Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore في علاقة الجنسين بمنظور مفهوم _نحلة العيش_ الخلدوني – أبو يعرب المرزوقي

في علاقة الجنسين بمنظور مفهوم _نحلة العيش_ الخلدوني – أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2018-12-08 11:35:21

Description: في علاقة الجنسين بمنظور مفهوم _نحلة العيش_ الخلدوني – أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫‪--‬‬‫الجغرافيا وما تختزنه \"روحه\" مما تستمده من حيز التاريخ) في رؤية وجودية دينية‬ ‫وفلسفية دائما للتلازم بين النظر (العلم) والعقد (الإيمان) دائما‪.‬‬‫ولا معنى للنظر والعقد إلى لتأسيس العمل والشرع‪ .‬وهذه الشروط الأربعة هي التي‬‫تحقق التعالق بين نوعي الاحياز أحياز العالم وأحياز الإنسان‪ .‬فالنظر والعقد شرطان‬‫لعلاج العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة لأنه لا يستطيع أن يأخذ منها ما لم يعلم‬ ‫قوانينها‪ :‬شرط التسخير‪.‬‬‫وتطبيق النظر والعقد لتحقيق التسخير شرط في تحقيق معنى الرئاسة بالطبع أو التمكن‬‫من المائدة والسرير بالعمل والشرع‪ .‬ولا يمكن تصور عملا وشرعا لتنظيم حياة الجماعة‬‫التي تتعاون للحماية والرعاية بقيم التبادل من دون أن يتقدم على ذلك قيم التواصل‬ ‫التي تمكن البشر من التلاقي بدل الاقتتال‪.‬‬‫مع القليل من التدخل والإضافات التي ليس إتيانا بما ليس موجودا في المقدمة بل وصلا‬‫بين عناصرها التي تعاني من عدم النسقية النظرية لأن ابن خلدون لم يدع أنها عمل تام‬ ‫لا يحتاج إلى الاستكمال بدليل ما قاله في خاتمتها‪ .‬ونأمل المزيد منا أو من غيرنا‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪47‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لما شرعت في علاج إشكالية \"علاقة الجنسين بمنظور \"نحلة العيش\" لم أكن أتوقع أن الأمر‬‫سيتطلب أكثر من فصلين‪ .‬لكن اقتضى أن يتجاوز حتى الخمسة المعتادة لأن ضعفها‪ .‬إذ بقي‬‫فصلا اخران غير الأربعة التي نشرت في شكل مقالات ومثلها لم ينشر بعد لكنها صدرت‬ ‫مسودتها في شكل تغريدات‪.‬‬‫فقد يظن أن استعارتي \"المائدة\" و\"السرير\" توحيان بالجمع بين قراءتين \"ماركسية\"‬‫و\"فرويدية\" بمعنى أن الأولى لها علاقة بالاقتصاد أو القراءة الاقتصادية والثانية لها‬‫علاقة بالجنس أو القراءة التحليلية‪ .‬وكان ذلك يكون كذلك لو أني لم أبين أن السلسلة‬ ‫المؤلفة منهما تناظرها سلسلة تحول دون هذا الظن‪.‬‬‫ولبيان تعجل هذا الارتسام أشير إلى إن مجرد الجمع بين الأمرين ينفي عنهما كليهما أن‬‫يكون أي منهما محافظا على الدلالة التي له لما يكون وحيدا ومستفردا بزعمه المبدأ المعلل‬‫لسلوك الإنسان فردا وجماعة وكافيا ليؤسس فلسفة التاريخ التأسيس الأتم الذي أنسبه‬ ‫إلى ابن خلدون بمفهوم \"نحلة العيش\"‪.‬‬‫فالتفسير الاقتصادي والتفسير العضوي كلاهما لم يخرج من الرؤية الجدلية الجوهرانية‬‫صنفها المادي رغم أن الصريح في رؤيتهما ليس نفسه لأن جدلية الرؤية صريحة عند ماركس‬‫وجوهرانيتها صريحة عند فرويد ويتفقان على المادية المشتركة في هذين العاملين‪ :‬تقديم‬ ‫الاجتماعي الاقتصادي أو العضوي النفسي‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن الفرد لا يكون مجودا في الرؤية الماركسية والجماعة لا تكون موجودة في‬‫الرؤية الفرويدية والنفي الأول هو في قلبت مفهوم الوعي والنفي الثاني هو الطابع السلبي‬‫للجماعة في تكون الشخصية بل وفي الطابع السلبي المتعلق بكل ما يمكن أن يعتبر حضارة‬ ‫بوصفها تصعيدا للمكبوت‪.‬‬‫فيكون ما أنسبه إلى ابن خلدون بخلاف ما هو بين عند ماركس هو حضور الفرد البارز‬‫وبخلاف ما هو بين عند فرويد هو رفض نظرية بنية النفس الثابتة وعدم سلبية الحضاري‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪48‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫من حيث هو حضاري بل مستواه المتجاوز في المرحلة الاخيرة عندما يصبح ترفا ليس كابتا‬ ‫للعضوي بل مفلتا لغرائزه ضد المكتسب الحضاري‪.‬‬‫لا أنكر أن هذه الدقائق عسيرة الملاحظة لدى العجلين في المقارنات السطحية ومن ثم‬‫فهم يجدون وجوه شبه كما ينظر عن بعد للأشياء التي فيها وجوه شبه بمجرد ردها إلى‬‫صورة كاريكاتورية عامة حيث كما يقول هيجل \"كل الابقار رمادية\" في الغروب إذا نظرنا‬ ‫إليها عن بعد وببصر ضعيف دون بصيرة‪.‬‬‫فهذه الفروق التي يستطففها من يكتفي بالمقارنات السطحية هي التي تميز بين فلسفات‬‫التاريخ أو بصورة أدق بين الخيارات القيمية التي تحدد مقومات الأحداث وتقدر وزنها في‬‫تحديد وجهات المآل الإنساني فتمكن من تفسير مراحل تاريخه التي يهملها التبسيط الجدلي‬ ‫بدل التعقيد البنيوي كما في الطبيعة‪.‬‬‫ولما كانت سنن التاريخ أعقد من قوانين الطبيعة إذ هو يجمع بينها وبين ما يتجاوزها ‪-‬‬‫ولهذه العلة فالعلوم الإنسان أكثر تعقيدا وأعسر تفسيرا‪-‬فإن العلاج الوحيد هو البنى‬‫التي تشبه ما تتأسس عليه الرياضيات المطبقة على الطبيعيات‪ .‬ولا بد أن يوجد ما يجانسها‬ ‫للانطباق على الإنسانيات‪.‬‬‫ولهذه العلة بينت أن نسبة البنى الرياضية إلى الطبيعيات في علم قوانين العالم الطبيعي‬‫لها نظير في علم العالم التاريخي أو الحضاري هي نسبة البنى الأدبية إلى الإنسانيات في‬‫علم سنن العالم التاريخي‪ .‬والأدبيات هنا تعني الإبداعات التي يخلو منها أدبنا لزعمه‬ ‫الواقعية‪.‬‬‫فما يسمونه أدبا واقعيا ينهي الإبداع الأدبي المتعلق بالممكن عامة ‪-‬وهو القصد‬‫الأرسطي‪-‬لانه يجعله من التاريخ الأدنى‪ .‬فهذا ليس إبداعا أدبيا وهو من جنس الخلط بين‬‫الرياضيات والقيس العامي للمقادير والكميات‪ :‬نسبة هؤلاء الكتاب إلى الأدب تجانس‬‫مماثلة لنسبة حساب العطار إلى الرياضيات أي إنها لم تصل حتى البناء الذي يطبق‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪49‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الهندسة البسيطة في فن البناء‪ .‬إنه حكاية أحوال نفس الكاتب وانطباعاته الساذجة التي‬ ‫يتوهمها \"واقعا\"‪.‬‬‫فمن يبحث عن المعاني الأدبية الممكنة من فهم سنن التاريخ يشبه من يبحث عن المعاني‬‫الرياضية لفهم قوانين الطبيعي بقيس الأشكال المرسومة فعليا فيحدد سمك المستقيم‬‫واستدارة الدائرة حتى في البسيط من الهندسة‪ .‬ولو اعتمد اقليدس هذه الطريقة لاستغنى‬ ‫عن تعريف الأشكال والبرهان المنطقي خصائصها‪.‬‬‫وبهذا المعنى فلسنا متخلفين في علوم الطبيعة بسبب تخلفنا في الرياضيات ومن ثم عجزنا‬‫عن معرفة قوانين الطبيعة وتطبيقاتها التقنية فحسب بل نحن متخلفون في علوم التاريخ‬‫بسبب تخلفنا في الآداب ومن ثم عجزنا عن معرفة سنن التاريخ وتطبيقاتها الخلقية‪ :‬الكلام‬ ‫على آدابنا فيه الكثير من الوهم‪.‬‬‫لكن هذا التمييز قد لا يقنع من يكتفي بسطحي المقارنات العجلى فضلا عن كونه قد‬‫يفهم وكأنه ذو نزعة دفاعية ضد القراءات التي تمدح الماركسية والفرويدية باسم‬‫خصوصيات حضارية وخاصة عند من لا يعلم موقفي من الآراء القائلة بالخصوصية في‬ ‫الفلسفي والديني وتوكيدي على الكوني والكلي‪.‬‬‫فليس لأني مسلم أو لأن ابن خلدون يكثر من استعمال الشواهد القرآنية أميل إلى فلسفة‬‫التاريخ التي يقول بها لأنه هو نفسه لا يقول بالخصوصيات وخاصة في الفلسفة والعلم‬‫وبهذا المعيار يميز بين ما يسميه علوم العلوم وبها يبدأ الباب السادس والعلوم الكونية التي‬ ‫يعتبرها عقلية تجريبية التأسيس‪.‬‬‫ولأمر الآن إلى الحجة الأساسية في الرؤية البنيوية الخلدونية‪ .‬وسأستعمل مصطلحات لم‬‫يستعملها لكني وضعتها حتى أستطيع أن أصل المنفصل في ومضاته فكره الإبداعية التي لم‬‫يكمل عملها التنسيقي إذ هي مجرد مسودة كتبها في أقل من نصف سنة ولم يراجع منها إلا‬ ‫بعض الشواهد التمثيلية من التاريخ‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪50‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وما كنت لأسمح لنفسي بذلك لو لم أجد في المنفصلات من ومضاته إشارات لهمزة الوصل‬‫النظري بينها كإشارته في اسم الباب الأول من المقدمة بعبارة \"العمران على الجملة\" بمعنى‬‫أن ما فيها يشمل العمرانين البدوي والحضري ما يعني أنه أشار إلى أن هذا الباب ينطبق‬ ‫على مسائل المقدمة كلها من أولها إلى آخرها‪.‬‬‫فالعمران سواء كان بدويا أو حضريا لا بد له من مسائل الباب الأول الخمسة بتفاوت‬ ‫الدور الذي يؤديه عناصرها الخمسة بمنظور ثابت هو \"نحلة العيش\"‪:‬‬ ‫‪ .1‬عامل الجغرافيا الطبيعية‬ ‫‪ .2‬وعامل الرؤية الوجودية التي يقابلها بها الإنسان فردا وجماعة‬ ‫‪ .3‬وأثر العامل الأول في الثاني وفي الإنسان صاحبه‬ ‫‪ .4‬وأثر الثاني في الأول ودور الإنسان الناتج عن التفاعل‬‫‪ .5‬والحصيلة النهائية وهي مسار الحضارة الإنسانية بوصفها حصيلة هذه العناصر‬‫المقومة لوجود الإنسان الدنيوي وما يترتب عليه من رؤية متعالية لوجود متجاوز له أو‬ ‫أخروي في كل الحضارات البشرية‪.‬‬‫ومنظور \"نحلة العيش\" يمكن بتجاوز تأويلي لهذه الرؤية إرجاعها إلى مفهومين يعرفان‬ ‫الإنسان بمقتضى مقومات كيانه ومهمتيه في التاريخ في المقدمة وفي القرآن الكريم‪:‬‬‫‪ .1‬فالإنسان يعرفه ابن خلدون بمقتضى مقومات كيانه فيعتبره \"رئيسا بالطبع‬ ‫(فلسفيا) بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له (دينيا)\"‪.‬‬‫‪ .2‬ويعرفه بمقتضى المهمتين اللتين كلف بهما وهما الاستعمار في الأرض أي تكليفه‬‫بتعمير الأرض والاستخلاف فيها أي تكليفه بأن يجعل التعمير يتم بقيم متعالية هي التي‬ ‫لأجلها كرم أبناء آدم‪.‬‬‫ومن دون تحقيق المهمة الأولى يصبح الإنسان تابعا للطبيعة ومن يعمرها بدلا منه فلا‬‫يكون حرا ولا كريما لأنه يصبح تابعا فلا يبقى رئيسا بالطبع‪ .‬ومن دون تحقيق المهمة‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪51‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الثانية ينكص الإنسان إلى الحيوانية فيصحب خاضعا للقانون الطبيعي ويسيطر سلطان‬ ‫الصراع بين البشر‪.‬‬‫والجمع بين هذين الأمرين يؤدي إلى فساد معاني الإنسانية فلا تبقى نحلة العيش‬‫منتظمة بالتعاون والتبادل العادل ولا بالتواصل الذي من شرطه التواصي بالحق والتواصي‬ ‫بالصبر بين بشر يؤمنون بالله فوق الجميع ويعملون صالحا‪.‬‬‫وما كنت لأجرأ مع ذلك لهذه الإضافات التي استنتجها من روح المقدمة دون الخروج على‬‫صريح نصها لو لم يختم المقدمة بهذه العبارة الجميلة‪\" :‬ولعل من يأتي بعدنا مما يؤيده الله‬‫بفكر صحيح وعلم مبين يغوص في مسائله على أكثر مما كتبنا فليس على مستنبط الفن احصاء‬‫مسائله وإنما عليه تعيين موضع العلم وتنويع فصوله وما يتكلم فيه والمتأخرون يلحقون‬ ‫المسائل من بعده‪.\"..‬‬‫وأهم كملة تعنيني في هذه الخاتمة الجميلة هي \"تعيين موضع العلم\"‪ .‬فكلمة موضع تعني‬‫حيز في منظومة‪ .‬ومن له دراية بمواضع العلوم في الفلسفة التي كانت سائدة في عصر ابن‬‫خلدون منذ أرسطو لا تعطي للتاريخ وفلسفته أي موضع لأنه لا يقبل العلم النظري بل هو‬ ‫دون الأدب حسب أرسطو‪.‬‬‫ولما كانت الإشارة لهمزة الوصل في الباب الأول هي أوضح الإشارات فإني قد انطلقت‬‫منها لاكتشاف البنية الأساسية التي بنيت عليها مسائل المقدمة كلها وسميتها بمصطلحات‬‫وضعتها لهذا الغرض‪ :‬موضوع الباب الأول هو نوعا الأحياز المحيطة عينيا والمحاطة ذهنيا‬ ‫في العالم وفي الإنسان فردا وجماعة‪.‬‬‫وهذا الموضع لا وجود له في الفلسفة السائدة حينها لأن التاريخ وفلسفته لم يكن موجودا‬‫أصلا بسبب كونه عندهم لا يدرس إلا العيني الحاصل بخلاف الشعر الذي يدرس الممكن‬‫الذي هو أقرب إلى الكلي الموضوع الوحيد للفلسفي‪ .‬فيكون بيان الموضوع غير ممكن إلا‬ ‫بأحد طريقين أو بهما معا‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪52‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وابن خلدون \"خلق\" الموضع وأبانه بالطريقتين‪ :‬أولا غير موضوع الفلسفة أو الكلي وغير‬‫مفهوم أساس علم التاريخ أو بصورة أدق أساس علم نقد التاريخ الذي يصبح ممكنا بعد‬‫تغيير مفهوم الكلي‪ .‬فالمعلوم أن الكلي لاتاريخي في الفلسفة القائلة بالمطابقة بمعنى أن‬ ‫الكلي في الذهن مطابق للكلي في الوجود‪ :‬وكلاهما ثابت لا يتغير‪.‬‬‫فيكون العلم إذا طابقه مثله غير تاريخي‪ .‬وكل ما لا يطابقه من العلم فهو خطأ وليس‬‫علما‪ .‬لكن إذا تحررنا من القول بالمطابقة فإن العلم يصبح تراكميا أي إن الكلي المعلوم هو‬‫كلي معرفي‪-‬بمعنى ما اتفق العلماء على أنه علمي في لحظة من اللحظات‪ -‬دون أن يكون كليا‬‫وجوديا إذ لو كأنه لكان نهائيا ولن يتطور‪ .‬ذلك فهو بالضرورة حصيلة التراكم المعرفي‬ ‫وبذلك يصبح العلم العقلي هو بدوره تاريخيا‪.‬‬‫ومن ثم فالمنطلق كان محاولة تأسيس علمية التاريخ التي نفيت عنه العلمية لأنه لا يعلم‬‫الكلي وانتهت إلى بيان أن الكلي الفلسفي هو بدروه تاريخي لأن العلم المحيط مستحيل وكل‬‫علم هو تراكم المعرفة المبنية على بنى عقلية ومعطيات تجريبية يجمع بينهما الاستدلال‬ ‫المنطقي والبناء الرياضي‪.‬‬‫فلم يعد ابن خلدون مكتفيا بتحديد موضع علمه الجديد بل هو حدد منظومة الـمواضع‬‫الـجديدة التي كانت الفلسفة نفسها محتاجة للتموضع فيها‪ .‬وبذلك انتقلنا من علم رئيس‪-‬‬‫أرشيتاكتونيك‪ -‬يحدد المواضع كان اسمه \"ما بعد الطبيعة\" إلى علم رئيس بديل هو \"ما بعد‬‫التاريخ\" أو \"علم العمران البشري والاجتماع الإنساني\"‪ .‬والفلسفة قسمها إلى علوم يقبلها‬‫وسماها علوم العقل أو الحكمة التي اراد أن يجعل التاريخ أحدها‪-‬وتلك مهمة ما بعد‬‫التاريخ أو علم العمران البشري والاجتماع الإنساني‪-‬وعلوم زائفة على رأسها الميتافيزيقا‪.‬‬‫وذلك هو موضوع الفصل ‪ 31‬من الباب السادس بعنوان \"إبطال الفلسفة وفساد منتحلها\"‬ ‫ضمن الفصول المخصصة للعلوم الزائفة‪.‬‬‫تلك هي الثورة التي لم يكن ابن خلدون نفسه واضح الوعي بها‪ .‬لكنها تجاوزت مجرد‬‫تأسيس علم نقد الخبر إلى قلب نظام العلوم نفسه وتحديد مواضع جديدة كانت قبله‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪53‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫\"ارشيتاكتونيك=علم رئيس\" ميتافيزيقية‪ .‬فصارت بفضل ثورته \"ارشيتاكتونيك=علم‬ ‫رئيس\" ميتاتاريخية وهو ما سنحلله في الفصل العاشر والأخير من هذه المحاولة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪54‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫مفهوم الأحياز المضاعف‪ -‬ورغم كون ابن خلدون لم يستعمل المصطلح فهو قد استعمل‬‫مدلوله دون تسميته في تحديده للعمران على الجملة في الباب الأول‪ .‬وهذه الأحياز ومنطق‬‫تفاعلها بنية ثابتة في كل المسائل التي يدرسها ابن خلدون في المقدمة وترجع إلى \"نحلة‬ ‫العيش\"‪.‬‬‫ومن ثم فكل ما أضفته هو الإطار النظري المفهومي في شبه عودة على عمل ابن خلدون‬‫لنقله من الصوغ الأول المتقدم على الصوغ الثاني موضوعا له وانتقالا به من الحدس‬‫النظرية إلى نسقية النظرية مرحلة نحو تحويل نظريات ابن خلدون إلى نسق أكسيومي‬‫يقبل الاستنتاج من عدد قليل من الحدود العنصرية والقوانين التأليفية بينها لتصبح علما‬ ‫حقيقيا‪.‬‬‫فقد الباب الأول بالجغرافيا الطبيعية والمناخ‪ .‬ومن ثم فهو بذلك يعني محددات المكان‬ ‫والزمان لوجود حضارة الإنسان‪ .‬وكلامه على إثرها يقتضي النوع الثاني منها‪.‬‬‫فما في الإنسان من متفاعل مع الطبيعة مكانها وزمانها نظير فيه هو ما منه من جنس‬‫المكان الطبيعي المؤثر فيه ومن جنس الزمان الطبيعي المؤثر فيه‪ .‬والاول هو بدنه والثاني‬‫هو وعيه بما حوله وبذاته الواعية بما حولها ولنسم ذلك روحه‪ .‬فهذان إذن زوجان من‬ ‫الحيز المحيط والمحاط في وجود الإنسان‪.‬‬‫عندنا إذن بنية مربعة يتلقى فيها حيزان حول كيان الإنسان وحيزان هما كيان الإنسان‪.‬‬‫وينتج عن تفاعل هذه الأحياز الأربعة حيزان آخران في عالم الإنسان وحيزان آخران في‬‫كيان الإنسان تحصل أربعتها عن التفاعل بين الأحياز الأربعة الأولى وبنفس التناظر‬‫العجيب بين ما في كيان العالم المحيط بالإنسان وما في كيان الإنسان المحاط بها في الأعيان‬‫والمحيط بها في الأذهان‪ :‬أي إنها حاضرة في ذهن الإنسان دائما حضور كيانه أو حضور‬ ‫حاجة كيانه لها وتفاعله معها‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪55‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وبهذه الأحياز الأربعة الناتجة عن اللقاء بين الأربعة الأولى يتغير كل شيء فالجغرافيا‬‫الطبيعية تتضاعف بجغرافيا حضارية والتاريخ الطبيعي بتاريخ حضاري والبدن الطبيعي‬‫بتضاعف ببن حضاري والروح الطبيعية بروح حضارية‪ :‬وهي أحياز أربعة تضع بين الإنسان‬‫والعالم الطبيعي والعالم التاريخي تفاعلهما المادي والرمزي الذي هو من فعل الإنسان وهو‬ ‫معنى الثقافة‪.‬‬‫وهذه الأحياز الثمانية تجتمع بذاتها وبتفاعلاتها في ما سماه ابن خلدون \"نحل العيش\"‪.‬‬‫وتلك هي البنية الأساسية التي يبني عليها ابن خلدون فلسفة التاريخ التي تمثل لحمة علم‬‫العمران والاجتماع الإنساني وسداه‪ .‬وهي إذن بنية شديدة التعقيد لما فيها من تشاجن‬ ‫الأحياز الثمانية وتفاعلها‪ .‬فما الأحياز الأربعة الثانية؟‬ ‫ماذا ينتج عن الانتقال من الجغرافيا الطبيعية إلى الجغرافيا الحضارية؟‬‫الثروة أو التراث المادي‪ .‬وما ينتج عن الانتقال من التاريخ الطبيعي أي التاريخ‬ ‫الحضاري؟ التراث أو الثروة الرمزية‪.‬‬ ‫وماذا ينتج عن الانتقال من البدن الطبيعي إلى البدن الحضاري؟‬‫الزاد المادي في البدن نفسه وهو من جنس \"الشحن\" في الهاتف الجوال يمكن من العمل‬ ‫لمدة محدودة‪.‬‬ ‫وماذا ينتج عن الانتقال من الروح الطبيعي إلى الروح الحضاري؟‬‫الزاد الروحي وهو جزء من التراث الرمزي مثلما أن الزاد المادي في البدن هو جزء من‬‫الثروة المادية‪ .‬ويتبين ذلك عندما يفقد الإنسان ما تتطلبه المائدة والسرير‪ .‬فهو يأكل من‬‫بدنه كما نرى ذلك في المجاعات وما تؤدي إليه من هزال ويضاجع حتى نفسه في غياب‬ ‫الجنس الثاني وهما معوضا التبادل والتواصل العاديين في غياب شرطهما‪.‬‬‫وهو ما يعني أن المائدة هي رمز التبادل بين الإنسان والطبيعة وأصل كل تبادل آخر‬‫بينهما والسرير هو رمز التواصل بين الإنسان والإنسان وأصل كل تواصل آخر بينهما‪ .‬فهما‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪56‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫محددان لما دونهما ولما بهما كفاية ولما بهما زيادة عن الكفاية ولما بعدهما وهو مرحلة الترف‬ ‫القاتلة للحضارة عند ابن خلدون‪.‬‬‫ولما يدرك الإنسان آثار العبودية المباشرة للجغرافيا الطبيعية والتاريخ الطبيعي‪-‬إما‬‫لعدم وجودهما أصلا كما في البداية أو لظرف قاهر كما يحصل لمن يضل طريقه في الصحراء‬‫مثلا‪-‬فإنه يصبح حريصا على الزادين خارج ذاته (الثروة والتراث) وفي ذاته قيام بدنه‬ ‫وقيام روحه بوصفهما زادا محايثين لكيانه‪.‬‬‫فيكون هذا الحرص متضمنا لأمرين‪ :‬توقع نفاد الزادين ما يعني السعي لضمان توفرهما‬‫بحيازة قسط من الجغرافيا الطبيعية وتحويلها إلى جغرافيا حضارية بجعلها مجالا حيويا‬‫يستمد منه ما يرعى به ذاته ويسعى لحمايته فيكون ذلك بداية تكون الجماعات التي‬ ‫تتبادل وتتواصل لعلاج اشكاليتي الزادين‪.‬‬‫وما كان يمكن للإنسان أن يصل إلى هذا الوعي من دون أن تكون قد حدثت مجاعات‬‫ومن دون أن تكون قد حدثت حروب على المجالات الحيوية التي يستمد منه الإنسان شروط‬‫بقائه‪ .‬فيكون التراث الأول مضمون التاريخ الحضاري بالجوهر درامي وتراجيدي فينتج‬‫عن ذلك رؤية وجودية للعالم فيها أمل التوقع وخوف عدمه ولعل أبرز مثال على ذلك‬‫موقف المزارع من فصول المطر هطولا أو عدم هطول‪ :‬وليس بالصدفة أن كان علم الفلك‬‫وعلم الطب أول علمين عرفتهما أقدم الحضارات‪ .‬وليس بالصدفة كذلك أن كان للنساء‬‫الدور الأول في الكهانة وتوقع المستقبل في المجتمعات الأولى لأن لهن بحكم اقتسام العمل‬‫الأول وظيفة الرعاية وللرجال وظيفة الحماية‪ :‬والأولى أكثير شعور بالخوف من المستقبل‬‫(نقاد الغداء) والثانية من الحاضر (هجوم الأعداء) ومن ثم فللنساء هم التفكير في‬‫المستقبل والفراغ له أكثر من الرجال‪ .‬كما أنهن أكثر اعتقادا من الرجال وخاصة في‬ ‫التنجيم والسحر وكل ما يكون الخيال ومبدأ الرغبة فيه غالبا على مبدا الواقع‪.‬‬‫وهذا هو المعنى الأول الذي استمد منه ابن خلدون بداية الأديان والعلوم اللذين هما‬‫في آن ثمرة أمل التوقع وخوفه ويصحب الأول العرفان لـ\"أمر\" يعتبر صاحب النعم التي‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪57‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫تجعل شروط القيام حاصلة في العالم ويصحب الثاني الاستعداد لمفاجآت هذا الأمر بما يشبه‬ ‫ما نصح به موسى فرعون للسنوات العجاف‪.‬‬‫وهكذا يتبين أن البنية العامة التي تنطبق على نوعي العمران في المقدمة والتي عرضها‬‫ابن خلدون في الباب الاول من المقدمة تجمع بين الاقتصادي والثقافي والسياسي بمعنى‬‫الحماية والسياسي بمعنى الرعاية والرؤى الوجودية بمعنى العرفان لكائن متعال والخوف‬‫من مفاجآته أي الأديان والعلوم‪ .‬وبهذا المعنى نفهم علة مضمون الباب الأول‪ :‬ففيه قسمان‬ ‫متفاعلان وحصيلة‪:‬‬ ‫‪ .1‬القسم الجغرافي المناخي ممثلا للعالم الطبيعي‬ ‫‪ .2‬القسم الديني العلمي الممثل للعالم الثقافي‪.‬‬ ‫‪ .3‬أثر الأول في الإنسان في تكوين بدنه وروحه‪.‬‬ ‫‪ .4‬أثر الثاني في الأول لاستمداد في تشكيله لتحقيق ذلك‪.‬‬‫‪ .5‬مرجعية لاحمة للجماعة هي في آن تراث روحي وثروة مادية في الأعيان وفي‬ ‫الأذهان ومن دونها لا يمكن فهم معنى جماعة متجانسة أو أمة متلاحمة‪.‬‬‫وهذه البنية صالحة في الشكلين الأبرزين من العمران أي البدوي والحضري بمعيار يميز‬‫بينهما بتقدم الدورين‪ .‬ففي البدوي المتقدم في الفاعلية هو العالم الطبيعي أي تأثير‬‫الطبيعة الخارجية والداخلية في الإنسان‪ .‬وفي الحضري المتقدم هو العالم الثقافي أي تأثير‬‫الإنسان في الطبيعة الخارجية بأحيازها الخمسة (المكان والزمان وأثر المكان في الزمان أو‬‫التراث وأثر الزمان في المكان أو الثروة والعالم الطبيعي) وفي الطبيعة الداخلية بأحيازها‬ ‫الخمسة (البدن والروح وتأثر البدن بالثروة وتأثر الروح بالتراث والعالم التاريخي)‪.‬‬ ‫وحتى يتضح لنا ذلك فلنضع الباب الأول الذي حدد البنية العامة جانبا‪.‬‬ ‫وللنظر في الأبواب الخمسة الباقية‪ .‬ماذا نلاحظ؟‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪58‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫إذا ذهبنا من الثاني (البوادي) إلى الرابع (الحواضر) نمر بالثالث (الدولة) يتناقص‬‫تأثير الطبيعة‪ .‬وإذا عدنا من السادس(العلوم) إلى الرابع نمر بالخامس(الصنائع)‬ ‫يتناقص تأثير الثقافة‪.‬‬‫وفي كل نقطة من هذا المسار في الاتجاهين نجد تناسبا بين ربو دور الثقافي ونقصان دور‬‫الطبيعي من البداية (الفصل الثاني) إلى الغاية (الفصل السادس) والعكس أي تناقص‬‫دور الثقافي (الباب السادس) وربو دور الطبيعي (الثاني)‪ .‬والمدينة تمثل الحد الأوسط‬‫بين تناقص الطبيعي وتناقص الثقافي حيث يكون الأول شبه غائب بعد المدينة فيكون تابعا‬‫للعمران الحضري والثاني شبه غائب قبل المدينة فيكون تابعا للعمران البدوي‪ .‬وتكون‬‫المدينة جامعة بين نوعي العمران في القلب الحضري وفي المحيط البدوي‪ .‬وهذا قانون عام‬‫في كل مدن العالم وفي كل عصور الحضارات بعد أن تكون قد وصلت إلى مواد الباب السادس‬ ‫من المقدمة‪.‬‬‫هبنا واصلنا المسار الأول حتى نصل إلى السادس فنصل إلى المرحلة التي يكاد كل شيء‬‫في حياة البشر يصبح في قطيعة مع الطبيعة وكأنه صار كله ثقافيا والذهاب به إلى الاقصى‬‫هو الترف وهو القاتل للحضارات لأنه ملغ للطبيعي في حياتها‪ .‬وإذا عكسنا نجد أقصى‬ ‫البداوة وهو التوحش المطلق لسلطان الطبيعة‪.‬‬‫فتكون الحواضر (المدن) هي الحد الأوسط حيث تلتقي الفاعليتان الذاهبة من الطبيعي‬‫إلى الثقافي والعائدة من الثقافي إلى الطبيعي‪ .‬ولذلك فلا توجد مدينة ليست في آن‬‫حضرية في الوسط وبدوية في أحوازها أو ما يحيط بها من أحياء قصديرية يسكنها النازحون‬ ‫الذين سيتمدنون بمفعول الزمن‪.‬‬‫لكن ما من مرحلة تخلو من التفاعل بين الطبيعي والثقافي في مجالي تعينهما أعني في‬‫المائدة والسرير إذ يبقى المضمون الدافع فيهما طبيعيا دائما والشكل الرافع فيهما ثقافيا‬‫دائما‪ .‬لكن الثقافي لا أعني به الفلكلور أي ما به تتمايز حضارة عن حضارة بل الكلي في‬ ‫الشكل‪ :‬وهو الدلالة التجميلية‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪59‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫والفلكلوري في الدلالة التجميلية لا تتعلق بالشكل الجمالي بل بالحامل للجمالي وهو‬‫مستمد من قيم المضامين في الجماعة‪ .‬فالطعوم في المائدة والجمال في السرير مختلفة من‬‫حضارة إلى حضارة بل ومن مرحلة من كل حضارة إلى مرحلة أخرى لكنها واحدة كقيمة‬ ‫حتى وإن تعدد حامل القيمة غذاء وأبدانا‪.‬‬‫ففي المائدة لا يهم المأكول بل قيمته الذوقية عند الجماعة‪ .‬وهذا قانون عام وكوني ولا‬‫يختلف فيه شعب عن شعب‪ .‬ما يختلف بين الشعوب هو حامل القيمة الذوقية‪ .‬فما يستلذه‬‫العربي مثلا في زمن ما غير ما يستلذه الفرنسي‪ .‬لكن المعيار الغذائي هو ذوق الطعم‪.‬‬ ‫ونفس الأمر في السرير المهم القيمة الجمالية أي ما يستملحه الجنسان كلاهما من كليهما‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن أحد الأوهام حول المقابلة بين الطبيعي والثقافي يسقط‪ :‬ليس الطبيعي‬‫وحده هو الكلي بل الثقافي أيضا فيه ما هو كلي‪ .‬وكل من يتكلم على الخصوصيات يخلط بين‬‫الثقافي والفلكلوري‪ .‬فكون العربي مثلا يحب المرأة الممتلئة لا يعني أن معيار اختياره مختلف‬ ‫عن معيار من يحب الهزيلة‪ .‬المعيار واحد‪ :‬الاستـملاح‪.‬‬‫واختلاف حوامل المستملح لا يتعلق بها بما يحمله من علاقة بما بين الجنس والأكل من‬‫إيحاءات متبادلة‪ .‬فالمخيال فيهما واحد ويمكن أن نتكلم على أحدهما بما نتكلم به على‬‫الآخر‪ .‬والملذوذ فيهما رغم كونه تعينه في الحوامل ثقافي بحسب ما يتوفر في الطبيعة وفي‬‫الجماعة من حوامل هي في الغالب حصيلة العاملين الطبيعي والثقافي‪ :‬والكوني فيهما من‬‫جنس الكوني في الألسن‪ :‬فهو لا يقتصر على الصوت (الطبيعي) ولا حتى على آليات الإفادة‬ ‫(طبيعية أو كونية) بل على نسبها التي تحافظ على كلي ليس طبيعيا بل هو ثقافي‪.‬‬‫مثال ذلك أن اللغة اللغات الاعرابية اشتقاقية في الغالب واللغات غير الإعرابية نحتية‬‫في الغالب‪ .‬لكنه لا توجد لغة خالية من الخاصيتين حتى وإن كان خيار الكتابة هو الذي‬‫يخفي الطابع النحتي في اللغات الاشتقاقية‪ .‬فالاشتقاق نحت بين الأصل والزيادات‬‫الصدرية أو الذيلية او الحشوية‪ .‬وهذه ليست طبيعية بل ثقافية ولعلها تفهم بما يفسر به‬ ‫الفارابي نشأة اللغات بالعادات الأولى في الجماعة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪60‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫يمكن أن نشرح الاختلاف في حامل الجمال بما بين المائدة والسرير من تفاعل‪ .‬وليس‬‫بالصدفة أن كانت كل استعارات الجنس وكل استعارات الغذاء من طبيعة واحدة بمعنى أن‬‫الذوق بالمعنى الغذائي والذوق بالمعنى الجنسي وما يتبعهما من ذوق بالمعنى الالتذاذي‬‫والجمالي في نفس النسبة عند جميع البشر‪ .‬ففي الجنس يوجد تعالق بين المأكول والمنكوح‬‫ومن ثم بين الذوقين سواء عند الرجل إزاء المرأة أو عند المرأة إزاء الرجل وليس طبعا‬‫بالمعنى الحقيقي بل بالمعنى المجازي رغم أن فيه شيئا من الحقيقة كما في التقبيل والعض‬ ‫الخفيف والرضاب وكل الصور التي يتكلم عليها شعراء الغزل‪.‬‬‫وفي الأمر شيء من التعويض‪ .‬فالبدوي يحب المرأة الممتلئة لأن مائدته في الغالب خاوية‪.‬‬‫والحضري يحب المرأة الأقل امتلاء لأن مائدته في الغالب ممتلئة‪ .‬لكأن الترادع بين المائدة‬‫والسرير يقتضي هذا التعاوض بينهما بحسب العلاقة بين المائدة والسرير‪ .‬ولست أدري‬ ‫كيف يمكن فهم البدانة عند الأغنياء‪.‬‬‫فبدانة النساء في مصر مثلا مفهومة بهذا المعيار‪ .‬لكنها غير مفهومة في أمريكا‪ .‬لكن ربما‬‫الجواب في عموم البدانية بين الجنسين فيها‪ .‬لكن عندئذ هي يعني ذلك أنه يوجد تناسب‬‫عكسي بين المائدة والسرير في أمريكا؟ هل يعني ذلك أن الجنس يضمر في هذه الحالة فنفهم‬ ‫غلبة الفرجة على الفعل نفسه؟‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪61‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪62‬‬ ‫الأسماء والبيان‬