المدن الكبرى وأن الصمود جاء منها .وهذه كذبة تغطي عن أمر آخر أهم وأعمق .فلو لم تكن الارياف التي حافظت على شروط البقاء في الرعاية المستقلة عن الدولة لانهزمت الثورة السورية بعد أسبوع. لولا الأرياف واستقلالها الغذائي عن الدولة الحاضنة لاستحال على الشعب السوري الصمود ثمانية سنوات وطبعا هي لم تكف بدليل اللجوء والهجرة لكنها مكنت من شروط البقاء والصمود للثورة والثوار وخاصة لحاضنتها التي حققت غايتين :الاستقلال الغذائي لأسر الثوار -الغوطة مثلا-ومطاولة المقاومة. وليس معنى ذلك أني ضد التقدم والمدينة واحبذ حياة الارياف لكني أقصد أن المجتمع الاهلي هو الذي ينبغي أن ينتج ما يسد حاجاته ولا تتكفل الدولة بذلك لأنها تقع في خطأين هم سر نكبات الدول العربية في الاقتصاد: .1يصبح الاقتصاد مؤمما ويصبح المنتجون موظفين عقيمين. .2تبعية سد الحاجة للاستيراد صارت عامة في بلاد العرب. وأقوى الأمثلة هي الحالات المحيرة :حالة العراق وحالة الجزائر ناهيك عن حالة السودان. فهذه البلاد العربية الثلاثة تستورد حاجاتها الضرورية للحياة في حين أنها كبيرة وفيها الماء وسكانها ليسوا قليلا ولها من الثروات ما لا يقدر لو كان شعبها يعتمد على نفسه بدلا من دولة فاشلة تدعي الحضانة. أبو يعرب المرزوقي 17 الأسماء والبيان
-- ونأتي الآن إلى مجانية التعليم. هي حق يراد به باطل. أولا التعليم بين بفساده أنه لم يعد مجانيا لأن كل الأولياء يدفعون ما هو أكثر من عدم المجانية أعني كلفة الدروس الخصوصية .وهي فساد مضاعف :لأنها ليست استكمالا للتكوين في المدرسة الرسمية بل هي بديل منه وهي بديل فاسد لأنها رشوة الولي للمعلم للحصول على الدرجات وليس على التكوين المكمل لتكوين صار شبه مفقود في المنظومة التربوية الرسمية. وهو فاسد لأنه ليس للتكوين بل هو بنحو ما رشوة للحصول على العلامات وليس على التكوين .ذلك أن التكوين لا يمكن أن يحصل في الدروس الخصوصية إذا لم مكملة للدروس الرسمية .فإذا صارت تلك بديلا من هذه التي لم تعد تقوم بواجبها فمعنى ذلك أن المدرسة الرسمية ضياع وقت الخصوصية رشوة للإيهام. تلك هي الأدواء الفرعية الأربعة ذكرتها وحاولت تشخيص دلالتها ووصلتها بكل ما تعاني منه الأمة معاناة جمعها ابن خلدون في مفهوم \"فساد معاني الإنسانية\" وفي مفهوم \"العالة\". نحن أمة صارت عالة على غيرها لأنها لم تعد قادرة على تكوين الإنسان التكوين الذي يحقق شروط الرعاية والحماية الذاتيتين له ولأمته. والسؤال الآن هو لماذا اعتبرت ذلك ناتجا عن تحريف الإسلام الذي أدى إلى انحطاط الامة بسبب الصرع بين المتكلمين باسم الإيمان والمتكلمين باسم العلم في النظر والعقد (متكلمون وفلاسفة) وبسبب الصراع بين المتكلمين باسم الأخلاق والمتكلمين باسم القانون في العمل والشرع (فقهاء ومتصوفة)؟ بمعنى فلسفي -وهذا هو منظوري للأمر-لماذا اعتبر أصل الداء هو تحريف الإسلام من خلال تحريف رؤيته للنظر والعقد في مجال سيادة الإنسان على شروط مهمته الأولى أي الاستعمار في الارض ورؤيته للعمل والشرع في مجال سيادة الإنسان على شروط مهمته الثانية أي الاستخلاف فيها؟ أبو يعرب المرزوقي 18 الأسماء والبيان
-- كل من يدعي أن علوم الملة الخمسة وعلومها المساعدة أو علوم الأداة فيها يكذب إذا زعم أنها يمكن أن تعالج هذين الوجهين من وظيفة النظر والعقد لتعمير الأرض وسد الحاجات الأساسية لوجود الإنسان العضوي أو من وظيفة العمل والشرع للاستخلاف فيها وسد الحاجات الأساسية لوجود الإنسان الروحي. ولهذه العلة ما تزال الأمة تعيش إما على الثروات الطبيعية والزراعة البدائية-تدين باستخراجها وتحويلها إلى الاستعمار-أو إلى التبادل اللامتكافئ ببيع المواد الخام واستيراد ما بات ضروريا لحياة غير بدوية مع ذهنية بدوية لأن من ليس له ما بين الطبيعة والحضارة من أدوات لن يخرج من البداوة. أبو يعرب المرزوقي 19 الأسماء والبيان
-- وطبعا لا يمكن أن يكون فساد معاني الإنسانية الذي وصفه ابن خلدون في مسألة التربية مقصورا عليها ولذلك فهو قد اعتبره أيضا موجودا في الحكم. وعلل الوجود في الحالتين بنوع سلطة المربي وسلطة الحاكم. ونحن تكلمنا على تحريف الإسلام باعتباره أصلا لهذه الأدواء الأربعة :فكيف نفهم ذلك؟ سيعجب الكثير من قولي إني أبحث المسألة بمنظور فلسفي ثم أشخصها بكونها ناتجة عن تحريف للإسلام ألا أكون بذلك قد جعلتها دينية؟ طبعا من يعترض هذا الاعتراض يبدو محقا لكنه في الحقيقة ينطلق مما وصفته بالرؤية التي أدلجت دور الفكر ففرضت عليه الرؤية اليعقوبية الفاصلة بين الديني والفلسفي. فما حرف هو فلسفة الإسلام في التربية وفي الحكم وهي رؤية يمكن أن تصاغ دينيا ويمكن أن تصاغ فلسفيا لأن ما هو رؤية فيها هو تتحد فيه الفلسفة والدين أعني المهمتين اللتين تكلمت عليهما :الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها .وقد يخالف البعض في الثانية .لكنه خلافه لفظي وليس حقيقيا. فلا أتصور أنه يمكن أن يعتبر الإنسان مستعمرا في الأرض أي مطالبا بتعميرها مثل الحيوانات التي تستغلها ولا تعمرها بل هو حتما يعتقد -حتى وإن كان ملحدا-أن الإنسان في الأرض يطلب أمرين هما عين مفهوم الاستخلاف أي أن يكون حرا وسيدا وأن يجعل الغاية خيرة وليس مجرد الأكل أكل الأنعام. والفشل في تعمير الارض علته أبستمولوجية أولا أو تصور فاسد للنظر والعقد كان علة العجز دون التعمير وعدم تحقيق ما سميته ثورة نوح في تفسير سورة هود والفشل في الاستخلاف علته أكسيولوجية أو تصور فاسد للعمل والشرع كان علة العجز جون الاستخلاف وعدم تحقيق ما سمتيه ثورة موسى في تفسيرها. أبو يعرب المرزوقي 20 الأسماء والبيان
-- تراهم يكثرون من الكلام على نوح وينسون ما طلب منه ربه قبل أن يمتطي السفينة: أن يأخذ من كل زوجين اثنين ليعيد تكوين شروط الحياة .وهذه هي ثورته في تحرير الإنسان من الخضوع للضرورة الطبيعية فيستنبت شروط قيامه بعلمه وعمله في استئناف الحياة الإنسانية بعد الطوفان. وتراهم يثرثرون حول موسى ومعجزاته ولا بصيرة لهم في فهم طبيعة الثورة الثانية بعد الأولى التي كلف بها نوح .وحضور موسى ونوح الطاغي في القرآن لا يفهم دلالتها إلا من كان فاقدا للبصيرة. فهذه الثورة الثانية لها منزلة الثورة الاولى :بعد ثورة التعمير ثورة الاستخلاف أو الحرية السياسية. صحيح أن مفسدي الثورة الثانية أعادوا دين العجل الذي ما يزال مسيطرا على البشرية ببعديه :بمعدنه أصل الربا المادي أو سرقة المال (الذهب المستعار من المصريين) وبخواره أصل الربا الروحي أو خداع البشر بالإيديولوجيا .وكل تحريف للقرآن مصدره هذان الاصلان وخاصة في غياب الثورتين وثمراتهما للجهل بمفهومي الاستعمار والاستخلاف. إذن وقع تحريف أبستمولوجي لرؤية القرآن للنظر والعقد بسبب الصراع بين المتكلمين والفلاسفة حول العلاقة بين العلم والإيمان فأفسدوا العلم والإيمان .ووقع تحريف أكسيولوجي لرؤية القرآن للعمل والشرع بسبب الصراع بين الفقهاء والمتصوفة حول العلاقة بين القانون والأخلاق .فأفسدوا العمل والشرع. وفيم تمثل الفساد؟ في جعل النظر والعقد لا يطلب علاج العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة لسد حاجته بل يطلب ما وراء الطبيعة والإنسان ليقدم أساطير يتوهمها علما وهي في الحقيقة بمقتضى نص القرآن (آل عمار )7وهم بالإحاطة إما باسم وراثة النبي أو باسم العقل المحيط .وكلاهما كذبة. فلا النبي أدعى علم الغيب فيرثون منه ما يحررهم من آل عمران 7ولا العقل محيط فيجعل ما يسمونه علما عقليا اصلا والدين يرد إليه بالتأويل لأنهم يدعون الرسوخ في أبو يعرب المرزوقي 21 الأسماء والبيان
-- العلم الذي يمكنهم من أن يعطفوا علمهم على علم الله في آل عمران 7كما يفعل ابن رشد في مناهج الأدلة في عقائد الملة. وهذا هو الوجه الأول من التحريف الأبستمولوجي للرؤية القرآنية .ويترتب عليه أنهم تركوا ما أمر به القرآن واختاروا ما نهى عنه لينشغلوا به .فالقرآن بين أن الاحاطة ليست في متناول الإنسان وأن الغيب مفهوم حد يميز بين العلم الإنساني غير المحيط والعلم الإلهي المحيط :نفي نظرية المطابقة. ونفي نظرية المطابقة تحرر مطلق من أساس الفلسفة القديمة والتي تواصلت في العصر الوسيط بخلاف ما بين القرآن استحالته .وحتى القرآن فليس فيه علم بالغيب فيه إعلام بوجود الغيب لكن ليس فيه علم بما ليس بشاهد أبدا .لما أعلمك بوجود شيء دون أن أعطيك حقيقة مضمونه فليس ذلك علما به بل إعلام. أما ما أمر به القرآن -فصلت -53فهو أن نرى ما يرينا الله من آياته في الآفاق وفي الانفس لنتبين أن القرآن حق وهو ما يعني أن معرفة حقيقة القرآن ليست في التفسير اللفظي لآيات نصه بل في البحث العلمي لمعرفة قوانين الطبيعة والتاريخ في الأعيان (الآفاق) وفي الأذهان (الأنفس). وكلاهما آيات من عالم الشهادة وليس من عالم الغيب .وهما لا تعلمان إلا بالبحث العلمي في الطبيعة والتاريخ خارج أنفسنا ثم في أنفسنا لأننا نحن أيضا مؤلفون من طبيعة غالبة على أبداننا وتاريخ غالب على أرواحنا .كل ذلك أهملوه وتقاتلوا على تأويل المتشابه لزيغ في القلب ولابتغاء الفتنة. والزيغ في القلب وابتغاء الفتنة ليس من أجل ثمرة النظر والعقد في التعمير ولا من أجل العمل والشرع في الاستخلاف بل من أجل سلطة في التربية هي الوساطة وسلطة في الحكم هي الوصاية. والسلطتان في غياب العلم بما كان ينبغي أن يكون مجال سلطة الإنسان الحر والسيد هما علة \"فساد معاني الإنسانية\". أبو يعرب المرزوقي 22 الأسماء والبيان
-- لذلك فالمعركة بين المتكلم والفيلسوف ليست حول العلاقة بين الإيمان والعلم بل هي حول سلطة الوسيط وهي ليست وساطة بين الإنسان وربه فحسب بل هي تنافس بينهما من أجل سلطان يستمدانه من أرباب الأرض وليس من رب السماء بحجة أنهم يمكن أن يكونوا بها يدعونه منها وسطاء بين ذوي السلطان و\"العامة\" :المتكلم يجعل الدين والمتفلسف العقل لطلب سلطان على الإنسان ولفشلهما في جعله معمرا. وقد لا يكون ذلك جليا في الصراع بين المتكلم والفيلسوف لأنهما يبدوان وكأنهما يبحثان في النظر والعقد العاليين فيوهمان بأنهما ليسا طالبي سلطان على الإنسان بل معرفة الحقيقة لكن ذلك يتجلى من أول واقعة أي محنة ابن حنبل .لم يصارعهم بل رفض أن يصبح الحاكم بابا :تأسيس الكنسية في الإسلام. لكن ذلك لا يحتاج إلى دليل في معركة الفقهاء والمتصوفة .فليس مشكلهم العلاقة بين القانون والأخلاق لأن الفصل بينهما ليس فيهما بل في الحكم الذي قد يقرض قوانين غير خلقية .لكنهم هم جميعا ليسوا إلافي خدمة صاحب السلطان الذي يفرض ما ليس بقانون ولا بأخلاق بل هو إرادة المتغلب التي يبررونها. وبذلك فبوعي أو بغير وعي كان المتكلم والفيلسوف والفقيه والمتصوف جميعا-الشواذ عن ذلك قلة ولا يقاس عليهم-طلبي سلطة من سلطة لا علاقة لها بالإيمان ولا بالعقل ولا بالقانون ولا بالأخلاق لان هذه جميعا بمنظور القرآن رهن تحقيق شروط التعمير والاستخلاف وهم حالوا دون ذلك بتخريفهم. وبذلك يتبين للقارئ أن ما نراه الآن من صرع بين كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث ليس إلا مواصلة للمعركة بين المتكلم والفيلسوف وبين الفقيه والمتصوف حول شبيه الإيمان وشبيه العلم وشبيه القانون وشبيه الأخلاق ولا يوجد في أي من ذلك إلا الفشل في معناه الحقيقي أي التعمير والاستخلاف. ولست بحاجة لأن أثبت ذلك فهم بأنفسهم يعترفون بأنهم ورثة المتكلمين والفلاسفة والفقهاء والمتصوفة بمعنى أن كاريكاتور التحديث يدعي تجديد الاعتزال والرشدية أبو يعرب المرزوقي 23 الأسماء والبيان
-- وكاريكاتور التأصيل يدعي تديد الفقه والتصوف .كاريكاتور التحديث يشرب من النكوص إلى القول بالمطابقة ابستمولوجيا وأكسيولوجيا. وعندما تسمع الواحد منهم يتكلم على \"عقلانية\" الاعتزال والرشدية فلا يمكن إن كنت فاهما القصد بالعقلانية وخاصة النقدية إلا أن تموت ضحكا .ذلك أنه لم يعد أحد يعتقد أن العقل محيط في النظر والعقد وخاصة في العمل والشرع :خرافة التحسين والتقبيح العقليين من علامات الحمق لا العقل. فالقيم لا يمكن أن تتأسس على العقل إلا بمعنى العقل الذريعي أي العقل الذي يعتبر صاحبه القيم ناتجة عن حساب المنافع والمضار .وهـي إذن قيم الأخلاق النفعية الخـالصة. أو البديل الخلقي المؤسس على العقد الديني بمعنى الإيمان بأن الإنسان كائن حر فوق النفعيات ويؤمن بقيم متعالية لأنه يسلم بأن للكون شارعا حدد قيما فيها ما هو معلوم وفيها ما هو من الغيب يعمل بها لإيمان دون أن تكون منافية للعقل. أبو يعرب المرزوقي 24 الأسماء والبيان
-- وصلنا الآن إلى غاية البحث بعد أن حققنا أمرين مهمين: .1جبر الكسر بين الماضي والحاضر من خلال بيان التواصل في الأمراض التي تعاني منها التربية في حضارتنا .2والتخلص من كذبة أننا كنا مبدعين بأي من علوم الملة بل كنا نقتات على الصدف والموروث دون أبداع يذكر لأن علوم الملة كلها عقيم. ولن يستطيع أحد اتهامي بكوني أحقر من الحضارة الإسلامية إذ ليس يمكن لأحد أن يزايد علي في محبتها وخدمتها لأن التشخيص الخاطئ غش للأمة وليس غيرة عليها .لم ننحط بالصدفة لأن التحديات التي قد نعلل بها الانحطاط هي من جنس الهجوم الجرثومي الخارجي الذي لا يتغلب إلا بسبب ضعف المناعة. وتحقق جبر الكسر جبرا موجبا بالوصل بين طموحات المستقبل ورؤية الإسلام المتعقلة بالاستعمار في الارض والاستخلاف فيها .وهما مفهومان قرآنيان عليهما أسس ابن خلدون ثورته العلمية أي أول تأسيس للعلوم الإنسانية دون أن تكون الأخيرة مثلما أن تأسيس ارسطو لعلوم الطبيعة كان أولا وليس الأخير. فبات المطلوب واضحا :كيف نجعل نظامنا التربوي (طبعا شرطه نظمنا السياسي) محققا لشروط الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها .وللجواب عن هذا السؤال الملخص لكل عناصر المحاولة أبدأ الأن بتقدم العلاج بعد التشخيص والتعليل :قدمت بعد صورة المدرسة التي ينبغي تأسيسها وطبيعة التكوين المطلوب. والآن اعرض العلاج: • أولا التحرر من الدولة الحاضنة وإرجاع الإنتاج ا لمادي والرمزي للمجتمع الذي لا يمكن أن يكون حرا ما ظلت الدولة حاضنة وهو شرط لكنه لا بد أن ينتظر حتى يثمر إصلاح التعليم بالصورة المقترحة لتخفيفه وتحريره من داءيه الاكبرين: أبو يعرب المرزوقي 25 الأسماء والبيان
-- • الثقافة العامة • والتوظيف الإيديولوجي. وهذا التخفيف سيقلل من كلفته لأن جل الحشو فيه علته هذين الداءين. فمثلا في تونس عندنا حوالي 100ألف أستاذ ثانوي .وبهذا التخفيف يمكن أن ينزل عددهم إلى النصف .وطبعا لن يطرد النصف الثاني بل ينبغي التعامل معه بالحد منه من فوق ومن تحت :لا يعوض المتقاعدون حتى لا يبقى إلا نصف العدد الحالي ونأخذ نسبة مهمة للبحث والتوثيق في الاختصاصات .لكن الكلفة تبقى مع ذلك كبيرة لأن المقترح يقتضي أمرين كلاهما مكلف ومكلف جدا: فكلفة المدرسة كما صورتها مكلف جدا لكنه ثمرته رفيعة جدا. وكلفة كرامة المعلمين بكل مستوياتهم من الروضة إلى الجامعة مكلفة جدا لكن الثمرة أيضا رفيعة جدا. والثمرة في الحالة الأولى هي تغير نوعي في الثقافة العربية التي يمكن اعتبارها قاتلة للمواهب لأنها تجعل التكوين تلقينيا ولا تمكن من تجليها خلال التعلم الذاتي. وهي في الحالة الثانية كذلك تغير نوعي لأن حرفة التعليم تصبح جذابة للمؤهلين لاكتشاف المواهب وتنميتها بمجرد أن يصبح التعليم مجزيا ماديا ومحققا لشروط الكرامة والمنزلة في الجماعة فضلا عن ابعادهم عن الحاجة إلى ما هم مضطرون إليه حاليا مما لا يليق بالمربي. وهذه لا يمكن أن تبقى على كاهل الدولة التي لا ينبغي أن تبقى حاضنة ولكن التخلص من الوضع الراهن لا يتم إلا بالتدريج بحسب تحقق الـمشاركة الفعلية من الأطراف الأربعة الباقية .فمن هي الأطراف الأربعة الباقية: • الأسر التي تعلم أبناءها • اصحاب الأعمال الذين يحتاجون للخريجين • المتعلم أبو يعرب المرزوقي 26 الأسماء والبيان
-- • المعلم. كل هؤلاء ينبغي أن يسهموا في الجزء الخاص من التعليم .ويكون ذلك بإلغاء التعليم الخاص المحض والتعليم العام المحض فلا يبقى إلا تعليم نصف تمويله خاص ونصفه عام. فتكون المدرسة هي بدورها أحد أنواع الاستثمار الذي تموله الجماعة وهو استثمار مربح حتى بالمعنى الاقتصادي المباشر. فالأسر عليها أن تسهم بكلفة تعليم أبنائها على الأقل بالحد الذي تدفعه حاليا لواحد من الدروس الخصوصية وليس لها كلها .فهذا يحرر أبناءهم ويحفظ كرامة معلميهم .ورجال الأعمال عليهم ان يسهموا في تكلفة تكوين الكوادر الذين يحتاجون إليهم في أعمالهم إذا كانوا حقا يريدون إنتاجا حديثا شرطه البحث العملي والتكوين المهني ليكون عملا على علم وتخطيط وليس عملا ساذجا. والتلميذ في مستوى معين ينبغي أن يسهم في تعليمه ولو في شكل استدانة يسددها لما يتخرج فيرجع دينه للمنظومة التربية التي كونته ووفرت له دورا في الانتاج الذي هو مورد رزق الجميع. وتبقى الدولة التي عليها أن تدفع نصف الكلفة .وليكن النصف بقدر ما تدفعه حاليا سيتضاعف مستوى المدرسة والمعلم. فإذا فرضنا أن ذلك سيجعل المدرسة كما وصفت وسيضاعف أجر المعلم بعد تخفيف المضامين والتبكير في الاختصاص التكويني مع مراكز بحث في كل اختصاص دون المبالغة في الثقافة العامة ودون الحرب بين ثقافتين بحجة التأصيل وبحجة التحديث فإن عقدا واحدا قد يجعل المدرسة العربية على رأس الترتيب. وطبعا سيكون الإشراف الإداري والعلمي على المنظومة مزدوج :نصفه للسلطة السياسية الشرعية-وأوكد الشرعية أي التي تمثل حقا ثقافة الأمة وليست العميلة للاستعمار-ثم مربع الأطراف أي الأسر ورجال الأعمال والتلاميذ من سن التعلم بالقرض والمعلمون بكل مستوياتهم في شركات خفية الاسم. أبو يعرب المرزوقي 27 الأسماء والبيان
-- والشيء الثابت أن هذه المنظومة التربوية ستحقق أهم دورين في كل منظومة ذاتية الرعاية والحماية :فهي أولا ستسهم في تموين التكوين بمعنى أنها هي التي تنتج مضمون تكوينها ولا تستورده (الكتاب والتجهيزات العلمية والبرامج إلخ )..ما يمكن أن يجعلها مصدرة لمنتوجها التربوي وليست موردة له. • والأمر الثاني وهو الأهم لن تكون التربية قطاعا غير منتج أو يقتصر إنتاجه على التكوين والتموين الذاتي بل ينبغي أن يصبح القطاع منتجا للكثير من الأشياء وخاصة للبراءات التي تطور الانتاج المادي والإنتاج الرمزي في الجماعة .وذلك بالبحث العلمي الأساسي والتطبيقي كما في الجامعات الأمريكية خاصة. فمثلما أن المؤسسات الاقتصادية الكبرى لها مشاركة في الإبداع العلمي فكذلك ينبغي أن يكون للمؤسسات التربوية مشاركة في الإنتاج الاقتصادي أيا كان الاختصاص .ففي الأولى العمل المباشر من حيث هو تقني يحرك البحث الأساسي للإبداع وفي الثانية كذلك يكون البحث الأساسـي بقابلية التطبيق محركا للعمل المباشر .فيتغاذى البحث الأساسي والبحث التطبيقي في نوعي المؤسسات. ولما كان ذلك يشمل العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة في مستوى النظر والعقد والعلاقة الأفقية بين الإنسان والإنسان فهو إذن شامل للتعمير (خاصة علوم الطبيعة) وللاستخلاف (خاصة علوم الإنسان) .وعندئذ يمكن القول إن الامة قد تخلصت من تحريف رؤية الإسلام لهذين الوجهين من دور الإنسان. ولست غافلا على أن هذه المحاولة لن ترضى عنها لا اقول اليهود والنصارى بل أصحاب إيديولوجية الدولة الحاضنة والتعليم المجاني .وأعلم أن كل الذين لا يريدون بالحق إلا الباطل فإنهم سيعتبرون ذلك ردة على حقوق مستقرة وأنها موقف رأسمالي إلخ ...من الكلام الذي أنهى الكرامة باسم الكرامة. فلا يمكن لتعليم عقيم أن يحقق كرامة أحد .ولا يمكن لتعليم صار لا يعتبر ضروريا في سلم الارتقاء الاجتماعي لأن الانتخاب في التعليم وفي العمل لا يعتمد عليه بل على الفساد أبو يعرب المرزوقي 28 الأسماء والبيان
-- والاستبداد لا يمكن أن يمكن أي أمة من النهوض والتحرر من التسول في الرعاية وفي الحماية ومن ثم التبعية لصاحبيهما. كما أني لست غافلا عن أن هذا الحل لن يجعل تونس مثلا دولة فتكون قادرة على البحث العلمي المحقق للرعاية والحماية لأن منتوجها القومي الخام لا يكفي حتى للبحث العلمي في مجال واحد من مجالات البحث العلمي الذي يحقق ذلك .لكن هذه مسألة الحجوم المناسبة للعصر مسألة أخرى. وما ظل حجم \"الدول\" العربية كما حاليا ولم يفهم العرب ما فهمته أوروبا حتى تكون ندا لعماليق العصر فإن كل تكوين في بلادنا هو في الحقيقة إضاعة للوقت بالنسبة إلى العموم وتكوين لكوادر للدول الكبرى تهاجر إليهم بعد أن نكونهم لأنهم لن يجدوا ما يفعلونه بتكوينهم لدينا بسبب غياب شروط البحث .فالبحث العلمي الاساسي له قاطرتان كلتاهما ليست في متناول الدول القزمة بمعايير عصرنا: • القاطرة الأولى هي الاقتصاديات ذات الحجم العالمي. • القاطرة الثانية غزو الفضاء وأسرار المادة والحياة. وكل ميزانية تونس مثلا لا تكفي للبحث حتى في الطب ناهيك عن البايولوجيا ومن ثم فلا يمكن أن يوجد بحث علمي جدي لأنه من دون هذين المجالين يكون عاجزا دون الشروط الدنيا وأقصى ما يمكن أن يسهم فيه هو التكوين \"الصحفي\" بقراءة النظريات في الكتب والذي يمكن من تخريج بعض الشباب ذوي المواهب والمعدين للتصدير للمجتمعات القادرة عليهما. لذلك فإذا صادف أن وجد بين شبابنا عباقرة وهم موجودون فهم بين خيارين :إما أن يهاجروا ليجدوا موقعا في مراكز بحوث تمكن من ذلك أو يبقوا عندنا وأقصى ما يصلون إليه هو شرب قهوة في مكتب ليس فيه عمل بل فيه مجرد دوام للثرثرة والتنكيت الإيديولوجي ككل النخب العاطلة في جل بلاد العرب. أبو يعرب المرزوقي 29 الأسماء والبيان
-- وقد حاولت سابقا لبيان دور ما وضعت له نظرية الاحياز التي تحدد الحجم المناسب لما يقبل اسم الدولة التي من شروط سيادتها أن تكون قادرة ليس على الأوتارسيا-الاكتفاء المطلق-لكن القادرة على رعاية ذاتها وحمايتها وهي في عصرنا ما صارت دول أوروبا تعتبر نفسها دونها منذ الحرب الثانية. لكن العرب لسوء الحظ صاروا أمة الغباء المطلق بعد أن جعلهم الإسلام أمة الدولة الكونية كل قبيلة فيها تدعي أنها دولة بل وتكذب على نفسها وعلى شعبها فتدعي أن وزير \"خارجيتها\" أو وزير \"دفاعها\" تحادث مع وزير خارجية أمريكا او الصين حول المحاور الاستراتيجية للأمن في العالم. لكن غفراء هذه \"المحميات\" لما يمرض حتى بالوعواشة سرعان ما تجده في مصحة ألمانية أو فرنسية أو خاصة أمريكية ليتعالج ويترك مستشفيات بلاده للعامة .ففي بلاد كليات الطب فيها عمرها قرن ما يزال أنصاف اثريائها يتعالجون في الخارج ناهيك عن ناهبينها من حكامها وأمرائها وأزلامهم. أف وألف أف من قوم يزعمون أنهم أحفاد دولة الإسلام وأبطالها .لما تنظر في صدور من يتصفون حتى بالماريشالية من جنس السيسي وليس وحده فأنت أمام الكاريكاتور في كل شيء .وما كان لأي مسرح هزلي أن يضاهي في المسخرة ما عليه هذه الشعوب التي أذلها كلابها من أدعياء نخبها. أبو يعرب المرزوقي 30 الأسماء والبيان
لا بد من خاتمة دقيقة حول المضمون المعرفي والخلقي والإطار المناسب لذلك لتكون التربية قاطرة للجماعة بوصفها تحقق في العمران والاجتماع ما تحققه الطبيعة والحياة في قيام النوع وبقائه :فهي سر حياة التراث والثروة المتشارطين فكلاهما شرط الثاني وثمرة اللقاء الحي بين الجغرافيا والتاريخ. ومن ثم فالتربية هي المعمل الثاني لصنع الجماعة للأجيال التي تواصل بقاءها بما تستعد له من وظيفتي رعايتها وحمايتها .والمعمل الأول هو الأسرة ولها وظيفة التكاثر أو تجديد الأجيال عضويا فتكون بذلك المؤسسة التي تغلب عليها الوراثة العضوية للزاد العضوي والمدرسة تغلب عليها الإرث الثقافي. ومثلما أن الوراثة العضوية والتراث الثقافي كلاهما ينقسم إلى وظيفته الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد ووظيفة عامة يشاركه فيها بل ويغلب عليه فيها دور الجماعة والمجتمع. فالزاد العضوي للأسرة فيه الانجاب لكن الرعاية وإن كانت تمر بالأسرة فهي اجتماعية لأنها انتاج الجماعة وتقاسم العمل. ومعنى ذلك أن الأسرة تختص في العضوي الخالص الذي يمر بالأم خاصة (على الأقل 27شهرا وهي المدة التي تجعل الطفل يبدأ التمكن من الكلام بلغة أهله 9 :للحمل و 9مضاعفة للرضاعة إن تمت) لكن شروط الغذاء والدواء كلها جماعية أي إن الإنتاج بالعمل المتقاسم في الجماعة هو الدي يقيم الأجيال ويبقي تواصلها النوع .وهذا بين ولا يحتاج إلى مزيد شرح. وما أطلت فيه إلا لبيان الخطأ الذي تقع فيه التربية عندما يصبح دورها الثقافة العامة والإيديولوجيا .فلكأن الأسرة تحولت إلى مصدر الغذاء والدواء بدلا من الاقتصار على التوريث العضوي والمرحلة الأولى من التغذية والعلاج الذي لا يمكن أن يقع إلا فيها أو ما يماثلها في الوظيفة (المحاضن). ينبغي أن تكون المدرسة مثل الاسرة ضرورية لوظيفتها والباقي يعود إلى المجتمع والتعلم الذاتي. الثقافة العامة والخيارات القيمية هي ما يحصل عليه المتعلم بعد أن تكون المدرسة قد أعدته للتعلم الذاتي وكونته في وظيفتيه من حيث هو مشارك مقبل في نظام الإنتاج المادي والروحي للجماعة. أبو يعرب المرزوقي 31 الأسماء والبيان
والمقصود بالإنتاج المادي هو الثروة أو شروط القيام العضوي للفرد والجماعة وهو مفهوم الاستعمار في الارض القرآني .والمقصود بالإنتاج الثقافي العلوم وتطبيقاتها والفنون وتطبيقاتها أي شروط القيام الروحي للفرد والجماعة وهو مفهوم الاستخلاف :موضوعا المقدمة العمران والاجتماع. ومثلما أن الأسرة بمجرد قيامها بوظيفة التوالد تواصل زاد الجماعة العضوي فتكون في آن وصلة بين كل الماضي العضوي وكل المستقبل العضوي لجماعتها فكذلك المدرسة بالتكوين في العلوم وتطبيقاتها وفي الفنون وتطبيقاتها تكون في آن وصلة بين كل الماضي الثقافي وكل المستقبل الثقافي لجماعتها. بل أكثر من ذلك وهذا بين في المدرسة أكثر مما هوبين في الأسرة :كلتا المؤسستين تواصلان الزاد الثقافي والزاد العضوي للبشرية كلها لأن التورث العضوي والتوارث الثقافي لا يعترفان بالحدود السياسية والعرقية التي حتى لو لم يتم تجاوزها سلما فتجاوزها يحدث حربا حتى بالسبي الجماعي في الحروب. ولو أخذت أسرة تونسية اليوم وكان بالوسع متابعة شجرة النسب لوجدت دون شك فيها أن فلان الفلاني قد يكون في شجرته الفرنسي والعربي والأمازيغي والتركي والبيزنطي والوندالي والروماني والقرطاجني وهلم جرا إلى بداية الجنس البشري ثم سيتوالى الأمر بما سيحصل في المستقبل .وكل ذلك في كيانه العضوي وفي كيانه الثقافي. وهنا نصل إلى الحقيقة الموجودة والحقيقة المنشودة في القرآن الكريم .ففي النساء 1تقرير حقيقة موجودة وهي أن البشر أخوة لأنهم من نفس واحدة .وفي الحجرات 13تذكير بحقيقة منشودة وهي أن البشر الأخوة شعوب وقبائل للتعارف معرفة ومعروفا متساوون ولا يتفاضلون إلا بالتقوى. ما أريد إذن تحديده مضمونا للتكوين االمتحرر من الثقافة العامة والخيارات الإيديولوجية التي يتعلمها الإنسان بذاته لما تكونه المدرسة في شروط التعلم الذاتي وتعده لوظيفتيه التعميرية والاستخلافية حتى لا يكون كلامي على تخفيف المضمون مجرد أماني بل هو أمر واجدب ولا بديل عنه. أبو يعرب المرزوقي 32 الأسماء والبيان
وهذا أمر لم يعد خيارا ولم يبق صعبا .وهو لم يعد خيارا لأن الحشو مهما بالغنا فيه لا يمكن أن يستوعب الثقافة العامة التي صارت الإنسانية ترزح تحت طوفانها إذ إن ما ينتجه الفكر الإنساني حاليا في يوم يتجاوز ما كان ينتجه في قرن .وهو لم يعد عسيرا لتوفر أدوات التواصل والمعلومة والبحث للاطلاع. ولا ينبغي أن نثقل دور المدرسة بما هو من مهام مؤسسات أخرى :فالتربية المدنية والدينية لا يحصل المرء عليهما بالكلام بل بالسلوك الفعلي .يكفي أن تكون المدرسة هي بدروها خلية اجتماعية قائمة بكل مهام الجماعة حتى تحصل التربية المدنية والدينية فيها كما في خارجها .فينبغي أن تتضمن المؤسسات التي تؤدي هذه الوظائف فتعلم تاريخ الأمة وعقائدها بوصفهما جزءا من الحياة العامة يطلبها الإنسان من حيث هو مشارك فيها وليس كمادة للتدريس. وما يسهل مهمتي في تحديد تعليم ما يغني عن تجاوز ما يجانس ما نسبته إلى الأسرة في التكوين العضوي .يوجد في التكوين الثقافي ما يغني عن نفس النسبة في التكوين العضوي .ومعنى ذلك ان الأسرة توصل الطفل من مرحلة الجنين إلى مرحة الاعتماد عن النفس في وظائفه العضوية وقيامه كذات مستقلة عضويا. فيكون السؤال :ما المرحلة التي تجعل الشاب مستغنيا عن التعليم بالتلقي إلى التعليم بالبحث العلمي الذاتي في مجال اختصاص يحبه أو وجه إليه لأن المشرفين على التكوين وجدوا فيه ميولا وقدرات تؤهله لأن يكون فيه أقدر من مجالات اخرى ليس له المؤهلات التي تمكنه من يكون جهده فيها مثمرا حقا. لكن قبل ذلك يوجد ما هو شرط في أي اختصاص أي ما هو شرط التعلم سوء في مرحلة التلقي القصيرة أو مرحلة التعلم الذاتي .وهنا لا بد من التذكير بالقسمة الشهيرة بين العلوم الغائية والعلوم الأداتية .فالتعليم ينبغي أن يحسم مسألة العلوم الأداتية قبل التركيز على العلوم الغائية. والعلوم الأداتية خمسة وهي كونية بمعنى أنه كل البشر يشتركون فيها وهي تتعلم عفويا في الحياة العامة لكنها لا تصبح أداة للعلوم الغائية إلا بعد أن يصبح التمكن منها تمكنا هو بدوره وكأنه غاية أي إن تعلمها ينبغي أن يصبح نسقيا ونظاما لأن من لا يسيطر على الآلة والأداة يسيء استعمالها. أبو يعرب المرزوقي 33 الأسماء والبيان
فما هي هذه العلوم الأدوات أو الوسائل التي من دونها لا يمكن تحصيل العلوم الغائية والتي هي علوم لا متناهية التعدد بحسب تعدد الاعمال التي تنتج عن تقسيم العمل في الجماعة المنتجة لما يسد حاجاتها المادية والروحية أي لما تحتاج إليه في التعمير وفي الاستخلاف (العمران والاجتماع خلدونيا) .وإليك هذه العلوم الأدوات: .1اللسان .2المنطق .3التاريخ .4الرياضيات .5أصل كل الأدوات أو حضور الذات لذاتها (الوعي بالذات وبما يحيط بها) ولعالمها المحيط بها ببعديه الطبيعي والتاريخي وبما بعديهما أو ما يسميه القرآن تبين الحقيقة من خلال رؤية آيات الله في الآفاق وفي الأنفس أو بكلمة بسيطة بصيرة الملاحظة لإدراك النظام في ما يجري للتخلص من الغرق فيه. وهذا الأصل هو الأصعب لأن الأربعة المتفرعة عنه قد تصحب حائلة دونه .ولذلك اعتبرها ابن خلدون حجبا بمعنى أن الكثير من المتعلمين يغرق في الألفاظ أو في الأدلة أو في جمع عناصر المعطى (وهو معنى التاريخ كمنهج وليس تاريخ كذا أو كذا) أو في الحساب الفرضي ولا يلتفت إلى كيفيات الظهور. جل علوم الملة فاسدة لأنها أهملت هذا الأصل وتحولت إلى ثرثرة (شروح لفظية) وبزنطة (استجلال سوفسطائي حول الغيبيات) وخرافات (حول الأحداث دون تأكد من حدوثها) وإلى حساب من جنس التنجيم (وليس من جنس الفلك) وأخيرا إلى فقدان للبصيرة لتجاهل فصلت .53 ويكفي أن تسمع من يسمون كبار العلماء .فتسمع ساردا لمحفوظات لفظية ومستدلا بـ\"قالت العلماء\" وذاكرا لأحداث لا شيء يثبتها إذ غالبها من الغيب المحجوب ومستعملا بعد الأرقام المهملة وأخيرا غافلا تماما عن \"الشيء\" الذي يتكلم عليه لأنه لم يفتح بصيرته ليرى مجراه ويلاحظه فيفهم ما فيه فعلا في الأعيان مكتفيا بما خزنه من محفوظات الأذهان من آراء فلان أو فلتان. وهنا يأتي الكلام على الإطار المدرسي .لا ينبغي أن تكون المدرسة حتى بعد هذا التركيز على تعليم أدوات التعلم مقصورة على الفروع الأربعة بمعزل عن الاستعمال في الأعيان وخلال حضور أبو يعرب المرزوقي 34 الأسماء والبيان
الشيء الذي يتعلق به الكلام والمنطق والتاريخ والرياضيات والملاحظة العينية .لا بد من وجود الموضوع \"الشيء\". والشيء ليس أمرا عاما غير قابل للتحديد الجامع المانع .فهو أولا العلوم الأدوات نفسها بمعنى أن المتعلم يتعلمها كممارسة قبل أن يعود عليها كموضوع تنظير مثلا يتعلم اللغة كممارسة ثم يعود عليها ليفهم عللها النحوية والصرفية إلخ ...من أنظمة للتمكن من اللغة وهي ليست علوما بل قواعد عملية .والبقية موضوعات الاختصاص: • الأشياء الطبيعية • الأشياء التاريخية • أشياء علاقة التاريخ بالطبيعة أو التقنيات • أشياء علاقة الطبيعة بالتاريخ أو القيميات • أشياء ما وراء تلك الأشياء أي هي ما وراء الطبيعة وما وراء التاريخ وما وراء النظر والعقد وما وراء العمل والشرع. وكل واحد من هذه الأجناس الكبرى يتفرع إلى ما لا يكاد يتناهى من الأنواع بحسب تطور الجماعة والحضارة وهي تتحدد في الاختصاصات إما من حيث هي ممارسات عملية منتجة للأشياء أو من حيث هي ممارسات نظرية منتجة لنظرياتها ومناهجها .تلكما هما وظيفة التكوين التربوي .ما عداهما عبث. فكيف تتحدد ميول التلاميذ ليتم التوجيه إلى الاختصاصات؟ لهذه المسالة علاقة مباشرة بالشكل الذي اقترحته للمدرسة .فوظيفتها الاولى تعليم العلوم الأدوات الخمسة التي ذكرتها أي الاربعة في إطار الخامس أي ممارستها من خلال امثلة نموذجية بالمعاينة لا بالكلام عليها أي ملاحظتها خلال الممارسة .وإذن: .1فاللسان يتعلم بممارسة نصوص نموذجية مع وجوب استعمال الفصحى في التعليم. .2والمنطق بممارسة حوار نموذجي فيه صور الحجاج خلال مناقشة وضعيات فعلية. .3والتاريخ بجمع معطيات وضعيات نموذجية لأن ما يعني في التاريخ هو منهج جمع المعطيات والمعلومات وليس الموضوع أو المجال المدروس. أبو يعرب المرزوقي 35 الأسماء والبيان
.4والرياضيات بصوغ منطقي لمعطيات معينة في وضعيات تقيس (الكم) وترتب (الكيف) أيا كان المجال الذي يراد صوغه رياضيا بإبداع بنية رمزية تحاكي علاقات فعلية في ظاهرة معينة. .5وكل ذلك بإيقاظ دائم للملاحظة النسقية التي تجيب عن أسئلة نموذجية والاختبار النهائي هو القدرة على التعلم الذاتي. وهذه القدرة يقع اختبارها بالممارسة في نواد تطبيقية للتعلم الذاتي في الحرف والمهن الأساسية التي تتعلق بأهم الاختصاصات التي توجد في سوق العمل المادية(الاقتصاد) والرمزية (البحث لعلمي) والجامعة بينهما أي التطبيقات العلمية والاقتصادية وفيها تتحدد ميول الشباب لمدة كافية لتحديد الميول. وتخلو هذه المدة الكافية من أي امتحان يرتب التلاميذ بل يكفي وصف سلوك التلميذ التعلمي وتحديد مراكز اهتمامه التي تؤهله لما سيختاره من التخصصات .وبعد ذلك يتم التوجيه في ضوء ملف كل تلميذ بذاته دون مقارنة بين التلاميذ حتى يختار كل واحد منهم ما يعتبر نفسه مؤهلا له وهو في الغالب يكون مبدعا في اختاره إذا تم ذلك بحرية دون فرض .فتكون المرحلة الأولى مضاعفة: • واحدة لتعلم العلوم الأدوات وهي تعليم نسقي من خلال ممارسة كل واحد منها بنماذج من أفضل ما يوجد فيها لسانيا ومنطقيا وتاريخيا ورياضيا وإيقاظ الملاحظة الحية لأشياء تتعين فيها هذه العلوم الأداتية. • النوادي التي تتجلى فيها المؤهلات ولإبراز المواهب والميول وهي ليست خاضعة لبرامج مشتركة بين المتعلمين بل هي متروكة لهم يختارون منها ما يميلون إليه بكامل الحرية. أبو يعرب المرزوقي 36 الأسماء والبيان
أبو يعرب المرزوقي 37 الأسماء والبيان
Search
Read the Text Version
- 1 - 40
Pages: