Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore القرآن ومناظيره، الدين والديني وما بينهما – أبو يعرب المرزوقي

القرآن ومناظيره، الدين والديني وما بينهما – أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2018-09-18 17:13:59

Description: القرآن ومناظيره، الدين والديني وما بينهما – أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬‫القرآن ومناظيره‬‫الدين والديني وما بينهما‬ ‫الأسماء والبيان‬





‫المحتويات ‪2‬‬‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثاني ‪8 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثالث ‪14 -‬‬‫‪ -‬الفصل الرابع ‪20 -‬‬‫‪ -‬الفصل الخامس ‪26 -‬‬

‫‪--‬‬‫لن اعتبر نفسي قد فرغت من تعريف القرآن قبل أن أحدد بما أستطيع من دقة المستويات‬ ‫الخمسة لمناظير علاجه لموضوعه‪:‬‬ ‫‪ .1‬الدين‬ ‫‪ .2‬والديني‬ ‫‪ .3‬وما بعدهما‬ ‫‪ .4‬والعلاقة بين الدين والديني‬ ‫‪ .5‬والعلاقة بين الديني وما بعدهما‪.‬‬ ‫فهذه المناظير لم أجدها في أي كتاب منزلا كان أو غير منزل في حدود ما أعلم منهما‪.‬‬ ‫ولأبدأ فأعرف بإيجاز هذه المناظر‪:‬‬‫فالدين يتكلم عليه القرآن بالجمع مثلا في البقرة ‪ 62‬وآل عمران ‪ 79‬والحج ‪ 17‬وإذن‬‫فالدين متعدد بالجوهر وهو كل الأديان التي عرفتها البشرية لأن القرآن في الحج ‪ 17‬وضع‬‫ستة أصناف أولها ال ٌإيمان والاخير هو الشرك وبينها أربعة واعتبر الفصل بينها يوم الدين‪.‬‬ ‫والأربعة تنقسم إلى اثنين منزلين هما‪:‬‬ ‫• اليهودية‬ ‫• والنصرانية‬ ‫واثنين غير منزلين هما‪:‬‬ ‫• الصابئية‬ ‫• والمجوسية‪.‬‬ ‫والأول هو الإسلام والأخير هو الشرك‪.‬‬‫وإذن فالدين ليس واحدا‪ ،‬بل هو متعدد‪ ،‬ويمكن اعتبار هذا التصنيف جامعا مانعا لأنه‬ ‫ذهب إلى حد اعتبار الحدين الأقصيين‪ ،‬أي الإسلام والشرك‪ ،‬من عناصر المجموعة‪.‬‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫والقرآن لم يكتف بذكر هذا التعدد في الآيات التي ذكرت وقضى فيها بالإرجاء المطلق في‬ ‫آخرها قصرا على الفصل بينها ثم ذكر جزاء (الحج ‪ )17‬إرجاءين‪:‬‬‫• أحدهما في وعد بجزاء موجب وطمأنة بألا خوف عليهم ولا هم يحزنون (البقرة ‪)62‬‬ ‫• والثاني بالاكتفاء بالطمأنة دون كلام على جزاء موجب (آل عمران ‪.)69‬‬‫لم يكتف بذلك‪ ،‬بل اضاف في المائدة ‪ 48‬أن هذا التعدد مقصود لأنه شرط التسابق في‬ ‫الخيرات لعلتين‪:‬‬‫‪ .1‬فلا يمكن تصور الحرية الدينية من دون إمكانية الخيار وطلب الحقيقة أو تبين الرشد‬ ‫من الغي خلال المرور بالاختيار والمتعدد (البقرة ‪.)256‬‬ ‫‪ .2‬ولا معنى للجزاء عليه إذا لم يكن ثمرة لهذا المسعى‬‫فيكون الدين المتعدد الأرضية التي يتحدد من خلالها غاية لسعي حر يقوم به الإنسان‬ ‫حتى يدرك حقيقة الديني في الأديان‪.‬‬ ‫وهذا الديني هو إذن أصل وغاية‪.‬‬‫هو أصل لأنه لو لم يكن أصلا لاستحال أن يصبح غاية يسعى الإنسان إليها سعيا ليتحرر به‬ ‫مما تختلف به الأديان العينية عنه بأعراض تعرض لها فتفسده‪.‬‬‫• وهذا الأصل هو ما يسميه القرآن الفطرة أو شهادة الميثاق (الأعراف ‪ )173-172‬ثم‬‫ما يطرأ عليها من خسر أو فساد أحسن التقويم أي ما يسميه الدين عند الله (الإسلام)‪.‬‬‫• وهو الغاية التي هي التذكير الأخير والنقد النسقي والصريح بمعيار التصديق‬ ‫والهيمنة للأديان والغاية هي شروط الاستثناء من الخسر‪.‬‬ ‫وذلك هو ما تحدده سورة العصر‪:‬‬ ‫الديني في كل دين إذا سعى أصحابه إلى الحقيقة هو مضمون سورة العصر‪.‬‬ ‫وفيه خمسة شروط للاستثناء من الخسر‪:‬‬ ‫• الوعي بالخسر بداية للخروج منه‬ ‫• الإيمان (وبه تبدأ الآيات الثلاث المتعلقة بتعدد الأديان)‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫• العمل الصالح‬ ‫• التواصي بالحق‬ ‫• التواصي بالصبر‪.‬‬‫ولما كان يمكن أن يوجد فيها جميعا من هم صادقون ويبحثون عن الحقيقة وقد يترقون‬‫فيسبقون في الخيرات حتى يصلوا إلى الديني وكان علم ذلك عند الله وحده لأنه من‬ ‫السرائر‪ ،‬فإن احترام كل الأديان واجب على كل مسلم لأن تابعيهما ليسوا جميعا سواء‪.‬‬ ‫ولذلك فقد حفظت الأديان كلها في دولة الإسلام‪.‬‬ ‫ونصل إلى قلب المناظير الخمسة‪:‬‬ ‫رأينا الدين والديني ونصل الآن إلى ما بعدهما‪.‬‬‫فما كان يمكن للقرآن أن يفصل بين الدين والديني لو لم يكن ما بعدهما أي إنه ما بعد‬‫الدين وما بعد الديني مثل الوعي الذي يعود على صاحبه فيكون وعيا بالذات خلال الوعي‬ ‫بالغير‪ :‬نعي ما حولنا ونعي أننا نعيه‪.‬‬ ‫القرآن وعي بوعي الدين وبوعي الديني‪.‬‬‫وهو وعي ما بعدي‪ ،‬لكأن القرآن بكلامه على الدين وعلى الديني هو كلام على كلامهما‬ ‫درجة ثالثة من الكلام على الحياة الروحية‪.‬‬ ‫وينتج عنه الدرجات الأخيرتان‪:‬‬ ‫• العلاقة بين الدين والديني‬ ‫• العلاقة بين الديني وما بعدهما‪.‬‬ ‫ولنفهم ذلك فلنعد إلى المقارنة بوعينا‬‫فالعلاقة بين الدين والديني من جنس العلاقة بين وعيي بما حولي المصاحب لوعيي‬ ‫بذاتي‪.‬‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ذلك ان أي مؤمن صادق أيا كان الدين الذي ربي عليه وهو من حوله في جماعته يكون‬‫دائما في علاقة بما في فطرته من وعي قيمي وخلقي يجعله يقارن بين حقيقة الديني‬ ‫و\"وواقع\" الدين‪.‬‬ ‫من ليس له ذلك ليس مؤمنا‪.‬‬‫والقرآن وعي بالعلاقة بين الديني وما بعدهما (أي الدرجة الرابعة التي ذكرناها في‬‫التغريدة السابقة) فلو لم يكن المؤمن قد تحرر من الغرق في عالم الفناء ولم يشرئب لعالم‬‫البقاء لاستحال عليه أن يتحرر مما حوله أي من الصورة السائدة من الديني مثالا أعلى في‬ ‫الدين المتعين في تقاليد و\"أمر واقع\"‪.‬‬ ‫وتلك هي المناظير الخمسة التي تجعل القرآن عسير الفهم‪.‬‬‫ولنصل ذلك بفصلت ‪ :53‬فآيات الله التي يرينها في الآفاق والانفس تحاكي هذه المناظير‬ ‫الخمسة‪.‬‬ ‫فالآفاق ‪ 2‬والانفس ‪ 2‬والاصل ‪ 1‬وهو حقيقة القرآن التي نتبينها فيها‪.‬‬ ‫فالآفاق هي العالم أي الطبيعة وتاريخ والانفس هي الإنسان بدن وروح‪.‬‬‫ولا يتوهمن أحد أني أقصد بـ\"عسر الفهم\" أن القرآن بحاجة إلى وسطاء‪ ،‬وأن معانيه‬‫باطن يخفيه ظاهر يحتاج إلى مؤولين فليعلم أني أرفض ذلك تماما‪ ،‬وأن ما أعنيه هو من‬‫جنس علاقة الإنسان بالإدراك الحسي والإدراك العلمي‪ .‬فالإدراك العلمي لا ينفي‬ ‫الإدراك الحسي والعلم ليس باطنا بالقياس إلى الحس‪.‬‬‫لا يوجد تأويل للعالم الحسي باعتباره مجرد ظاهر يكتشف القوانين العلمية التي تحكمه‬ ‫باعتباره باطنه‪.‬‬‫كلاهما عالم حقيقي موجه إلى نوعين من المدارك الحقيقة التي لا يمكن العيش من‬ ‫دونهما‪.‬‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ولا يمكن تصور الإنسان عائشا وعلى أعينه أدوات الإدراك الفلكية فهو لن ينجح في‬ ‫العيش السوي‪.‬‬‫ومن السخف اعتبار العالم بالمنظور الفلكي حقيقة والعالم بالمنظور الحسي باطلا بل‬‫كلاهما حقيقة أولاهما حقيقة الوجود الفعلي في حياة الإنسان والثاني حقيقة الوجود‬ ‫الضروري لفهم قوانين الاول‪.‬‬ ‫عالمان‪:‬‬ ‫• عالم الحياة الفعلية للإنسان‬ ‫• وعالم الادوات الضرورية لهذه الحياة الفعلية‪.‬‬ ‫تلك هي العلاقة‪.‬‬‫ومعنى ذلك أني أعتبر ما أكتبه ليس هو حقيقة القرآن‪ ،‬بل اعتبره أدوات فهم ما يجعل‬‫القرآن شرطا من شروط حياة الإنسان العادي في علاقته المباشرة به بوصفه أساس حياته‬‫الروحية التي من دونه تكون حياته الطبيعية مستحيلة لأنها في الغاية تتحول إلى ظاهرة‬ ‫طبيعية لا يختلف الإنسان فيها عن أي حيوان‪.‬‬ ‫وبصورة أوجز‪:‬‬‫القرآن يجعلني إنسانيا أو يمدني بما يجعلني أشعر بأني ليست حيوانا فحسب‪ ،‬بل حيوان‬ ‫له القدرة على التعالي وعدم الإخلاد إلى الارض‪.‬‬ ‫وما أحاوله هو الجواب عن‪ :‬ما الذي يجعل القرآن يحقق ذلك لي؟‬ ‫كذلك العالم يمدني بشروط حياتي العضوية‪.‬‬ ‫والعلم يجيب عن سؤال ما الذي يجعله يحقق ذلك‪.‬‬‫والجواب عن السؤالين تفسير فلسفي لفصلت ‪ :53‬لماذا أتبين أن القرآن حق عندما أرى‬ ‫آيات الله في الآفاق (العالم الطبيعي والتاريخي) وفي الأنفس (بدني وروحي)؟‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وإذن فما أقوم به لا علاقة له بالرؤية التي تميز في القرآن بين ظاهر وباطن بل هي رؤية‬ ‫تميز بين نوعين من العلاقة الجوهرية به‪.‬‬‫وهذا الفهم يبعدني عن المزالق التي نجدها في النقد الكنطي وفي المقابلة بين الفقه‬‫والتصوف في العمل وبين الكلام والفلسفة في النظر ويعيدنا إلى دلالة فصلت ‪ 53‬التي‬ ‫شرحت حيني هذا‪.‬‬‫فما يدركه العلم ليس مظاهر الوجود بل هي مستوى وجودي لا يقل حقيقة عما تدركه‬ ‫الحواس تجليا لمستويات الوجود‪.‬‬‫ويقابل الموقف الكنطي الموقف الأفلاطوني‪ :‬فليس ما يضعه العقل من فرضيات لتفسير ما‬ ‫تدركه الحواس هو الحقيقة وما تدركه الحواس نسخة منه منحطة‪.‬‬‫كلاهما تجل للوجود الذي هو من الغيب دون أن يكون ذلك منافيا لما في تجلياته من حقيقته‪.‬‬ ‫كياني يتجلى بدنيا وروحيا وكلاهما مستوى من وجودي حقيقي‪.‬‬ ‫وعندما أنظر في ذاتي أشعر بأني واحد أصلا لأربعة فروع اميزها في ذاتي‪.‬‬‫أشعر ببدني وأشعر بشعوري ببدني أو بوعي بذاتي متعينة في كيان بدني وأشعر بأن لبدني‬‫في شعور اثرا وأن لشعوري في بدني أثرا‪ .‬فأكون واحدا كأصل ذي أربعة تجليات لكياني‬ ‫الواحد فكون مخمس الأبعاد حتما‪.‬‬ ‫وذاك هي معني علاقتي بالعالم‪.‬‬‫فمن دونه لا قيام لي لكن قيامي فيه ثمرة لتفاعلي معه كطبيعة وفيه أكون إحدى مراحل‬‫الإنسانية كلها من حيث هي كيان عضوي واحد كتاريخ وفيه أكون مرحلة من مراحل‬‫الإنسانية كلها من حي هي كيان رمزي أو حضاري أو روحي‪ .‬فأكون خليفة بهذا الوعي‬ ‫المابعدي الدائم‪.‬‬‫وهذا هو معنى فصلت ‪ :53‬فهذا الوعي المابعدي الدائم هو رؤية آيات الله في الآفاق وفي‬ ‫الانفس وهو من ثم تبين أن القرآن حق‪.‬‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فهو بهذا المعنى الرسالة الخاتمة التي تذكر بشروط قيام الإنسان في العالم بفضل ما جهز‬ ‫به من أدوات لعلاج علاقتيه الأفقية بالطبيعة والعمودية بالتاريخ وذاته منهما معا‪.‬‬‫وهكذا فقد أجبت عن الأسئلة التي تجعل تعريفي لمناظير القرآن شديدة الوضوح وبذلك‬‫أكون قد أتممت ما خصصت له محاولة رؤية القرآن في علاقتها بالإنسان من حيث هو خليفة‪.‬‬‫وطبيعي جدا أن تكون الرسالة الخاتمة حجتها هي عين مضمونها فتكون غنية عن الإعجاز‬ ‫بمعنى خرق العادة وتكتفي بالنظام‪.‬‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لكن حقيقة القرآن التي تتجلى في آيات الله التي يرينها في الآفاق والانفس‪ ،‬أعني في‬‫العالم ببعديه الطبيعي والتاريخي‪ ،‬وفي الإنسان بدنه وروحه‪ ،‬لا تكتفي بما يدل على هذه‬‫الحقيقة‪ ،‬بل هي تشير كذلك إلى أن الآفاق والانفس ليست هي الوجود الباقي بل هي‬ ‫الوجود الفاني وأن ما وراء غيبي هي أحد رموزه‪.‬‬ ‫فالمستويات التي رأيناها في الفصل الاول رغم ما بينا من تناسق وتناغم بينها سواء‪:‬‬ ‫• في نظام العالم الطبيعي‬ ‫• أو نظام العالم التاريخي (بعدي العالم)‬ ‫• أو في نظام البدن‬ ‫• أو في نظام الروحي (بعدي الإنسان)‬‫والتناظر التام بينها وبين نظام القرآن نفسه كرسالة متعلقة بتذكير الإنسان برسالته تبدو‬ ‫عبثا‪.‬‬‫فلو لم يكن وجودنا مليئا بما لا يفهم وخاصة بما يبدو عليه من \"مجانية\" إذ لا يفهم الإنسان‬‫\"حاجة\" الله لخلق عالم كله ثغرات ونقائص لو اعتبرناه مقصورا على ما يمكن أن ندركه‬‫بعقولنا التي يحيرها كل شيء فيه وخاصة المصدر والمصير والحرية والضرورة والخير‬ ‫والشر وهلم جرا من المغلقات‪.‬‬‫ولا أحد أكثر من القرآن كلاما في هذه المسائل وخاصة في الإنسان ونقائصه وعيوبه التي‬‫لا تحصى والتي تجعله وكأنه \"صنعة\" فاسدة أو صنعة صينية غير متقنة‪ ،‬ومع ذلك فالله‬‫ينسب إلى نفسه صنعه على أحسن صورة ونفخ فيه من روحه وعلمه الأسماء كلها واعتبر‬ ‫خلقه أحسن تقوم ثم \"رده أسفل سافلين\"‪.‬‬‫كل الإشكال المحير هو هذه المنزلة الجامعة بين اقصى الكمال وأقصى النقص في كيان‬ ‫الإنسان‪.‬‬ ‫• فلكماله استخلف‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫• ولنقصه احتاج إلى الرعاية التي تخرجه مما يترتب على هذا النقص‪.‬‬‫فلكأن خلق الإنسان له بداية كاملة هي مثاله الاعلى الذي سيكون مآله في الغاية فيكون‬ ‫كل التاريخ هو خلق الإنسان المتصل‪.‬‬‫فتكون عين النسبة بين الديني من حيث هو في الفطرة والديني من حيث هو في الإسلام‬ ‫الخاتم‪.‬‬‫وبين البداية والغاية مراحل التكوين المتصل إلى يجعل ما كان تاما في المثال يصبح تاما في‬ ‫الأعيان‪.‬‬‫وحينئذ يكون أحسن التكوين في المثال وليس في الأعيان فيكون تعريف الإنسان‪ :‬حرية‬ ‫تسهم في خلق ذاتها‪.‬‬‫ولذلك فالقرآن في عرضه لسلسلة الأديان والرسل يكاد يقص علينا هذه التكوينية التي‬‫هي تدرج في تحقيق ما في الفطرة المثال نقلا إياها من المثال إلى الأعيان في تجارب دينية‬‫لا يقال فيها النظر والعملي بل هي اساسا سياسة ذات وجهين أحدهما يربي الإنسان والثاني‬ ‫يحكمه‪ :‬فيستكمل التاريخ الطبيعة‪.‬‬‫وقد حاولت بيان عينة من ذلك من خلال شرح سورة هود التي قال عنها الخاتم إنها شيبته‬‫هي وأخواتها محاولا فهم علة تشبيها له وهي في آن نسق توالي الرسالات في عملية التكوين‬‫التاريخي لإنسانية تسهم في \"خلق\" ذاتها بما من الله به عليها من حرية إرادة وصدق علم‬ ‫وخير قدرة وجمال حياة وجلال وجود‪.‬‬‫وفعلا فالسورة حتى وحدها من دون اخوتها تشيب راس الإنسان الذي يراها كما توحي‬ ‫بذلك‪:‬‬ ‫فهي في آن‪:‬‬ ‫• فلسفة تاريخ‬ ‫• وفلسفة وجود‬ ‫• وفلسفة دين‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫• وخاصة رسالة مذكرة بكل ذلك تذكيرا يكون من يكلف بها بشيرا ونذيرا أخيرا في‬‫تاريخ الإنسانية كلها ومكلفا بإنتاج عينة من السعي لتحقيق مثال البداية في تاريخ الغاية‪.‬‬‫وأن نعتبر عمل الوسط هو الحكم في ما مضى من تاريخ البشرية قبل نزول القرآن‬ ‫(ابراهيم) وعمل المخاطب الذي سيعود إليه هو الحكم في ما يلي بعد نزوله (محمد)‪.‬‬ ‫• والثلاثة الأولى تتألف من نوح وهود وصالح‬ ‫• والثلاثة الثانية بالترتيب المعكوس من موسى وشعيب ولوط‪.‬‬ ‫فلنقرأ الآن البنية العميقة للسورة‪.‬‬‫وقد حاولت شرحها بهذا المنطق والمنطلق دون تأويل تحكمي وإن كانت فرضية قراءتها‬‫تنطلق من بنية رياضية تشبه المصفوفة التي فيها تناظر بين ثلاث عناصر أولى وثلاثة‬‫عناصر أخيرة وبينهما وسط هو المركز في فهم التناظر بشرط أن نقرأ الثلاثة الأخيرة في‬ ‫ترتيب معكوس بالقياس إلى الثلاثة الاولى‪.‬‬ ‫ولا بد من اعتبار القراءة مستندة إلى منظور القرآن‪:‬‬‫فلا نوح ولا هود ولا صالح ولا لوط ولا شعيب ولا موسى رسل لقومهم حصرا فيهم ومن ثم‬‫فلا يمكن قراءة أفعالهم وكأنها خاصة بشعوبهم حصرا للديني كمعنى عام في الدين كحالة‬ ‫عينية بل المطلوب الانطلاق من الديني عامة في أي دين متعين أمرا واقعا‪.‬‬‫ذلك أن الأمر يتعلق بالواحد في الاديان المتعينة تاريخيا والتي تتضمن السورة منها ست‬‫حالات تنسب إلى الثلاثيتين واثنين إلى الوسط بينهما (ابراهيم) إلى المخاطب الذي شيبته‬ ‫السورة والذي عاد في رسالته الخاتمة إلى إبراهيم (محمد)‪.‬‬ ‫وتفترض السورة ما قبل نوح وما بعد موسى قبل محمد‪ :‬آدم وعيسى‪.‬‬ ‫ولغز السورة في آدم وعيسى ومفتاح فهمها في إبراهيم ومحمد‪.‬‬‫• فالأول تميز خاصة بفعلين يمكن أن يعتبرا مفتاح فهم للسورة‪ :‬أسئلة الأفول وتحرير‬ ‫الإنسان من يكون أضحية‪.‬‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫• والثاني تميز بفعلين يمكن أن يعتبرا مفتاح فهم للسورة‪ :‬العودة إلى ابراهيم وتأسيس‬ ‫سياسة تربية دون وساطة وحكم دون وصاية‪.‬‬‫أما اللغز الوجودي فهو يرد إلى آدم وعيسى وما بينهما من تماثل وجودي (ذكره القرآن)‬‫وما بين الأول والثاني من شرح للغز الوجودي وما ترتب على تحريف دور الثاني بالقياس‬‫إلى تجريم الأول في أصل التحريفات التي عرفتها البشرية بين البداية الآدمية والنهاية‬ ‫العيسوية في تاريخ الإنسانة الروحي‪.‬‬‫فلا أحد يشك في أن الاستخلاف تم قبل أن يقع ما وقع لآدم وحواء في الجنة ‪-‬القصة‬‫رمزية طبعا‪-‬ومن ثم فلا يمكن أن يعتبر ما حصل بعد ذلك عقابا‪ ،‬بل هو كان بداية الفعل‬‫الذي لأجله استخلف آدم‪ :‬حرية الاجتهاد صوابا وخطأ من آدم وحواء والأنزال هو للفرصة‬ ‫الثانية لإثبات جدارتهما بالاستخلاف‪.‬‬‫والاخراج من الجنة لم يكن عقابا وشفع بعفو عن الخطأ في الاجتهاد دون تجريم للجنس‬ ‫الذي لا علاقة له بالخطأ‪.‬‬‫فوجود الزوجين يجعل الجنس طبيعيا وليس جريمة صارت خطيئة موروثة لتأسيس الوساطة‬‫الكنسية نائبة الشفيع ولتكون مؤسسة للحكم باسم الحق الإلهي أعني اساسي التحريف‬ ‫اللذين ألغاهما القرآن‪.‬‬‫وكل التحريفات بين آدم وعيسى ينسبها القرآن إما إلى غلبة ما في آدم من معدنه أو ما في‬‫الوسطاء والاوصياء الذين يتحالفون لاستغلال أداتي استعباد الإنسان‪ :‬إما من الطبيعة أو‬‫من الإنسان بالسيطرة على سد حاجاته المادية والروحية‪ .‬وهما عبوديتان تمثلان مدار‬ ‫فلسفة التاريخ في سورة هود‪.‬‬ ‫والآن نستطيع بدأ الشرح‪ :‬فماذا فعل نوح؟‬ ‫أمران‪:‬‬ ‫تخلص من سلطانين للطبيعة في أسرته وفي العالم‪.‬‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫• وذلك بالثورة الروحية‬‫• والثورة التقنية صنعا للسفينة وزرعا للأزواج من كل شيء حتى يحرر الإنسانية من‬ ‫العبودية للضرورة الطبيعية سواء في العلاقات العاطفية أو في العلاقات الاقتصادية‬ ‫نوح هو الاول في المثلث الأول‪.‬‬ ‫ويناظره في المثلث الثاني الأخير الذي هو الأول من النهاية إلى البداية‪.‬‬ ‫ماذا فعل موسى؟‬‫أولا التحرر من الطبيعة حاصل على الأقل برمزين فهو وصل إلى اسرة فرعون عن طريق‬ ‫رمز الطبيعة الماء وتخلص من فرعون به‪.‬‬ ‫لذلك فثورته ضد العبودية السياسية وليس الطبيعية‪.‬‬ ‫وهي الثورة الثانية‪:‬‬‫‪.1‬الأولى تحرر الإنسانية من عبودية الطبيعة لأنها \"زرعت\" من كل زوجين اثنين فصارت‬ ‫تنتج حاجتها بنفسها وليست تابعة للطبيعة مباشرة‬‫‪.2‬والثانية تحرر الإنسان من عبودية السياسة لأنها خرجت على أعتي دكتاتورية سياسية‬ ‫ثيوقراطية هي دولة فرعون وهامان‪ .‬لكن الثورتين فشلتا‪.‬‬ ‫ونبدأ بفشل الثانية‪:‬‬‫فالشعب الذي اراد موسى تحريره لم يتحرر بل فضل العيش المادي في العبودية (طلب‬‫مأكولات) وصنع وثنا جنيسا لوثن الفراعنة ولكنه بمال مسروق وهو العجل الذهبي ذو‬‫الخوار‪ .‬وهما ما به يسيطر المرابون على العالم إلى اليوم أي بمعدن العجل (الربا)‬ ‫وبخواره (الإيديولوجيا)‪.‬‬‫وعندئذ نفهم فشل الثورة الاولى كما سيتبين في رسالة هود الثاني من المثلث الاول وفي‬ ‫رسالة شعيب الثاني في الرجوع من موسى إلى لوط‪.‬‬ ‫• فالأول هود تبين أن علة عدم نجاحه أصحاب المال والاقتصاد‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫• والثاني شعيب تبين أن علة عدم نجاحه نظام التوزيع والمقاييس المغشوشة‪ :‬الاقتصاد‬ ‫نظام التوزيع العادل‬‫وواضح أن للأمرين هذين علاقة بالعبودية الطبيعية وبالعبودية السياسية لأن سلطان‬ ‫أصحاب المال ذو علاقة بالطبيعة ونظام التوزيع ذو علاقة بالسياسية‪.‬‬‫فيكون الرسولان هود وشعيب قد بينا العائق الأساسي في فشل الثورتين على سلطان‬ ‫الطبيعة وسلطان السياسة عند نوح وموسى‪.‬‬‫فإذا وصلنا إلى صالح الاخير من المثلث الاول ولوط الأول من المثلث الثاني ‪-‬ذكرنا‬‫الترتيب المعكوس‪ .-‬فكلاهما يتعلق بشرط الحياة نفسه‪ :‬الماء عند صالح والجنس عند‬ ‫لوط‪.‬‬‫فهما المشكل الذي يفشل الثورتين ويتعلقان بما يترتب على العبوديتين من استبداد وفساد‬ ‫في شروط الحياة الإنسانية‪.‬‬‫وعندئذ نلتفت إلى الوسط بين الثالوثين أي إبراهيم‪ :‬فأولا هو من جاءه الرسولان ليعلماه‬ ‫بمآل قوم لوط‪.‬‬ ‫ولكن أيضا ليبشراه بابن‪.‬‬ ‫والبشرى هي المشكل‪.‬‬ ‫فقد يظنها الكثير متعلقة بابنه اسحق‪.‬‬‫وليس كذلك لأن سارة لم تلد اسحاق في آخر حياتها بل مباشرة بعد هاجر بسبب الغيرة‬ ‫وتلك علة استبعادها‪.‬‬‫الابن الذي بشر به هو الذي عاد إليه ليعالج كل هذه القضايا انطلاقا من ثورته التي‬ ‫عرفت طبيعة ما تستند إليه هذه الرسالات‪.‬‬‫تحرير الإنسانية من عبادة الطبيعة أساس تحريرهم من عبادة السياسة بعلاج يتعلق‬ ‫بتربية بلا وساطة وبحكم بلا وصاية‪.‬‬ ‫وتلك هي الثورة المحمدية والرسالة الخاتمة‪.‬‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫كيف لا يشيب الرسول من هود وأخواتها وهود وحدها كما رأينا تجعل كل الرسالات‬‫السابقة تتخلص مهمتها في ما على الإسلام أن يتداركه من تاريخ الإنسانية كلها في علاقتها‬‫بالآفاق والانفس وما فيهما من آيات الله التي لم يعد الأمر متعلقا برؤيتها فحسب‪ ،‬بل‬ ‫بالسعي لجعلها استراتيجية تحقيق وظائف الإسلام‪.‬‬ ‫إنها في الحقيقة برنامج عمل الرسالة الخاتمة كله‪.‬‬‫فهي رسالة تحرير الإنسان من سلطان يستمد من الطبيعة او من السياسة أو تحقيق ثورتي‬‫نوح وموسى وما تعينت فيه عوائقها في ما بين الثورتين مما شرحت أي الاقتصاد والماء‬ ‫والجنس ونظام التبادل والتعاون العادل ليس في جماعة بل في الإنسانية كلها‪.‬‬‫وبصورة موجزة وصريحة‪ :‬المهمة هي كيف تتحرر الإنسانية كلها فلا يعبد إلا الله أو‬‫تحقيق الوحدانية التي عرفها إبراهيم في المرحلة الوسطى بين ما تقدم عليه بين الثالوث‬‫الاول وآدم وما تأخر عنه بين الثالوث الثاني وعيسى فيكون على محمد أن يكون أشبه بمن‬ ‫لرسالته الالتفاتين وكأن لها وجها جانوس‪.‬‬‫وقبل أن أواصل الكلام في الرسالة الخاتمة وتضمنها هذين الالتفاتين ينبغي أن اتكلم في‬ ‫اعتراضين ممكنين على المحاولة كلها‪.‬‬ ‫فالمعلوم أني أرفض أن يكون القرآن متضمنا لما بنيت عليه نظرية الإعجاز العلمي‪.‬‬‫لا يتضمن القرآن قانونا علميا واحدا بخلاف ما يتوهم الكثير لأنه يتنزل في مستوى‬ ‫الرؤى‪.‬‬‫ومستوى الرؤى تتعلق بالكوني والكلي وما لا يتغير في المكان ولا في الزمان لأنه يحدد‬ ‫الحقائق الوجودية التي تعرف عناصر المعادلة الوجودية التي سبق فحددتها وهي‪:‬‬ ‫‪ .1‬الله‬ ‫‪ .2‬الطبيعة‬ ‫‪( .3‬الله‪-‬الإنسان)‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .4‬التاريخ‬ ‫‪ .5‬الإنسان‪.‬‬ ‫أي العلاقة المباشرة بين الله والإنسان وغير المباشرة بينهما‪.‬‬‫والفرق بين العلاقتين المباشرة وغير المباشرة بين الله والإنسان علتها أن الطبيعة‬ ‫والتاريخ يوجدان في الإنسان ويوجدان خارج الإنسان‪.‬‬‫والمقابلة ليست بين وجودين أحدهما في الأذهان والثاني في الاعيان‪ ،‬بل كلاهما فيهما‬ ‫كليهما أي إن الإنسان هو وحدة هذا المربع الذهني والعيني وكلاهما فيه وحوله‪.‬‬ ‫وكلها مشدودة إلى الله حتى لو كان أعتى الملحدين‪.‬‬‫والفرق بين المؤمن والملحد هو أن الأول يدرك العلاقة إيجابا فيثبتها والثاني يدركها سلبا‬ ‫فينفيها‪.‬‬‫وغالبا ما يبرز هذا الإدراك خاصة عندما يصيب الإنسان ما يجعله يتفكر في هشاشته أو‬ ‫ما يمكن تسميته بالفقر الوجودي أعني الوعي بالمتعاليات‪.‬‬‫فعندما يدرك معنى حرية الإرادة وصدق العلم وخير القدرة وجمال الحياة وجلال‬‫الوجود حضورا وغيابا عندها يدرك أنه لا يقوم بذاته إلا وهما لأن ما بينه وبين الطبيعة‬‫في كيانه أولا وفيما حوله ثانيا يجعله حتى ماديا يستمد قيامه من غيره من الطبيعة إما‬ ‫مباشرة أو بتوسط التاريخ وبتوسط ما ورائهما‪.‬‬‫وهذا الحقيقة الاولى لا تحتاج إلى علم يتجاوز كون الإنسان واعيا بقيامه وشروطه وهو‬‫علم متقدم على كل علم وهو عين الديني والفلسفي الذي يتقوم به الإنسان من حيث هو‬‫ذات واعية سواء آمنت أو ألحدت أثبتته إيجابا أو نفته سلبا وهي لا يمكن أن تستغني عن‬ ‫إثباته أو سلبة او المناوسة المتحيرة بينهما‪.‬‬‫هذا من منطلق القرآن وما يغنيه عن الكلام في العلوم‪ .‬والأمر الثاني من منطلق العلوم‬ ‫ذاتها‪.‬‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لا نسمي علما بالقوانين الطبيعية أو بالسنن التاريخية غير متعين في موضوع محدد وقيم‬‫محددة تعبر عما يعلم منه وطبعا يمكن أن يكون ما صدق مفهوم الموضوع مختلف الوسع لكن‬ ‫لا يمكن أن يسع الوجود كله‪.‬‬‫وهذا هو الفرق بين العلوم والرؤى الدينية أو الفلسفية‪ .‬لذلك فأنت تجد في الديني وفي‬ ‫الفلسفي رؤى ولا تجد فيه علوما إلا بوصفها أمثلة يستمدها من فنون هو ما بعدها‪.‬‬‫الديني والفلسفي كلاهما ما بعدي بالقياس إلى العلم والعمل وأثر الاول في الثاني‬ ‫والثاني في الاول وأصلها جميعا أعني حدس الوجود‪.‬‬‫وأذهب إلى أكثر مما يتوهم بعض السطحيين ممن يقابلون بين الديني والفلسفي‬ ‫ويعتبرون الأول شكلا تجاوزه الإنسان لأنه انتقل إلى الثاني‪.‬‬‫وهو من علامات الجهل والحمق‪ .‬ذلك أن مراحل العلاقة بينهما تجعل الفلسفي كان ضمنيا‬ ‫في الديني وتصور نفسه تحرر منه في نشأة الفلسفة (بين أفلاطون وارسطو)‪.‬‬‫لكن التطور حتى عند هذين أدى إلى اضطرارهما إلى إنشاء دين فلسفي أساسا للفلسفي‬‫في فكرهم الذي تصور العلوم يمكنها أن تغني عن الينبوع الأسمى أو الدين في ما قبل‬ ‫سقراط‪.‬‬‫وظل الأمر صراعا بين الديني والفلسفي بسبب الصراع بين المتكلمين والفلاسفة لعلل‬ ‫سلطانية لا علاقة لها بالفلسفي والديني‪.‬‬‫وما حصل بين أفلاطون وأرسطو (الاول أكثر وعيا بالعلاقة من الثاني) تكرر بين كنط‬‫وهيجل (الثاني أكثر وعيا بالعلاقة من الثاني) لكن الأربعة وضعوا القضية في مستوى دون‬‫مستواها الحقيقي أعني أن العلاقة بين الفلسفي والديني ليست بسبب العلاقة بين النظر‬ ‫والعمل بل لعلة أعمق هي ما حدده القرآن‪.‬‬‫فلو لم يكن الإنسان هو عين المعادلة الوجودية التي وصفت لما كان للديني والفلسفي‬ ‫علاقة أصلا‪.‬‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫صحيح أن النظر والعمل يبدوان علة العلاقة لكنهما في الحقيقة هما مجال التجلي لما في‬‫كيان الإنسان من معادلة تجعله في آن ذا علاقة مباشرة بالله وذا علاقة غير مباشرة به‬ ‫بتوسط الطبيعة والتاريخ‪.‬‬‫والعلاقة غير المباشرة هي التي ينطلق منها الفلسفي بمعنى أنه يصل إلى الإلهي عن‬ ‫طريق الطبيعي والتاريخي طلبا لما بعدهما‪ .‬ل‬‫كن الديني ينطلق من العلاقة المباشرة التي هي في كيان الإنسان نفسه من حيث هو‬‫تلاحم دائم بين الطبيعي والتاريخي وما يترتب على تفاعلهما من وعي الذات بالمتعاليات‪.‬‬‫وهذا عينه ما كان سقراط يفهمه جيد الفهم‪ .‬فالعلاقة المباشرة بين الإنسان والله علتها‬‫أن الإنسان ‪-‬آيات الله في أنفسهم‪-‬يتضمن في آن الطبيعة والتاريخ ‪ -‬آيات الله في الآفاق‪-‬‬‫بل هو عين رؤية هذه الآيات‪ :‬قيامه الواعي مستحيل من دون رؤية هذه الآيات بدرجات‬ ‫مختلفة هي درجات صفاء التلقي‪.‬‬‫ولان العلاقة المباشرة أولى فهي الأصل الأعمق وما عداه فرع عنه ينطلق من العلاقة‬ ‫غير المباشرة‪.‬‬‫وتلك هي العلة في أن العلوم الإنسانية أعسر ألف مرة من العلوم الطبيعية وتأسيسها‬ ‫متأخر ولا يزال هشا‪.‬‬‫وقد بينت سابقا أن نسبة ابن خلدون إليها هي عين نسبة ارسطو إلى علوم الطبيعة‪:‬‬ ‫بداية تأسيس‪.‬‬‫لكن الفلسفي والديني من طبيعة واحدة والاخلاف في المباشرة وغير المباشرة‪ :‬لذلك‬‫فالفلسفي الذي يبدأ من الطبيعي فالإنساني ينتهي إلى ضرورة التأسيس على متعاليات لا‬‫هي طبيعية ولا هي إنسانية حتى عندما يعاند فيدعي أن هذين كافيان فيضطر إلى‬ ‫تأليههما بجعلهما \"كاوزا سوي\" أو تأليه الصدفة‪.‬‬ ‫وتلك هي أنواع الإلحاد الخمسة‪:‬‬ ‫‪ .1‬تأليه الطبيعة‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬أو تأليه الإنسان الطبيعي‬ ‫‪ .3‬أو الإنسان المتجاوز للطبيعة‬ ‫‪ .4‬أو الصدفة‬‫‪ .5‬أو الغائية الخفية كما في نظرية السوق والديموقراطية والتاريخ الهادف إلى‬ ‫شيء فيه فائدة إلى الإنسان‪.‬‬ ‫وكلها منافية للمنطلق الإلحادي أي دعوى الاستغناء عن \"مهندس\" متعال‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فلا يوجد فيلسوف كبير بحق ادعى الألحاد‪.‬‬‫وغالبا ما يكون القائلون به من الدرجة الدنيا من الفلاسفة والعلماء أو من مؤدلجي‬ ‫الفلسفة في نسبة ماركس لهيجل‪.‬‬‫فالماركسية تصبح إيديولوجيا علموية بمجرد نفيها ما يبني عليه هيجل فلسفته التي هي‬ ‫وحدة الديني والفلسفي في وحدة وجود مذوتة‪.‬‬‫وفي الحقيقة كل الذين يبحثون عن الاعجاز العلمي في القرآن نسبتهم إلى الديني فيه‬‫كنسبة الماركسية إلى الفلسفي في الهيجلة‪ :‬يؤدلجون القرآن بدعوى الرفع من شأنه تماما‬‫كما يفعل الماركسي الذي يظن نفسه قد رفع من شأن الفلسفة عندما يؤدلجها فيدعي أنها‬ ‫علم‪.‬‬ ‫الديني والفلسفي ما وراء العلم والعمل‪.‬‬‫وكل الفلسفة الحديثة وخاصة بداية من ديكارت لا يمكن تصور الفلسفي من دون الديني‬ ‫ولا الديني من دون الفلسفي‪.‬‬‫والعلة هي عين ما حاولت بيانه‪ :‬فديكارت لا يتصور طلب الحقيقة الفلسفية التي هي‬‫شرط تأسيس الحقيقة العلمية من دون الوصل بين الفلسفي والديني دون أن يعني دينا‬ ‫معينا لما بينت من فرق‪.‬‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وليس بالصدفة أن جعل أساس فلسفته \"اشك إذن أنا موجود\" التي أصبحت أفكر إذن أنا‬‫موجود\" بمعنى أن وعيي بوجود لا يزعزعه أي شك حتى لو حضر الشيطان ذاته أو ما‬ ‫يسميه الجني الخبيث‪.‬‬‫ومن ثم فالفلسفي لا يمكن ألا ينطلق من الإيمان بهذه الحقيقة وهي أني واع بأني واع‬ ‫وبأني أفكر وذلك هو جوهر وجودي‪.‬‬‫ومجرد توهم هذه الحقيقة غير موجودة أي الإيمان بأني واع وأفكر لن يبقى معنى للكلام‬‫على الفلسفي أي على التفكير المنتظم ذي المنهج المنطلق من العلاقة غير المباشرة بيني وبين‬‫الحق أو الله أعني انطلاقا مما أدركه من الطبيعة والتاريخ حولي وفي‪ .‬فندرك أن الديني‬ ‫غاية الفلسفي وبدايته دائما‪.‬‬‫وهذه هي المعادلة الوجودية وهي كيان الإنسان وهي مضمون فصلت ‪ 53‬وهي كما أسلفت‬‫لحمة القرآن وسداه وعين الرسالة الإسلامية وطبيعة القرآن الكريم‪ .‬لكن علوم الملة التي‬‫فتتت القرآن ومزقته وتركت أمر فصلت ‪ 53‬جانبا ثم انشغلت بما نهت عن الانشغال به آل‬ ‫عمران ‪ .7‬فكان زيغ القلوب وابتغاء الفتنة‪.‬‬‫لم يبق إلا أن ندرس مضمون الرسالة بوصفها تحقيق ما بينت سورة هود أنه مضمون كل‬‫الرسالات اجتمع في الرسالة الخاتمة أعني الثورتين المحررتين من عبودية الطبيعة والسياسة‬‫بتربية دون وساطة وبحكم دون وصاية في الجماعة البشرية كلها بمبدأ الأخوة (النساء ‪)1‬‬ ‫والمساواة (الحجرات ‪.)13‬‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لا أعتقد أني بحاجة للكلام في العلاقة المباشرة بين الله والإنسان‪ ،‬العلاقة التي وضعتها‬ ‫في القلب مما سميته المعادلة الوجودية‪.‬‬ ‫إنها لب الديني لو اقتصرنا على الرؤية الصوفية المهملة لغير المباشرة‪.‬‬‫لكن هذه هي شرط العلاقة المباشرة في الاعيان تماما كما أن تلك هي شرط غير المباشرة‬ ‫في الأذهان‪.‬‬‫وهذا الإهمال يجعل الموقف الصوفي الذي يوهم بإمكان الاقتصار على العلاقة المباشرة‬‫مناف تمام المنافاة لما توصلنا إليه في بيان طبيعة الثورتين وما بينهما من مهام شرطها علاج‬‫العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة والعلاقة الافقية بينه وبين التاريخ وما ورائهما‬ ‫وصلابين علاقتي الإنسان بربه‪.‬‬‫والامر الثاني الذي يغنيني عن الكلام على العلاقة المباشرة بين الله وربه هو أن هذه‬‫العلاقة لا يمكن لاي إنسان أن يجهلها لأن بدنه قبل روحه لا يتوقف عن تذكيره بها‪ .‬فيكفي‬‫ما يتوالى على البدن من آلام ولذائذ ومن أمراض وشدائد ومن وفقدان لمن يحب ومن مآل‬ ‫لا يدري منه حتى الثانية الموالية‪.‬‬‫ما أنوي الكلام عليه هو ما أهمله علماء الملة رغم أن العلاقة المباشرة مشروطة به أعني‬‫العلاقة العمودية بالطبيعة والعلاقة الأفقية بالتاريخ وصلتهما بالعلاقة المباشرة بين‬‫الإنسان وربه‪ :‬فبهما يدرك الإنسان علاقته بالمتعاليات لأنها في الحقيقة اساس البصيرة‬ ‫الناقلة من الغفلة إلى العقل‪.‬‬ ‫وهنا يلتقي الفلسفي بالديني لأن الإنسان الذي يعرفه القرآن بكونه‪:‬‬ ‫• مستعمرا في الأرض (الأساس المادي للعلاقتين بين الإنسان والطبيعة والتاريخ)‬‫• ومستخلفا فيها (الأساس الروحي للعلاقتين بين الإنسان والطبيعة والتاريخ) وهو ما‬ ‫يجعله حتما ينتقل إلى ما ورائهما خلال تعمير الارض بقيم الاستخلاف‪.‬‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وإذا قلت شيئا في العلاقة المباشرة رغم الاحترازين فليس لبيان طبيعتها فهي بينة بل‬‫لبيان القصور الذي حصل عندما ظنت علوم الملة أن العلاقة من حيث هي دين مقصورة‬‫عليهما وتوهم إمكانها من دون العلاقة غير المباشرة‪ :‬فالتدين المبني على العلاقة المباشرة‬ ‫يسمى عبادات ولا معنى لها من دون معاملات‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن المتصوف والمتدين الذي يتصور أنه يمكن أن يكون جديرا بالاستخلاف من‬‫دون تعمير الارض لم يفهم شيئا من فلسفة الإسلام‪ :‬فالدنيا مطية الآخرة وامتطاؤها هو‬‫شرط المعاملات‪ .‬ومن لم يحقق شروط الامتطاء يكون عبدا لها لأنه يصبح متسولا لسد‬ ‫حاجاته ولحماية ذاته وهما عبودية لغير الله‪.‬‬‫فيكون مجال النظر والعمل هو علاج العلاقتين غير المباشرتين بالله من خلال ماوراء‬‫الطبيعة وما وراء التاريخ‪ ،‬ما يعني من خلال علم قوانين الطبيعة وسنن التاريخ ومن ثم‬‫من خلال الثورتين القرآنيتين‪ :‬ثورة نوح أو التحرر من الاستبداد الطبيعي وثورة موسى‬ ‫أو التحرر من الاستبداد السياسي‪.‬‬‫والتحرر من الاستبدادين هو شرط الكفر بالطاغوت أو عبادة من بيده سد الحاجة المادية‬‫والروحية فيكون ربا بديلا من الرب الوحيد ويحول دون الإيمان بالله‪ :‬البقرة ‪.256‬‬ ‫وذلك هو تبين الرشد من الغي‪.‬‬‫لذلك تجد المتصوف والمتعبد من دون علاج العلاقتين غير المباشرتين مؤمنا بالطاغوت‬ ‫وكافرا بالله‪.‬‬‫فمن لا يعمر الأرض فردا كان أو جماعة يدين لغيره بقوته ومن لا يطبق قيم الاستخلاف‬‫(أي الجدارة بأن يكون خليفة حر الإرادة وصادق العلم وخير القدرة وجميل الحياة وجليل‬‫الوجود) لا يمكن أن يكون عابدا لربه الحقيقي بل هو عابد لمن استعبده بالتحكم في سد‬ ‫حاجاته المادية والروحية‪.‬‬‫وهذا ما حدث للمسلمين لظنهم أن العلاقة المباشرة بالله (العبادات) كافية وممكنة من‬ ‫دون التحرر من استبداد الطبيعة واستبداد التاريخ بالنظر والعمل وتطبيقاتهما‪.‬‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فسد الحاجات المادية والروحية هو معنى الاستعمار في الارض وسدهما بقيم الاستخلاف‬ ‫هو معنى ما وصفت من مقومات وجود الإنسان الحر‪.‬‬‫والعلاقة المباشرة بين الإنسان وربه تصحب كل أفعاله إذا كان مؤمنا ومن ثم فهي ليست‬‫ما يقابل العلاقة غير المباشرة بحيث إذا حضرت الواحدة غابت الثانية إلا في حالة‬ ‫فسادهما‪.‬‬‫فلا عبادة منفصلة عن ثمرتها عبادة ولا معاملة مفصلة عن حضور الله معاملة فالإيمان هو‬ ‫الوعي بهذا الحضور الدائم للتعالي‪.‬‬‫فـ\"إن الله كان عليكم رقيبا\" ليست إلا تذكيرا بحقيقة‪ :‬نسيان ذلك ليس إلا ذهولا‬ ‫وجوديا‪.‬‬‫فالأمر لا يتعلق برقابة من جنس الرقابة في الأنظمة الاستبدادية بل هي وعي الإنسان‬‫بما في ذاته من وعي بانشداده إلى ما يجعل إرادته حرة وعلمه صادقا وقدرته خيرة‬ ‫وحياته جميلة ووجوده جليلا لئلا ينحط‪.‬‬‫في كياننا هشاشة تتجلي في جاذبية الإخلاد إلى الارض ولها علاقة بدور الحاجة المادية‬ ‫والروحية عندما تصبح حائلا دون الحريتين الروحية والسياسية‪.‬‬‫ولهذه العلة يعتبر الإنسان معرضا لعبادة من دون الله من خلال خضوعه للحاجة التي‬ ‫يُستعبد بها‪ :‬الوساطة والوصاية علتها العلاقة بالطبيعة والتاريخ‪.‬‬‫فالعبودية لغير الله علتها أن الإنسان يخضع لمن بيده سد حاجاته بعد أن تنازل عن دوره‬ ‫في السعي إلى شروط سدها بنفسه‪.‬‬‫والحاجة المادية تصبح بيد الغير بمجرد أن يتنازل الناس عن جعل الأمر أمرهم كما‬‫حددت ذلك آية الشورى ‪ 38‬فجعلوه فرض كفاية بدلا من كونه فرض عين فأصبح وكأنه‬ ‫أمر من يتولاه عنوة‪.‬‬‫ليس من علة للاستبداد إلا تخلي المؤمنين عن فرض العين الذي أصبح فرض كفاية دون‬‫شروط الكفاية‪ .‬فالكفاية تعني ما يترتب على توزيع العمل بحيث يكون كل بعض منشغلا‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ببعض من المهام المشتركة في الجماعة لتكون ثمرة العمل موضوع التعاون والتبادل العادل‬ ‫إلا في ما جعله الله فرض عين‪.‬‬‫فكما أنه لا يمكن أن يصلي أحد بدلا منك لتصبح الصلاة فرض كفاية بدلا من كونها‬‫فرض عين فكذلك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ورعاية الشأن العام السياسية جزء‬‫منه لأنها وإن لم تكن مباشرة الحكم التي هي فرض كفاية فهي مراقبة الحكم والمشاركة في‬ ‫شورى تسيير الشأن العام فرض عين‪.‬‬‫فالذي يحكم فرض كفاية مجرد قيم مأجور لدى الجماعة مشروط دوره في نيابتها في حدود‬ ‫ما توكله عليه من أمرها بقاعدتين‪:‬‬ ‫• أن يكون أمينا على هذه النيابة‬‫• وأن يكون عادلا في الحكم بمقتضى تلك النيابة المحكومة بالمرجعية الشورية والمراقبة‬ ‫دائما بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من كل المؤمنين‪.‬‬‫وهو ما يعني الحرية المطلقة للمؤمنين في الراي والنقد بل والتصويب أمرا بالمعروف ونهيا‬ ‫عن المنكر‪.‬‬‫وكان الخلفاء الراشدون يشكرون الناقد ويحمدون الله على أن الامة فيها من يقوم بهذه‬ ‫الرسالة التي هي واجب كل المؤمنين وليس حقهم فحسب‪.‬‬ ‫وما قلناه عن التحرر من الوصاية نقول مثله في الوساطة‪.‬‬‫فما يصح على تحرير الإسلام المؤمنين من الوصاية بالشورى الشاملة لأن الأمر أمر‬ ‫الجماعة يصح أكثر منه لأنه شرطه في تحريرهم من الوساطة‪.‬‬‫فالوصاية هي الحكم المستبد سواء ادعى أنه حكم بالحق الإلهي (آل البيت مثلا) أو بالحق‬ ‫الطبيعي (المتغلب)والتحرر شرطه تربية حرة لا وساطة فيها‪.‬‬‫ذلك أن من يعلل الحكم بالحق الإلهي أو الحكم بالحق الطبيعي فيؤسس الوصاية بمعنييها‬‫هم المربون سواء كانوا مستندين إلى دين أو إلى فلسفة ومثال الأول هو الكنسية بالمعنى‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الديني ومثال الثاني هو الحزبية بالمعنى الماركسي حيث يصبح الإنسان بحاجة لوسيط بينه‬ ‫وبين الحقيقة ولا دخل له في طلبها‪.‬‬‫لكن الإسلام ألغى الوساطة أو الكنسية بالمعنى الديني وكان ينبغي أن يلغي الوساطة أو‬‫الحزبية بالمعنى الماركسي أو القبلي الذي يجعل المواطنين تابعين لمافية تتوسط بينهم وبين‬ ‫طلب الحقيقة بأنفسهم سواء كان هذه الحقيقة روحية دينية أو مادية طبيعية‪.‬‬ ‫لذلك ذكر القرآن النبي بهذين الحقيقتين‪.‬‬ ‫ففي نفس الآية بل في جملة واحدة ذكره بأنه ليس إلا مذكر وبأنه ليس مسيطر‪:‬‬‫\"فذكر إنما أنت مذكر (لست وسيطا روحيا) ليست عليهم بمسيطر (لست وصيا سياسيا)\"‪.‬‬‫وإذا كان الرسول منفيا عنه هذين الدورين فإنما ذلك علته قول الإسلام بالحريتين‬ ‫الروحية في التربية والسياسية في الحكم وهما وظيفتا الأمة‪.‬‬‫والوظيفتان حرفتا لأنهما نقلتا من الأمة إلى من ينوبها في التربية وفي الحكم أو من‬‫يقتضيهما تقسيم العمل الذي يجعل جزءا من رعاية الشأن العام يصبح فرض كفاية خادما‬ ‫للأمة التي ترعى ذاتها فرض عين‪.‬‬‫والمشكل أن فرض الكفاية هنا يتعلق برعاية كل فروض الكفاية بمعنى رعاية الدولة‬ ‫لنظام الجماعة‪.‬‬‫وفي هذه الكفاية الراعية للكفايات أعني جزءا من العمل السياسي تربية وحكما يباشران‬‫نيابة عن الجماعة تكوين ذاتها ومراقبتها بكل الكفايات التي تنتج عن تقسيم العمل المنتج‬‫للإنسان ولشروط بقائه مرت البشرية بمرحلتين من العبودية‪ :‬عبودية الطبيعة وعبودية‬ ‫التاريخ وغالبا ما تجتمعان‪.‬‬ ‫واجتماعهما في البنية السطحية له شكلان‪:‬‬‫• ثيوقراطي (الدولة الثيوقراطية التي تحكم باسم الله وتربيتها كنسية وحكمها بالحق‬ ‫الإلهي)‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫• وانثروبوقراطي (الدولة الطبيعية التي تحكم باسم الإنسان وتربيتها حزبيها وحكمها‬ ‫بالحق الطبيعي أو القوة أو الاغلبية التي هي قوة سياسية)‪.‬‬ ‫والبنية العميقة واحدة‪.‬‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فماذا تبين البنية العميقة الواحدة بين‪:‬‬‫• الثيوقراطيا أو بين التربية (الوساطة) والحكم (الوصاية) باسم الله‬ ‫والانثروبوقراطيا‬ ‫• أو بين التربية (الوساطة) والحكم (الوصاية) باسم الإنسان؟‬ ‫ولنا عن ذلك مثالان‪:‬‬ ‫• الاول علاقة الثورة الفرنسية بالكاثوليكية‬ ‫• والثانية علاقة الثورة الماركسية بالهيجلية‪.‬‬‫‪ .1‬فالأول يدعي أصحابه القطع بين السياسة والدين أو فصل الدولة عن الكنيسة‪.‬‬ ‫وهو النموذج العلماني اليعقوبي أو الفرنسي‪.‬‬‫وفي الحقيقة كل ذلك مغالطة‪ :‬فالأمر لا يتعلق بفصل السياسة عن الدين ولا الدولة عن‬‫الكنسية بل بجعل السياسة دينا والدولة كنيسة أو بصورة أدق بالاستحواذ على الوساطة‬ ‫والوصاية‪.‬‬‫‪ .2‬والثاني يدعي أصحابه القطع بين المثالية والمادية أو التحرر النهائي من الدين‬‫وتبني بديلا مما كان يؤسسه أي الوساطة (الحزب بدلا الكنيسة) والوصاية (طبقة العمال‬ ‫بدل الدولة)‪.‬‬‫ومن ثم فالمثالية لم تلغ بل ضمت لسلطة الدولة المادية كما أن الكنيسة لم تلغ في‬ ‫اليعقوبية بل ضمت لسلطة الدولة‪.‬‬‫والسؤال هو فيم تتمثل سلطة الدولة التي جمعت بين ما كان للدين في التربية والحكم‬‫باسم الله دينيا وما كان للفلسفة في التربية والحكم باسم الإنسان (وفيه يحايث الله في‬‫فلسفة هيجل تأويلا للمسيحية) فأصبح للدولة التي تمثل القوة الفعلية التي تجمع بين‬ ‫المادي والروحي‪ :‬تلك هي البنية العميقة‪.‬‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وهكذا نجد العلاقة بقراءة سورة هود والثورتين اللتين فشلتا إزاء الطبيعة (نوح) وإزاء‬‫التاريخ (موسى) وما بينهما من تعين للعقبات التي أدت إلى فشل الثورتين أعني العلاقة‬‫بالطبيعة الخارجية ونظامها (هود وشعيب) والعلاقة بالطبيعة الداخلية ونظامها (صالح‬ ‫ولوط) والقلب الذي بقي وعدا استقباليا‪.‬‬‫ولا نفهم هذه العلاقة إلا إذا عدنا من علة فشل ثورة موسى إلى علة فشل ثورة نوح وما‬‫بينهما من إشكال اقتصادي اجتماعي عند هود وشعيب وإشكال مائي جنسي عند صالح ولوط‬‫والسؤال المطلق عند إبراهيم ملتفتا إلى ثورته وإلى البشرى المستقبلية التي قدمت له رغم‬ ‫أن زوجته مسنة وعاقر‪.‬‬ ‫وشرط فهم هذا الفشل الاعتماد على النظرية التي وضعتها وتتعلق بالرمزين‪:‬‬ ‫• رمز الفعل (العملة)‬ ‫• وفعل الرمز(الكلمة)‪.‬‬‫‪ .1‬فالأول هو شرط التبادل بتوسط أداة التقويم للبضائع والخدمات المادية أو‬ ‫الاقتصاد وشرطه العمل‪.‬‬‫‪ .2‬والثاني هو شرط التواصل بتوسط أداة التقويم للمعاني والنظريات الرمزية‬ ‫وشرطه النظر‪.‬‬‫وبخلاف ما يتبادر إلى الأذهان وما تصور الماركسيون أنه ثورتهم على المثالية فإن الكلمة‬‫والتواصل والنظر مقدمة على العملة والتبادل والعمل لأن أدوات هذه ومناهجها مستمدة‬ ‫من تلك‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن علاقة الإنسان العمودية بالطبيعة أساسها علاقته الافقية بالتاريخ‪.‬‬ ‫وإذن فالثورة الثانية شرط الأولى‪.‬‬ ‫ذلك أن نوحا لم يبن السفينة بعلمه بل بعلم الله‪.‬‬ ‫لكن الإنسانية عليها أن تبني السفينة بعلمها‪.‬‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ومن ثم فثروتها على العبودية الطبيعية مشروطة بثورتها على العبودية السياسية‪.‬‬‫وذلك هو اساس الرؤية القرآنية‪ :‬تحرير الإنسان من الوساطة في التربية ومن الوصاية‬ ‫في الحكم هو أصل منزلة الخليفة‪.‬‬‫منزلة الخليفة هي التي يعرف بها ابن خلدون الإنسان بوصفه \"رئيسا بالطبع بمقتضى‬‫الاستخلاف الذي خلق له\"‪ .‬وهو لا يكون كذلك إلا إذا لم تفسد فيه \"معاني الإنسانية\"‬‫فيكون حرا روحيا (التربية التي لا وساطة فيها) وحرا سياسيا (الحكم الذي لا وصاية‬ ‫فيه)‪.‬‬ ‫وفساد معاني الإنسانية هو علة فشل ثورة موسى‪.‬‬ ‫كيف ذلك؟‬ ‫ألم يصنع اليهود بعده العجل الذهبي ذا الخوار؟‬ ‫إنه دين العجل‪:‬‬‫• فمعدنه (الذهب) هو تحول رمز الفعل (العملة) من أداة تبادل إلى معبود وأداة‬ ‫سلطان على المتبادلين‪.‬‬‫• وخواره هو تحول فعل الرمز (الكلمة) من أداة تواصل إلى معبود وأداة سلطان على‬ ‫المتواصلين‪.‬‬‫ولما تصبح العملة أداة سلطان على المبادلين يصبح الاقتصاد ربويا يستعبد الإنسان بالحكم‬‫المسيطر على الثروة ولا يحرره من الطبيعة ولما تصبح الكلمة أداة سلطان على المتواصلين‬‫تصبح الثقافة إيديولوجية يستعبد الإنسان بالتربية المسيطرة على التراث ولا يحرره من‬ ‫التاريخ‪ :‬سر الثورة القرآنية‪.‬‬ ‫فالقرآن يعتبر الربا واختلاف الأقوال عن الأفعال أكبر جرمين في الأخلاق الإسلامية‪:‬‬ ‫• فالله أعلن الحرب على الربا‬ ‫• والله يعتبر من يقولون ما لا يفعلون أشد مقتا عنده‪.‬‬ ‫وهما في الحقيقة تعين الشرك أو عبادة غير الله أي عبادة من‪:‬‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫• يستعبد الناس بالعملة (الربا)‬ ‫• ومن يستعبدهم بالكلمة (الإيديولوجيا)‬‫دين العجل أي سلطان العملة (معدن العجل) وسلطان الكلمة (خوار العجل) هما البنية‬‫العميقة للثيوقراطيا والانثروبوقراطيا ولذلك اعتبرتهما بنية سطحية تبدو متنافية في‬‫الظاهر لكنهما متحدان في العمق بمعنى أن ما كانت تؤسسه الثيوقراطيا هو ما استحوذت‬ ‫عليه الانثروبوقراطيا فتبين عبودية لمافية العجل‪.‬‬ ‫وهذا هو جوهر العولمة‪:‬‬‫الإنسان لم يتحرر من وساطة التربية ووصاية الحكم إلا وهميا لأن ما كان بيد الكنيسة‬ ‫والحكم بالحق الإلهي صار بيد المافيات الحزبية وبالحكم بالحق الطبيعي‪.‬‬‫الوساطة والوصاية انتقلت من إيديولوجيا توظف الديني إلى ايديولوجيا توظف‬ ‫الفلسفي‪ :‬تحريفان يرفضهما الإسلام‪.‬‬‫ولذلك فليس بالصدفة أن يتحالف الذراعان (إيران وإسرائيل) وسنداهما (روسيا‬‫وأمريكا) ضد الإسلام لأن هؤلاء جميعا يتأسسان على تحريف الدين ويتكلمان باسم‬‫الثيوقراطيا والانثروبوقراطيا لكنهما يعملان بالأبيسيوقراطيا أو ببعدي دين العجل‪:‬‬ ‫الربا أو عبودة العملة والايديولوجيا أو عبودية الكلمة‪.‬‬‫كيف الآن نفهم ما يترتب على فشل ثورة موسى التي وصفنا هنا من ضرورة فشل ثورة‬ ‫نوح؟ أليس الإنسان الآن قد حقق التحرر من الطبيعة؟‬ ‫ألسنا في قمة التحرر التكنولوجي من سلطان الطبيعة على الإنسان؟‬ ‫ذلك هو الوهم الذي علينا فهم عمق تخفيه‪.‬‬ ‫فالإنسان الذي يبدو قد تحرر صار عبدا للطبيعة الداخلية‪.‬‬‫التحرر من الطبيعة الخارجية بالتكنولوجيا أوهم الإنسان بما يمكن أن نسميه خرافة‬‫نيتشوية أعني إرادة القوة أو مرض إثبات الإرادة والقدرة وهو تسيب الطبيعة الداخلية‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لدى الإنسان التي لا يشبعها شيء عدى تهديم ما حولها ومن ثم شروط قيامها الذاتي بحيث‬ ‫إن الأمر كله هو نزعة الانتحار الجماعي‪.‬‬ ‫ما يجري من إخضاع للطبيعة الخارجية مترتب على‪:‬‬ ‫• عبودية العملة أو جعلها أداة استعباد علته التنافس الربوي على تركيم الثروة‬ ‫• وعلى عبودية الكلمة أو جعلها أداة استعباد إيديولوجي على تركيم التراث‪.‬‬ ‫وكلاهما يقتضي تحويل الطبيعة من كائن حي إلى كائن ميت مثله التاريخ‪.‬‬‫فتفهم حينها كيف أن الانتاج المادي لم يعد لسد حاجة الحياة بل لقتل الحي من العالم‬‫نباته وحيوانه وحتى إنسانه من أجل تركيم الثروة الميتة كمن يجمع الغذاء خوفا من الجوع‬‫والانتاج الرمزي لم يعد لسد حاجة الفكر بل لقتل الوجود جماله وجلاله وعلمه وإنسانه‬ ‫من أجل تركيم التراث الميت‪.‬‬‫هذا الخوف المادي والروحي الذي يدفع البشرية إلى حتفها هو الذي يجعلها تفسد شروط‬ ‫بقائها العضوي‬‫• فتفسد الغابات والحيوانات والمناخات ولا تبقي إلا على \"البلاستيك\" الذي لا حياة فيه‬‫• وتفسد شروط بقائها الروحي فتفسد اللغات والحضارات ولا تبقي إلا الأدوات‬ ‫الرمزية الخادمة لعملية الإفساد الاولى‬‫وهذا المراكمتان هما جوهر العولمة التي هي عبودية كونية لدين العجل أعني للعملة‬‫التي صارت أداة سلطان على المتبادلين ولم تبق أداة تبادل وللكلمة التي لم صارت أداة‬ ‫سلطان على المتواصلين ولم تبق أداة تواصل‪.‬‬‫والسلطانان هما ما كان خفيا في الثيوقراطيا والأنثروبوقراطيا وما كشفته سورة \"هود\"‪.‬‬‫لكن ما كشفناه من وراء ذلك هو دور ما بشر به إبراهيم وزوجته‪ :‬ويكفي أن نصل ذلك‬ ‫بمن قبل إبراهيم وبمن بعده في سورة هود‪ :‬صالح ولوط‪.‬‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فكلاهما رمز لشرطي الوجود الحي عامة والإنساني خاصة أي الماء والجنس‪.‬‬‫وقبلهما هود وشعيب أو المشكل الاقتصادي ونظامه وما قبلهما نوح وموسى أو صاحبا‬ ‫الثورتين‪.‬‬‫فتفهم حينها أن البشرى لا تعلق بإسحق بل بمحمد الذي استأنف الإبراهيمية دون‬‫الاقتصار على الفعلين اللذين عرف بهما ابراهيم (أسئلة الأفول وتجاوز الأضاحي‬‫البشرية) بل بالتصدي لما يعوق ثورتي نوح وموسى‪ .‬والبدء يكون بثورة موسى لأنها هي‬ ‫التي تجعل ثورة نوح قابلة للتحقيق دون فساد وسفك للدماء‪.‬‬‫وأختم بالكلام في طبيعة المشترك بين الديني والفلسفي من حيث موضوع العلاج‬‫وطبيعته‪ :‬فليس لأي منهما دعوى الكلام العلمي في الجزئيات‪ .‬هما يبحثان في الرؤى التي‬‫تحدد شروط إمكان الكلام العلمي والعملي في الإنساني سواء عرفناه دينيا بالاسترواح‬ ‫الاستخلافي أو فلسفيا بالاستعقال الانساني‪.‬‬‫ولا يمكن أن نجد ذلك في العلوم ولا في الأعمال لأنهما من أدوات الاسترواح الاستخلافي‬ ‫دينيا والاستعقال الإنساني فلسفيا‪.‬‬‫وكل من يحاول البحث عن قوانين علمية جزئية للطبيعة أوسنن جزئية للتاريخ في آيات‬‫القرآن النصية لا يرفع من شأن القرآن بل يحط منه لأنه يؤرخنه إذ إن العلم تاريخي‬ ‫بالجوهر‪.‬‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ابو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook