Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore الخلدونية المحدثة أو دور الرمزينرمز التبادل ورمز التواصل - أبو يعرب المرزوقي

الخلدونية المحدثة أو دور الرمزينرمز التبادل ورمز التواصل - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2019-02-14 13:00:22

Description: الخلدونية المحدثة أو دور الرمزينرمز التبادل ورمز التواصل - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫أو دور الرمزين‪ :‬رمز التبادل‬ ‫ورمز التواصل‬ ‫الأسماء والبيان‬





‫‪-‬‬ ‫المحتويات‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪-‬‬ ‫‪2‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪-‬‬ ‫‪1‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪-‬‬ ‫‪9‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪-‬‬ ‫‪17‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪-‬‬ ‫‪26‬‬ ‫‪35‬‬

‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫لما عرفت وظائف الدولة وحصرتها في خمس للحماية وخمس للرعاية لم أشرح علاقتها‬ ‫بنظرية الرمزين‪:‬‬ ‫• رمز الفعل شرط التبادل (العملة)‬ ‫• وفعل الرمز (الكلمة) شرط التواصل‬ ‫فبقيت العلاقة بين وظيفتي الإنسان وموضوعي ثورة ابن خلدون في المقدمة غير واضحة‬ ‫ما يحول دون تأسيس الخلدونية المحدثة‪.‬‬ ‫في المحاولة السابقة التي خصصتها للتقدير الذهني في الرياضيات وتأسيس نظرية النظر‬ ‫والعقد التيمية لم أصل بصورة واضحة ثورة ابن تيمية بثورة ابن خلدون‪ .‬ولا يمكن أن‬ ‫أتكلم اليوم على خلدونية محدثة دون وصلها بالتيمية المحدثة‪.‬‬ ‫لذلك فهذه المحاولة يمكن أن تعتبر تكملة للسابقة‪.‬‬ ‫فقد تمكنت في السابقة من بيان شروط الانتقال إلى التيمية المحدثة بقيس التقدير‬ ‫الذهني في الأدبيات ودلالة الإبداعين في العلوم وفي الفنون للجمع بين إبداع العوالم بمنطق‬ ‫الضرورة وبمنطق لحرية‪ .‬وأنوي أن بين في هذه شروط الانتقال إلى الخلدونية المحدثة‬ ‫بقيس تمييزه بين بعدي موضوعه ببعدي الرمز اللذين لا يمكن تصورهما من دونهما رغم‬ ‫أن ابن خلدون حاول ذلك في غيابهما فغابت عن الأذهان طبيعة ثورته الأكسيولوجية غياب‬ ‫طبيعة ثورة ابن تيمية الإبستمولولجية‪.‬‬ ‫وكانت العقدة في التيمية أن الانتقال من منطق الضرورة ‪-‬في التقدير الرياضي‪-‬إلى‬ ‫منطق الحرية‪ -‬في التقدير الفني ‪-‬لا يحقق الوصل بين النظر والعقد من دون التمييز بين‬ ‫نوعين من التجربة في إبداع العوالم وفي تطبيقها على العالم الطبيعي (ابن تيمية) والعالم‬ ‫التاريخي (ابن خلدون)‪.‬‬ ‫وهذا ما أريد الآن البحث فيه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫إذا كانت ثورة ابن تيمية متعلقة بالنظر والعقد في الطبيعيات سعيا لإصلاح العمل والشرع‬ ‫في الإنسانيات فإن ثورة ابن خلدون متعلقة بالعمل والشرع في الإنسانيات سعيا لإصلاح‬ ‫النظر والعقد في الطبيعيات‪ .‬وفيه نفس العقدة وهي عقدة الانتقال من المرموز موضوع‬ ‫علمه إلى الرمز ما به يصاغ هذا الموضوع صوغا يقبل التنظير العميق‪ :‬ذلك أن الكلام في‬ ‫الموضوع لا يكون علميا إلى إذا صار الموضوع حاضرا بمنظومة مفهومية قابلة للترميز الممثل‪.‬‬ ‫وقد اعتبرت ابن تيمية متقدما على ابن خلدون لعلتين أولاهما ظهرت أولا عند الأول‬ ‫والثانية ظهرت ثانيا عند الثاني فكان الثاني مكملا للأول والمكمل دائما بعد المستكمل‪.‬‬ ‫ولذلك فالرجلان قاما بنفس الثورة كل منهما أنجز نصفها‪ .‬وهي تتمثل في القطع مع‬ ‫الفلسفة القديمة والوسيطة في المستويين الإبستمولوجي (نظرية المعرفة) وهو ما أنجزه‬ ‫ابن تيمية والأكسيولوجي (نظرية القيمة) وهو ما أنجزه ابن خلدون‪.‬‬ ‫فابن تيمية كان واعيا بسر ثورته بفضل التمييز الصريح بين علم المقدرات الذهنية الكلي‬ ‫واليقيني رغم كونه لم يعلل ذلك وعلم الموجودات الخارجية الذي علله بالحاجة إلى‬ ‫التجربة التي هي دائما استقرائية ولا يوجد استقراء تام في ما لا نعلمه بإحاطة‪.‬‬ ‫وابن خلدون كان واعيا بسر ثورته بفضل التمييز بين علم الطبائع التاريخية من حيث هي‬ ‫مقدرات ذهنية قابلة للتطبيق على التاريخيات التجريبية وما ظنه الفلاسفة قبله مثلا كونية‬ ‫أو علماء الأحكام السلطانية أحكاما دينية معيارية وهي كلها مستقرآت من جنس \"الأدب‬ ‫الواقعي\" الذي ظن حقائق كونية بالتعميم المتسرع‪.‬‬ ‫وما أضفته إلى التقدير الذهني التيمي ليصبح للإنسانيات مقدرات ذهنية في نسبة‬ ‫الرياضيات إلى الطبيعيات لم أكن بحاجة إليه في التقدير الذهني الخلدوني لأنه فصل بين‬ ‫العمران البشري والاجتماع الإنساني‪ .‬وواضح أن الأول بحاجة إلى ما يماثل التقدير‬ ‫الذهني التيمي‪ .‬والثاني بحاجة إلى ما يشبه التقدير الذهني الذي أضفته إلى تقديره‬ ‫الذهني‪ .‬فيكون لدينا نوعين من التقدير الذهني المؤسس للثورة الأبستمولوجية وثمرتها‬ ‫الأكسيولوجية والمؤسس للثورة الأكسيولوجية وثمرتها الابستمولوجية‪ .‬كلاهما مضاعف‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬في الثورة التيمية‪ :‬المقابلة بين التقدير الذهني الرياضي والوجود الخارجي الطبيعي‬ ‫والتاريخي أضفت إليهما التقدير الذهني الميثولوجي والفنون والأدب لتأسيس التيمية‬ ‫المحدثة‪.‬‬ ‫‪ .2‬الثورة الخلدونية‪ :‬العمران والتبادل والاجتماع التواصل أضفت إليهما رمز الفعل أو‬ ‫العملة رمز الثروة وشرط التبادل وفعل الرمز أو الكلمة رمز التراث وشرط التواصل‬ ‫لتأسيس الخلدونية المحدثة‪.‬‬ ‫ولن أعجب إذا وجد الكثير من القراء الأمر عسير الفهم بل واعتبره ضربا من تقويل‬ ‫الرجلين ما لم يدر بخلدهما أصلا‪ .‬لكني لا أطلب من القارئ إلا أمرا واحد‪ :‬فليصبر علي‬ ‫قليلا وليقرأ بتمعن وتأمل وتدبر المحاولتين معا ما ينبغي من المرات حتى يستوعب‬ ‫الاستدلال وحججه وليحكم بعد ذلك ليس بمنظور طلب الحقيقة المطلقة لأني لم أدعها بل‬ ‫السعي إلى الممكن من إدراكها إنسانيا بمعنى الاجتهاد لا غير‪.‬‬ ‫وفي الحقيقة فإن ما كان يسعى إليه كلا الرجلين كان الضمير في منطلقه إشكالا نتج عن‬ ‫ملاحظة غيابه وتعذر بيان الإشكال لغياب الصوغ الرمزي القابل لوضع نظرية يكون دورها‬ ‫فيه من جنس دور الرياضيات في علوم الطبيعة‪ .‬فابن تيمية ينطلق من مرض مضمر يرده‬ ‫بتشخيص صريح إلى مرض معلن‪:‬‬ ‫‪ .1‬المرض المضمر‪ :‬فساد حال الأمة في عملها وشرعها أي في حياتها السياسية تربية وحكما‬ ‫وفي علمي العمل والشرع أي الفقه والتصوف خاصة‪.‬‬ ‫‪ .2‬المرض المعلن‪ :‬فساد نظر الأمة وعقدها‪ .‬ومعنى ذلك أنه حمل المتكلمين والفلاسفة‬ ‫مسؤولية الفساد النظري والعقدي المعلل لفساد العمل والشرع‪.‬‬ ‫لكن التشخيص الخلدوني يعكس العلاقة بين المرضين لذلك فهو مقابل لهذا التشخيص‪.‬‬ ‫فهو ينطلق من ضمير هو‪ :‬له فساد نظر الأمة وعقدها في التاريخيات والإنسانيات أي في‬ ‫حياتها الفكرية نظرا وعقدا (الكلام والفلسفة) والتي موضوعها حياتها السياسية والخلقية‬ ‫تربية وحكما (الفقه والتصوف)‪ .‬وحمل المسؤولية لدورهما في التربية والحكم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫ولهذا العلة تعاكس علاجاهما‪ :‬فالذي وضع نظرية العمل والشرع كان علاجه سعيا لوضع‬ ‫نظرية العمران (أو مهمة الإنسان من حيث هو مستعمر في الارض) ونظرية الاجتماع (أو‬ ‫مهمة الإنسان من حيث هو مستخلف في الارض) ووصل ذلك باستبدادية الدولة‪ .‬لكن‬ ‫الثاني وضع نظرية النظر والعقد ووصل ذلك بوثنية المجتمع‪.‬‬ ‫وبذلك يصبح مدار هذه المحاولة المكملة لمحاولتي السابقة حول التقدير الذهني للوصل‬ ‫بين الثورتين التيمية في الإبستمولوجيا والخلدونية في الأكسيولوجيا ونظرية الرمزين أي‬ ‫رمز الفعل أو العملة أداة التبادل وفعل الرمز أو الكلمة أداة التواصل وعلاقة ذلك‬ ‫بالسورتين اللتين تبدآن بـ\"ويل\"‪ :‬فيهما‪:‬‬ ‫‪ .1‬فويل للمطففين تتعلق برمز الفعل‪-‬العملة أو أداة التبادل الكلية‪ -‬أو بشروط التبادل‬ ‫العادل ورمزه الميزان‪.‬‬ ‫‪ .2‬وويل لكل همزة لمزة تتعلق بفعل الرمز‪-‬الكلمة أو أداة التواصل الكلية‪ -‬أو التواصل‬ ‫الأمين ورمزه الأمانة‪.‬‬ ‫والأمانة والعدل هما شرطا ال َحكم (النساء ‪ :)58‬والدولة هي الحكَـم في الوظيفتين اللتين‬ ‫هما بعدا السياسة‪ .‬وسأقصر قولي على الدولة ووظائفها ودور الرمزين فيهما وأترك ابن‬ ‫تيمية جانبا‪ .‬فالدولة دون المجتمع أهمية في ثمرة فكره الساعي لتخليص المعاني الدينية من‬ ‫التوثين في التربية وفي الحكم توثينا علته إعادة الوساطة في التربية والوصاية في الحكم‬ ‫وهما نتيجة تحريف القرآن (التشيع) والسنة (الجامية)‪.‬‬ ‫ولهذه العلة فأكثر الناس كرها لابن تيمية هم الشيعة ثم الجامية‪ .‬ذلك أن التشيع أعاد‬ ‫إلى الإسلام الوساطة الكنسية في التربية فجعل المراجع والتصوف وسطاء بين المؤمن وربه‬ ‫وأعاد الحكم بالحق الإلهي لأسرة مصطفاة تتواصل فيها النبوة لتكون وصية على الأمة تحكم‬ ‫باسم حق إلهي في الحكم‪.‬‬ ‫والجامية لم تستطع القول بهذا التحريف الصريح للقرآن فقالت بما يماثله من خلال‬ ‫تحريف الحديث الذي صار شبه دحض لرؤية القرآن للتربية والحكم‪ .‬فجعلوا من يسمون‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫أنفسهم علماء وسطاء بين الله والمؤمن بحجة وراثة العلماء للأنبياء وجعلوا المستبدين ظل‬ ‫الله في الأرض بحجة ولاية الأمر‪ .‬ما يعنيني في هذه المقدمة أمران‪:‬‬ ‫‪ .1‬بيان أن ما يحدث في تحريف ثورة الإسلام وقيم القرآن لم يكن أمرا مهملا بل إن‬ ‫المدرسة النقدية التي تعنيني في بحثي قد جعلته مادة فكرها‪ .‬ولذلك فهي قد كانت بحق‬ ‫متحررة بقدر كبير مما كان مسيطرا على علوم الملة الغائية الخمسة من التحريف كما بينت‬ ‫سابقا‪.‬‬ ‫‪ .2‬وبيان أن محاولات المدرسة النقدية لم تكن موصولة ومترابطة في نسق يمكن من فهم‬ ‫ثمرتها الإيجابية لأن الغالب عليها كان ثمرتها السلبية أي البعد النقدي وخاصة في عمل ابن‬ ‫تيمية لأن عمل ابن خلدون أثمر محاولة أولية لصوغ ثورته في المقدمة صوغا صريحا جعل‬ ‫مهمتي الإنسان موضوعها‪ :‬العمران والاجتماع‪.‬‬ ‫وأكثر من ذلك فهو قد وحد بين الموضوعين أو مستويي الموضوع بأن جعلهما في صلة بنيوية‬ ‫بالدولة من حيث هي تعين السياسي ببعديه تربية وحكما أصلا لكل ما يتعلق بالعمران لسد‬ ‫الحاجات المادية (مهمة الإنسان من حيث الادوات) وبالاجتماع لسد الحاجات الروحية‬ ‫(مهمة الإنسان من حيث الغايات)‪.‬‬ ‫ومع ذلك فثورته تجمدت بسبب قراءاته التي حصرته في ما تصورته مقياسا لأهميته أعني‬ ‫في السبق بالقياس إلى ما يسمونه تأسيس علم الاجتماع ثم في محاولات من يريد أن يرده‬ ‫لفكر عصره نقدا لمحاولات القائلين بالسبق وكل ذلك يجعل أهمية ابن خلدون إضافية إلى‬ ‫أمر ليس مهما في عمله وهو غني عنه‪.‬‬ ‫ما يعنيني هو‪ :‬كيف نكتشف لب الحياة في عمل ابن خلدون حتى يتجاوز نفسه فنؤسس‬ ‫لخلدونية محدثة كما حاولت في كلامي على ابن تيمية‪ .‬والمنطلق ليس هو شيئا آخر غير‬ ‫عنوان المقدمة العجيب والغريب‪\" :‬علم العمران البشري و(علم) الاجتماع الإنساني\"‪ :‬اسم‬ ‫مضاعف أنطلق منه للوصل بالرمزين‪ .‬وقد سبق فبينت أن الإنسان لا يحتاج إلا إلى رمزين‬ ‫ليصبح سيدا على شروط قيامه العضوي وعلى شروط قيمه الروحي لأنهما يحددان‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬شرط التبادل الذي يعالج سد الحاجات المادية ورمزه رمز الفعل أو العملة ممثلة للقيمة‬ ‫المادية عامة‪.‬‬ ‫‪ .2‬وشرط التواصل الذي يعالج سد الحاجات الروحية ورمزه فعل الرمز أو الكلمة ممثلة‬ ‫للقيمة المعنوية عامة‪.‬‬ ‫والشرطان ورمزاهما هما موضوعا المقدمة أو مستويا موضوعها ويمكن أن نعتبر الموضوع‬ ‫الأول متصلا بعلاقة الإنسان بالطبيعة خاصة والموضوع الثاني متصلا بعلاقة الإنسان‬ ‫بالإنسان خاصة أو بالتاريخ‪:‬‬ ‫‪ .1‬العمران البشري‬ ‫‪ .2‬الاجتماع الإنساني‪.‬‬ ‫وبين أن المقابلة مضاعفة في الحالتين ولها صلة واضحية بالآية الكريمة فصلت ‪ 53‬التي‬ ‫تحيل إلى الآيات التي يريننا إياها الله في الآفاق وفي الأنفس لنتبين أن القرآن حق وهو ما‬ ‫يجعل الاكتشاف الخلدوني وثيق الصلة بثورته التي فهمت أن العلوم لا توجد في شرح آيات‬ ‫القرآن النصية واعتبرها رؤية تشير إلى آيات الله الوجودية خارج النص في الآفاق وفي‬ ‫الأنفس وتلك هي بداية الشروع في البحث العلمي الذي يحقق به الإنسان شروط أدائه‬ ‫لمهمتيه‪ :‬الاستعمار في الارض والاستخلاف فيها‪:‬‬ ‫‪ .1‬المقابلة الأولى بين العمران والاجتماع وهما مستويا آيات الله في الآفاق‪.‬‬ ‫‪ .2‬المقابلة الثانية بين البشري والإنساني وهما مستويا آيات الله في الأنفس‪.‬‬ ‫ولما كان ابن خلدون يصل العمران البشري بالتعاون لسد الحاجات المادية بفضل عمارة‬ ‫الأرض ويصل الاجتماع الإنساني بالتواصل لسد الحاجات الروحية بفضل الاستخلاف فيها‬ ‫تبين أن للأمر علاقة بنظرية الإنسان القرآنية‪ .‬فنظرية القرآن في الإنسان تعتبره‪:‬‬ ‫‪ .1‬مستعمرا في الارض ومنها اشتق ابن خلدون مصطلح العمران‪.‬‬ ‫‪ .2‬ومستخلفا فيها ومنها اشتق ابن خلدون الاجتماع‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫وبين أن العلاقة في الاشتقاق الأول واضحة لوحدة الجدر في الكلمتين‪ .‬لكن لا وجود لجذر‬ ‫مشترك بين الاجتماع والاستخلاف‪ .‬فكيف نفهم ذلك؟‬ ‫لو لم يعرف ابن خلدون المستوى الثاني من موضوع المقدمة لاستحال أن نجد الوصل بين‬ ‫الاستخلاف والاجتماع لعدم وحدة الجذر بين الكلمتين بخلاف الاستعمار والعمران‪ .‬فابن‬ ‫خلدون اعتبر العمران \"التنازل‪-‬أي المشاركة في المنزل‪-‬من أجل التعاون على سد الحاجات\"‬ ‫وهذا هو مفهوم العمران‪ .‬ولما تكلم على الاجتماع جعله \"التنازل من أجل الأنس بالعشير\"‪.‬‬ ‫وإذن فلا بد من طلب العلاقة بين المفهومين‪ :‬الاستخلاف والأنس بالعشير‪ .‬فمن هم‬ ‫\"العشير\" و\"العشيرة\"؟‬ ‫اليس الخلف والسلف؟‬ ‫فالتنازل للتعاون يمكن أن يكون حتى بين من ليسوا من الخلف ولا من السلف لأن التعاون‬ ‫لسد الحاجات يهتم بأمرين هما انتاج شروط العيش والحماية‪ .‬يجمع الناس ليتعاونوا على‬ ‫سد الحاجات والشرط تعمير الارض وحماية بعضهم البعض‪.‬‬ ‫لكن كل ذلك أداتي وليس غائيا‪ .‬أما العشير والعشيرة فتعيش معا من أجل الاجتماع‬ ‫الذي هو الغاية وهي مؤلفة من سالف وخالف‪ .‬وهو المعنى الأولي للاستخلاف‪ .‬فالأنس‬ ‫بالعشير يعني متعة العشرة أو العيش في العشيرة بين الخلف والسلف فيكون بعضهم للبعض‬ ‫خلائف‪ .‬وهو صلة الرحم وعلاقة النسب ومستوى التواصل العضوي والروحي‪.‬‬ ‫ثم تأتي الدرجات الثلاث للاستخلاف بالمعنى القرآني ولها صلة بالسلطة الروحية‬ ‫والحضارية والسياسية‪ .‬فروحيا الإنسان من حيث هو إنسان مستخلف‪ .‬وحضاريا يوجد‬ ‫الاستخلاف متداول بنظرية الاستبدال بين الامم الاجدر بتحقيق قيم الاستخلاف ثم أخيرا‬ ‫المعنى السياسي ومنه الخليفة رئيسا للدولة‪.‬‬ ‫فيكون الاجتماع هنا هو المعنى الأول وهو صلة التنازل‪-‬المشاركة في المنزل‪-‬للأنس بالعشير‬ ‫أي الخلف والسلف ثم المعنى المحدد لمنزلة الإنسان الوجودية (الاستخلاف بمعنى إني جاعل‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫في الأرض خليفة) ثم الاستخلاف بمعنى من هو أجدر بقيم المجعول خليفة ثم استخلاف من‬ ‫تختاره الأمة ممثلا لإرادتها‪.‬‬ ‫وبذلك يتبين أن العمران للرعاية والاستخلاف للحماية‪ .‬ذلك أنه لا أنس من دون أمن أو‬ ‫من دون تحرر من الخوف‪ .‬المعنى الأول هو إذن ما يرمز إليه مدلول \"أطعمهم من جوع\"‪.‬‬ ‫والمعنى الثاني هو ما يرمز إليه \"آمنهم من خوف\"‪ .‬وتلكما هما وظيفة الدولة التي هي في‬ ‫الإسلام مؤسسات الخلافة‪.‬‬ ‫والخلافة هنا تستعمل بمعنى نظام الحكم السياسي الذي يكون فيه الخليفة منتخبا بحرية‬ ‫‪-‬البيعة الحرة‪-‬لينوب الأمة في إدارة أمرها فرض كفاية بمراقبة منها فرض عين‪ .‬وذلك‬ ‫هو المدلول الأول للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‪ .‬وذلك هو المعنى الدقيق للشورى ‪.38‬‬ ‫لكن التحريف الذي طرأ بعد العهد الراشدي بسب الفتنة الكبرى والحروب الأهلية وكان‬ ‫شبه حالة طوارئ كانت من الضرورة التي تبيح المحظور وكان ينبغي أن ترفع لكنه تواصل‬ ‫‪ 14‬قرنا فأصبحت البيعة بمقتضاه غير حرة وصورية والشورى مجرد استشارة غير ملزمة‬ ‫هي نصائح فقهاء البلاط في السر مع التستر على جرائم المستبدين الذين صاروا يسمون‬ ‫أولياء الأمر في حين أن الآية تنسب الأمر للأمة وتكلفها بإدارته بالشورى لأنه أمرها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫كيف سيظهر الرمزان بوصفهما شرطي الانتقال من الخلدونية إلى الخلدونية المحدثة؟‬ ‫وكيف ندرك التلازم بين الرمزين وهذا الدور المشروط في بيان ثورة ابن خلدون؟‬ ‫سأضرب مثالين يدركهما حتى من ليس له ثقافة فلسفية كافية للغوص في المعاني المجردة‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأول من تاريخنا المجيد لما بلغ دور الأمة الكونية في ذروة فاعليته التاريخية‪ :‬عبد‬ ‫الملك بن مروان عرب الإدارة (فعل الرمز) صك العملة (رمز الفعل) فصارت العربية لغة‬ ‫العلم العالمية والعملة الإسلامية عملة العالم الأقوى لمدة عشرة قرون‪.‬‬ ‫‪ .2‬والثاني من تاريخ أمريكا الحالية لما بلغت إلى ما يقرب من دورنا الكوني‪:‬‬ ‫الانجليزية والدولار هما لغة العلم العالمية وأداة التبادل الاقتصادي العالمي‪.‬‬ ‫وسأشرح هذا المعاني في الفصول الموالية لبيان علاقتها بما أسميه الخلدونية المحدثة‪.‬‬ ‫ويوم يفهم المسلمون عامة والعرب خاصة أهمية ما كان مضمرا في ثورة ابن خلدون وقبلها‬ ‫في ثورة ابن تيمية سيعلمون طبيعة ما كان ولا يزال حائلا دونهم وتجاوز المعوقات التي حالت‬ ‫دون النفاذ إلى معاني القرآن التي من دونها لا يمكن أن نفهم لما هو الرسالة الخاتمة ولم‬ ‫كان متقدما على عصره بقدره تأخرنا على عصرنا‪.‬‬ ‫ولأعد الآن إلى إشكالية وظائف الذكر للتذكير بها لأن ثورة ابن خلدون تتعلق بتأسيس‬ ‫الفلسفة العملية ونظرية الدولة‪ .‬وقد قسمت هذه الوظائف إلى جنسين الرعاية والحماية‪.‬‬ ‫ولأبدأ بجنس الرعاية‪ :‬فروعها خمسة‪:‬‬ ‫• اثنان للتكوين‪:‬‬ ‫‪ .1‬التربية النظامية (في المدارس)‬ ‫‪ .2‬التربية الاجتماعية (في تقسيم العمل)‪.‬‬ ‫• واثنان للتموين‪:‬‬ ‫‪ .3‬الثقافة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫‪ .4‬الاقتصاد‬ ‫‪ .5‬أصلها جميعا أو البحث والإعلام العلميان‪.‬‬ ‫فماذا نلاحظ؟‬ ‫لنأخذ ‪ 1‬و‪ 3‬وسنجد أنهما يعتمدان اساسا على فعل الرمز أو الكلمة‪.‬‬ ‫ولنأخذ ‪ 2‬و‪ 4‬وسنجد أنهما يعمدان خاصة على رمز الفعل أو العملة‪.‬‬ ‫الخامس يعتمد عليهما معا‪:‬‬ ‫البحث والإعلام العلميان أحول الوظائف الخمسة للكلمة وللعملة أو للثقافة والاقتصاد‬ ‫لأنه أساسهما وهما شرطه‪.‬‬ ‫ولنمر إلى جنس الحماية ولها فروع خمسة كذلك‪:‬‬ ‫• اثنان للحماية الداخلية‬ ‫‪ .1‬القضاء‬ ‫‪ .2‬الأمن‪.‬‬ ‫• واثنان للحماية الخارجية‪:‬‬ ‫‪ .3‬الدبلوماسية‬ ‫‪ .4‬الدفاع‬ ‫‪ .5‬أصلها جميعا أي الاستعلام والإعلام السياسيان‪.‬‬ ‫فلننظر في ‪ 1‬و‪ 3‬أساسهما كلمة القانون الوطني والدولي‪.‬‬ ‫و‪ 2‬و‪ 4‬أساسهما رمز القوة الاقتصادية‪.‬‬ ‫والأصل‪-‬الاستعلام والإعلام السياسي‪-‬جامع بين الكلمة والعملة أو بين القوتين الثقافية‬ ‫والاقتصادية‪ .‬وبذلك فالقوة الثقافية ورمزها فعل الرمز أو الكلمة والقوة الاقتصادية‬ ‫ورمزها رمز الفعل او العملة هما أداتا كل دولة وعلامتا قوتها وسلطانها في الداخل في‬ ‫الخارج‪ .‬ذلك شرط الخلدونية المحدثة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫طبعا ابن خلدون لم يدر بخلده أمر الرمزين رغم أنه أول من تكلم على ضرورة استقلال‬ ‫مؤسسة العملـة عن السلطة التنفيذية (جعلها تحت سلطة الخليفة الذي هو السلطة الخلقية‬ ‫وإضفاء الشرعية بوصفه حامي الشريعة وليس السلطان الذي له السلطة التنفيذية) شرط‬ ‫في امانة الحكم وعدله لمنعه من تزييف العملة بالتطفيف وعلى مفهوم القيمة الاقتصادية‬ ‫بمعنى كلفة العمل المنتج للبضائع والخدمات‪ .‬وابن تيمية لم يدر بخلده امر التقدير‬ ‫الذهني الثاني الذي وضعته‪.‬‬ ‫لكن الدولة جامعة بين هذين الجنسين من الوظائف بأنواعها العشرة أي الخمسة لكل‬ ‫جنس منهما‪ .‬فما هو سلطانها الذي يوحد بينها؟‬ ‫إنه السلطان على فعل الرمز (الكلمة) ورمز الفعل (العملة)‪ .‬السياسة هي فن الكلمة‬ ‫وفن العملة أو السلطان الثقافي والتربية والسلطان الاقتصادي والحكم‪.‬‬ ‫وبخلاف ما يتصور الكثير فإن السلطان الثقافي والتربية أقوى من السلطان الاقتصادي‬ ‫والحكم رغم أن الثاني أسرع فاعلية من الأول لأنه أعنف لأن بيده السلطان المادي ذو‬ ‫القدرة المباشرة‪ .‬لكن الثاني رغم كونه ألطف وسلطانه رمزي وذو قدرة غير مباشرة‬ ‫وفاعلية أبدأ لكنه هو المحدد في النهاية‪.‬‬ ‫كيف؟‬ ‫هذا من مفارقات العلاقة بين السلطانين المادي والرمزي‪.‬‬ ‫فالأول سلطانه آني وقصير المدى‪.‬‬ ‫والثاني سلطانه دائم وطويل المدى‪ .‬والأول لا يؤثر إلا إذا تحول إلى ثقافة‪ .‬فالسلطان‬ ‫المادي يحتاج إلى أمرين‪:‬‬ ‫• إلى النظر والعقد ليصنع أدواته‬ ‫• وإلى العمل والشرع الذي ليحدد غاياته‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫والرمزي هو الذي يحدد المادي في كل ما منه منتسب إلى أفعال الإنسان الواعية على‬ ‫الأقل لأن ما به يؤثر المادي في فعل الإنسان مما ليس مجرى طبيعي وعضوي فيه لأن كلامنا‬ ‫يتعلق بالأفعال القصدية التي تكون على علم ووعي‪ .‬وهذا يقتضي أن يكون المؤثر ليس‬ ‫المادي من حيث هو مادي بل من هو دلالته في منظومة القيم أيا كانت سوية أو حتى محرفة‪.‬‬ ‫وللتيسير سأشرح هذا التقدم الذي أنسبه إلى الرمزي على المادي في الحالتين المتعلقة‬ ‫بالرعاية والمتعلقة بالحماية‪ .‬ففي الرعاية هل يمكن تصور اقتصاد قادر على إنتاج الثروة‬ ‫من دون بحث علمي مثلا؟ ربما عند العرب‪ :‬فليس لهم من الاقتصاد إلا الخامات ورثوها عن‬ ‫آبائهم دون أن يكونوا أهلا لها بسبب الجهل بشروط الاستفادة منها‪.‬‬ ‫لكن الاقتصاد في العالم كله هو ثمرة البحث العلمي الذي يمكن من معرفة قوانين الطبيعة‬ ‫وسنن التاريخ فيطبقها على الطبيعة لاستخراج ثرواتها وعلى التاريخ لتنظيم الحياة وتقسم‬ ‫العمل وتوزيع ثمراته وكل ذلك ثمرة البحث العلمي وخاصة دور الذوق في تحديد الحاجات‬ ‫المادية والروحية وتلـك هي الثقافة‪.‬‬ ‫ولنأت الآن إلى الحماية‪ .‬فهل يمكن تصور القضاء والأمن والدبلوماسية والدفاع من دون‬ ‫استعلام وإعلام سياسيين؟‬ ‫طبعا هذا غير ممكن إلا عند العرب فهو واجب وليس ممكنا فحسب‪ .‬لأنهم لا قضاء ولا‬ ‫أمن ولا دبلوماسية ولا دفاع عندهم يعتمد على ما ينتجه فكرهم وينظمه استعلامهم على ما‬ ‫يجري في هذه الوظائف بل هي فوضى الاستبداد والفساد‪.‬‬ ‫لا يمكن اليوم لعربـي‪-‬بعد أن نكصوا عن ثقافة الإسلام إلى ثقافة الجاهلية‪-‬أن يفهم‬ ‫قول إن خلدون \"الظلم مؤذن بخراب العمران\"‪ .‬ولا يمكن أن يفهم أن منع الظلم يقتضي‬ ‫أن تكون الدولة على علم بما يجري في القضاء وفي الأمن وفي الدبلوماسية وفي الدفاع‬ ‫وإعلام الجماعة بذلك حتى تحكم نفسها بنفسها على علم وحتى يكون أمرها بالمعروف ونهيها‬ ‫عن المنكر عملا على علم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫والاستعلام والإعلام السياسيين بهذا المعنى ثقافة‪ .‬وهي غير المخابرات العربية‪ .‬فهذه‬ ‫ليست استعلاما على أحوال الأمة لمنع الاستبداد والفساد بل هي أدوات الاستبداد والفساد‬ ‫وهي ليست أدوات للغوافير العرب بل هي لمن نصبهم على الأمة حتى يكونوا خدما له‬ ‫ومساعدين على نهب ثرواتها والعدوان عليها‪.‬‬ ‫ولما كنا قد أرجعنا الرمزي كله إلى رمزين كافيين هما الكلمة أو فعل الرمز والعملة أو‬ ‫رمز الفعل فإن المشكل كله هو في جعل الكلمة التي من المفروض أن تكون أداة تواصل أداة‬ ‫سلطان على المتواصلين وجعل العملة التي من المفروض ان تكون أداة تبادل أداة سلطان‬ ‫على المتبادلين‪.‬‬ ‫الاستبداد والفساد يستعملان الكلمة والعملة أداتين ليس للتواصل والتبادل بل لاستعباد‬ ‫المتواصلين والمتبادلين‪ .‬وهذان هما الجرمان الأكبران في الإسلام ولا يعلو عليهما في العظم‬ ‫إلا الشرك‪:‬‬ ‫‪ .1‬العملة تصبح ربا وهو ما يحاربه الله‪.‬‬ ‫‪ .2‬والكلمة تصبح عكس الفعل وهي ما يمقته الله أشد مقت‪.‬‬ ‫وقد رمز القرآن لهذين التحريفين للرمزين بالعجل‪ :‬فالعملة الربوية هي معدنه‪.‬‬ ‫والكلمة الخداعية هي خواره‪ .‬العرب اليوم يحكمهم معدن العجل أو العملة الربوية وخوار‬ ‫العجل أو الكلمة الخداعية‪ .‬فلا أداة التبادل عادلة ولا أداة التواصل صادقة‪ .‬وهذان هما‬ ‫المرضان اللذان تلمح لهما ثورة ابن خلدون‪.‬‬ ‫وجدنا ما نستخرجه من فكر ابن خلدون لوضع اسس الخلدونية المحدثة كما وجدنا ما‬ ‫نستخرجه من فكر ابن تيمية لوضع أسس التيمية المحدثة‪ .‬في كلامي على المقدرات الذهنية‬ ‫وضعت هذه الأسس التيمية‪ .‬وفي كلامي على الرمزين وضعت أسس الخلدونية المحدثة‪.‬‬ ‫والأولى مثلها مثل الثانية شرط الاستئناف‪.‬‬ ‫لكن الدولة التي توحد بين هذين الرمزين لا تكتفي بهما بل هي تسيطر إلى الأداتين‬ ‫اللتين تعملان بهما‪ :‬فالتربية تعمل بالكلمة والحكم يعمل العملة‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬الأولى للسيطرة إلى الأرواح‪.‬‬ ‫‪ .2‬والثانية للسيطرة على الأبدان‪.‬‬ ‫فالأولى أصل التموين شرط التكوين الروحي (الثقافي) والثانية شرط التكوين‬ ‫المادي(الاقتصادي)‪ .‬وإذن فالدولة من حيث هو سلطان لها أربع أدوات‪:‬‬ ‫• الثقافة للتموين الروحي في مهام التربية خاصة‪.‬‬ ‫• والاقتصاد للتموين المادي في مهام الحكم خاصة‪.‬‬ ‫• ورمز الأول الكلمة للتواصل‪.‬‬ ‫• ورمز الثاني العملة للتبادل‪.‬‬ ‫وكل تزييف للرمزين تزييف للتموين اللذين يصبحان مغشوشين وأداتي استعباد بدلا‬ ‫من يكونا أداتي تحرير للإنسان كما هي حقيقتهما‪ .‬وعندما أصل ذلك بالآية ‪ 38‬من الشورى‬ ‫اكتشف هذين البعدين برمزين أعمق هما‪:‬‬ ‫‪ .1‬فالآية تبدأ بأولهما أو الاستجابة للرب أو تحرير الإنسان من تحريف التواصل‬ ‫وذلك بالكفر بطاغوتي الوساطة والوصاية للإيمان بالله والاستمساك بالعروة الوثقى‬ ‫فتكون البداية التحرر الروحي والغاية التحرر المادي وبينهما حكم الأمة لنفسها بنفسها‪.‬‬ ‫فالآية تبدأ بالاستجابة إلى الرب وهي أصل التحرر الروحي من الاستجابة لغيره‬ ‫‪ .2‬وتنتهي بثانيهما وهو الإنفاق من الرزق وهو أصل التحرر من سلطان الثروة ومن‬ ‫تحول رمزها من أداة تبادل إلى أداة سلطان على المتبادلين‪ .‬والانفاق من الرزق أبوابه‬ ‫محددة كما في البقرة ‪ .177‬ويتوسط بين البداية والغاية تحديد أمرين هما‪:‬‬ ‫‪ .3‬طبيعة الحكم بالقول إن الأمر هو أمر الجماعة وهو معنى استخلافها بحيث تصبح‬ ‫إرادتها من إرادة الله فتكون هي حاكمة نفسها بنفسها بمقتضى استجابتها لربها‪.‬‬ ‫‪ .4‬وأسلوب الحكم هو الشورى بين الجماعة التي حدد سورة العصر مقوماتها الخمسة‬ ‫أي الوعي بالخسر وشروط الخروج منه أي الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق‬ ‫والتواصي بالصبر‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫‪ .5‬والأصل هو المسلم الذي حرره الإسلام من الوسيط والوصي أي من الطاغوتين‬ ‫بمضمون \"إنما أنت مذكر\" و\"لست عليهم بمسيطر\" لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‬ ‫فرض عين وأصل كل أعمال الأنسان الذي قبل أن يأمر يأتمر وقبل أن ينهى ينتهي‪.‬‬ ‫والوسيط بين المؤمن وربه هو الذي يفسد التربية لأنه ينقلها من \"إنما أنت مذكر \" التي‬ ‫نبه القرآن الرسول الخاتم إليها إلى \"إنما أنت ممل\" على المتعلم ما تراه وكأنك أنت البديل‬ ‫من إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده فيصبح كما يراه المتصوف كالميت يغسله وتلك‬ ‫هي نظرية التربية المنافية لما كلف به الرسول‪ :‬التذكير لا غير‪.‬‬ ‫والوصي على الأمة بينها وبين أمرها يفسد الحكم لأنه ينقلها من \"لست عليهم بمسيطر\"‬ ‫التي نبه إليها الرسول الخاتم إلى أنت المتحكم بأمرها وكأنه أمره بدلا منها فيجعلها خاضعة‬ ‫لسلطانه وبدلا من أن يكون مجرد خادم لها يحولها إلى خادمة له فيكون حاكما إما بزعمه‬ ‫أن ذلك حق إلهي له في الوصاية أو بزعمه أنه هو صاحب الامر بدلا مما تقوله الآية ‪38‬‬ ‫من الشورى التي جعلوها استشارة نصحية من علماء البلاط للمستبد بأمر الأمة‪.‬‬ ‫وعندئذ لن يبقى أحد من الأمة مستجيبا للرب بل يصبح الجميع مستجيبين للمستبد‬ ‫بأمرهم ولن يبقى أحد ينفق من الرزق في أبوابه (البقرة ‪ )177‬بل تصبح الأمة مؤلفة من‬ ‫مستبدين بالمال متحالفين مع مستبدين بالسلطة السياسية ومستبدين بالسلطة الروحية‬ ‫فتصبح الأمة أمة عبيد تحريفا مطلقا للقرآن‪.‬‬ ‫أذكر أني قدمت كتاب لـخاتمي حول الفلسفة السياسية (قبل خروجي من تونس إلى‬ ‫ماليزيا) وفيه ادعى أن ابن خلدون قد ألف كتاب في تبرير الاستبداد السياسي بالمقارنة مع‬ ‫من يعتبرهم أكثر قربا من نظرية التشيع في الحكم فبينت أن الرجل معذور ربما بسبب‬ ‫الخلط بين دوره السياسي ودوره العلمي (درسه في الماجيستر لما كان أستاذا)‪.‬‬ ‫لم يكتب ابن خلدون كتابه ليبرر الاستبداد بل ليحلل علله وأسباب وجوده وذلك من‬ ‫شروط التحرر منه‪ .‬فالطبيب الذي لا يشخص الداء لا يمكنه أن يكتشف الدواء فضلا عن‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫علاجه‪ .‬وكل ما أحاول بيانه لم يكن مضمرا أو خفيا في المقدمة بل كان معلنا وصريحا‬ ‫وواضحا حتى وإن لم يصغ بنظرية متناسقة فلسفيا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫لو كان ابن خلدون قد \"صنع\" هذه المفهومات المتعلقة بوظائف الدولة التي درسناها في‬ ‫الفصول السابقة لتمكن من وضع تصور نسقي لما يقترحه في الكثير من فصول المقدمة من‬ ‫إصلاحات توصل إليها من خلال رؤية الآيات في الآفاق وفي الأنفس كما وعد عندما قل إنه‬ ‫يرفض المصدرين المعلومين في عصره للبحث في السياسة‪.‬‬ ‫فقد وعد بأن ينظر في \"العمران البشري والاجتماع الإنسان\" بمقتضى طبائعهما وما‬ ‫يعرض لهما بهذا المقتضى رافضا منهج الفلاسفة في نظرية المدينة الفاضلة ونظرية الفقهاء‬ ‫في الأحكام السلطانية‪ .‬وقد يظن أن عن المدن الفاضلة يقتصر على أفلاطون والفارابي‬ ‫ويستثني أرسطو كما توهم المرحوم بدوي‪ .‬والمعلوم أنه متسرع كعادته في أحكامه القطعية‬ ‫وغير المؤسسة على عميق نظر فلم ينتبه إلى أن رؤية ابن خلدون كانت النقيض التام‬ ‫للرؤية الأرسطية‪:‬‬ ‫‪ .1‬لا يقبل نموذج قوى النفس الثلاثة للدولة وهو مشترك لأفلاطون وأرسطو‪.‬‬ ‫‪ .2‬ولا يقبل نموذج الأسرة للدولة وهو خاص بأرسطو (وبه يبدأ كتاب السياسة) بل‬ ‫يعكس فيجعل الدولة هي نموذج النفس والأسرة‪.‬‬ ‫فعنده أن النفس والأسرة لا يمكنهما تحقيق وظيفتي الرعاية والحماية من دون إطار‬ ‫يحيط بهما ويؤسسهما ومن ثم فالوظيفتان اللتان لا تتحققان إلا بما يشبه الدولة حتى قبل‬ ‫وجودها هما المحددتان للنفس وللأسرة‪ .‬ومعنى ذلك أننا لا يمكن أن نفهم الظاهرة‬ ‫الإنسانية بالنفس لأنها لا ترد إلى العضوي ولا بالأسرة قبل ما يضيفه التاريخ‪.‬‬ ‫فالقبيلة شبه دولة‪ .‬فهي ليست مجرد علاقة رحم بل هي نظام حكم أيضا أو نظام سلط‬ ‫هي سلط الأسرة الكبرى‪ .‬ولها كل وظائف الدولة أعني الرعاية والحماية حتى وإن كان‬ ‫التخصص الوظيفي ليس شديد التفرع كما يحدث في الدول وهو متوالي التعقيد حتى في‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫الدول‪ :‬وخاصة ما تعلق بالتكوين والتموين في الرعاية وما تعلق بالحماية الداخلية‬ ‫والحماية الخارجية في الحماية‪.‬‬ ‫وقد خصصت لمفهوم \"نحلة العيش\" التي هي المحدد الأول والاخير للنفس والاسرة ولدور‬ ‫الفرد والجماعة وهي تجمع بين الوظيفتين وظيفة الرعاية والتبادل ‪-‬ومنها تبادل النساء‬ ‫لتأسيس الاسر‪-‬والحماية ومنها الأحلاف بين الجماعات وضد بعضها لحماية مصادر الرزق‪.‬‬ ‫ولا يزال الامر كذلك حتى في عصر العولمة‪.‬‬ ‫وذلك يعني أن التاريخي متقدم على العضوي والكلي على الجزئي والجماعي على الفردي‬ ‫والأوسع على الأضيق في الجماعات بسبب الحاجة إلى التعاون على سد الحاجات المادية‬ ‫والروحية رعاية وحماية والانتقال مما يسميه ابن خلدون وضعية شبه حيوانية تعمها‬ ‫العصبيات تفضي للهرج إلى تنظيم الوظيفتين‪ :‬الدولة‪.‬‬ ‫حينها تنشأ الأسرة مؤسسة ذات منزلة قانونية والفرد ذاتا مسؤولة والملكية بوصفها‬ ‫اعتراف الجماعة بحق شروط قيام الأفراد والأسر والجماعات شرطا في التبادل عامة بما في‬ ‫ذلك تبادل النساء وما يسد الحاجات مما تحصل عليه الجماعة بالتعاون صيدا أو غزوا أو‬ ‫رعيا للحيوانات أو بداية الزراعة‪.‬‬ ‫وفي خلال ذلك تنشأ أداة التبادل وأداة التواصل‪ :‬وهذه قبل تلك لأنها هي التي ستجعل‬ ‫التبادل ينتقل من المقايضة إلى الوسيط الرمزي المغني عن المقايضة والمحرر من التبادل‬ ‫العيني ببديل هو التبادل النقدي أو غاية الحرية في التعاون لأن \"المال\" يصبح قائما بذاته‬ ‫وليس متعينا في البضاعة أو الخدمة‪.‬‬ ‫وما توجد لغة التواصل حتى توجد \"لغة\" التبادل لأن الأولى شارطة للثانية‪ :‬ذلك أنه لا‬ ‫بد من التواضع بين المتبادلين على \"شيء\" ما يعتبر \"عملة\" تتعين فيها قيم ما يسد الحاجات‬ ‫المادية كما تتعين معاني ما يسد الحاجات الروحية في \"الكلمة\"‪ .‬وإذا تحقق ذلك تكون‬ ‫شروط الدولة قد تحققت بصورة أبدية‪.‬‬ ‫ذلك أنه يحصل أمران عجيبان‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬يصبح بوسع الجماعة أن تتألف من اجيالها الحية وكذلك من أجيالها الميتة لأن‬ ‫خبرتها وثمرة جهدها تبقى في رمز الثروة (العملة) ورمز التراث (الكلمة)‬ ‫‪ .2‬يصبح بالوسع تقسيم العمل ولا يحتاج كل أحد القيام بكل ما يسد حاجاته بنفسه‪.‬‬ ‫ولما تقصر الذاكرة تكتشف الكتابة‪.‬‬ ‫وهكذا تتكون سلطتان مادية هي السلطة السياسية وروحية هي السلطة الدينية من جنس‬ ‫الدولة الفرعونية والبابلية‪ .‬وكانت السلطة الدينية جامعة بين النظر والعقد أصل كل‬ ‫العلوم والعلاقة بالطبيعة خاصة والعمل والشرع أصل كل الشرائع والعلاقة بالتاريخ‬ ‫خاصة‪ .‬فتتعين كل الوظائف العشر التي ذكرتها‪.‬‬ ‫واعتمادا على هذين السلطتين وضع ابن خلدون نظرية \"الدستور\" بوصفه عقدا بين‬ ‫الحاكم والمحكوم وذكر اشكالا ثلاثة وكان ينبغي أن تكون أربعة مع خامس يجمع بينها‬ ‫ومرحلة متقدمة عليها يسميها الحال الطبيعية التي تقدمت عليها جميعا والتي هي عنده‬ ‫فعلية وليست مجرد فرضية كما في فلسفات القرن ‪ .17‬فابن خلدون يميز بين جنسين من‬ ‫العقد الحكم‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأول مقصور على المصالح الدنيوية ويسميه الحكم العقلي‪ .‬وله مستويان‬ ‫أحدهما لا يراعي إلى مصلحة الحاكم‪.‬‬ ‫‪ .2‬والثاني يجمع بين مصلحة الحاكم ومصلحة المحكوم‪ .‬فيكون الاول فارضا الطاعة‬ ‫على المحكوم بالعنف والثاني حاصلا عليها بما يتحقق للمحكوم من مصلحة‪.‬‬ ‫وفي الثاني يوجد طرف ثالث ويجمع بين المصلحة الدنيوية والمصلحة الأخروية‪ .‬واعتبره‬ ‫ابن خلدون ذا مستوى واحد‪ .‬وهو خطأ لأن الحكم الديني أيضا يمكن أن يكون لصالح‬ ‫الحاكم وحده باسم المصلحة الدينية دون أن يعطي للمحكوم شيئا ويمكن أن يعطيه حقوقه‬ ‫فعلا‪ .‬فيكون هذا أيضا ذا مستويين‪ :‬ديني صادق وديني وكاذب مثلما أن العقلي صادق‬ ‫وكاذب‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫وهذا النوع الثاني عند ابن خلدون هو الأفضل دون أن يعلل المفاضلة‪ .‬والعلة بينة إذا‬ ‫كان من نوعه الثاني بمعنى إذا لم يكن الدين \"أفيونا للشعب\" بل حقيقة فعلية بمعنى أن‬ ‫الحاكم يطبق قيم الدين حقا وليس للإيهام بالخداع الديني‪ .‬والعلة هي أن التعاقد يقتضي‬ ‫أن يكون بين متساويين‪.‬‬ ‫فإذا لم يوجد الطرف الثالث الذي يتساوى لديه الطرفان المتعاقدان كان أحد الطرفين‬ ‫قاضيا ومتقاضيا أو كان هو الذي يفرض شروط العقد فلا يكون عقدا حرا بل مفروضا من‬ ‫قبل الاقوى أي الحاكم‪ .‬العقد السليم هو الذي يكون فيه الحاكم والمكوم سياسيا كلاهما‬ ‫مثل الثاني لدى حاكم الجميع ألله‪.‬‬ ‫وهذا هو العقد السليم كما تحدده الآية ‪ 38‬من الشورى حيث يعرف الجميع بـ\"الذين‬ ‫استجابوا لربهم\" ويكون العقد بينهم بوصفهم هم أصحاب الامر ويديرونه بالشورى في ما‬ ‫بينهم‪ .‬وإذا أنابوا عنهم واحدا منهم كان أجيرا عندهم في تقاسم الأعمال مثل أي واحد‬ ‫منهم في عمله‪ .‬ذلك أن الشورى فرض عين‪.‬‬ ‫وهي بهذه الصفة عين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنيابة فرض كفاية وهي‬ ‫خاضعة لمعيارين حددتها الآية ‪ 58‬من النساء (الحكم شرطه الأمانة والعدل) فيكون النائب‬ ‫الاجير عند الجماعة خاضعا لمراقبتها الدائمة هي توليه لمدة معينة وتعزله إن لم يتحقق‬ ‫فيه الشرطان‪ .‬والشورى ملزمة وليست استشارة بمعنى الاسترشاد برأي الخبراء‪.‬‬ ‫فهي ليست متعلقة بمشورة الخبرة المعرفية بل بمشورة الإرادة العملية‪ .‬وطبعا لا تخلو‬ ‫هذه من تلك لكن هذه تضيف إلى تلك أمرين تخلو منهما‪:‬‬ ‫‪ .1‬فالرأي يتعلق بمصلحة ذاتية للمشارك في الشورى بوصف الامر أمره وليس هو فيه‬ ‫أجير عند صاحبه كما في استشارة الخبير (أمرهم)‪.‬‬ ‫‪ .2‬والقرار يتعلق بالتزام شخصي مبني على تقدير لتلك المصلحة الذاتية التي تحدد‬ ‫مناط الإرادة‪.‬‬ ‫لذلك فالشورى ليست خاصة بالعلماء لأنها من نوعين يخلوان من فعل الأجير‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫فهي بيعة كلية وتتعلق بالإنابة في الحكم لتعيين من يكلف برعاية الشأن العام بمعنى‬ ‫إدارته التي أصبحت فرض كفاية يكون فيها المنوب مثل أي موظف آخر في خدمة الجماعة‬ ‫لأن الحكم بهذا المعنى خدمة تخضع لشرطين هما علة انتخاب النائب‪ :‬الأمانة والعدل‬ ‫(النساء ‪.)38‬‬ ‫وهي بيعة جزئية في كل قضية كبرى تقتضي الشورى في الجماعة أي في أمهات أمر الجماعة‬ ‫حيث يصبح القرار خاضعا لمعيار الديموقراطية المباشرة بالاستفتاء‪ .‬وأهم مشكلة ذكرتها‬ ‫الآية غاية بعد ما بدأت به لبيان من المقصود بالجماعة التي تدير أمرها بالشورى هي قضية‬ ‫المشكل الاقتصادي الاجتماعي في الرعاية وفي الحماية أي الإنفاق من الرزق (البقرة ‪177‬‬ ‫حددته أبوابه بدقة تامة)‪.‬‬ ‫صحيح أن ابن خلدون لم يستعمل كلمة \"عقد\" بالمفرد لكنه استعملها في الجمع فتكلم على‬ ‫العقود وهو ما يعني أنه لا يعني العقائد‪ .‬وقد استعمل العقود في كلامه على ما ذكرت وختم‬ ‫كلامه بالقول إن الحكم الموجود فعلا ليس أيا مما ذكر بمفرده بل هو خليط مخمس مؤلف‬ ‫منها جميعا‪ :‬وضع طبيعي دون عقد مع وضعين فيهما عقد عقلي ووضع فيه عقد ديني‪.‬‬ ‫لكني بينت ان الديني هو بدوره مضاعف مثل العقلي أو الدنيوي الخالص أو بلغتنا‬ ‫الحديثة العلماني‪ .‬فالعلماني نوعان في عرضه والديني مثله ينبغي أن يكون مضاعف ديني‬ ‫حقيقي وديني مزيف والحقيقي من الديني يراعي فعلا شرع الله والحقيقي من العقل‬ ‫يراعي شرع العقل‪.‬‬ ‫المشكل ان العرب لا يزالون في الطبيعي‪ .‬فليس عندهم أي من النظامين العقليين ولا من‬ ‫النظامين الدينيين‪ :‬فهم لا يراعون حتى مصلحتهم لتبعتيهم ولا يكتشف ضرورة مراعاة‬ ‫مصلحة المحكوم ليستمد منه شرعية ويستعمل الدين أفيونا ليبرر تبعيته فضلا عن أن يكون‬ ‫الدين عنده سلطة روحية فوق سلطته‪.‬‬ ‫والأدهى ليس ذلك في عصر ابن خلدون فحسب بل جلهم ما يزالون إلى الآن كذلك‪.‬‬ ‫والدليل الذي يكفي لكل ذي عقل هو دور الرمزين‪ :‬يكفي أن نرى كيف يستعمل رمز الفعل‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫(المال عامة والعملة خاصة) وفعل الرمز الكلمة عامة والأعلام خاصة) حتى تعلم أن كل‬ ‫شيء يرشح استبداد وفسادا وتبعية ونذالة وعمالة‪.‬‬ ‫فمال الجماعة صار ملكا لهم وإعلام الأمة صار أداة بيدهم‪ .‬هو دمى بيد من نصبهم‪.‬‬ ‫ونحن مفروض علينا الاختيار بين العبودية المضاعفة لهم غوافير لسيدهم المستعمر‬ ‫وذراعيه (الملالي والحاخامات) أو آخر الدواء الكي الذي نرى نتائجه في سوريا واليمن‬ ‫وليبيا وقبل ذلك في الجزائر والعراق ومصر إلخ‪...‬‬ ‫وختاما كان يمكن أن أكتفي بـالقول إن ابن خلدون في مجال العمل والشرع مثل ابن تيمية‬ ‫في مجال النظر والعقد لم ينتظرا أحدا لتشخيص أدواء الأمة‪ .‬لكن الإشكال الذي حال‬ ‫دون تأثير ثورتهما هو قضيتي وليس الطابع الثوري بحد ذاته لفكره أو لفكر ابن تيمية‪.‬‬ ‫وعلاجي لهذا المشكل رده إلى أن ما كان مسيطرا من علوم زائفة في الفكر الديني وفي‬ ‫التفكير الفلسفي كان يحول دونـهما ورؤية ما حاولا صوغه‪.‬‬ ‫وقد يكون في استعمالهما الاصطلاح المسيطر ما يعلل عسر رؤية ما يشيران إليه دون‬ ‫الذهاب به إلى ثمراته وخاصة إلى إعطائه النسقية التي تنقله من منطق الحدوس النظرية‬ ‫إلى منطق الأنساق النظرية‪ .‬والأغرب من ذلك أن فكر الرجلين ما مشوها عند كاريكاتوري‬ ‫التأصيل والتحديث‪ .‬وعلة ذلك هي نكوص الفكر الحديث نفسه بعد الهيجلية والماركسية‬ ‫إلى القول بالمطابقة في نظرية المعرفة وفي نظرية القيمة‪.‬‬ ‫فالفلسفة كلها صارت علم كلام بسبب النكوص الهيجلي الذي حقق السيطرة المطلقة على‬ ‫البعد الأول من السياسة أعني الثقافة القائلة بالمنطق الجدلي وبسبب النكوص الماركسي‬ ‫الذي نقله إلى البعد الثاني منها أي الحكم القائل بالمنطق الجدلي فأصبحت الفكر عامة من‬ ‫جنس الفرق الدينية لأن الفلسفة لحقت بالدين في معناه القروسطي‪.‬‬ ‫والعلة أن الفلسفة فقدت علاقتها بالعلوم ولم تدرك ما يترتب على ذلك رغم أن الفلسفة‬ ‫القديمة على الأقل عند أفلاطون وأرسطو كانت مدركة لكونها ما بعد العلم والعمل وليس‬ ‫العلم والعمل‪ .‬لكن النكوص إلى القرون الوسطى جعلها تخلط بين موضوعها وموضوعه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫فالفكر الفلسفي والفكر الديني بعد النكوص إلى القرون الوسطى بسبب هيجل وماركس‬ ‫أصبحا يتصوران أن ما كان مجرد أمثلة في الأرسطية والأفلاطونية هو موضوع الفكر‬ ‫الفلسفي وليس العلم والعمل اللذين يستمد منهما هذه الأمثلة لتوضيح المابعد وليس لدرس‬ ‫الموضوع‪ .‬الفلسفة والدين لا يتكلمان في الأشياء مباشرة بل هما دائما قول ما بعدي‬ ‫موضوعها ليس موضوع العلم والعمل بل العلم والعمل من حيث هما ما بعدان لهما‪.‬‬ ‫ولذلك اعتبرت علماء الملة قد حرفوا القرآن لأنهم قلبوا أمر فصلت ‪ 53‬نهيا وظنوا‬ ‫القرآن مدونة علوم وأعمال وليس ما بعدا رؤيويا يحدد شروط الفاعلية العلمية والعملية‪.‬‬ ‫وما يزال القائلون بالإعجاز العلمي على هذا النهج‪ .‬وقلبوا نهي آل عمران ‪ 7‬أمرا وظنوا‬ ‫كلامهم في المتشابه والغيب ممكنا توهما أن رسوخهم في العلم يعني القدرة على الإحاطة‬ ‫بالغيب وعمموا خطأهم في نظرية المعرفة لأن العلم المحيط المزعوم جعلهم يعتبرون الغيب‬ ‫من جنس الغائب ويمكن قيسه على الشاهد فأصبح عالم الشهادة العالم الوحيد وهو ما سماه‬ ‫ابن خلدون وهم رد الوجود إلى الإدراك‪.‬‬ ‫ونفس الأمر حصل في فكر الحداثة التي تلت هيجل وماركس‪ :‬توهم الرجلان أن فلسفتهما‬ ‫علم أحدهما تصور فلسفته علما محيطيا بالعالم الروحي الذي يرد إليه العالم المادي‬ ‫والثاني عكس فتصور فلسفته علما محيطا بالعالم المادي الذي يرد إليه العالم الروحي‪.‬‬ ‫فأعادا البشرية إلى نفس الرؤية التي ترد الوجود إلى الإدراك بدعوى الإحاطة أو‬ ‫بدعوى أنه لا شيء يتجاوز فكر الإنسان وأن العالم الحقيقي الوحيد هو عالم مدارك‬ ‫الإنسان‪.‬‬ ‫وحتى أيسر فهم المشكل فلأضع المصطلحات التالية‪:‬‬ ‫‪ .1‬أسمي ذاتيا من النظر والعمل ما كان إضافيا لذات إنسانية بمفردها دون اعتبار‬ ‫للاشتراك مع الذوات الأخرى قليلة كانت أو كثيرة‪ .‬وهذا \"حقيقة\" ذاتية مطلقة بمعنى‬ ‫أنه لا أحد يشارك تلك الذات فيها‪ .‬وهذا يخرج عن دائرة العلم والعمل إذ قد يعتبر‬ ‫أحيانا من أوهام صاحبه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬أسمي ذاتيا مشتركا ما يتجاوز الحالة السابقة إلى حالة الاشتراك بين عدة ذوات‬ ‫في نظر أو عمل يجمعون عليهما‪ .‬وكلما كبر عددهم ازداد تصديق النظر والعمل عند غير‬ ‫القائلين بهما‪ .‬وغالبا ما تكون المعرفة التي تستند إلى الخبر من هذا النوع كما في ما يسمى‬ ‫بعلم الحديث والتاريخ عامة رغم أن هذا يزيد عليه الاستناد إلى الوثائق لكن ذلك لا‬ ‫يميزه لأن الوثائق هي شهادات خبرية من معاصرين للحدث‪.‬‬ ‫‪ .3‬يبدأ العلم والعمل في تمثيل ما نسيمه علما وعملا موضوعيا عندما يصبح الثاني‬ ‫حاصلا على اجماع المختصين في مجال من مجالاتهما بصورة تخضع لمعايير منهجية يجمع‬ ‫المختصون في البحث فيهما على أنها تمثل دليلا على \"موضوعية\" العلم والعمل ويعتبرون‬ ‫أهمها معيار الاحتكام إلى الموضوع الذي هو مجال البحث وهو ما يسمى التجربة بأدوات‬ ‫وإجراءات صنعوها بالاستناد إلى علوم وظيفتها الأساسية تقوية الاطلاع على \"الموضوع\"‬ ‫والتأكد من شهادته عند الاحتكام إليه‪.‬‬ ‫‪ .4‬لكن ذلك يمكن أن نقول إنه ذو موضوعية إضافية إلى أجماع بشري‪ .‬وهبنا سلمنا‬ ‫أن ما أجمع عليه أهل الاختصاص في عصر من العصور أو حتى في كل العصور (وهو مستحيل‬ ‫الإثبات) ممثلا للإنسانية كلها فهو يبقى مع ذلك إضافيا إلى الإنسان‪ .‬وهي إذن موضوعية‬ ‫إضافية إلى ما بين الذوات من اشتراك في الإدراك‪ .‬وهذه هي الفرضية التي بنى عليها‬ ‫أرسطو معركته مع السوفسطائية متوهما أن ما يحتج به هؤلاء كان مقصورا على المستوى‬ ‫الأول أو حتى الثاني ومعتبرا أن المستوى الثالث يحقق الموضوعية التي تزيل اعتراضاتهم‬ ‫على نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة‪ .‬لكن اعتراضاتهم فيها من الوجاهة ما لم ينتبه إليه‬ ‫ارسطو ولا أفلاطون حتى وإن كنت لا أعتقد أن السوفسطائين أنفسهم كانوا يشيرون إلى‬ ‫عدم الإحاطة والتسليم مثل ابن خلدون وابن تيمية بأن الوجود أوسع من الإدراك‪.‬‬ ‫‪ .5‬وكان يمكن أن نتصور الموضوعية ذات مستويين إضافي إلى الإجماع الإنساني أو‬ ‫المشترك بين الذوات وهي قابلة للتحقيق رغم كونها تاريخية باعتبار أن أجيال الإنسانية‬ ‫متفاضلة وتقدم وسائل الإدراك يمكن أن يكون لا متناهيا‪ .‬لكن السؤال هو‪ :‬هل توجد‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫موضوعية إضافية إلى ما بين كل الموضوعات أو الموجودات مما يقبل الإدراك الذي قد لا‬ ‫يكون مقصورا على الإدراك الإنساني؟‬ ‫الجواب بنعم يعني تعدد العوالم التي لا يحيط بها إلى مبدعها إن كنا مؤمنين‪.‬‬ ‫وهنا يأتي فرض الغزالي لطور ما وراء العقل تسليما بأن العقل يعبر عن الواحد‬ ‫الإنساني الذي بالإضافة إليه يسمى العلم علما والعمل عملا‪ .‬واستدراك الغزالي هذا على‬ ‫\"موضوعية\" العلم والعمل الإنسانيين نكص عنه لاحقا بوهم الكشف الصوفي وبفلسفة ابن‬ ‫سينا لكن ابن تيمية وابن خلدون حافظا عليه وتجاوزاه‪ .‬وبلغ الأمر ذروته عند كنط عندما‬ ‫وضع المفهوم الحد المطلق وهو مفهوم الشيء في ذاته‪ .‬وهو ما نكص عنه هيجل بالعودة إلى‬ ‫القول بالمطابقة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫لو كان ابن خلدون قد \"صنع\" هذه المفهومات المتعلقة بوظائف الدولة التي درسناها في‬ ‫الفصول السابقة لتمكن من وضع تصور نسقي لما يقترحه في الكثير من فصول المقدمة من‬ ‫إصلاحات توصل إليها من خلال رؤية الآيات في الآفاق وفي الأنفس كما وعد عندما قل إنه‬ ‫يرفض المصدرين المعلومين في عصره للبحث في السياسة‪.‬‬ ‫فقد وعد بأن ينظر في \"العمران البشري والاجتماع الإنسان\" بمقتضى طبائعهما وما‬ ‫يعرض لهما بهذا المقتضى رافضا منهج الفلاسفة في نظرية المدينة الفاضلة ونظرية الفقهاء‬ ‫في الأحكام السلطانية‪ .‬وقد يظن أن عن المدن الفاضلة يقتصر على أفلاطون والفارابي‬ ‫ويستثني أرسطو كما توهم المرحوم بدوي‪ .‬والمعلوم أنه متسرع كعادته في أحكامه القطعية‬ ‫وغير المؤسسة على عميق نظر فلم ينتبه إلى أن رؤية ابن خلدون كانت النقيض التام‬ ‫للرؤية الأرسطية‪:‬‬ ‫‪ .1‬لا يقبل نموذج قوى النفس الثلاثة للدولة وهو مشترك لأفلاطون وأرسطو‪.‬‬ ‫‪ .2‬ولا يقبل نموذج الأسرة للدولة وهو خاص بأرسطو (وبه يبدأ كتاب السياسة) بل‬ ‫يعكس فيجعل الدولة هي نموذج النفس والأسرة‪.‬‬ ‫فعنده أن النفس والأسرة لا يمكنهما تحقيق وظيفتي الرعاية والحماية من دون إطار‬ ‫يحيط بهما ويؤسسهما ومن ثم فالوظيفتان اللتان لا تتحققان إلا بما يشبه الدولة حتى قبل‬ ‫وجودها هما المحددتان للنفس وللأسرة‪ .‬ومعنى ذلك أننا لا يمكن أن نفهم الظاهرة‬ ‫الإنسانية بالنفس لأنها لا ترد إلى العضوي ولا بالأسرة قبل ما يضيفه التاريخ‪.‬‬ ‫فالقبيلة شبه دولة‪ .‬فهي ليست مجرد علاقة رحم بل هي نظام حكم أيضا أو نظام سلط‬ ‫هي سلط الأسرة الكبرى‪ .‬ولها كل وظائف الدولة أعني الرعاية والحماية حتى وإن كان‬ ‫التخصص الوظيفي ليس شديد التفرع كما يحدث في الدول وهو متوالي التعقيد حتى في‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫الدول‪ :‬وخاصة ما تعلق بالتكوين والتموين في الرعاية وما تعلق بالحماية الداخلية‬ ‫والحماية الخارجية في الحماية‪.‬‬ ‫وقد خصصت لمفهوم \"نحلة العيش\" التي هي المحدد الأول والاخير للنفس والاسرة ولدور‬ ‫الفرد والجماعة وهي تجمع بين الوظيفتين وظيفة الرعاية والتبادل ‪-‬ومنها تبادل النساء‬ ‫لتأسيس الاسر‪-‬والحماية ومنها الأحلاف بين الجماعات وضد بعضها لحماية مصادر الرزق‪.‬‬ ‫ولا يزال الامر كذلك حتى في عصر العولمة‪.‬‬ ‫وذلك يعني أن التاريخي متقدم على العضوي والكلي على الجزئي والجماعي على الفردي‬ ‫والأوسع على الأضيق في الجماعات بسبب الحاجة إلى التعاون على سد الحاجات المادية‬ ‫والروحية رعاية وحماية والانتقال مما يسميه ابن خلدون وضعية شبه حيوانية تعمها‬ ‫العصبيات تفضي للهرج إلى تنظيم الوظيفتين‪ :‬الدولة‪.‬‬ ‫حينها تنشأ الأسرة مؤسسة ذات منزلة قانونية والفرد ذاتا مسؤولة والملكية بوصفها‬ ‫اعتراف الجماعة بحق شروط قيام الأفراد والأسر والجماعات شرطا في التبادل عامة بما في‬ ‫ذلك تبادل النساء وما يسد الحاجات مما تحصل عليه الجماعة بالتعاون صيدا أو غزوا أو‬ ‫رعيا للحيوانات أو بداية الزراعة‪.‬‬ ‫وفي خلال ذلك تنشأ أداة التبادل وأداة التواصل‪ :‬وهذه قبل تلك لأنها هي التي ستجعل‬ ‫التبادل ينتقل من المقايضة إلى الوسيط الرمزي المغني عن المقايضة والمحرر من التبادل‬ ‫العيني ببديل هو التبادل النقدي أو غاية الحرية في التعاون لأن \"المال\" يصبح قائما بذاته‬ ‫وليس متعينا في البضاعة أو الخدمة‪.‬‬ ‫وما توجد لغة التواصل حتى توجد \"لغة\" التبادل لأن الأولى شارطة للثانية‪ :‬ذلك أنه لا‬ ‫بد من التواضع بين المتبادلين على \"شيء\" ما يعتبر \"عملة\" تتعين فيها قيم ما يسد الحاجات‬ ‫المادية كما تتعين معاني ما يسد الحاجات الروحية في \"الكلمة\"‪ .‬وإذا تحقق ذلك تكون‬ ‫شروط الدولة قد تحققت بصورة أبدية‪.‬‬ ‫ذلك أنه يحصل أمران عجيبان‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬يصبح بوسع الجماعة أن تتألف من اجيالها الحية وكذلك من أجيالها الميتة لأن‬ ‫خبرتها وثمرة جهدها تبقى في رمز الثروة (العملة) ورمز التراث (الكلمة)‬ ‫‪ .2‬يصبح بالوسع تقسيم العمل ولا يحتاج كل أحد القيام بكل ما يسد حاجاته بنفسه‪.‬‬ ‫ولما تقصر الذاكرة تكتشف الكتابة‪.‬‬ ‫وهكذا تتكون سلطتان مادية هي السلطة السياسية وروحية هي السلطة الدينية من جنس‬ ‫الدولة الفرعونية والبابلية‪ .‬وكانت السلطة الدينية جامعة بين النظر والعقد أصل كل‬ ‫العلوم والعلاقة بالطبيعة خاصة والعمل والشرع أصل كل الشرائع والعلاقة بالتاريخ‬ ‫خاصة‪ .‬فتتعين كل الوظائف العشر التي ذكرتها‪.‬‬ ‫واعتمادا على هذين السلطتين وضع ابن خلدون نظرية \"الدستور\" بوصفه عقدا بين‬ ‫الحاكم والمحكوم وذكر اشكالا ثلاثة وكان ينبغي أن تكون أربعة مع خامس يجمع بينها‬ ‫ومرحلة متقدمة عليها يسميها الحال الطبيعية التي تقدمت عليها جميعا والتي هي عنده‬ ‫فعلية وليست مجرد فرضية كما في فلسفات القرن ‪ .17‬فابن خلدون يميز بين جنسين من‬ ‫العقد الحكم‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأول مقصور على المصالح الدنيوية ويسميه الحكم العقلي‪ .‬وله مستويان‬ ‫أحدهما لا يراعي إلى مصلحة الحاكم‪.‬‬ ‫‪ .2‬والثاني يجمع بين مصلحة الحاكم ومصلحة المحكوم‪ .‬فيكون الاول فارضا الطاعة‬ ‫على المحكوم بالعنف والثاني حاصلا عليها بما يتحقق للمحكوم من مصلحة‪.‬‬ ‫وفي الثاني يوجد طرف ثالث ويجمع بين المصلحة الدنيوية والمصلحة الأخروية‪ .‬واعتبره‬ ‫ابن خلدون ذا مستوى واحد‪ .‬وهو خطأ لأن الحكم الديني أيضا يمكن أن يكون لصالح‬ ‫الحاكم وحده باسم المصلحة الدينية دون أن يعطي للمحكوم شيئا ويمكن أن يعطيه حقوقه‬ ‫فعلا‪ .‬فيكون هذا أيضا ذا مستويين‪ :‬ديني صادق وديني وكاذب مثلما أن العقلي صادق‬ ‫وكاذب‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫وهذا النوع الثاني عند ابن خلدون هو الأفضل دون أن يعلل المفاضلة‪ .‬والعلة بينة إذا‬ ‫كان من نوعه الثاني بمعنى إذا لم يكن الدين \"أفيونا للشعب\" بل حقيقة فعلية بمعنى أن‬ ‫الحاكم يطبق قيم الدين حقا وليس للإيهام بالخداع الديني‪ .‬والعلة هي أن التعاقد يقتضي‬ ‫أن يكون بين متساويين‪.‬‬ ‫فإذا لم يوجد الطرف الثالث الذي يتساوى لديه الطرفان المتعاقدان كان أحد الطرفين‬ ‫قاضيا ومتقاضيا أو كان هو الذي يفرض شروط العقد فلا يكون عقدا حرا بل مفروضا من‬ ‫قبل الاقوى أي الحاكم‪ .‬العقد السليم هو الذي يكون فيه الحاكم والمكوم سياسيا كلاهما‬ ‫مثل الثاني لدى حاكم الجميع ألله‪.‬‬ ‫وهذا هو العقد السليم كما تحدده الآية ‪ 38‬من الشورى حيث يعرف الجميع بـ\"الذين‬ ‫استجابوا لربهم\" ويكون العقد بينهم بوصفهم هم أصحاب الامر ويديرونه بالشورى في ما‬ ‫بينهم‪ .‬وإذا أنابوا عنهم واحدا منهم كان أجيرا عندهم في تقاسم الأعمال مثل أي واحد‬ ‫منهم في عمله‪ .‬ذلك أن الشورى فرض عين‪.‬‬ ‫وهي بهذه الصفة عين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنيابة فرض كفاية وهي‬ ‫خاضعة لمعيارين حددتها الآية ‪ 58‬من النساء (الحكم شرطه الأمانة والعدل) فيكون النائب‬ ‫الاجير عند الجماعة خاضعا لمراقبتها الدائمة هي توليه لمدة معينة وتعزله إن لم يتحقق‬ ‫فيه الشرطان‪ .‬والشورى ملزمة وليست استشارة بمعنى الاسترشاد برأي الخبراء‪.‬‬ ‫فهي ليست متعلقة بمشورة الخبرة المعرفية بل بمشورة الإرادة العملية‪ .‬وطبعا لا تخلو‬ ‫هذه من تلك لكن هذه تضيف إلى تلك أمرين تخلو منهما‪:‬‬ ‫‪ .1‬فالرأي يتعلق بمصلحة ذاتية للمشارك في الشورى بوصف الامر أمره وليس هو فيه‬ ‫أجير عند صاحبه كما في استشارة الخبير (أمرهم)‪.‬‬ ‫‪ .2‬والقرار يتعلق بالتزام شخصي مبني على تقدير لتلك المصلحة الذاتية التي تحدد‬ ‫مناط الإرادة‪.‬‬ ‫لذلك فالشورى ليست خاصة بالعلماء لأنها من نوعين يخلوان من فعل الأجير‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫فهي بيعة كلية وتتعلق بالإنابة في الحكم لتعيين من يكلف برعاية الشأن العام بمعنى‬ ‫إدارته التي أصبحت فرض كفاية يكون فيها المنوب مثل أي موظف آخر في خدمة الجماعة‬ ‫لأن الحكم بهذا المعنى خدمة تخضع لشرطين هما علة انتخاب النائب‪ :‬الأمانة والعدل‬ ‫(النساء ‪.)38‬‬ ‫وهي بيعة جزئية في كل قضية كبرى تقتضي الشورى في الجماعة أي في أمهات أمر الجماعة‬ ‫حيث يصبح القرار خاضعا لمعيار الديموقراطية المباشرة بالاستفتاء‪ .‬وأهم مشكلة ذكرتها‬ ‫الآية غاية بعد ما بدأت به لبيان من المقصود بالجماعة التي تدير أمرها بالشورى هي قضية‬ ‫المشكل الاقتصادي الاجتماعي في الرعاية وفي الحماية أي الإنفاق من الرزق (البقرة ‪177‬‬ ‫حددته أبوابه بدقة تامة)‪.‬‬ ‫صحيح أن ابن خلدون لم يستعمل كلمة \"عقد\" بالمفرد لكنه استعملها في الجمع فتكلم على‬ ‫العقود وهو ما يعني أنه لا يعني العقائد‪ .‬وقد استعمل العقود في كلامه على ما ذكرت وختم‬ ‫كلامه بالقول إن الحكم الموجود فعلا ليس أيا مما ذكر بمفرده بل هو خليط مخمس مؤلف‬ ‫منها جميعا‪ :‬وضع طبيعي دون عقد مع وضعين فيهما عقد عقلي ووضع فيه عقد ديني‪.‬‬ ‫لكني بينت ان الديني هو بدوره مضاعف مثل العقلي أو الدنيوي الخالص أو بلغتنا‬ ‫الحديثة العلماني‪ .‬فالعلماني نوعان في عرضه والديني مثله ينبغي أن يكون مضاعف ديني‬ ‫حقيقي وديني مزيف والحقيقي من الديني يراعي فعلا شرع الله والحقيقي من العقل‬ ‫يراعي شرع العقل‪.‬‬ ‫المشكل ان العرب لا يزالون في الطبيعي‪ .‬فليس عندهم أي من النظامين العقليين ولا من‬ ‫النظامين الدينيين‪ :‬فهم لا يراعون حتى مصلحتهم لتبعتيهم ولا يكتشف ضرورة مراعاة‬ ‫مصلحة المحكوم ليستمد منه شرعية ويستعمل الدين أفيونا ليبرر تبعيته فضلا عن أن يكون‬ ‫الدين عنده سلطة روحية فوق سلطته‪.‬‬ ‫والأدهى ليس ذلك في عصر ابن خلدون فحسب بل جلهم ما يزالون إلى الآن كذلك‪.‬‬ ‫والدليل الذي يكفي لكل ذي عقل هو دور الرمزين‪ :‬يكفي أن نرى كيف يستعمل رمز الفعل‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫(المال عامة والعملة خاصة) وفعل الرمز الكلمة عامة والأعلام خاصة) حتى تعلم أن كل‬ ‫شيء يرشح استبداد وفسادا وتبعية ونذالة وعمالة‪.‬‬ ‫فمال الجماعة صار ملكا لهم وإعلام الأمة صار أداة بيدهم‪ .‬هو دمى بيد من نصبهم‪.‬‬ ‫ونحن مفروض علينا الاختيار بين العبودية المضاعفة لهم غوافير لسيدهم المستعمر‬ ‫وذراعيه (الملالي والحاخامات) أو آخر الدواء الكي الذي نرى نتائجه في سوريا واليمن‬ ‫وليبيا وقبل ذلك في الجزائر والعراق ومصر إلخ‪...‬‬ ‫وختاما كان يمكن أن أكتفي بـالقول إن ابن خلدون في مجال العمل والشرع مثل ابن تيمية‬ ‫في مجال النظر والعقد لم ينتظرا أحدا لتشخيص أدواء الأمة‪ .‬لكن الإشكال الذي حال‬ ‫دون تأثير ثورتهما هو قضيتي وليس الطابع الثوري بحد ذاته لفكره أو لفكر ابن تيمية‪.‬‬ ‫وعلاجي لهذا المشكل رده إلى أن ما كان مسيطرا من علوم زائفة في الفكر الديني وفي‬ ‫التفكير الفلسفي كان يحول دونـهما ورؤية ما حاولا صوغه‪.‬‬ ‫وقد يكون في استعمالهما الاصطلاح المسيطر ما يعلل عسر رؤية ما يشيران إليه دون‬ ‫الذهاب به إلى ثمراته وخاصة إلى إعطائه النسقية التي تنقله من منطق الحدوس النظرية‬ ‫إلى منطق الأنساق النظرية‪ .‬والأغرب من ذلك أن فكر الرجلين ما مشوها عند كاريكاتوري‬ ‫التأصيل والتحديث‪ .‬وعلة ذلك هي نكوص الفكر الحديث نفسه بعد الهيجلية والماركسية‬ ‫إلى القول بالمطابقة في نظرية المعرفة وفي نظرية القيمة‪.‬‬ ‫فالفلسفة كلها صارت علم كلام بسبب النكوص الهيجلي الذي حقق السيطرة المطلقة على‬ ‫البعد الأول من السياسة أعني الثقافة القائلة بالمنطق الجدلي وبسبب النكوص الماركسي‬ ‫الذي نقله إلى البعد الثاني منها أي الحكم القائل بالمنطق الجدلي فأصبحت الفكر عامة من‬ ‫جنس الفرق الدينية لأن الفلسفة لحقت بالدين في معناه القروسطي‪.‬‬ ‫والعلة أن الفلسفة فقدت علاقتها بالعلوم ولم تدرك ما يترتب على ذلك رغم أن الفلسفة‬ ‫القديمة على الأقل عند أفلاطون وأرسطو كانت مدركة لكونها ما بعد العلم والعمل وليس‬ ‫العلم والعمل‪ .‬لكن النكوص إلى القرون الوسطى جعلها تخلط بين موضوعها وموضوعه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫فالفكر الفلسفي والفكر الديني بعد النكوص إلى القرون الوسطى بسبب هيجل وماركس‬ ‫أصبحا يتصوران أن ما كان مجرد أمثلة في الأرسطية والأفلاطونية هو موضوع الفكر‬ ‫الفلسفي وليس العلم والعمل اللذين يستمد منهما هذه الأمثلة لتوضيح المابعد وليس لدرس‬ ‫الموضوع‪ .‬الفلسفة والدين لا يتكلمان في الأشياء مباشرة بل هما دائما قول ما بعدي‬ ‫موضوعها ليس موضوع العلم والعمل بل العلم والعمل من حيث هما ما بعدان لهما‪.‬‬ ‫ولذلك اعتبرت علماء الملة قد حرفوا القرآن لأنهم قلبوا أمر فصلت ‪ 53‬نهيا وظنوا‬ ‫القرآن مدونة علوم وأعمال وليس ما بعدا رؤيويا يحدد شروط الفاعلية العلمية والعملية‪.‬‬ ‫وما يزال القائلون بالإعجاز العلمي على هذا النهج‪ .‬وقلبوا نهي آل عمران ‪ 7‬أمرا وظنوا‬ ‫كلامهم في المتشابه والغيب ممكنا توهما أن رسوخهم في العلم يعني القدرة على الإحاطة‬ ‫بالغيب وعمموا خطأهم في نظرية المعرفة لأن العلم المحيط المزعوم جعلهم يعتبرون الغيب‬ ‫من جنس الغائب ويمكن قيسه على الشاهد فأصبح عالم الشهادة العالم الوحيد وهو ما سماه‬ ‫ابن خلدون وهم رد الوجود إلى الإدراك‪.‬‬ ‫ونفس الأمر حصل في فكر الحداثة التي تلت هيجل وماركس‪ :‬توهم الرجلان أن فلسفتهما‬ ‫علم أحدهما تصور فلسفته علما محيطيا بالعالم الروحي الذي يرد إليه العالم المادي‬ ‫والثاني عكس فتصور فلسفته علما محيطا بالعالم المادي الذي يرد إليه العالم الروحي‪.‬‬ ‫فأعادا البشرية إلى نفس الرؤية التي ترد الوجود إلى الإدراك بدعوى الإحاطة أو‬ ‫بدعوى أنه لا شيء يتجاوز فكر الإنسان وأن العالم الحقيقي الوحيد هو عالم مدارك‬ ‫الإنسان‪.‬‬ ‫وحتى أيسر فهم المشكل فلأضع المصطلحات التالية‪:‬‬ ‫‪ .1‬أسمي ذاتيا من النظر والعمل ما كان إضافيا لذات إنسانية بمفردها دون اعتبار‬ ‫للاشتراك مع الذوات الأخرى قليلة كانت أو كثيرة‪ .‬وهذا \"حقيقة\" ذاتية مطلقة بمعنى‬ ‫أنه لا أحد يشارك تلك الذات فيها‪ .‬وهذا يخرج عن دائرة العلم والعمل إذ قد يعتبر‬ ‫أحيانا من أوهام صاحبه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬أسمي ذاتيا مشتركا ما يتجاوز الحالة السابقة إلى حالة الاشتراك بين عدة ذوات‬ ‫في نظر أو عمل يجمعون عليهما‪ .‬وكلما كبر عددهم ازداد تصديق النظر والعمل عند غير‬ ‫القائلين بهما‪ .‬وغالبا ما تكون المعرفة التي تستند إلى الخبر من هذا النوع كما في ما يسمى‬ ‫بعلم الحديث والتاريخ عامة رغم أن هذا يزيد عليه الاستناد إلى الوثائق لكن ذلك لا‬ ‫يميزه لأن الوثائق هي شهادات خبرية من معاصرين للحدث‪.‬‬ ‫‪ .3‬يبدأ العلم والعمل في تمثيل ما نسيمه علما وعملا موضوعيا عندما يصبح الثاني‬ ‫حاصلا على اجماع المختصين في مجال من مجالاتهما بصورة تخضع لمعايير منهجية يجمع‬ ‫المختصون في البحث فيهما على أنها تمثل دليلا على \"موضوعية\" العلم والعمل ويعتبرون‬ ‫أهمها معيار الاحتكام إلى الموضوع الذي هو مجال البحث وهو ما يسمى التجربة بأدوات‬ ‫وإجراءات صنعوها بالاستناد إلى علوم وظيفتها الأساسية تقوية الاطلاع على \"الموضوع\"‬ ‫والتأكد من شهادته عند الاحتكام إليه‪.‬‬ ‫‪ .4‬لكن ذلك يمكن أن نقول إنه ذو موضوعية إضافية إلى أجماع بشري‪ .‬وهبنا سلمنا‬ ‫أن ما أجمع عليه أهل الاختصاص في عصر من العصور أو حتى في كل العصور (وهو مستحيل‬ ‫الإثبات) ممثلا للإنسانية كلها فهو يبقى مع ذلك إضافيا إلى الإنسان‪ .‬وهي إذن موضوعية‬ ‫إضافية إلى ما بين الذوات من اشتراك في الإدراك‪ .‬وهذه هي الفرضية التي بنى عليها‬ ‫أرسطو معركته مع السوفسطائية متوهما أن ما يحتج به هؤلاء كان مقصورا على المستوى‬ ‫الأول أو حتى الثاني ومعتبرا أن المستوى الثالث يحقق الموضوعية التي تزيل اعتراضاتهم‬ ‫على نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة‪ .‬لكن اعتراضاتهم فيها من الوجاهة ما لم ينتبه إليه‬ ‫ارسطو ولا أفلاطون حتى وإن كنت لا أعتقد أن السوفسطائين أنفسهم كانوا يشيرون إلى‬ ‫عدم الإحاطة والتسليم مثل ابن خلدون وابن تيمية بأن الوجود أوسع من الإدراك‪.‬‬ ‫‪ .5‬وكان يمكن أن نتصور الموضوعية ذات مستويين إضافي إلى الإجماع الإنساني أو‬ ‫المشترك بين الذوات وهي قابلة للتحقيق رغم كونها تاريخية باعتبار أن أجيال الإنسانية‬ ‫متفاضلة وتقدم وسائل الإدراك يمكن أن يكون لا متناهيا‪ .‬لكن السؤال هو‪ :‬هل توجد‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫موضوعية إضافية إلى ما بين كل الموضوعات أو الموجودات مما يقبل الإدراك الذي قد لا‬ ‫يكون مقصورا على الإدراك الإنساني؟‬ ‫الجواب بنعم يعني تعدد العوالم التي لا يحيط بها إلى مبدعها إن كنا مؤمنين‪.‬‬ ‫وهنا يأتي فرض الغزالي لطور ما وراء العقل تسليما بأن العقل يعبر عن الواحد‬ ‫الإنساني الذي بالإضافة إليه يسمى العلم علما والعمل عملا‪ .‬واستدراك الغزالي هذا على‬ ‫\"موضوعية\" العلم والعمل الإنسانيين نكص عنه لاحقا بوهم الكشف الصوفي وبفلسفة ابن‬ ‫سينا لكن ابن تيمية وابن خلدون حافظا عليه وتجاوزاه‪ .‬وبلغ الأمر ذروته عند كنط عندما‬ ‫وضع المفهوم الحد المطلق وهو مفهوم الشيء في ذاته‪ .‬وهو ما نكص عنه هيجل بالعودة إلى‬ ‫القول بالمطابقة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫لكن هذه العودة إلى سيطرة الرمز المطلقة على الوجود الإنساني تمر برمز الرموز‬ ‫الدولة‪ .‬فالدولة هي بدورها ذات معنوية هي نظام المؤسسات التي من دونها لا يعمل‬ ‫الرمزان إذ حتى في غيابهما فهما يمثلان ذارعين لما هو مضمر فيهما حضورا لها حتى في‬ ‫غيابها لأنهما شرطا التبادل والتواصل في الجماعة‪.‬‬ ‫لذلك ففعل الرمز أو الكلمة هي أداة التواصل وخاصة التواصل المتعلق بفني المائدة‬ ‫والسرير أي بما يصبحهما من حضور للمخيال في \"الواقع\" الفني فيهما ورمز الفعل هي أداة‬ ‫التبادل وخاصة المتعلق بالمائدة والسرير أي بما فيهما من مادة الغذاء والجنس كقابلية‬ ‫للحصول عليهما وليس بالضرورة كحصول فعلي‪.‬‬ ‫والدولة من حيث هي ذات معنوية يمكن أن تكون محايدة في فاعلية الرمزين لكن الذات‬ ‫المعنوية لا تفعل بذاتها بل بمن تتعين فيهم الذات المعنوية بوصفهم القيمين عليها والناقلين‬ ‫إياها من ذات معنوية مجردة لا توجد إلا في الأذهان وفي المؤسسات كخانات شاغرة ذات شبه‬ ‫طبيعية متعينة فيهم‪.‬‬ ‫وكلهم لهم ما يشبه قولة لويس الرابع عشر‪ :‬الدولة هي أنا‪ .‬فالقيمون على الدولة من‬ ‫حيث الطبيعة هم ممثلو إرادة الجماعة التي عينتهم للقيام بوظائفها في نظام توزيع العمل‬ ‫الناقل لفرض العين إلى فرض الكفاية‪ .‬لكن المكلف كفاية ينوب من كلفه عينا‪ .‬وكلما تخلى‬ ‫العيني عن دوره للكفائي كثر التحريف‪.‬‬ ‫لأن القيم بالكفاية بديلا من القيم بالعين يجمع كل السلطة بين يديه في غياب الرقابة‬ ‫العينية لأن الرقابة الكفائية تضعنا أمام نفس التحريف‪ .‬وبذلك تنقلب العلاقة فيصبح‬ ‫صاحب الدور الكفائي وكأنه هو صاحب السلطة في حين السلطة الفعلية كان ينبغي أن تكون‬ ‫لصاحب الدور العيني‪ :‬دور الوسطاء‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪35‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫ومفهوم الدولة الحاضنة التي سيطرت على العرب إما بالمعنى القبلي أو بالمعنى العسكري‬ ‫يمثل أقصى ما يمكن أن تتعين فيه هذه الأمراض التي تجعل الإنسان يفقد تماما كل سلطان‬ ‫على أمره ويصبح تابعا لمن يسيطر على المائدة والسرير أو بصورة أدق عليهما وعلى رمزيهما‬ ‫أصلا لكل استبداد وفساد‪.‬‬ ‫وهذا الأمر هو في الحقيقة من خصائص الدولة الحديثة عامة بعد أن سيطرت على الدور‬ ‫الذي كان تابعا للمجمع الأهلي ممثلا بالأوقاف سواء كان ذات هيئة كنسية كما في‬ ‫الكاثوليكية أو في التشيع أو بدونها كما لدى السنة ثم بسبب الماركسية سيطرت أيضا على‬ ‫بقية دورها في الإنتاجين الاقتصادي والثقافي‪.‬‬ ‫والدولة الماركسية نكوص إلى الدولة الفرعونية‪ :‬الحزب هو الأسرة الحاكمة وهي حاكمة‬ ‫في الثروة والتراث وكلاهما يؤله الطبيعة ولا شيء غيرها‪ .‬ودعوى تحقيق شروط حرية‬ ‫الإنسان وكرامته في الماركسية هي اكبر كذبة عرفها التاريخ وهي الوحيدة التي تخلو منها‬ ‫الدولة الماركسية حتى وإن كانت قصة يوسف كما وردت في القرآن سعت إلى هذا المعنى‬ ‫لتحرر الإنسان من الحل الفرعوني ومن التحريف التوراتي‪.‬‬ ‫لذلك فالقصة التي تناسب الماركسية هي القصة والواردة في التوراة‪ .‬ذلك أن ما كان‬ ‫اضطهاد دون عبودية في النظام الفرعوني لأن المصريين قبل يوسف التوراتي كانوا يملكون‬ ‫أرضهم صار في النظام الماركسي اضطهادا مع عبودية إذ أصبح المصريون أقنانا عند‬ ‫الفرعون الذي طبق نصيحته فخزن صابة السنوات السمان للعجاب وقايض المصريين‬ ‫ملكيتهم بمعاشهم‪.‬‬ ‫ولم يبق متحررا بعض الشيء من ذلك إلا المجتمعات الليبرالية شبه المطلقة حيث يكاد‬ ‫دور الدولة في الإنتاج الاقتصادي والثقافي يقرب من الصفر وإن كان يتدخل بصورة غير‬ ‫مباشرة من خلال تصرفه كحريف يتعامل مع القطاع الخاص بصفات عامة تشجع ما يماشي‬ ‫إرادة \"الدولة\"‪ .‬فتكون النتيجة واحدة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪36‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫ذلك ان عدم المباشرة لتدخل الدولة تقلل من السلطان المباشر لكنه يبقى مع ذلك سلطان‬ ‫بيد من يسيطرون بتوسطها وهم نفس الوسطاء والتجار الذين يستغلون المنتجين والمستهلكين‬ ‫في آن‪ .‬وليسوا هم بالضرورة أصحاب رأس المال كما قد يتوهم الكثير‪ .‬فهم يستغلون عناصر‬ ‫الإنتاج الخمسة وهم غيرهم‪ .‬فعملية الإنتاج اقتصاديا كان أو ثقافيا تتألف من‪:‬‬ ‫‪ .1‬الفكرة‪.‬‬ ‫‪ .2‬والاستثمار‪.‬‬ ‫‪ .3‬والتمويل‪.‬‬ ‫‪ .4‬والعمل المحقق للبضاعة أو الخدمة السادة للحاجة اقتصادية كانت أو ثقافية‪.‬‬ ‫‪ .5‬والاستهلاك‪.‬‬ ‫وفي كل واحدة من هذه تجد الوسطاء الذين هم غير هؤلاء والذين يشبهون الكائنات‬ ‫التي تعيش بالتطفل على غيرها‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن الظاهرة تشبه ما يجري في الظاهرة الحية‪ :‬الجراثيم والفيروسات تعيش‬ ‫بالتطفل على الأبدان وهي لا تنتج شيئا في أي من المقومات الخمس في العملية الإنتاجية‬ ‫عدا استهلاك ما ينتجه غيرها وهو معنى التطفل‪ .‬لكنها ضرورية لأنها من جنس الوسائط‬ ‫بين هذه العناصر المقومة‪ .‬لا أريد أن أثقل على القارئ فأورد نصوص ابن خلدون فضلا‬ ‫عن كونها في المتناول ويكفي الإشارة إليها‪ .‬فهو يفسر الظاهرة من مستوييها بحدين من‬ ‫سلطانيهما‪:‬‬ ‫‪ .1‬الحد الأول من سلطان الدولة التي تتغول فتصبح مشاركة في الإنتاجين بدور‬ ‫الوسيط المتطفل بهذا المعنى وطبعا ليس الدولة من حيث هي ذات معنوية بل القيمون عليها‬ ‫يتدخلون باسمها‪.‬‬ ‫‪ .2‬والحد الثاني من سلطان الجماعة التي تكثر من هذه الوسائط تبعا للترف الذي‬ ‫يكثر من الخدمات التي تصبح اختصاصات يتكفل بها خدم وحشم قبل تحرير العبيد ‪-‬تحرير‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪37‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫وهمي‪-‬لأن الفرق الوحيد أنهم كانوا تابعين عينيا وصاروا تابعين بتوسط الرمزين أي‬ ‫أجراء بمقابل العملة والكلمة بدلا من المقابل العيني‪.‬‬ ‫ونصوص ابن خلدون في الوجهين كثيرة وسأكتفي بالإشارة إلى نصين‪ :‬فمن تدخلات‬ ‫الدولة أعني القيمين عليها باسمها تجارتها وضرائبها وأتاواتها وهو يعتبر ذلك من علل‬ ‫فساد العمران لأنهما تقتلان الأمل على الخواص وتحولان دون التنافس الحر بسبب اعتماد‬ ‫القيمين على الدولة على سلطتها الاحتكارية‪.‬‬ ‫وسأقول شيئا سيعجب منه الكثير‪ :‬يبدو وكأن ما يجري في فرنسا حاليا محاكيا لما جرى في‬ ‫الربيع العربي‪ .‬لكنه في الحقيقة عكسه تماما‪ .‬فالربيع العربي يرد المزيد من الدولة‪ .‬وهم‬ ‫يريدون الحد من الدولة‪ .‬لذلك فهم أقرب إلى الإسلام من الربيع العربي وهم أفهم لابن‬ ‫خلدون من كل العرب والكرب‪.‬‬ ‫ولعلي أغامر‪-‬كالعادة‪-‬فأقول إن شباب فرنسا يمكن أن يحدث ثورة عالمية شبيهة بثورة‬ ‫فرنسا في نهاية القرن الثامن عشر‪ .‬هاهم يعيدون ما اعتبره هيجل شبيها بثورة الإسلام‬ ‫من حيث المناداة بالأخوة الإنسانية والمساواة والعدالة ‪-‬وتلك علة الإرهاب الثوري فيهما‬ ‫معا‪ :‬هم الآن يريدون معنى الشورى ‪.38‬‬ ‫أما الربيع العربي فيريد العكس تماما‪ :‬يريد دولة حاضنة أي العبودية الحديثة بالمعنى‬ ‫الماركسي للكلمة وفيها تقاسم الكفاف وفي نفس الوقت الحريات والبحبوحة التي يحلمون بها‬ ‫باعتبارها النموذج الأمريكي ولا يرون أن هذا النموذج مستحيل في دولة حاضنة‪ :‬لابد أن‬ ‫تكون الجماعة صاحبة شروط قيامها‪.‬‬ ‫النموذج الأمريكي أو الليبرالية المطلقة ‪-‬في الحكم والاقتصاد وليس في القيم الخلقية‬ ‫والدينية‪-‬هو الصورة الأقرب للرؤية الخلدونية وهي بنحو ما قريبة من رؤية الإسلام‬ ‫بشرط ألا ننسى وجهها الثاني الوارد في الآية ‪ 38‬من الشورى‪ :‬الإنفاق من الرزق أو البعد‬ ‫التضامني الاجتماعي مع الليبرالية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪38‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫وهذا البعد التضامني الاجتماعي هو الذي ينقص النموذج الامريكي ولو توفر فيه ذلك‬ ‫لكان نسخة مطابقة للأصل من الرؤية الخلدونية حيت لا يكون للدولة إلا وظيفة الحماية‬ ‫تحقيقا وتطبيقا والاقتصار على مراقبة وظيفة الرعاية وتوفير الشروط القاعدية لقيام‬ ‫الجماعة بها بنفسها شرد سيادتها على الدولة‪ .‬والشروط القاعدية نوعان مادية وقانونية‪:‬‬ ‫‪ .1‬ما يسمى بالقاعدة المادية أي شروط المواصلات والاتصالات ويمكن أن نصفها‬ ‫بكونها الشرط الأول لكل تنمية وهي مسؤولية الجماعة إما مباشرة عن طريق الدولة أو‬ ‫بصورة غير مباشرة عن طريق الجماعات المحلية إذا كانت السلطة موزعة عليها‪.‬‬ ‫‪ .2‬وما يسمى بالقاعدة القانونية أي شروط العدل في فض الخلافات وحماية الحقوق‬ ‫بين العوامل الخمسة في عملية الإنتاج المادي والرمزي وكلها عندما تحمى تصبح مصدر‬ ‫الإبداع بكل مستوياته المحركة للحضارة‪ :‬الفكرة والاستثمار والتمويل والعمل‬ ‫والاستهلاك‪.‬‬ ‫وكلتاهما مشروطة بما هو أعمق منهما وهو مضمون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أعني‬ ‫البعد الخلقي من السياسي عامة في التربية وفي الحكم‪ .‬فمن دون ما يسميه ابن خلدون‬ ‫بالوازع الذاتي (أي سلطة الضمير) لا يمكن للوازع الاجنبي (أي السلطة الخارجية) أن‬ ‫يكون ذا فاعلية لأنه يستمد سلطانه من كون الخارجين عن الأول قلة فيردعون ما يعني أن‬ ‫الاكثرية هي السند الأول والاخير الذي يعطي الشرعية لما يسمى باحتكار الدولة للقوة‬ ‫المنفذة للقانون في الجماعة‪.‬‬ ‫ففي أمريكا تحمى حقوق صاحب الفكرة فيكثر الإبداع العلمي والتقني‪ .‬وتحمى حقوق‬ ‫المستثمر فتكثر المبادرات الاستثمارية‪ .‬وتحمى حقوق الممول فينمو الادخار‪ .‬وتحمى حقوق‬ ‫العامل فتنمو الانتاجية‪ .‬وتحمى حقوق المستهلك فتنمو الجودة ويقل الغش‪ .‬لكن كل هذه‬ ‫الحقوق منعدمة في الدول الحاضنة وخاصة المتخلف منها‪.‬‬ ‫وطبعا فما يسمى دولا عربية‪-‬وهي محميات وليست دولا لأن الدولة ذات سيادة ولا سيادة‬ ‫للمحميات العربية كلها‪-‬هي من هذا النوع الثاني‪ .‬الكل يسرق الكل والكل لا يعترف بحق‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪39‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫الكل سواء كان صاحب فكرة أو استثمار أو تمويل أو عمل أو استهلاك‪ .‬الفوضى المطلة‪.‬‬ ‫واللصوص هم المافيات العسكرية والقبلية‪.‬‬ ‫والتخلف مثله مثل التقدم كلاهما لا يقع بالصدفة‪ .‬وعللهما هي مضمون المقدمة عند من‬ ‫يحسن الفحص والتحديق في ثنايا هذا العمل الجبار الذي ليس هو إلا \"الرمية\" الأولى‬ ‫والأولية التي كتبها صاحبها في أقل من نصف سنة ولو كان يوجد في عصره من يحاوره لتمكن‬ ‫بالنقد من زردها نسقيا لأفق لا حد له‪.‬‬ ‫وحرية الكلمة ممثلة بـالإعلام ‪-‬رغم تبعيته لما شرحنا‪-‬لأن الإعلام مستقل عن القيمين‬ ‫على الدولة وحرية العملة ممثلة بالاقتصاد‪-‬رغم تبعيته التي شرحنا‪-‬لأن البنك المركزي‬ ‫مستقل عن القيمين على الدولة ‪-‬وقوة القضاء المستقل إلى حد كبير عن القيمين على‬ ‫الدولة كل ذلك ليس بالصدفة بل هو من شروط علاج المهمتين الإنسانيتين كما حددهما‬ ‫القرآن وكما بنى عليهما ابن خلدون ريته المؤسسة للعلوم الإنسانية تأسيس اليونان للعلوم‬ ‫الطبيعية‪.‬‬ ‫وقد ميزت بوضوح بين الدولة من حيث منظومة المؤسسات والقوانين وبين القيمين عليها‬ ‫الذين هم موظفين فيها لمدة وغالبا ما يتصورون أنفسهم هم الدولة وخاصة في الأنظمة‬ ‫المستبدة والفاسدة حتى لا يفهم من كلامي أن التواصل والتبادل ليسا خاضعين للمؤسسات‬ ‫والقوانين كما يحددها الدستور والقيم التي تمثل مرجعيته والقوى السياسية التي تمثل‬ ‫إرادة الجماعة وتستطيع تغيير القوانين والمؤسسات بما فيها الدستور نفسه في ضوء فهوم‬ ‫جديدة للمرجعية القيمية للجماعة‪.‬‬ ‫فأما المهمة الأولى فهي العمران البشري أي كون الإنسان مستعمرا في الأرض عليه‬ ‫تعميرها ليعيش بكرامة وذلك شرط أن يدرك الإنسان ما يجعله يرتفع فوق الفقر المادي‬ ‫فيدرك الفقر الوجودي فيسمو إلى المثل العليا أي قيم الاستخلاف‪ .‬وتلك هي المهمة الثانية‬ ‫للإنسان من حيث هو عابد لربه وليس للمستبد بحاجاته‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪40‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫والمهمة الثانية هي ما منه تستمد الأولى قيمتها ومعناها وهي من ثم حضور القيم الخمس‬ ‫فيها وهي شروط تحقق المهمة الأولى تحققا يجعلها مغنية عن سوالب القيم التي تحول دون‬ ‫إدراك الضمأ الوجودي الذي لا يرويه إلى موجبها أي‪:‬‬ ‫‪ .1‬حرية الإرادة‪.‬‬ ‫‪ .2‬صدق العلم‪.‬‬ ‫‪ .3‬خير القدرة‪.‬‬ ‫‪ .4‬جمال الحياة‪.‬‬ ‫‪ .5‬جلال الوجود‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪41‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪42‬‬ ‫الأسماء والبيان‬