Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore كاريكاتور الفكر، منزلة الفكر وفخ مؤمنون بلا حدود – أبو يعرب المرزوقي

كاريكاتور الفكر، منزلة الفكر وفخ مؤمنون بلا حدود – أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2019-01-18 07:08:58

Description: كاريكاتور الفكر، منزلة الفكر وفخ مؤمنون بلا حدود – أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫منزلة الفكر وفخ \"مؤمنون‬ ‫بلا حدود\"‬ ‫الأسماء والبيان‬



‫المحتويات ‪1‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬ ‫تمهيد‪1 :‬‬ ‫الفصل الأول ‪2‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪9 -‬‬ ‫تمهيد‪9 :‬‬ ‫الفصل الثاني ‪10‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪16 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪26 -‬‬ ‫تمهيد‪26 :‬‬ ‫الفصل الرابع ‪26‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪34 -‬‬ ‫تمهيد‪34 :‬‬ ‫الفصل الخامس والأخير ‪34‬‬

‫‪--‬‬ ‫(سنورده مع كل فصل من فصول المحاولة الخمسة)‪:‬‬ ‫هذه محاولة تحتاج إلى تمهيد لأنها عرض لثمرات دراسة بعنوان \"حب التأله والجاه في‬ ‫الأنثروبولوجيا الخلدونية\" تمت برمجتها في قسم العلوم الإسلامية ببيت الحكمة منذ ما قبل‬ ‫الصيف وعرضت يوم الخميس ‪ .2018.11.15‬وصادف أن حصل في نفس اليوم حدثان مهمان‬ ‫يتعلقان بمثال عيني حدث فعلا وله صلة بهذه القضية الأساسية في تحديد حب التأله والجاه‬ ‫المحدد لأوضاع \"المفكرين\"‪:‬‬ ‫‪ .1‬تنظيم يوم الفلسفة السنوي الذي لم أدع إليه ولم أحضره‪.‬‬ ‫‪ .2‬ما حصل للمسؤول الأردني على \"مؤمنون بلا حدود\"‪.‬‬ ‫فلوضع \"المفكرين\" في تونس وفي كل بلاد العرب اليوم صلة وطيدة بهذه المنظمة ومثيلاتها‬ ‫في علاقة بالحدث التاريخي الأهم في بلاد العرب أو ما يسمى بثورة الشباب بجنسيه وبالثورة‬ ‫المضادة التي تحاربها ليس بالجيوش والمال فحسب بل بالحلف مع أعداء الشعوب في العالم‬ ‫وخاصة بالمنظمات التي تبدو في ظاهرها فكرية وهي في باطنها مخابراتية في خدمة مخابرات‬ ‫هؤلاء الأعداء‪.‬‬ ‫لذلك فهذه المحاولة بفصولها الخمسة ليس الهدف منها الكلام على الظرفيتين بل بيان‬ ‫أهمية \"نظرية ابن خلدون في التأله والجاه\" لفهم أوضاع الفكر الديني والفلسفي في كل‬ ‫عصر بمقتضى نظرياته في الأنثروبولوجيا التي هي في آن فلسفية ودينية لأنه يعرف‬ ‫الإنسان بكونه \"رئيسا بالطبع (فلسفة) بمقتصى الاستخلاف الذي خلق له (دين)\"‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الكثير يتصور المتكلمين باسم الفلسفة قديمهم وحديثهم في بلادنا العربية خاصة‬ ‫والإسلامية عامة ممثلين للعقلانية في مقابل اللاعقلانية التي يمثلها المتكلمون باسم الدين‬ ‫فيهما‪.‬‬ ‫لكني مع ذلك وصفت كلا النوعين من المتكلمين باسميهما بالكاريكارتورين من الفكرين‬ ‫الفلسفي والديني في آن‪ :‬فما العلة؟‬ ‫ألا أبدو متجنيا عليهما ومميزا لنفسي بمنطق خالف تعرف؟‬ ‫أريد أن أجيب عن هذا السؤال لأني علمت ان \"فلاسفة تونس\" أغلبهم من زبائن \"مؤمنون‬ ‫بلا حدود\" مع غيرهم من زبائنها قد نظموا أمس يوم الفلسفة في ما بينهم لأن غيرهم حتى‬ ‫وإن كان مهنيا على الاقل من \"الطائفة\" يعتبر من الظلاميين الذين لا يدعون لانهم ليسوا‬ ‫مثلهم من العقلانيين‪.‬‬ ‫وطبعا فقد يبدو الوصل بين هذه المحاولة والمناسبة شبه رد فعل على الاستثناء‪.‬‬ ‫لكن ذلك مجرد استسناح فرصة للكلام في الموضوع‪ .‬ذلك أن الاستثناء ليس جديدا ومن‬ ‫ثم فلا يستحق الرد عليه‪ ،‬كما أن استعمالي لمفهوم الكاريكاتورين وصفا لأصحاب دعوى‬ ‫التحديث الفلسفي والتأصيل الديني ليس ابن هذه المناسبة‪ ،‬بل هو ملازم دائم لوصفي ازمة‬ ‫فكرنا منذ عقود‪.‬‬ ‫والملازمة لا صلة لها بالظرفيات ولا بالمناسبات بل هي ناتجة عن تعليل لأزمة الفكر الفلسفي‬ ‫والديني في حضارتنا وسيطه (ما يسمى بعصر فكرنا الذهبي) وحديثه (ما يسمى بفكر‬ ‫العرب منذ بداية ما يسمى بالنهضة‪-‬بتعليلين‪:‬‬ ‫• ابستمولوجي (نظرية المعرفة)‪.‬‬ ‫• وأكسيولوجي (نظرية القيمة)‪.‬‬ ‫في هذين الفكرين وهما بخلاف ما يبدو في الظاهر شديدا التضامن والتكامل ولوحدة‬ ‫الموقفين المعرفي والقيمي وصلتهما بمجال انطباقهما في تاريخ الإنسان الحضاري‪ .‬وأفترض‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أن المتابعين لكلامي في السياسة يذكرون بياني الوحدة البنيوية العميقة بين النظامين‬ ‫الثيوقراطي (الحكم باسم الله) والانثروبوقرطي (الحكم باسم الإنسان) وراء ظاهر‬ ‫الصراع بينهما أعني الحكم الديني والحكم العلماني المزعومين‪ :‬وهذه البنية العميقة‬ ‫سميتها النظام الأبيسيوقراطي (دين العجل)‪.‬‬ ‫ما أسميه بالكاريكاتورين من الفكرين الديني (أصحاب التأصيل الروحاني) والفلسفي‬ ‫(أصحاب الحديث العقلاني) رغم كونهما ليسا ممثلين للنظام الثيوقراطي والنظام‬ ‫الانثروبوقراطي فهما تابعان لهما بمعنى أنهما الفكر المعبر عنهما والمبرر لأفعالهما حتى‬ ‫وإن كانا غير داريين بأنهما من \"اصحاب\" الأقوال التابعين لظاهر النظامين بمنطق دين‬ ‫العجل‪.‬‬ ‫وهذه المعضلة‪-‬اصحاب الأقوال (هذا مصطلح وضعه الفارابي لوصف المتكلمين ويستثني‬ ‫منه طبعا من يسميهم علماء بالعلم الذي تم ولم يبق إلا أن يعلم ويتعلم ليستثني المشائين)‬ ‫‪-‬لم يضع العلامات الأولى لعلاجها الفلسفي بحق إلا ابن خلدون في ثلاثة فصول من‬ ‫المقدومة ‪ 10‬و‪ 27‬و‪ 31‬من الباب السادس‪.‬‬ ‫فدراسة هذه الفصول الثلاثة واكتشاف ما بينها من صلات هي التي تبين علة الدغمائية في‬ ‫كاريكاتور الفكر الفلسفي الذي يدعي العقلانية وكاريكاتور الفكر الديني الذي يدعي‬ ‫الروحانية والتي تبدأ بفساد نظرية المعرفة وتنتهي بفساد نظرية القيمة في فكر‬ ‫الكاريكاتورين المسيطر على فكرنا وسيطا وحديثا‪.‬‬ ‫وسأبدأ بتعريف فساد هذين النظريتين ثم أشرح الوصل الذي يثبت ذلك في فصول ابن‬ ‫خلدون الثلاثة عشر لعلم الكلام والسابع والعشرين للإلهيات والحادي والثلاثين وهو‬ ‫الخاتم والمبين لهذه العلاقة التي جعلته يسمي الثالث \"إبطال الفلسفة وفساد منتحليها\"‪.‬‬ ‫وينبغي إضافة \"هذه الفلسفة\" السائدة في عصره‪.‬‬ ‫ما الجامع بين \"الفلسفي\" الذي يبطله ابن خلدون ويبين فساد منتحله‪ :‬يبطله معرفيا‬ ‫ويستفسده قيميا؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫إنها نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة ونظرية القيمة القائلة بما يترتب على المطابقة‬ ‫الحاصرة للوجود في الإدراك من حصر القيم في اللذة المزعومة عقلية فينتج‪ :‬حصر الوجود‬ ‫في الدنيوي معرفيا وقيميا‪.‬‬ ‫ومن له دراية بفلسفة ارسطو التي هذا هو جوهرها يعلم أمرين‪:‬‬ ‫في محاولة تأسيس نظرية المعرفة المطابقة كان عليه حل مشكلة نظرية المعرفة بالتمييز‬ ‫بين الإدراك العفوي والإدراك العلمي حتى يدحض القول بالرؤية السوفسطائية في‬ ‫الإدراك بالتمييز بين الفردي الذاتي والنوعي الذي ظنه موضوعيا‪.‬‬ ‫بعبارة أخرى إذا نحن خلصنا الإدراك من الفروق الفردية الناتجة عن عدم إخضاعه إلى‬ ‫معايير كلية وكونية ‪-‬وهي موضوع المنطق الذي كان أول واضعيه‪-‬فإن الإدراك الخاضع‬ ‫لها يكون مطابقا للوجود ومن ثم فهو علم يعتمد على القول بالمطابقة بين ما نعلم من الوجود‬ ‫والوجود‪ :‬نصل إلى علم العلم المحيط‪.‬‬ ‫وهذا هو مربط الفرس في الفلسفة القديمة كلها وهو الذي وجه إليه الغزالي الطعنة‬ ‫الأولى التي لم يستطع أحد تجاوزها إلا من حيث صوغها النهائي عند كنط‪ :‬العقل المدرك‬ ‫لذاته يدرك أنه يعلم ويدرك أنه يعلم أن علمه ليس محيطا حتى لو كان ما يتجاوز إدراكه‬ ‫فرضيا من جنس مفهوم \"طور ما وراء العقل\"‪.‬‬ ‫صحيح أن الغزالي تراجع بمعنيين‪:‬‬ ‫‪ .1‬تصور أن طور ما وراء العقل يمكن أن يصح على \"الكشف\" الصوفي بمعنى أن ما يعجز‬ ‫دونه العقل يمكن للكشف أن يتداركه فتكون للإنسان إحاطة بالوجود \"على ما هو عليه\"‬ ‫ومن ثم فالقول بالمطابقة ممكن‬ ‫‪ .2‬حل المنقذ وهو عودة الثقة بـ\"الأوليات\" بنور يقذفه الله في القلب‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن الغزالي عاد إلى الفلسفة‪-‬الثقة بالأوليات‪-‬عن طريق \"الكشف\" أي إن‬ ‫العقلانية أو الإيمان بأن العقل يعلم الأشياء على ما هي عليه بمقتضى الأوليات التي عادت‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الثقة بها بفضل نور كاشف يفيد بأن أوليات العقل تستحق الثقة ومن ثم فهي تصل إلى‬ ‫معرفة الأشياء على ما هي عليه‪ :‬المطابقة‪.‬‬ ‫ولذلك فالغزالي بهذا ‪-‬المنعرج‪-‬أسس لنظرية المطابقة في الفلسفي وفي الديني وأصبح‬ ‫بالوسع القول إنه هو الذي \"فلسف\" التصوف والكلام بإدخال المنطق الارسطي‪ .‬ومن له‬ ‫دراية بالمنطق الأرسطي المقصود في هذه الحالة ليس مضمون التحليلات الاوائل (الحساب‬ ‫المنطقي الصوري) بل مضمون الأواخر‪.‬‬ ‫فالمقصود هو شروط تحقيق المطابقة أو نظرية العلم في التحليلات الأواخر‪ :‬وذلك هو ما‬ ‫أدخله حتى في أصول الفقه إذ هو قدم للمستصفى بنظرية البرهان والحد أي بنظرية العلم‬ ‫الارسطية التي هي موضوع التحليلات الأواخر والتي لا يمكن أن تفهم من دون كل‬ ‫ميتافيزيقا أرسطو والـهيلومورفية‪.‬‬ ‫والهيلومورفية جمع بين عليتا فيزياء أرسطو الأساسيتين ‪-‬المادة والصورة‪-‬على مثال‬ ‫الصناعات قيسا للعلة في الوجود الطبيعي وحتى التاريخي على التقنيات البدائية التي يكون‬ ‫فيها النجار مثلا مصورا للكرسي (الصورة) من الخشب (المادة) بفاعلية خارجية هي الفن‬ ‫أو الصناعة وتقاس عليها الطبيعة‪.‬‬ ‫والكثير يتصور أن ارسطو يعتبر هذه الفاعلية كامنة في طبائع الأشياء الفردية أو حتى‬ ‫النوعية أو حتى الجنسية وهو دليل جهل مطبق بالأرسطية‪ .‬فلا يمكن للمادة العينية أن‬ ‫تتغير بذاتها ولا للصورة العينية أن تغير بذاتها حتى وإن بدا أن الموجود الذي بالفعل من‬ ‫النوع أو الجنس يحرك الموجود الذي بالقوة ففعل الطبيعة كما يفعل النجار‪.‬‬ ‫لكن ذلك غير صحيح‪.‬‬ ‫فلا بد من أن يدخل فاعلان موجودان بالفعل كونيان أو الطبيعة الشاملة الموجودة بالفعل‬ ‫يمكن وصف الفاعل الصورة (الله) والفاعل المادي حركات السماء وكلاهما سرمدي‪.‬‬ ‫الأفلاك تتحرك فتضج المادة التي بالقوة في العالم الأدنى أو عالم ما دون القمر وفيه‬ ‫القوة التي في المادة الأولى تتصور بما فيها من شوق لمحاكاة الحركة الكونية وبما في الحركة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الكونية من شروط الإنضاج لتحقيق التصوير الطبيعي مثلا في النبات والاشجار تغير‬ ‫الفصول من شروط الإنضاج‪.‬‬ ‫ولو أخذ هيجل مثل هذه الظاهرة التي تفطن لها أرسطو مقدما نظام الحركة الكلي على‬ ‫الحركة العينية بعين الاعتبار لاستحال أن يقول بالجدل لأنه لا وجود لتناقض في ذات‬ ‫الشيء تجعله ذاتي الحركة كما لا توجد طبيعة في العين تجعلها ذاتية الحركة بل الحركة‬ ‫شرطها بنيوي وهو نظام العالم كله بمادته أو كيان الأشياء وبصورته أو قوانين علاقات‬ ‫الأشياء‪.‬‬ ‫وهذا هو اساس دحضي للمنطق الجدلي الذي يجعل الماهيات متحركة بما فيها من تناقض‬ ‫جدلي‪ .‬فالشيء لا يتحرك بما في ماهيته أو كيانه من تناقض بل هو يتحرك بما له من‬ ‫منزلة في النظام العام‪.‬‬ ‫ومنزلته في النظام العالم ليست خاصية ذاتية للأعيان بل هي نظام القوانين التي تجعلها‬ ‫متعالقة ولسنا حتى بحاجة لاعتبار الأشياء ذات ماهية وجوهر مؤلف من الاثبات والنفي في‬ ‫له بقاء مستمد من جوهره بل بقاؤه ليس مضمونا لأنه نتيجة تعالق ما بين ما يملأ الشبكة‬ ‫التعالقية في النظام بكامله‪.‬‬ ‫ولو قسنا الأمر على نظرية ابن خلدون سواء في مثاله عن العصبيات أو عن الدول لفهمنا‬ ‫ذلك فهما أوضح‪ .‬فهو شبه العصبيات في تفاعلها بصرف النظر عن اعيانها المتغيرة على‬ ‫الدوام بما ينتج عن رمي حصوات في بركة ماء‪ .‬فالناتج هو حصول تموجات دائرية تتقاطع‬ ‫وتتراكب في ماء البركة (وسط التفاعل أو حيزه) وتتغالب بسبب ليس منها بل من الحصوات‬ ‫المرمية ومن قوانين حركة الماء الحامل للموجات‪.‬‬ ‫والدول هي العصبيات وهي الأمواج وقوانين التاريخ السياسي هي قوانين حركة الأحياز‬ ‫لأن وسط الحركة ليس الماء بل هو الجغرافيا والتاريخ وثمرة العمل الإنسان في الجغرافيا‬ ‫خلال تاريخ الإنسان وثمرة العمل الإنساني في التاريخ في إطار جغرافيا معينة سكنها‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الإنسان‪ .‬والفكر سواء كان دينيا أو فلسفيا وهو لا يكون إلا دينيا وفلسفيا في آن رغم غلبة‬ ‫الأول على التاريخ والثاني على الطبيعة يخضع لنفس المنطق الذي وصفت‪.‬‬ ‫ولهذه العلة كان موقف ابن تيمية من الغزالي الذي ظنه الحمقى من حداثيي العرب عدوا‬ ‫للعقل‪-‬لأنهم يعتبرون هذه الفلسفة عقلانية‪-‬ومن نظرية المعرفة الأرسطية القائلة‬ ‫بالمطابقة بحرز المنطق‪ .‬فبين أن حرز المنطق ليس قطعا مع قول السفسطة بأن الإنسان‬ ‫مقياس كل شيء موجوده ومعدومه بل تأكيد لها‪.‬‬ ‫فيكون نقد ابن تيمية ليس لمنطق الصوري الذي يعتبره حالة خاصة من الحساب الرياضي‬ ‫ولا ينكره بل من نظرية المعرفة التي وضعها أرسطو في التحليلات الأواخر‪ :‬القول بالمطابقة‬ ‫أي علم الشيء على ما هو عليه يعني رد الوجود إلى إدراك الإنسان له‪ :‬تعميم للنظرية‬ ‫السوفسطائية‪ :‬الإنسان مقياس الوجود‪.‬‬ ‫وقد بين ذلك بصورة \"الطرفة\" شرحا لعبارة من تمنطق فقد تزندق‪ .‬فشرحها بالقول إن‬ ‫القصد هو هذا المعنى ثم أضاف‪ :‬من تمنطق فقد تزندق في النظر وتقرمط في العمل أي إن‬ ‫نظرية المعرفة عنده سوفسطائية بمعنى اعتبار الإنسان مقياس الوجود وقرمطية أي ان‬ ‫نظرية القيمة عنده دنيوية بمعنى الإلحاد الديني‪.‬‬ ‫يمكن القول إن خاتمة المسار من الغزالي إلى ابن تيمية كانت عند ابن خلدون في هذه‬ ‫النصوص الثلاثة التي سأحاول بيان دلالتها في حسم هذه القضية التي تؤدي إلى ضرورة‬ ‫ابطال هذه \"الفلسفة\" المشتركة بين الكلام والتصوف والفلسفة بمعنى الفن الفلسفي وليس‬ ‫الرؤية التي توصف بكونها فلسفية‪.‬‬ ‫لكن قبل ذلك ينبغي أن أحدد النظير الحالي لهذا المعنى الذي ينبغي إبطاله وفساد‬ ‫منتحليه كما فعل ابن خلدون مع النظري الوسيط الذي سيطر على فكر المتكلمين والمتصوفة‬ ‫والفلاسفة في فكرنا الوسيط‪ .‬فما كانت تمثله رؤية أفلاطون وأرسطو لعصرهم صارت تمثله‬ ‫رؤية هيجل وماركس لعصرنا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ورؤية هيجل وماركس أفسد معرفيا وأقبح قيميا من رؤية أفلاطون وأرسطو‪ .‬فأفلاطون‬ ‫وأرسطو رغم قولهما بالمطابقة‪ -‬وإن بتفاوت لأن أفلاطون ينفي إطلاقها بسبب المحافظة‬ ‫على الفرق بين المثال والنسخ بخلاف أرسطو‪ -‬فإن هيجل دون أفلاطون قولا بوجاهة المثالية‬ ‫وماركس فوق أرسطو قولا بجلافة المادية‪.‬‬ ‫والقصد بتفضيل أفلاطون على هيجل أنه لا يرد المثال لحكم الواقع فيسمي ذلك عقلانية‬ ‫وبتفضيل أرسطو على مارسك أنه لا يرد الواقع إلى المادة فيسمى ذلك علما‪ .‬ومعنى ذلك‬ ‫أن هيجل وماركس يضيقان أفق الإنسان فيعتبران بمصطلح هيجل التاريخ الحكم النهائي‬ ‫ردا لقانون الروحي منه إلى قانون الطبيعي واعتباره تيوديسيا أو نظرية في العدل‬ ‫الإلهي‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن نكوص هيجل إلى القول بنظرية المعرفة المطابقة رفضا للنقد الكنطي يجعل‬ ‫الفكر الحديث في نسخته المثالية (يمين هيجل) وفي نسخته المادية (يسار هيجل) وكل ما‬ ‫تلاهما ذهاب إلى الغاية بأحد الموقفين بمن في ذلك نيتشة واصحاب السرديات أنهى ما‬ ‫يسميه هيجل الفرق بين الديسزايت ‪ Disseit‬والينزايت ‪.Jenseit‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫(نورده مع كل فصل من فصول المحاولة الخمسة)‪:‬‬ ‫هذه محاولة تحتاج إلى تمهيد لأنها عرض لثمرات دراسة بعنوان \"حب التأله والجاه في‬ ‫الأنثروبولوجيا الخلدونية\" تمت برمجتها في قسم العلوم الإسلامية ببت الحكمة منذ ما قبل‬ ‫الصيف وعرضت يوم الخميس ‪ .2018.11.15‬وصادف أن حصل في نفس اليوم حدثان مهمان‬ ‫يتعلقان بمثال عيني حدث فعلا وله صلة بهذه القضية الأساسية في تحديد حب التأله والجاه‬ ‫المحدد لأوضاع \"المفكرين\"‪:‬‬ ‫‪ .1‬تنظيم يوم الفلسفة السنوي الذي لم أدع إليه ولم أحضره‪.‬‬ ‫‪ .2‬ما حصل للمسؤول الأردني على \"مؤمنون بلا حدود\"‪.‬‬ ‫فلوضع \"المفكرين\" في تونس وفي كل بلاد العرب اليوم صلة وطيدة بهذه المنظمة ومثيلاتها‬ ‫في علاقة بالحدث التاريخي الأهم في بلاد العرب أو ما يسمى بثورة الشاب بجنسيه وبالثورة‬ ‫المضادة التي تحاربها ليس بالجيوش والمال فحسب بل بالحلف مع أعداء الشعوب في العالم‬ ‫وخاصة بالمنظمات التي تبدو في ظاهرها فكرية وهي في باطنها مخابراتية في خدمة مخابرات‬ ‫هؤلاء الأعداء‪.‬‬ ‫لذلك فهذه المحاولة بفصولها الخمسة ليس الهدف منها الكلام على الظرفيتين بل بيان‬ ‫أهمية \"نظرية ابن خلدون في التأله والجاه\" لفهم أوضاع الفكر الديني والفلسفي في كل‬ ‫عصر بمقتضى نظرياته في الأنثروبولوجيا التي هي في آن فلسفية ودينية لأنه يعرف‬ ‫الإنسان بكونه \"رئيسا بالطبع (فلسفة) بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له (دين)\"‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فنفي هيجل للينزايت (ماوراء العالم الطبيعي والتاريخي) وراء الديسزايت (العالم‬ ‫الطبيعي والتاريخي) هو الأفق المطلق للفكر الحديث بعد كنط سواء كان دينيا أو فلسفيا‬ ‫لأن الأول انتقل من الثيولوجيا التي يكون الإنساني تابعا فيها للإلهي إلى الانثروبولوجيا‬ ‫التي يكون فيها الإلهي تابعا للإنساني‪.‬‬ ‫الينزايت (ذاك الوجه أو الجانب) والديسزايت (هذا الوجه أو الجانب) لم يعودا عالمين‬ ‫بل عالم واحد أحدهما في الاعيان (هذا الوجه) والثاني في الأذهان (ذاك الوجه)‬ ‫وكلاهما في العالم الطبيعي والتاريخي كأحداث طبيعية وتاريخية وكأحاديث نفس يعيشها‬ ‫الإنسان إما بوصفها علما عقليا أو عملا روحيا‪.‬‬ ‫الفرق بين الفكر القديم والوسيط دينيا كان أو فلسفيا والفكر الحديث والمعاصر سواء كان‬ ‫فلسفيا أو دينيا هو في قلب المركز‪ :‬كان الله متبوعا والعالم تابعا والإنسان جزء من العالم‬ ‫التابع ويتجاوزه بالوعي بالتبعية وصار العالم متبوعا والله تابعا والإنسان من العالم المتبوع‬ ‫ويتجاوزه بالوعي بذلك‪.‬‬ ‫لكن التعليل واحد رغم انقلاب علاقة التبعية‪ :‬فالمتبوع صار تابعا والتابع صار متبوعا بسبب‬ ‫الموقف الإبستمولوجي (القول بالمطابقة) وما يترتب عليه من موقف أكسيولوجي‪ :‬علم‬ ‫الإنسان مطابق لموضوعه ومن ثم فالوجود يرد إلى الإدراك‪ .‬فلا يكون العلم علة لذاته‬ ‫بل وكذلك لموضوعه في ذاته‪.‬‬ ‫والثورة النقدية التي تنسب إلى كنط في الفكر الحديث كانت عائقا لهذا الموقف ومن ثم‬ ‫فلا يمكن تصور هيجل وماركس وكل المثالية الألمانية التي أوصلت هيجل لنفي الشيء في‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ذاته بعد محاولات فشته وشيلنج من دون النكوص إلى ما قبل كنط والعودة إلى القول‬ ‫بالمطابقة ونفي الشيء في ذاته‪.‬‬ ‫وبذلك نرى أن ما حصل في الفكر المعاصر أي من هيجل إلى اليوم هو المقابل التام لما حصل‬ ‫في المدرسة النقدية العربية وخاصة عند ابن تيمية وابن خلدون‪ .‬فالهدف كان شبيها‬ ‫بالهدف الذي تحقق عند كنط أعني التخلص مما سماه ابن خلدون وهم الفلسفة الاكبر‪ :‬رد‬ ‫الوجود إلى الإدراك رؤية مشتركة للفكرين‪.‬‬ ‫من أصفهم بالكاريكاتورين أعني كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث هما ممثلي‬ ‫النكوصين‪:‬‬ ‫‪ .1‬فكاريكاتور التأصيل عندنا نكص إلى القول بالمطابقة ورد الوجود إلى الإدراك بالمعنى‬ ‫الأفلاطوني والأرسطي‪.‬‬ ‫‪ .2‬وكاريكاتور التحديث عندنا نكص إلى نفسي القول بالمطابقة وكلن بالمعنى الهيجلي‬ ‫الماركسي‪.‬‬ ‫ونكوص كاريكاتور التأصيل عودة إلى ما قبل النقد التيمي (للأرسطية في نظرية المعرفة‬ ‫خاصة والقيمة بالتبعية) والخلدوني (في نظرية القيمة خاصة والمعرفة بالتبعية) ونكوص‬ ‫كاريكاتور التحديث عودة إلى ما قبل النقد الكنطي الجامع بين النقدين التيمي والخلدوني‬ ‫أي الإبستمولوجي والأكسيولوجي‪.‬‬ ‫ومن هنا الأهمية الكبرى التي أوليها لابن تيمية وابن خلدون في نقد الكاريكاتور التأصيلي‬ ‫ولكنط في نقد الكاريكاتور التحديثي‪.‬‬ ‫ويمكن لتوضيح موقفي أن أقول إني اعتبر الحداثيين من العرب موقفهم من هيجل‬ ‫وماركس شبيه بموقف الفارابي من أفلاطون وأرسطو‪\" :‬العلم اكتمل ولم يبق إلا أن يعلم‬ ‫ويتعلم » (الحروف)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫في الحقيقة أدعياء العقلانية من تحديثيي العرب هم رموز كاريكاتور العقلانية وأدعياء‬ ‫الروحانية من تأصيليي العرب هم رموز كاريكاتور الروحانية‪ .‬فلا أولئك ممثلون للفكر‬ ‫الفلسفي المدرك لشروطه وحدوده (هيوم وكنط) ولا هؤلاء ممثلون للفكر الديني المدرك‬ ‫لشروطه وحدوده (ابن تيمية وابن خلدون)‪.‬‬ ‫ويمكن أن نعتبر البداية في التفطن لقدم أخيل في الفكر الفلسفي القديم والوسيط وأثره‬ ‫في الفكر الديني أعني نظرية المعرفة وما يترتب عليها في نظرية القيمة كان الغزالي وسيطا‬ ‫وديكارت حديثا‪.‬‬ ‫ومن تجاوز القول بالمطابقة فيهما في النظر والعمل هما ابن تيمة وابن خلدون شرقا وهيوم‬ ‫وكنط غربا‪.‬‬ ‫وحتى لا نقع في فخ التمييز بين الحداثة وما بعدها في قضية القول بالمطابقة فينبغي أن‬ ‫نعلم أن إزالة أحد حدي العلاقة لا يلغي كونها تصبح تعريفا للحد الباقي فتكون المطابقة‬ ‫مع الذات‪ :‬إلغاء ما بعد الحداثة مرجعية السردية يعني أنها من جنس الإبداع الادبي وهو‬ ‫نظرية نيتشه‪ :‬لا مرجعية للإبداع الفني‪.‬‬ ‫والنتيجة التخريف الفلسفي الذي يعتبر أصحابه توارد الخواطر فكرا بمنطق توارد‬ ‫دلالات الالفاظ على الطريقة الهيدجرية أو ما يشبه الفيلولوجيا الأفلاطونية الساخرة‬ ‫من الفكر السوفسطائي بالايتمولوجيا التحكمية نكون قد انتقلنا من المطابقة مع الموضوع‬ ‫الممتنعة إلى مطابقة سردية الهذيان لذاتها‪.‬‬ ‫وينتج عن ذلك سذاجة الموقف الذي يزعم أن \"العلم لا يفكر\" بمعنى أن اخضاع الفكر‬ ‫إلى معايير شكلية ودرجات مطابقة غير إطلاقية مع مرجعية تحرر الخطاب من حديث‬ ‫النفس والخواطر التي لا تخضع لا إلى الانتظام المنطقي ولا إلى الاحتكام التجريبي يجعل‬ ‫الفكر الفلسفي سرديات هذيانية تسمى حرية الفكر‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن نزوات الغرائز قد تعتبر حرية متقدمة على القانون السياسي والخلقي لأنها قانون‬ ‫طبيعي متقدم عليهما في الجماعة البشرية‪ .‬والتحرر من المعايير الشكلية (المنطق‬ ‫والرياضيات) والمضمونية (تجربة ما بين ذاتية)متحرر من الأبستمولوجي والأكسيولوجي‬ ‫لأنه حديث نفس وهذيان لغوي ولغو إذ ليس كل لاغ نيتشة فليس كل كلام يعجب إعلاميي‬ ‫الموضة الثقافية وشعاراتها فلسفة فضلا عن أن يكون علما أو عملا على علم‪.‬‬ ‫صحيح أن ما يتقدم على القانون السياسي والخلقي حرية طبيعية وما يتقدم على المنطق‬ ‫والتجربة حرية \"فنية\" في التعبير الحر‪ .‬وعندما يصبح التفكير هو التعبير الحر والتدبير‬ ‫هو اتباع النزوات فإن ذلك قد يبدو توسيعا لآفاق الإبداع‪ .‬والنتيجة الأكيدة هي العكس‬ ‫تماما‪ :‬عودة البداوة والسرديات الشعبية‪.‬‬ ‫والبداوة والسرديات الشعبية لا يحكمها إلا ما دون المائدة والسرير فتكون في أولى مراحل‬ ‫الوجود الإنساني لم تصل إلى المائدة والسرير ولا إلى ما دون فن المائدة وفن السرير ولا‬ ‫فن المائدة والسرير وتريد أن تقفز إلى ما بعد فن المائدة والسرير‪ .‬وتلك حال كاريكاتور‬ ‫الحداثة وما بعدها عند عقلانينا‪.‬‬ ‫والفرق بينهم وبين كاريكاتور التأصيل هو أن ما يعيشه أولئك في \"الديسزايت‬ ‫‪\"Disseit‬يعيشه هؤلاء في \"الينزايت ‪ :\"Jenseit‬ما يحلم به كاريكاتور الحداثة العقلانية‬ ‫قيميا في الدنيا يحلم به كاريكاتور الأصالة الروحانية في الآخرة‪ .‬فلهما نفس الرؤية‬ ‫المعرفية (المطابقة) ويترتب عليها نفس الرؤية القيمية‪.‬‬ ‫والعالمان لا يختلفان في الحقيقة إلا في الأقوال لأن الأفعال واحدة‪ :‬فكلاهما عابد لنفس‬ ‫الأوثان والفرق أن أدعياء الحداثة يعيشونها كأحلام في الدنيا وأدعياء الأصالة كأحلام في‬ ‫الأخرى‪ .‬والسبيل إلى تحقيق تلك الأحلام في الدنيا عندهما واحدة وهي التبعية لصاحب‬ ‫السلطة والمال‪ :‬الجاه بالمعنى الخلدوني‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وها نحن قد وقعنا على الوصل بين هذين الكاريكاتورين والبنية العميقة لنوعي الأنظمة‬ ‫السياسية‪ :‬الثيوقراطيا (الحكم باسم الله) والانثروبوقراطيا (الحكم باسم الإنسان)‪ .‬فقد‬ ‫عرفت هذه البنية بكونها دين العجل‪ :‬عبادة معدن العجل (المال) وخوار العجل‬ ‫(الإيديولوجيا المؤسسة للعبودية روحيا وسياسيا)‪.‬‬ ‫فالكاريكاتوران التحديثي والتأصيلي عند النخب العربية علامتهما المشتركة عبادة العجل‬ ‫أي المال والإيديولوجيا المغالطية لخدمة أصحاب السلطة والثروة في انظمة الاستبداد إما‬ ‫بالمشاركة بالأقوال أو حتى بادعاء الحياد السياسي وتجنب \"قذارة\" السياسة بطرية منافقة‬ ‫تصل إلى حد الدجل الصوفي وزائف البرج العاجي أو التأفف من « هموم العامة »‪.‬‬ ‫دين العجل أو وثنية الذهب والخوار (معدن العجل وصوته) هو الدين الذي يؤمن به‬ ‫الكاريكاتوران التحديثي والتأصيلي من النخب العربية التي تدعي العقلانية والروحانية‪.‬‬ ‫والمشترك الأبستمولوجي هو نظرية المعرفة التي تطلق علمهم بدعوى المطابقة بين علمهم‬ ‫بالشيء على ما هو عليه ومن ثم الدغمائية‪.‬‬ ‫والدغمائية التي تنتج عن القول بالإحاطة العلمية هي الت تولد الدغمائية القيمية التي‬ ‫تجعل كلا الصفين لا يمكن أن يلتقيا إلا في حرب أهلية بين دغمائيتين تبدوان متناقضتين‬ ‫ظاهريا مثل الثيوقراطيا والانثروبوقراطيا (دين علمانية) وهم في الباطن لا يدينون إلا‬ ‫بحكم العجل الذهبي ذي الخوار‪.‬‬ ‫وبما أنهم يدينون بدين العجل الذهبي ذي الخوار فهم لا يمكن ألا يكونوا في خدمة‬ ‫اصحاب السلطانين السياسي والاقتصادي فيكون عبيدا بالجوهر ولا يختلفون إلا بما يصفون‬ ‫به تبريرهم لأفعال اصحاب الفضل عليهم أي أصحاب السلطانين‪ :‬بمنظور \"روحي\" يسمونه‬ ‫دينيا و\"فلسفي\" بسمونه عقليا‪.‬‬ ‫لكن لا الروحي روحي لأنه ليس دينيا ولا العقلي عقلي لأنه ليس فلسفيا‪ .‬ذلك أن الديني‬ ‫والفلسفي كلاهما أدرك حدود إدراكه فلا يرد الوجود إلى الإدراك الأول إيمانا بوجود‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الغيب والثاني اكتشافا لحدود العلم‪ .‬إنه النقد الديني والفلسفي أعني سدى القرآن‬ ‫ولحمته شرطي حرية الإنسان روحيا وسياسيا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫هذا الفصل الثالث لم أبدأه بالتمهيد بخلاف الفصلين السابقين والفصلين اللاحقين بل‬ ‫بالكلام على أمر ذي صلة بظاهرة تحدد دور النخب التي حاولت وصفها في إطار كلامي على‬ ‫مفهوم التأله والجاه عند ابن خلدون وصلتها بـحادثة \"يونس قنديل\" وقد أفردتها بالنشر‬ ‫قبل هذا الفصل لأن التعليق على الحدث كان ينبغي أن يكون قريبا من زمن الحدث‪.‬‬ ‫والحادثة لا تعنيني بذاتها ولا تستحق التعليق لو لم تكن أحسن تمثيل لموضوع المداخلة‬ ‫التي قدمتها في ندوة علم الكلام والتي نظمها قسم العلوم الإسلامية ببيت الحكمة بتاريخ‬ ‫الخامس عشر من نوفمبر ‪.2018‬‬ ‫فهذه المحاولة تعالج \"حب التأله وعلاقته بحقيقة الإنسان\"‪ .‬وقد كتبت بخصوص هذه‬ ‫الحادثة ما يجعلني أرفع الحكم في صدق يونس قنديل أو كذبه لأنه من الصعب على عربي‬ ‫أن يصدق المخابرات عامة والمخابرات العربية خاصة‪ .‬لكن ما يجعلني أرفع الحكم أيضا هو‬ ‫ما دار بين يونس قنديل وبيني في ثاني لقاء بيننا يفصل بينه وبين أول لقاء ‪ 16‬سنة لأننا‬ ‫لم نلتق إلا مرة أولى في برلين ومرة ثانية في عمان‪.‬‬ ‫وموقفي المتحفظ علته ما سأصف هنا وهو وصف سيرد في الفصل الثالث من المحاولة‬ ‫واستخرجه منها مساهمة في الجدل الجاري حول الحادثة‪.‬‬ ‫فوصل بحثي في \"حب التأله والجاه عند ابن خلدون\" بهذا الحدث الثاني (حادثة قنديل)‬ ‫بعد كلامي على علاقتها بالحدث الأول (يوم الفلسفة) هدفه التمثيل للنظرية الخلدونية‬ ‫‪.Illustration‬‬ ‫ففي الحالتين يتعلق الأمر بما بين البنيوي والظرفي من تواصل يكون فيه الثاني شبه‬ ‫تمثيل عيني من العلاج الكلي‪ .‬فالحدث الأول يتعلق بممثلي الفلسفة في يوم الفلسفة‬ ‫وغالبهم من زبناء مؤمنون بلا حدود‪ .‬والحدث الثاني هو ما لعلاقة ممثليها بـ\"مؤمنون بلا‬ ‫حدود\" من دلالة على أمرين‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬منزلة الفكر لدى أصحابها ودوره في المنعرجات التاريخية بصورة عامة والتي تبين‬ ‫حقيقة ما تخفيه شعارات أصحابه مما أوضحه ابن خلدون في نظرية الإنسان الفلسفية‬ ‫والدينية‪.‬‬ ‫‪ .2‬دورهم في الخيار التاريخي المعين في اللحظة العربية الحالية أي الموقف من ثورة‬ ‫الشباب من أجل الحرية والكرامة ومن إغراءات الثورة المضادة التي يحكمها دين العجل‬ ‫أي معدنه وخواره‪.‬‬ ‫وهذا موقفي من حادثة يونس قنديل وتعليله‪ ،‬فأنا لا أصدق المخابرات الأردنية ولا‬ ‫أكذبها‪ .‬وليس لي دليل على صدق قنديل ولا على كذبه‪ .‬ومن العسير على أي عاقل أن‬ ‫يصدق المخابرات عامة والمخابرات العربية خاصة‪ .‬لكن التكذيب لا يمكن أن يستثني‬ ‫إمكانية التصديق وإلا لفقدت المخابرات عامة وحتى العربية خاصة وظيفتها‪ :‬فأحيانا مهما‬ ‫قلت تصدق بشرط أن يوجد في الأمر ما لا يستثني الاحتمال الضئيل لصدقها‪.‬‬ ‫والاحتمال هنا له علاقة بالطرف الثاني‪ .‬فالرجل لا أعرفه معرفة عميقة إذ لم التقه‬ ‫إلا مرتين واحدة في برلين سنة ‪ 2002‬وكان حينها طالبا استقبلني مع ثلة من شباب تونس‬ ‫من الطلبة العرب في ألمانيا والثانية في عمان هذه السنة قبل رمضان بقليل بمناسبة ندوة‬ ‫حول القومية العربية‪ .‬وعجبت مما جعلني أشك في نواياه عندما قدم نفسه على أنه هو‬ ‫ممول مؤمنون بلا حدود وأنه رجل أعمال‪ .‬وهذا ليس كافيا لأحجم عن إبداء رأي له أو‬ ‫عليه في ما حدث‪.‬‬ ‫لكن الأمر الثاني هو الذي جعلني لست قادرا على موقف حاسم له أو عليه‪ .‬ففي خلال‬ ‫حديث حول الترجمة ادعى بصلف أني لا أترجم من الألمانية مباشرة بل بتوسط الفرنسية‬ ‫موحيا بأنه أدرى بالألمانية مني لأنه عاش في ألمانيا وتعلم‪ .‬وقد يكون ذلك صحيحا فلست‬ ‫بحاجة لادعاء ما أنا في غنى عنه إذ تكفيني العربية وقد تساعد الفرنسة والإنجليزية بما‬ ‫يغني عن الألمانية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولما سألته عن مثال من الترجمة التي يعتبرني استأنست فيها بترجمة فرنسية كان من‬ ‫الأمثلة التي ضربها نص لا يوجد إلا في الألمانية وترجمته الأولى عربية وهي التي ترجمت‬ ‫منها سبعة فصول مع مقدمة المحقق (الأستاذ زند كولر) وشارك المسكيني والعونلي في البقية‬ ‫أي ثلاثة للأول واثنين للثاني‪ :‬نص المثالية الألمانية‪ .‬ما يعني أنه غير صادق في دعواه‪.‬‬ ‫لكن ذلك ليس دليلا على أنه كاذب في كل دعاويه فقد يكون صادقا في الحادثة‪ .‬فالكذب في‬ ‫مثل هذه الحالات يغلب على المخابرات عامة والعربية خاصة أكثر منه على إنسان عادي‪.‬‬ ‫لكن إذا كان موظفا في خدمة مخابرات أخرى فأي المخابراتين سأصدق؟‬ ‫لذلك أرفع حكمي في الحادثة‪.‬‬ ‫وطبعا فمن هو في سني لا يمكن أن يؤاخذ شابا بسبب تعجله وصلفه ‪-‬وهذا من حب التأله‬ ‫الذي تكلم عليه ابن خلدون أو الكبر والأنفة ودعوى التفرد بالنبوغ عند المتعجلين من‬ ‫الشباب‪-‬ربما بسبب وظيفته وهذا من الجاه الذي يصله ابن خلدون بحب التأله أيضا‪-‬أو‬ ‫بسبب موقف موظيفه مني‪-‬ولتأخره في اتمام دراسته الجامعية إذ أعلمني أنه يعد رسالة‬ ‫حول القرآن مع استاذة أعرفها جيدا وترجمت لها إحدى مقالاتها وهي مكتوبة بالألمانية‬ ‫وليست مترجمة إلى لغة أوروبية أخرى وراجعتها بنفسها فلم تغير منها حرفا واحدا عدا‬ ‫كملة الوضع في السياق التي استبدلتها بالتسييق ويصعب على أي تونسي يعلم دلالتها العامية‬ ‫أن يقبلها فضلا عن عدم مطابقتها للذوق الاشتقاقي في العربية‪ .‬وتجنبا للخصومة طالبته‬ ‫بأن يراجع ما يعيبه على ترجماتي‪-‬وهو تحد قد يجد الآن فرصة فيرد عليه إذ هو سيعفى‬ ‫من وظيفته وقد يتفرغ للبحث العلمي غير الموظف إيديولوجيا في الحرب على الإسلام‬ ‫السياسي بتمويل من الثورة المضادة الخليجية فينجز رسالته حول القرآن بأسلوب تسميح‬ ‫الإسلام كما فهمت مما حكى لي تبعا لمذهب ممولي منظمته‪ -‬فكان رده بنفس الصلف بأن له‬ ‫مهام أهم لعلها العناية بهذه المنظمة التي أدعى انه هو مـمولها‪.‬‬ ‫كنت أتصور أن دراسته في ألمانيا يمكن أن تمكنه من أن يصحح الأخطاء التي يعتقد أنها‬ ‫موجودة في ترجماتي‪ -‬ولا بد أن الكثير منها موجود حتى لو كان المترجمون لا يعتبرون‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الخلاف في تأويل النص الأصلي المترجم منه في النص الفرعي المترجم إليه خطأ بل اجتهاد‬ ‫في الفهم لكن الاجتهاد في الفهم لا يغطي على الأخطاء التي تحصل فعلا‪ -‬فيستفيد القراء‬ ‫لعلمي أن الترجمة العلمية والفلسفية خاصة في العالم كله تتقدم بتوالي المحاولات كما حدث‬ ‫عندنا في حركة الترجمة في بداية حضارتنا وفي الغرب في الحضارة الحالية‪.‬‬ ‫لكن موقفي من المنظمة حاسم بخلاف موقفي منه‪ .‬فقد كنت دائما متوجسا منها وما شاركت‬ ‫أبدا في نشاطها رغم المغازلات التي بدرت من ممثليها في البداية ورغم علمي إلى أن‬ ‫التنافس على التوظف لديها بين خدمها في تونس وعلى عطاياها بلغ إلى حد القطيعة شبه‬ ‫المطلقة بين من كنت أظنهم \"راسين في قرطلة\" ‪.‬‬ ‫وكانت أولى المغازلات في أبو ظبي بالذات سنة ‪ 2013‬لما حضرت ضيفا بمناسبة حصول‬ ‫المسكيني على جائزة الترجمة وكان الثاني ولحق به العونلي فكان الثالث في الحصول على‬ ‫جائزة الشيخ زائد في الترجمة الفلسفية عن الالمانية‪.‬‬ ‫وهذا التوجس السابق تدعم بنوع المنتسبين إليها أولا وبنوع البحوث التي تركز عليها‬ ‫وبمصدر التمويل وصلته بما يشبهه في المنظمة المنافسة لمنظمة العلماء المسلمين التي‬ ‫كفروها‪ .‬لذلك فـحكمي على \"مومنون بلا حدود\" لم ينتظر هذه الحادثة ولم أكن أعلم‬ ‫حينها أن يونس قنديل من المشرفين على نشاطها‪ .‬لذلك فقد حكمت عليها قبل هذه الحادثة‬ ‫ولم أخفه منذ خمس‪ :‬فقد وصفت العاملين فيها ومعها والكتبة في مجلتها والمحاضرين في‬ ‫ندواتها بوصف آخر أصدق على ما هم عليه لأن البحوث المقدمة فيها لا علاقة لها بالعلم‬ ‫ويكفي مثال واحد هو فعلا فضيحة ليس لها مثل أعني ما كتب حول قراءات القرآن وما‬ ‫كان أصحابه يتصورونه بحمق قابل لأن يصبح مصدرا للتشكيك في القرآن لكأنهم يجهلون‬ ‫أن قراءات القرآن لم تنتظرهم لتوجد أولا وأن علماءها لم ينفوا \"التعدد\" الذي كانوا لا‬ ‫يعتبرون وجوده داعيا للتشكيك في القرآن بل هو من دلالة تعدد مخاطبيه وليس من دلالة‬ ‫تعدد دلالات خطابه‪ :‬وذلك هو الفرق بين المعنى والدلالة فالشيء الوحيد يمكن أن يكون‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫له أكثر من اسم فتختلف الأسماء بالمعنى وتبقى الدلالة واحدة‪ .‬لذلك وصفتهم‪\":‬بالمؤمنين‬ ‫بالنقود بلا حدود\"‪.‬‬ ‫ولما كنت أعرف الكثير من هؤلاء بلاد العرب عامة وفي تونس خاصة ولما كنت قد دعيت‬ ‫للمشاركة فيها ورفضت لعلمي بطبيعتها فإني أستطيع أن أقول إنها من علامات دين العجل‪:‬‬ ‫معدنه وخواره‪ .‬فمعدنه هو الدافع وخواره هو المطلوب من \"الدافع\"‪ .‬وبه يمكن معرفة‬ ‫كاريكاتور التحديث في بلاد العرب‪.‬‬ ‫فالذين بنوا الحداثة في الغرب ليسوا ممن تشترى ذمته ببعض الملاليم بل هم من \"خلق\"‬ ‫الثروة بإبداع شروطها العلمية والتقنية وقيمها الخلقية والسياسية‪ .‬لذلك فما يسمى‬ ‫حداثة عند \"مفكري\" العرب هو الاستفادة من ثمراتها التي ترد إلى بعدي العجل‪ :‬المال‬ ‫غاية والخوار بضاعة أو خدمة تباع وتشترى‪.‬‬ ‫وطبعا الفكر المبدع هو بدوره بضاعة أو خدمة لكنه ليس من جنس الخوار‪ :‬الخوار في‬ ‫الفكر من جنس المصنوعات الصينية التي هي نسخ ممسوخة من البضاعة والخدمة المبدعة‬ ‫في الفكر الذي يصنع الحداثة ولا يخلط بينها وبين إيديولوجيتها‪ .‬كاريكاتور الحداثة‬ ‫بضاعته صناعة صينية في الاسواق الشعبية‪.‬‬ ‫لما رأيت المتهافتين على \"مؤمنون بلا حدود\" وكانوا من المؤمنين بالنقود بلا حدود\" أدركت‬ ‫أن ثورة الشباب بجنسيه في الشعوب العربية تعاني من مأزق يعسر الخروج منه‪ .‬ذلك أن‬ ‫شعوبا يغلب على نخبها عبادة \"دين العجل معدنه وخواره\" لا يمكن أن تكون ذات قيادات‬ ‫تؤمن بالمشترك بين الديني والفلسفي‪.‬‬ ‫وما أسميه المشترك بين الديني والفلسفي يمكن بشيء من التبسيط اعتبار الوجه‬ ‫الإبستمولوجي منه فلسفيا والوجه الأكسيولوجي منه دينيا رغم الاول لا يخلو من الثاني‬ ‫والثاني من الاول وإنما الامر متعلق بما يغلب عليه أو بصورة أدق بما يمثل بدايته وما‬ ‫يمثل غايته‪ .‬وبداية أحدهما هي غاية الثاني‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فالديني يتقدم فيه الأكسيولوجي على الابستيمولوجي لكنه لا يخلو من الثاني بل هو‬ ‫غايته بمعنييه معرفة العالم ومعرفة ما ورائه‪ .‬والفلسفي يتقدم فيه الابستيمولوجي على‬ ‫الأكسيولوجي لكنه لا يخلو من الثاني بل هو غايته تقييما للوجود الذاتي والكوني‪ .‬ومن‬ ‫ثم فكلاهما يعالج نفس القضايا بترتيب مختلف‪.‬‬ ‫وعندما نعمق العلاقة نجد هذا التقابل في الترتيب بين الإبستمولوجي والأكسيولوجي في‬ ‫الديني والفلسفي أكثر التحاما بنيهما في فعليهما المقومين لهما كليهما‪ :‬فالفعل المعرفي‬ ‫مشروط بالفعل القيمي إذ إن النظر مشروط بالعقد‪ .‬والفعل العملي مشروط بالفعل‬ ‫المعرفي إذ العمل مشروط بالشرع‪.‬‬ ‫فلا يوجد فعل فلسفي نظري وعملي من دون فعل ديني عقدي وشرعي ولا يوجد فعل‬ ‫ديني عقدي وشرعي من دون فعل فلسفي نظري وعملي‪ .‬وكل من يعجز عن فهم هذا‬ ‫الترابط الذاتي لكل منهما بالثاني ليس أهلا للفكر لا فلسفيا ولا دينيا وهو في الحقيقة‬ ‫يخلط بين خوار العجل وحكمة العقل وعلم الروح‪.‬‬ ‫وليس بالصدفة أن أشار الغزالي في مقدمة التهافت أنه لا يرد على الفلاسفة بل على‬ ‫المتشبهين بهم وأن كبار الفلاسفة يؤمنون بالمبدأين الأساسيين في الدين‪ :‬وجود الله واليوم‬ ‫الآخر على الأقل على وجه الإمكان أو عدم الاستحالة العقلية ما يحول دون دغمائية‬ ‫الملحدين الذي يدعون نفي امكانهما الحجاج العقلي‪:‬‬ ‫‪ .1‬يعلمون حدود علم الإنسان فيستنتجون وجود ذي العلم المحيط‪.‬‬ ‫‪ .2‬ويدركون فناء حياة الإنسان فيستنتجون وجود الحياة الباقية‪.‬‬ ‫ولهذه العلة فكلما قل العلم ازدادت دغمائية من يدعي العقلانية وكلما قل الإيمان‬ ‫ازدادت دغمائية من يدعي الروحانية‪ .‬ومعنى ذلك أن الدغمائية علتها كما وصف الغزالي‬ ‫ذلك الجهل العلمي والفقر الروحي‪ .‬فالعلم يفتح آفاق الممكن الفعلي والإيمان آفاق الممكن‬ ‫الروحي فيقللان من وثوقية الدغمائية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وفي هذا الإطار يكرر سخفاء العلمانيين العرب واغلبهم ملحدون أو بصورة أدق دنيويون‬ ‫خرافة فيورباخ حول الإنسان الذي خلق الله ومنها روبافايكا تاريخ الله المزعومة يمضغونها‬ ‫وكأنه اكتشاف في حين أنها مبينة على خلط بين خلق الإنسان تصوراته عن الله وخلق الله‬ ‫في حين أنه لا يستطيع حتى خلق جناح ذبابة‪.‬‬ ‫فكل ما يزعم من تقدم علمي وتكنولوجي يبقى دائما صنعا لكائنات جامدة أدنى موجود‬ ‫عضوي مهما كان متدني البنية أكثر تعقيدا من كل تكنولوجيا البشر‪ .‬فمخ الإنسان وحده‬ ‫كاف لأثبات ذلك وهو دون الطبيعة والعالم العالم عظما وتعقيدا‪ .‬فإذا فرضوها حلة نفسها‬ ‫‪-‬كاوزا سوي‪-‬فسيميزون فيها بين الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة ومن ثم فهم يؤلهون‬ ‫وجها من وجوهها كالحال في القائلين بوحدة الوجود الطبعانية مثل خرافة ابن عربي القائلة‬ ‫بأن العالم هو عين الله (إما بمعنى ما يبصر به أو بمعنى ما هو هو)‪.‬‬ ‫فالعلماني الذي يحارب الدين باسم العقلانية هو في الحقيقة بلا عقل لأنه يدعي بذلك‬ ‫أن ما يعلمه هو الحقيقة المطلقة وأن عقله محيط بالخلق علميا والمتدين الذي يحارب‬ ‫الفلسفة باسم الروحانية هو في الحقيقة بلا روح لأنه يدعي بذلك أن ما يعتقده هو الروحي‬ ‫المطلق وأن روحه محيطة بالأمر عمليا‪.‬‬ ‫فيكون كلاهما من حيث لا يدري قد ادعى الالوهية‪:‬‬ ‫‪ .1‬اعتبر علمه بالخلق مطابقا له فيكون محيطا بالخلق‬ ‫‪ .2‬واعتبر عمله بالأمر مطابقا له فيكون محيطا بالأمر‪.‬‬ ‫ولما كان الخلق والامر كلاهما ليسا في قدرة الإنسان لا في خلق ذاته وامرها ولا في خلق‬ ‫العالم وأمره بل هما متعاليان فقد ادعيا الألوهية‪.‬‬ ‫ومفهوم التأله درسه ابن خلدون درسا مستفيضا وبين أنه ذو مستويين‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأول متعلق بالسلطة السياسية والاقتصادية‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬والثاني متعلق بالسلطة المعرفية والإبداعية‪ .‬وكلاهما يدعي التأله ويسعى‬ ‫للتفرد بالسلطان المادي (الحكام والمتمولون) وبالسلطان الرمزي (الفلاسفة والمتصوفة)‪.‬‬ ‫والبقية توابع بالجاه‪.‬‬ ‫ولأني لست غافلا عن اللجوء إلى الفصل بين الفن والأخلاق‪-‬بخلاف حقيقتهما التي‬ ‫تجعلهما متلازمين كما يبين ذلك فريدرش شللر‪-‬والذهاب حتى إلى الفصل بين العلم‬ ‫ولأخلاق بدعوى التمييز قيمة الإبداع في ذاته شرا كانت حصيلته كان أو خيرا فإني‬ ‫سأتغاضى عن ذلك وأتكلم على هذا المعنى‪ :‬التأله الأصلي والجاه تأله فرعي تابع للتأله‬ ‫الأصلي‪.‬‬ ‫واعتمادي في ذلك سيكون مبنيا على نظرية ابن خلدون في العلاقة بين التأله والجاه‬ ‫والوصل بينهما هو عبودية التابعين من حيث هم تجار خوار العجل من التابعين مقابل معدنه‬ ‫المتأله‪ .‬فالظاهرة خصها ابن خلدون بدراسة لا يكاد يخلو باب من أبواب المقدمة الستة من‬ ‫أحد وجوه تأثيرها في التاريخ‪.‬‬ ‫هي إذن ظاهرة انثروبولوجية يعرفها ابن خلدون بحب التأله وعلاقتها بتعريف الإنسان‬ ‫بمعنيين أحدهما فلسفي والثاني ديني إذ يعرف الإنسان قائلا \"الإنسان رئيس بالطبع (معنى‬ ‫فلسفي) بمقتضى الاستخلاف (معنى ديني) الذي خلق له\"‪ .‬ومعنى ذلك أن نظرية الإنسان‬ ‫فلسفيا ودينيا تحتوي على حب التأله بقصدين‪.‬‬ ‫فبالقصد الاول المتأله هو صاحب السلطة الأصلية سياسية كانت أو اقتصادية وبالقصد‬ ‫الثاني هو صاحب الجاه المستمد من علاقة بصاحب السلطة الأصلية والذي يستمد منه‬ ‫السلطتين على من دونه فيكون طاغية معهم وعبدا لمن هم فوقه في سلم السلطة السياسة‬ ‫والاقتصادية ماديا والسلطة العلمية والروحية رمزيا‪.‬‬ ‫والتعليل الخلدوني صحيح عامة لكنه يقتصر على ما يجري في نفس الجماعة‪ .‬فإذا عممناه‬ ‫في العالم وجدنا أن أصحاب السلطة السياسية والاقتصادية ليسوا بالضرورة هم الاصل‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بصورة عامة بشرط أن يكونوا في جماعة ذات سيادة أي حامية وراعية لنفسها بنفسها‪ .‬لكن‬ ‫في غياب السيادة يتغير المعيار‪.‬‬ ‫مثال ذلك أن المتأله بمعنى المتجبر والطاغية والمستبد في بلاد عديمة السياسة يكون في‬ ‫آن عبدا لمن يحميه ويرعاه من خارج الجماعة ليمكنه من التجبر والاستبداد بالجماعة وذلك‬ ‫في السلطتين السياسية والاقتصادية وما يتولد عنهما من استبداد وتجبر نـاتجين عن الجاه‬ ‫مصدرا للسلطة المادية والرمزية على بقية الجماعة‪.‬‬ ‫ونحن العرب اليوم نعيش افتضاح هذه الظاهرة وصيرورتها علنية بعد ثورة الشباب‬ ‫بجنسيه‪ .‬السيسي وصاحب المنشار وبشار حفتر ومن كانوا يحكمون قبلهم تبين الآن أنهم‬ ‫توابع لسيد خارجي ذي مستويين‪ :‬الذراعان إيران وإسرائيل ومن وراء الذراعين روسيا‬ ‫وأمريكا ونسبيا مستعمر الأمس كما في المغرب والخليج العربيين‪ .‬ولهم توابع في كل أنشطة‬ ‫المجتمع والدولة يستمدون منهم جاها يجعلهم يستبدون بها ويفسدون فيها ويسفكون الدماء‬ ‫حدمة لهم ولحماتهم ولذواتهم طبعا‪ .‬فصارت المجتمعات العربية اقطاعيات لمافيات بعدد‬ ‫مجالات النشاط في الجماعة‪ :‬في التعليم في الاقتصاد في الثقافة وفي كل شيء‪.‬‬ ‫وما يصح على الحكام يصح على المتمولين وعلى النخب الجامعية والاقتصادية والفنية‬ ‫واصحاب الرؤى من المفكرين سواء ادعوا التفكير الفلسفي أو التفكير الديني وخاصة ما‬ ‫يدعون ملكية مشروعات فكرية إصلاحية هي تابعة لمن سميتهم كاريكاتور التأصيل أو‬ ‫كاريكاتور التحديث‪ :‬كلهم جاههم ناتج عن تبعية‪.‬‬ ‫علاجنا إذن ليست \"اخلاقوية\" تعير النخب بغير ما ينبغي أن تعير به بل هي دراسة‬ ‫انثروبولوجية يصفها ابن خلدون بمفهوم التأله (طغيان صاحب السلطة المادية بالقصد‬ ‫الاول وطغيان من يستمد منه جاها يجعله طاغية لمن هو دونه وعبدا لمن هو فوقه) منطلقا‬ ‫على السلطتين المادية والرمزية في اي جماعة‪.‬‬ ‫والشيء الوحيد الذي أضفته هو أني اعتبرت هذا التحليل الخلدوني قابل للتعميم‬ ‫بتجاوز ما يجري بمقتضاه في الجماعة الوحدة إلى علاقة الجماعات كالحال اليوم عند العرب‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫حيث إن الجماعة فاقدة السيادة يمكن أن يكون من يطغى عليها منها تابعا هو بدره لسلطة‬ ‫فوفقه فيكون سيدا علها وعبدا لمن يحميه منها‪.‬‬ ‫وأقصد بـ\"يحميه من جماعته\" حتى يكون سيدا عليها بسنده وبذلك فهو عبد له وسيد‬ ‫على جماعته بالاستبداد والفساد وخدمة سيده على حساب جماعته التي يحميه من ثورتها‬ ‫عليه لأن الجماعة بشرية ولأن الإنسان \"رئيس بالطبع بمقتضى الاستخلاف الذي خلق\"‬ ‫فيثورون لحريتهم وكرامتهم محتميا منهم بسيده لأنه عبد‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫(سنورده مع كل فصل من فصول المحاولة الخمسة)‪:‬‬ ‫هذه محاولة تحتاج إلى تمهيد لأنها عرض لثمرات دراسة بعنوان \"حب التأله والجاه في‬ ‫الأنثروبولوجيا الخلدونية\" تمت برمجتها في قسم العلوم الإسلامية ببت الحكمة منذ ما قبل‬ ‫الصيف وعرضت يوم الخميس ‪ .2018.11.15‬وصادف أن حصل في نفس اليوم حدثان مهمان‬ ‫يتعلقان بمثال عيني حدث فعلا وله صلة بهذه القضية الأساسية في تحديد حب التأله والجاه‬ ‫المحدد لأوضاع \"المفكرين\"‪:‬‬ ‫‪ .1‬تنظيم يوم الفلسفة السنوي الذي لم أدع إليه ولم أحضره‪.‬‬ ‫‪ .2‬ما حصل للمسؤول الأردني على \"مؤمنون بلا حدود\"‪.‬‬ ‫فلوضع \"المفكرين\" في تونس وفي كل بلاد العرب اليوم صلة وطيدة بهذه المنظمة ومثيلاتها‬ ‫في علاقة بالحدث التاريخي الأهم في بلاد العرب أو ما يسمى بثورة الشاب بجنسيه وبالثورة‬ ‫المضادة التي تحاربها ليس بالجيوش والمال فحسب بل بالحلف مع أعداء الشعوب في العالم‬ ‫وخاصة بالمنظمات التي تبدو في ظاهرها فكرية وهي في باطنها مخابراتية في خدمة مخابرات‬ ‫هؤلاء الأعداء‪.‬‬ ‫لذلك فهذه المحاولة بفصولها الخمسة ليس الهدف منها الكلام على الظرفيتين بل بيان‬ ‫أهمية \"نظرية ابن خلدون في التأله والجاه\" لفهم أوضاع الفكر الديني والفلسفي في كل‬ ‫عصر بمقتضى نظرياته في الأنثروبولوجيا التي هي في آن فلسفية ودينية لأنه يعرف‬ ‫الإنسان بكونه \"رئيسا بالطبع (فلسفة) بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له (دين)\"‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫كيف ارجع ابن خلدون هذه التألهات ليس بمعنى العبادة لله بل بمعنى الطغيان وعبادة‬ ‫الذات ونزواتها إلى تاله تأله المستبدين والمستفردين بالمجد إما مباشرة أو بتوسطهم عند‬ ‫الحاصلين على الجاه لديهم‪\" :‬وإذا تعين له (للحاكم) ذلك فمن الطبيعة الحيوانية خلق‬ ‫الكبر والأنفة فيأنف حينئذ من المساهمة والمشاركة في استتباعهم (المحكومين) والتحكم‬ ‫فيهم‪ .‬ويجيء خلق التأله الذي في طباع البشر مع ما تقتضيه السياسة من انفراد الحكم‬ ‫لفساد الكل باختلاف الحكام \"لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا (الأنبياء ‪( \")22‬الباب ‪3‬‬ ‫الفصل ‪ )10‬وهذه الخاصية تعم بتوسط الجاه الذي ينقل السلطة من المتفرد إلى توابعه‬ ‫من الحاصلين على السلطة المستمدة من سلطته‪.‬‬ ‫والسلطة المستمدة من سلطته نوعان‪ :‬سلطة سياسية واقتصادية تابعة بتفويض من صاحب‬ ‫السلطة الأول وسلطة رمزية يستمدها خدمه منه أو من النوع الثاني وهم العلماء والفقهاء‬ ‫والادباء والشعراء‪ .‬لكن المتصوفة والفلاسفة يدعون مصدرا آخر للسلطة قد يجعلهم‬ ‫يبدون وكأنهم منافسون للنوعين الأولين‪.‬‬ ‫وهؤلاء يسميهم ابن خلدون ذوي الكبر والأنفة ممن يتصورون غيرهم بحاجة إلى علمهم‬ ‫أو أدبهم أو منزلتهم المعنوية لدى العامة (وخاصة الفقهاء والمتصوفة) بسبب علاقتهم‬ ‫بالوساطة مع رب السماء الذي ينافسه رب الأرض‪ .‬فيكون هؤلاء مستمدين سلطانهم من‬ ‫\"جاه\" مستمد من رب السماء‪.‬‬ ‫الآن بوسعي أن أجيب عن السؤال‪ :‬كيف يفسر ابن خلدون هذه الظاهرة بردها إلى‬ ‫العلاقة بينها وبين الأبستمولوجي والاكسيولوجي في المستوى المعرفي والقيمي؟ هنا أعود إلى‬ ‫الفصول الثلاثة التي أشرت إليها‪ .‬ففي الفصل ‪ 27‬من الباب السادس يبين كيف أن الكلام‬ ‫والتصوف المتأخرين صارا \"فلسفيين\"‪.‬‬ ‫وصيرورتهما فلسفيين يعني أنهما صارا يقولان بنظرية المعرفة القائلة بالمطابقة‬ ‫الأرسطية وبنظرية القيمة القائلة بالتحسين والتقبيح العقلين الأرسطيين‪ .‬والأولى تجعل‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫علم الإنسان محيطا والثانية تجعل العقل هو المحدد للقيم لكأن القيم صفات ذاتية للأشياء‬ ‫المقيمة وهو قول بالمطابقة العملية‪.‬‬ ‫وهذه هي الفلسفة التي يبطلها‪-‬بمعنى أن الفلسفي يقصد في احدى تعيناته وليس فيه‬ ‫من حيث كليه‪-‬والتي يبين فساد منتحلها‪:‬‬ ‫‪ .1‬المطابقة المعرفية (رد الوجود إلى الإدراك والعلم الإنساني)‬ ‫‪ .2‬المطابقة القيمية (رد القيم إلى التحسين والتقبيح الإنساني) يعني نفي ما‬ ‫يتجاوز العقل النظري والعقل العملي‪ .‬والنتيجة‪:‬‬ ‫• دعوى قابلية ما ليس من مجال التجربة الممكنة للعلم برده إليه‪.‬‬ ‫• اعتبار النعيم هو ما يحصل من علم بالماورائيات بفضل هذه المعارف للوجود الطبيعي‬ ‫وما يقاس عليه من وجود روحي‪ .‬فيكون \"الإبطال\" بيان استحالته أولا ويكون ثانيا \"الفساد\"‬ ‫ما يؤدي إليه القول بهما أي نفي البعث البدني والفردي‪ .‬وهذا بالذات رأي أرسطو في‬ ‫الفصل الثالث من مقالة اللام التي مدارها حول الألوهية وفيها كلام على بقاء النفس‬ ‫المجردة عن البدن‪Die Seele z.B. ist wielleicht von dieser Beschaffenheit, nicht :‬‬ ‫‪die gesammte, sondern der Geist; denn dass die ganze Seele verbleibe , ist‬‬ ‫‪\" .\"wohl unmöglich‬فالنفس مثلا هي ربما ليست بكاملها على هذه الصفة (بقاء صورة‬ ‫التعين) بل الروح (العقل) منها فحسب هو المتصف بها‪ .‬فالأرجح أن بقاء النفس بكاملها‬ ‫غير ممكن\"‪.‬‬ ‫والمعلوم أن البقاء هنا هو الكون الذي هو عكس الفساد بالمعنى الأرسطي بمعنى تغير‬ ‫الجوهر المتردد بين الوجود (الكون) والعدم (الفساد)‪ .‬وما كان مجرد ترجيح عند أرسطو‬ ‫صار بالتدريج عقيدة وحقيقة نهائية عند الفلاسفة إما بالزعم أن بقاء البدن وانبعاثه غير‬ ‫قابل للتصور (راجع المقالات الثلاث الاخيرة في التهافت والتي بها يكفر الفائلين بها من‬ ‫الفلاسفة وليس كل الفلاسفة منها قضية بعث الجسد) أو بالتأكيد على استحالته‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والأساس هو المطابقة النظرية وما يترتب عليها في المطابقة العملية من حصرها في ما‬ ‫يحسنه العقل ويقبحه ومن ثم حصر البعث في ما يتعلق بحامل الصفات التي تليق بالروحي‬ ‫وليس بحامل ما لا يليق إلى بالبدني الذي لا يبقى‪ .‬وهذا هو القصد بـ\"فساد منتحله\" أي‬ ‫فساد رؤيتيه المعرفية والقيمية أو الباطنية‪.‬‬ ‫والباطنية جامعة بين السفسطة في النظريات والقرمطة في العلميات المترتبتين على‬ ‫الرؤية المشائية التي تقول بالمطابقة فتدعي العلم الوجود على ما هو عليه ردا للغيب إلى‬ ‫الشهادة بمقتضى سذاجة معرفية تتوهم أن الذاتية تقتصر على الإدراك الفردي وليست‬ ‫خاصة نوعية للإنسان من حيث هو إنسان لمحدودية علمه (بالمصطلح التيمي)‪.‬‬ ‫ودحض المطابقة النظرية تؤدي إلى فتح الباب لتجاوز التحسين والتقبيح العقليين‪.‬‬ ‫والأول يفهمنا وجود الغيب فلسفيا والثاني يمكننا من تصور السعادة الاخروية التي لا‬ ‫يستطيع العقل استساغة بعدها البدني مع الروحي أمرا ممكنا على الأقل عقلا وهو ما‬ ‫يجعلها حقيقة إيمانية لا تنافي العقل‪.‬‬ ‫وبالفصل ‪ 27‬تبين كيف الكلام والتصوف مشاركين للفلسفة في رؤيتها المعرفية (نظرية‬ ‫المعرفة القائلة بالمطابقة) وفي رؤيتها القيمية (التحسين والتقبيح العقليان) ودحض هذه‬ ‫الرؤية بوصفها عينا من أعيان الرؤى الفلسفية الممكنة الفصل ‪ 31‬يصبح الآن بالإمكان فهم‬ ‫\"لطيفة\" ابن خلدون في الفصل العاشر‪.‬‬ ‫و\"لطيفة\" ابن خلدون في فصل الكلام استطراد بدأ به عرضه لعلم الكلام في الفصل‬ ‫العاشـر من الباب السادس والأخير من المقدمة‪ .‬وفيه يقدم رؤيته للحل البديل عن علم‬ ‫الكلام بعد أن بين نهايته المضاعفة‪:‬‬ ‫‪ .1‬فقد وظيفته الدفاعية لأن الدين استقر ولم يعد يخاف عليه من الملاحدة‪.‬‬ ‫‪ .2‬لأنه تحول إلى فلسفة بعد الرازي وهو تحول متدرج ومواز للكلام من بدايته على‬ ‫نهايته‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فهذا التحول كان متدرجا من البداية إلى الغاية‪ .‬ففي بدايته الأولى كان اعتماد بعض‬ ‫الشذرات من الفلسفة القديمة مقدمات لبناء نسق علم الكلام‪ .‬ويمكن التمييز بين مرحلتين‬ ‫استنادا إلى مفهوم \"الجوهر\" في هذه المقدمات‪:‬‬ ‫الأولى كان مفهوم الجوهر فيها هو \"الجوهر الفرد\" ومن ثم فهو فلسفة رواقية بالأساس‬ ‫وليست مشائية‪.‬‬ ‫الثانية كان مفهوم الجوهر فيها هو \"الجوهر\" المؤلف من مادة وصورة ومن ثم فهو مشائية‬ ‫بالأساس‪.‬‬ ‫وهذا معيار الذي أقدمه أكثر دقة من معيار ابن خلدون الذي ميز بين القدامى والمحدثين‬ ‫في الكلام بالعلاقة بين الدليل والمدلول ودخول المنطق الأرسطي جاعلا بداية التحول مع‬ ‫الغزالي‪ .‬لكن التحول الأخير كان إلى هذه الفلسفة المشائية التي دحضها ابن خلدون وبين‬ ‫فساد منتحليها بمعنى الفلسفة التي تناقض الدين بدعوى المطابقة أو علم الحقيقة المطلق‬ ‫الذي يجعل كل ما جاء في الدين مما لا تستسيغه هذه الرؤية ظاهر الحقيقة الذي ينبغي‬ ‫رده إلى باطن هو علمهم العقلي المزعوم للحقيقة‪.‬‬ ‫وإذن فالفلسفة بهذا المعنى الدقيق والمعين وليس الفلسفة بإطلاق‪-‬وقد صار الكلام‬ ‫والتصوف المتأخرين قائلين بما تقول‪-‬هي جوهر الفكر الباطني الذي يدعي أن الإسلام‬ ‫ظاهر باطنه هو هذا العلم الفلسفي الذي يعلم الحقيقة على ما هي عليه والذي يمكن‬ ‫\"الراسخين\" في العلم‪-‬بلغة ابن رشد في المناهج من التأويل الذي يرد الظاهر الباطن‬ ‫(الفلسفي)‪ .‬وميز ابن خلدون في دحضه خمسة مستويات‪:‬‬ ‫‪ .1‬علم الطبائع الشاهدة بحسب الرؤية الأرسطية في شكلها النهائي عند المسلمين‬ ‫أعني في الفلسفة السينوية‪.‬‬ ‫‪ .2‬محاولة تطبيق نفس هذا العلم على ما ليس من الشاهد بتوسط نظرية المحركة‬ ‫الأول ووسائطه الفلكية أو ما فوق القمر‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .3‬بيان استحالة الثاني ونقصان الأول حتى في المجال المحسوس لأن ما يعتبر علما فيه‬ ‫ليس ما يستنتج بالمنطق المجرد بل لا بد فيه من المعاينة التجريبية‪.‬‬ ‫‪ .4‬محاولة الزعم بأن السعادة الأخروية هي ثمرة هذين العلمين والمضمر في ذلك هو‬ ‫نظرية في البعث تنفي بعث الجسد وتكذيب الرؤية القرآنية والفائدة الخلقة والتربوية‬ ‫للوعد والوعيد‪.‬‬ ‫‪ .5‬ومن ثم فالفلسفة بهذا المعنى وليس كل فلسفة هي بالجوهر رؤية باطنية تعتبر‬ ‫الاديان كما هو بين عند الفارابي \"إيديولوجيا\" أو ترجمة شعبية هي ظاهر الحقيقة الباطنة‬ ‫التي يعلمها الفلاسفة علما مطابقا‪.‬‬ ‫إذا حيزنا دلالة النص الخلدوني نستطيع أن نقول إن كل محاولة لبيان أن التوفيق بين‬ ‫الفلسفة بهذا المعنى والإسلام مستحيلة لأنها تؤدي إلى موقف باطني مبني على اعتبار‬ ‫الإنسان مقياس كل شيء بالمعنى الذي شرحنا في الفصل الأول في النظر والعقد وفي العمل‬ ‫والشرع فتنفي الغيب وتدعي الإحاطة علميا وعمليا‪.‬‬ ‫لكن معناها الفلسفي العام الذي يحدد الدلالة المتجاوزة للفلسفات العينية هو أن هذا‬ ‫النوع من الفلسفة هو الشكل البدائي الذي تصور أرسطو أنه قد تجاوز به الموقف‬ ‫السفساطي (الإنسان مقياس الوجود) بمجرد الانتقال من الافراد إلى النوع‪ .‬لكن ابن‬ ‫خلدون وقبله ابن تيمية يفيدان بأنه يبقى ذاتيا‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن الذاتية ليست فردية فحسب (فروق بين زيد وعمرو مثلا) بل هي كذلك‬ ‫نوعية لأن الإدراك الإنساني إنساني وهو خاص بالنوع وليس محيطا بالوجود‪ .‬ومن ثم‬ ‫فدعوى \"علم الشيء على ما هو عليه \"كذبة ينبغي أن نقول \"علم الشيء على ما هو في‬ ‫نسبته إلى إدراك الإنسان\" وليس عملا محيطا به في ذاته‪.‬‬ ‫وما قلناه عن العلم نقول مثله عن العمل‪ :‬لا يمكن أن نقول إن العقل يحسن ويقبح‬ ‫بصورة تجعل تقييماته عين قيم الشيء في ذاته بل هي تقييمات إضافية للإنسان بل وأكثر‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لأصناف المواقف القيمية الإنسانية وقد نصل إلى اعتبار المعرفة إذن منظورية بمعنى‬ ‫فقدانها لكلي جامع كما تقول ما بعد الحداثة‪.‬‬ ‫فلا يوجد علم أو عمل إنسانيين يمكن أن يتحقق فيهما شرط الكمال المشروط في المطابقة‬ ‫لأن المؤثرات في الموضوع لا متناهية والعلم والعمل لا يعتبر منها إلى ما في متناوله وهو دائما‬ ‫في نسبة المتناهي إلى اللامتناهي ومن ثم فالعلم كله (فضلا عن العمل الذي هو أكثر تعقيدا‬ ‫من النظر) إذا صار له مضمون وجودي ولم يكن مقصورا على علاقات الرموز الخاوية في‬ ‫التقديرات الذهنية لا يكون إلى إحصائيا وليس مطابقا أبدا‪.‬‬ ‫وحتى من دون ما بعد الحداثة فلا يوجد عالم جدي يتصور أن الكلي المعرفي يتجاوز من‬ ‫حيث الشمول ما يتواضع عليه جماعة المختصين في درس موضوع معين‪ .‬فالعلم هو ما يتفق‬ ‫علماؤه على معاييره وعلى مضامينه وعلى مناهج التأكد من مطابقته للمعايير وليس‬ ‫للموضوع‪ :‬المطابقة وهم أدعياء العقلانية العرب‪.‬‬ ‫ذلك أن هؤلاء بتوسط النكوص الهيجلي إلى ما قبل النقد الكنطي وخاصة بتوسط اليسار‬ ‫الهيجلي عادوا إلى القول بنظرية المعرفة المطابقة متوهمين أن الوجود قابل للرد إلى‬ ‫الإدراك وأن ما كان يمثله الله في علم الكلام القديم صار ممثله الإنسان فجعلوا الفلسفة‬ ‫تصبح علم كلام وهو علم الكلام الجديد ‪-‬هيجلي ماركسي‪-‬ولا يختلف في شيء عن سذاجة‬ ‫الباطنية‪ :‬لكنها علنية لأن رؤيتهم تعتبر الإنسان خالقا لله وليس العكس خلطا بين تصورات‬ ‫الإنسان وموضوعها وهو معنى المطابقة‪.‬‬ ‫ونفي الموضوع وراء التصور برد الوجود إلى الإدراك ينتهي طبعا إلى القول النيتشوي‬ ‫ونظرية السردية ما بعد الحداثية‪ :‬لا شيء وراء السرد‪ .‬وطبعا يبقى الإنسان السارد‬ ‫خارج اللعبة‪ .‬فهم يوثنون هذا الإنسان ليصبح عين التوثين لله في الميثولوجيات القديمة‪:‬‬ ‫والميثولوجيا الحديثة هي التاريخ وسردياته‪.‬‬ ‫لذلك فأقلهم علما وأدناهم عقلا أكثرهم ادعاء وصلفا وخاصة إذا كان من المتفلسفين‬ ‫الذين تخرجوا من الآداب العربية وبالذات من قسم الحضارة فيها ولم يتحرروا من دجالهم‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الأكبر وأكثرهم كذبا وقلة حياء‪ .‬فهؤلاء ومن صار من زبائنهم من دارسي الفلسفة يعتبرون‬ ‫زعماء الفكر الحداثي عند العرب ونقاد الأديان وهم لم يتجاوزوا حجب العلم الثلاثة‬ ‫التي حددها ابن خلدون‪ .‬وأختم هذا الفصل بمفارقة كبيرة في اللطيفة الخلدونية (المقدمة‬ ‫الباب السادس الفصل العاشر في علم الكلام)‪:‬‬ ‫‪ .1‬لم يشكك في ضرورية العلاقة السببية مثل الغزالي بل شكك في قابليتها للمعرفة‬ ‫كما وكيفا‪ .‬وهو أمر جديد ويعني في النهاية هدم أساس نظرية العلم الأرسطية التي من‬ ‫شرطها قطع الدور والتسلسل في العلية الوجودية (العلة الأولى) والمعرفية (الأوليات)‪.‬‬ ‫وذلك هو جوهر التحليلات الأواخر‪ .‬وبين ان السببية تقضي هذا أو ذاك وهي مجهولة كما‬ ‫كيفا‪.‬‬ ‫‪ .2‬والأغرب من ذلك أنه أراد بذلك يثبت التوحيد باستحالة علم السببية‪ .‬والمعلوم‬ ‫أن الفلاسفة والمتكلمين وحتى المتصوفة لا يثبتون التوحيد بالسببية حتى يثبت هو التوحيد‬ ‫بعدم قابليتها للعلم‪ .‬هم يثبتون بالسببية وجود الله لا وحدته‪.‬‬ ‫وإذن فليس قصد ابن خلدون اثبات التوحيد بنفي السببية بل بيان أن أساس العلم العقلي‬ ‫غير قابل للعلم ومن ثم فلا يمكن أن يزعم أصحابه اثبات شيء به بل هو مجرد مسلمة‬ ‫عقلية للشروع في معرفة العالم الشاهد بافتراض قطع التسلسل والدور في السببية التي لا‬ ‫نعلم طبيعة لها حدا ولا تأثيرها‪ :‬فهي متسلسلة أو دورية وتأثير السبب في المسبب مجهول‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫(سنورده مع كل فصل من فصول المحاولة الخمسة)‪:‬‬ ‫هذه محاولة تحتاج إلى تمهيد لأنها عرض لثمرات دراسة بعنوان \"حب التأله والجاه في‬ ‫الأنثروبولوجيا الخلدونية\" تمت برمجتها في قسم العلوم الإسلامية ببت الحكمة منذ ما قبل‬ ‫الصيف وعرضت يوم الخميس ‪ .2018.11.15‬وصادف أن حصل في نفس اليوم حدثان‬ ‫مهمان يتعلقان بمثال عيني حدث فعلا وله صلة بهذه القضية الأساسية في تحديد حب التأله‬ ‫والجاه المحدد لأوضاع \"المفكرين\"‪:‬‬ ‫‪ .1‬تنظيم يوم الفلسفة السنوي الذي لم أدع إليه ولم أحضره‪.‬‬ ‫‪ .2‬ما حصل للمسؤول الأردني على \"مؤمنون بلا حدود\"‪.‬‬ ‫فلوضع \"المفكرين\" في تونس وفي كل بلاد العرب اليوم صلة وطيدة بهذه المنظمة ومثيلاتها‬ ‫في علاقة بالحدث التاريخي الأهم في بلاد العرب أو ما يسمى بثورة الشاب بجنسيه وبالثورة‬ ‫المضادة التي تحاربها ليس بالجيوش والمال فحسب بل بالحلف مع أعداء الشعوب في العالم‬ ‫وخاصة بالمنظمات التي تبدو في ظاهرها فكرية وهي في باطنها مخابراتية في خدمة مخابرات‬ ‫هؤلاء الأعداء‪.‬‬ ‫لذلك فهذه المحاولة بفصولها الخمسة ليس الهدف منها الكلام على الظرفيتين بل بيان‬ ‫أهمية \"نظرية ابن خلدون في التأله والجاه\" لفهم أوضاع الفكر الديني والفلسفي في كل‬ ‫عصر بمقتضى نظرياته في الأنثروبولوجيا التي هي في آن فلسفية ودينية لأنه يعرف‬ ‫الإنسان بكونه \"رئيسا بالطبع (فلسفة) بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له (دين)\"‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والنتيجة التي انتهت إليها \"لطيفة\" ابن خلدون في بداية فصل الكلام العاشر من الباب‬ ‫السادس من المقدمة أن التوحيد بخلاف التوحد أو تأله الطغاة الذين يتصورون أنفسهم‬ ‫آلهة سواء بالقوة المادية السياسية والاقتصادية المباشرين أو غير المباشرين بتوسط الجاه‬ ‫أو بالقوة الرمزية التابعة والمحاكية للمادية‪.‬‬ ‫فالتوحيد بمعناه الديني السوي هو ما ينتج عن وعي الإنسان بحدود إرادته وبحدود‬ ‫علمه العقلي النظري (ورمز هذه الحدود استحالة العلم بالسببية كما لعدم تناهي سلستها‬ ‫ودورها وكيفا وبعدم فهم طبيعة تأثير السبب في المسبب) والعملي (ورمزه حدود القدرة)‬ ‫وبحدود قدرته وبحدود حياته وبحدود وجوده‪ .‬والحدود أو التناهي في مقومات ذاته‬ ‫عصارتها هي العجز أمام ألغاز الوجود فيكون \"العجز عن الإدراك إدراكا (بحدود‬ ‫الإدراك)\" كما قال الصديق‪.‬‬ ‫لكن هذا العجز لا يؤدي إلى اللاأدرية بل إلى تجربة روحية والوعي بـ\"صدورنا عنه\"‬ ‫والصدور عن الله هو المخلوقية أو شعور الإنسان بأنه مخلوق وليس خالقا لذاته وهذا‬ ‫مفهوم أشمل من السببية وهو الشعور بأن بوجود الممكن أو غير الواجب في كل صفاته هو‬ ‫عين الشعور بوجود الواجب شرط قيام الحاصل من الممكن‪ .‬وهذا الشعور ليس استدلالا‬ ‫منطقيا بل هو تجربة وجودية‪.‬‬ ‫وكل التجارب التي يحصل فيها هذا الشعور والتي يعتمد عليها القرآن هي من هذا النوع‬ ‫ولعل أبرز الأمثلة الأحوال التي يعيش فيها الإنسان أي خطر وكل تقلبات حياته وخاصة‬ ‫في ظروف الخطر عليها سواء في الأمراض والضراء عامة أو حتى في ركوب البحر رغم أن‬ ‫الإنسان ينسى ذلك كل حالات الضراء لما يكون في حالات السراء‪.‬‬ ‫وهذا أحد وجوه الشعور الاستخلافـي أو حاجة الخليفة لمستخلفه‪ :‬لكأن الإنسان من حيث‬ ‫هو واع بذلك هو جوهر كل الأدلة على وجود لله‪ .‬وهو بذلك خليفة لأنه شبه علامة دالة‬ ‫على ما يعلو عليها بمجرد وعيها بكونها ليست الاعلى‪ .‬الوعي بالتعالي هو صفة الاستخلاف‪.‬‬ ‫والتعالي أصل مقومات وجود الإنسان الخمسة المتناسبة مع صفات الله الذاتية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪35‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فأي إنسان يعي أنه مريد لكنه يعي في آن أن إرادته محدودة ونه عالم لكن علمه محدود‬ ‫وأنه قادر لكن قدرته محدودو وأنه حي لكن حياته محدودة وأنه موجود بكل ذلك لكن‬ ‫وجوده محدود‪ .‬وما كان ليعلم محدوديته في ذلك كله لو لم يكن له وعي بما يتعالى عليه‪:‬‬ ‫دليل ديكارت على وجود الله المطلق في كل ذلك‪.‬‬ ‫ما أضافه هيجل في ضميمة دروسه في فلسفة الدين (راجع ترجمتي وتعليقاتي على‬ ‫الضميمة) جنيس لما سبقه إليه ابن خلدون هو اعتبار استدلال الإنسان على وجود الله هو‬ ‫الدليل على وجوده وليس الأدلة نفسها أو نتيجة الاستدلال الذي يحاول الإنسان أن يثبت‬ ‫به وجود الله‪ .‬فنتيجة الاستدلال هي نتيجة مقدمات منطقية لا تثمر اثبات وجود الله لأنها‬ ‫جميعا مصادرة على المطلوب‪ .Pétition de principe‬لكن كما بين كنط لا يوجد‬ ‫استدلال منتج على وجود الله‪.‬‬ ‫فكل الأدلة المعروفة تنبني على مصادرة على المطلوب في المقدمات‪ .‬فإذا سلمت بأن العالم‬ ‫حادث مثلا وهو دليل لا بد من محدث للحادث‪-‬أو باللغة المعتادة البعثرة تدل على البعير‬ ‫أو الاستدلال بالسببية التي بين ابن خلدون استحالة علمها‪-‬إذا سلمت بحدوث العالم فقد‬ ‫صادرت على المطلوب بحاجته إلى علة‪.‬‬ ‫وحتى لو فعلت لاستحال علي أن أوفق بين اعتبار مبدأ العلية مبدأ كليا ثم استثني ما هو‬ ‫أو من سأجعله علة للعالم‪ .‬لماذا أتوقف عند علة العالم ولا أعتبرها هي بدورها محتاجة‬ ‫إلى تعليل فاقع في التسلسل‪ .‬ومن هنا قال ابن خلدون قولته الشهيرة‪ :‬السببية غير قابلة‬ ‫للعلم للاتناهيها ولجهل الأثر السببي‪.‬‬ ‫فيكون طلب الدليل لدى الإنسان هو الدليل‪ .‬فالمتناهي إرادة وعلما وقدرة وحياة‬ ‫ووجودا يبحث عن اللامتناهي إرادة وعلما وقدرة وحياة ووجودا‪ .‬إنه الوعي الإنساني‬ ‫بعلاقته بوجود المتعالي عليه‪ .‬وذلك هو الدليل‪ :‬لا يوجد إنسان مهما تأله وتجبر وتكبر لم‬ ‫يشعر في وضعية ما بأنه ليس \"الأكبر\"‪ :‬وتلك هي بداية الوعي بـ\"الله أكبر\"‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪36‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهذا أفعل التفضيل المطلق‪ :‬فله دلالتان إضافية إلى الذات (لست الأكبر) إلى كل متناه‬ ‫(لا أكبر من الأكبر الذي هو الله)‪ .‬ومن كانت الشهادة الأولى \"لا إله إلا الله\"‪ .‬ويمكن‬ ‫ترجمتها لا أكبر من الله ويوجد ما يستحق التأليه فيعبد عداه‪ .‬ومن ثم فلا يمكن أن أكون‬ ‫حرا بحق إلا بهذه الشهادة أي بكوني لا أخضع لغير الله خلقه وأمره‪.‬‬ ‫وتلك هي العبادة أو طلب الحق في الدين وفي الفلسفة‪ .‬وطلب الحق في النظر والعقد‬ ‫غايته العلم وفي العمل والشرع غايته العمل الخاضعين كلاهما للوعي بأن المتعالي الوحيد‬ ‫الخلق والامر الإلهيين‪ .‬وقانون الخلق والأمر كلاهما تابع للخالق والآمر‪ :‬الخلافة لها معنى‬ ‫النظر والعقد ومعنى العمل والشرع‪.‬‬ ‫وطلب الحق عبادة سواء تعلق بالمعرفة الدينية أي بالاستخلاف أو بالمعرفة الدنيوية أو‬ ‫التعمير‪ :‬فالقرآن يعتبر الإنس‪-‬مثلهم مثل الجن‪-‬لم يخلقوا إلا للعبادة واعتبر الإنسان‬ ‫مكلفا بمهمة تعمير الأرض بقيم الاستخلاف‪ .‬والأول تابع للخلق والطبيعة والثاني تابع‬ ‫للأمر والشريعة‪.‬‬ ‫والقرآن يعتبر الخلق والطبيعة ذات ذوي قوانين رياضية وتجريبية (كل شيء خلقانه‬ ‫بقدر مع الكلام على دور المدارك الحسية) ويتبر الأمر والشرعية ذوي سنن سياسية وخلقية‬ ‫(سنن لا تتبدل وهي متعلقة بالحكم والتربية) وإذن فطلب الحقيقة يتعلق بالنظر والعقد‬ ‫وبالعمل والشرع‪ :‬وكلاهما مؤلف من أداة وغاية‪.‬‬ ‫فالنظر أداة والعقد غاية والعمل أداة والشرع غاية‪ .‬والغاية هنا ليست أشرف من‬ ‫الأداة لأنهما تستمدان الشرف من الوظيفة‪ .‬فمن دون نظر تكون العقائد خرافات ومن‬ ‫دون العمل تكون الشرائع شعارات‪ .‬ما يحرر من الخرافات والشعارات كما في الكاريكاتورين‬ ‫التأصيلي والتحديث هو النظر السليم والعمل القويم‪.‬‬ ‫والنظر السليم والعمل القويم حددتما سورة العصر‪ :‬ففي مستوى الفرد حددتهما‬ ‫بالإيمان والعمل الصالح وفي مستوى الجماعة حددتهما بالتواصي بالحق (للنظر والعقد)‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪37‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والتواصي بالصبر (للعمل والشرع)‪ .‬فيكون ما يحدد حقيقة النظر والعقد والعمل والشرع‬ ‫هو الواحد بين الديني والفلسفي في المعرفي والقيمي‪.‬‬ ‫وكل ما أعرضه هنا مبني على نسق بنيوي كل ما فيه متناسق مع بقية العناصر لكأنه بنيان‬ ‫مرصوص لا يمكن أن تجد فيه فجوة إلا إذا توهمت أن علمك وعملك مطلق المطابقة مع‬ ‫الحقيقة المطلقة في المعرفة وفي القيم‪ .‬لكنه لا يتعلق بالحقيقة المطلقة في المعرفة وفي القيم‬ ‫بل بالحقيقة الإضافية للتواصيين‪.‬‬ ‫والتواصيان يعنيان الاجتهاد والجهاد‪ :‬فالتواصي بالحق اجتهاد والتواصي بالصبر جهاد‪.‬‬ ‫وكلاهما فرض عين أي إن كل إنسان من حيث هو إنسان حتى عندما يتجبر ويطغى ويتكبر‬ ‫فهو أولا يعلم أنه يكذب على نفسه لأنه يمرض وينام ويصحو ويأكل ويتغوط ويعطش‬ ‫ويروى وكل ذلك يذكره بالتواصي معرفة وقيمة‪.‬‬ ‫وهنا أصل إلى أهم نتيجة لم يذكرها ابن خلدون صراحة لكنها ضمنية في منظومة كلامه‬ ‫على التأله بمعنى الكبر والطغيان الذي له أساس في سلطة سياسية واقتصادية أي في قوة‬ ‫مادية وفعلية وفي سلطة فكرية وإبداعية فعلية أو في ما يترتب على ما يضفه الجاه المستمد‬ ‫منهما عمن يتملق أصحابهما ويعبدهما‪.‬‬ ‫فكل واحد من هذه كما أسلفت نظائر كاريكاتورية منها‪ .‬وهي من أهم الظاهرات في‬ ‫واقعنا العربي خاصة‪ :‬فالحاكم والاقتصادي الذي تنفتح أوداجهم وترى على صدورهم‬ ‫علامات الابهة السلطانية وهو يتطاوسون على شعوبهم في حين أنهم أذل من كلب أمام أي‬ ‫مبعوث من سيدهم الذي يحميهم ويحمي استبدادهم بشعوبهم‪.‬‬ ‫فهم على نوعين وكلاهما لا يقدس لله بل بعضهم لناتن ياهو وسنده الأمريكي وبعضهم‬ ‫الآخر للملالي وسندهم الروسي‪ .‬وهم جميعا طراطير ولا سيادة لهم بل جعلوا بلدانهم‬ ‫محميات مستباحة ليس بجيش الأعداء فحسب بل حتى بالمليشيات والبلاك ووتر‪ .‬لا سيادة‬ ‫لهم لا في الحماية ولا في الرعاية‪ :‬دمى ذليلة وجل بقية النخبة السياسية والمعرفية‬ ‫الاقتصادية والفنية والرؤيوية توابع لهم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪38‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فبقية النخب التي لها الاسم دون المسمى تقاس عليهم سواء كانت في الإرادة وفي العلم‬ ‫وفي القدرة المادية والثقافية وفي الحياة (الفنون) وفي الوجود (الرؤى)‪ .‬كلهم لهم درجة‬ ‫إضافية من العبودية لغير الحق بالمعنيين المشار إليهما في هذا الفصل فهم توابع للحكام‬ ‫والمتمولين في الداخل وكذلك لأسياد أسيادهم في الخارج كل بحسب مجاله‪.‬‬ ‫والسؤال هو ما الجامع بين هؤلاء المتألهين على الشعوب العربية بمعاني التكبر عليهم‬ ‫وإذلالهم واضطهادهم في الحكم والتربية والاقتصاد والثقافة والرؤى؟ هنا يقدم ابن‬ ‫خلدون المعنى الجامع‪ :‬هم من فسدت فيهم معاني الإنسانية التي يلخصها في التنكر لمفهوم‬ ‫الإنسان \"رئيسا بالطبع (معنى فلسفي) بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له (معنى ديني)\"‪.‬‬ ‫فلهم جميعا أخلاق العبيد‪ :‬يذل لمن فوقه ويستذل من دون في السلم السياسي بزائف‬ ‫الإرادة وفي السلم المعرفي بزائف العلم وفي السلم الاجتماعي بزائف الثروة في السلم‬ ‫الذوقي بزائف الفن وفي سلم الرؤى بزائف الوجود أي التظاهر بما ليس عند أو بانتحال‬ ‫صفة ليست فيه‪.‬‬ ‫ولعل أبرز صورة لكل هذا الأشكال من الزيف ما تراه على صدور جنرالات العرب‬ ‫وحكامهم من شارات البطولة وهم أجبن خلق الله فيكون الواحد منهم ماريشالا وما حارب‬ ‫يوما في حياته وإذا صادف فاستعمل السلاح فهو ضد شعبه ولتهديم بلاده‪ .‬ونفس الشيء في‬ ‫الفكر فلا يهدمون إلى قيم شعوبهم ومرجعياتها‪.‬‬ ‫وقد شرح ابن خلدون فساد معاني الإنساني في المستوى النفسي والخلقي والروحي‬ ‫والسياسي والمدني وجمع كله في ما سماه الدر أسفل سافلين بمعنى أن الإنسان يفقد \"الرئاسة‬ ‫بالطبع والتي له بمقتضى الاستخلاف\" فلا يبقى فيه شيء من الحرية والكرامة‪ :‬وتلك علة‬ ‫محالفة أغلبهم للثورة المضادة‪.‬‬ ‫ولهذه العلة تكلمت على \"مؤمنون بلا حدود\"‪ .‬فكل هؤلاء المتثاقفين الذين يصولون‬ ‫ويجولون في دعوى التنوير بلغوا من الذل والمهانة أنهم يشترون بأبخس الأثمان‪ :‬فاقدون‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪39‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لحرية الإرادة ولصدق العلم ولخير القدرة ولجمال الحياة ولجلال الوجود‪ :‬العبودية‬ ‫والكذب والشر والقبح والذل‪\" :‬فساد معاني الإنسانية\" بالمعنى الخلدوني‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪40‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪41‬‬ ‫الأسماء والبيان‬