Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore التذكير القرآني، علاقته بمفهوم الإنسان، فيم؟ وبأي كيفية؟ - أبو يعرب المرزوقي

التذكير القرآني، علاقته بمفهوم الإنسان، فيم؟ وبأي كيفية؟ - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2019-09-27 19:21:13

Description: التذكير القرآني، علاقته بمفهوم الإنسان، فيم؟ وبأي كيفية؟ - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪re nils frahm‬‬ ‫التذكير القرآني‬ ‫علاقته بمفهوم الإنسان‪،‬‬ ‫فيم؟‬ ‫وبأي كيفية؟‬ ‫الأسماء والبيان‬





‫المحتويات ‪2‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪7 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪12 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪18 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪23 -‬‬ ‫‪-‬خاتمة‪28 -‬‬

‫‪--‬‬ ‫انشغالي بالحدث الجلل الذي يجري في تونس‪-‬الانتخابات‪-‬لم يحل دوني ومواصلة البحث‬ ‫في المسائل الفلسفية والدينية التي شرعت فيها منذ أن شرعت في قراءة القرآن قراءة‬ ‫فلسفية بمدخل تعريفه الفرضي الذي لا يفصل بينه وبين السنة التي هي عندي سياسة‬ ‫عالم الشهادة المشدودة إلى سياسة عالم الغيب مثالا أعلى يحول دون الإنسان والأخلاد إلى‬ ‫الأرض‪\" :‬استراتيجية القرآن التوحدية ومنطق السياسة المحمدية\"‪.‬‬ ‫وما كنت لأفعل لو لم يكن ذلك في آن في علاقة بفلسفة العصر التي صار فيها الديني جزءا‬ ‫لا يتجزأ من الفلسفي بفضل ثورة هيجل الذي بين سطحية الفصل بينهما إيجابا وماركس‬ ‫سلبا ولكن ليس بنفس النهج بل بنهج القرآن ذاته وهو بالذات تحريرهما من التوحيد الملغي‬ ‫لهما معا من خلال التوحيد الذي يرد المعالي إلى المتداني‪ .‬فبدلا من أن يكون الموحد بينهما‬ ‫هو هذه العلاقة بين الموجود المحدود والمنشود اللامحدود ردوا اللامحدود إلى المحدود في‬ ‫وحدة وجود أحدهما زعمها روحية بتوسط المسيحية والثاني جعلها مادية بتوسط اليهودية‪.‬‬ ‫وكلاهما كان صريحا في فلسفته الدينية الموجبة عند الأول والسالبة عند الثاني‪.‬‬ ‫ولذلك فالفلسفة الهيجلية الماركسية والتخلص منها هو منطلقي في القراءة الفلسفية‬ ‫للقرآن بوصفه‪:‬‬ ‫‪ .1‬فلسفة دين ببعدين نقدي وموجب يقدم البديل‪.‬‬ ‫‪ .2‬فلسفة تاريخ بنفس البعدين إذ هي فلسفة سياسة عالم الشهادة في علاقة بعالم الغيب‪.‬‬ ‫‪ .3‬نظرية الإنسان وتجهيزه لإدراك علاقته المباشرة بذاته وبربه وشروط تعامله مع‬ ‫الطبيعة والتاريخ‪.‬‬ ‫‪ .4‬نظرية علاقته بالطبيعة وتجهيزه لها وسؤاله عما بعدها وتلك هي فلسفة الطبيعة‪.‬‬ ‫‪ .5‬نظرية علاقته بالتاريخ وتجهيزه له وسؤاله عما بعده وتلك هي فلسفة التاريخ‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والانطلاق من فلسفة هيجل وماركس لم يشفع بالتخلص منها إلا بعد تبين سذاجة الهيجلية‬ ‫والماركسية عندما نظرت في فهمهما للتجهيزين‪ .‬فعودتي الفلسفية إلى ما يمكن اعتباره‬ ‫بداية التحرر من‪:‬‬ ‫‪ .1‬من نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة بين علمنا والوجود (طلب الحقيقة)‪.‬‬ ‫‪ .2‬ومن نظرية القائمة القائلة المطابقة بين عملنا والمنشود (طلب القيمة)‪.‬‬ ‫فالتحرر منهما يعود الفضل فيه إلى العودة إلى بيان سطحية العلاج الهيجلي الماركسي‬ ‫لإشكالية النقد الكنطي أعني إشكالية الفصل بين الظاهر والباطن في المعرفة وفي القيمة‪.‬‬ ‫فعلاج كنط لهذه الإشكالية وصل إلى أحد وجوه الثورة التي أنسبها إلى المدرسة النقدية‬ ‫في الفكر الإسلامي ممثلا ببداية محتشمة عند الغزالي ونهاية جزئية في النظر والعقد عند‬ ‫ابن تيمية وفي العمل والشرع عن ابن خلدون‪ .‬فصارت الإشكالية أبعد غورا مما يقبل‬ ‫العلاج الهيجلي الإيجابي والماركسي السلبي فاستأنفت البحث فيها من رأس وذلك هو المنطلق‬ ‫في قراءة القرآن قراءة فلسفية‪ .‬فقد شعرت بأن الإشكالية تتعلق بهذين التحررين من‬ ‫القول بالمطابقة المعرفية والقيمية وبأنها توجب ي إعادة النظر في مفهوم الإنسان من خلال‬ ‫طبيعة العلاقة بين الديني والفلسفي التي كان حسمها الهيجلي إيجابا والماركسي سلبا ليس‬ ‫علاجا للإشكال فيها بل إلغاء له‪.‬‬ ‫وفي الحقيقة فبداية الوعي الكنطية نفسها كانت جوهر الإشكال في المثالية الألمانية‬ ‫والعقبة الكأداء التي أرادت تجاوزها لإطلاق الرؤية الفلسفية وتجاوز ما تمثله الثنائية‬ ‫التي نتجت عن الحل الكنطي والتي صارت إشكالية الشيء في ذاته الذي صار يعتبر مفهوما‬ ‫حدا يحول دون ما يريد فلاسفة المثالية التحرر منه لإطلاق المعرفة الفلسفية‪ .‬وحتى كنط‬ ‫نفسه حاول في أواخر حياته التخلص من هذه العقبة في خطاطة كتابه الذي لم ينشر في‬ ‫حياته وكاد يضيع ولم يكتشف إلى بعد نصف قرن من وفاته أعني الأبوس بوستموم‪.‬‬ ‫ولنوجز بسرعة مضمون الحلين اللذين تخلصت منهما بفضل المدرسة النقدية في فكرنا الذي‬ ‫حاول القطع مع ما يشبههما في الفكر القديم والوسيط ممثلا بأفلاطون وهو نظير هيجل في‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الرؤية التي تقول بالمطابقة المعرفية والقيمية وبوحدة العالم وروحنته مع فرق المحايثة‬ ‫وبأرسطو وهو نظير ماركس في الرؤية التي تقول بالمطابقة المعرفية والقيمية وبوحدة‬ ‫العامل نفي الروحنة والمفارقة‪:‬‬ ‫‪ .1‬فالحل الهيجلي الموجب أو حل الصلح بين الرب والعالم الصلح الذي يوحد العالمين أو‬ ‫ما صار يرمز إليه بوحدة العقلي والواقعي شعارا هيجليا شهيرا‪.‬‬ ‫‪ .2‬والحل الماركسي ألسالب أو نفي الحاجة إلى الصلح لأنه لا يوجد إلا عالم واحد غني‬ ‫عن التوحيد وهو ما صار يرمز إليه بالحل الفيورباخي شعارا ماركسيا شهيرا مع تحديد‬ ‫خلقي سياسي‪.‬‬ ‫وما يسمى بما بعد الحداثة هو حصيلة التفاعل بين هذين الحلين الموجب والسالب‪ .‬فحل‬ ‫الأول يجعل الإلهي حالا في الإنساني وحل الثاني يجعل الإنساني خالص الكمال الإلهي‬ ‫تعويضا للنقص الإنساني‪ .‬فتكون الحصيلة عالما واحدا له وجهان هما عين كيان الإنسان من‬ ‫حيث هو \"منولوج أو حوار الانطواء على النفس\" أو ما يرد إليه نيتشة كل الوجود أي عالم‬ ‫الإنسان الأرقى الفني في شكل رد كإبداع الفكر الإنساني كله إلى نظرية السرديات التي‬ ‫تقول بها ما بعد الحداثة‪.‬‬ ‫فتكون الحصيلة هي أن الفلسفة عادت في الغاية وبفضل ما ترتب على حسم هيجل وماركس‬ ‫مسالة ا لعلاقة بين الديني والفلسفي إلى بدايتها‪ :‬ألغت القطيعة مع المثولوجيا التي كانت‬ ‫نؤنس الآلهة وعوضتها بالميثولوجيا التي تأله البشر‪ .‬كانت الاولى تقيس ما لا تعلم من‬ ‫عالم ما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ على ما تعلم من الطبيعة والتاريخ فصارت الثانية‬ ‫تقيس ما لا تعلم من الطبيعة والتاريخ على ما تزعم حول ما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ‬ ‫(هيجل) أو تقتصر على إلغائهما باعتبارهما تعبيرا عن نقائص الإنسان الطبيعية وما يترتب‬ ‫عليها تاريخيا (ماركس)‪.‬‬ ‫ومن هنا انطلقت في البحث‪ .‬فالحل الهيجلي وا لماركسي كلاهما حل سطحي لانه يحول‬ ‫السؤال إلى جواب‪ .‬ذلك أنه لو كان ما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ قابلين للرد إلى‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الطبيعة والتاريخ أو للحلول فيهما (هيجل) أو للإلغاء (ماركس) لما وجد المشكل أصلا إذ‬ ‫هما لا يوجدان إلا لأن الطبيعة والتاريخ لا يكفيان لتفسير ذاتيهما (هيجل) ولا للاستغناء‬ ‫عن تجاوزهما إلى ما لا يرد إليهما (ماركس)‪ .‬ومن ثم فكل المشكل هو هذه الثنائية بين‬ ‫الشيء وما بعده عامة وبين الإنسان وما بعده خاصة‪.‬‬ ‫وإذن فالإشكال هو منزلة الإنسان الوجودية هي تقبل الحل المسيحي والحل اليهودي‬ ‫اللذين يعبر عنهما المزيج الفلسفي والديني المتقدم على الإسلام والعائد في الفلسفة‬ ‫الحديثة في شكل يدعي أصحابه أنه في قطيعة مع علم الكلام الوسيط الذي ترجم دينيا‬ ‫فلسفة افلاطون وأرسطو‪.‬‬ ‫ومنزلة الإنسان الوجودية تقاس بجهازيه المعرفي والقيمي ومدى قدرتهما على الإحاطة‬ ‫بحيث يكون مدى استغراق أحكامهما موضوع الحكم بحيث تكون‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأحكام القضوية والمواقف القضوية منها متطابقة معرفيا‪.‬‬ ‫‪ .2‬والأحكام القيمية والمواقف القيمية منها متطابقة قيميا‪.‬‬ ‫فيكون الإنسان بذلك مقياس كل شيء موجوده ومعدومه كما تقول السوفسطائية من دون‬ ‫احترازها الذي لا يدعي الإطلاق بل يقتصر على ما هو إضافي إلى الإنسان‪.‬‬ ‫كل حبكة القرآن الكريم تدور حول هذه الإشكالية‪ .‬ولبها النظري العقدي هو المفهوم‬ ‫الحد الذي يمثله الغيب ولبها العملي الشرعي هو علاقة سياسة الإنسان لعالم الشهادة‬ ‫بسياسة المتعالي عليه لعالم الغيب‪ .‬ذلك هو المنطلق الذي جعلني أقدم على قراءة القرآن‬ ‫قراءة فلسفية اقداما لم يكن بهذا الوضوح في البداية بل كان غامض الأسس والغايات‬ ‫رغم كونه قد انطلق من نتائج رسالة الكلي وإصلاح العقل وقبلها من مسألة السببية عند‬ ‫الغزالي وعلاقة الإرادة (العمل والشرع) بالعقل (النظر والعقد) عند الإنسان وعند‬ ‫الله‪.‬‬ ‫ولهذه العلة فقد اردت أن أعرض بصورة جامعة المنزلة الوجودية التي يحددها القرآن‬ ‫للإنسان بوصفها جوهر العلاقة بين عالمين أحدهما اصطلحت على تسميته سياسة عالم الغيب‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫مثالا أعلى وحاكمها الله والثاني اصطلحت على تسميته سياسة عالم الشهادة المشدودة إلى‬ ‫سياسة عالم الغيب التي هي مثاله رغم أن الغيب لا يمكن أن يعلمه الإنسان ورغم أن كل‬ ‫كلام فيه ورد في القرآن هو من المتشابه الذي نهي الإنسان عن الخوض فيه بل واعتبر‬ ‫الخوض فيه دليل زيغ في القلب وابتغاء الفتنة‪.‬‬ ‫فالرسالة الخاتمة التي تذكر بالرسالة الفاتحة ‪-‬وهي الكلمات التي تلقاها آدم فأتمها فعفا‬ ‫عنه ربه تحريرا له مما يعتبره المسيحيون خطيئة موروثة وأشهد كل أبناء آدم على أنفسهم‬ ‫وهم في ظهور آبائهم بمضمونها‪-‬تتكلم على سياسة عالم الغيب خلقا وأمرا بما يجعلها وكأنها‬ ‫تقيسها على سياسة الإنسان لعالم الشهادة وتقيس الحاكم الإلهي بالحاكم الإنساني مع‬ ‫احتراز ليس كمثله شيء‪ .‬فيصبح كلام الله على عالم الغيب كله من المتشابه ومن ثم‬ ‫فدلالته هي جوهر الإشكال في خطاب القرآن‪.‬‬ ‫فإذا كانت سياسة عالم الغيب كلها مما لا مثيل له في سياسة عالم الشهادة فكيف يمكن أن‬ ‫نفهم الكلام الإلهي حولهما؟‬ ‫من هنا صار الكلام الإلهي على سياسة عالم الغيب مقصورا على كلام يحدد معنى شد سياسة‬ ‫عالم الشهادة على مثال أعلى يفترض فيه الكمال في كل ما لدى الإنسان من النقص‪ .‬فيصبح‬ ‫النقص مفهوما إنسانيا يحيل بالضرورة إلى الكمال الذي هو مفهوم ربوبي‪.‬‬ ‫والكمال متعلق بالمعاني الكلية التي تشير إلى ما به نعرف الإنسان دون أن نزعم أنها‬ ‫مقومات كيانه التي هي من الغيب‪ .‬وهذا المعاني حصرناها في‪:‬‬ ‫‪ .1‬الإرادة التي تراوح بين كونها حرة أو مضطرة‪.‬‬ ‫‪ .2‬العلم الذي يراوح بين كونه صادقا أو كاذبا‪.‬‬ ‫‪ .3‬والقدرة التي تراوح بين كونها خيرة أو شريرة‪.‬‬ ‫‪ .4‬والحياة التي تراوح بين كونها حسنة أو قبيحة‪.‬‬ ‫‪ .5‬والوجود الذي يراوح بين كونه جليلا أو ذليلا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والمعاني الموجبة عندما تكون مطلقة الكمال هي ما نشير به إلى مفهوم الرب‪ .‬والمعاني‬ ‫السالبة عندما تكون مشرئبة إلى المعاني الموجبة هي ما نشير به إلى مفهوم الإنسان من‬ ‫حيث هو خليفة‪ .‬والمعاني التي تكون مطلقة النقص هي ما نشير به إلى مفهوم الإنسان‬ ‫المخلد إلى الأرض‪ .‬فتكون المراوحة بين الحرية والضرورة وبين الصدق والكذب وبين‬ ‫الخير والشر وبين القبح والجمال وبين الذل والجلال هي حياة الإنسان وسياسة عالم‬ ‫الشهادة من حيث هي اجتهاد بمعنى التواصي بالحق وجهاد بمعنى التواصي بالصبر في‬ ‫التاريخ الإنساني‪ .‬تلك هي زبدة كلام القرآن على هذه العلاقة بين قطبي المعادلة‬ ‫الوجودية‪ :‬الله والإنسان مستخلف وخليفة وسياسة عالم الغيب وسياسة عالم الشهادة من‬ ‫حيث تحقق هذه العلاقة بين قطبي المعادلة الوجودية في التاريخ الفعلي من خلال ما يحققه‬ ‫الإنسان في علاقته بالطبيعة ذات المابعد الواصل بالله وبالتاريخ ذي المابعد الواصل بالله‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫مدار الأمر كله إذن على المعادلة الوجودية وعلاقة قلبها بطرفيها وبما بعدهما في صلتهما‬ ‫بالإنسان من حيث وظيفته وتجهيزه كما يحددهما القرآن الكريم في عملة النقد الموصلة إلى‬ ‫البديل‪:‬‬ ‫‪ .1‬فقلب المعادلة الوجودية كما ذكرنا ذلك في العديد من المحاولات هو العلاقة بين‬ ‫المستخلف (الله) والخليفة (الإنسان) دون وساطة ولا وصاية بمعنى ان الإسلام يعتبر هذه‬ ‫العلاقة المباشرة أصلا لكل ما عداها في رؤيته ورمزها‪َ { :‬ولَقَ ْد َخلَ ْق َنا ا ْلإِن َسا َن وَنَعْلَمُ َما‬ ‫تُ َوسْوِ ُس بِهِ َنفْ ُسهُ ۖ َونَ ْح ُن َأقْرَ ُب إِ َل ْيهِ مِ ْن حَبْ ِل الْ َو ِريدِ} ( ق‪.\")16.‬‬ ‫‪ 2‬و‪ .3‬على أحد جناحي هذا القلب نجد الطبيعة وما بعدها‪ .‬وما بعدها هو النظام الدال‬ ‫على أن وراءها خالقها وآمرها أي صلة هذه العلاقة غير المباشرة بالعلاقة المباشرة بالله‪.‬‬ ‫وهي غير ممكنة من دون التجهيز الأول لمهمة الإنسان الأولى‪ :‬جهاز النظر والعقد لمهمة‬ ‫الاستعمار في الأرض‪.‬‬ ‫‪ 4‬و‪ .5‬وعلى جناحه الثاني نجد التاريخ وما بعده‪ .‬وما بعده هو النظام الدال على أن‬ ‫وراءه خالقه وآمرة أي صلة العلاقة غير المباشرة بالعلاقة المباشرة بالله‪ .‬وهي غير ممكنة‬ ‫من دون التجهيز الثاني لمهمة الإنسان الثانية‪ :‬جهاز العمل والشرع لمهمة الاستخلاف في‬ ‫الأرض‪.‬‬ ‫وهذه المعادلة الوجودية ليست خاصة بالمؤمنين وحدهم‪ .‬فهي ملازمة للإنسان من حيث‬ ‫إنسان آمن أو ألحد‪ .‬ومعنى ذلك أنه حتى من ينفيها يثبتها لأن الكلام عليها لا يتعلق‬ ‫بالموقف القضوي منها بل بالمضمون القضوي‪ .‬فلا يمكن أن ينفي الإنسان الطبيعة إلا إذا‬ ‫تصور نفسه هو العالم ولا يوجد شيء خارجه يحيط به فيصبح قائلا بالانظوائية المطلقة‬ ‫بمعنى أنه لا يخرج من \"الأنا\" الديكارتي‪.‬‬ ‫وحتى في هذه الحالة فهو يكون قائلا يتعذر إثبات ما يوجد خارج الذات ولا كذلك نفيه‪.‬‬ ‫وهذا هو المضمون الأول‪ .‬وإذن فالمقابلة بين المثبت والنافي تتعلق بالموقف من مضمون هذه‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫القضية وليس بالمضمون‪ .‬لا يمكن إذن أن يثبت أو أن ينفي ما بعدها بنفس الحجة‪ .‬فمن‬ ‫يثبتها يقيس ما فيها على ما فيه أي إنه يعتبر نفسه ما بعد أفعاله‪ :‬هو الفاعل وهو ما بعد‬ ‫فعله ومفعول فعله‪ .‬ومن ينفيها يقيس ما فيه على ما فيه بنفي أن يكون لما فيه ما بعد ومن‬ ‫ثم فليس لما فيها ما بعد بل هي بذاتها كافية‪ .‬لكنه ما فيها ذو توال معين بنظام أو بغير‬ ‫نظام‪ .‬فإذا قال بنظام أو نفي النظام كان ذلك موقفا قضويا من مضمون التوالي في الشيء‬ ‫سواء في ذاته أو في الطبيعة‪ .‬وما قلناه عن الطبيعة وما بعدها يقال مثله عن التاريخ وما‬ ‫بعده‪.‬‬ ‫وذلك هو موضوع جهاز النظر والعقد (الطبيعة وما بعدها مضمونا قضويا وموقفا قضويا‬ ‫حول الطبيعة وعلاقة الإنسان بها) وبجهاز العمل والشرع (التاريخ وما بعده مضمونا‬ ‫قضويا وموقفا قضويا حول التاريخ وعلاقة الإنسان به)‪ .‬وإذن فنفي العلاقة المباشرة بين‬ ‫الإنسان والمتعالي أيا كانت طبيعته يقتضي نفي العلاقة غير المباشرة به أي العلاقة التي‬ ‫للإنسان بالمتعالي من خلال ما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ‪ .‬ولا يمكن للإنسان أن ينكر ما‬ ‫من دونه لا يبقى موجود أعني ما منه يستمد قيامه من حيث هو كائن حي عضويا وما منه‬ ‫يستمد قيامه من حيث هو كائن حي يعي ذاته بهذه الشروط‪.‬‬ ‫وهذا هو مدلول‪َ { :‬سنُرِي ِه ْم آ َيا ِتنَا فِي ا ْلآفَا ِق َو ِفي َأنفُسِ ِهمْ َحتَّ ٰى َيتَ َب ّيَ َن لَ ُه ْم َأنَّ ُه ا ْل َح ُقّ ۖ‬ ‫َأ َولَ ْم يَ ْك ِف بِرَبِّكَ أَ َّن ُه َع َل ٰى ُك ّلِ شَيْء شَ ِهيد} (فصلت ‪ .)53‬وهو مدلول عجيب لأن الآفاق هي‬ ‫الطبيعة والتاريخ وما بعدهما حاضر في ما يستنتج منهما من نظامين أحدهما هو شرط القيام‬ ‫العضوي للإنساني والثاني هو شرط القيام الروحي للإنسان وهو ما يدركه بجهازيه بوصفه‬ ‫وظيفتيه وشرطي حياته سواء آمن أو ألحد‪ .‬وتلك هي الآيات التي يرينها الله فنتبين أن‬ ‫القرآن هو الحق‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والآن فينبغي أن نبحث في علاقة التجهيز بالمهمة في الحالتين‪ :‬هل الإنسان مجهز بما يناسب‬ ‫ما تتطلبه المهمة وهل أعني بما يمكن من تحقيق مهمته من حيث هو مستعمر في الأرض‬ ‫ومهمته من حيث هو مستخلف فيها‪:‬‬ ‫‪ .1‬التجهيز للأداة العلمية التي تمكن من الاستفادة من تسخير الطبيعة بعضها‬ ‫للبعض وللإنسان خاصة‪.‬‬ ‫‪ .2‬التسخير أو ما في الطبيعة من مناسب لوجود الإنسان في العلاقة العمودية بينه‬ ‫وبينها للإستفاد مما تحتوي عليه الطبيعة مما هو ضروري لوجوده ولبقائه بشرط أن‬ ‫يستخرج منها بجهازه ما يحقق ذلك‪ .‬وهو ما يستوجب أن يكون الجهاز بذاته مناسبا لسر‬ ‫النظام الذي يوجد في الطبيعة وفي التاريخ أي لقوانين الأولى‪ :‬قانون الضرورة الشرطية‪.‬‬ ‫‪ .3‬التجهيز للغاية القيمية التي تمكن من الاستفادة من تسخير البشر بعضهم لبعض‬ ‫‪ .4‬في التعاون والتبادل في العلاقة الأفقية بينه وبين التاريخ (معاصريه وغير‬ ‫معاصريه من البشر وثمرات إبداعهم السياسي والعملي) لتكوين الأداة العلمية والغاية‬ ‫القيمية للاستفادة مما يحتوي على المجتمع مما يحقق وجوده وبقاءه بشرط أبداع نظامه‬ ‫القانوني والقيمي شرطا في التواصل والتبادل‪ :‬قانون الحرية الشرطية‪.‬‬ ‫‪ .5‬الأصل الذي هو علاقة الإنسان المباشرة بالمتعالي (الله سواء كان بمعناه الديني‬ ‫المعلوم أي رب الخلق والامر أو بمعناه الذي نجده في الأديان الطبيعية أو في الرؤى‬ ‫الإلحادية أي رد النظام إلى الصدفة)‪.‬‬ ‫وسأبدأ بالأصل ثم أعود إلى الفروع لأبين طبيعة العلاقة بين القلب وما بعد الجناحين‬ ‫ودور نظرية المعرفة ونظرية القيمة اللتين وضعتهما مدرسة الفكر الإسلامية في تحرير‬ ‫الفكر الإنساني من وهم العلم والعمل الإنسانيين المحيطين اللذين هما مصدر تحريف‬ ‫الفلسفة والدين وخلق الهوة بينهما في حين أنهما نفس الامر وإن كان ظهورهما دائما من‬ ‫مدخلين متقابلين‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬فالفكر الفلسفي يقدم الجناح الطبيعي وما بعده ومنه يشتق الجناح التاريخي وما‬ ‫بعده‪.‬‬ ‫‪ .2‬والفكر الديني يقدم الجناح التاريخي وما بعده ومنه يشتق الجناح الطبيعي وما‬ ‫بعده‪.‬‬ ‫وتطور الفكر الفلسفي الحديث أثبت أن الحل الثاني أصح من الحل الأول وحاول أن‬ ‫يراجع نفسه فكان أن عدل نظرية المعرفة ونظرية القيمة وتخلى عن دعوى الإحاطة فيهما‬ ‫وهو سر تطوره الدائم‪ .‬ولولا النكوص الهيجلي والماركسي لتجاوز الفكر الإنسان التحريفين‬ ‫المسيحي واليهودي ولتبين له ما ذكرته فصلت ‪ 53‬وهي أن آيات الله في الآفاق وفي الأنفس‬ ‫هي التي تبين أن القرآن حق أي إن الرسالة الخاتمة هي التي حسمت تحديد العلاقة بين‬ ‫الديني والفلسفي بوضع مبدأ الغيب الذي هو مفهوم حد يحول دون الإنسان والتأله ويحدد‬ ‫منزلته الوجودية بوصفه مستعمرا في الأرض ومستخلفا فيها‪.‬‬ ‫وما ما يعني أنه مجهز للأول وللثاني تجهيزا يجعله يدرك الضرورة الشرطية في الطبائع‬ ‫والحرية الشرطية في الشرائع ويفهم أن ما وراء الطبائع وما وراء الشرائع كلاهما مما لا‬ ‫نعلم علاقته بالشرطية إذ تصورناها من جنس شرطية الطبيعة أو الشريعة التي تتنافى مع‬ ‫نظرية الخلق ونظرية الامر اللتين من السخف قياسهما على نظرية الصناعة الإنسانة‬ ‫التقنية التي لا بد منها في التعمير ونظرية الصناعة الإنسانية الخلقية التي لا بد منها في‬ ‫الاستخلاف‪.‬‬ ‫فإذا أرجعنا الخلق إلى الصناعة التقنية والأمر إلى الصناعة الخلقية جعلنا الله نفسه‬ ‫خاضعا للضرورة الشرطية وللحرية الشرطية فجعلنا الإنسان مثال الله وليس العكس‬ ‫الواجب‪ .‬لذلك فلا يمكن أن ندعي أن الما وراء الطبيعة وما وراء التاريخ خاضعان لضرورة‬ ‫شرطية ولحرية شرطية بل هما ضرورة وحرية لا شرطية‪.‬‬ ‫فعالم الغيب وراء عالم الشهادة يجعلنا أمام عالمين على الأقل في علاقة بالإنسان وبجهازيه‬ ‫وبشرطي قيامه الطبيعي والتاريخي اللذين يضعانه أمام إشكالية الماوراء المضاعف غير‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫المباشرة بتوسط الطبيعة شرط قيامه العضوي والتاريخ شرط قيامه الموقفي من قيامه‬ ‫العضوي ‪-‬في علاقة شبيهة بعلاقة مضمون القضايا بالمواقف منها‪-‬والتي تعيده إلى العلاقة‬ ‫المباشرة بين وبين رب يعلمه بأنه أقرب إليه من حبل الوريد إن كان مؤمنا أو إن البديل‬ ‫منه هو الوثنية التي هي بدرها دين شركي (الحج ‪ )17‬وليست تحررا من التدين حتى‬ ‫بالشكل المحرف‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫قبل الكلام على الأصل وفروعه كما عرضناهما عند تحليل المعادلة الوجودية من حيث‬ ‫هي علاقة مباشرة بين وجود الإنسان ومنشوده أو بين الإنسان ومثاله الأعلى (الله أو أي‬ ‫شيء يعتبره متعاليا عليه) ومن حيث هي علاقة غير مباشرة بتوسط الطبيعة وما بعدها‬ ‫والتاريخ وما بعده جناحين للعلاقة المباشرة ينبغي أن أحدد طبيعة هذا الكلام أو المعاني‬ ‫التي يتناولها من خلال عرض الموقفين المتنافسين على تحديدها من حيث هي‪:‬‬ ‫‪ .1‬مقومة لموضوعها كما هي الحال في الموقف الفلسفي والديني القديمين اللذين‬ ‫والمتعلقين بالمعرفة والقيمة وثابتة بثبات الموضوع تجاوزتها المدرسة النقدية‪.‬‬ ‫‪ .2‬مشيرة لموضوعها دون أن تكون مقومة لأنها مجرد رموز لأعراض يدركها الإنسان‬ ‫في مرحلة من مراحل المعرفة والقيمة وهي دائما في تغير بتغيرهما‪.‬‬ ‫وفي الحالة الأولى يسود الاعتقاد بان المعاني مطابقة لحقيقة الشيء في النظر والعقد‬ ‫ولقيمته في العمل والشرع‪ .‬أما الحالة الثانية على العكس الاعتقاد هو أن المعاني التي‬ ‫ندركها هي إشارة ترمز إلى ما ندركه من الشيء أو بصورة أدق إلى ما نختاره للإشارة إلى‬ ‫الشيء بآلية التناظر بين نظامين‪ :‬نظام الروامز ونظام المرموزات أعني من اخترناه ممثلا‬ ‫للشيء الذي يتعلق به الإدراك في مرحلة من مراحل تنظيمنا لمدركاتنا المعرفية والقيمية‪.‬‬ ‫وهو ما يعني أن المعرفة والعقيمة كلتاهما نظام للموضوعات بما اخترناه مما ندركه من‬ ‫أعراضها التي نراها في علاقتنا بالعالم بمنظورين هما منظور الموجود ومنظور المنشود‬ ‫فتكون الأعراض التي اخترناه في آن الإشارة والمشار إليه‪ :‬وهو معنى كونها رموزا وليست‬ ‫مقومات للأشياء التي يدور حولها التواصل بين البشر خلال المعرفة وخلال التقويم‪.‬‬ ‫وهذا كله يبدو سهل الفهم والقبول‪.‬‬ ‫ما يحير هو كيف يمكن لمثل هذا أن يكون مؤثرا بحيث إننا به نستطيع أن نتعامل مع‬ ‫الأشياء وكأن هذه الرموز معان مقومة لها وليست مجرد رموز مشيرة إليها؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫كيف يمكن مثلا أن يكون علم الكيمياء ممكنا إذا كنا لا نعلم حقيقة المواد ومع ذلك‬ ‫نستطيع أن نحقق التفاعلات باستعمال تلك الرموز التي هي معان دالة وليست معاني‬ ‫مقومة؟‬ ‫لم أضع نظرية المعادلة الوجودية إلا لحل هذه المعضلة‪ .‬وقد حاولت بيان استحالة القول‬ ‫بالموقف الأول وهو أمر يسير لأن تغير دلالة المعاني يجعلها بالضرورة غير مقومة بل مجرد‬ ‫أسماء تماما كما تصورها ابن تيمية أي أنها لا تختلف عن الكتابة واللفظ من حيث الإشارة‬ ‫إلى دلالات دون أن تكون مقومة للمدلول فيها ومن ثم فهي مقصورة على الإشارة الإحالية‬ ‫المميزة للمقصود في الكلام وليست المعبرة عن حقيقته أو قيمته‪ .‬وتغير المسمى مع بقاء‬ ‫الاسم يعني أنه عدم ثبات المسمى بالاسم يفيد مجرد الإشارة دون التقويم مثل اللغة‬ ‫والكتابة‪ .‬فتعدد اللغات وتعدد الكتابات للدلالة على نفس الشيء وتعدد المدلول لنفس‬ ‫الدال في نفس اللغة يجعل الأمرين غير متطابقين‪ :‬ذلك أن عدم التلازم المتوازي بين التغير‬ ‫والثبات في الأمرين يعني أن كل واحد منهما مستقل عن الثاني وأن الأمر يجري في‬ ‫منظومتين مختلفتين وأن المهم في المسألة ليس ما يجري فيهما كلا على حدة بل في تفاعل‬ ‫المجريين‪ :‬فمنزلة اللفظة في اللغة تناظر منزلة ما تدل عليه في موضوع الكلام دون أن‬ ‫تكون الكلمة ومدلولها ذوي علاقة جوهرية بينهما‪.‬‬ ‫والعلاقة المفيدة في هذه الحالة هي التناظر بين المنازل في النظامين الدال والمدلول‬ ‫وكلاهما من وضع الإنسان‪ :‬نظام المدلول أو نظام المسميات يمثل شبكة تواضعية تصنف‬ ‫الأشياء المدلولة بمقتضاه بنظام يحاول نظام الأسماء محاكاته حتى تكون محيلة إليه‬ ‫بالتناظر بين النظامين‪ .‬وهذا التناظر عندما يصبح كونيا يوجد لغة كونية هي لغة العلم‬ ‫الصناعية وهي وضعية اصطلاحية تتغير إما بتغير النظام الدال أو بتغير النظام المدلول‬ ‫وبعبارة أوضح إما بتغير النظرية أو بتغير التجربة‪ .‬فيكون ما يحصل في أحدهما من تغير‬ ‫في منازل عناصره مستتبعا تغيرا في منازل عناصر الثاني‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والآن من أين جاءت نظرية المعادلة الوجودية‪ .‬مصادر الفكرة أو الحدس الذي ولدها‬ ‫متعددة بعضها من الفلسفة وبعضها من الدين وبعضها خاصة من التأمل في ذاتي وما اشعر‬ ‫به من علاقة بالآفاق وبالنفس‪ :‬فلا يمكن أن أنكر أني أشعر بالفرق بين علاقتي بكياني‬ ‫العضوي وعلاقتي بكياني العائد عليه وعيا بما يمكن الوعي به منه ولنسم ذلك كياني‬ ‫الروحي من جهة وعلاقتي بما يناسب كياني العضوي من الوجود الخارجي وأدركه بحواسي‬ ‫وما يناسب كياني الروحي منه وأدركه بحوادسي أو بما وراء حواسي من وعي بما تشير إليه‬ ‫في الوجود الخارجي من علاقة معي‪ .‬فأكون قد بدأت بعلاقتين متناظرتين يعسر أن أفهمهما‬ ‫من دون أن يكون السؤال عن‪:‬‬ ‫‪ .1‬ما بعدي الذاتي وما بعد ما لي به علاقة في ذاتي من حيث كيانها العضوي وكيانها‬ ‫الروحي الذي هو تراكم هذه الأوعاء بذاتي وبما حولي سواء حفظ في الذاكرة النفسية أو‬ ‫في حوالها الخارجية بكل وسائل العبارة عنها؟‬ ‫‪ .2‬وفي ما حولي من الطبيعة ومما تراكم من وعي بهذه العلاقات في الذاكرة النفسية‬ ‫وفي المذكرات الموضوعية مما دون أو رسم من هذه الأوعاء بما حولي وما فعلته فيه وانفعلت‬ ‫به منه وذلك هو مضمون التاريخ الذي يضاف إلى الطبيعة‪.‬‬ ‫كل ذلك يجعلني في آن ذا علاقة مباشرة بهذا المابعد المضاعف في كياني فتحيلني إلى‬ ‫العلاقة غير المباشرة بتوسط الطبيعة وما بعدها وبتوسط التاريخ وما بعده ثم المسار المقابل‬ ‫من هذه إلى تلك من اللامباشرة إلى المباشرة بعد التي من المباشرة إلى اللامباشرة‪ .‬وتلك‬ ‫هي بنية المعادلة الوجودية التي وضعتها للعبارة عن هذه العلاقات التي لها وجود في وفي‬ ‫العالم من حولي‪.‬‬ ‫وهذه الصورة هي التي أحالتني مباشرة إلى مضمون آيتين تحيطان بدلالات القرآن‬ ‫إحاطة جامعة مانعة أولاهما هي فصلت ‪ 53‬والثانية هي آل عمران ‪ .7‬ففيهما كلام كان‬ ‫مغلقا عندي لأن علماء الأمة لم يدركوا طبيعة هذه الإحاطة الجامعة والمانعة سورا لتحديد‬ ‫طبيعة الدلالة القرآنية من حيث هي تذكر خاتم‪ .‬فالأولى حصروها في افادة تشبه دور‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فائدة الاتعاظ بأحداث الطبيعة والتاريخ والنفس في الوظيفة التربوية والخلقية بالإحالة‬ ‫إلى الحكم الإلهية‪ .‬والثانية اعتبروها مجرد تحذير للتمييز بين تأويل الراسخين في العلم‬ ‫والعامة ومن ثم فهما آيتان أفرغتا من جوهر معناهما وتحولتا إلى تأسيس وظيفة العلماء‬ ‫من حيث هم وسطاء في الوعظ القيمي وفي المعرفة الدينية‪.‬‬ ‫وأهمل العلماء جوهر الآية الأولى { َس ُنرِي ِهمْ آ َياتِ َنا فِي الْآ َفا ِق َو ِفي أَن ُفسِهِ ْم حَ َّتىٰ يَتَ َبيَّنَ‬ ‫لَهُ ْم أَ َنّ ُه ا ْل َح َقُّ ۖ َأ َو َلمْ يَ ْكفِ ِبرَبَِّ َك َأ ّنَهُ عَلَ ٰى كُ َِّل َشيْء َشهِيد } التي حددت شروط الوصول‬ ‫إلى حقيقة القرآن من حيث هو رسالة تذكير خاتمة حق‪.‬‬ ‫وأن الآية الثانية { ا َّل ِذي َأ ْنزَلَ َعلَ ْي َك ا ْل ِكتَا َب مِ ْن ُه آيَات ُم ْح َكمَات ُه ّنَ ُأ ُّم ا ْل ِك َتابِ َوأُ َخ ُر‬ ‫ُم َتشَا ِب َهات ۖ فَ َأ َّما الَّذِي َن فِي قُ ُلو ِب ِه ْم َزيْغ َف َيتَّ ِب ُعو َن َما تَشَا َبهَ مِنْهُ ابْتِغَا َء الْ ِفتْنَ ِة َوا ْب ِت َغا َء تَ ْأ ِوي ِل ِه‬ ‫ۖ وَ َما َي ْع َل ُم تَ ْأ ِوي َل ُه إِ ّلَا ال َلّهُ ۖ وَالرَّا ِسخُو َن فِي الْ ِعلْمِ يَ ُقولُونَ آمَ ّنَا ِب ِه ُك ٌّل مِنْ عِنْ ِد َر ّبِنَا ۖ َومَا‬ ‫َي ّذَكَّ ُر إِلَّا أُولُو ا ْلأَ ْل َبابِ} تؤكد أن العمل بنقيضها أي ترك آيات الآفاق والأنفس ومحاولة‬ ‫فهم حقيقة القرآن بتفسير آيات النص يوصل إلى دلالة خطيرة هي النقيض التام لدلالة‬ ‫الآية الأولى‪.‬‬ ‫وما حصل في تاريخ فكر الأمة هو عكس الأمر والنهي بجعل الاول نهيا والثاني أمرا‬ ‫فعطلت وظيفة الرسالة الخاتمة بسبب تجاهل دور المفهوم الأساسي في القرآن الكريم أعني‬ ‫مفهوم الغيب الذي يحول دون الإنسان وإفساد نظرية المعرفة ونظرية القيمة بسبب تحريف‬ ‫دلالتها وتحريف مفهوم الرسوخ في العلم‪ .‬وهذا الافساد وصفته الآية السابعة من آل عمران‬ ‫بظاهرتين هما‪:‬‬ ‫‪ .1‬زيغ القلوب‪.‬‬ ‫‪ .2‬ابتغاء الفتنة‪.‬‬ ‫وهذان الظاهرتان هم سر ادعاء الألوهية أي ادعاء العلم المطلق (كما في نظرية الكشف‬ ‫الصوفية ونظرية العقل الفلسفية) والعمل المطلق (كما في ظاهرة الاستبداد والفساد‬ ‫ومثاله فرعون ونمرود)‪ .‬ويترتب على ذلك أن زعم المطابقة بين علم الإنسان وحقيقة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الوجود في ذاته والمطابقة بين عمل الإنسان وحقيقة المنشود في ذاته‪ .‬وهو ما يعني نفي‬ ‫الغيب المعرفي والقيمي ومن ثم نفي وجود علم محيط وعمل محيط متعاليين على علم‬ ‫الإنسان وعمله أي الألحاد الحقيقي‪.‬‬ ‫والآية الأولى أحالتني مباشرة على الآيتين اللتين جعلتهما شعار محاولة قراءة القرآن‬ ‫قراءة فلسفية أعني الآتين ‪ 105‬و ‪ 106‬من الإسراء‪َ { :‬وبِا ْل َح َّقِ َأنزَلْ َناهُ َوبِالْ َح َّقِ نَ َزلَ ۖ َومَا‬ ‫أَ ْرسَ ْلنَا َك إِ ّلَا مُبَ َِّشرًا َونَذِيرًا‪َ .١٠٥ .‬و ُقرْآنًا َف َر ْق َناهُ ِل َت ْقرَأَهُ عَلَى ال ّنَا ِس عَ َل ٰى مُ ْكث وَ َن َّز ْلنَا ُه‬ ‫تَن ِزيلًا‪.}١٠٦ .‬‬ ‫فماذا أجد مأمورا به في فصلت ‪53‬؟‬ ‫إنه جوهر ما وصفته بالضرورة الشرطية وبالحرية الشرطية أعني ما هو ممكن للإنسان‬ ‫من حيث هو خليفة مستعمر في الأرض ومجهز لذلك بجهاز النظر والعقد وبجهاز العمل‬ ‫والشرع‪.‬‬ ‫‪ .1‬مشكل سنريهم‬ ‫‪ .2‬مشكل \"آياتنا\"‬ ‫‪ .3‬مشكل في الأفاق (الطبيعة والتاريخ)‬ ‫‪ .4‬مشكل في أنفسهم (أي كيان الإنسان الطبيعي والتاريخي)‬ ‫‪ .5‬مشكل الحق بمعنى الحقيقة المعرفية والحقيقة القيمية (القرآن)‪.‬‬ ‫وماذا أجد في آل عمران ‪ 7‬منهيا عنه؟ إنه جوهر ما سميته بالضرورة اللاشرطية والحرية‬ ‫اللاشرطية أي ما لا يستطيعه الإنسان بمقتضى حدود جهازيه وذلك هو معنى نظرية العلم‬ ‫والعمل اللامحيطين في المعرفة والقيمة‪.‬‬ ‫‪ .1‬مشكل تأويل المتشابه‬ ‫‪ .2‬مشكل الرسوخ في العلم‬ ‫‪ .3‬مشكل زيغ القلوب‬ ‫‪ .4‬مشكل ابتغاء الفتنة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .5‬مشكل الغيب أو المفهوم الحد بين العلم الإنساني والعلم المحيط الذي له وحده‬ ‫القدرة على تأويل المتشابه‪.‬‬ ‫تلك هي المشكلات التي علينا علاجها لفهم أبعاد المعادلة الوجودية وصلتها بالإنسان من‬ ‫حيث هو بكيانه العضوي والروحي أصل كل هذه المشكلات التي علينا علاجها لفهم طبيعة‬ ‫التذكير القرآن الذي ينطلق من انثروبولوجيا في صلة ثيولوجيا هم جوهر المضمون المتعالي‬ ‫في سياسة عالم الغيب التي تعتبر مثالا أعلى للمضمون التاريخي في سياسة عالم الشهادة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ختمت الفصل الثالث بسؤالين كلاهما متفرع إلى خمس مسائل ولم أجب عنهما‪ .‬والمسائل‬ ‫التي علينا البحث فيها هي تمكن من تحديد جوهر العلاقة بين الديني والفلسفي وهي التي‬ ‫توصلنا إلى تحديد الواحد في الفلسفي والديني أي المشترك الكوني في منزلة الإنسان‬ ‫الوجودية‪:‬‬ ‫السؤال الأول‪:‬‬ ‫وهو حول دلالة فصلت التي يعد الله فيها بأن يري الإنسان حقيقة القرآن في آيات الآفاق‬ ‫والأنفس‪ .‬فماذا أجد مأمورا به في فصلت ‪53‬؟ إنه جوهر ما وصفته بالضرورة الشرطية‬ ‫وبالحرية الشرطية أعني ما هو ممكن للإنسان من حيث هو خليفة مستعمر في الأرض ومجهز‬ ‫لذلك بجهاز النظر والعقد وبجهاز العمل والشرع‪.‬‬ ‫‪ .1‬مشكل سنريهم‬ ‫‪ .2‬مشكل \"آياتنا\"‬ ‫‪ .3‬مشكل في الآفاق (الطبيعة والتاريخ)‬ ‫‪ .4‬مشكل في أنفسهم (أي كيان الإنسان الطبيعي والتاريخي)‪.‬‬ ‫‪ .5‬مشكل الحق بمعنى الحقيقة المعرفية والحقيقة القيمية (القرآن)‪.‬‬ ‫السؤال الثاني‪:‬‬ ‫وهو حول دلالة آل عمران ‪ 7‬التي تنهى عن تأويل المتشابه الذي هو أسلوب القرآن في‬ ‫الكلام على عالم الغيب وما له من صلة بعالم الشهادة‪ .‬فماذا أجد في آل عمران ‪ 7‬منهيا‬ ‫عنه؟ إنه جوهر ما سميته بالضرورة اللاشرطية والحرية اللاشرطية أي ما لا يستطيعه‬ ‫الإنسان بمقتضى حدود جهازيه وذلك هو معنى نظرية العلم والعمل اللامحيطين في المعرفة‬ ‫والقيمة‪.‬‬ ‫‪ .1‬مشكل تأويل المتشابه‬ ‫‪ .2‬مشكل الرسوخ في العلم‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .3‬مشكل زيغ القلوب‬ ‫‪ .4‬مشكل ابتغاء الفتنة‬ ‫‪ .5‬مشكل الغيب أو المفهوم الحد بين العلم الإنساني والعلم المحيط الذي له وحده القدرة‬ ‫على تأويل المتشابه‪.‬‬ ‫والدلالة العامة لأمر فصلت ‪ 53‬هي العلاقة بين نص القرآن من حيث هو رسالة تذكير‬ ‫وظيفة التذكير التي تمتحن بما يترتب عليه في الإحالة إلى الآفاق والأنفس‪ .‬فهذه الإحالة‬ ‫تحدد الاختبار الذي يبين أن ما يذكر به القرآن هو الحق لكأن الإحالة من جنس علاقة‬ ‫النظرية (التذكير) بالتجربة (رؤية آيات الآفاق والأنفس)‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن ما يقوله القرآن عن نفسه من حيث هو رسالة تذكير لا يمكن التحقق منه‬ ‫بشرح ما في نصه من كلام على عالم الغيب بل برؤية هذه الوظيفة التذكيرية في مجال‬ ‫تحققها أعني في الطبيعة والتاريخ (الآفاق) وفي الأنفس التي لها بهما صلة تؤدي ضرورة‬ ‫إلى ما بعد الطبيعة والتاريخ‪ .‬فتكون حقيقة القرآن تذكيرا بما يدل على أن علاقة سياسة‬ ‫عالم الغيب الذي يحكم هذه العوالم بسياسة عالم الشهادة التي هي اختبار أهلية الإنسان‬ ‫للاستخلاف موضوع الرسالة التذكيرية‪.‬‬ ‫وبذلك نفهم العلاقة بين الآيتين فصلت ‪ 53‬وآل عمران ‪ .7‬فالنهي عن تأويل المتشابه ‪-‬‬ ‫أي الكلام في المثال أو سياسة عالم الغيب‪-‬بدلا من العناية بسياسة عالم الشهادة انطلاقا‬ ‫من آيات الآفاق والأنفس علما وعملا مشدودين إلى سياسة عالم الغيب الذي عرض‬ ‫باستعارات من عالم الشهادة وليس إلى إحاطة به ليست ممكنة للإنسان‪ .‬وكل محاولة‬ ‫للإحاطة به معرفيا وقيميا برده إلى المقابلة السطحية بين حقيقة ومجاز تنتهي إلى قلب‬ ‫العلاقة بين المعيار والمعير به ولو بثيوليوجيا سلبية تدل على زيغ في القلب وابتغاء الفتنة‬ ‫لأن القصد منها في النهاية هو‪:‬‬ ‫• تأسيس سلطان روحي يكون وسيطا بين الله والإنسان بدلا من أن يكون كل إنسان في‬ ‫علاقة مباشرة بينه وبين ربه‪ :‬تأسيس الكنسية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫• تأسيس سلطان سياسي يكون وسيطا بين الإنسان وشأنه بدلا من أن يكون كل إنسان في‬ ‫عالقة مباشرة بينه وبينه‪ :‬تأسيس الحكم بالحق الإلهي‪.‬‬ ‫لذلك فهذان الآيتان لا تتعلقان بطريقة فهم القرآن من حيث هو رسالة تذكير للإنسان‬ ‫بمهمته وبشروط إنجازها التي تتوفر له فحسب بل هما تتعلقان خاصة بتوهم الاكتفاء بشرح‬ ‫النص التذكيري وكأنه يتضمن ما يغني الإنسان عن القيام بمهمته التي جهز لها‪ .‬وقد‬ ‫حاولت وصف ذلك بأمثولة من يترك ما تشير إليه السبابة بالنظر إلى السبابة بدل ما تشير‬ ‫إليه‪.‬‬ ‫كل التحريف الذي حال دون علوم الملة وتحقيق شروط انجاز المهمة علته ترك المشار إليه‬ ‫في الرسالة أعني ما أمرت به فصلت ‪ 53‬والاكتفاء بالسبابة المشيرة أعني ما نهت عنه الآية‬ ‫السابعة من آل عمران‪ .‬وما تشير إليه السبابة هو العلاقة بين السياستين سياسة عالم الغيب‬ ‫وملكها الله نفسه مستخلف الإنسان ومستعمره في الأرض وسياسة عالم الشهادة وملكه‬ ‫الإنسان أو الخليفة والمستعمر في الأرض‪ .‬وهذه العلاقة هي علاقة المثال الأعلى بالممثول‬ ‫المشدود‪.‬‬ ‫إليه والذي هو بالجوهر مسعى للتحرر بفضله من الإخلاد إلى الأرض وليس أمرا يمكن أن‬ ‫يحققه مدعيا أنه صار ذا علم محيط وعمل كامل وهما أمران إن توهمهما الإنسان ممكنين‬ ‫يطلقان النسبي أساسا للاستبدادين الروحي والسياسي اللذين يعتبرهما ابن خلدون عين‬ ‫التأله أصلا لعنف التربية الذي يلغي العلاقة المباشرة بين المؤمن وربه بإنشاء سلطة‬ ‫الاستبداد الروحي أو الكنسية ولعنف الحكم الذي يلغي العلاقة المباشرة بين المؤمن وأمره‬ ‫بإنشاء الاستبداد المادي أو طغيان الحكم‪ .‬وهما علة فساد معاني الإنسانية بالمصطلح‬ ‫الخلدوني‪.‬‬ ‫ومعاني الإنسانية عند ابن خلدون هي التي تتعلق بما يجعل الإنسان \"رئيسا بطبعه‬ ‫بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"‪ .‬وهي إذن مؤلفة من نوعين من التجهيز الذي يتعطل‬ ‫بسبب الاستبدادين‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬جهاز النظر والعقد أو فقدان حرية الفكر التي هي رمز العلاقة غير المباشرة بالله من‬ ‫خلال ما يترتب على علاقتها العمودية بالطبيعة وعلى علاقتها الأفقية بالتاريخ من إدراك‬ ‫لحاجتهما إلى ما بعد هو أساس كل دين‪.‬‬ ‫‪ .2‬جهاز العمل والشرع أو فقدان حرية التقييم ا لتي هي رمز العلاقة غير المباشرة بالله‬ ‫من خلال ما يترتب على ما في كيانه من اشرئباب إلى الكمال في الإرادة والعلم والقدرة‬ ‫والحياة والوجود هي جوهر كيانه المشدود إليه لمجرد الوعي بعدمه في إرادته وعلمه‬ ‫وقدرته وحياته ووجوده‪.‬‬ ‫وبذلك فإن الآيات التي تتجلى في الآفاق مقدمة في وعي الإنسان بعناصر البنية التي تمثلها‬ ‫المعادلة الوجودية وهو الوعي الذي يعيد الإنسان إلى الآيات التي تتجلى في الأنفس فيعلم‬ ‫حينها أن القرآن من حيث هو السبابة التي تشير إلى ما عليه القيام به تشير إلى الحق‬ ‫وهو ما يؤيد الآيتين ‪ 105‬و ‪ 106‬اللتين جعلتهما شعار محاولي في قراءة القرآن الكريم‬ ‫الفلسفية باعتباره \"استراتيجية توحيد الإنسانية\" التي تعتبر سياسة الرسول عينة منها‬ ‫تثبت أن الأمة هي بحق من سيكون الشاهد على العالمين بمنطق الآية الأولى من النساء‬ ‫(الأخوة البشرية) والآية الثالثة عشرة من الحجرات (التعارف معرفة ومعروفا بين البشر‬ ‫من حيث هم إخوة لا تفاضل بينهم إلا بالتقوى)‪.‬‬ ‫ومن هنا كان موقفي من علوم الملة واعمالها‪ .‬وهو موقف يعتبر علماء الملة كانوا مسؤولين‬ ‫على الانحطاط أكثر من أمرائها رغم أميتهم الغالبة‪ .‬ذلك أن هؤلاء لم يلغوا دستور القرآن‬ ‫في العمل والشرع بل أبقوا عليه رغم تعطيله بسبب ما يترتب على قاعدة الضرورة تبيح‬ ‫المحظور لأنهم حكموا بقانون الطوارئ منذ الفتنة الكبرى وما ترتب عليها من حروب أهلية‬ ‫هي الضرورة التي أباحت المحظور أعني تعطيل الدستور السياسي دون إلغائه‪.‬‬ ‫لكن العلماء هم الذين بتحريف القرآن زادوا الفتنة تعميقا وتجذيرا لأنهم تصوروا‬ ‫السبابة المشيرة هي المطلوب علمه والعمل به وليس المشار إليه بها‪ .‬فتركوا فصلت ‪ 53‬التي‬ ‫أمرت بما ينبغي العناية به ومالوا إلى آل عمران ‪ 7‬التي نهت عما يعمق الفتنة وهو ما حصل‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فأصبحت حالة الطوارئ حالة دائمة لأن علوم الملة حولتها إلى حالة دائمة إذ إن تحول علوم‬ ‫الملة كلها إلى تأويل النص واعتباره يتضمن علم الغيب أي ما يغني عن النظر والعقد في‬ ‫قوانين الطبيعة وسنن التاريخ وعن العمل والشرع أي ما يغني عن سنن تنظيم علاقة البشر‬ ‫بالطبيعة وبالتاريخ حتى يحققوا مهمتي الإنسان من حيث هو مستخلف ومستعمر في الارض‪.‬‬ ‫فأصبحت كل ما يزعمه علماء الملة علما بحثا عن تأسيس الاستبداد الروحي في التربية‬ ‫والاستبداد المادي في الحكم وصارت سياسة عالم الشهادة وكأنها عين سياسة عالم الغيب ولم‬ ‫تبق العلاقة بين الثاني والاول علاقة مثال أعلى بممثول بل علاقة نقل حرفي يجعل العلماء‬ ‫حائزين على القدرة على تأويل المتشابه بدعوى الرسوخ في العلم والأمراء حائزين على‬ ‫تحقيق إرادة الله بدعوى كونهم ظله في الأرض‪ .‬وبذلك يكون جميع علماء الملة مفسرين‬ ‫للقرآن لتحقيق هذه الرؤية في الفقه والتصوف (العمل والشرع) وفي الكلام والفلسفة‬ ‫(النظر والعقد) وتبقى العلاقة العمودية بالطبيعة والعلاقة الافقية بالتاريخ مجهولتين‬ ‫تماما بدلا من الانطلاق من نظرية الخلق التي تعتبر المخلوقات خاضعة لقانون رياضي هو‬ ‫شرط سياسة عالم الشهاد الطبيعي ومن نظرية الامر التي تعتبر المأمورات خاضعة لسنن‬ ‫خلقية هي شرط سياسة عالم الشهادة التاريخي‪.‬‬ ‫أما سياسة عالم الغيب التي جعلت بالخلق الرياضيات اساسا لسياسة عالم الشهادة الطبيعي‬ ‫وجعلت بالأمر الأخلاقيات أساسا لسياسة عالم الشهادة التاريخي فهي مجهولة تماما رغم أن‬ ‫القرآن حاول وصفها بما يصف به سياسة عالم الشهادة لتيسر فهم العلاقة بين العالمين وبين‬ ‫المستخلف والخليفة مع التنبيه إلى أن سياسة عالم الغيب هي مما ليس كمثله شيء‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ما الحصيلة؟‬ ‫تبدو شديدة البساطة ويسيرة التحديد‪ .‬لكنها مع ذلك تثبت الطابع الثوري للرسالة‬ ‫الكونية الخاتمة‪ .‬وهذا الطابع هو ما بالغفلة عنه فشل علماء الأمة في تحقيق شروط بقائها‬ ‫سيدة‪ .‬ذلك أنهم حرفوا الرسالة التي ذكرتهم مرتين بما يحقق تلك الشروط وكلتاهما‬ ‫تتعلق بالرؤية التي تصل العالمين وسياستهما عالم الشهادة وسياسته تربية وحكما وعالم‬ ‫الغيب وسياسته تربية وحكما‪.‬‬ ‫‪ .1‬فأما المرة الأولى فهي تلك التي تتعلق بالتاريخ النقدي لتحريف الرؤية الدينية وما‬ ‫ترتب عليها من تحريف سياسة عالم الشهادة‪.‬‬ ‫‪ .2‬وأما المرة الثانية فهي تلك التي تتعلق بالتذكير بما لدى الإنسان من شروط تحقيق‬ ‫الرؤية الدينية غير المحرفة وما يترتب عليها من سياسة عالم الشهادة‪.‬‬ ‫وإذن فنقد التحريف والتصحيح ببيان البديل هما جوهر الرسالة التذكيرية الأخيرة‪.‬‬ ‫وحصول التحريف وعدم التصحيح كانا العلة الرئيسية في ما عليه الأمة من هوان وضعف‬ ‫وتخلف‪ .‬والعلة العميقة للتحريف في الإسلام تنقسم إلى نوعين إذا حددناه طبيعة التحريف‬ ‫الحاصل في تاريخ الإسلام مباشرة بعد الفتنة الكبرى بل لعله هو علة الفتنة الكبرى التي‬ ‫ظلت تحت الرماد من يوم وفاة الرسول إلى يوم اغتيال الخليفة الثالث‪:‬‬ ‫‪ .1‬التحريف القصدي بدافع سياسي رد فعل شعوبي على ثورة الإسلام التي تنفي الأنظمة‬ ‫الثيوقراطية وهو تحريف يعتبر القرآن الذي بين أيدينا ليس عين ما نزل على الرسول‬ ‫مدعين أن الأصل يقول بالوساطة الروحية والوصية السياسية لآل البيت‪ .‬وهو محاولة جعل‬ ‫القرآن يؤسس للنكوص إلى الرؤية الفارسية‪.‬‬ ‫‪ .2‬التحريف غير القصدي بسبب القصور المعرفي وعدم التمييز بين مستويات الخطاب‬ ‫القرآني ما حوله إلى صندوق ماعون صنعة يعتبر لكأنه جامعا مانعا لكل شيء ومغنيا عما‬ ‫عداه بحيث صار القرآن وكأنه مؤسسا للجهل والامية العلمية والعملية وتحولت السياسة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫تربية وحكما مجرد تطبيق حرفي وغبي للمثل التي يشير إليها القرآن وكأن مثلها ممكن‬ ‫للإنسان مع الزعم أنها تحققت في الحقبة الأولة من حكم الراشدين وأصبح فكر الأمة كله‬ ‫مقصورا على الخيار بين تقليدهم أو تقليد من لم يقلدهم بعد أن يصبح أقدر على علاج ما‬ ‫يعترض الإنسانية من قضايا ليس لها مثيل في سلوك السلف‪.‬‬ ‫والتحريف الأول كتبت فيه الكثير‪ .‬وفي الحقيقة الترتيب الوارد هنا معكوس لأن القرآن‬ ‫لم يكن قسمه النقدي للتحريف أصلا بل هو فرع كما يتبين من مبدأ هذا النقد‪ :‬فهو‬ ‫التصديق والهيمنة‪ .‬ومعنى ذلك أن القرآن ينطلق من الدين غير المحرف وبه يصدق ما‬ ‫في الأديان التي يستعرضها في نقده بهمينة عليها علتها إظهار ما يقبل التصديق فيها من‬ ‫منطلق الحقيقة التي يمثلها الإسلام دينا خاتما يذكر بالدين الفاتح‪.‬‬ ‫ولست معنيا في هذه المحاولة بالتحريف القصدي الذي أعاد دولة الوساطة الروحية‬ ‫والوصاية السياسية باسم آل البيت‪ .‬ما أريد علاجه هو التحريف الذي حصل عند علماء‬ ‫السنة وهو غير قصدي وعلته يمكن بيانها بمجرد الجمع بين معنيي مفهوم الآية في القرآن‬ ‫الكريم وهما مفهومان وردا في فصلت ‪ 53‬وفي آل عمران ‪:7‬‬ ‫‪ .1‬المعنى الأول من الآية‪ :‬شذرة من نظام بنية النص‬ ‫هي شذرة من من بنية نظام النص القرآني أي الوحدة الدنيا في نظام بنيوي هو نص‬ ‫القرآن الكريم‪ .‬وهذا النص هو منظومة التذكير التي لا تتضمن علما بالغيب بل إعلام‬ ‫بوجوده ووظيفتها توجيه المخاطب بها أي الإنسان بالإشارة إلى نوع العلاقة التي تصل عالم‬ ‫الشهادة بعالم الغيب بوصف الوصل بينهما هو الوصل بين سلطانين‪:‬‬ ‫• السلطان الأول‪:‬‬ ‫سلطان سياسة الإنسان لعالم الشهادة بوصفه خليفة في الأرض ومستعمرا فيها ومسؤولا عن‬ ‫الأفعال الذي كلف بها لأن نظام خافه هو نظام الحرية الشرطية وليس نظام الضرورة‬ ‫الشرطية‪.‬‬ ‫• السلطان الثاني‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫سلطان سياسة الله لعالم الغيب بوصفه مستخلفا للإنسان وخالقا له وللعالم وآمرا لهما‬ ‫وسياسة عالم الغيب فوق الحرية الشرطية والضرورة الشرطية‪ .‬وذلك لأن حرية الله‬ ‫وضرورته لا تخضعان لشروط معلومة إلا إذا عكسنا فقسنا عالم الغيب على عالم الشهادة‪.‬‬ ‫والقرآن ينهانا عن ذلك بحرز ليس كمثله فالأماثيل مع نفي المماثلة تعني أنها رموز تترجم‬ ‫للإنسان ما لا يفهمه إلا بها دون أن يكون ما يفهمه الإنسان منها مطابقا لحقيقتها‪.‬‬ ‫‪ .2‬المعنى الثاني من الآية‪ :‬شذرة من بنية نظام الوجود‬ ‫هي شذرة من بنية نظام الوجود أي الوحدة الدنيا في نظام بنيوي هو نظام الوجود الذي‬ ‫يريه الله إلى الإنسان‪ .‬وهذا الوجود من حيث هو العالم الطبيعي والعالم التاريخي وكيان‬ ‫الإنسان كلها بوصفها المشار إليه باعتباره شذرة من الخلق والأمر اللامتناهيين واللذين‬ ‫يثبتان أن ما يشير إليه القرآن من حيث هو نظام الآيات التي من الجنس الأول هو نظام‬ ‫الآيات التي على الإنسان أن يفك نوعي ألغازها‪:‬‬ ‫• النوع الأول‪:‬‬ ‫هو قوانين الضرورية الشرطية في الطبيعة وسنن الحرية الشرطية في التاريخ والأولى‬ ‫رياضية تجريبية بالمعنى النظري للتجريب والثانية خلقية تجريبية بالمعنى العملي‬ ‫للتجريب‪.‬‬ ‫• النوع الثاني‪:‬‬ ‫هو قوانين النظر والعقد لمعرفة الضرورة الشرطية وسنن العمل والشرع لتقييم الحرية‬ ‫الشرطية‪ .‬وعلم الضرورة الشرطية شرط الاستعمار في الأرض‪ .‬عمل الحرية الشرطية‬ ‫شرط الاستخلاف فيها‪.‬‬ ‫وإذن فالفرق بين دلالتي الآية هو الفرق بين آية هي عنصر الخطاب وآية هي عنصر‬ ‫موضوع الخطاب‪ .‬والأولى تتعلق بالتوجه إلى الموقف القضوي للتأثير فيه والثانية تتعلق‬ ‫إلى المضمون القضوي للإحالة عليه مع بيان أن الخطاب المتعلق به لا يحيط به ولا يطابه‬ ‫وإنما يمثل له دون القول بالمماثلة ما يعني أن التمثيل هو من أدوات تصحيح الخطاب‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫المضموني لئلا يظن عين مقوماته في حين أنه مثله مثل اللغة من الرموز المشار إليها وليس‬ ‫من مقومات الموضوع التي تبقى دائما من الغيب الذي لا يحيط به الإنسان مهما أدرك من‬ ‫أعراضه التي يختاره ممثلة له في كلامه عليه‪.‬‬ ‫سأكتفي إذن بالكلام على معنيي الآية في القرآن وعلاقتها بهذه المسائل التي ذكرتها‬ ‫باعتبار ما بينهما من علاقة في الاتجاهين هي المعنى الحقيقي للثورة التي أنسبها إلى‬ ‫الانتقال من اعتبار المعاني الكلية مقومة للأشياء إلى اعتبارها مجرد رموز لكلام عليها أي‬ ‫إنها مجرد رموز مثلها مثل الألفاظ ومثل الرسوم الكتابية (حسب تعريف ابن تيمية للمعاني‬ ‫الكلية في دحضه للرؤيتين الأفلاطونية المفارقة والأرسطية المحايثة) في علاقتها بموضوع‬ ‫علاقة الإنسان بالطبيعة وبالتاريخ وخاصة بموضوع علاقته بما بعد الطبيعة وبما بعد‬ ‫التاريخ‪.‬‬ ‫والثورة تؤدي في الحالتين إلى تجاوز أساس الفلسفية القديمة التي ظلت مسيطرة على كل‬ ‫تاريخ الفكر الحديث إلى حدود النقد الكنطي الذي تخلص من نظرية المعرفة القائلة‬ ‫بالمطابقة‪ .‬وهذا النقد الكنطي أنهته تململات المثالية الألمانية فعادت في غايتها إلى القول‬ ‫بالمطابقة‪.‬‬ ‫وبذلك عادت الفلسفة إلى الحال التي كانت عليها قبل هيجل لكان النقد الكنطي لم يكن‪.‬‬ ‫وإذن فالثورة الكنطية لم تدم طويلا لأن غاية المثالية الألمانية كانت دفن النقد الكنطي‬ ‫والتخلص من تمييزه بين الشيء في ذاته والظاهرات حتى يستعيدوا ما للفلسفة من وهم‬ ‫تجاوز العلم إلى ما بعده‪ .‬وكان من نتائج ذلك أن اصبح تأسيس كنط للحرية أصلا للأخلاق‬ ‫مردودا إلى التاريخ الطبيعي بما يشبه نظرة التطور الداروينية‪ .‬وذلك هو المسكوت ضمير‬ ‫المدرسة الهيجلية أصلا والماركسية فرعا ثمرة للعودة على القول بنظرية المطابقة ووحدة‬ ‫العالم المتضمن لما بعده ومن ثم المستغني عما ورائه‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .3‬فهيجل يعتبر المؤسس لهذا النكوص والمطبق له في الفلسفة المثالية الجدلية التي‬ ‫استبدلت ما بعد الطبيعة بما بعد التاريخ باعتبار التاريخ الروحي المعمم على الحضارات‬ ‫باعتبار العامل الثقافي هو المحدد‪.‬‬ ‫‪ .4‬وماركس كان المطبق لهذا النكوص في الفلسفة المادية المجدلية التي جعلت التاريخ من‬ ‫جنس التاريخ الطبيعي المعمم على الحضارات باعتبار العامل الاقتصادي هو المحدد‪.‬‬ ‫ولهذه العلة فينبغي ألا يعجب أحد من غرق جل النخب العربية الحالية في هذا النكوص‬ ‫الذي يجعلهم في علاقة مباشرة مع أصول في تراثنا الفلسفي الذي صاروا يفاخرون به‬ ‫ويعتبرونه تبعا لما قاله بلوخ عن ابن رشد يسارا للرشدية والغزالي يمينا لها قياسا على‬ ‫يسار الهيجلية ويمينها‪.‬‬ ‫وقد نشرت عرضا موجزا لنص ارنست بلوخ سبق له أن صنف كتابا في الموضوع ثم قدم‬ ‫محاضرة بمناسبة الفية ابن سينا في بداية الستينات في إحدى جمهوريات الاتحاد السوفياتي‬ ‫التي هي موطن ابن سينا الأصلي‪ .‬فافتضح أمر الماركسيين العرب وتبين أنهم يمضغون فكرا‬ ‫ميتا وتصوروا حكم بلوخ في الغزالي وفي ابن رشد علما لدنيا‪.‬‬ ‫والمعلوم أني قد حوربت من أدعياء الحداثة في تونس وخاصة بعد أن واصلت فبينت‬ ‫القطيعة التيمية مع نظرية المعرفة التي تتأسس عليها الفلسفة القديمة والوسيطة‪ .‬وقد‬ ‫بينت أن كلام بلوخ عديم المعنى وأظهرت أن الغزالي هو الفيلسوف بحق لاستعماله النقد‬ ‫العقلي للميتافيزيقا المشائية ونفي علميتها التي كان فلاسفة الإسلام يعتقدون أنها أمر‬ ‫مفروغ منه‪ .‬لم يكتف مثلهم بالتعامل مع الفلسفة وكأنها عقيدة خاتمة اهتم ابن رشد‬ ‫بشرحها وإعادة إحيائها مطبقا ما قله الفارابي في المشائية التي وصفها بكونها \"الحقيقة التي‬ ‫تمت ولم يبق إلا أن تتعلم وتعلم\"‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫خاتمة هذه المحاولة هي القسم الأول من العنوان‪ :‬فيم يتمثل التذكير القرآني؟ والجواب‬ ‫سيكون من القرآن نفسه دون أن يعني ذلك أني أقدمه من منطلق إيماني لأني كما بينت‬ ‫عديد المرات لست بصدد الكلام على عقيدتي بل على ما يقدمه القرآن مع رفع الحكم حول‬ ‫طبيعته وحول الموقف منه تصديقا أو تكذيبا‪ .‬وبالذات فالمسألة التي أعالجها تتعلق بالفصل‬ ‫بين نوعي الآية أي بين‪:‬‬ ‫‪ .1‬الآية التي هي رمز مضمون القضية‪.‬‬ ‫‪ .2‬والآية التي هي رمز الموقف من مضمونها‪.‬‬ ‫فجواب القرآن جاء في تذكير للرسول بوظيفته وحدودها‪ .‬وقد ورد الجواب في الغاشية‬ ‫‪﴿ :22-21‬فَ َذ ِكّرْ إِ َّن َما أَن َت مُذَ ِّكر‪َّ ،‬لسْ َت عَلَ ْي ِهم بِمُ َص ْيطِر‪ِ ،‬إل َّا مَن تَ َو َّلى َو َك َف َر‪ ،‬فَ ُي َع ّذِبُ ُه اللَّ ُه‬ ‫الْعَذَابَ الْ َأ ْكبَ َر‪ِ ،‬إنَّ ِإلَيْ َنا إِيَابَ ُهمْ‪ ،‬ثُمَّ إِنَّ َع َليْ َنا حِسَا َبهُ ْم﴾‬ ‫إن الحصر في التذكير ونفي سيطرة الرسول على المخاطبين بالتذكير وترك الجزاء في ما‬ ‫يتعلق بما يذكر به إلى العلاقة المباشرة بين المؤمن وربه بإرجاء القضاء فيها إلى يوم الدين‬ ‫ونظام سياسة عالم الغيب الذي لا يطابقه نظام سياسة عالم الشهادة كل ذلك يفيد رؤية‬ ‫جديدة غير مسبوقة في الأديان السابقة وحتى في الفلسفات السابقة‪.‬‬ ‫فيكون دور المذكر متعلقا بأمرين‪:‬‬ ‫• توجيه الموقف من مضمون القضايا المتكلمة على علاقة سياسة عالم الشهادة بسياسة‬ ‫عالم الغيب‪.‬‬ ‫• توجيها يكون في ضوء محدودية العلم بهذا المضمون الذي لا يحيط الإنسان بما فيه من‬ ‫الغيب‪.‬‬ ‫وإذن فما يؤسس هذا الخطاب الموجه إلى الرسول هو نظرية جديدة في المعرفة تحدد‬ ‫طبيعة المواقف القضوية في ضوء طبيعة المضمون القضوي باعتبارهما كليهما رمزين للغيب‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الذي ينبغي اعتباره مما لا يعلم ولا يقيم لكون الغيب مفهوما حدا بين علم الإنسان وعلمه‬ ‫وعلم الله وعمله في الرؤية القرآنية‪ .‬وإذن فالخاتمة تتعلق بنوعي الآية‪:‬‬ ‫‪ .1‬الآية التي لها صلة بالموقف القضوي وهو مجال القيم أي العمل والشرع الذي ينظم‬ ‫علاقة الإنسان بالتاريخ من حيث هو سياسة عالم الشهادة المشدودة إلى مثل عليا من سياسة‬ ‫عالم الغيب‪.‬‬ ‫‪ .2‬الآية التي لها صلة بالمضمون القضوي وهو مجال العلوم أي النظر والعقد للمعرفة‬ ‫والعمل والشرع للقيمة عندما ينظر إليهما بوصفهما علاقة انشداد سياسة عالم الشهادة‬ ‫بسياسة عالم الغيب‪.‬‬ ‫وبذلك فالتذكير القرآني له وظيفتان كلتاهما وردت مرتين‪:‬‬ ‫• وظيفة تحديد المعاني الكلية التي يتألف منها الموقف القضوي في شكله المحرف وفي‬ ‫إصلاحه‪.‬‬ ‫• ووظيفة تحديد المعاني الكلية التي يتألف منها المضمون القضوي المحرف وطبيعة‬ ‫إصلاحه‪.‬‬ ‫وكل ذلك في مستوى ترميز الخطاب المتعلق بالموقف القضوي وهو علاقة سياسة الذات‬ ‫لنفسها والسياسة عامة لسلوك الإنسان في العمل والشرع وترميز الخطاب المتعلق بالمضمون‬ ‫القضوي وهو علاقة السياسة بموضوعات السلوك الإنساني في النظر والعقد‪:‬‬ ‫‪ .1‬والسياسة الأولى تتعلق بسياسة الإنسان إما لذاته أو لغيره وسياسة غيره لذاته وله‪.‬‬ ‫فالمواقف القضوية يمكن أن تكون في علاقة مباشرة بالسياسة الثانية وهي حينئذ ذات مصدر‬ ‫معرفي أو في علاقة بالرهانات في الجماعة وتكون ذات مصدر إيديولوجي‪.‬‬ ‫‪ .2‬والسياسة الثانية تتعلق بسياسة الأشياء إما لذاتها أو من حيث هي رهان السياسة‬ ‫الأولى بسبب ما للإنسان من علاقة بالطبيعة التي هي مصدر قيامه العضوي أو بالتاريخ من‬ ‫حيث هو مصدر قيامه الروحي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وما كنت لأرد إشكالية التذكير القرآني إلى إشكالية متعلقة بالترميز وعلم الوسميات لو‬ ‫لم يكن التذكير هو نفسه الذي استعمل مفهوم الآية التي هي إحالة شيء لشيء احالة‬ ‫تجعل المحيل رمزا والمحال عليه مرموزا‪ .‬كما أن ربطي ذلك ببعدي الحكم الإنساني بالمعنى‬ ‫المنطقي من حيث هو‪:‬‬ ‫‪ .1‬حكم صريح متعلق بمضمون القضية التي ترد فيه وكأن \"موضوعي\"‬ ‫‪ .2‬حكم ضمني متعلق بدرجة الاعتقاد بمدى موضوعية ذلك الحكم‪.‬‬ ‫ذلك أن جميع أحكامنا هي من جنس‪ :‬أظن أو أعتقد أو أرى أو يبدو إلخ‪ ...‬أن كذا هو‬ ‫بكذا كذا صفات أو ليس هو بكذا أو كذا صفات إلخ‪ ....‬فأظن وأعتقد وأرى ويبدو أو لا‬ ‫أظن أو لا اعتقد أو لا أرى أو لا يبدو إلخ‪...‬كلها مواقف قضوية وكذلك هو بكذا كذا‬ ‫صفات أو غيرها هو مضمون قضوي‪ .‬والحكم المتعلق بالمضمون يمكن أن يكون إيجابيا أو‬ ‫سلبيا وكذلك الحكم المتعلق بالموقف‪.‬‬ ‫فإذا عرضنا ما في القرآن من تذكير وجدناه منقسما نفس هذه القسمة ومطبقا على‬ ‫العرض النقدي للأديان السابقة وما ترتب عليها من سياسة لعالم الشهادة وعلى عرض‬ ‫البديل الذي ينبغي تعويضها به حتى يتحقق وصل سياسة عالم الشهادة بسياسة عالم الغيب‬ ‫بوصفه مثالا اعلى لها دون أن يكون من جنسها لأنها سياسة من ليس كمثله شيء‪.‬‬ ‫وما يسمى بالشرك الذي هو الأمر الوحيد الذي لا تشمله الرحمة التي وسعت كل شيء‬ ‫ليس هو شيئا آخر غير الإيهام بأن سياسة عالم الشاهدة يمكن أن تكون من جنس سياسة‬ ‫عالم الغيب وهو المعنى السلبي من التأله الذي درسه ابن خلدون درسا مستفيضا وهو على‬ ‫نوعين‪:‬‬ ‫‪ .1‬التأله في مجال النظر والعقد‪ :‬أي ادعاء معرفة مطابقة شرطها مستحيل أعني الإحاطة‬ ‫المعرفية سواء كانت فلسفية (العقل النظري المحيط) أو صوفية (الكشف النظري المحيط)‪.‬‬ ‫‪ .2‬والتأله في مجال العمل والشرع‪ :‬أي ادعاء علم مطابق شرطه مستحيل أعين الإحاطة‬ ‫القيمية سواء كانت فلسفية (العقل العملي المحيط) أو صوفية (الكشف العلمي المحيط)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والتأله الأول هو أساس التربية التي تفسد معاني الإنسانية لأنها لا تتبع \"إنما أنت مذكر\"‬ ‫بل تدعي الوساطة بين المتعلم والحقيقة النظرية والعقدية أي صلته بربه المباشرة‪.‬‬ ‫والتاله الثاني هو أساس الحكم الذي يفسد معاني الإنسان لأنه لا يتبع \"لست عليهم‬ ‫بمسيطر\" بل تدعي الوصاية بين المؤمن والحقيقة العملية والشرعية أي صلته بربه غير‬ ‫المباشرة من خلال العلاقة بالطبيعة وما بعدها وبالتاريخ وما بعده أي بسياسة عالم الشهادة‬ ‫المشدودة إلى سياسة عالم الغيب‪.‬‬ ‫والتحرير من هذين المرضين المفقدين للإنسان معاني الإنسانية فلا يبقى كما وصفه ابن‬ ‫خلدون \"رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" هو الدين الحق الذي يعتبره‬ ‫الإسلام عين مضمون الرسالة الخاتمة التي هي تذكير بالرسالة الفاتحة وبالديني في كل‬ ‫دين وهو منطلق العرض النقدي للتحريف واصل البديل وبالفلسفي في كل فلسفة وهو‬ ‫جوهر أسلوب النقد والبديل لأن كل حجج القرآن عقلية أساسها بيان النظام وليس‬ ‫المعجزات التي تخرقه‪.‬‬ ‫ذلك ما كان علي بيانه دون أن يكون القصد عرض ما أعتقده لأن ذلك أمر لا يخصني إلى‬ ‫أنا وحدي‪ .‬ما يعنيني ليس عرض معتقداتي بل عرض ما يقدمه القرآن عن الإسلام بوصفه‬ ‫رسالة كونية هدفها تحرير الإنسان مما يفقده \"رئاسته بالطبع وبمقتضى الاستخلاف الذي‬ ‫خلق له\" وتوجيهه إلى شروط تحقيق مهمتيه المرسومتين في كيانه العضوي والروحي واللتين‬ ‫هما في آن شروط قيامه وبقائه‪:‬‬ ‫‪ .1‬فهو مجهز بجهاز النظر والعقد المعرفي لعلاج علاقته بالطبيعة والتاريخ من أجل سد‬ ‫حاجات كيانه العضوي والروحي شرطا في بقائه ولا يكون ذلك إلى بعلمه وعمله في كشف‬ ‫آيات الله فيهما أي القوانين والسنن التي يمكن للإنسان علمها والعمل بتطبيقاتها وهي‬ ‫بالنص رياضية وبحاجة لتعديل تجريبي ومن ثم فكل شيء خلق بعدد ولكن تحديد ذلك‬ ‫العدد لا يكفي في التقدير الذهني بل لا بد من أن يتعين بمعطيات التجربة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬وهو مجهز بجهاز العمل والشرع القيمي لعلاج علاقته بالتاريخ والطبيعة من اجل‬ ‫تنظيم سد حاجاته العضوي والروحي تنظيما يحول دون جعلها أصلا للتناكر بدل التعارف‬ ‫ولا يكون ذلك من دون تربية وحكم أي من دون سياسة لعالم الشهادة مشدودة إلى مثال‬ ‫أعلى هو عالم الغيب الذي ليس كمثله شيء‪.‬‬ ‫وأخيرا فلا بد من فهم علة ذكر فصلت ‪ 53‬الآفاق والانفس لكأن هذه ليست ضمن تلك‪.‬‬ ‫فالأنفس جزء من الآفاق إذ إن كل فرد يرى بقية الأفراد خارجه جزءا من الآفاق وهو‬ ‫على الأقل عندهم مثلما هم عنده جزء من الآفاق‪ .‬والجواب هو أن الأنفس هي هما وهي‬ ‫غيرهما في آن‪ .‬فالطبيعة والتاريخ يوجدان خارج الإنسان وهما عالماه لكنهما يوجدا في‬ ‫كيانه‪ .‬فكيانه العضوي طبيعي وكيانه الروحي تاريخي ومن ثم فهو وحدة بعدي الآفاق‪.‬‬ ‫لكنه بفضل ما لديه من وعي بهما وبكونهما لا يكفيان لتعليل نفسيهما يصبح أصلا لوضع‬ ‫ما بعديهما وراءهما فيكون هو الذي يرى الآيات فيهما‪ .‬ويرى الآيات فيه معينان‪ :‬الإرادة‬ ‫والرؤية‪ .‬ففصلت ‪ 53‬تقول إن الله يريه الآيات‪ .‬وطبعا لا يكفي أن يريه الله بل لا بد أن‬ ‫يرى‪ .‬فيكون ذلك دالا على أن التلقي الذي للإنسان بتوسط الحواس له مستويان‪:‬‬ ‫الرؤية بالحواس وهي حاصلة لجميع البشر شرطا في بقائهم كجميع الكائنات الحية التي‬ ‫تتصرف في شروط بقائها بما تدركه من مصادره في الطبيعة‪.‬‬ ‫الرؤية بالحوادس وهي حاصلة لمن يتجاوز الرؤية الأولى بفضل هذا الانشداد إلى سياسة‬ ‫عالم الغيب أو ما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ‪.‬‬ ‫وقد وضعت نظرية الحوادس قياسا على المقابلة بصر وبصيرة فصغت على نفس الوزن‬ ‫الصرفي سمع وسميعة وشم وشميمة وذوق وذويقة ولمس ولميسة‪ .‬وبينت أن كل المبدعين لهم‬ ‫هذه الخاصية كل في مجاله‪ .‬البعض في البصر والبعض في السمع والبعض في الشم والبعض‬ ‫في الذوق والبعض في اللمس‪ .‬وتلك هي مجالات الإبداع‪.‬‬ ‫وكلها متضامنة بمعنى أن من يتفوق في واحدة منها لا بد له من قدر مناسب لذلك التفوق‬ ‫في البقية‪ .‬وبهذا المعنى اعتبرت فنون كلها العرب منحطة لأنها فاقدة للحوادس ومن باب‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أولى علومهم‪ .‬فكلها غرقت في ما نهت عنه آل عمران ‪ 7‬ولم تول أدنى عناية لما أمرت به‬ ‫فصلت ‪ .53‬وتلك هي علة الانحطاط‪ .‬ولا إمكانية للتحرر منه من دون مراجعة كل علوم‬ ‫الملة وأعمالها وتحريرهما من التحريف الذي وصفت‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬