الأسماء والبيان
1 المحتويات 1 المقدمة 2 الفساد العالمي :الاستضعاف والاستتباع 3 تشخيص الاستبداد والفساد محليا واقليميا ودوليا 4 الفساد البنيوي أو الجوهري9 المقدمة 9 وسائل الاستراتيجيا واهدافها 9 أدوات التحكم في العالم بمنطق الاستبداد والفساد 10 التحكم في الاحياز الخمسة 12 فساد النخب القائدة 13 خاتمة 15
ترددت كثيرا قبل قرار الكتابة في الفساد الذي صار الجميع يريد مقاومته .علة ترددي هو اعتقادي بأن الاجماع على المقاومة لا يمكن أن يدل على الصدق.فأنا شبه متأكد من أن الفساد بلغ إلى مخ العظام وأنه ينجر الى الكيان وأنه بلغ المرحلة التي سماها ابن خلدون فساد معاني الإنسانية فلم يعد قابلا للعلاج.وكل علاج لن يتجاوز التغطية على البنيوي منه بالتصدي للعرضي الذي لا يمكن أن يخلو منه عمران لأنه من علامات ضعف الإنسان في كل مكان وزمان.وإذن فما سأقدمه لا يتعلق بالعلاج بل بالتشخيص الذي يبين ما أقصده بمرحلة فساد معاني الإنسانية الذي يحول دون العلاج اللطيف من دون المنطق الثوري.ولما كانت تونس لا تتحمل المنطق الثوري فينبغي التسليم بأن مرحلة الانتشار السرطاني التي بلغها الفساد يجعل علاجه تغطية على فساد البنية الجوهري.وما سأقوله على تونس يصدق على جل بلاد العرب إن لم يكن عليها كلها .والفرق الوحيد هو أن تونس سباقة إلى كشف أدوائها حتى وإن عجزت عن دوائها.ولا أصدق أن الجميع سيقاوم الفساد فلو كان ذلك صادقا لما وجد فاسدون .إذا كان الكل ينادي بالتصدي للفساد فالمفروض ألا يوجد فساد في الجماعة.ولو يتحرك الشباب في بداية العقد الثاني من هذا القرن لكنت مثل ابن خلدون يائسا ولقلت مثله إن الأمة قرب من فساد معاني الإنسانية الآذنة بالانقراض.ذلك أن الغالبية الساحقة من الأجيال التي ولت عصر الانحطاطين الذاتي والموروث عن الاستعمار يغلب عليها فساد معاني الإنسانية الخلقي والسياسي. 17 1
الفساد الذي يدعي الجميع التصدي له يقصرونه على السياسي والاقتصادي وينسون النفسي والخلقي .ذلك أن الأولين من علامات الثانيين التي لا تكذب.فكيف ننقل وعي الشباب من المطالبة بالقسط من الموجود مطلبا مباشرا إلى السعي إلى طلب المنشود شرط تحولهم من مطالبين إلى بناة لشروط الاستئناف؟ذلك أني اعتقد أن مطالب النخب التي تدعي الثورية قد تحول بكذبة مقاومة الفساد دون هذه النقلة لظنها أن المشكل فتبقى الشباب في المباشر والسطحي.لو لم يتحرك الشباب لكنت يائسا مثل ابن خلدون ولاعتبرت الاستبداد وعنف الحكم وعنف التربية الذي جمع بين الانحطاطين قد أنهى كل أمل في الاستئناف.لكن الأمل رجع بتحرك الشباب على قلة الصادقين من المتكلمين منهم -الغالبية صامتة- ولهذا حاولت المشاركة بما أستطيع عملا ونظرا في هذا التحرك.وهذه محاولة في تشخيص داء الفساد الذي هو بالأساس من نتائج فساد معاني الإنسانية المترتب على طول عهد الاستبداد والانحطاط في الحكم والتربية.وسأبدأها بإشارة أساسية لم تكن واردة في التشخيص الخلدوني رغم أن ابن خلدون لا يغفل دور السياسة الدولية في السياسة الوطنية حتى في عصره.فالفساد والاستبداد اليوم لا يقتصر على السياسية الداخلية في كل دولة على حدة بل هو أيضا ولعله خاصة عام للسياسة الدولة وتبعية الضعفاء للأقوياء.لذلك فالتشخيص الذي سأقدمه لا يقتصر على الاستبداد والفساد بل هو يضيف هذا الوجه الثاني أعني الاستضعاف والاستتباع الذي هو استبداد وفساد عالمي. وهذه الإضافة ستبين أمرين مخيفين: فالاستبداد والفساد صنفان: -1استبداد الصغار والبلداء -2استبداد الكبار والأذكياء. وهما متقابلان خلقيا ونفسيا. 17 2
فالنوع الأول مجرد خدم عند النوع الثاني.وهؤلاء لهم طموح السيادة على العالم وأولئك لا طموح لهم إلا رضا هؤلاء عليهم وفضلات موائدهم :فرق نفسي وخلقي.لكنهم يتحدون في عدم تجاوز القانون الطبيعي ومن ثم فطموحهم مادي خالص لا يتجاوز السلطان الطبيعي الذي لا يختلف عن الحيوان بمنطق التاريخ الطبيعي.وهذا النوع من السلطان يسيطر على العالم بالنوع الأول من المافيات العالمية وبخدمهم على الشعوب الضعيفة او التي ضعفت بعد قوة (النوع الثاني).وإذن فنحن سنشخص مستويين من الفساد في العالم وفي أوطاننا التي صارت ضعيفة وتمنع من استرداد قوتها بأصحاب المستوى المحلي خدم المستوى العالمي.ولنميز الاستبداد والفساد البنيويين عن الظرفيين (بلغة الفلسفة الحديثة وما بعدها) أو الجوهريين عن العرضيين (بلغة الفلسفة القديمة والوسيطة).فالظرفي أو العرضي من الاستبداد والفساد من أعراض البنيوي أو الجوهري إذا اعتبرناهما مرضين يصيبان الجماعات فيفقدانها معاني الإنسانية خلدونيا.وقد حان حصرما يعنيه ابن خلدون بمعاني الإنسانية التي عددها في كلامه على التربية التي قاس عليها الحكم بعدي السياسة بمعناها الشامل في الجماعة.وقد اعتبر فساد معاني الإنساني مرادفا لمفهوم ديني ورد في نفس الفقرة هو \"الرد إلى أسفل سافلين\" أي إن من فسدت فيه هو من فقد أحسن التقويم.وبلغة تجمع الصيغتين الخلدونيتين (فساد معاني الإنسانية والنكوص إلى أسفل سافلين) نقول :فقدان أحسن التقويم دينيا وفقدان القانون الخلقي فلسفيا.والترجمة الفلسفية هي النكوص إلى القانون الطبيعي والترجمة الدينية هي النكوص لحكم الملائكة في آدم :سفك الدماء والفساد في الأرض :وتلك هي الحال.وهذا هو البنيوي بلغة الفلسفة الحديثة وما بعدها والجوهري بلغة الفلسفة الوسيطة وما قبلها في تشخيص الاستبداد والفساد محليا واقليميا ودوليا. 17 3
وبأوجز عبارة يمكن القول إن الظاهرة تقبل الصوغ الجامع بين الفلسفي والديني بالقول إن الإنسانية تفقد معانيها إذا نكصت فردت الشرائع إلى الطبائع.وكون الرد أسفل سافلين أو فقدان معاني الإنسانية بلغة ابن خلدون ظاهرة طبيعية يسقط فيه كل مجتمع انحط بمفعول الاستبداد والفساد لا يُجادل فيه.لكن ما أريد بيانه هو أن هذا الامر الواقع الذي يقع فيه كل جماعة انحطت يتضاعف عندما يتحول من أمر واقع إلى أمر واجب بتضاعف الانحطاط كحالنا.ذلك أن الانحطاط المضاعف عندنا أي الموروث عن ماضينا والموروث عن الاستعمار جعل النخب تنقسم إلى جزبين استئصاليين كل منهما يلغي فضائل الثاني.فلم يبق منهما إلا رذائلهما أي ما تقتضيه حرب الاستئصال المتبادل فيكون الحداثي الدعي حربا على الإسلام ويكون الأصولي الدعي حربا على الحداثة.فما يجري اليوم هو صدام حضارات داخلي بدعم من صدام حضارات خارجي يجعل بعض الأمة يهدم أفضل الأصيل وبعضها الآخر يحارب أفضل الحديث :تهديم نسقي.وهذا هو الفساد البنيوي أو الجوهري لأنه يتعلق بالنفسيات والأخلاقيات التي تحرك النخب بصنفيها فتنكص إلى أسفل سافلين وتفسد معانيها الإنسانية.-38وحتى لا يساء فهم ما أعنيه بالنفسيات والأخلاقيات فينبغي أن يفهم ذلك بمعنى ما يجعل الإنسان ينكص إلى محركات التاريخ الطبيعي فيه كحيوان.فهو حينها لا يفقد العقل (حيوان عاقل) بل يصبح العقل أداة الحيوان فيه ولا يفقد البيان (خلق الإنسان علمه البيان) بل يصبح البيان أداة التحيل لديه.وحينها يصبح العلم أداة سيطرة لأنه أصل كل قوة مادية ويصبح الدين أداة تحيل لأنه أصل كل قوة روحية .وتلكما هما القوتان الناكصتان أسفل سافلين.ولأورد الآن نص ابن خلدون\" :ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليكأو الخدم سطا عليه القهر وضيق على النفس انبساطها ودعاه إلى الكسل وحمل علىالكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه 17 4
وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا وفسدت معاني الإنسانية التيله من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله وصار عيالاعلى غيره في ذلك بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عنغايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل سافلين .وهكذا وقع لكل أمة حصلت فيقبضة القهر ونال منها العسف واعتبره في كل من يملك أمره عليه ولا تكون الملكة الكافلةرفيقة به وتجد ذلك فيهم استقراء وانظره في خلق اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلقالسوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالحرج ومعناه في الاصطلاح المشهور التخابث والكيد وسببه ما قلناه\"( .المقدمة – الفصل الاربعون) فما النفسي هنا؟ضيق النفس بدل الانبساط وكسل النفس عن العمل والكسل الخلقي أو انقباض النفس عن غايتها ومدى إنسانيتها :تسفيل ال ِخلقة الفطرية. وما الخلقي؟الكذب والخبث والتظاهر بغير ما في الضمير بسبب الخوف والمكر والخديعة وفساد معاني الإنسانية بدلالة ثورية :من حيث الاجتماع والتمدن.وقد شرح ابن خلدون هذا المعنى شرعا بديعا :فقدان الحمية والمدافعة عن النفس والمنزل الصيرورة عالة على الغير بكملة خلق التبعية حماية ورعاية.من يمكن أن يجادل في مطابقة هذين المعنيين النفسي والخلقي حال الأمة التي جعلتها مستضعفة ومستتبعة للخارج خاضعة للاستبداد والفساد في الداخل؟قد يظن البعض أن ما أقدمه فيه اعتداد بالرأي .وفي الحقيقة فما أقوله مما يبدو من الحكمة ليس لي فيه إلا فضل التذكير به لأنه عمل علماء متقدمين.صحيح أن وصف حال الأمة عند الغزالي وابن تيمية وابن خلدون بلغ ذروة الحكمة العقلية والنقلية لكنه بقي شتاتا لأنه لم يجد من يسقي بذراتهم لتينع.وإذا ما استثنينا بقدر ابن خلدون فإن الحرب بين نوعي الاستئصال كادت تقضي على ما زرعوه لأن الأول والثاني وقع تشويههما بدعوى عدائهم للفلسفة. 17 5
وحتى ابن خلدون فالكثير منهم يقزمه إما بمحاولة تقويمه بالمقارنة مع ما يتصورونه سبقا في الاجتماعيات أو بمحاولة حصره في عصره ونظرية العصبية.فدورهم النقدي مر بثلاث :الفلسفي والديني المجردين (الغزالي) والمطبقين (ابن تيمية) والتجاوز إلى التنظير العلمي للفلسفة العملية والنظرية.فكانوا بذلك مؤسسين للمدرسة النقدية التي قرأت قراءة القرآن لفلسفة الدين وفلسفة التاريخ تأسيسا لهذا النقد وبداية جديدة للإنسانية بالحريتين.والحريتان الروحية والسياسية وظيفتهما تحرير التربية والحكم من السلطة المستبدة سواء كانت سلطة روحية (الكنسية) أو مادية (الحكم بالحق الإلهي).ذلك هو الفساد البنيوي أو الجوهري الذي يغطي عليه الكلام على الفساد الظرفي أو العرضي في كل المجتمعات البشرية :نحاسب صغار اللصوص لحماية كبارهم.كبار اللصوص هم المستبدون بالسلطان الروحي والسلطان السياسي والمتحالفون في الداخل (الاستبداد والفساد) وفي الخارج (الاستضعاف والاستتباع).فالاستبداد والفساد عالميان بالجوهر والقرآن ثورة عالمية عليهما :إلغاء الكنسية والحكم بالحق الإلهي لافتتاح تاريخ يتحرر من الرد إلى أسفل سافلين.والرد إلى أسفل سافلين دينيا هو النكوص إلى التاريخ الطبيعي فلسفيا :فيكون الحكم بين البشر هو ما وصفه ابن خلدون نفسيا وخلقيا كما بينا قبل قليل.وشروط استعادة التقوم الأحسن :الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر ضمن أخوة البشر (النساء )1والمساواة بينهم (الحجرات .)13ولست غافلا على أن هذا العلاج يتهم بالسذاجة .لكن من يرى ما يجري في العالم اليوم يدرك أن كل الأبواب سدت أمام البشر بسبب سيطرة الحل المقابل.وفي الحقيقة فإن الموقف المقابل أكثر سذاجة لأنه لم يدرك آثار هذا الانسداد .أما العلاج الذي يشخص حال الإنسانية بالنكوص للقانون الطبيعي فمنطقي.ذلك أن نكوص الإنسانية إلى قانون الانتخاب الطبيعي في الصراع المادي على ما كان ينبغي أن يكون وسيلة لا غاية آن له أن ينتهي فقد استنفذ غرضه. 17 6
وغرضه هو نصف حقيقة الإنسان :وحد البشرية سلبا في معركة استعمارها في الأرض. وأهمل ما يحول دون السلب بجعله استخلافا بأخوة الأحرار المتساوين.والإنسانية التامة عرفها القرآن برسالة آدمية هي الاستعمار في الأرض بالاستخلاف. العولمة شوهت الإنسان بالحد من القانون الخلقي والرد إلى الطبيعي. للعولمة وجهان: عولمة مرضية يراد فيها رد الإنسان إلى مجرد حيوان خاضع للقانون الطبيعي. وعولمة سوية تحرر الأولى بالقانون الخلقي لتحريره منها.ذلك هو دور الإسلام عندما يتحرر اهله من الانحطاط الذاتي الذي نتج عن ترك الدستور القرآني والوقوع في حالة طوارئ لم تتوقف منذ الفتنة الكبرى.لكن ذلك لا يكفي لأن الامة تعاني كذلك من الانحطاط الاستعماري الذي ورثته النخب التي تدعي الحداثة والتي تحارب هذا الدستور لتواصل استعمار الأمة.ذلك أن الاستعمار الغربي ليس حداثة بل هو في نسبته إلى الحداثة كنسبة الانحطاط الذاتي إلى الإسلام :كلاهما تحريف لثورة روحية وعقلية هي المطلوب.بهذا الفهم نقاوم الاستبداد والفساد البنيويين لا الظرفيين في الداخل وسندهما من الاستضعاف والاستتباع في الخارج بدلا من تغطيتهما بالعرضيين. 17 7
17 8
لما قلت انتهى الكلام على الفساد قصدت الفساد البنيوي أو أصل الداء .ويبقى منالواجب أن أتكلم على الفساد الظرفي أو العرضي الذي علاجه تسكيني .وقد وصفت فيكلامي على الفساد البنيوي مقاومته المباشرة بكونها غطاء لإخفاء الفساد البنيوي الذي من أعراضه الفساد الظرفي والاقتصار على التسكين.وما قد لا يصدقه القارئ هو أن الذين يدعون التصدي له بالعنتريات التي يصدق عليها الوصف بالإرهاب هم أيضا من المشاركين في التغطية على البنيوي.ذلك أن أفعالهم -بقصد من اخترقهم من مخابرات الأعداء أو بغير قصد ممن تعميهمالحماسة على الاستراتيجيا التي تمكن من مقاومته -يخدمون أعداء الامة .فهم بوعيأو بغير وعي يفسدون استراتيجية المقاومة التي يمكن أن تحقق الغاية رموزها وأفعالها فتصبح الخلافة داعش وقيم الإسلام نكوصا إلى الجاهلية.ولست ضد استعمال القوة في المقاومة وإنما أنا ضد سوء الاستعمال الذي لا يتبع استراتيجيات المقاومة بقيم الإسلام :تحرير البشر لا مجرد تنفيس الغضب.فلا وجود لثورة بالأقوال دون الأفعال واستعمال القوة من أهم أبعاد الأفعال بشرط أن يكون ككل الأفعال عنصرا من عناصر الاستراتيجية الموصلة للغاية.ولهذه العلة فالاستراتيجيا تهدف إلى تكوين الجيل الذي يمكن أن يجمع بين القوتينالمعرفية والقتالية بقيم الشرف والفروسية كما في النشأة الأولى .وهي لا يمكن أنتكونهم إذا لم تكن قد حددت الهدف الأسمى ومراحل تحقيقه والموانع الحائلة دونه أو التي وضعها الأعداء للحيلولة دون تحقيقه. 17 9
ولا يكون ذلك إلا بالقياس إلى النشأة الأولى :استراتيجيتها وهدفها وما حصل لإفساد استراتيجيتها والحؤول دون هدفها باستعمال حوائل الأحياز والنخب.فهذين النوعين من الحوائل بالأحياز وبالنخب هي التي يتعلق بها الفساد العرضي الذي ينتج عن الفساد البنيوي والذي يتكلم المغطون عنه عن أعراضها.ويمكن القول إن من يدعون المقاومة حاليا بالفكر والجهاد ليسوا إلا من علامات التعبيرالقاصر عن حاجة صارت حتمية :فلا بد من علاج هذين العائقين .لكن ليس بهذه الطرقالبدائية التي تتصور الاستئناف ممكنا بنفس طرق النشأة الأولى حتى وإن ظل الهدف واحدا لأن فساد معاني الإنسانية داء جديد.ومعنى ذلك أن الجاهلية وما حولها من أمم كانت مسيطرة على العالم حينها لم تكن قد وصل فيها سرطان الفساد إلى النخاع كالحال في عصر العولمة.فأولا لم تتحد البشرية ماديا ولا روحيا بل كانت جزائر متنوعة ولا يوجد نظام عالمي يفرض عليهم الانتخاب الطبيعي نموذجا للتنافس على شروط الحياة.لم يكن الاقتصاد وثمراته ذات مركزية مسيطرة تستخدم البقية تحت مظلتها حماية ورعاية ومن ثم تبعية استعباد كل البشر بإيديولوجية إلغاء العبودية.لذلك كان يمكن لحركة إصلاح ديني (الإسلام إصلاح ديني بنصه وليس دينا جديدا) بقيادة جماعة تعتبر على هامش التاريخ أن تحقق ثورة كونية بفضل الله. استئناف هذه الحركة يكون بمنطق العصر.فلم يعد فيه أحد يعيش على هامش الحضارة الإنسانية لتكون حركته في غفلة من المسيطرين على العالم بالأداتين. والأداة الأولى هي التحكم في الأحياز الخمسة: -1المكان -2الزمان -3أثر الزمان في المكان :الثروة 17 10
-4وأثر المكان في الزمان :التراث -5ومرجعية وحدة الأحياز شرط قيام الجماعةوالأداة الثانية هي النخب القائدة لإرادة الجماعة ومعرفتها وقدرتها وحياتها ووجودها أي الساسة والعلماء والاقتصاديون والفنانون وأصحاب الرؤى.تلك هي أدوات التحكم في العالم بمنطق الاستبداد والفساد من خلال جعل ذلك كله خاضعا لقانون التاريخ الطبيعي حتى يكون البشر في حرب أهلية دائمة.وهم يسمون موضوعات الصراع في الحرب الاهلية بمنطق التنافس الحر على المرأةوالثروة والمعرفة والحكم والرؤى الوجودي التي ينتظم بها وجود الإنسان .فمنطقالتنافس الحر يفترض أن في الصراع على هذه الموضوعات غائية كامنة في مجرى الأمور دون أن يكون للمجرى ما يتعالى على قانون الانتخاب الطبيعي.كل شيء يخضع لقانون السوق دون أن يكون لهذا القانون قيمة تعلو عليه عدا صراعالقوى التي تلتقي فيه التقاء \"حوت يأكل حوت وقليل الجهد يموت\" .وحتى هذا القانونفهو مغشوش لأن المؤسسات التي تراقب السوق لمنع تدخل الاستبداد والفساد فيه كذبة كبرى بل هي التي تغطي الفساد البنيوي الأصلي.فالقانون الدولي لا يقل خضوعا للاستبداد والفساد من القانون المحلي وهو في الحقيقةيضفي الشرعية عليهما باسم قانون لا ينطبق إلا على الضعفاء .والدليل أن حكام العربالذين يستبدون ويفسدون ملجأ مسروقاتهم موجود في الغرب نفسه وقانون الاقوياء أولا ثم القانون الدولي ثانيا يحمونهم دائما.ولولا خضوع العالم لهذا النظام لما أمكن للسيسي وبشار وإيران وميلشياتها أن يفعلوا كل الجرائم التي نرى والتي وظيفتها حماية الاستبداد والفساد.هذا هو المناخ الذي ينبغي أن نأخذه بعين الاعتبار في ثورة الاستئناف بالطرق اللطيفة والعنيفة حتى نتمكن من إزاحة هذين العائقين :الأحياز والنخب.لا ينبغي أن يفهم القارئ أني أبحث عن أعذار للفسدة من نخبنا بأصنافها الخمسة لأنمن لهم السلطان منهم ليسوا نخبنا بل هم عملاء لمافيات العالم .وهؤلاء هم إذن قد 17 11
اختاروا الخضوع لأخطبوط المافيات العالمية ولذلك فهم في حرب على المقاومة عامة أعنيعلى تحرير الإنسانية من الفساد البنيوي وهذه المقاومة ليست منا فحسب ،بل إن كلالمجتمعات فيها خيرون يسعون لمقاومة الوضع الذي وصفت في كلامي على الفساد البنيوي قانون العولمة الطبيعي.وهم من ينبغي أن يكوّن حلفاء الاستئناف الإسلامي وشرطه تجاوز سخافة العداء للغرب: فليسوا كلهم سواء كما يقول القرآن على من ماثلهم في النشأة الأولى.وبذلك نتحرر من تصور المعركة وكأنها بين المسلمين والغرب تصورا أفقد المسلمين كونيةالقيم القرآنية والقيم الحديثة بتأويل سخيف بمفهوم الصليبية فالداء لا يقتصر علىالمسلمين بل هو يستهدف كل المستضعفين وكل فكر يعارض الاستبداد والفساد حتى في بلاد الغرب :بهذا تعود لثورة الإسلام جاذبيته.وإذا تواصل الشرق الأدنى (نحن) منفصلا عن الغرب الأدنى (أوروبا) فإن العالم كله سيصبح مستعمرات للشرق الأقصى (الصين) والغرب الأقصى (أمريكا).فلنفهم الآن ما فعلته مافيات الاستعمار بالعالم وخاصة بنا لكي تسيطر عليه وعلى نخبه بمنطق الاستبداد والفساد أداتي حكم وتربية للبشرية كلها.وليكن البدء بنظرية الأحياز التي وضعتها لشرح كيف استعملها الغرب الاستعماري ليسود العالم ويستعبد البشرية انطلاقا من مثال حصل في دار الإسلام.ثم النخب بأصنافها الخمسة (السياسية والعلمية والاقتصادية والفنية وأصحاب الرؤى) وبنسبها المضاعف (التأصيل والتحديث) وعدائها لثورة الشباب.وهنا يصدق قول روسو :فالصراع الأول بدأ حول المكان أو حول حوز الأرض أو الانتقال من الملكية العامة إلى الملكية الخاصة والصراع على حوز المكان.والعلة هي أن الأرض هي مصدر الغذاء ومصدر كل ثروة إما بما في سطحها أو تحته أو فوقه أو حوله .والقوة التي تفتكها تزداد بها فتصبح جيوستراتيجة.لكن الصراع على الأرض للزيادة في الحظ منها علته في الحقيقة الصراع على الزمان للزيادة في مدة البقاء. 17 12
ذلك أن الثروة هي مصدر القيام والديمومة.وإذا كانت حصة المكان من الأرض هي مصدر الثروة فإن حصة الزمان من البقاء فيها هي مصدر التراث الذي يضفي المعنى على الحوز ويعلل هذا البقاء.وعندما يصبح هذان المطلبان الدافعان للصراع أفق الوجود كله ويعتقد أنه مكتف بنفسه وليس له ما وراءه يقع الإنسان في لامتناهي هيجل الزائف.ذلك أن الزيادة الكمية من المكان ومن الزمان لا يمكن مهما ارتفعت أن تستوفيه فيكون تراكم الثروة وتأصيل التراث ممثلين لهذا اللامتناهي الزائف.وهذان هما مصدر الاستبداد :فالأول يسميه ابن خلدون حب التأله عند المستبد الذي يوهم نفسه بإمكان إطلاق إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده.وهذا هو الفساد الوجودي يغذيه فساد وجودي آخر هو عكسه تماما حول من يوهم المستبد بأن له ذلك فعلا وهم بقية النخب المحيطة به :حب العبودية.وهذا هو فساد معاني الإنسانية الخلدوني والفلسفي المناظر لمفهوم الرد إلى أسفل سافلين الديني .وهو مرض بنيوي يعتبر ما عداه من أعراضه. فكيف يعرض؟التفسير الديني صيغ في قصة رمزية لتحول من حررهم موسى من العبودية للمتأله أي المستبد المسيطر على الرزق والقوة إلى عبادة رمزهما :العجل الذهبي.فالعجل الذهبي رمز القوة والسلطة على الضمائر لكونه يمثل اللامتناهي الزائف هو وسيلة المتأله أو المستبد لاستتباع النخب بأصنافها الخمسة.ويكون الاستتباع -كما وصفته آل عمران-بتوظيف صاحب القدرة (صاحب العجل) للنخبتين الممثلتين للسلطانين الروحي والزماني أو الحكم الخلقي والسياسي.المافية المالية توظف ممثلي الرؤى (الدين والفلسفة) وممثلي الإرادة (الساسة وأدواتهم العنيفة) ليضفوا الشرعية على القانون الطبيعي قيمة عمرانية.وهؤلاء-أصحاب الرؤى والإرادة-يوظفون نخبتي أدوات التأثير المعرفي (العلماء) والجمالي (الفنانون) على ضمائر الناس توطيدا لهذا النظام الاجتماعي. 17 13
ولما كان هذا النظام شديد الفاعلية بمنطق التنافس على الغزو المادي والرمزي فإنه يكون جماعات عدوانية تسيطر بالتدريج على الجغرافيا والتاريخ.ويمكن تجوزا أن نسمي هذا النظام الخاضع للقانون الطبيعي أو لقانون الانتخاب الطبيعي بالنظام الرأسمالي الذي يسيطر على العالم كله بمقتضى منطقه.وهذا النظام بالاستعارة الدينية هو نظام العجل الذهبي محاربا للتحرير من العبودية بمعنييها :حرب العجل الذهبي على الحريتين الروحية والسياسية.فبه حسمت المعركة بين الإسلام والغرب الحديث لصالح الغرب الذي حقق شروط القوة والثروة فسيطر على العالم مكانه وزمانه بمنطق التاريخ الطبيعي.وقد حسم الصراع الوسيط بين المسلمين والغرب لصالح الغرب لعقم نخبتي الوجود (فقهاء ومتكلمون) والإرادة (عسكر ومرتزقة) وفهمهم السطحي للإسلام.كان الاستبداد والتأله الذي خدموه بدائيا بأدوات لا تحقق القوة والسيطرة على الطبيعة بل اكتفوا بسيطرة أدت إلى فقدان معاني الإنسانية الخلدونية.فكان من الطبيعي أن يستعمر التأله بأسبابه التأله بنفيها :فالتأله الذي سيطر في حضارتنا كان تعبيرا عن إرادة القوة البدائية التي تقضي على شروطها. ولما كانت شروطها ذات مستويين: ▪ تأله بأدوات القوة الطبيعية. ▪ وتأله أرقى يضيف إليها أدوات القوة الخلقية. فإن الأولى عينة عن الثانية بخلاف العكس. فكان فساد معاني الإنسانية ذا معنيين: ▪ فعلي بأسباب القوة الطبيعية(الغرب) فاستعمر العالم. ▪ وانفعالي عند من توهم أسباب القوة الخلقية ممكنة من دونها.فساد معاني الإنسانية الانفعالي عندنا علته أن المستبدين كانوا مستبدين على البشر وعاجزين عن الطبيعة والأول يلغي الإبداعين العلمي والفني. 17 14
وفساد معاني الانسانية الفعلي في الغرب علته عبادة العجل الذهبي أي منطق الانتخاب الطبيعي .لكن نفس هذا المنطق ينقل المعركة إلى البايولوجيا.لذلك فهزيمة الغرب باتت مؤكدة بايولوجيا خاصة وقد تدارك الإسلام ما فات من خلال حيازة شروط السلطان على الطبيعة بأسبابه لم يتخل عما يتجاوزها.الاستئناف الإسلامي يصبح ممكنا إذا فهمنا منطق البعدين الإنسانيين :فالإسلام يعرف الإنسان بكونه مستعمرا في الأرض ومستخلفا فيها .وهذا مشروط بذاك.ممثلو الإرادة كانوا اميين (عسكر ومرتزقة) وممثلو الوجود عكسوا فصلت 53لم يطلبوا حقيقة القرآن في الآفاق والانفس فوضعوا علوما زائفة للإسلام. ترك أصحاب الرؤى ما يعلم واهتموا بما لا يعلم فأصبح علمهم تخريفا. فبدل العلم بحقيقة القرآن في آيات الآفاق والأنفس رجموا بالغيب المحجوب.ثم لا يستحون عندما يقولون إن الإسلام يجمع بين الدين والدنيا .ذلك أنهم حصروا الدنيا في ظاهرها دون نظر علمي مكتفين بتجربة غفلة وصناعة بدائية. نسوا الأنفال :60أعدوا لهم ما استطعتم من قوة أولا ومن رباط الخيل ثانيا. والأولى شرط الثانية فهي العلم والاقتصاد علامتي الاستعمار في الأرض.ولسوء الحظ لا زلنا نتصور النتائج ممكنة بدون مقدماتها .فكل ما يطلبه دعاة التأصيل والتحديث صار عائقا دون التأصيل والتحديث لعدم الوعي بالشروط.فالكلام على التصدي للفساد بهذا المنطق ليس عزما على علاجه بل هو سعي للتغطية على علله العميقة :فالنخب الخمس فاسدة بالجوهر لأنها اسم بلا مسمى. وببيان القصد من الاسم دون مسمى في هذه الحالات الخمس نختم هذا البحث: فمسمى السياسي هو تمثيل ارادة جماعته التي ينوبها في رعاية الشأن العام.هل رأى أحد منكم سياسيا عربيا يمثل إرادة جماعته ويرعى الشأن العام نيابة عنها؟ هل لجماعته وجود في ذهنه أم هو رهن إرادة خارجية وهمه بقاء كرسيه؟ 17 15
مفهوم الاستئمان على إرادة الجماعة ومفهوم الحكم بالعدل مقومي الحكم في نظر القرآن (النساء ،)58من يعمل بهما من بين النخبة السياسية العربية؟ ماذا بقي للسياسي أو نخبة الإرادة غير الاسم؟فهل نعجب من أن يكون الاستبداد والفساد بديلين من الشرعية التي لا يمكن أن تحصل من دون المسمى؟لكن ذلك ينبغي أن يصحبه مآزر رمزي هو موقف نخبة الوجود أو أصحاب الرؤى من المتكلمين باسم العقل والنقل :فلاسفة وعلماء دين في حضارتنا إلى الآن.فإلى الآن ما يزال الغالب عليهم الحلف مع هؤلاء الحكام حتى لو حاول البعض منهم التعليل بمنطق الضرورة التي تبيح المحظور :كضرورة شرعية المتغلب.فكبار علماء الدين الرسميين يرشقون الشباب الثائر بحمم اللعنات والتهم متصورين أن الأنظمة بلغت من الصلاح ما جعل الأعداء يتآمرون عليهم بالثورة.فإذا كانت مؤسسة عريقة مثل الازهر في مصر أو مثل كبار العلماء في الخليج تعتبر الشباب الذي ثار للحرية والكرامة بيادق تآمرية ،فهل غريب ما يحدث؟وهل كان ذلك يكون كذلك لو لم يكن الفساد المستشري قد عم بمنطق الحلف الذي تشير إليه آل عمران بين كهنوت وطاغوت هما مشرعو الفساد البنيوي والظرفي؟أما النخبتان اللتان تزينان الاستبداد والفساد فهما نخبة المعرفة (الجامعيون) والحياة (الفنانون) فهؤلاء سكين الكهنوت والطاغوت وشوكتهم.وكلهم خواتم في أصابع أصحاب العجل التابع (في الداخل) والمتبوع (في الخارج) أي المافيات التي استعمرت العالم بسبب غيبوبة المسلمين وانحطاطهم.والله لا يحاسب المجرمين وحدهم بل يحاسب من تركهم يجرمون :إذا أراد الله أن يهلك قرية(بكاملها)لم يقتصر على مترفيها بل معهم من مكنهم من ذلك.وحساب الله بخلاف ما يتوهم الكثير ليس أخرويا فحسب ،فهو دنيوي أيضا وهو دائما نتيجة لمخالفة النواميس الكونية والتاريخية التي يتجاهلها الكثيرون. 17 16
أمة يحكمها الأميون والعملاء ونخبها في خدمة الاستبداد والفساد هل يكون مسارها محكوما بالرشاد؟ فمن فسدت فيه معاني الإنسانية يرد أسفل سافلين. والشباب يمثل ثمالة ما بقي حيا في ضمير الامة.إنه يحاول الخروج من الفساد البنيوي ويحتاج لرؤية العلاقات العميقة بين السطح والعمق في التاريخ.فالسطح هو الفساد السياسي والاقتصادي ،لكن العمق أبعد غورا :إنه فساد وجودي وخلقي هو حال الإنسانية الحالية :ملتقى فلسفة الدين وفلسفة التاريخ.فلا المتكلمون باسم الإسلام يحترمون قيمة ولا المتكلمون باسم الحداثة يحترمون قيمها بل كلاهما كاريكاتور مما يتكلم باسمه ليخفي طبيعة المرض.ذلك ما أسعى لبيانه آملا أن يكون ذلك عونا للشباب الذي اعتقد أنه البصيص الوحيد المتبقي من روح الإسلام في سعيه لاستئناف يشمل الإنسانية كلها. 17 17
5
02 01 01 02تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي :محمد مراس المرزوقي
Search
Read the Text Version
- 1 - 26
Pages: