علل فتورها العميقة ،وشروط دور الأمة الأسماء والبيان
علل فتورها العميقة ،وشروط دور الأمة
أواصل كلامي في علاقة العرب والأتراك لأقول ما لم يكن بوسعي قوله شفاهة ،ومراعاة لسياق القول وظرفه ،فلكل مقام مقال ،والإشارة مغنية عن العبارة.ولكن منطلقي من الرسم البياني الذي ضم إلى نص الفصل الأول .ففيه إضافة أربعة رموز، هي الموصل والفلوجة في العراق ،وحلب ودرعا في سوريا.وليس صدفة ،فهذه المدن تمثل معالم رمزية لما بقي حيا ينبض من الحضارة ،التي لا تقتصر على ما تمثله العواصم الأربع التي أخذناها في صلتها برمزية الخلافة.ذلك أنها مثلت المقاومة بمعانيها التي تعبر عما ينبض ،حتى وإن كانت بغير استراتيجية مبنية على المعرفة العقلية ،التي لا تكتفي بتحرك الكيان العميق.وحتى نفهم استراتيجية الأعداء من حول الأمة ومن داخلها ،لا بد أن نفهم الطرق التي استعملت للقضاء على المقاومة التي تمثلها هذه المدن الرموز. 61
فالموصل وحلب ،أغرقوها في مقاومة مخترقة ،تشوه ما تدعي تمثيله ،أعني مفهوم الخلافة ووحدة الامة ،بدليل بدائية الطريقة ومخالفتها المطلقة لقيم الجهاد.والفلوجة بالصحوات ،ودرعا بما يشبهها ،لجعلهما أداتين تستعملها الأنظمة وحاميها ضد المقاومة ،التي تحقق الهدف الرئيس في استراتيجية الاستئناف الحق.وفي المقابل :إيران كانت الحرس الثوري والحشود الشعبية ،لخدمة استراتيجية القضاء على الطموح التاريخي للسنة في الإقليم :مليشيات السيف والقلم.أما إسرائيل فلم تكن بحاجة لحشد شعبي ،لأنها متحكمة في الأنظمة والنخب التي تتبعها مباشرة وبصورة غير مباشرة ،بسلطانها على اسيادهم وحماتهم الغربيين.لذلك فقطعة المستقيم بين بغداد ودمشق ،هدفها الأول والأخير قطع الطريق على قطعة المستقيم بين اسطنبول والمدينة ،ووجودها في ضمائر العرب باهت.ولعل الرمز ما يزال قائما :الخط الحديدي بين الخلافة العثمانية ،الحرمين :أثر بعد عين. وإيران وإسرائيل تريدان نفس المآل لطموح الأمة التاريخي. فماذا يحصل الآن؟قبل أن أنبس ببنت شفة ،سأبدأ بالقول إني منذ مقامي في ماليزيا ،دعوت إلى استراتيجيةتيئيس الغرب من اخضاعنا لفرض تحالف الأنداد ،فكلانا بحاجة إلى الآخر :في نظام العالمالقادم لا بد من تعادل الأحجام بين الحضارات ،حتى يعم السلم في عالم فاقد للتوازن حاليا .ونحن بين قطبيهأمة الإسلام ،توجد بين فكر رحى سميتهما الغرب الأقصى (الولايات المتحدة خاصة) والشرق الأقصى (الصين خاصة) ،وكلاهما ينافس الثاني علينا كل بطرقه.صحيح أن ذلك أكثر بينونة وظهورا عند الكلام على الولايات المتحدة ،لكن الثاني أخفى، لكنه ليس أقل منه خطرا ،يكفي الاطلاع على جنوب شرق آسيا.والاستراتيجيا بالجوهر مشروطة بالمشهد التام ،أي المعمورة كلها وخاصة الآن -لكن ذلك ملازم لها في كل العصور -فإن الحول دليل عمى استراتيجي بيّن. 62
وإذا كانت الحضارة الغربية الحديثة مسيطرة حاليا ،فهي بصدد فقدان سلطانها على العالم ،لأن ما كانت تفضل به على غيرها صار مشتركا للجميع.ومن ثم فهي حتى لو اجتمعت كلها ،أي الولايات المتحدة وأوروبا ،لا تساوي ثلث الصين بشريا ،وهي أميل إلى التناقص وليس إلا التكاثر ،وهذا عامل ضعف.فإذا أضفنا أن ما بينها وبين القطب الثاني هو بدورة قطب بالقوة -أي المسلمون -بات من الذكاء الاستراتيجي أن يحاول الغرب حيازته قبل الشرق.وهكذا بدأ الاستعمار المباشر ينجلي عن أرض الإسلام ،ويستعيض عن شكله الأول بشكله الثاني غير المباشر ،ثم هو يعدو للمباشر بالقواعد والأنظمة العميلة.ملخص موقفي هو أن الحلف مع الغرب هو الخيار الاستراتيجي الوحيد الضروري لاستئنافالحضارة الإسلامية دورها ،ولكن بعد أن ييأس الغرب من مركزيته ،ذلك أنه لن يقبلبالندية ما لم يفشل في فرض عدمها .وهو لم ييأس بعد وما زال يحاول ،واعتقد أن آخر خراطيشه هي ما يحاوله ترامب الآن في لقائه غدا. هدف ترامب تنويم المسلمين. أوباما كان مفيدا لأنه وضع الأنظمة السنية بين حلين: -إما الاستسلام لإيران وإسرائيل -أو الاعتماد على شعوبهم ووحدتهم.فليس صحيحا أنه يريد حلفا بين الغرب والإسلام ،بل يريد من الأنظمة مساعدته على إنهاء الطموح التاريخي بحرب أهلية لا تخدم إلا إيران وإسرائيل.فمقاومة ما يسمى بالتطرف الديني ،كان يمكن أن يكون مسألة داخلية للدول الإسلاميةكجنيسه في أمريكا ،ولا يقتضي حلفا دوليا لو لم يكن لأجندة أخرى ،فإذا كان القصدمقاومة التطرف-وهو قصد محمود في كل المجتمعات وليس عندنا وحدنا -فلا ينبغي أن يقتصر الأمر على المقاومين للاستبداد والفساد.فالتطرف الذي يصدر عن الشعوب رد فعل وليس فعلا ،الفعل هو تطرف الاستبداد والفساد .وإذا صغنا القضية بالمصطلح القانوني ،قلنا إن الوضع هو كالتالي: 63
فعندما لا يجد الناس أن القانون يحمي حقوقهم ،يلجؤون ،بعد يأس منه ،إلى أخذ حقوقهمبأيديهم .المجتمعات الإسلامية هي في هذا الوضع اللاقانوني ،فلا يوجد عاقل يريد الحرب والموت لذاتهما.لا بد أن يوجد من الدوافع العميقة التي علينا البحث عنها لعلاجها ،حتى لا نزيد الطينبلة بإخفاء العلة ،فدور القانون هو جعل الناس يلجؤون لحكم عادل ،يغنيهم عن أخذ حقوقهم بأيديهم .وهذه هي الوظيفة الأولى للدولة. اللاقانونية هي الاستبداد والفساد.ودون تبرير لإرهاب رد الفعل ،فإن الإرهاب الفاعل هو الذي ينبغي علاجه قبله .ذلك أن الإسلام يضع قاعدة مطلقة :لا طاعة لمن لا يطيع القانون.والقاعدة بلغة دينية ،هي لا طاعة في معصية ،والمعصية تعني عدم طاعة الشريعة التي هي القانون في دولة الإسلام .من يمثل الدولة يسري عليه القانون.وهذا الوضع اللاقانوني عام في مستوى دولنا ،وفي العالم :شعوبنا تعيش اللاقانونية داخليا (الاستبداد والفساد) ،وخارجيا (الاستبداد والفساد الدولي).هب حلف ترامب سينجح في مساندة الأنظمة الحاكمة ،ويقضي على الثورات وهي تعاني من الاختراق الذي أفسد نبلها وإنسانيتها ،فهل ستتحقق القانونية؟إذا بقينا في اللاقانونية وطنيا ودوليا ،فشعوبنا ستبقى ضحية للاستبداد والفساد الداخلي والعالمي ،وسنبقى توابع لإيران وإسرائيل ومن وراءهما.وما كان ذلك سيحصل لو أن للعرب مشروعا ،ولم يعتبروا مجرد طموح تركيا لاستعادة دورها في الإقليم ،بعد أن يئست من دخول أوروبا ،خطرا يهددهم.بعبارة أوضح ،لست ضد الحلف مع الغرب ،بل كنت ولا زلت أدعو إلى مثله ،بشرط تخليه عن ظنه أننا سهل ابتلاعنا ،وشرط الشرط أن يعجز حقا أمام مقاومتنا.أما وأنت محمية ،فكلامك على الشراكة والحلف كذب على الشعوب .فالأمر يتعلق حينها بتوطيد الحماية للأنظمة ضد مصلحة الأمة وشعوبها القريبة والبعيدة. لا أفهم كيف يكون المحمي شريكا وحليفا للحامي؟ 64
هو مجرد خادم لديه مقابل إبقاء الحامي له على الكرسي ،مستبدا وفاسدا ،ليوقف حركة التحرر والكرامة.ومن ثم فالحلف هو ضد ثورة شعوب السنة ،التي استردت طموح الدور الكوني ضد أربعة طموحات امبراطورية متقدمة على الإسلام ،أو لاحقة له في التاريخ.فالطموح الامبراطوري المتقدم على الإسلام ،والذي يعتبر القضاء على السنة شرطا في تحققه ،هو طموح فارس وإسرائيل ،والمتأخر هو طموح روسيا وأمريكا.والاربعة يعلمون أن الحصن الحصين هو الإسلام والشباب المؤمن به ،لذلك ،فالحرب هي ضد صمود الأمة بشبابها ببعض المؤمنين بدور الأمة من حكامها. وهم قلة لكنهم موجودون.وإسرائيل ،بمعونة أمريكا ،وإيران بمعونة روسيا ،يتصيدونهم ،فكانت الوقفة ضد ثورة الشباب وضد عودة تركيا لمعينها الأصلي.سأكتفي بهذا ،ولا أستطيع أن أصوغ الاستراتيجيا الموجبة ،فذلك مما لا يقرره التفكير المجرد من دون صلة بالإرادة ،والعلم ،والقدرة ،والحياة ،والوجود.ثم هو من الأسرار التي عمادها مفهوم \"الحرب خدعة\" ،وما لم يكن للأمة نخبة سياسيةممثلة لإرادتها ،تهتدي بنخبة معرفية ممثلة لعلمها ،وتسندها نخبة قدرة(الاقتصاديين)تنفق على الصمود ،ونخبة حياة تبدع فنونا تعبر عن هذا الطموح الكوني ،برؤية تحددها نخبة وجودية تصوغ مثلا عليا للأمة لإنجاحها.أكتفي بعرض ما أراه وما أحاول وضعه بشكل بياني شبه هندسي ،فالهندسة والعدد في صلتهما بالمكان والزمان هما سر كل استراتيجيا عقلية بمرجعية روحية.ولا معنى لاستراتيجية ليست عقلية ورياضية ،وليست ذات مرجعية روحية ،فللحرب علاقة مباشرة بالمكان والزمان رياضيا ،وبقيمة الحياة ومعنى الموت روحيا.وإذن فالحرب حصولا ومنعا ،هي جوهر السياسة التي تحكم الإنسان وتربيه ،فتمكنه من السلطان على المكان والزمان رياضيا ،وعلى القيمة والمعنى روحيا. 65
وذلك هو المفهوم العميق للاستراتيجية ،وما كنت لأكتب فيها لو لم تكن جوهر المعنى الإسلامي لوظيفة الدولة ،لحماية الأمة كما حددتها الآية 60من سورة الأنفال.ولو كان للعرب اجندة هادفة للاستئناف ،لأمكن تصورهم يخادعون ترامب كما يخادعهم، فيكون هذا المسعى غير ملغ لشروط الاستئناف ولكان فعلهم مشروعا.لكني لسوء الحظ لا أعتقد أنهم يهدفون للمناورة من أجل هدف سام ،بل الهدف هو العودة إلى الغطيط ،ظنا أن ترامب يحالفهم حقا بندية لمصلحة مشتركة.والغريب أن ترامب لم يخف نواياه في خطابه كمترشح لا يؤمن بالندية ،ويحتقر العرب أكثر مما يحتقرهم الصفويون الصهاينة :إخضاع العرب لإسرائيل علنا.وإذا خضع العرب لإسرائيل علنا ،فإن ذلك سيكون حجة عند كل المسلمين بقولهم لسنا أكثر ملكية من الملك ،كما تدعي الانظمة العربية عن الفلسطينيين. 66
02 01 01 02تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي :محمد مراس المرزوقي
Search
Read the Text Version
- 1 - 12
Pages:
