أبو يعرب المرزوقي أو دور الرمزين :رمز التبادل ورمز التواصل الأسماء والبيان
- المحتويات -الفصل الأول - 2 -الفصل الثاني - 1 -الفصل الثالث - 9 -الفصل الرابع - 17 -الفصل الخامس - 26 35
- - - لما عرفت وظائف الدولة وحصرتها في خمس للحماية وخمس للرعاية لم أشرح علاقتها بنظرية الرمزين: • رمز الفعل شرط التبادل (العملة) • وفعل الرمز (الكلمة) شرط التواصل فبقيت العلاقة بين وظيفتي الإنسان وموضوعي ثورة ابن خلدون في المقدمة غير واضحة ما يحول دون تأسيس الخلدونية المحدثة. في المحاولة السابقة التي خصصتها للتقدير الذهني في الرياضيات وتأسيس نظرية النظر والعقد التيمية لم أصل بصورة واضحة ثورة ابن تيمية بثورة ابن خلدون .ولا يمكن أن أتكلم اليوم على خلدونية محدثة دون وصلها بالتيمية المحدثة. لذلك فهذه المحاولة يمكن أن تعتبر تكملة للسابقة. فقد تمكنت في السابقة من بيان شروط الانتقال إلى التيمية المحدثة بقيس التقدير الذهني في الأدبيات ودلالة الإبداعين في العلوم وفي الفنون للجمع بين إبداع العوالم بمنطق الضرورة وبمنطق لحرية .وأنوي أن بين في هذه شروط الانتقال إلى الخلدونية المحدثة بقيس تمييزه بين بعدي موضوعه ببعدي الرمز اللذين لا يمكن تصورهما من دونهما رغم أن ابن خلدون حاول ذلك في غيابهما فغابت عن الأذهان طبيعة ثورته الأكسيولوجية غياب طبيعة ثورة ابن تيمية الإبستمولولجية. وكانت العقدة في التيمية أن الانتقال من منطق الضرورة -في التقدير الرياضي-إلى منطق الحرية -في التقدير الفني -لا يحقق الوصل بين النظر والعقد من دون التمييز بين نوعين من التجربة في إبداع العوالم وفي تطبيقها على العالم الطبيعي (ابن تيمية) والعالم التاريخي (ابن خلدون). وهذا ما أريد الآن البحث فيه. أبو يعرب المرزوقي 1 الأسماء والبيان
- -- إذا كانت ثورة ابن تيمية متعلقة بالنظر والعقد في الطبيعيات سعيا لإصلاح العمل والشرع في الإنسانيات فإن ثورة ابن خلدون متعلقة بالعمل والشرع في الإنسانيات سعيا لإصلاح النظر والعقد في الطبيعيات .وفيه نفس العقدة وهي عقدة الانتقال من المرموز موضوع علمه إلى الرمز ما به يصاغ هذا الموضوع صوغا يقبل التنظير العميق :ذلك أن الكلام في الموضوع لا يكون علميا إلى إذا صار الموضوع حاضرا بمنظومة مفهومية قابلة للترميز الممثل. وقد اعتبرت ابن تيمية متقدما على ابن خلدون لعلتين أولاهما ظهرت أولا عند الأول والثانية ظهرت ثانيا عند الثاني فكان الثاني مكملا للأول والمكمل دائما بعد المستكمل. ولذلك فالرجلان قاما بنفس الثورة كل منهما أنجز نصفها .وهي تتمثل في القطع مع الفلسفة القديمة والوسيطة في المستويين الإبستمولوجي (نظرية المعرفة) وهو ما أنجزه ابن تيمية والأكسيولوجي (نظرية القيمة) وهو ما أنجزه ابن خلدون. فابن تيمية كان واعيا بسر ثورته بفضل التمييز الصريح بين علم المقدرات الذهنية الكلي واليقيني رغم كونه لم يعلل ذلك وعلم الموجودات الخارجية الذي علله بالحاجة إلى التجربة التي هي دائما استقرائية ولا يوجد استقراء تام في ما لا نعلمه بإحاطة. وابن خلدون كان واعيا بسر ثورته بفضل التمييز بين علم الطبائع التاريخية من حيث هي مقدرات ذهنية قابلة للتطبيق على التاريخيات التجريبية وما ظنه الفلاسفة قبله مثلا كونية أو علماء الأحكام السلطانية أحكاما دينية معيارية وهي كلها مستقرآت من جنس \"الأدب الواقعي\" الذي ظن حقائق كونية بالتعميم المتسرع. وما أضفته إلى التقدير الذهني التيمي ليصبح للإنسانيات مقدرات ذهنية في نسبة الرياضيات إلى الطبيعيات لم أكن بحاجة إليه في التقدير الذهني الخلدوني لأنه فصل بين العمران البشري والاجتماع الإنساني .وواضح أن الأول بحاجة إلى ما يماثل التقدير الذهني التيمي .والثاني بحاجة إلى ما يشبه التقدير الذهني الذي أضفته إلى تقديره الذهني .فيكون لدينا نوعين من التقدير الذهني المؤسس للثورة الأبستمولوجية وثمرتها الأكسيولوجية والمؤسس للثورة الأكسيولوجية وثمرتها الابستمولوجية .كلاهما مضاعف: أبو يعرب المرزوقي 2 الأسماء والبيان
- -- .1في الثورة التيمية :المقابلة بين التقدير الذهني الرياضي والوجود الخارجي الطبيعي والتاريخي أضفت إليهما التقدير الذهني الميثولوجي والفنون والأدب لتأسيس التيمية المحدثة. .2الثورة الخلدونية :العمران والتبادل والاجتماع التواصل أضفت إليهما رمز الفعل أو العملة رمز الثروة وشرط التبادل وفعل الرمز أو الكلمة رمز التراث وشرط التواصل لتأسيس الخلدونية المحدثة. ولن أعجب إذا وجد الكثير من القراء الأمر عسير الفهم بل واعتبره ضربا من تقويل الرجلين ما لم يدر بخلدهما أصلا .لكني لا أطلب من القارئ إلا أمرا واحد :فليصبر علي قليلا وليقرأ بتمعن وتأمل وتدبر المحاولتين معا ما ينبغي من المرات حتى يستوعب الاستدلال وحججه وليحكم بعد ذلك ليس بمنظور طلب الحقيقة المطلقة لأني لم أدعها بل السعي إلى الممكن من إدراكها إنسانيا بمعنى الاجتهاد لا غير. وفي الحقيقة فإن ما كان يسعى إليه كلا الرجلين كان الضمير في منطلقه إشكالا نتج عن ملاحظة غيابه وتعذر بيان الإشكال لغياب الصوغ الرمزي القابل لوضع نظرية يكون دورها فيه من جنس دور الرياضيات في علوم الطبيعة .فابن تيمية ينطلق من مرض مضمر يرده بتشخيص صريح إلى مرض معلن: .1المرض المضمر :فساد حال الأمة في عملها وشرعها أي في حياتها السياسية تربية وحكما وفي علمي العمل والشرع أي الفقه والتصوف خاصة. .2المرض المعلن :فساد نظر الأمة وعقدها .ومعنى ذلك أنه حمل المتكلمين والفلاسفة مسؤولية الفساد النظري والعقدي المعلل لفساد العمل والشرع. لكن التشخيص الخلدوني يعكس العلاقة بين المرضين لذلك فهو مقابل لهذا التشخيص. فهو ينطلق من ضمير هو :له فساد نظر الأمة وعقدها في التاريخيات والإنسانيات أي في حياتها الفكرية نظرا وعقدا (الكلام والفلسفة) والتي موضوعها حياتها السياسية والخلقية تربية وحكما (الفقه والتصوف) .وحمل المسؤولية لدورهما في التربية والحكم. أبو يعرب المرزوقي 3 الأسماء والبيان
- -- ولهذا العلة تعاكس علاجاهما :فالذي وضع نظرية العمل والشرع كان علاجه سعيا لوضع نظرية العمران (أو مهمة الإنسان من حيث هو مستعمر في الارض) ونظرية الاجتماع (أو مهمة الإنسان من حيث هو مستخلف في الارض) ووصل ذلك باستبدادية الدولة .لكن الثاني وضع نظرية النظر والعقد ووصل ذلك بوثنية المجتمع. وبذلك يصبح مدار هذه المحاولة المكملة لمحاولتي السابقة حول التقدير الذهني للوصل بين الثورتين التيمية في الإبستمولوجيا والخلدونية في الأكسيولوجيا ونظرية الرمزين أي رمز الفعل أو العملة أداة التبادل وفعل الرمز أو الكلمة أداة التواصل وعلاقة ذلك بالسورتين اللتين تبدآن بـ\"ويل\" :فيهما: .1فويل للمطففين تتعلق برمز الفعل-العملة أو أداة التبادل الكلية -أو بشروط التبادل العادل ورمزه الميزان. .2وويل لكل همزة لمزة تتعلق بفعل الرمز-الكلمة أو أداة التواصل الكلية -أو التواصل الأمين ورمزه الأمانة. والأمانة والعدل هما شرطا ال َحكم (النساء :)58والدولة هي الحكَـم في الوظيفتين اللتين هما بعدا السياسة .وسأقصر قولي على الدولة ووظائفها ودور الرمزين فيهما وأترك ابن تيمية جانبا .فالدولة دون المجتمع أهمية في ثمرة فكره الساعي لتخليص المعاني الدينية من التوثين في التربية وفي الحكم توثينا علته إعادة الوساطة في التربية والوصاية في الحكم وهما نتيجة تحريف القرآن (التشيع) والسنة (الجامية). ولهذه العلة فأكثر الناس كرها لابن تيمية هم الشيعة ثم الجامية .ذلك أن التشيع أعاد إلى الإسلام الوساطة الكنسية في التربية فجعل المراجع والتصوف وسطاء بين المؤمن وربه وأعاد الحكم بالحق الإلهي لأسرة مصطفاة تتواصل فيها النبوة لتكون وصية على الأمة تحكم باسم حق إلهي في الحكم. والجامية لم تستطع القول بهذا التحريف الصريح للقرآن فقالت بما يماثله من خلال تحريف الحديث الذي صار شبه دحض لرؤية القرآن للتربية والحكم .فجعلوا من يسمون أبو يعرب المرزوقي 4 الأسماء والبيان
- -- أنفسهم علماء وسطاء بين الله والمؤمن بحجة وراثة العلماء للأنبياء وجعلوا المستبدين ظل الله في الأرض بحجة ولاية الأمر .ما يعنيني في هذه المقدمة أمران: .1بيان أن ما يحدث في تحريف ثورة الإسلام وقيم القرآن لم يكن أمرا مهملا بل إن المدرسة النقدية التي تعنيني في بحثي قد جعلته مادة فكرها .ولذلك فهي قد كانت بحق متحررة بقدر كبير مما كان مسيطرا على علوم الملة الغائية الخمسة من التحريف كما بينت سابقا. .2وبيان أن محاولات المدرسة النقدية لم تكن موصولة ومترابطة في نسق يمكن من فهم ثمرتها الإيجابية لأن الغالب عليها كان ثمرتها السلبية أي البعد النقدي وخاصة في عمل ابن تيمية لأن عمل ابن خلدون أثمر محاولة أولية لصوغ ثورته في المقدمة صوغا صريحا جعل مهمتي الإنسان موضوعها :العمران والاجتماع. وأكثر من ذلك فهو قد وحد بين الموضوعين أو مستويي الموضوع بأن جعلهما في صلة بنيوية بالدولة من حيث هي تعين السياسي ببعديه تربية وحكما أصلا لكل ما يتعلق بالعمران لسد الحاجات المادية (مهمة الإنسان من حيث الادوات) وبالاجتماع لسد الحاجات الروحية (مهمة الإنسان من حيث الغايات). ومع ذلك فثورته تجمدت بسبب قراءاته التي حصرته في ما تصورته مقياسا لأهميته أعني في السبق بالقياس إلى ما يسمونه تأسيس علم الاجتماع ثم في محاولات من يريد أن يرده لفكر عصره نقدا لمحاولات القائلين بالسبق وكل ذلك يجعل أهمية ابن خلدون إضافية إلى أمر ليس مهما في عمله وهو غني عنه. ما يعنيني هو :كيف نكتشف لب الحياة في عمل ابن خلدون حتى يتجاوز نفسه فنؤسس لخلدونية محدثة كما حاولت في كلامي على ابن تيمية .والمنطلق ليس هو شيئا آخر غير عنوان المقدمة العجيب والغريب\" :علم العمران البشري و(علم) الاجتماع الإنساني\" :اسم مضاعف أنطلق منه للوصل بالرمزين .وقد سبق فبينت أن الإنسان لا يحتاج إلا إلى رمزين ليصبح سيدا على شروط قيامه العضوي وعلى شروط قيمه الروحي لأنهما يحددان: أبو يعرب المرزوقي 5 الأسماء والبيان
- -- .1شرط التبادل الذي يعالج سد الحاجات المادية ورمزه رمز الفعل أو العملة ممثلة للقيمة المادية عامة. .2وشرط التواصل الذي يعالج سد الحاجات الروحية ورمزه فعل الرمز أو الكلمة ممثلة للقيمة المعنوية عامة. والشرطان ورمزاهما هما موضوعا المقدمة أو مستويا موضوعها ويمكن أن نعتبر الموضوع الأول متصلا بعلاقة الإنسان بالطبيعة خاصة والموضوع الثاني متصلا بعلاقة الإنسان بالإنسان خاصة أو بالتاريخ: .1العمران البشري .2الاجتماع الإنساني. وبين أن المقابلة مضاعفة في الحالتين ولها صلة واضحية بالآية الكريمة فصلت 53التي تحيل إلى الآيات التي يريننا إياها الله في الآفاق وفي الأنفس لنتبين أن القرآن حق وهو ما يجعل الاكتشاف الخلدوني وثيق الصلة بثورته التي فهمت أن العلوم لا توجد في شرح آيات القرآن النصية واعتبرها رؤية تشير إلى آيات الله الوجودية خارج النص في الآفاق وفي الأنفس وتلك هي بداية الشروع في البحث العلمي الذي يحقق به الإنسان شروط أدائه لمهمتيه :الاستعمار في الارض والاستخلاف فيها: .1المقابلة الأولى بين العمران والاجتماع وهما مستويا آيات الله في الآفاق. .2المقابلة الثانية بين البشري والإنساني وهما مستويا آيات الله في الأنفس. ولما كان ابن خلدون يصل العمران البشري بالتعاون لسد الحاجات المادية بفضل عمارة الأرض ويصل الاجتماع الإنساني بالتواصل لسد الحاجات الروحية بفضل الاستخلاف فيها تبين أن للأمر علاقة بنظرية الإنسان القرآنية .فنظرية القرآن في الإنسان تعتبره: .1مستعمرا في الارض ومنها اشتق ابن خلدون مصطلح العمران. .2ومستخلفا فيها ومنها اشتق ابن خلدون الاجتماع. أبو يعرب المرزوقي 6 الأسماء والبيان
- -- وبين أن العلاقة في الاشتقاق الأول واضحة لوحدة الجدر في الكلمتين .لكن لا وجود لجذر مشترك بين الاجتماع والاستخلاف .فكيف نفهم ذلك؟ لو لم يعرف ابن خلدون المستوى الثاني من موضوع المقدمة لاستحال أن نجد الوصل بين الاستخلاف والاجتماع لعدم وحدة الجذر بين الكلمتين بخلاف الاستعمار والعمران .فابن خلدون اعتبر العمران \"التنازل-أي المشاركة في المنزل-من أجل التعاون على سد الحاجات\" وهذا هو مفهوم العمران .ولما تكلم على الاجتماع جعله \"التنازل من أجل الأنس بالعشير\". وإذن فلا بد من طلب العلاقة بين المفهومين :الاستخلاف والأنس بالعشير .فمن هم \"العشير\" و\"العشيرة\"؟ اليس الخلف والسلف؟ فالتنازل للتعاون يمكن أن يكون حتى بين من ليسوا من الخلف ولا من السلف لأن التعاون لسد الحاجات يهتم بأمرين هما انتاج شروط العيش والحماية .يجمع الناس ليتعاونوا على سد الحاجات والشرط تعمير الارض وحماية بعضهم البعض. لكن كل ذلك أداتي وليس غائيا .أما العشير والعشيرة فتعيش معا من أجل الاجتماع الذي هو الغاية وهي مؤلفة من سالف وخالف .وهو المعنى الأولي للاستخلاف .فالأنس بالعشير يعني متعة العشرة أو العيش في العشيرة بين الخلف والسلف فيكون بعضهم للبعض خلائف .وهو صلة الرحم وعلاقة النسب ومستوى التواصل العضوي والروحي. ثم تأتي الدرجات الثلاث للاستخلاف بالمعنى القرآني ولها صلة بالسلطة الروحية والحضارية والسياسية .فروحيا الإنسان من حيث هو إنسان مستخلف .وحضاريا يوجد الاستخلاف متداول بنظرية الاستبدال بين الامم الاجدر بتحقيق قيم الاستخلاف ثم أخيرا المعنى السياسي ومنه الخليفة رئيسا للدولة. فيكون الاجتماع هنا هو المعنى الأول وهو صلة التنازل-المشاركة في المنزل-للأنس بالعشير أي الخلف والسلف ثم المعنى المحدد لمنزلة الإنسان الوجودية (الاستخلاف بمعنى إني جاعل أبو يعرب المرزوقي 7 الأسماء والبيان
- -- في الأرض خليفة) ثم الاستخلاف بمعنى من هو أجدر بقيم المجعول خليفة ثم استخلاف من تختاره الأمة ممثلا لإرادتها. وبذلك يتبين أن العمران للرعاية والاستخلاف للحماية .ذلك أنه لا أنس من دون أمن أو من دون تحرر من الخوف .المعنى الأول هو إذن ما يرمز إليه مدلول \"أطعمهم من جوع\". والمعنى الثاني هو ما يرمز إليه \"آمنهم من خوف\" .وتلكما هما وظيفة الدولة التي هي في الإسلام مؤسسات الخلافة. والخلافة هنا تستعمل بمعنى نظام الحكم السياسي الذي يكون فيه الخليفة منتخبا بحرية -البيعة الحرة-لينوب الأمة في إدارة أمرها فرض كفاية بمراقبة منها فرض عين .وذلك هو المدلول الأول للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .وذلك هو المعنى الدقيق للشورى .38 لكن التحريف الذي طرأ بعد العهد الراشدي بسب الفتنة الكبرى والحروب الأهلية وكان شبه حالة طوارئ كانت من الضرورة التي تبيح المحظور وكان ينبغي أن ترفع لكنه تواصل 14قرنا فأصبحت البيعة بمقتضاه غير حرة وصورية والشورى مجرد استشارة غير ملزمة هي نصائح فقهاء البلاط في السر مع التستر على جرائم المستبدين الذين صاروا يسمون أولياء الأمر في حين أن الآية تنسب الأمر للأمة وتكلفها بإدارته بالشورى لأنه أمرها. أبو يعرب المرزوقي 8 الأسماء والبيان
- - - كيف سيظهر الرمزان بوصفهما شرطي الانتقال من الخلدونية إلى الخلدونية المحدثة؟ وكيف ندرك التلازم بين الرمزين وهذا الدور المشروط في بيان ثورة ابن خلدون؟ سأضرب مثالين يدركهما حتى من ليس له ثقافة فلسفية كافية للغوص في المعاني المجردة: .1الأول من تاريخنا المجيد لما بلغ دور الأمة الكونية في ذروة فاعليته التاريخية :عبد الملك بن مروان عرب الإدارة (فعل الرمز) صك العملة (رمز الفعل) فصارت العربية لغة العلم العالمية والعملة الإسلامية عملة العالم الأقوى لمدة عشرة قرون. .2والثاني من تاريخ أمريكا الحالية لما بلغت إلى ما يقرب من دورنا الكوني: الانجليزية والدولار هما لغة العلم العالمية وأداة التبادل الاقتصادي العالمي. وسأشرح هذا المعاني في الفصول الموالية لبيان علاقتها بما أسميه الخلدونية المحدثة. ويوم يفهم المسلمون عامة والعرب خاصة أهمية ما كان مضمرا في ثورة ابن خلدون وقبلها في ثورة ابن تيمية سيعلمون طبيعة ما كان ولا يزال حائلا دونهم وتجاوز المعوقات التي حالت دون النفاذ إلى معاني القرآن التي من دونها لا يمكن أن نفهم لما هو الرسالة الخاتمة ولم كان متقدما على عصره بقدره تأخرنا على عصرنا. ولأعد الآن إلى إشكالية وظائف الذكر للتذكير بها لأن ثورة ابن خلدون تتعلق بتأسيس الفلسفة العملية ونظرية الدولة .وقد قسمت هذه الوظائف إلى جنسين الرعاية والحماية. ولأبدأ بجنس الرعاية :فروعها خمسة: • اثنان للتكوين: .1التربية النظامية (في المدارس) .2التربية الاجتماعية (في تقسيم العمل). • واثنان للتموين: .3الثقافة أبو يعرب المرزوقي 9 الأسماء والبيان
- -- .4الاقتصاد .5أصلها جميعا أو البحث والإعلام العلميان. فماذا نلاحظ؟ لنأخذ 1و 3وسنجد أنهما يعتمدان اساسا على فعل الرمز أو الكلمة. ولنأخذ 2و 4وسنجد أنهما يعمدان خاصة على رمز الفعل أو العملة. الخامس يعتمد عليهما معا: البحث والإعلام العلميان أحول الوظائف الخمسة للكلمة وللعملة أو للثقافة والاقتصاد لأنه أساسهما وهما شرطه. ولنمر إلى جنس الحماية ولها فروع خمسة كذلك: • اثنان للحماية الداخلية .1القضاء .2الأمن. • واثنان للحماية الخارجية: .3الدبلوماسية .4الدفاع .5أصلها جميعا أي الاستعلام والإعلام السياسيان. فلننظر في 1و 3أساسهما كلمة القانون الوطني والدولي. و 2و 4أساسهما رمز القوة الاقتصادية. والأصل-الاستعلام والإعلام السياسي-جامع بين الكلمة والعملة أو بين القوتين الثقافية والاقتصادية .وبذلك فالقوة الثقافية ورمزها فعل الرمز أو الكلمة والقوة الاقتصادية ورمزها رمز الفعل او العملة هما أداتا كل دولة وعلامتا قوتها وسلطانها في الداخل في الخارج .ذلك شرط الخلدونية المحدثة. أبو يعرب المرزوقي 10 الأسماء والبيان
- -- طبعا ابن خلدون لم يدر بخلده أمر الرمزين رغم أنه أول من تكلم على ضرورة استقلال مؤسسة العملـة عن السلطة التنفيذية (جعلها تحت سلطة الخليفة الذي هو السلطة الخلقية وإضفاء الشرعية بوصفه حامي الشريعة وليس السلطان الذي له السلطة التنفيذية) شرط في امانة الحكم وعدله لمنعه من تزييف العملة بالتطفيف وعلى مفهوم القيمة الاقتصادية بمعنى كلفة العمل المنتج للبضائع والخدمات .وابن تيمية لم يدر بخلده امر التقدير الذهني الثاني الذي وضعته. لكن الدولة جامعة بين هذين الجنسين من الوظائف بأنواعها العشرة أي الخمسة لكل جنس منهما .فما هو سلطانها الذي يوحد بينها؟ إنه السلطان على فعل الرمز (الكلمة) ورمز الفعل (العملة) .السياسة هي فن الكلمة وفن العملة أو السلطان الثقافي والتربية والسلطان الاقتصادي والحكم. وبخلاف ما يتصور الكثير فإن السلطان الثقافي والتربية أقوى من السلطان الاقتصادي والحكم رغم أن الثاني أسرع فاعلية من الأول لأنه أعنف لأن بيده السلطان المادي ذو القدرة المباشرة .لكن الثاني رغم كونه ألطف وسلطانه رمزي وذو قدرة غير مباشرة وفاعلية أبدأ لكنه هو المحدد في النهاية. كيف؟ هذا من مفارقات العلاقة بين السلطانين المادي والرمزي. فالأول سلطانه آني وقصير المدى. والثاني سلطانه دائم وطويل المدى .والأول لا يؤثر إلا إذا تحول إلى ثقافة .فالسلطان المادي يحتاج إلى أمرين: • إلى النظر والعقد ليصنع أدواته • وإلى العمل والشرع الذي ليحدد غاياته. أبو يعرب المرزوقي 11 الأسماء والبيان
- -- والرمزي هو الذي يحدد المادي في كل ما منه منتسب إلى أفعال الإنسان الواعية على الأقل لأن ما به يؤثر المادي في فعل الإنسان مما ليس مجرى طبيعي وعضوي فيه لأن كلامنا يتعلق بالأفعال القصدية التي تكون على علم ووعي .وهذا يقتضي أن يكون المؤثر ليس المادي من حيث هو مادي بل من هو دلالته في منظومة القيم أيا كانت سوية أو حتى محرفة. وللتيسير سأشرح هذا التقدم الذي أنسبه إلى الرمزي على المادي في الحالتين المتعلقة بالرعاية والمتعلقة بالحماية .ففي الرعاية هل يمكن تصور اقتصاد قادر على إنتاج الثروة من دون بحث علمي مثلا؟ ربما عند العرب :فليس لهم من الاقتصاد إلا الخامات ورثوها عن آبائهم دون أن يكونوا أهلا لها بسبب الجهل بشروط الاستفادة منها. لكن الاقتصاد في العالم كله هو ثمرة البحث العلمي الذي يمكن من معرفة قوانين الطبيعة وسنن التاريخ فيطبقها على الطبيعة لاستخراج ثرواتها وعلى التاريخ لتنظيم الحياة وتقسم العمل وتوزيع ثمراته وكل ذلك ثمرة البحث العلمي وخاصة دور الذوق في تحديد الحاجات المادية والروحية وتلـك هي الثقافة. ولنأت الآن إلى الحماية .فهل يمكن تصور القضاء والأمن والدبلوماسية والدفاع من دون استعلام وإعلام سياسيين؟ طبعا هذا غير ممكن إلا عند العرب فهو واجب وليس ممكنا فحسب .لأنهم لا قضاء ولا أمن ولا دبلوماسية ولا دفاع عندهم يعتمد على ما ينتجه فكرهم وينظمه استعلامهم على ما يجري في هذه الوظائف بل هي فوضى الاستبداد والفساد. لا يمكن اليوم لعربـي-بعد أن نكصوا عن ثقافة الإسلام إلى ثقافة الجاهلية-أن يفهم قول إن خلدون \"الظلم مؤذن بخراب العمران\" .ولا يمكن أن يفهم أن منع الظلم يقتضي أن تكون الدولة على علم بما يجري في القضاء وفي الأمن وفي الدبلوماسية وفي الدفاع وإعلام الجماعة بذلك حتى تحكم نفسها بنفسها على علم وحتى يكون أمرها بالمعروف ونهيها عن المنكر عملا على علم. أبو يعرب المرزوقي 12 الأسماء والبيان
- -- والاستعلام والإعلام السياسيين بهذا المعنى ثقافة .وهي غير المخابرات العربية .فهذه ليست استعلاما على أحوال الأمة لمنع الاستبداد والفساد بل هي أدوات الاستبداد والفساد وهي ليست أدوات للغوافير العرب بل هي لمن نصبهم على الأمة حتى يكونوا خدما له ومساعدين على نهب ثرواتها والعدوان عليها. ولما كنا قد أرجعنا الرمزي كله إلى رمزين كافيين هما الكلمة أو فعل الرمز والعملة أو رمز الفعل فإن المشكل كله هو في جعل الكلمة التي من المفروض أن تكون أداة تواصل أداة سلطان على المتواصلين وجعل العملة التي من المفروض ان تكون أداة تبادل أداة سلطان على المتبادلين. الاستبداد والفساد يستعملان الكلمة والعملة أداتين ليس للتواصل والتبادل بل لاستعباد المتواصلين والمتبادلين .وهذان هما الجرمان الأكبران في الإسلام ولا يعلو عليهما في العظم إلا الشرك: .1العملة تصبح ربا وهو ما يحاربه الله. .2والكلمة تصبح عكس الفعل وهي ما يمقته الله أشد مقت. وقد رمز القرآن لهذين التحريفين للرمزين بالعجل :فالعملة الربوية هي معدنه. والكلمة الخداعية هي خواره .العرب اليوم يحكمهم معدن العجل أو العملة الربوية وخوار العجل أو الكلمة الخداعية .فلا أداة التبادل عادلة ولا أداة التواصل صادقة .وهذان هما المرضان اللذان تلمح لهما ثورة ابن خلدون. وجدنا ما نستخرجه من فكر ابن خلدون لوضع اسس الخلدونية المحدثة كما وجدنا ما نستخرجه من فكر ابن تيمية لوضع أسس التيمية المحدثة .في كلامي على المقدرات الذهنية وضعت هذه الأسس التيمية .وفي كلامي على الرمزين وضعت أسس الخلدونية المحدثة. والأولى مثلها مثل الثانية شرط الاستئناف. لكن الدولة التي توحد بين هذين الرمزين لا تكتفي بهما بل هي تسيطر إلى الأداتين اللتين تعملان بهما :فالتربية تعمل بالكلمة والحكم يعمل العملة: أبو يعرب المرزوقي 13 الأسماء والبيان
- -- .1الأولى للسيطرة إلى الأرواح. .2والثانية للسيطرة على الأبدان. فالأولى أصل التموين شرط التكوين الروحي (الثقافي) والثانية شرط التكوين المادي(الاقتصادي) .وإذن فالدولة من حيث هو سلطان لها أربع أدوات: • الثقافة للتموين الروحي في مهام التربية خاصة. • والاقتصاد للتموين المادي في مهام الحكم خاصة. • ورمز الأول الكلمة للتواصل. • ورمز الثاني العملة للتبادل. وكل تزييف للرمزين تزييف للتموين اللذين يصبحان مغشوشين وأداتي استعباد بدلا من يكونا أداتي تحرير للإنسان كما هي حقيقتهما .وعندما أصل ذلك بالآية 38من الشورى اكتشف هذين البعدين برمزين أعمق هما: .1فالآية تبدأ بأولهما أو الاستجابة للرب أو تحرير الإنسان من تحريف التواصل وذلك بالكفر بطاغوتي الوساطة والوصاية للإيمان بالله والاستمساك بالعروة الوثقى فتكون البداية التحرر الروحي والغاية التحرر المادي وبينهما حكم الأمة لنفسها بنفسها. فالآية تبدأ بالاستجابة إلى الرب وهي أصل التحرر الروحي من الاستجابة لغيره .2وتنتهي بثانيهما وهو الإنفاق من الرزق وهو أصل التحرر من سلطان الثروة ومن تحول رمزها من أداة تبادل إلى أداة سلطان على المتبادلين .والانفاق من الرزق أبوابه محددة كما في البقرة .177ويتوسط بين البداية والغاية تحديد أمرين هما: .3طبيعة الحكم بالقول إن الأمر هو أمر الجماعة وهو معنى استخلافها بحيث تصبح إرادتها من إرادة الله فتكون هي حاكمة نفسها بنفسها بمقتضى استجابتها لربها. .4وأسلوب الحكم هو الشورى بين الجماعة التي حدد سورة العصر مقوماتها الخمسة أي الوعي بالخسر وشروط الخروج منه أي الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر. أبو يعرب المرزوقي 14 الأسماء والبيان
- -- .5والأصل هو المسلم الذي حرره الإسلام من الوسيط والوصي أي من الطاغوتين بمضمون \"إنما أنت مذكر\" و\"لست عليهم بمسيطر\" لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فرض عين وأصل كل أعمال الأنسان الذي قبل أن يأمر يأتمر وقبل أن ينهى ينتهي. والوسيط بين المؤمن وربه هو الذي يفسد التربية لأنه ينقلها من \"إنما أنت مذكر \" التي نبه القرآن الرسول الخاتم إليها إلى \"إنما أنت ممل\" على المتعلم ما تراه وكأنك أنت البديل من إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده فيصبح كما يراه المتصوف كالميت يغسله وتلك هي نظرية التربية المنافية لما كلف به الرسول :التذكير لا غير. والوصي على الأمة بينها وبين أمرها يفسد الحكم لأنه ينقلها من \"لست عليهم بمسيطر\" التي نبه إليها الرسول الخاتم إلى أنت المتحكم بأمرها وكأنه أمره بدلا منها فيجعلها خاضعة لسلطانه وبدلا من أن يكون مجرد خادم لها يحولها إلى خادمة له فيكون حاكما إما بزعمه أن ذلك حق إلهي له في الوصاية أو بزعمه أنه هو صاحب الامر بدلا مما تقوله الآية 38 من الشورى التي جعلوها استشارة نصحية من علماء البلاط للمستبد بأمر الأمة. وعندئذ لن يبقى أحد من الأمة مستجيبا للرب بل يصبح الجميع مستجيبين للمستبد بأمرهم ولن يبقى أحد ينفق من الرزق في أبوابه (البقرة )177بل تصبح الأمة مؤلفة من مستبدين بالمال متحالفين مع مستبدين بالسلطة السياسية ومستبدين بالسلطة الروحية فتصبح الأمة أمة عبيد تحريفا مطلقا للقرآن. أذكر أني قدمت كتاب لـخاتمي حول الفلسفة السياسية (قبل خروجي من تونس إلى ماليزيا) وفيه ادعى أن ابن خلدون قد ألف كتاب في تبرير الاستبداد السياسي بالمقارنة مع من يعتبرهم أكثر قربا من نظرية التشيع في الحكم فبينت أن الرجل معذور ربما بسبب الخلط بين دوره السياسي ودوره العلمي (درسه في الماجيستر لما كان أستاذا). لم يكتب ابن خلدون كتابه ليبرر الاستبداد بل ليحلل علله وأسباب وجوده وذلك من شروط التحرر منه .فالطبيب الذي لا يشخص الداء لا يمكنه أن يكتشف الدواء فضلا عن أبو يعرب المرزوقي 15 الأسماء والبيان
- -- علاجه .وكل ما أحاول بيانه لم يكن مضمرا أو خفيا في المقدمة بل كان معلنا وصريحا وواضحا حتى وإن لم يصغ بنظرية متناسقة فلسفيا. أبو يعرب المرزوقي 16 الأسماء والبيان
- - - لو كان ابن خلدون قد \"صنع\" هذه المفهومات المتعلقة بوظائف الدولة التي درسناها في الفصول السابقة لتمكن من وضع تصور نسقي لما يقترحه في الكثير من فصول المقدمة من إصلاحات توصل إليها من خلال رؤية الآيات في الآفاق وفي الأنفس كما وعد عندما قل إنه يرفض المصدرين المعلومين في عصره للبحث في السياسة. فقد وعد بأن ينظر في \"العمران البشري والاجتماع الإنسان\" بمقتضى طبائعهما وما يعرض لهما بهذا المقتضى رافضا منهج الفلاسفة في نظرية المدينة الفاضلة ونظرية الفقهاء في الأحكام السلطانية .وقد يظن أن عن المدن الفاضلة يقتصر على أفلاطون والفارابي ويستثني أرسطو كما توهم المرحوم بدوي .والمعلوم أنه متسرع كعادته في أحكامه القطعية وغير المؤسسة على عميق نظر فلم ينتبه إلى أن رؤية ابن خلدون كانت النقيض التام للرؤية الأرسطية: .1لا يقبل نموذج قوى النفس الثلاثة للدولة وهو مشترك لأفلاطون وأرسطو. .2ولا يقبل نموذج الأسرة للدولة وهو خاص بأرسطو (وبه يبدأ كتاب السياسة) بل يعكس فيجعل الدولة هي نموذج النفس والأسرة. فعنده أن النفس والأسرة لا يمكنهما تحقيق وظيفتي الرعاية والحماية من دون إطار يحيط بهما ويؤسسهما ومن ثم فالوظيفتان اللتان لا تتحققان إلا بما يشبه الدولة حتى قبل وجودها هما المحددتان للنفس وللأسرة .ومعنى ذلك أننا لا يمكن أن نفهم الظاهرة الإنسانية بالنفس لأنها لا ترد إلى العضوي ولا بالأسرة قبل ما يضيفه التاريخ. فالقبيلة شبه دولة .فهي ليست مجرد علاقة رحم بل هي نظام حكم أيضا أو نظام سلط هي سلط الأسرة الكبرى .ولها كل وظائف الدولة أعني الرعاية والحماية حتى وإن كان التخصص الوظيفي ليس شديد التفرع كما يحدث في الدول وهو متوالي التعقيد حتى في أبو يعرب المرزوقي 17 الأسماء والبيان
- -- الدول :وخاصة ما تعلق بالتكوين والتموين في الرعاية وما تعلق بالحماية الداخلية والحماية الخارجية في الحماية. وقد خصصت لمفهوم \"نحلة العيش\" التي هي المحدد الأول والاخير للنفس والاسرة ولدور الفرد والجماعة وهي تجمع بين الوظيفتين وظيفة الرعاية والتبادل -ومنها تبادل النساء لتأسيس الاسر-والحماية ومنها الأحلاف بين الجماعات وضد بعضها لحماية مصادر الرزق. ولا يزال الامر كذلك حتى في عصر العولمة. وذلك يعني أن التاريخي متقدم على العضوي والكلي على الجزئي والجماعي على الفردي والأوسع على الأضيق في الجماعات بسبب الحاجة إلى التعاون على سد الحاجات المادية والروحية رعاية وحماية والانتقال مما يسميه ابن خلدون وضعية شبه حيوانية تعمها العصبيات تفضي للهرج إلى تنظيم الوظيفتين :الدولة. حينها تنشأ الأسرة مؤسسة ذات منزلة قانونية والفرد ذاتا مسؤولة والملكية بوصفها اعتراف الجماعة بحق شروط قيام الأفراد والأسر والجماعات شرطا في التبادل عامة بما في ذلك تبادل النساء وما يسد الحاجات مما تحصل عليه الجماعة بالتعاون صيدا أو غزوا أو رعيا للحيوانات أو بداية الزراعة. وفي خلال ذلك تنشأ أداة التبادل وأداة التواصل :وهذه قبل تلك لأنها هي التي ستجعل التبادل ينتقل من المقايضة إلى الوسيط الرمزي المغني عن المقايضة والمحرر من التبادل العيني ببديل هو التبادل النقدي أو غاية الحرية في التعاون لأن \"المال\" يصبح قائما بذاته وليس متعينا في البضاعة أو الخدمة. وما توجد لغة التواصل حتى توجد \"لغة\" التبادل لأن الأولى شارطة للثانية :ذلك أنه لا بد من التواضع بين المتبادلين على \"شيء\" ما يعتبر \"عملة\" تتعين فيها قيم ما يسد الحاجات المادية كما تتعين معاني ما يسد الحاجات الروحية في \"الكلمة\" .وإذا تحقق ذلك تكون شروط الدولة قد تحققت بصورة أبدية. ذلك أنه يحصل أمران عجيبان: أبو يعرب المرزوقي 18 الأسماء والبيان
- -- .1يصبح بوسع الجماعة أن تتألف من اجيالها الحية وكذلك من أجيالها الميتة لأن خبرتها وثمرة جهدها تبقى في رمز الثروة (العملة) ورمز التراث (الكلمة) .2يصبح بالوسع تقسيم العمل ولا يحتاج كل أحد القيام بكل ما يسد حاجاته بنفسه. ولما تقصر الذاكرة تكتشف الكتابة. وهكذا تتكون سلطتان مادية هي السلطة السياسية وروحية هي السلطة الدينية من جنس الدولة الفرعونية والبابلية .وكانت السلطة الدينية جامعة بين النظر والعقد أصل كل العلوم والعلاقة بالطبيعة خاصة والعمل والشرع أصل كل الشرائع والعلاقة بالتاريخ خاصة .فتتعين كل الوظائف العشر التي ذكرتها. واعتمادا على هذين السلطتين وضع ابن خلدون نظرية \"الدستور\" بوصفه عقدا بين الحاكم والمحكوم وذكر اشكالا ثلاثة وكان ينبغي أن تكون أربعة مع خامس يجمع بينها ومرحلة متقدمة عليها يسميها الحال الطبيعية التي تقدمت عليها جميعا والتي هي عنده فعلية وليست مجرد فرضية كما في فلسفات القرن .17فابن خلدون يميز بين جنسين من العقد الحكم: .1الأول مقصور على المصالح الدنيوية ويسميه الحكم العقلي .وله مستويان أحدهما لا يراعي إلى مصلحة الحاكم. .2والثاني يجمع بين مصلحة الحاكم ومصلحة المحكوم .فيكون الاول فارضا الطاعة على المحكوم بالعنف والثاني حاصلا عليها بما يتحقق للمحكوم من مصلحة. وفي الثاني يوجد طرف ثالث ويجمع بين المصلحة الدنيوية والمصلحة الأخروية .واعتبره ابن خلدون ذا مستوى واحد .وهو خطأ لأن الحكم الديني أيضا يمكن أن يكون لصالح الحاكم وحده باسم المصلحة الدينية دون أن يعطي للمحكوم شيئا ويمكن أن يعطيه حقوقه فعلا .فيكون هذا أيضا ذا مستويين :ديني صادق وديني وكاذب مثلما أن العقلي صادق وكاذب. أبو يعرب المرزوقي 19 الأسماء والبيان
- -- وهذا النوع الثاني عند ابن خلدون هو الأفضل دون أن يعلل المفاضلة .والعلة بينة إذا كان من نوعه الثاني بمعنى إذا لم يكن الدين \"أفيونا للشعب\" بل حقيقة فعلية بمعنى أن الحاكم يطبق قيم الدين حقا وليس للإيهام بالخداع الديني .والعلة هي أن التعاقد يقتضي أن يكون بين متساويين. فإذا لم يوجد الطرف الثالث الذي يتساوى لديه الطرفان المتعاقدان كان أحد الطرفين قاضيا ومتقاضيا أو كان هو الذي يفرض شروط العقد فلا يكون عقدا حرا بل مفروضا من قبل الاقوى أي الحاكم .العقد السليم هو الذي يكون فيه الحاكم والمكوم سياسيا كلاهما مثل الثاني لدى حاكم الجميع ألله. وهذا هو العقد السليم كما تحدده الآية 38من الشورى حيث يعرف الجميع بـ\"الذين استجابوا لربهم\" ويكون العقد بينهم بوصفهم هم أصحاب الامر ويديرونه بالشورى في ما بينهم .وإذا أنابوا عنهم واحدا منهم كان أجيرا عندهم في تقاسم الأعمال مثل أي واحد منهم في عمله .ذلك أن الشورى فرض عين. وهي بهذه الصفة عين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنيابة فرض كفاية وهي خاضعة لمعيارين حددتها الآية 58من النساء (الحكم شرطه الأمانة والعدل) فيكون النائب الاجير عند الجماعة خاضعا لمراقبتها الدائمة هي توليه لمدة معينة وتعزله إن لم يتحقق فيه الشرطان .والشورى ملزمة وليست استشارة بمعنى الاسترشاد برأي الخبراء. فهي ليست متعلقة بمشورة الخبرة المعرفية بل بمشورة الإرادة العملية .وطبعا لا تخلو هذه من تلك لكن هذه تضيف إلى تلك أمرين تخلو منهما: .1فالرأي يتعلق بمصلحة ذاتية للمشارك في الشورى بوصف الامر أمره وليس هو فيه أجير عند صاحبه كما في استشارة الخبير (أمرهم). .2والقرار يتعلق بالتزام شخصي مبني على تقدير لتلك المصلحة الذاتية التي تحدد مناط الإرادة. لذلك فالشورى ليست خاصة بالعلماء لأنها من نوعين يخلوان من فعل الأجير: أبو يعرب المرزوقي 20 الأسماء والبيان
- -- فهي بيعة كلية وتتعلق بالإنابة في الحكم لتعيين من يكلف برعاية الشأن العام بمعنى إدارته التي أصبحت فرض كفاية يكون فيها المنوب مثل أي موظف آخر في خدمة الجماعة لأن الحكم بهذا المعنى خدمة تخضع لشرطين هما علة انتخاب النائب :الأمانة والعدل (النساء .)38 وهي بيعة جزئية في كل قضية كبرى تقتضي الشورى في الجماعة أي في أمهات أمر الجماعة حيث يصبح القرار خاضعا لمعيار الديموقراطية المباشرة بالاستفتاء .وأهم مشكلة ذكرتها الآية غاية بعد ما بدأت به لبيان من المقصود بالجماعة التي تدير أمرها بالشورى هي قضية المشكل الاقتصادي الاجتماعي في الرعاية وفي الحماية أي الإنفاق من الرزق (البقرة 177 حددته أبوابه بدقة تامة). صحيح أن ابن خلدون لم يستعمل كلمة \"عقد\" بالمفرد لكنه استعملها في الجمع فتكلم على العقود وهو ما يعني أنه لا يعني العقائد .وقد استعمل العقود في كلامه على ما ذكرت وختم كلامه بالقول إن الحكم الموجود فعلا ليس أيا مما ذكر بمفرده بل هو خليط مخمس مؤلف منها جميعا :وضع طبيعي دون عقد مع وضعين فيهما عقد عقلي ووضع فيه عقد ديني. لكني بينت ان الديني هو بدوره مضاعف مثل العقلي أو الدنيوي الخالص أو بلغتنا الحديثة العلماني .فالعلماني نوعان في عرضه والديني مثله ينبغي أن يكون مضاعف ديني حقيقي وديني مزيف والحقيقي من الديني يراعي فعلا شرع الله والحقيقي من العقل يراعي شرع العقل. المشكل ان العرب لا يزالون في الطبيعي .فليس عندهم أي من النظامين العقليين ولا من النظامين الدينيين :فهم لا يراعون حتى مصلحتهم لتبعتيهم ولا يكتشف ضرورة مراعاة مصلحة المحكوم ليستمد منه شرعية ويستعمل الدين أفيونا ليبرر تبعيته فضلا عن أن يكون الدين عنده سلطة روحية فوق سلطته. والأدهى ليس ذلك في عصر ابن خلدون فحسب بل جلهم ما يزالون إلى الآن كذلك. والدليل الذي يكفي لكل ذي عقل هو دور الرمزين :يكفي أن نرى كيف يستعمل رمز الفعل أبو يعرب المرزوقي 21 الأسماء والبيان
- -- (المال عامة والعملة خاصة) وفعل الرمز الكلمة عامة والأعلام خاصة) حتى تعلم أن كل شيء يرشح استبداد وفسادا وتبعية ونذالة وعمالة. فمال الجماعة صار ملكا لهم وإعلام الأمة صار أداة بيدهم .هو دمى بيد من نصبهم. ونحن مفروض علينا الاختيار بين العبودية المضاعفة لهم غوافير لسيدهم المستعمر وذراعيه (الملالي والحاخامات) أو آخر الدواء الكي الذي نرى نتائجه في سوريا واليمن وليبيا وقبل ذلك في الجزائر والعراق ومصر إلخ... وختاما كان يمكن أن أكتفي بـالقول إن ابن خلدون في مجال العمل والشرع مثل ابن تيمية في مجال النظر والعقد لم ينتظرا أحدا لتشخيص أدواء الأمة .لكن الإشكال الذي حال دون تأثير ثورتهما هو قضيتي وليس الطابع الثوري بحد ذاته لفكره أو لفكر ابن تيمية. وعلاجي لهذا المشكل رده إلى أن ما كان مسيطرا من علوم زائفة في الفكر الديني وفي التفكير الفلسفي كان يحول دونـهما ورؤية ما حاولا صوغه. وقد يكون في استعمالهما الاصطلاح المسيطر ما يعلل عسر رؤية ما يشيران إليه دون الذهاب به إلى ثمراته وخاصة إلى إعطائه النسقية التي تنقله من منطق الحدوس النظرية إلى منطق الأنساق النظرية .والأغرب من ذلك أن فكر الرجلين ما مشوها عند كاريكاتوري التأصيل والتحديث .وعلة ذلك هي نكوص الفكر الحديث نفسه بعد الهيجلية والماركسية إلى القول بالمطابقة في نظرية المعرفة وفي نظرية القيمة. فالفلسفة كلها صارت علم كلام بسبب النكوص الهيجلي الذي حقق السيطرة المطلقة على البعد الأول من السياسة أعني الثقافة القائلة بالمنطق الجدلي وبسبب النكوص الماركسي الذي نقله إلى البعد الثاني منها أي الحكم القائل بالمنطق الجدلي فأصبحت الفكر عامة من جنس الفرق الدينية لأن الفلسفة لحقت بالدين في معناه القروسطي. والعلة أن الفلسفة فقدت علاقتها بالعلوم ولم تدرك ما يترتب على ذلك رغم أن الفلسفة القديمة على الأقل عند أفلاطون وأرسطو كانت مدركة لكونها ما بعد العلم والعمل وليس العلم والعمل .لكن النكوص إلى القرون الوسطى جعلها تخلط بين موضوعها وموضوعه. أبو يعرب المرزوقي 22 الأسماء والبيان
- -- فالفكر الفلسفي والفكر الديني بعد النكوص إلى القرون الوسطى بسبب هيجل وماركس أصبحا يتصوران أن ما كان مجرد أمثلة في الأرسطية والأفلاطونية هو موضوع الفكر الفلسفي وليس العلم والعمل اللذين يستمد منهما هذه الأمثلة لتوضيح المابعد وليس لدرس الموضوع .الفلسفة والدين لا يتكلمان في الأشياء مباشرة بل هما دائما قول ما بعدي موضوعها ليس موضوع العلم والعمل بل العلم والعمل من حيث هما ما بعدان لهما. ولذلك اعتبرت علماء الملة قد حرفوا القرآن لأنهم قلبوا أمر فصلت 53نهيا وظنوا القرآن مدونة علوم وأعمال وليس ما بعدا رؤيويا يحدد شروط الفاعلية العلمية والعملية. وما يزال القائلون بالإعجاز العلمي على هذا النهج .وقلبوا نهي آل عمران 7أمرا وظنوا كلامهم في المتشابه والغيب ممكنا توهما أن رسوخهم في العلم يعني القدرة على الإحاطة بالغيب وعمموا خطأهم في نظرية المعرفة لأن العلم المحيط المزعوم جعلهم يعتبرون الغيب من جنس الغائب ويمكن قيسه على الشاهد فأصبح عالم الشهادة العالم الوحيد وهو ما سماه ابن خلدون وهم رد الوجود إلى الإدراك. ونفس الأمر حصل في فكر الحداثة التي تلت هيجل وماركس :توهم الرجلان أن فلسفتهما علم أحدهما تصور فلسفته علما محيطيا بالعالم الروحي الذي يرد إليه العالم المادي والثاني عكس فتصور فلسفته علما محيطا بالعالم المادي الذي يرد إليه العالم الروحي. فأعادا البشرية إلى نفس الرؤية التي ترد الوجود إلى الإدراك بدعوى الإحاطة أو بدعوى أنه لا شيء يتجاوز فكر الإنسان وأن العالم الحقيقي الوحيد هو عالم مدارك الإنسان. وحتى أيسر فهم المشكل فلأضع المصطلحات التالية: .1أسمي ذاتيا من النظر والعمل ما كان إضافيا لذات إنسانية بمفردها دون اعتبار للاشتراك مع الذوات الأخرى قليلة كانت أو كثيرة .وهذا \"حقيقة\" ذاتية مطلقة بمعنى أنه لا أحد يشارك تلك الذات فيها .وهذا يخرج عن دائرة العلم والعمل إذ قد يعتبر أحيانا من أوهام صاحبه. أبو يعرب المرزوقي 23 الأسماء والبيان
- -- .2أسمي ذاتيا مشتركا ما يتجاوز الحالة السابقة إلى حالة الاشتراك بين عدة ذوات في نظر أو عمل يجمعون عليهما .وكلما كبر عددهم ازداد تصديق النظر والعمل عند غير القائلين بهما .وغالبا ما تكون المعرفة التي تستند إلى الخبر من هذا النوع كما في ما يسمى بعلم الحديث والتاريخ عامة رغم أن هذا يزيد عليه الاستناد إلى الوثائق لكن ذلك لا يميزه لأن الوثائق هي شهادات خبرية من معاصرين للحدث. .3يبدأ العلم والعمل في تمثيل ما نسيمه علما وعملا موضوعيا عندما يصبح الثاني حاصلا على اجماع المختصين في مجال من مجالاتهما بصورة تخضع لمعايير منهجية يجمع المختصون في البحث فيهما على أنها تمثل دليلا على \"موضوعية\" العلم والعمل ويعتبرون أهمها معيار الاحتكام إلى الموضوع الذي هو مجال البحث وهو ما يسمى التجربة بأدوات وإجراءات صنعوها بالاستناد إلى علوم وظيفتها الأساسية تقوية الاطلاع على \"الموضوع\" والتأكد من شهادته عند الاحتكام إليه. .4لكن ذلك يمكن أن نقول إنه ذو موضوعية إضافية إلى أجماع بشري .وهبنا سلمنا أن ما أجمع عليه أهل الاختصاص في عصر من العصور أو حتى في كل العصور (وهو مستحيل الإثبات) ممثلا للإنسانية كلها فهو يبقى مع ذلك إضافيا إلى الإنسان .وهي إذن موضوعية إضافية إلى ما بين الذوات من اشتراك في الإدراك .وهذه هي الفرضية التي بنى عليها أرسطو معركته مع السوفسطائية متوهما أن ما يحتج به هؤلاء كان مقصورا على المستوى الأول أو حتى الثاني ومعتبرا أن المستوى الثالث يحقق الموضوعية التي تزيل اعتراضاتهم على نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة .لكن اعتراضاتهم فيها من الوجاهة ما لم ينتبه إليه ارسطو ولا أفلاطون حتى وإن كنت لا أعتقد أن السوفسطائين أنفسهم كانوا يشيرون إلى عدم الإحاطة والتسليم مثل ابن خلدون وابن تيمية بأن الوجود أوسع من الإدراك. .5وكان يمكن أن نتصور الموضوعية ذات مستويين إضافي إلى الإجماع الإنساني أو المشترك بين الذوات وهي قابلة للتحقيق رغم كونها تاريخية باعتبار أن أجيال الإنسانية متفاضلة وتقدم وسائل الإدراك يمكن أن يكون لا متناهيا .لكن السؤال هو :هل توجد أبو يعرب المرزوقي 24 الأسماء والبيان
- -- موضوعية إضافية إلى ما بين كل الموضوعات أو الموجودات مما يقبل الإدراك الذي قد لا يكون مقصورا على الإدراك الإنساني؟ الجواب بنعم يعني تعدد العوالم التي لا يحيط بها إلى مبدعها إن كنا مؤمنين. وهنا يأتي فرض الغزالي لطور ما وراء العقل تسليما بأن العقل يعبر عن الواحد الإنساني الذي بالإضافة إليه يسمى العلم علما والعمل عملا .واستدراك الغزالي هذا على \"موضوعية\" العلم والعمل الإنسانيين نكص عنه لاحقا بوهم الكشف الصوفي وبفلسفة ابن سينا لكن ابن تيمية وابن خلدون حافظا عليه وتجاوزاه .وبلغ الأمر ذروته عند كنط عندما وضع المفهوم الحد المطلق وهو مفهوم الشيء في ذاته .وهو ما نكص عنه هيجل بالعودة إلى القول بالمطابقة. أبو يعرب المرزوقي 25 الأسماء والبيان
- - - لو كان ابن خلدون قد \"صنع\" هذه المفهومات المتعلقة بوظائف الدولة التي درسناها في الفصول السابقة لتمكن من وضع تصور نسقي لما يقترحه في الكثير من فصول المقدمة من إصلاحات توصل إليها من خلال رؤية الآيات في الآفاق وفي الأنفس كما وعد عندما قل إنه يرفض المصدرين المعلومين في عصره للبحث في السياسة. فقد وعد بأن ينظر في \"العمران البشري والاجتماع الإنسان\" بمقتضى طبائعهما وما يعرض لهما بهذا المقتضى رافضا منهج الفلاسفة في نظرية المدينة الفاضلة ونظرية الفقهاء في الأحكام السلطانية .وقد يظن أن عن المدن الفاضلة يقتصر على أفلاطون والفارابي ويستثني أرسطو كما توهم المرحوم بدوي .والمعلوم أنه متسرع كعادته في أحكامه القطعية وغير المؤسسة على عميق نظر فلم ينتبه إلى أن رؤية ابن خلدون كانت النقيض التام للرؤية الأرسطية: .1لا يقبل نموذج قوى النفس الثلاثة للدولة وهو مشترك لأفلاطون وأرسطو. .2ولا يقبل نموذج الأسرة للدولة وهو خاص بأرسطو (وبه يبدأ كتاب السياسة) بل يعكس فيجعل الدولة هي نموذج النفس والأسرة. فعنده أن النفس والأسرة لا يمكنهما تحقيق وظيفتي الرعاية والحماية من دون إطار يحيط بهما ويؤسسهما ومن ثم فالوظيفتان اللتان لا تتحققان إلا بما يشبه الدولة حتى قبل وجودها هما المحددتان للنفس وللأسرة .ومعنى ذلك أننا لا يمكن أن نفهم الظاهرة الإنسانية بالنفس لأنها لا ترد إلى العضوي ولا بالأسرة قبل ما يضيفه التاريخ. فالقبيلة شبه دولة .فهي ليست مجرد علاقة رحم بل هي نظام حكم أيضا أو نظام سلط هي سلط الأسرة الكبرى .ولها كل وظائف الدولة أعني الرعاية والحماية حتى وإن كان التخصص الوظيفي ليس شديد التفرع كما يحدث في الدول وهو متوالي التعقيد حتى في أبو يعرب المرزوقي 26 الأسماء والبيان
- -- الدول :وخاصة ما تعلق بالتكوين والتموين في الرعاية وما تعلق بالحماية الداخلية والحماية الخارجية في الحماية. وقد خصصت لمفهوم \"نحلة العيش\" التي هي المحدد الأول والاخير للنفس والاسرة ولدور الفرد والجماعة وهي تجمع بين الوظيفتين وظيفة الرعاية والتبادل -ومنها تبادل النساء لتأسيس الاسر-والحماية ومنها الأحلاف بين الجماعات وضد بعضها لحماية مصادر الرزق. ولا يزال الامر كذلك حتى في عصر العولمة. وذلك يعني أن التاريخي متقدم على العضوي والكلي على الجزئي والجماعي على الفردي والأوسع على الأضيق في الجماعات بسبب الحاجة إلى التعاون على سد الحاجات المادية والروحية رعاية وحماية والانتقال مما يسميه ابن خلدون وضعية شبه حيوانية تعمها العصبيات تفضي للهرج إلى تنظيم الوظيفتين :الدولة. حينها تنشأ الأسرة مؤسسة ذات منزلة قانونية والفرد ذاتا مسؤولة والملكية بوصفها اعتراف الجماعة بحق شروط قيام الأفراد والأسر والجماعات شرطا في التبادل عامة بما في ذلك تبادل النساء وما يسد الحاجات مما تحصل عليه الجماعة بالتعاون صيدا أو غزوا أو رعيا للحيوانات أو بداية الزراعة. وفي خلال ذلك تنشأ أداة التبادل وأداة التواصل :وهذه قبل تلك لأنها هي التي ستجعل التبادل ينتقل من المقايضة إلى الوسيط الرمزي المغني عن المقايضة والمحرر من التبادل العيني ببديل هو التبادل النقدي أو غاية الحرية في التعاون لأن \"المال\" يصبح قائما بذاته وليس متعينا في البضاعة أو الخدمة. وما توجد لغة التواصل حتى توجد \"لغة\" التبادل لأن الأولى شارطة للثانية :ذلك أنه لا بد من التواضع بين المتبادلين على \"شيء\" ما يعتبر \"عملة\" تتعين فيها قيم ما يسد الحاجات المادية كما تتعين معاني ما يسد الحاجات الروحية في \"الكلمة\" .وإذا تحقق ذلك تكون شروط الدولة قد تحققت بصورة أبدية. ذلك أنه يحصل أمران عجيبان: أبو يعرب المرزوقي 27 الأسماء والبيان
- -- .1يصبح بوسع الجماعة أن تتألف من اجيالها الحية وكذلك من أجيالها الميتة لأن خبرتها وثمرة جهدها تبقى في رمز الثروة (العملة) ورمز التراث (الكلمة) .2يصبح بالوسع تقسيم العمل ولا يحتاج كل أحد القيام بكل ما يسد حاجاته بنفسه. ولما تقصر الذاكرة تكتشف الكتابة. وهكذا تتكون سلطتان مادية هي السلطة السياسية وروحية هي السلطة الدينية من جنس الدولة الفرعونية والبابلية .وكانت السلطة الدينية جامعة بين النظر والعقد أصل كل العلوم والعلاقة بالطبيعة خاصة والعمل والشرع أصل كل الشرائع والعلاقة بالتاريخ خاصة .فتتعين كل الوظائف العشر التي ذكرتها. واعتمادا على هذين السلطتين وضع ابن خلدون نظرية \"الدستور\" بوصفه عقدا بين الحاكم والمحكوم وذكر اشكالا ثلاثة وكان ينبغي أن تكون أربعة مع خامس يجمع بينها ومرحلة متقدمة عليها يسميها الحال الطبيعية التي تقدمت عليها جميعا والتي هي عنده فعلية وليست مجرد فرضية كما في فلسفات القرن .17فابن خلدون يميز بين جنسين من العقد الحكم: .1الأول مقصور على المصالح الدنيوية ويسميه الحكم العقلي .وله مستويان أحدهما لا يراعي إلى مصلحة الحاكم. .2والثاني يجمع بين مصلحة الحاكم ومصلحة المحكوم .فيكون الاول فارضا الطاعة على المحكوم بالعنف والثاني حاصلا عليها بما يتحقق للمحكوم من مصلحة. وفي الثاني يوجد طرف ثالث ويجمع بين المصلحة الدنيوية والمصلحة الأخروية .واعتبره ابن خلدون ذا مستوى واحد .وهو خطأ لأن الحكم الديني أيضا يمكن أن يكون لصالح الحاكم وحده باسم المصلحة الدينية دون أن يعطي للمحكوم شيئا ويمكن أن يعطيه حقوقه فعلا .فيكون هذا أيضا ذا مستويين :ديني صادق وديني وكاذب مثلما أن العقلي صادق وكاذب. أبو يعرب المرزوقي 28 الأسماء والبيان
- -- وهذا النوع الثاني عند ابن خلدون هو الأفضل دون أن يعلل المفاضلة .والعلة بينة إذا كان من نوعه الثاني بمعنى إذا لم يكن الدين \"أفيونا للشعب\" بل حقيقة فعلية بمعنى أن الحاكم يطبق قيم الدين حقا وليس للإيهام بالخداع الديني .والعلة هي أن التعاقد يقتضي أن يكون بين متساويين. فإذا لم يوجد الطرف الثالث الذي يتساوى لديه الطرفان المتعاقدان كان أحد الطرفين قاضيا ومتقاضيا أو كان هو الذي يفرض شروط العقد فلا يكون عقدا حرا بل مفروضا من قبل الاقوى أي الحاكم .العقد السليم هو الذي يكون فيه الحاكم والمكوم سياسيا كلاهما مثل الثاني لدى حاكم الجميع ألله. وهذا هو العقد السليم كما تحدده الآية 38من الشورى حيث يعرف الجميع بـ\"الذين استجابوا لربهم\" ويكون العقد بينهم بوصفهم هم أصحاب الامر ويديرونه بالشورى في ما بينهم .وإذا أنابوا عنهم واحدا منهم كان أجيرا عندهم في تقاسم الأعمال مثل أي واحد منهم في عمله .ذلك أن الشورى فرض عين. وهي بهذه الصفة عين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والنيابة فرض كفاية وهي خاضعة لمعيارين حددتها الآية 58من النساء (الحكم شرطه الأمانة والعدل) فيكون النائب الاجير عند الجماعة خاضعا لمراقبتها الدائمة هي توليه لمدة معينة وتعزله إن لم يتحقق فيه الشرطان .والشورى ملزمة وليست استشارة بمعنى الاسترشاد برأي الخبراء. فهي ليست متعلقة بمشورة الخبرة المعرفية بل بمشورة الإرادة العملية .وطبعا لا تخلو هذه من تلك لكن هذه تضيف إلى تلك أمرين تخلو منهما: .1فالرأي يتعلق بمصلحة ذاتية للمشارك في الشورى بوصف الامر أمره وليس هو فيه أجير عند صاحبه كما في استشارة الخبير (أمرهم). .2والقرار يتعلق بالتزام شخصي مبني على تقدير لتلك المصلحة الذاتية التي تحدد مناط الإرادة. لذلك فالشورى ليست خاصة بالعلماء لأنها من نوعين يخلوان من فعل الأجير: أبو يعرب المرزوقي 29 الأسماء والبيان
- -- فهي بيعة كلية وتتعلق بالإنابة في الحكم لتعيين من يكلف برعاية الشأن العام بمعنى إدارته التي أصبحت فرض كفاية يكون فيها المنوب مثل أي موظف آخر في خدمة الجماعة لأن الحكم بهذا المعنى خدمة تخضع لشرطين هما علة انتخاب النائب :الأمانة والعدل (النساء .)38 وهي بيعة جزئية في كل قضية كبرى تقتضي الشورى في الجماعة أي في أمهات أمر الجماعة حيث يصبح القرار خاضعا لمعيار الديموقراطية المباشرة بالاستفتاء .وأهم مشكلة ذكرتها الآية غاية بعد ما بدأت به لبيان من المقصود بالجماعة التي تدير أمرها بالشورى هي قضية المشكل الاقتصادي الاجتماعي في الرعاية وفي الحماية أي الإنفاق من الرزق (البقرة 177 حددته أبوابه بدقة تامة). صحيح أن ابن خلدون لم يستعمل كلمة \"عقد\" بالمفرد لكنه استعملها في الجمع فتكلم على العقود وهو ما يعني أنه لا يعني العقائد .وقد استعمل العقود في كلامه على ما ذكرت وختم كلامه بالقول إن الحكم الموجود فعلا ليس أيا مما ذكر بمفرده بل هو خليط مخمس مؤلف منها جميعا :وضع طبيعي دون عقد مع وضعين فيهما عقد عقلي ووضع فيه عقد ديني. لكني بينت ان الديني هو بدوره مضاعف مثل العقلي أو الدنيوي الخالص أو بلغتنا الحديثة العلماني .فالعلماني نوعان في عرضه والديني مثله ينبغي أن يكون مضاعف ديني حقيقي وديني مزيف والحقيقي من الديني يراعي فعلا شرع الله والحقيقي من العقل يراعي شرع العقل. المشكل ان العرب لا يزالون في الطبيعي .فليس عندهم أي من النظامين العقليين ولا من النظامين الدينيين :فهم لا يراعون حتى مصلحتهم لتبعتيهم ولا يكتشف ضرورة مراعاة مصلحة المحكوم ليستمد منه شرعية ويستعمل الدين أفيونا ليبرر تبعيته فضلا عن أن يكون الدين عنده سلطة روحية فوق سلطته. والأدهى ليس ذلك في عصر ابن خلدون فحسب بل جلهم ما يزالون إلى الآن كذلك. والدليل الذي يكفي لكل ذي عقل هو دور الرمزين :يكفي أن نرى كيف يستعمل رمز الفعل أبو يعرب المرزوقي 30 الأسماء والبيان
- -- (المال عامة والعملة خاصة) وفعل الرمز الكلمة عامة والأعلام خاصة) حتى تعلم أن كل شيء يرشح استبداد وفسادا وتبعية ونذالة وعمالة. فمال الجماعة صار ملكا لهم وإعلام الأمة صار أداة بيدهم .هو دمى بيد من نصبهم. ونحن مفروض علينا الاختيار بين العبودية المضاعفة لهم غوافير لسيدهم المستعمر وذراعيه (الملالي والحاخامات) أو آخر الدواء الكي الذي نرى نتائجه في سوريا واليمن وليبيا وقبل ذلك في الجزائر والعراق ومصر إلخ... وختاما كان يمكن أن أكتفي بـالقول إن ابن خلدون في مجال العمل والشرع مثل ابن تيمية في مجال النظر والعقد لم ينتظرا أحدا لتشخيص أدواء الأمة .لكن الإشكال الذي حال دون تأثير ثورتهما هو قضيتي وليس الطابع الثوري بحد ذاته لفكره أو لفكر ابن تيمية. وعلاجي لهذا المشكل رده إلى أن ما كان مسيطرا من علوم زائفة في الفكر الديني وفي التفكير الفلسفي كان يحول دونـهما ورؤية ما حاولا صوغه. وقد يكون في استعمالهما الاصطلاح المسيطر ما يعلل عسر رؤية ما يشيران إليه دون الذهاب به إلى ثمراته وخاصة إلى إعطائه النسقية التي تنقله من منطق الحدوس النظرية إلى منطق الأنساق النظرية .والأغرب من ذلك أن فكر الرجلين ما مشوها عند كاريكاتوري التأصيل والتحديث .وعلة ذلك هي نكوص الفكر الحديث نفسه بعد الهيجلية والماركسية إلى القول بالمطابقة في نظرية المعرفة وفي نظرية القيمة. فالفلسفة كلها صارت علم كلام بسبب النكوص الهيجلي الذي حقق السيطرة المطلقة على البعد الأول من السياسة أعني الثقافة القائلة بالمنطق الجدلي وبسبب النكوص الماركسي الذي نقله إلى البعد الثاني منها أي الحكم القائل بالمنطق الجدلي فأصبحت الفكر عامة من جنس الفرق الدينية لأن الفلسفة لحقت بالدين في معناه القروسطي. والعلة أن الفلسفة فقدت علاقتها بالعلوم ولم تدرك ما يترتب على ذلك رغم أن الفلسفة القديمة على الأقل عند أفلاطون وأرسطو كانت مدركة لكونها ما بعد العلم والعمل وليس العلم والعمل .لكن النكوص إلى القرون الوسطى جعلها تخلط بين موضوعها وموضوعه. أبو يعرب المرزوقي 31 الأسماء والبيان
- -- فالفكر الفلسفي والفكر الديني بعد النكوص إلى القرون الوسطى بسبب هيجل وماركس أصبحا يتصوران أن ما كان مجرد أمثلة في الأرسطية والأفلاطونية هو موضوع الفكر الفلسفي وليس العلم والعمل اللذين يستمد منهما هذه الأمثلة لتوضيح المابعد وليس لدرس الموضوع .الفلسفة والدين لا يتكلمان في الأشياء مباشرة بل هما دائما قول ما بعدي موضوعها ليس موضوع العلم والعمل بل العلم والعمل من حيث هما ما بعدان لهما. ولذلك اعتبرت علماء الملة قد حرفوا القرآن لأنهم قلبوا أمر فصلت 53نهيا وظنوا القرآن مدونة علوم وأعمال وليس ما بعدا رؤيويا يحدد شروط الفاعلية العلمية والعملية. وما يزال القائلون بالإعجاز العلمي على هذا النهج .وقلبوا نهي آل عمران 7أمرا وظنوا كلامهم في المتشابه والغيب ممكنا توهما أن رسوخهم في العلم يعني القدرة على الإحاطة بالغيب وعمموا خطأهم في نظرية المعرفة لأن العلم المحيط المزعوم جعلهم يعتبرون الغيب من جنس الغائب ويمكن قيسه على الشاهد فأصبح عالم الشهادة العالم الوحيد وهو ما سماه ابن خلدون وهم رد الوجود إلى الإدراك. ونفس الأمر حصل في فكر الحداثة التي تلت هيجل وماركس :توهم الرجلان أن فلسفتهما علم أحدهما تصور فلسفته علما محيطيا بالعالم الروحي الذي يرد إليه العالم المادي والثاني عكس فتصور فلسفته علما محيطا بالعالم المادي الذي يرد إليه العالم الروحي. فأعادا البشرية إلى نفس الرؤية التي ترد الوجود إلى الإدراك بدعوى الإحاطة أو بدعوى أنه لا شيء يتجاوز فكر الإنسان وأن العالم الحقيقي الوحيد هو عالم مدارك الإنسان. وحتى أيسر فهم المشكل فلأضع المصطلحات التالية: .1أسمي ذاتيا من النظر والعمل ما كان إضافيا لذات إنسانية بمفردها دون اعتبار للاشتراك مع الذوات الأخرى قليلة كانت أو كثيرة .وهذا \"حقيقة\" ذاتية مطلقة بمعنى أنه لا أحد يشارك تلك الذات فيها .وهذا يخرج عن دائرة العلم والعمل إذ قد يعتبر أحيانا من أوهام صاحبه. أبو يعرب المرزوقي 32 الأسماء والبيان
- -- .2أسمي ذاتيا مشتركا ما يتجاوز الحالة السابقة إلى حالة الاشتراك بين عدة ذوات في نظر أو عمل يجمعون عليهما .وكلما كبر عددهم ازداد تصديق النظر والعمل عند غير القائلين بهما .وغالبا ما تكون المعرفة التي تستند إلى الخبر من هذا النوع كما في ما يسمى بعلم الحديث والتاريخ عامة رغم أن هذا يزيد عليه الاستناد إلى الوثائق لكن ذلك لا يميزه لأن الوثائق هي شهادات خبرية من معاصرين للحدث. .3يبدأ العلم والعمل في تمثيل ما نسيمه علما وعملا موضوعيا عندما يصبح الثاني حاصلا على اجماع المختصين في مجال من مجالاتهما بصورة تخضع لمعايير منهجية يجمع المختصون في البحث فيهما على أنها تمثل دليلا على \"موضوعية\" العلم والعمل ويعتبرون أهمها معيار الاحتكام إلى الموضوع الذي هو مجال البحث وهو ما يسمى التجربة بأدوات وإجراءات صنعوها بالاستناد إلى علوم وظيفتها الأساسية تقوية الاطلاع على \"الموضوع\" والتأكد من شهادته عند الاحتكام إليه. .4لكن ذلك يمكن أن نقول إنه ذو موضوعية إضافية إلى أجماع بشري .وهبنا سلمنا أن ما أجمع عليه أهل الاختصاص في عصر من العصور أو حتى في كل العصور (وهو مستحيل الإثبات) ممثلا للإنسانية كلها فهو يبقى مع ذلك إضافيا إلى الإنسان .وهي إذن موضوعية إضافية إلى ما بين الذوات من اشتراك في الإدراك .وهذه هي الفرضية التي بنى عليها أرسطو معركته مع السوفسطائية متوهما أن ما يحتج به هؤلاء كان مقصورا على المستوى الأول أو حتى الثاني ومعتبرا أن المستوى الثالث يحقق الموضوعية التي تزيل اعتراضاتهم على نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة .لكن اعتراضاتهم فيها من الوجاهة ما لم ينتبه إليه ارسطو ولا أفلاطون حتى وإن كنت لا أعتقد أن السوفسطائين أنفسهم كانوا يشيرون إلى عدم الإحاطة والتسليم مثل ابن خلدون وابن تيمية بأن الوجود أوسع من الإدراك. .5وكان يمكن أن نتصور الموضوعية ذات مستويين إضافي إلى الإجماع الإنساني أو المشترك بين الذوات وهي قابلة للتحقيق رغم كونها تاريخية باعتبار أن أجيال الإنسانية متفاضلة وتقدم وسائل الإدراك يمكن أن يكون لا متناهيا .لكن السؤال هو :هل توجد أبو يعرب المرزوقي 33 الأسماء والبيان
- -- موضوعية إضافية إلى ما بين كل الموضوعات أو الموجودات مما يقبل الإدراك الذي قد لا يكون مقصورا على الإدراك الإنساني؟ الجواب بنعم يعني تعدد العوالم التي لا يحيط بها إلى مبدعها إن كنا مؤمنين. وهنا يأتي فرض الغزالي لطور ما وراء العقل تسليما بأن العقل يعبر عن الواحد الإنساني الذي بالإضافة إليه يسمى العلم علما والعمل عملا .واستدراك الغزالي هذا على \"موضوعية\" العلم والعمل الإنسانيين نكص عنه لاحقا بوهم الكشف الصوفي وبفلسفة ابن سينا لكن ابن تيمية وابن خلدون حافظا عليه وتجاوزاه .وبلغ الأمر ذروته عند كنط عندما وضع المفهوم الحد المطلق وهو مفهوم الشيء في ذاته .وهو ما نكص عنه هيجل بالعودة إلى القول بالمطابقة. أبو يعرب المرزوقي 34 الأسماء والبيان
- - - لكن هذه العودة إلى سيطرة الرمز المطلقة على الوجود الإنساني تمر برمز الرموز الدولة .فالدولة هي بدورها ذات معنوية هي نظام المؤسسات التي من دونها لا يعمل الرمزان إذ حتى في غيابهما فهما يمثلان ذارعين لما هو مضمر فيهما حضورا لها حتى في غيابها لأنهما شرطا التبادل والتواصل في الجماعة. لذلك ففعل الرمز أو الكلمة هي أداة التواصل وخاصة التواصل المتعلق بفني المائدة والسرير أي بما يصبحهما من حضور للمخيال في \"الواقع\" الفني فيهما ورمز الفعل هي أداة التبادل وخاصة المتعلق بالمائدة والسرير أي بما فيهما من مادة الغذاء والجنس كقابلية للحصول عليهما وليس بالضرورة كحصول فعلي. والدولة من حيث هي ذات معنوية يمكن أن تكون محايدة في فاعلية الرمزين لكن الذات المعنوية لا تفعل بذاتها بل بمن تتعين فيهم الذات المعنوية بوصفهم القيمين عليها والناقلين إياها من ذات معنوية مجردة لا توجد إلا في الأذهان وفي المؤسسات كخانات شاغرة ذات شبه طبيعية متعينة فيهم. وكلهم لهم ما يشبه قولة لويس الرابع عشر :الدولة هي أنا .فالقيمون على الدولة من حيث الطبيعة هم ممثلو إرادة الجماعة التي عينتهم للقيام بوظائفها في نظام توزيع العمل الناقل لفرض العين إلى فرض الكفاية .لكن المكلف كفاية ينوب من كلفه عينا .وكلما تخلى العيني عن دوره للكفائي كثر التحريف. لأن القيم بالكفاية بديلا من القيم بالعين يجمع كل السلطة بين يديه في غياب الرقابة العينية لأن الرقابة الكفائية تضعنا أمام نفس التحريف .وبذلك تنقلب العلاقة فيصبح صاحب الدور الكفائي وكأنه هو صاحب السلطة في حين السلطة الفعلية كان ينبغي أن تكون لصاحب الدور العيني :دور الوسطاء. أبو يعرب المرزوقي 35 الأسماء والبيان
- -- ومفهوم الدولة الحاضنة التي سيطرت على العرب إما بالمعنى القبلي أو بالمعنى العسكري يمثل أقصى ما يمكن أن تتعين فيه هذه الأمراض التي تجعل الإنسان يفقد تماما كل سلطان على أمره ويصبح تابعا لمن يسيطر على المائدة والسرير أو بصورة أدق عليهما وعلى رمزيهما أصلا لكل استبداد وفساد. وهذا الأمر هو في الحقيقة من خصائص الدولة الحديثة عامة بعد أن سيطرت على الدور الذي كان تابعا للمجمع الأهلي ممثلا بالأوقاف سواء كان ذات هيئة كنسية كما في الكاثوليكية أو في التشيع أو بدونها كما لدى السنة ثم بسبب الماركسية سيطرت أيضا على بقية دورها في الإنتاجين الاقتصادي والثقافي. والدولة الماركسية نكوص إلى الدولة الفرعونية :الحزب هو الأسرة الحاكمة وهي حاكمة في الثروة والتراث وكلاهما يؤله الطبيعة ولا شيء غيرها .ودعوى تحقيق شروط حرية الإنسان وكرامته في الماركسية هي اكبر كذبة عرفها التاريخ وهي الوحيدة التي تخلو منها الدولة الماركسية حتى وإن كانت قصة يوسف كما وردت في القرآن سعت إلى هذا المعنى لتحرر الإنسان من الحل الفرعوني ومن التحريف التوراتي. لذلك فالقصة التي تناسب الماركسية هي القصة والواردة في التوراة .ذلك أن ما كان اضطهاد دون عبودية في النظام الفرعوني لأن المصريين قبل يوسف التوراتي كانوا يملكون أرضهم صار في النظام الماركسي اضطهادا مع عبودية إذ أصبح المصريون أقنانا عند الفرعون الذي طبق نصيحته فخزن صابة السنوات السمان للعجاب وقايض المصريين ملكيتهم بمعاشهم. ولم يبق متحررا بعض الشيء من ذلك إلا المجتمعات الليبرالية شبه المطلقة حيث يكاد دور الدولة في الإنتاج الاقتصادي والثقافي يقرب من الصفر وإن كان يتدخل بصورة غير مباشرة من خلال تصرفه كحريف يتعامل مع القطاع الخاص بصفات عامة تشجع ما يماشي إرادة \"الدولة\" .فتكون النتيجة واحدة. أبو يعرب المرزوقي 36 الأسماء والبيان
- -- ذلك ان عدم المباشرة لتدخل الدولة تقلل من السلطان المباشر لكنه يبقى مع ذلك سلطان بيد من يسيطرون بتوسطها وهم نفس الوسطاء والتجار الذين يستغلون المنتجين والمستهلكين في آن .وليسوا هم بالضرورة أصحاب رأس المال كما قد يتوهم الكثير .فهم يستغلون عناصر الإنتاج الخمسة وهم غيرهم .فعملية الإنتاج اقتصاديا كان أو ثقافيا تتألف من: .1الفكرة. .2والاستثمار. .3والتمويل. .4والعمل المحقق للبضاعة أو الخدمة السادة للحاجة اقتصادية كانت أو ثقافية. .5والاستهلاك. وفي كل واحدة من هذه تجد الوسطاء الذين هم غير هؤلاء والذين يشبهون الكائنات التي تعيش بالتطفل على غيرها. ومعنى ذلك أن الظاهرة تشبه ما يجري في الظاهرة الحية :الجراثيم والفيروسات تعيش بالتطفل على الأبدان وهي لا تنتج شيئا في أي من المقومات الخمس في العملية الإنتاجية عدا استهلاك ما ينتجه غيرها وهو معنى التطفل .لكنها ضرورية لأنها من جنس الوسائط بين هذه العناصر المقومة .لا أريد أن أثقل على القارئ فأورد نصوص ابن خلدون فضلا عن كونها في المتناول ويكفي الإشارة إليها .فهو يفسر الظاهرة من مستوييها بحدين من سلطانيهما: .1الحد الأول من سلطان الدولة التي تتغول فتصبح مشاركة في الإنتاجين بدور الوسيط المتطفل بهذا المعنى وطبعا ليس الدولة من حيث هي ذات معنوية بل القيمون عليها يتدخلون باسمها. .2والحد الثاني من سلطان الجماعة التي تكثر من هذه الوسائط تبعا للترف الذي يكثر من الخدمات التي تصبح اختصاصات يتكفل بها خدم وحشم قبل تحرير العبيد -تحرير أبو يعرب المرزوقي 37 الأسماء والبيان
- -- وهمي-لأن الفرق الوحيد أنهم كانوا تابعين عينيا وصاروا تابعين بتوسط الرمزين أي أجراء بمقابل العملة والكلمة بدلا من المقابل العيني. ونصوص ابن خلدون في الوجهين كثيرة وسأكتفي بالإشارة إلى نصين :فمن تدخلات الدولة أعني القيمين عليها باسمها تجارتها وضرائبها وأتاواتها وهو يعتبر ذلك من علل فساد العمران لأنهما تقتلان الأمل على الخواص وتحولان دون التنافس الحر بسبب اعتماد القيمين على الدولة على سلطتها الاحتكارية. وسأقول شيئا سيعجب منه الكثير :يبدو وكأن ما يجري في فرنسا حاليا محاكيا لما جرى في الربيع العربي .لكنه في الحقيقة عكسه تماما .فالربيع العربي يرد المزيد من الدولة .وهم يريدون الحد من الدولة .لذلك فهم أقرب إلى الإسلام من الربيع العربي وهم أفهم لابن خلدون من كل العرب والكرب. ولعلي أغامر-كالعادة-فأقول إن شباب فرنسا يمكن أن يحدث ثورة عالمية شبيهة بثورة فرنسا في نهاية القرن الثامن عشر .هاهم يعيدون ما اعتبره هيجل شبيها بثورة الإسلام من حيث المناداة بالأخوة الإنسانية والمساواة والعدالة -وتلك علة الإرهاب الثوري فيهما معا :هم الآن يريدون معنى الشورى .38 أما الربيع العربي فيريد العكس تماما :يريد دولة حاضنة أي العبودية الحديثة بالمعنى الماركسي للكلمة وفيها تقاسم الكفاف وفي نفس الوقت الحريات والبحبوحة التي يحلمون بها باعتبارها النموذج الأمريكي ولا يرون أن هذا النموذج مستحيل في دولة حاضنة :لابد أن تكون الجماعة صاحبة شروط قيامها. النموذج الأمريكي أو الليبرالية المطلقة -في الحكم والاقتصاد وليس في القيم الخلقية والدينية-هو الصورة الأقرب للرؤية الخلدونية وهي بنحو ما قريبة من رؤية الإسلام بشرط ألا ننسى وجهها الثاني الوارد في الآية 38من الشورى :الإنفاق من الرزق أو البعد التضامني الاجتماعي مع الليبرالية. أبو يعرب المرزوقي 38 الأسماء والبيان
- -- وهذا البعد التضامني الاجتماعي هو الذي ينقص النموذج الامريكي ولو توفر فيه ذلك لكان نسخة مطابقة للأصل من الرؤية الخلدونية حيت لا يكون للدولة إلا وظيفة الحماية تحقيقا وتطبيقا والاقتصار على مراقبة وظيفة الرعاية وتوفير الشروط القاعدية لقيام الجماعة بها بنفسها شرد سيادتها على الدولة .والشروط القاعدية نوعان مادية وقانونية: .1ما يسمى بالقاعدة المادية أي شروط المواصلات والاتصالات ويمكن أن نصفها بكونها الشرط الأول لكل تنمية وهي مسؤولية الجماعة إما مباشرة عن طريق الدولة أو بصورة غير مباشرة عن طريق الجماعات المحلية إذا كانت السلطة موزعة عليها. .2وما يسمى بالقاعدة القانونية أي شروط العدل في فض الخلافات وحماية الحقوق بين العوامل الخمسة في عملية الإنتاج المادي والرمزي وكلها عندما تحمى تصبح مصدر الإبداع بكل مستوياته المحركة للحضارة :الفكرة والاستثمار والتمويل والعمل والاستهلاك. وكلتاهما مشروطة بما هو أعمق منهما وهو مضمون الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أعني البعد الخلقي من السياسي عامة في التربية وفي الحكم .فمن دون ما يسميه ابن خلدون بالوازع الذاتي (أي سلطة الضمير) لا يمكن للوازع الاجنبي (أي السلطة الخارجية) أن يكون ذا فاعلية لأنه يستمد سلطانه من كون الخارجين عن الأول قلة فيردعون ما يعني أن الاكثرية هي السند الأول والاخير الذي يعطي الشرعية لما يسمى باحتكار الدولة للقوة المنفذة للقانون في الجماعة. ففي أمريكا تحمى حقوق صاحب الفكرة فيكثر الإبداع العلمي والتقني .وتحمى حقوق المستثمر فتكثر المبادرات الاستثمارية .وتحمى حقوق الممول فينمو الادخار .وتحمى حقوق العامل فتنمو الانتاجية .وتحمى حقوق المستهلك فتنمو الجودة ويقل الغش .لكن كل هذه الحقوق منعدمة في الدول الحاضنة وخاصة المتخلف منها. وطبعا فما يسمى دولا عربية-وهي محميات وليست دولا لأن الدولة ذات سيادة ولا سيادة للمحميات العربية كلها-هي من هذا النوع الثاني .الكل يسرق الكل والكل لا يعترف بحق أبو يعرب المرزوقي 39 الأسماء والبيان
- -- الكل سواء كان صاحب فكرة أو استثمار أو تمويل أو عمل أو استهلاك .الفوضى المطلة. واللصوص هم المافيات العسكرية والقبلية. والتخلف مثله مثل التقدم كلاهما لا يقع بالصدفة .وعللهما هي مضمون المقدمة عند من يحسن الفحص والتحديق في ثنايا هذا العمل الجبار الذي ليس هو إلا \"الرمية\" الأولى والأولية التي كتبها صاحبها في أقل من نصف سنة ولو كان يوجد في عصره من يحاوره لتمكن بالنقد من زردها نسقيا لأفق لا حد له. وحرية الكلمة ممثلة بـالإعلام -رغم تبعيته لما شرحنا-لأن الإعلام مستقل عن القيمين على الدولة وحرية العملة ممثلة بالاقتصاد-رغم تبعيته التي شرحنا-لأن البنك المركزي مستقل عن القيمين على الدولة -وقوة القضاء المستقل إلى حد كبير عن القيمين على الدولة كل ذلك ليس بالصدفة بل هو من شروط علاج المهمتين الإنسانيتين كما حددهما القرآن وكما بنى عليهما ابن خلدون ريته المؤسسة للعلوم الإنسانية تأسيس اليونان للعلوم الطبيعية. وقد ميزت بوضوح بين الدولة من حيث منظومة المؤسسات والقوانين وبين القيمين عليها الذين هم موظفين فيها لمدة وغالبا ما يتصورون أنفسهم هم الدولة وخاصة في الأنظمة المستبدة والفاسدة حتى لا يفهم من كلامي أن التواصل والتبادل ليسا خاضعين للمؤسسات والقوانين كما يحددها الدستور والقيم التي تمثل مرجعيته والقوى السياسية التي تمثل إرادة الجماعة وتستطيع تغيير القوانين والمؤسسات بما فيها الدستور نفسه في ضوء فهوم جديدة للمرجعية القيمية للجماعة. فأما المهمة الأولى فهي العمران البشري أي كون الإنسان مستعمرا في الأرض عليه تعميرها ليعيش بكرامة وذلك شرط أن يدرك الإنسان ما يجعله يرتفع فوق الفقر المادي فيدرك الفقر الوجودي فيسمو إلى المثل العليا أي قيم الاستخلاف .وتلك هي المهمة الثانية للإنسان من حيث هو عابد لربه وليس للمستبد بحاجاته. أبو يعرب المرزوقي 40 الأسماء والبيان
- -- والمهمة الثانية هي ما منه تستمد الأولى قيمتها ومعناها وهي من ثم حضور القيم الخمس فيها وهي شروط تحقق المهمة الأولى تحققا يجعلها مغنية عن سوالب القيم التي تحول دون إدراك الضمأ الوجودي الذي لا يرويه إلى موجبها أي: .1حرية الإرادة. .2صدق العلم. .3خير القدرة. .4جمال الحياة. .5جلال الوجود. أبو يعرب المرزوقي 41 الأسماء والبيان
- - - أبو يعرب المرزوقي 42 الأسماء والبيان
Search
Read the Text Version
- 1 - 46
Pages: