Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore في المعاني الكلية بين تقويم الأشياء والرمز إليها - أبو يعرب المرزوقي

في المعاني الكلية بين تقويم الأشياء والرمز إليها - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2019-08-07 18:15:58

Description: في المعاني الكلية بين تقويم الأشياء والرمز إليها - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪re nils frahm‬‬ ‫في المعاني الكلية‬ ‫بين تقويم الأشياء والرمز إليها‬ ‫الأسماء والبيان‬



‫المحتويات ‪1‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪7 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪14 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪22 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪29 -‬‬ ‫‪ -‬خاتمة ‪35 -‬‬

‫‪--‬‬ ‫العناية بالحدث وحاضر التاريخ لا ينبغي أن يصبح حائلا دون مواصلة البحث في بعض‬ ‫أسرار العلاقة بين المشائية ومحاولات التخلص منها في المدرسة النقدية التي هي موضوع‬ ‫اهتمامي منذ ‪ 1979‬عندما سجلت في رسالة دكتورا الدولة في شكلها الفرنسي القديم قبل أن‬ ‫يصبح نظامها محاكيا للانجلو سكسوني‪.‬‬ ‫فما لم يزل محيرا لي هو المقابلة بين \"المعاني الكلية المقومة\" سواء بالمعنى الأفلاطوني‬ ‫المفارق أو بالمعنى الأرسطي المحايث و\"المعاني الكلية التي تعتبر رموزا\" من جنس الألفاظ‬ ‫ورسوم الكتابة وليست مقومة لما ترمز إليه‪.‬‬ ‫فما طبيعة هذه الرموز وكيف تمكن من التعامل مع الأشياء معاملة ذات فاعلية؟‬ ‫ماذا يقصد ابن تيمية لما انتهى إلى هذه الملاحظة العجيبة بعد أن ميز بين علم المعاني‬ ‫الكلية التي هي مقدرات ذهنية قابلة لأن يكون علمها \"كليا ومحضا وبرهانيا\" وعلم الأشياء‬ ‫الخارجية التي ينفي عنه هذه الصفات الثلاث فقال‪:‬‬ ‫\"فتدبر هذا فإنه من أسرار عظائم العلوم التي يظهر لك به ما يجل عن الوصف من الفرق‬ ‫بين الطريقة الفطرية العقلية السمعية الشرعية الإيمانية وبين الطرقية القياسية المنطقية‬ ‫الكلامية\" (المنطق ص‪ 73-72.‬مجموع الفتاوى الجزء ‪)9‬؟‬ ‫ما عظائم العلوم التي \"تظهر\" بفضل هذا التمييز بين نوعي العلم المتصف بما ذكرت‬ ‫والمنفية عنه تلك الصفات‪ :‬الكلية والمحظية والبرهانية؟‬ ‫هذا هو الأمر الذي يحيرني ولم أجد له حلا يمكن من فهم هذه الأنفاء الثلاثة دون أن‬ ‫يترتب عليها أن تزول فاعلية علم لا علاقة له بموضوعه الخارجي (المقدرات الذهنية)‬ ‫وحصره في دور المعاني الكلية التي تؤدي دور الرمز اللساني ومع ذلك فلا يمكن لعلم لا‬ ‫يتصف بصفاته ألا يكون علما من دونه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بوضوح أكبر‪ :‬كيف للمنطق والرياضيات ‪-‬وهما مثالا ابن تيمية عما يسميه المقدرات‬ ‫الذهنية ‪-‬أن يكونا ضروريين لعلمية العلوم التي موضوعها خارجي دون أن تكون المعاني‬ ‫الكلية التي هي موضوعهما مقومة للموضوع العلوم التي لا تكون علوما من دونها؟‬ ‫هذا هو السر \"الميستار\" المحير الذي علينا فهمه‪.‬‬ ‫فيم تتمثل \"عظائم العلوم\" التي تحصل بمجرد التخلص من الطريقة \"القياسية المنطقية‬ ‫الكلامية\"؟‬ ‫وهي صفات ثلاث منفية عن علم المعاني الكلية المقدرة ذهنيا أولا لأنها هي التي تمكن من‬ ‫بيان فسادها ومنفية ثانيا عن الطريقة الفطرية العقلية السمعية الشرعية الإيمانية‪.‬‬ ‫لكن ما علة هذا النفي الثاني؟‬ ‫فبين أن المرء يمكن أن يفهم أن علم المقدرات الذهنية لا يستعمل \"الطريقة القياسية‬ ‫المنطقية الكلامية\" لكن كيف يمكن أن يفهم اعتبار \"الطريقة الفطرية العقلية السمعية‬ ‫الشرعية الإيمانية\" لا تستعمل الطريقة القياسية المنطقية الكلامية أي طريقة الرازي رمز‬ ‫الكلام هنا وفي كل محاورات ابن تيمية غير المقصورة على درء التعارض كما في الرد على‬ ‫المنطقيين الذي يتجاوز المتكلمين إلى الفلاسفة عامة‪.‬‬ ‫ولنبدأ بتوضيح نوعي العلوم الواردة في هذا الاستثناء الذي يميزها عن الطريقة القياسية‬ ‫المنطقية الكلامية‪:‬‬ ‫‪ .1‬الطريقة الفطرية العقلية‪.‬‬ ‫‪ .2‬السمعية الشرعية الإيمانية‪.‬‬ ‫فهذه سلسلة من المعاني التي تحتاج إلى توضيح بصورة قد لا تخطر على بال القارئ المتسرع‬ ‫عندما تغيب عن ذهنه المقابلة المقصودة فيها‪ .‬فقصد ابن تيمية أن \"الطريقة الفطرية‬ ‫العقلية\" لها استعمالان وصف كل واحد منهما بثلاث صفات‪:‬‬ ‫‪ .1‬هو حقيقتها (سمعية شرعية إيمانية)‪.‬‬ ‫‪ .2‬علة فسادها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .3‬الذي يبعدها عن حقيقتها (قياسية منطقية كلامية)‪.‬‬ ‫وإذن فالأمر يتعلق بنظرية المعرفة مطبقة على علوم الدين لنفي ردها إلى علوم الفلسفة‬ ‫بالتأويل‪ .‬فنعجب حينئذ من بداية تشمل العلاقة بين علم المقدرات الذهنية عامة وعلم‬ ‫الموضوعات الخارجية عامة ومن غاية تكتفي بالمقابلة في محاولات رد النقلي إلى العقلي في‬ ‫علم الكلام خاصة وهو رد يطبقه فلاسفة الإسلام كلهم بدعوى الرسوخ في العلم والقول‬ ‫بنظرية المطابقة‪.‬‬ ‫فهل القصد الاقتصار على الغاية؟‬ ‫ولا أنكر أن غرض ابن تيمية الأساسي هو بيان عدم فاعلية \"طريقة القياس المنطقي‬ ‫الكلامي\" لدحض رد النقل إلى العقل‪ .‬لكن لو كان ذلك وحده غرضه لما وضع المعيارين‬ ‫اللذين ينفيان أن يكون العقل والنقل يمكن أن يتعارضا‪ .‬فيترتب على ذلك أن الوحي ليس‬ ‫فيه علم الغيب بل ما فيه هو الأعلام بوجوده لا علمه وإلا لكان الاعتراض بأن هذا الرد‬ ‫لا يأخذ في حسبانه الغيب‪.‬‬ ‫وهنا تتضح أهمية الوصل بين هذه البداية وهذه الغاية‪ :‬فما قيل عن علم الموجودات‬ ‫الخارجية من استحالة أن يكون \"كليا ومحضا وبرهانيا\" لا ينطبق على العقليات وحدها بل‬ ‫ينطبق على النقليات كذلك انطباقه على العقليات ولا يزعم أن هذه الحدود التي وضعها‬ ‫لعلوم الطبيعة مثلا بالمقابل مع الرياضيات لا يضعها كذلك لعلوم النقل لكونه بدعوى‬ ‫الوحي الذي يعلم الغيب الذي يتعلق بالخارج وليس بالمقدرات الذهنية‪.‬‬ ‫بعبارة أوضح ابن تيمية لا يستثني علوم النقل مما اعتبره مستحيلا لعلوم العقل إذا لم‬ ‫تكن علوما لمقدرات ذهنية وكانت علوما لموضوعات خارجية‪ .‬وإلى الآن لم افهم عدم الانتباه‬ ‫إلى هذه الظاهرة الغريبة‪ :‬كيف لابن تيمية ان ينفي التعارض بين العلقي والنقلي إذا لم‬ ‫يكن يسلم بأن النقلي لا يتضمن ما يتجاوز العقلي؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فيكون العلم فلسفيا كان أو دينيا خاضعا لنظرية معرفة واحدة تميز بين التقدير الذهني‬ ‫من حيث هو علم يتصف بالكلية والمحظية والبرهانية عن أي علم موضوعه خارجي سواء‬ ‫كان فلسفيا أو دينيا ولا أحد منهما له أي من هذه الصفات‪.‬‬ ‫وتلك هي أهمية ثورته‪ :‬فاستحالة أن يكون العلم ذو الموضوع الخارجي ‪-‬فلسفيا كان أو‬ ‫دينيا‪-‬كليا ومحضا وبرهانيا هو معنى تغيير نظرية المعرفة التي تنفي المطابقة بين العلم‬ ‫والموضوع وتبقي المسافة بينهما والتي عبر عنها بأن كل تصور وراءه تصور أفضل وأدق‬ ‫وأتم بغير حد معلوم لاستحالة الإحاطة‪.‬‬ ‫ولما كان ذلك كذلك فلا علم للخارجيات فلسفية كانت (الطبيعة) أو دينية (الوحي) إلا‬ ‫وهو اجتهاد غير كلي وغير محظ وغير برهاني لأنه ليس علما محيطا ما يعني أن عدم‬ ‫الإحاطة لا تقتصر على الغيب بل هي تشمل حتى عالم الشهادة‪ .‬ومن ثم فكل ما نتوهمه‬ ‫مقوما للموضوع ليس مقوما له بل هو مقوم لصورتنا عنه أو هو مقوم لـما نرمز إليه به‬ ‫تقويما ذريعيا‪.‬‬ ‫هل من حل لهذا اللغز؟‬ ‫فلا وجود لعلم إنساني يمكن لصاحبه أن يدعي أنه مطابق لحقيقة موضوعه التي لا تقبل‬ ‫الرد إلى ما نرمز إليه به من المعاني الكلية كلية تقدير ذهني وليست كلية مطابقة لمقومات‬ ‫الشيء الخارجي‪ .‬فلو اعتبرناها لعبة رمزية فنحسب التقدير الذهني في المقدم مطابقا لما‬ ‫وضعناه مضمونا وجوديا لها فيمكننا أن ندعي مطابقة التالي‪ .‬إذ حينها نكون نحن الذين‬ ‫صنعنا المقدر الذهني من حيث هو موضوع الترميز ومن حيث هو الرمز المحيل عليه إحالة‬ ‫دال إلى مدلول كلاهما من وضع المستدل‪.‬‬ ‫لكن في الموجودات الخارجية يمكن أن يكذبنا التالي دائما بما لا يطابق فيه ما تصورناه‬ ‫مقوما رمزنا إليه متصورين أنه مختلف من حيث الطبيعة عن الرمز الذي نشير إليه به‪.‬‬ ‫وذلك هو سر تغير النظريات العلمية بقانون نقيض التالي يترتب عليه نقيض المقدم‪.‬‬ ‫والمشكل مع المشائية هو أن المقدم يعتبر معطى حدسي وهو التعريفات والحدود التي لا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫برهان عليها بل هي حدوس تتسلم (الفصل الأخير من التحليلات الأواخر في الحد)‪ .‬وذلك‬ ‫هو ما ينفيه ابن تيمية لأنه يعتبر عناصر الحد غير مقومة لأنه ينفي أن تكون عناصر‬ ‫التعريف ذات وجود يتجاوز كونها أسماء لما اخترناه من أعراض الشيء لتمييزه عن غيره‬ ‫مع عدم الاعتراف بالمقابلة بين العرض العام والعرض الذاتي‪.‬‬ ‫التعريفات والحدود إذا لم تكن مجرد معاني كلية ترمز إلى ما به نعبر عما ندركه مما‬ ‫نعتبره أعراضا ممثلة للشيء وتصورناه مقوما له أصبح من الواجب عدم تغييرها لأن ذلك‬ ‫يعني أنها لم تعد مقومة‪ .‬لكن الحقيقة هي أنها من البداية ليست مقومة بل هي معان‬ ‫رامزة لما تصورناه علامات دالة عليه‪.‬‬ ‫وهنا نصل إلى مشكل المشاكل وإلى سر الأسرار الذي يحير في فكر ابن تيمية‪ .‬فمن أين‬ ‫تأتينا العلامات التي نعتبرها دالة على \"شيء\" في الشيء ليس من صنعنا كما يكون الأمر‬ ‫عليه في المقدرات الذهنية ومع ذلك فهذه العلامات هي من اختيارنا ومن ثم فهي فحاصلها‬ ‫من صنعنا إذ هو عين المعنى الكلي الذي نستعمله رمزا للدلالة عليه؟ ما سر هذا التمانع بين‬ ‫المقوم والرامز في وظيفة المعنى الكلي عند ابن تيمية عند مقارنة علم المقدرات الذهنية‬ ‫بعلم الموجودات الخارجية؟‬ ‫فنعود إلى مسألة نظرية المعرفة‪ :‬فهل المعنى الكلي موجود قائم بذاته ومقوم لموضوع‬ ‫المعرفة يتلقاه الإنسان من خارجه فيعبر عنه بمعنى كلي يصنعه بوصفه ناطقا (فلسفة) أو‬ ‫مبينا (دين) أم إن الإنسان يصنع ما يبدو متلقيه مثلما يصنع ما يعبر به فيكون قول ابن‬ ‫تيمية جامعا بين التلقي والبث في عملية المعرفة؟‬ ‫هل معنى ذلك أن معرفة الوجود الخارجي تقدير ذهني مطبق على منتخبات من العلامات‬ ‫يقتضيها الترميز الذي هو في آن رمز دال ورمز مدلول؟ هل العلم هو رمز لرمز الأول دال‬ ‫والثاني مدلول في تواصل المستدلين؟‬ ‫سأنطلق منه هنا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والآن ليس ابن تيمية هو من يتكلم بل أنا وكلامي إذن لا يلزمه بل هو محاولة مني‬ ‫لافتراض ما يمكن أن يفهمنا ما يشبه هذه العملية التي تجعل الإنسان مبدعا لما يبدو وكأنه‬ ‫تلقاه من خارج ومبدعا لما يعبر به عما تلقاه ليبثه أو يرسله لنفسه ولغيره خلال التواصل‬ ‫حول \"معرفة\" الشيء موضوع الفكر‪ :‬فمن دون ذلك لا يمكن أن يكون العلم رمزا لرمز بهذا‬ ‫المعنى وليس علما مطابق لشيء خارجي بل هو مطابق لمنتخب من أعراضه بوصفه معرفا له‬ ‫فرضيا‪.‬‬ ‫وأبدأ بأوضح مثال يبدو جامعا بين وجه مؤيد لفهم لنظرية ابن تيمية هذا ووجه مؤيد‬ ‫للفهم المقابل في نظرية الكليات عند أرسطو والتي تعتبر مقومات جوهرية للموضوع محايثة‬ ‫فيه‪ .‬وما يؤيد أحدهما يدحض الثاني‪ .‬وأعني مثال إدراكي لنفسي وتعبيري عنها‪ .‬فعندي‬ ‫الحالتان‪.‬‬ ‫فالمقابلة بين‪:‬‬ ‫• تعبيري عن أفعالي الحرة‪.‬‬ ‫• وعيي المضطر بواقعة وجودي‪.‬‬ ‫فأفعالي أنا صانعها وصانع تعبيري عنها‪ .‬فيكون ذلك مؤيدا لابن تيمية ودحضا لأرسطو‪.‬‬ ‫لكن وجودي ووعيي به لست صانعهما‪ .‬لكني صانع لتعبيري عنه إذا طابقه‪ .‬فيكون ذلك‬ ‫مؤيدا لأرسطو وداحضا لابن تيمية‪.‬‬ ‫فكيف الخروج من المأزق؟‬ ‫فإذا نفينا إرادية أفعالنا صار أرسطو محقا في الحالة التي تبدو مؤيدة لابن تيمية‪ .‬وإذا‬ ‫شككنا في مطابقة علمنا بوجودنا لوجودنا صار ابن تيمية محقا في الحالة التي تؤيد أرسطو‪.‬‬ ‫وإذن فالمثال المتعلق بالمقابلة بين الأفعال والوجود للفصل بين التقويم والترميز ليس كافيا‬ ‫لحسم الخلاف بينهما‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أعود إلى كلامي على أفعالي ودعوى تأييدها لابن تيمية ودعوى دحضها لأرسطو وإلى‬ ‫كلامي على وجودي المؤيد لأرسطو والداحض لا بن تيمية‪ .‬فكلاهما ناقص‪ .‬ذلك أن أفعالي‬ ‫ليس كلها حر بل بعضها مضطر‪ .‬ووعيي بوجودي ليس كله مضطرا بل بعضه حر‪ .‬ومن ثم‬ ‫فما قلته يبقى على المشكل كاملا ولا يحل إشكالية المعاني الكلية لمعرفة هل هي مقومة كما‬ ‫يرى أرسطو ورامزة دون ان تكون مقومة كما يرى أبن تيمية‪.‬‬ ‫يبدو أن بعضها مقوم وبعضها للشيء وبعضها غير مقوم لما أتلقاه من الشيء‪ .‬فهو يبدو‬ ‫مقوما له وما ابثه هو للتعبير عنه وهو رامز كذلك لأني أرمز به إليه‪ .‬فما الحل إذن؟‬ ‫أشرت إلى أن ما أبدو قد تلقيته من الشيء لا شيء يثبت أنه مقوم له حتى وإن صدقنا‬ ‫أني ليست صانعه كما أصنع تعبيري عنه‪ .‬ولكن هل أنا متأكد من أني أنا صانع حتى التعبير‬ ‫عنه؟‬ ‫ألست في الحقيقة قد تلقيته من ثقافة الشعب الذي أنتسب إليه؟‬ ‫ويكفي أن أتذكر كيف تعلمت اللغة من أمي واسرتي لأعلم أن الكلام على الأشياء بدءا‬ ‫بتسميتها ليس لي فيه كبير دور بل هو أيضا مما تلقيته من الجماعة التي انتسب إليها‬ ‫وأتواصل معها حول \"الأشياء\" بما نرمز به إليها أو بما نعتقد أنه مستمد من مقوماتها‪.‬‬ ‫فلو عدنا أدراجنا إلى مرحلة تكون الإنسانية فيها كالطفل مثلا وطبقنا ذلك على الجماعة‬ ‫ألا يكون التراث المتعلق بما نعبر به عن الأشياء هو حصيلة ما تراكم من هذا التلقي عند‬ ‫كل فرد والبث في الجماعة حول ما نعتبره مقوما للأشياء؟ ولعله ليس مقوما لها بل مجرد‬ ‫علامات تصورتها البشرية خلال تاريخها دالة على شيء في الأشياء دون أن يكون مقوما لها‬ ‫لأنها لم تكن تعلم الفرق بين المقوم وغير المقوم واكتفت بما كان ذا تأثير عليها حينها‪.‬‬ ‫لم نتقدم كثيرا‪ .‬فقد انتقلنا مما كان علاقة الفرد بذاته وبما يتلقاه ويبثه إلى علاقة‬ ‫الجماعة بذاتها تلقيا وبثا وبعالمها فتكون المقابلة وكأنها بين الطبيعة باعتباره العالم‬ ‫الموضوعي الذي لم يصنعه الإنسان والحضارة باعتبارها العالم الذاتي الذي صنعه‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الإنسان‪ .‬ولنسمه تـاريخ الحضارة التي هي ما أضافه الإنسان إلى الطبيعة‪ .‬لكن التاريخ‬ ‫من حيث تعينه في الاعمال الحضارية يصبح ذا وجود موضوعي خارج الذوات والطبيعة‬ ‫بفضل ذلك بالذات يصبح لها وجود ذاتي اذ هي تمتزج مع الحضاري و \"تتحضر\" بما يدخله‬ ‫عليها الإنسان من تغيير‪.‬‬ ‫صرنا أمام قطبين ‪-‬الحضارة والطبيعة أو التاريخ والطبيعة‪ -‬وجدنا فيهما ما وجدنا في‬ ‫الفرد الإنسان من ازدواجية بين ما يبدو موضوعيا هو الوجود الخارجي الذي ليس هو من‬ ‫فعله وما يبدو ذاتيا وهو الوجود الداخلي الذي يبدو من فعله‪ .‬لكن الأمر الواحد الثابت‬ ‫في الأمرين هو عدم التأكد من المطابقة بين ما في الأذهان وما في الأحيان في حالتي الفرد‬ ‫والجماعة‪ .‬وأصبحنا أمام أربعة أقطاب‪:‬‬ ‫‪ .1‬الفرد المتلقي والبثا‪.‬‬ ‫‪ .2‬الجماعة المتلقية والباثة‪.‬‬ ‫‪ .3‬المعنى الكلي الرامز أداة التلقي والبحث‪.‬‬ ‫‪ .4‬المعنى الكلي المرموز مضمون التلقي والبث‪.‬‬ ‫‪ .5‬وفي القلب نضيف أمرا خامسا هو ما سميناه سابقا بالمرآة ذات الوجوه العاكسة‬ ‫لنظام المعاني الكلية الرامزة والعاكسة لنظام المعاني الكلية المرموزة في ذاتها وفي كيان‬ ‫الفرد وفي كيان الجماعة خلال التواصل مع الذات الفردية ومع الغير ولما تدركه الجماعة‬ ‫بنفس البعدين رامزا ومرموزا تواصليين‪.‬‬ ‫كنا أمام سر واحد فصرنا أمام خمسة أسرار‪:‬‬ ‫‪ .1‬في الفرد لكيف يتواصل الفرد مع ذاته وغيره حول \"الاشياء\" بثا وتلقيا‪.‬‬ ‫‪ .2‬نفس السؤال بالنسبة إلى الجماعة‪.‬‬ ‫‪ .3‬نفس السؤال حول المعنى الرامز في علاقته بهما وبـنظام \"الأشياء\"‪.‬‬ ‫‪ .4‬نفس السؤال حول المعنى المرموز في علاقته بهما وبنظام الرموز‪.‬‬ ‫‪ .5‬والمرآة المعقدة التي تتوسط ذلك كله وتمكن من حصول التعاكس بينها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فهي لم تعد ذات سطحين عاكسين بل خمسة سطوح مع الاربعة ومع ذاتها مرآة عاكسة‬ ‫خمس مرات لنظام الرموز ولنظام المرموزات ولبث الجماعة وتلقيها ولبث الفرد وتلقيه‪.‬‬ ‫وكل ذلك في المكان والزمان وبين الألسن المختلفة بتوسط الترجمة بين الألسن والحضارات‬ ‫الإنسانية وبين الحضارات والطبيعة‪.‬‬ ‫ما يعني أن شيئا ما يمر في كل ما ذكرنا بينها ومع الطبيعة والتاريخ‪ .‬ذلك هو السر الذي‬ ‫علينا فهمه بالقدر الممكن فرضيا دون زعم معرفيه يقينيا‪ .‬وقد كانت مسألة هذا السر من‬ ‫أيسر الأمور عندما كانت نظرية المعرفة تعتبر الوجود شفافا ينعكس على الفكر الذي‬ ‫يتلقف بأمانة ما ينعكس عليه وكأنه مرآة صقيلة فيحصل التطابق بين ما يرد إلى الفكر وما‬ ‫يدركه الفكر ولا يبقى إلى مسألة التعبير عما يدركه تعبيرا أمينا وهو ما كان يسمى علما‬ ‫تماما كما نتصور أن الحواس تتلقى أشياء من الخارج موجودة بالفعل خارج الإنسان المدرك‬ ‫لها بحواسه على ما هي عليه في إدراكه بحيث نعتبر ما في الأذهان صورة أمينة عما في‬ ‫الأعيان‪ .‬وهذا هو تقريبا ما يؤمن به الإنسان العادي الذي لا يعترف بـ\"التفلفس\"‪.‬‬ ‫طبعا كنا نميز بين السليم والسوي من الحواس وغير السليم وغير السوي بسبب المعيقات‬ ‫التي تبدو أساسا للاعتراض على هذه النظرية في المعرفة‪ .‬وكنا نميز بين الصفات الأولية‬ ‫والثانوية وبين الذاتي والموضوعي والعلم هو المطابقة مع وأكبر وهم هيجلي تمثل في الظن‬ ‫أن الجدل يخلصه من المقابلة بينهما فيتحدان بالعلاقة الجدلية‪.‬‬ ‫وهو حل سحري لفظي استعمله هيجل مع وحدة وجود روحانية وماركس مع وحدة الوجود‬ ‫مادية اللذين هام بحلهما المثقفون‪ -‬الذين قال فيهم راميون هارون معارضة لخرافة الدين‬ ‫أفيون الشعوب بوصفه الماركسية أفيون المثقفين‪ .‬وعلته رد ما في الوجود من تنوع لا متناه‬ ‫في سلم الكيان إلى المقابلة بين حدين متنافيين عندهما كلاهما لا دليل على وجوده فيه ما‬ ‫يعني أنهما اسقاط لمنطق الخطاب الجدلي عليه بين متناظرين كلاهما يدعي نقيض ما‬ ‫يدعيه الثاني‪ .‬لكن التعدد الوجودي لا متناه وقد يكون سيلانا أبديا ليس له بداية ولا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫غاية إلا بتسليم أنه متناه وأنه واحد ومحدود بما هو من قوانين عقلنا أو من شروط التعامل‬ ‫مع اللامتناهي بفرض بنية المتناهي عليه حتى يتحقق التطابق الموهوم‪.‬‬ ‫فتكون المعاني التي ليست ذاتية مقومة لأنها في الشيء نفسه والمعاني الذاتية غير مقومة‬ ‫لأنها من أخطاء الإدراك الإنساني وتأتي خرافة كل ما هو عقلي واقعي وكل ما هو واقعي‬ ‫عقلي وهي شعار الهيجلية لدعواه أنه وصل إلى العلم المطلق‪.‬‬ ‫لكن المعرفة كلما تقدمت جعلت ما كان يظن مقوما موضوعيا غير مقوم أو تكشف أن ما‬ ‫اعتبر مقوما بديلا منه شيئا آخر وليس لنا دليل على أن هذه البدائل متناهية وأنه توجد‬ ‫لحظة خاتمة تنهي هذا التجاوز الدائم لما ظنناه مقوما إلى بديل صار مقوما وهكذا إلى غير‬ ‫غاية‪.‬‬ ‫ولنفترض أنه توجد لحظة بداية حتى وإن سلمنا بعدم وجود لحظة نهاية لهذه العملية‬ ‫التراكمية للعلاقات الخمس المنعكسة على المرآة التي وضعناها في قلب المربع والتي هي في‬ ‫الحقيقة كل واحد من الأربعة المتعاكسة لما يشعل محل المرآة وهو يصبح مرآة عندما ينعكس‬ ‫على ذاته كذلك بـحيث يلتقي قطرا المربع الواصلان بين أقطابه الأربعة لنحصل على أربع‬ ‫علاقات داخل المربع وأربعة ترسم المربع مع عوداتها جميعا على ذاتها‪.‬‬ ‫فنكون أمام شبكة شديدة التعقيد نفترض أنها تكون في بداية العملية ‪-‬وكأنها في حالة‬ ‫الطفل لحظة بداية حياته في الجماعة ‪ -‬تمثل خانات خالية مستعدة لأن تمتلئ بمضامين‬ ‫التواصل تلقيا وبثا فتتراكم فيها نتائج التي تتألف منها العناصر المقومة للشبكة وفي قطع‬ ‫المستقيم الواصلة بينها وفي عودة كل واحد منها على ذاته‪ .‬وهذا المضمون هو في آن نظام‬ ‫المرموزات ونظام الرموز في الجماعة وفي الذات الفردية وبينها اربعتها نظام التواصل الذي‬ ‫سميناه المرآة والذي يقوم في كل واحد من هذه العناصر الاربعة وله قيام ذاتي مفترض‬ ‫شرطا لإمكان التواصل‪.‬‬ ‫فلو قطعنا هذه العملية‪-‬بروسيسيس‪-‬لكانت لنا شريحة من الشبكة تمكننا من تحديد ما‬ ‫يدور في خطوط التواصل بين العناصر وبين كل عنصر وذاته وهي تمثل عالم من صنع‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الإنسان فردا وجماعة سواء صنعا ذا قيام مادي (مثل كل معالم العمران في الجماعة) أو‬ ‫ذات قيام رمزي (مثل الإبداعات الفكرية التي تحايث في أشياء مادية خلال وجودها في‬ ‫الأعيان وفي الأذهان قبله وبعده)‪.‬‬ ‫والتمييز بين المادي وغير المادي لا تعني أن الثاني مطابق للأول ولا أن الأول هو ما‬ ‫ندركه منه بحواسنا ونصفه بكونه ماديا لأن حمله لما هو ليس ماديا ليس ماديا وهو \"رامزية\"‬ ‫العلامات التي تحمل اللامادي مثل الرسم أو الصوت أو المعنى الكلي الذي سماه ابن تيمية‬ ‫رمزا مثلهما أي الألفاظ ورسوم الكتابة‪.‬‬ ‫والمقابلة بين المادي واللامادي مقابلة بين أمرين كلاهما مجهول الطبيعة والكيف وهي في‬ ‫الحقيقة ناتجة عن إطلاق الـمقابلة بين المحسوس واللامحسوس وكلاهما علامة بالقياس إلى‬ ‫مداركنا وليس مقوما للشيء المحسوس‪ .‬فعلاقته بنا ليست مقومة له بل مقومة للتعالق بينه‬ ‫وبين إدراكنا‪ .‬والتعالق هو إذن تعالق علامات في الأذهان وفي الأعيان فنفترضها مقومة‬ ‫لـ\"الشيء\" ونميزها عن إدراكاتنا التي نفترضها فينا عاكسة لـما نفترضه مقوما للشيء‬ ‫كـ\"كشيء\"‪.‬‬ ‫وكل إنسان يتعامل مع كل إنسان من حيث هو \"شيء\" يدركه بحواسه و\"شيء\" لا يدركه‬ ‫بحواسه مثل ذاته التي لا يدركها بحواسه بل يدرك كيانه البدني ولا يدري طبيعة علاقة‬ ‫إدراكه لكيانه البدني بكيانه البدني عدى كونه يدركه بحواسه الخارجية من الخارج‬ ‫وبحواسه الباطنية من الداخل (مثل الشعور بالألم أو بالجوع أو بالظمأ) ويحس ما يفعل‬ ‫بدنه بذاته (من الافعال المضطرة) وما يفعل بأمر منه (من الأفعال الحرة) دون فهم لعلة‬ ‫الفرق بين نوعي الأفعال‪.‬‬ ‫وهو خلاف كبير في علم الكلام حول أفعال العباد وقد حاولت الخروج من مأزق الحل‬ ‫الأشعري بتعريفه تعريفا أكثر قابلية للفهم من الكسب فسميته بالمقابل مع الضرورة‬ ‫الشرطية بالحرية الشرطية‪ .‬فالحرية الشرطية تعني أن الإنسان بعلم شرطية الضرورة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫يحصل على الحرية من خلال تغيير شرطية الضرورة لتغييرها وتلك هي الحرية أو الكسب‬ ‫بالمفهوم الأشعري الذي هو أكثر عقلانية من خرافة الحرية الاعتزالية‪.‬‬ ‫فمن الآمر ومن المأمور في أفعالنا \"الحرة\" لأننا نميز بينها وبين أفعالنا المضطرة مثل دورة‬ ‫الدم أو التنفس أو حتى أفعال الجهاز الهضمي إدخالا واخراجا وهي كلها نعبر عنها بعلامات‬ ‫نعتبرها مقومة لأنها تبدوا \"موضوعية\" أي ليست من أفعال الذات الاختيارية على الاقل‬ ‫جزء منها وليس كلها‪.‬‬ ‫والكثير من \"الأشياء\" تبدو لنا خالية من أي سر وأنها لا تختلف عما نعلمه منها بمعنى أننا‬ ‫نعتقد أن ما نعلمه منها مطابق لما تتقوم به بصرف النظر عن علمنا ونتصور أن علمنا قد‬ ‫اكتشفها فيها ولم يبدعها هو‪ .‬وهذه الإشكالية إذا لم تحسم فإن الفصل بين أرسطو وابن‬ ‫تيمية يصبح مستحيلا‪ .‬فالتواصل بين الإنسان وعالمه مشكل لا يفهم من دون حسم هذه‬ ‫الإشكالية‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أنه توجد أشياء نعتقد أن علمنا بها نهائي‪ .‬ومن ثم نتوهم أن ما نعلمه منها‬ ‫هو عين ما تتقوم به‪ .‬فيكون كلام ابن تيمية على أن المعاني الكلية ليست مقومة للأشياء بل‬ ‫هي رموز لما اخترناه للإشارة إليها فتبدو وكأنها مدلولاتها وليست مرموزاتها كلاما غير‬ ‫معقول‪ .‬ولهذه العلة فالكثير يعتبر رفضه المقابلة بين الـحقيقة والمجاز في الألسن غير‬ ‫معقول لكأنه يقول إنه لامعنى للحقيقة في الرموز وأن اللسان كله «مواضعات تواصلية» لا‬ ‫علاقة لها بحقيقة موضوع التواصل من حيث طبيعته‪.‬‬ ‫وفعلا فلو كانت المعاني الكلية مقومة كما تقول الفلسفة القديمة والوسيطة وكمات صارت‬ ‫تقول بعد هيجل وماركس لصدقت المقابلة بين الحقيقة والمجاز‪ .‬ولو كانت المعاني الكلية‬ ‫غير مقومة كما يقول ابن تيمية بل هي مواضعات دالة للإشارة إلى مواضعات مدلولة هي‬ ‫بدورها وهي ما اخترناه مما لا يتناهى من أعراض \"الأشياء\" لتكون علامات نسميها بها أو‬ ‫نصفها فلا يوجد فرق بينها من حيث هي مرموزة ومن حيث هي رامزة‪ .‬ومن ثم فالعلم ليس‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫هو شيئا آخر غير رمز لرمز أو مواضعة دالة للدلالة على مواضعة مدولة لجماعة متواصلة‬ ‫حول ما انتخبته من العالم علامات تفترضها فيها تتكلم عليها بعلامات تفترضها معبرة عنها‪.‬‬ ‫وهذا هو جوهر الإشكال‪ :‬كيف يكون العلم رمزا لرمز وكيف يكون قادرا على الفعل في‬ ‫\"الشيء\" برمز لرمز؟‬ ‫ولماذا ليس كل رمز لرمز يكون فاعلا؟‬ ‫ما الذي يجعل نوعا من الرمز للرمز يكون علميا ذا فاعلية فنعتبره علما بحق ونوع آخر‬ ‫من الرمز للرمز لا نعتبره علميا بل نعتبره خطأ وليس علما لأنه فاقد للفاعلية‪.‬‬ ‫ما الفرق بين الرمز الذي نعتبره علميا والرمز الذي نعتبره خرافيا؟‬ ‫وتلك هي العلة في جرأتي على وضع مفهوم جديد هو التقدير الذهني الأدبي أو العملي‬ ‫قياسا على التقدير الذهني الرياضي أو النظري‪ .‬فصحيح أن الرمز الخرافي يبدو متميزا‬ ‫عن الرمز العلمي بالفاعلية‪ .‬لكن أليس الرمز الخرافي أكثر فاعلية من الرمز العلمي في‬ ‫حياة البشر وخاصة في دور الحرية الشرطية التي تفعل بعلم الضرورة الشرطية فتكون‬ ‫المعاني الكلية العملية أكثر فاعلية من المعاني الكلية النظرية في تاريخ البشرية؟‬ ‫أليس لإيدلوجيات والخرافة والأوهام تأثير فاعل لأنه تأثير رمزي في مستعملي أدوات‬ ‫التأثير المادي؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫قبل البحث في المسألة التي ختمت بها الفصل الثاني‪-‬فاعلية العلم وفاعلية الخرافة‪ -‬لابد‬ ‫من التذكير بما أدخلته من تغيير على نظرية الثالوث اللساني الذي اعتبرته لا يفي‬ ‫بالحاجة‪ .‬وضعت نظرية بديلة تجعله مخمسا‪ .‬ولهذا التخميس اللساني علاقة بينة بالنوع‬ ‫الثاني من المعاني الكلية العملية التي هي أعم المعاني الكلية النظرية بوصف هذه إحدى‬ ‫تطبيقاتها على الضرورة الشرطية وتحل مشكل العلاقة بين فاعليتي الإنسان والترميز في‬ ‫الضرورة الشرطية في الحرية الشرطية‪.‬‬ ‫فالحرية الشرطية كما بينت هي ما بفضله يحقق الإنسان بالاعتماد على تغيير شرط‬ ‫الضرورة ليغير مشروطها‪ .‬وذلك هو معنى الفاعلية النظرية المشروطة في علم الطبيعة‬ ‫والتي بعلمها يصبح للإنسان شرط الحرية الشرطية الفعلي‪ :‬وتلك هي خاصية للإنسان هي‬ ‫الترميز ا لذي يجعله يعلو على الأشياء في ما يرمز لها به مبدعا صورة عن الشيء وصورة‬ ‫عن العبارة عنه وبذلك يكون العلم رمز رمز‪.‬‬ ‫فالفاعلية الحرة شرطها معرفة الفاعلية المضطرة‪ .‬ومعرفة الفاعلية المضطرة إبداع‬ ‫خيالي لما يفترض مقومات الشيء مرموزا ولما يفترض رمز تلك الفاعلية رامزا يمكن من‬ ‫قولها‪ .‬وذلك هو العلم من حيث هو رمز رمز‪ .‬وشرط ذلك أن يكون للإنسان القدرة على‬ ‫وضع رموز ليس لها مرجعية محددة لأنها رمز لخانات خالية ‪-‬مثل المتغيرات في الهندسة‪-‬‬ ‫يتحدد مرموزها برمز ثان هو قيمة معينة للرمز الأول‪ .‬وهذه العملية على نوعين‪:‬‬ ‫‪ .1‬نوع المعاني الكلية الذهنية التي تكلم عليها ابن تيمية وهي من جنس الرياضيات‪-‬‬ ‫وتتعلق بالضرورة الشرطية الخالية من المضمون أو القابلة لعدة مضامين قيما لتلك‬ ‫الخانات‪.‬‬ ‫‪ .2‬نوع المعاني الكلية الذهنية التي قستها عليها وهي من جنس الادبيات ‪-‬وتتعلق‬ ‫بالحرية الشرطية الخالية من المضمون أو القابلة لعدة مضامين قيما لتلك الخانات‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى تصبح علوم الألسن خمسة بعد أن كانت ثلاثة‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬يبقى منطق الرمز من حيث هو رمز وهو السنتاكس بحسب أنواع الألسن الطبيعية‬ ‫أو الصناعية‪.‬‬ ‫‪ .2‬علم الدلالة وهو علاقة الرمز بمدلول معين محدد بمعنى أن اللسان له دلالة أي‬ ‫مرجعية هي علاقة الرمز بالمرموز بحسب عادات الجماعات‪.‬‬ ‫‪ .3‬علم المعنى وهو رديفه يتعلق بالرمز الذي ليس له مدلول معين وهو سليم لسانيا‬ ‫ويمكن أن يؤول بتأويلات تشبه الخرافة والأحلام أي تشبه ما لا ينطبق على عالمنا الذي‬ ‫نسميه واقعا‪ .‬ولعل هذه هي التي ينتج عنها ما يسمى بالمقابلة حقيقة مجاز‪.‬‬ ‫‪ .4‬علم التداول المتعلق باستعمال علم الدلالة‪.‬‬ ‫‪ .5‬علم التداول المتعلق باستعمال علم المعنى‪.‬‬ ‫وهذا هو الذي يبين نوعي الفاعلية‪ .‬وهو يشمل نوعي المعاني الكلية النظرية أو أساس‬ ‫المعرفة العلمية للضرورة الشرطية والمعاني الكلية العملية أو الادبية وهو أساس المعرفة‬ ‫العملية للحرية الشرطية‪ .‬ولأعد الآن على بحثي الحالي‪ .‬فقد سميت القلب الذي يتلقى‬ ‫فيه قطرا المربع المؤلف من الفرد والجماعة والرمز والمرموز (الشكل الذي أجسم به‬ ‫القضية كاملة‪-‬سميته المرآة التي تتعاكس عليها هذه العناصر بما فيها القلب نفسه الذي هو‬ ‫خانة افتراضية يشغلها كل واحد من الأربعة الباقية ليؤدي وظيفة سطح التعاكس بما فيها‬ ‫سطح التعاكس نفسه وكانه هو بدوره كائن مثل الأربعة‪.‬‬ ‫فلنفرض الآن أن هذا القلب يعلو بالتدريج ليصبح المربع هرما يكون ذلك القلب قمته‬ ‫فلا يبقى مركزا لمربع محله تقاطع قطري المربع بل قمة هرم قاعدته الأربع الباقية أي‬ ‫الفرد والجماعة والرمز والمرموز علما وأن كل واحد منها يشغل الموقعين أي يمكن أن يكون‬ ‫رامزا ويمكن أن يكون مرموزا بسبب التعاكس بين وجهي كل منهما رامز لذاته ومرموزها‪.‬‬ ‫وأوضح مثال لهذا التعاكس هو الفرد الإنساني في علاقته بذاته‪ .‬فهو رامز ذاته‬ ‫ومرموزها دون أدنى يقين بأن ما منه رامز لذاته وما منه مرموز لها متحدان ومتطابقان بل‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫إن المسافة بينهما تبقى مما لا يتناهى وهي حقيقة السر أو الميستار الذي نريد فهمه ولأن‬ ‫هذه المسافة باقية هي هي رغم أن حديه أي الرامز والمرموز متغيران‪.‬‬ ‫وكل عنصر من هذه العناصر الأربعة التي تمثل القاعدة والخامس الذي هو رأس الهرم‬ ‫متعاكس‪ .‬لذلك فلنرمز لهذا التعاكس بهرم آخر مقلوب ينطلق من القاعدة في اتجاه مقابل‬ ‫للهرم الأول فيتقابل رأسا الهرمين اللذين يتلامسان بقاعدتهما‪ .‬ونصل الرأسين بمستقيم‬ ‫يمر بالقلب حيث يتقاطع قطرا القاعدتين‪.‬‬ ‫وهذا القلب الذي يمر به الوصل بين الرأسين مضاعف لأن القاعدتين المتلامستين كلتاهما‬ ‫فيها قلب هو تقاطع قطريهما‪ .‬فيصبح لدينا أربع نقاط هي الرأسان والقلبان وبينها أربعتها‬ ‫حركة الترائي أو التعاكس بينها جميعا‪ .‬وهذه هي شبكة الإشكالية بين رؤيتي أرسطو وابن‬ ‫تيمية‪.‬‬ ‫فلنفرض الآن عناصر كل هرم متحركة ومتداولة على شغل الرأس أي دور المرآة التي‬ ‫يتم التعاكس على سطحها بما فيه هي فسيكون الوصل بين النقاط الأربع وما يجري فيه من‬ ‫حركة تعاكسية وكأنه حصيلة التعاكسات كلها وقد حصلت فيه بالإسقاط عليه‪ .‬وتلك هي‬ ‫حركة شبكة الترميز مثل شبكة نقل طاقة الكهرباء‪.‬‬ ‫وليكن مثالنا الفرد عندما يكون هو هذه المرآة العاكسة التي ترى كل ما عداها أيضا‬ ‫مرايا عاكسة أو في دور المرايا العاكسة‪ .‬وسنفهم حينها أننا أمام عالم كله رموز أو عالم كله‬ ‫آيات كل واحدة منها تحيل لذاتها ولكل ما عدها في شبكة من الإحالات المتبادلة اللامتناهية‬ ‫التي لا ندري حقيقة ما وراءها وحتى ما يحيل وما يحال عليه فيها‪.‬‬ ‫ولا ندري حقيقة ما وراءها هو معنى أن كل تصور وراءه تصور أفضل وأدق بغير نهاية‬ ‫في رؤية ابن تيمية لأن النهاية مستحيلة الحصول إذ هي تعني أننا لكي نعلم أي شيء بعينه‬ ‫لا بد أن نعلم كل لوازم لوازمه من تعلقاته بكل ما عداه في الوجود بأسره وذلك هو العلم‬ ‫المحيط‪ .‬هذا بلغة ابن تيمية‪ .‬لكن أرسطو يحل المشكل بالتمييز الذاتي والعرضي فيجعل‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫اللاتناهي في العرضي والتناهي في الذاتي بمعنى الجوهري ويهمل ما عداه باعتباره ما لا‬ ‫يعلم‪..‬‬ ‫ومثاله في كتاب الميتافيزيقا أن المهندس لما يبني البيت مثلا ينشغل بمقومات البيت ولا‬ ‫يعنى بأثره المتنوع على نفوس من سيسكنه والذي يكاد يتعدد بتعدد الساكنين‪ .‬وطبعا فهذا‬ ‫أدنى أنواع العرض العام الذي لا يقبل العلم‪ .‬لكن ما اختاره من عرض ذاتي ومن مقوم‬ ‫للهوية أي الجواهر الثواني هي موضوع الإشكال لأن ابن تيمية ينفي تميزها عن عما عداها‬ ‫مما يمكن أن يقوم مقامها في رؤية اخرى‪.‬‬ ‫وطبعا فهذا التمييز يجعل فن هندسة البيوت بمعزل عن تأثيره في نفوس سكانه‪ .‬ولو صح‬ ‫ذلك لكانت البيوت كلها بشكل واحد تحدده الهندسة‪ .‬وطبعا فما يبدو أكثر عقلانية هو‬ ‫رؤية أرسطو التي تميز بين الهندسي من حيث هو هندسي والذوق الإنساني للانتفاع به‪.‬‬ ‫لكن السؤال هو هل الذوق الإنسان ليس فيه ما هو ذاتي وما هو عرضي هو بدوره إن قبلنا‬ ‫بالتمييز الأرسطي؟ فإذا كان فيه هذه المقابلة فكان ينبغي أن نقول إن البيت يبنى بنوعين‬ ‫من الذاتي (بمعنى اسنسيال لا سبجاكتيف) الذاتي للبيت من حيث مقوماته المادية والذاتي‬ ‫للبيت من حيث مقوماته الذاتية بمعنى المتعلق بذوق صاحبها‪.‬‬ ‫فالذاتي لمادة البيت شيء والذاتي لذوق ساكنه شيء ثان‪ .‬فكيف نميز بين الذاتيين من‬ ‫حيث هما ما هما مقومين لبيتيه البيت للبيت ككل من حيث كيانه المادي ومن حيث كيانه‬ ‫المنسوب إلى ذوق صاحبه؟‬ ‫سيقال الأول تحدده الجاذبية أي شروط قيام البيت وعدم سقوطه ما يقتضي تعاملا مع‬ ‫المواد والفضاء بشروط تثبت أركانه في حين أن الثاني يحدده \"كيان\" الإنسان النفسي‬ ‫والشعوري‪.‬‬ ‫وهذا هو المشكل‪ .‬هل عدم تطابق نوعي الذاتي أي الجوهري لقيام البيت والجوهري‬ ‫لذوق ساكنه من الأعراض الذاتية أم من الأعراض العامة؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن حينها ما الذي يجعل الذاتي لقيام البيت من حيث نسبته إلى مادة بنائه وشروطها‬ ‫المضطرة يزعم واحدا والثاني من حيث نسبته إلى ذوق صاحبه وشروطه الحرة يزعم‬ ‫متعددا؟‬ ‫أليس لأننا في الحالة الثانية نتكلم على عين الأذواق وفي الحالة الأولى على نتكلم على‬ ‫كلي المواد وكلي ظرف البناء؟‬ ‫أليست مواد البناء متعددة هي أيضا وظروفه متعددة أيضا؟‬ ‫وهل الجاذبية تتدخل في المواد بنفس الطريقة؟ وهل النفوس والشعورات لا تتأثر‬ ‫بالجاذبية؟‬ ‫عندما نقارن بين صورة البناء ومادة الذوق يحصل ما يبدو لنا الفرق بين الجوهري‬ ‫والعرضي‪ .‬ولا ننتبه إلى أن ما اعتبرناه جوهريا قد يصبح عرضيا إذا غيرنا المواد وظرف‬ ‫البناء (كأن يكون خارج مفعول الجاذبية) وما اعتبرناه عرضيا قد يصبح جوهريا مثل‬ ‫علاقة القاعدة والشذوذ في غالب الظاهرات المتطورة حيث قد يصبح ما كان يعتبر شاذا‬ ‫هو القاعدة‪.‬‬ ‫فكم من شاذ يصبح قاعدة وكم من قاعدة تصبح شاذة وخاصة في وصفنا للظاهرات وصفا‬ ‫هو في الغالب من نوع العادات في الثقافات المختلفة إذا كان متعلقا بالحضارات أو من نوع‬ ‫القوانين في الطبائع إذا كان متعلقا بالعوالم المختلفة بمعنى أن ما يصح في الارض قد لا‬ ‫يصح عندما نصبح وراء غلافها الجوي‪.‬‬ ‫والمغزى هو أن المقابلة الحادة بين نوعي الجوهري والعرضي قابلة للتنسيب‪ .‬وهو تنسيب‬ ‫إذا ذهبنا به إلى الغاية نفهم رفض ابن تيمية لكل مفهومات ميتافيزيقا أرسطو التي يؤسس‬ ‫عليها رؤيته لنظرية المعرفة ولنظرية الوجود والمطابقة بينهما ردا للثانية إلى الأولى برد‬ ‫موضوعها إلى موضوعها قولا بالمطابقة التامة‪.‬‬ ‫ولما كان ابن تيمية ينفي إمكانية القول بالمطابقة التامة من دون الإحاطة فإنه يبقي على‬ ‫الفرق بين الوجودي والمعرفي ويجعل الثاني دائما قاصرا دون الإحاطة بالأول ما لم يصبح‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الإنسان ربا بمعنى ما لم يكن علمه بأي شيء علما بكل الوجود كما بين من التناسج الوجودي‬ ‫بين شيء وبقية الموجودات وذلك هو أصل مفهوم الغيب‪ .‬فالغيب مفهوم حد ديني يعني ما‬ ‫يترتب على عدم العلم المحيط عند الإنسان‪ .‬لكن الله ذا العلم المحيط لا يوجد غيب‬ ‫بالنسبة إليه‪.‬‬ ‫الآن تقدمت لحل لغز الرؤية التيمية وأصبح من اليسير أن نفهم أن المعاني الكلية ليست‬ ‫مقومة للشيء كما تفترضها نظرية أفلاطون وأرسطو مفارقة عند الأول ومحايثة عند‬ ‫الثاني بل هي بدورها رموز مثل ألفاظ اللغة ورسوم الكتابة‪.‬‬ ‫أعني ثورته التي أنهت الفلسفة القديمة نهائيا حتى وإن بقيت ثورة مجهولة‪.‬‬ ‫كيف ذلك؟‬ ‫إذا كانت المعاني الكلية التي تعمل عمل الرموز في كلامي على الأشياء فكيف تكون في آن‬ ‫وكأنها مقوماتها إذ هي تعمل فعلا عمل المقومات لأنها تبدو مؤثرة فيها؟ الجواب بات‬ ‫واضحا‪ :‬فما اختاره مما أدركه من أعراض الأشياء ليكون علامات ما اعتبره حقيقتها هو‬ ‫عينه ما أرمز لها به‪.‬‬ ‫وبذلك أكون صانع المرموز والرمز في آن‪ .‬أوهم نفسي بأن ما أدركه من الشيء هو‬ ‫الشيء‪ .‬ثم أجعله مقومات للشيء‪ .‬ثم اعتبر المقومات علامات دالة عليه‪ .‬ثم أرمز إليه‬ ‫بها‪ .‬ومعنى ذلك أني في الحالتين \"أرمز\"‪ .‬فـما أراه من الشيء هو عين ما أرمز به للشيء‬ ‫وما أراه منه انتخاب أولي بحسب لحظة الإدراك وتجهيزه الإدراكي الذي يتغير كلما تقدمت‬ ‫المعرفة‪ .‬وما أراه منه غيره‪ .‬لكني اخترته للدلالة عليه قد وأغيره‪.‬‬ ‫وليكن أبسط مثال خارطة الأرض‪ .‬فهل الأرض كرة حقا؟‬ ‫وهل خطوط الطول والعرض لها وجود فعلي في سطحها‪-‬وأين التضاريس الفعلية مما‬ ‫نرمز إليه بالألوان مثلا أو بالإسقاط الهندسي لخلق وهم التضاريس؟‬ ‫ألسنا نتصور ما في الخارجة مقوم للأرض في حين أنه هو بدروه رمز لما اعتبرناه مقوما في‬ ‫حدود علمنا الفرضي للأرض مع تبسيط برد المعقد الوجودي إلى البسيط المعرفي؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫سيقال وماذا تقول في الصورة الشمسة للأرض؟‬ ‫أليست مطابقة لما نراه منها؟‬ ‫والجواب هو أيسر من هناك‪ :‬فلماذا نحتاج للاستدلال بالصورة الشمسة والعين نفسها‬ ‫مصورة شمسية؟‬ ‫فهل ما نراه بالعين له وجود فعلي في الأرض كما نراه أم أن ما نراه هو ما تنتجه الحاسة‬ ‫الباصرة؟‬ ‫وكيف تتحول هذه المبصرات خلال بثها في التواصل بين اقطاب الأرض‪ :‬ففي أي شكل‬ ‫تنتقل ثم تعود إلى الشكل الذي نبصره مباشرة قبل إرسالها فيتلقاها غيرنا ويراها كما‬ ‫نراها؟‬ ‫والإشكال هو ما حيقتها في ذاتها بالمقارنة هي هي في ما نراه مباشرة وفي ما نراه بعد‬ ‫انتقالها أم في ما هي عليه كأمواج وذبذبات خلال انتقالها؟‬ ‫ولو أخذ أفلاطون وأرسطو بعين الاعتبار هذه الظاهرة ولم تحجبه عنهما فكرة المطابقة‬ ‫لفهموا سر تغير المعرفة الإنسانية بحسب \"مايراه\" الإنسان من علامات دالة على \"الشيء\"‬ ‫ينتخبها بفعل التجريد الذي لا يأخذ كل \"صفات الشيء\" بل بعضها باعتباره جديرة‬ ‫بالاعتبار ويهمل ما عداها للتخلص من اللاتناهي بالتناهي‪.‬‬ ‫والقول بنظرية المعرفة المطابقة علته اغفال منطق هذه العملية‪ .‬ينسى الفيلسوف أنه‬ ‫في تعريف الشيء انتخب علامات وأهمل غيرها واعتبرها مقومة لجوهر الشيء ينسى أنها‬ ‫ثمرة فعل الاختيار الذي اعتمده لتوصيف الشيء بعلامات جعلها دليلا هو مدلولها‪ .‬وبذلك‬ ‫فما كان علمية ترميزية تـحول إلى عملية وجودية في الشيء‪.‬‬ ‫هل كان ابن تيمية مدركا لأبعاد رمزية المعاني الكلية وعدم تقويميتها؟‬ ‫لو لم يكن مدركا لها لما تكلم على عظائم العلوم وسر فساد القياس المنطقي الكلامي وعلى‬ ‫التمييز بين علم المقدرات الذهنية الذي هو كلي ومحظ وبرهاني وعلم الموجودات الخارجية‬ ‫الذي لا يمكن أن يكون كليا ولا محضا ولا برهانيا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لا يخامرني أدنى شك في أن \"حداثيينا\" لن يرضيهم ما قدمت عليه هذه الأدلة ولا حتى‬ ‫تقليديونا‪ .‬فأولئك لا يفهمون هذه المعاني بعضهم لعجز فكري وكلهم لمرض أيديولوجي‪.‬‬ ‫لا يمكن لمن يرونه زعيما لدى من يعتبرونهم ظلاميين أن يكون صاحب ثورة فلسفية‪.‬‬ ‫وهؤلاء قل أن يوجد فيهم من يفهم هذه المعاني ليس لعجز فكري عند البضع منهم ولكن‬ ‫لفساد تعليمهم جميعا وخلطهم بين حفظ المدونات دون تفكير والمعرفة العلمية التي لا يكفي‬ ‫فيها سرد الموجود‪.‬‬ ‫لكني لو كنت أولي أهمية لتخريف الأولين الايديولوجي ولعقم تكوين الثانين التعليمي‬ ‫لما أقدمت على البحث في هذه القضايا بعد أن استعددت لها الاستعداد الواجب بدأ‬ ‫بالتخصص في فلسفة أرسطو وختما بدراسة أقطاب الفلسفة الحديثة المتحررين من‬ ‫إيديولوجيا هيجل وماركس والعناية بنظرية المعرفة والسيميوتكس‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ما النتيجة الثورية لهذه الرؤية؟‬ ‫تاريخ المعرفة الإنسانية ليس هو شيئا آخر غير تاريخ الترميز بالمعنيين أي‪:‬‬ ‫‪ .1‬انتخاب العلامات الدالة عناصر للماصدقات ونظامها الوجودي‪.‬‬ ‫‪ .2‬مفهومات النظرية التي تعبر عنها عبارة رمزية بنظامها المعرفي‪.‬‬ ‫وكل وهم القائلين بالمطابقة تصور الماصدقات تتحدد فعلا بمقومات هي التي تمسيها‬ ‫المفهومات وليست هي بدورها نظام تصورات تعتبر ممثلة للأشياء وهي مستوى أول من‬ ‫الترميز يليه الترميز التي يعبر عنه ممثلا بنظام اللغة التي تقول تلك المفهومات‪.‬‬ ‫وهو ما يعني أن الإبداع العلمي إبداع للغات الرمزية التي هي في آن ترجمة مضاعفة‪.‬‬ ‫فهي ترجمة للوجود بما يدركه الإنسان منه وترجمة لما ينتخبه للعبارة عن ذلك الإدراك‪.‬‬ ‫فترجمة الوجود تكون بـانتخاب الأعراض التي تعتبر دوال على ما في الوجود‪ .‬والمعرفة‬ ‫ترجمة لسانية لهذه الدوال المنتخبة بنظام رمزي‪:‬‬ ‫‪ .1‬فنظام الأعراض المنتخبة يعتبر ترميزا لما ندركه من للوجو‪.‬‬ ‫‪ .2‬نترجمه ثانية بنظام لغوي يمكن من التواصل حولها‪.‬‬ ‫‪ .3‬فيكون العلم ترميزا أول لما ننتخبه مما ندركه من الوجود وترميزا ثانيا لما ننتخبه‬ ‫من عبارة رمزية لقوله‪.‬‬ ‫ولا أعجب من موقف من يفضل الحل الأرسطي على الحل التيمي‪ .‬فالجميع ينسون أن‬ ‫الأعراض الدالة على ما ندركه من الوجود ليست بالضرورة حقيقة الموضوع بل هي ا‬ ‫ينتخبه الإنسان مما يدركه منه بأدوات إدراك تبدأ بالحواس وتنتهي بما يضاف إليها من‬ ‫وسائل تدقيق وتعميق إدراكها لأنهم يتصورون أن كونها مؤثرة ومفيدة معرفيا دليل على‬ ‫أنها مقومة ولا يخطر ببالهم أنها مؤثرة ومفيدة في حدود ما انتخبت لأجله وأنها تتغير‬ ‫بمقتضى تقدم المعرفة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ثورية الحل التيمي تتمثل في عدم نسيان ذلك وعدم الغفلة عنه والتنبيه إليه‪ .‬فكان‬ ‫الحل هو اعتبار المعاني الكلية ليست إلا ترميزا أولا يترتب على انتخاب الأعراض التي‬ ‫تظن دالة على مقومات حقيقة الشيء‪ .‬لكنها في الحقيقة لا تدل إلا على ما انتخبناه للدلالة‬ ‫على ما اعتبرناه كذلك بحسب القصدية من فعلي الترميز المترجم للشيء بالأعراض‬ ‫المنتخبة والمعبر عن هذه الترجمة باللسان المنتخب‪.‬‬ ‫فكل \"شيء\" من الوجود يمثل لنا بحضور تحدده علاقتنا به وعلاقته بنا‪ .‬وما ننتخبه‬ ‫للدلالة عليه وعلى ما نظنه مقومات حقيقته هو ما يتميز به ذلك الحضور والمثول أمام‬ ‫مداركنا‪ .‬علمنا لا يتعلق بالشيء في ذاته بل بالشيء من حيث علاقة التحاضرين‪ :‬حضوره‬ ‫لنا وحضورنا له‪ .‬وكلاهما متضايف مع التحاضر والمتحاضرين‪ .‬فيكون الأمر كله مردودا‬ ‫لعملية التواصل ببعديه‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأفقي بين البشر‪.‬‬ ‫‪ .2‬والعمودي بينهم وبين الوجودين الطبيعي والتاريخي‪.‬‬ ‫وهذان الوجودان هو الوسط المغذي الذي تحيا فيهما وبهما لبشرية مثلما يعيش السمك‬ ‫في الماء‪.‬‬ ‫وتلك هي آيات الآفاق والأنفس التي تبين لنا حقيقة القرآن إذا نحن رأيناها (فصلت‬ ‫‪ )53‬فيكون القرآن أيضا من جنس تلك المرآة التي تكملنا عليها في الهرمين المتناظرين‬ ‫والمتماسين بقاعدتهما‪.‬‬ ‫وبذلك أعود إلى الهرمين وعناصرهما وشبكة العلاقات بينها وخاصة إلى الوصل الداخلي‬ ‫بين رأسي الهرمين وقلبيهما المتلامسين في لقائهما بقاعدتيهما إذ هما متلامسان بهما‪.‬‬ ‫كانت الرؤية اليونانية ‪-‬ممثلة بغايتها في الحل الأفلاطوني والأرسطي‪ -‬تعتبر التواصل‬ ‫العمودي بين البشر والعالم حاصلا بعلاقة شفافة بين الوجود والإنسان الأول باث والثاني‬ ‫متلق فيكون الإدراك انفعالا يعكس ما يأتيه من فعل العالم ومثاله المدارك الحسية‪ :‬صورة‬ ‫العالم في فكرنا مطابقة لحقيقته إذا حررناها من اخطاء الحواس ومن أخطاء المنطق‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وكان السوفسطائيون قد استنتجوا من ذلك أن الإنسان مقياس كل شيء في الوجود‬ ‫موجوده ومعدومه‪ .‬لكنهم كانوا أمناء فقالوا إن ذلك لا يعني أن العالم مردود إلى ما يعلمه‬ ‫منه الإنسان بل إن ذلك لا ينطبق إلى على ما يعلمه دون نفي أنه قد يوجد فيه ما لا‬ ‫يعلمه‪ .‬وهذه الأمانة فقدت عند الفيلسوفين‪ .‬ذلك أنهما اعتبرا قول السوفسطائين لا‬ ‫يصح إلا على حالتين‪:‬‬ ‫‪ .1‬إما على الإنسان الذي له عيب في مداركه الحسية أو العقلية إن كان صادقا أو في‬ ‫أخلاقه إن كان مخادعا‪..‬‬ ‫‪ .2‬أو على المدارك عامة إذا لم تتبع منهجا عقليا بأرجانون الجدل (أفلاطون) أو‬ ‫المنطق (ارسطو)‪.‬‬ ‫ثم وضعوا نظرية المعرفة المطابقة بهذين الشرطين إما بالمفارقة أو بالمحايثة وابن تيمية‬ ‫يرفضهما‪ .‬ولذلك فلا عجب إذا كان جواب ابن رشد لو جاء بعده كما فعل مع الغزالي بأن‬ ‫ابن تيمية قد عاد لحل السوفسطائيين‪ .‬وكثير من سخفاء المتكلمين والأميين من الكتبة في‬ ‫الصحافة أو ممن تسكرهم زبيبة فيصبحون دعاة يتهموني بهذه التهمة لأني شككت في‬ ‫الطابع الكلي لمبادئ العقل الثلاثة التي وضعها أرسطو والتي من دونها يسقط تخريف‬ ‫المتكلمين والفلاسفة المؤمنين بها والقائلين بالمطابقة‪.‬‬ ‫فكل الذين يزعمون الكلام في ابن تيمية من خريجي المدارس التقليدية والذين يزعمون‬ ‫الكلام في ابن رشد من خريجي المدارس الهيجلية الماركسية أي من القائلين بنظرية المعرفة‬ ‫المطابقة لا يمكن ألا يعتبروا ما أنا بصدد بيانه عودة إلى السوفسطائية لأنهم ينسون‬ ‫احترازهم أولا وترجمته التيمية ثانيا‪.‬‬ ‫احتراز السوفسطائيين يتمثل في قولهم إن حكمهم بأن الإنسان مقياس كل شيء يقتصر‬ ‫على ما يعمله ولا ينفي وجود ما لا يعلمه أو ما لا يقبل الإدراك الإنساني يؤمكن أن يؤسس‬ ‫لنظرية في المعرفة تنفي المطابقة وتميز بين الوجودي والمعرفي وتلك هي الإضافة التيمية‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫التي تبدو نكوصا إلى السوفسطائية‪ .‬ولو صح أن ذلك نكوص إلى السوفسطائية لكان‬ ‫القرآن أيضا سوفسطائيا لأنه يميز بين نوعين من العلم‪:‬‬ ‫‪ .1‬العلم الإلهي وهو العلم المحيط دون سواه وفيه يمكن الكلام على المطابقة بين‬ ‫العلم والوجود‪.‬‬ ‫‪ .2‬العلم الإنساني وهو علم لا محيط وفيه لا يمكن الكلام على المطابقة لتعالي‬ ‫الوجود دائما على العلم بما فيه من غيب‪.‬‬ ‫والخلط ببين العلمين هو ما يدعيه المتصوف الذي يدعي علما لدنيا بالكشف والفيلسوف‬ ‫والمتكلم عندما يدعي التفلسف مثل الرازي فيزعم ان الرسوخ في ا لعلم يمكن من عطف‬ ‫تأويلهم للمتشابه على تأويل الله (آل عمران ‪ 7‬التي يقرأون واوها عطفية لا استئنافية)‪.‬‬ ‫وما مبادئ العقل الأرسطية (الماهية والعدم التناقض والثالث المرفوع) إلا مواضعات‬ ‫لجعل التواصل بين البشر ممكنا‪ .‬لكنها ليست ضرورية للتواصل بين الإنسان والعالم إلا من‬ ‫حيث إخضاع هذا التواصل الثاني لشروط التواصل الأول بوصفهما كليهما عملا رامزا‬ ‫لانتخاب علامات الشيء أولا وللتعبير عنها ثانيا فضلا عن الكلام على الذات الإلهية‬ ‫وغيرها من الغيبيات‪ .‬والغيب غير الغائب ولا يمكن أن يقاس على الشاهد لأن الغائب الذي‬ ‫يقاس على الشاهد ممكن الحضور بخلاف الغيب الذي لا يحضر إلا في عالم يصبح فيه البصر‬ ‫حديدا‪ .‬فيكون مدار الإشكال ليس المطابقة بل التناسب بين نوعي الترميز‪:‬‬ ‫‪ .1‬الترميز الذي يمكن من \"الحوار التواصلي\" بين الإنسان والعالم أعني العالم‬ ‫الطبيعي والعالم الحضاري الذي هو ما أضافته الإنسانية إلى الطبيعة فيها أو حولها أو إلى‬ ‫جانبها‪.‬‬ ‫‪ .2‬الترميز الذي يمكن من \"الحوار التواصلي\" بين بالبشر من حيث هم بشر ومن حيث‬ ‫دور \"الحوار التواصلي\" الأول في هذا التواصل لأنه رهان التنافس المعرفي والقيمي بينهم‪.‬‬ ‫وهنا يتدخل مستوى آخر من \"الحوار التواصلي\" بين العالمين الطبيعي والتاريخي وما‬ ‫يفترض ما بعدين لهما متممين للتواصل الحواري الأول ومن \"الحوار التواصلي\" بين البشر‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهذين الماورائين‪ .‬أولهما هو ما وراء الطبيعة والثاني هو ما وراء التاريخ‪ .‬وهذه‬ ‫التواصلات الأربعة هي التي أوحت لي بنظرية المعادلة الوجودية‪.‬‬ ‫فلا يمكن أن نفهم هذه التواصلات الأربعة من دون تواصل متقدم عليها جميعا هو علاقة‬ ‫مباشرة بين الإنسان وما يعتبره ربا له أي بينه من حيث هو خليفة لرب وليس ربا يليه‬ ‫التواصل معه بوساطة الطبيعة وما بعدها وبوساطة التاريخ وما بعده فيتطابق المابعدان مع‬ ‫العلاقة المباشرة لأنهما يعيدان الإنسان إليها‪ .‬وهكذا نكون أمام المعادلة الوجودية التالية‪:‬‬ ‫‪ .1‬قلبها العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه وهو ما أسميه الوحدة بين الديني في‬ ‫الأديان والفلسفي في الفلسفات‪.‬‬ ‫‪ .2‬وعلى يمين هذا القلب نجد الطبيعة وما بعدها‪.‬‬ ‫‪ .3‬وعلى يساره التاريخ وما بعده‪.‬‬ ‫‪ .4‬ولما يلتقي المابعدان نجد القلب مرة ثانية‪.‬‬ ‫‪ .5‬فيلتقي رأسي المعادلة اللامباشرين مثل راسي الهرمين لو طابقنا بينهما‪.‬‬ ‫وهكذا نكون أمام المعادلة الوجودية التالية‪ :‬قلبها العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه أي‬ ‫الديني في الأديان والفلسفي في الفلسفات وعلى يمينه نجد الطبيعة وما بعدها وعلى يساره‬ ‫التاريخ وما بعده‪ .‬ولما يلتقي المابعدان نجد القلب مرة ثانية فيلتقي رأسا المعادلة‬ ‫اللامباشرين مثل راسي الهرمين‪.‬‬ ‫وهذه المعادلة كونية‪ .‬فلا يمكن تصور إنسان من دونها أيا كانت حضارته‪ .‬ومن ثم‬ ‫فاختلاف الحضارات لا يتعلق بالمعادلة بنية وعناصر البنية بل بأساليب التعبير عنها‪ .‬ولولا‬ ‫ذلك لاستحالت الترجمة بين اللغات والتواصل بين الشعوب وبين الحضارات بل وبين‬ ‫الأجيال في نفس الحضارة بل بين الإنسان وذاته‪ .‬وهذا وحده كاف لدحض خرافة صدام‬ ‫الحضارات الجوهري تصادمها لا يتجاوز الأساليب‪.‬‬ ‫وهو ما يثبت صحة الاستراتيجية القرآنية في توحيد الإنسانية‪ .‬فالأخوة البشرية هي‬ ‫المنطلق (النساء ‪ .)1‬والغاية هي المساواة بالتعارف معرفة ومعروفا (الحجرات ‪ .)13‬ولا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫تفاضل بينهم إلا بالتقوى التي هي هذه العلاقة المباشرة بين الإنسان وربه أولا وغير‬ ‫المباشرة بينهما مابعدين الطبيعة والتاريخ‪.‬‬ ‫وعلاقة المابعدين هي علاقة الاستخلاف‪ .‬فالمابعد الرئيسي هو المستخلف‪ .‬والمابعد‬ ‫الثانوي هو الخليفة‪ .‬لكن هذه العلاقة سرعان ما ينساها الإنسان وهو ما يولد عنده حب‬ ‫التأله الذي يدعي فيه صاحب السلطة السياسية أو المعرفية أو الفنية منزلة تتجاوز كونه‬ ‫إنسان خليفة إلى رب كقوة سلطان دون عدل‪.‬‬ ‫وقد خصص ابن خلدون فصولا مطولة لتفسير أهم خاصية للسياسة والتصوف والعلم‬ ‫والفن لأن أصحابها كلهم يصابون بداء حب التأله فيدعون سلطانا مطلقا أو علما محيطا إما‬ ‫بالكشف أو بالعقل أو إبداعا شبه إلهي وكلها ترد في الحقيقة إلى نظرية المطابقة بين‬ ‫المعرفة والوجود وهو حب جوهر التأله فيها جميعا‪.‬‬ ‫ولذلك فهو وإن لم يكن له عمق ابن تيمية في دحض نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة فهو‬ ‫يقول بها دون أن يؤسسها لأنه يعتبر داء الفلسفة والكلام المحرفين متمثلا في القول بها أي‬ ‫في رد الوجود إلى الإدراك‪ .‬وحتى في إطار الفلسفة الأرسطية فهي ينسب عدم المطابقة‬ ‫إلى استحالة رد المادة إلى الصورة‪.‬‬ ‫وهنا نكتشف سر دلالة النص الذي بدأنا به هذه المحاولة‪ :‬فالتمييز بين علم المقدرات‬ ‫الذهنية الذي يتصف بالكلية والمحظية والبرهانية وعلم الموجودات الخارجية التي ليست‬ ‫كلية ولا محضة ولا برهانية يشمل العلوم التي توصف بكونها عقيلة والعلوم التي توصف‬ ‫بكونها نقلية وهو وصف لا يقبل به‪.‬‬ ‫وعلة عدم القبول به هي سطحية المقابلة‪ :‬فلا يوجد علم عقلي للوجود الخارجي ليس‬ ‫فيه بعد نقلي هو مضمونه التجريبي ولا يوجد علم نقلي للوجود الخارجي ليس فيه بعد‬ ‫عقلي هو شكله المستمد من المقدرات الذهنية التي هي كلية ومحضة وبرهانية‪.‬‬ ‫وهو ما فرض علي وضع نظرية المقدرات الذهنية العملية نظير المقدرات الذهنية‬ ‫النظرية‪ .‬وما يميز هذا النوع الذي افترضته قياسا على ما تكلم عليه ابن تيمية هو أن‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫المقدرات الذهنية في الأديان عقدية وليست فرضية مثل الفلسفية‪ .‬لكن الفلسفة جعلت‬ ‫هذه عقدية دون وعي فأطلقتها مثل تلك‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أستطيع القول في غاية هذه المحاولة إني الآن أمام معضلة شخصية‪ :‬لما وضعت مفهوم‬ ‫المقدرات الذهنية العملية وسميتها أدبية أو خلقية قياسا على المقدرات الذهنية النظرية‬ ‫في تصور ابن تيمية وهي الرياضيات والمنطق وضعت نفسي في مأزق أشار إليه ابن تيمية‬ ‫عندما قال إن الكليات لا توجد بحق إلا في المقدرات الذهنية وفي المعاني الدينية‪.‬‬ ‫وهذه هي المعضلة الشخصية‪ :‬فهل المعاني الدينية كليات ذهنية؟ هل يمكن اعتبار الأديان‬ ‫من المقدرات الذهنية العملية أو الأدبية أو الخلقية فتكون من جنس الفنون والسياسة؟ وما‬ ‫الذي يضيفه صفها بـالإيمانية لهذه المقدرات الذهنية العملية حتى يميزها عن صفة‬ ‫الافتراض في المقدرات الذهنية النظرية؟ وماذا يميز البرهان في العمل وكلياته الذهنية‬ ‫عن البرهان الذي ينسبه ابن تيمية للكليات الذهنية في النظر بخلاف علوم الوجود‬ ‫الخارجي‪ .‬هل علوم الكليات الذهنية ينبغي أن يكون فرضي المقدم بداية ويبقى من ثم‬ ‫فرضي التالي غاية؟ وما وضع العلوم الدينية التي يسلم ابن تيمية بتضمنها كليات دون أن‬ ‫يحدد هل هي ذهنية أم خارجية‪.‬‬ ‫ما الفرق بين الحقيقة العلمية واليقين الديني؟ فهل العلم يهتم بالحقيقة التي يكون العقد‬ ‫فيها فرضيا وليس يقينيا؟ وهل الدين يهتم بالحقيقة التي يكون العقد فيها إيمانيا وليس‬ ‫فرضيا؟‬ ‫فيكون المميز بين نوعي المقدرات الذهنية هو مسلمات التأسيس المعرفي والقيمي بطبيعة‬ ‫العقد؟‬ ‫هل معنى هذا أن المشكل في نظرية المعرفة يتعلق بـالموقف القضوي‪-‬أي مستويات العقد‪-‬‬ ‫وليس في القضوي بذاته؟‬ ‫وهل يتحرر العلم من الموقف القضوي بجعل المضمون القضوي فرضيا بمعنى أنه يعتبر‬ ‫نتائج الاستدلال معلقة على القبول بمضمون مقدماته قبولا فرضيا ‪-‬وليس عقديا كما كان‬ ‫عليه الامر في الفلسفة القديمة أي إنهم لا يعتبرون ما ينتخب من علامات لتعريف الأشياء‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫مثلا فرضيا ومن ثم قابلا لتغيير إذا كذبته التجربة فيطبق مقتضى الشرطية المتصلة اي‬ ‫إن نقيض التالي يفيد نقيض المقدم؟‬ ‫هل معنى ذلك أن هذا المقياس لا يصح في العقد الديني الذي لا يتغير ويقتصر على العقد‬ ‫العلمي الذي هو عقد مشروط بالاحتكام إلى التجربة فيكون عقدا مؤقتا دائما أي إن بقاءه‬ ‫مشروط ببقاء تأييد التجربة‪.‬‬ ‫هل معنى ذلك أن الاديان لا تحتكم إلى التجربة؟‬ ‫المسألة بعيدة الغور وتهم القيم والعمل اللذين يمثلان أصلها الحقيقي‪.‬‬ ‫فلنفرض أن القيم والعمل تحتكمان إلى التجربة ألا يكون معنى ذلك أن الأمر الواقع‬ ‫يصبح هو المثال ومن ثم يكون هذا الموقف رفضا للتمييز بين المنشود والموجود فيصبح لا‬ ‫فرق بين \"الآتر\" و\"الدوفوار آتر\" أي بين الموجود وما ينبغي أن يوجد فتصبح كل القيم‬ ‫أوهام إنسانية و\"الواقع\" هو المرجع الوحيد وما عده وهم خاتم‪.‬‬ ‫وهنا نعود إلى علم \"الواقع\" المزعوم‪ .‬فإذا تصورنا أنه مطابق كان عملنا مطابقا للواقع في‬ ‫حين أنه مطابق لما نعلم من الواقع‪ .‬ومن ثم فكل من يقول بعدم التمييز بين المنشود‬ ‫والموجود ينبغي أن يقول بإطلاق العلم وبأن علم هذه اللحظة لا يمكن تجاوزه إلى ما ليس‬ ‫معلوما فينتفي كل مجهول في \"الواقع\" أو أن يدعي أن علمه مطلق ومحيط‪.‬‬ ‫فهل من يقول مثل هذا الكلام يمكن أن نصفه بكونه عاقلا؟‬ ‫من يزعم أن البشرية يمكن أن تكون قد تقدمت لو لم تكن دائما مميزة بين الموجود بوصفه‬ ‫أمرا واقعا والمنشود بوصفه أمرا وجبا وأن السعي الإنساني هو دائما تغيير الموجود في ضوء‬ ‫ما تعبره المنشود قيميا حتى لو تغير الأمران لاحقا‪.‬‬ ‫وتلك هي العلة التي جعلتني اعتبر كل حداثيي العرب إما هيجليين (الليبراليون منهم)‬ ‫أو ماركسيين (اليساريون منهم) أو يأكلون من القصعتين معا (القوميون منهم) لأنهم‬ ‫يعتقدون أن \"الواقع عقلي والعقلي واقع\" (خرافة هيجلية) وأن ذلك هو جوهر المادية‬ ‫الجدلية المزعومة التي ليس لها ما وراء وهو جوهر الرؤية الهيجلية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والأغرب من ذلك هو أن القائلين بعلم متجاوز لما يدعيه الفلاسفة سواء باللدنية (الكشف)‬ ‫أو حتى بالوحي (علم الغيب) إذا اعتبروه مطابقا فإنهم لا يختلفون عن أفلاطون وأرسطو‬ ‫قديما وسيطا وعن هيجل وماركس حديثا وما بعد حديث لأنهم جميعا يؤمنون بأمرين‬ ‫مستحيلين‪:‬‬ ‫‪ .1‬المطابقة بين الإدراك والوجود‪.‬‬ ‫‪ .2‬ونفي أي تعال على العالم الذي يظن وحيدا‪.‬‬ ‫فالتأويل الفلسفي أو الكلامي \"للماهناك بالرد إلى الماهنا\"(عبارة هيجلية) هو اعتبار ما‬ ‫يصح على علمنا لهذا العالم‪-‬حتى لو سلمنا بكونه يمكن أن يدرك حقيقته على ما هي عليه‪-‬‬ ‫يصح على أي عالم أو أنه لا يوجد إلا عالم وحيد هو هذا العالم وأنه ليس له ما وراء‪.‬‬ ‫وأكبر عيوب علم الكلام والفلسفة بكل مراحلها حتى آخراتها أعني خرافة السرديات التي‬ ‫ترد المسرود إلى السرد‪.‬‬ ‫وأغرب ما في الأمر هو موقف الحداثيين العرب‪ .‬فهم يظنون أنهم يعبرون بذلك عن‬ ‫علمانيتهم وهم لا يدرون أن هذه الرؤية الهيجلية التي تبناها ماركس وإن اعتبرها مادية‬ ‫جدلية (اي نفي البعد الروحي منها) هي نظرية الصلح الهيجلة (الصلح بين الله‬ ‫والعالم‪ )Die Versöhnung‬تأويلا للمسيحية بتوسط وحدة الوجود السبينوزية بعد أن‬ ‫أضاف إليها بعد التذويت أو اعتبار الجوهر ذاتا‪.‬‬ ‫إنها وحدة الوجود السبينوزية التي يعيب عليها أنها جوهرانية لخلوها من دور الذاتية أو‬ ‫الروحية ‪-‬الغايست‪-‬فأضافها ليؤول المسيحية أو حلول الله في العالم برمز المسيح ومن ثم‬ ‫صار الواقع الطبيعي والتاريخي هما الوجودان الوحيدان وليس لهما ما وراء لأن الماهناك‬ ‫وهم إنساني ولا يوجد إلا الماهنا‪.‬‬ ‫وهذا يعتبر في الإسلام الأصل الحقيقي لما يسميه الإخلاد إلى الأرض الذي يجعل الإنسان‬ ‫كالكلب يلهث دائما سواء حملت عليه أو لم تحمل‪ .‬وفعلا فالإنسان في الرؤية التي تبناها‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الحداثيون العرب هو ما يجعلهم كلهم مخلدين إلى الأرض لا منشود عندهم إلى ما ينشده‬ ‫الكلاب أي اللهيث الدائم وراء الفاني‪.‬‬ ‫لكن الأمر ليس مقصورا عليهم‪ .‬فحتى الإسلاميون فهم صاروا من جنسهم لأن ظنهم أن‬ ‫الانثروبوقراطيا تخلتف عن الثيوقراطيا أو المناوسة بينهما فيهما فرق يثبت أنهم ليسوا من‬ ‫المخلدين إلى الارض علته جهلهم بأنهما في العمق أبيسيوقراطيا وهي دافعهم الحقيقي في‬ ‫ما يسمونه سياسة إسلامية‪.‬‬ ‫لليس عندي حل لهذه المعضلة‪ .‬هل الإنسان لا يستطيع التخلص من بعدي دين العجل‪-‬أي‬ ‫ربا الأموال وربا الأقوال‪-‬ومن ثم فالبديل الذي يقدمه الإسلام مجرد يتوبيا كما اعتبره‬ ‫هيجل أم إن هذه اليتوبيا (رؤية الإسلام التي يقيسها على رؤية الثورة الفرنسية) هـي في‬ ‫الحقيقة ما يصبو إليه كل البشر ومن ثم فهي التعبير الفعلي عن منزلة الإنسان الوجودية‪:‬‬ ‫الأخوة والمساواة‪.‬‬ ‫فبعدا العجل ‪-‬الذهب والخوار‪ -‬أي الحكم بالنظام البنكي البورصي والتربية بإعلام‬ ‫الإيديولوجيا والملاهي أصبحا وكأنهما مما لا بد منه ولا بديل عنه وهو ما يسعى إليه‬ ‫الإسلاميون مثل العلمانيون ومن ثم فكلامهم عن سياسة إسلامية كذبة كبيرة ودليل ذلك‬ ‫أنهم ما أن يحكموا حتى يخلدوا إلى الأرض‪.‬‬ ‫معضلتي الشخصية ليست شخصية في الحقيقة بل هي معضلة كونية‪ .‬هل الإنسان تجعله‬ ‫هشاشة وضعه الوجودي عبدا لبعدي العجل بسبب حاجاته الحيوية‪-‬فيقبل مرغما بربا‬ ‫الأموال وربا الأقوال‪-‬لأن بدنه عبد للحاجة العضوية وروحه عبد للحاجة النفسية ولأن‬ ‫الحاجتين لا تقبلان التأجيل ومن ثم فالإنسان عبد العاجل الذي ينسيه في الآجل دائما‬ ‫فيدين بالعجل‪.‬‬ ‫لكن مآل الإنسانية الحالي ‪-‬العولمة‪-‬بين فشل هذه الرؤية لأن التمانع بين البشر على‬ ‫ثروات الطبيعة وتراثات التاريخ لوثهما وولد الندرة التي هي ليست حقيقة فعلية بل هي‬ ‫كذلك من رموز هذا الاخلاد إلى الأرض فأصبح الإنسان بدلا من التعمير بقيم الاستخلاف‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫يقوم بالتدمير بنفيها وهو ما يؤدي إلى أن المنجاة الوحيدة للإنسانية لا تتحقق إلا بالكفر‬ ‫بدين العجل معدنه وخواره‪.‬‬ ‫والنموذج الأمريكي هو ما ابتدعه السامري أي دين العجل‪ :‬فعملتهم ونظامهم البنكي هي‬ ‫معدن العجل واعلامهم وملاهيهم هي خواره‪ .‬والبشرية كلها اليوم عبيد لأصحاب هذا‬ ‫الدين المسيطر على العالم‪ .‬وكل شباب العالم بدأ يفهم اللعبة ويريد أن يتحرر منها بدأ‬ ‫بمحاولة إنقاذ ا لطبيعة والثقافة من التلويثين المادي والروحي‪.‬‬ ‫وبذلك يتبين أن التناقض الفلسفي الحقيقي في العالم اليوم هو الفلسفة المشتقة من دين‬ ‫العجل والفلسفة المشتقة من الإسلام الذي فضح دين العجل باعتباره اساس كل تحريف‬ ‫للدين والفلسفة في كل تاريخ البشرية ومن ثم فلا يمكن أن تقبل أمريكا بعودة الإسلام‬ ‫لدوره التاريخي الكوني‪ :‬من هنا حربها عليه‪.‬‬ ‫الحرب التي تخوضها أمريكا على الإسلام تخاض باسم دين العجل أي باسم سلطان ربا‬ ‫الأموال (معدن العجل وهو مسروق صار مجرد ورق في أمريكا) وربا الأقوال (وهو خوار‬ ‫العجل وهو خداع صار مجرد صورة في أمريكا) على الإنسان وشروط بقائه بصورة تجعل‬ ‫الإنسان مفسدا في الأرض وسافكا للدماء‪.‬‬ ‫وأعجب ما في الأمر هو أن من يدعي مقاومته من المسلمين هم أكثر الناس تأييدا لخططه‬ ‫وعملا بها سواء كانوا عملاء ظاهرا وباطنا مثل كل الانظمة لا سنية العربية أو عملاء في‬ ‫الباطن وأدعياء ممانعة في الظاهر مثل كل الأنظمة والمليشيات الطائفية العربية (شيعية‬ ‫وعلومية ومسيحية وهلم جرا‪.)...‬‬ ‫وقد أردت في خاتمة هذه المحاولة أن أصل المسألة النظرية التي أبحث فيها وتخص نظرية‬ ‫المعرفة والقيمة أن أقدم نماذج من تطبيقاتها في التاريخ الفعلي فتكلمت على الوضع الحالي‬ ‫للعالم من حيث صلته بالإسلام لأن الإسلام لا يمكن أن يتعلق بالعالم إلى من حيث الدين‬ ‫الكوني الفاتح والـخاتم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والقصد بالفاتح والخاتم هو أن الختم تذكير بالفتح‪ :‬فالإسلام يتحدد بكونه الديني في‬ ‫كل دين وكون الأديان بكل أصنافها لا تختلف عنه إلا بتحريفها وتحريف التاريخ بمقتضى‬ ‫تحريفها‪ :‬والاول هو تحريف الرسالة والثاني هو جاهلية التاريخ الإنساني وتلك هي حقيقة‬ ‫العولمة الأمريكية ببعدي دين العجل‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫خاتمة البحث أخصصها لحصيلة المحاولة في المعاني الكلية ودورها بين كونه مقوما لحقائق‬ ‫الأشياء في النظرية الفلسفية القديمة والوسيطة وكونه مجرد اصطلاح يختار بعض أعراض‬ ‫الأشياء مما ندركه منها ليكون رمزا للدلالة على ما نعتبره حقيقتها نتعامل معها ونعبر عنها‬ ‫برمز ثان هو لغة العلم فنبدع نظامين كلاهما رمز‪.‬‬ ‫نظام ما نرمز إليه بما نفترض أنه يحدد منزلته في نظام الأشياء المجهول دائما ولا نعلم‬ ‫منه إلا ما نعلم إلى سبيل الفرض ووالذي نريد معرفته ونظام ما نفترض أنه يمثل اللغة‬ ‫التي بالتعامل معها نكونه وكأننا نتعامل مع النظام الأول بحيث إننا نعتبر منطق النظام‬ ‫الثاني قابلا للإسقاط على منطق النظام الأول ونمتحن ما يستنتج من الثاني بالأول‪ .‬فكل‬ ‫الحدوس العلمية تأتينا‪:‬‬ ‫‪ .1‬إما مما يوحي به نظام الرموز المعبر عن نظام المرموزات التي هي بدورها رموز‬ ‫بما فيه من عدم تناسق‪.‬‬ ‫‪ .2‬أو مما يوحي به عدم التناسق بين نظام الرموز المعبرة ونظام الرموز المعبر عنها‬ ‫بوصفها ما اخترناه من أعراض الأشياء وافترضناه «دلالة» المعبر على المعبر عنه‪.‬‬ ‫وهذا بالضبط ما يجري في علاقة الرياضيات التي نختارها نظاما رمزيا للتعبير‬ ‫والطبيعيات التي نتكلم عليها من خلال ما اخترناه من علامات ننظمها بها‪ .‬وهو ما جعلها‬ ‫تصبح علما أي إنها تبدع صورة فرضية عن الشيء وتصوغها بعبارة رياضية فرضية هي‬ ‫بدورها‪ .‬ثم تمتحن العبارة بسلوك ما وضعته فرضيا وكأنه الشيء في ضوء ما يترتب على‬ ‫الصورة في سلوكه وما يترتب علـى العبارة في سلوك العبارة عنه‪ .‬وإلى حد الآن يبدو الأمر‬ ‫مفهوما لأنه حقيقة ما يجري في العلم الحديث‪ .‬لكن هذه العملية تنسب أمرين للذهن يصعب‬ ‫فهمهما‪:‬‬ ‫‪ .1‬فكيف نفهم قدرة الفكر على التخلص من ظهور الموجود واعتباره غير ضروري‬ ‫وافتراض غيره ممكنا وافتراضه على عدة صور ممكنة منه؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪35‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬وكيف يمكن لهذه المفروضات أن تفعل رغم أنه لا شيء يثبت أنها مقومة بدليل‬ ‫استبدالها عندما تقتضي الضرورة التي تتجلى بعدم التناسق الأول أو الثاني‪.‬‬ ‫وهذا هو المشكل الذي أريد أن اختم به البحث في المعاني الكلية النظرية لعلوم الضرورة‬ ‫الشرطية وما اقتضته من اضطراري لوضع مثيل لها هو المعاني الكلية العملية لعلوم الحرية‬ ‫الشرطية وسميتها المعاني الكلية الأدبية أو الخلقية مثلما تسمى الأولى المعاني الكلية‬ ‫الرياضية أو المنطقية‪.‬‬ ‫وكان ذلك يكون دون إشكال لولا المعاني الكلية الدينية التي قد يظن أن وصفها بالذهنية‬ ‫قد يعني تشكيكا في وجودها في الأعيان‪ .‬وطبعا هذا التشكيك يبدر إلى ذهن من يتصور‬ ‫المقدرات الذهنية الرياضية مقصورا وجودها على الأذهان لأنه يعتبر الوجود الخارجي‬ ‫مقصورا على الأعيان القابلة للإدراك الحسي‪.‬‬ ‫والمشكل هو‪ :‬هل تسليم ابن تيمية بأن الكليات لا توجد إلا في المقدرات الذهنية وفي‬ ‫المعتقدات الدينية يعني أن هذه مثل تلك فتكون مقدرات ذهنية وقابلة من ثم لأن تكون‬ ‫\"كلية ومحضة وبرهانية\" لكنها لا تنطبق على الوجود الخارجي الديني إلا انطباق الأولى‬ ‫على الوجود الخارجي الطبيعي مثلا؟‬ ‫ولهذه الإشكالية عدة أجوبة بالإيجاب وبالنفي‪ .‬وهذه الأخيرة تكتفي بعكس تلك‪.‬‬ ‫ودحضها يسير لأنه عين دحض نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة ونظرية الكليات المقومة‬ ‫ونظرية العالم الواحد المقصور على عالم المدارك الحسية وخاصة اعتبارها هي «الواقع»‬ ‫الذي يعتبر ما عداه منتجات الخيال والخرافة‪.‬‬ ‫وطبعا فقائل ذلك بخصوص المقدرات الذهنية الدينية يشبه من يعتبر المقدرات الذهنية‬ ‫الرياضية من الخيال والخرافة‪ .‬فبالإيجاب يمكن القول إن \"الأشياء\" الدينية مجانسة في‬ ‫العمل لـ «لأشياء الرياضية» في النظر من حيث هي \"اشياء مثالية\" ليس ك\"مثلها شيء\" في‬ ‫الوجود الخارجي‪ .‬وهو ما يمنع الكلام عليها بلغة الكلام على المدرك المعيش بالمدارك‬ ‫الحسية وكأنه قلب للعلاقة بين المثال والمقيس عليه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪36‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فلا وجود في الخارج لأي شيء مطابق حقا لـمفهوم رياضي مهما كان بسيطا فمثلا لا توجد‬ ‫دائرة كما يحددها الرياضي في الوجود الخارجي رغم أن الأشياء الخارجية الطبيعية كما‬ ‫يدركها الحس الإنساني لا يمكن أن تعلم من دونها لغة للعبارة عن الصورة التي يتعامل‬ ‫معها العلم بوصفها ممثلة للشيء‪.‬‬ ‫وكذلك لا وجود لأي مفهوم ديني رغم أن الأشياء الخارجية الدينية كما يدركها الحس‬ ‫لا يمكن أن تعمل من دونها‪ .‬فتكون نسبة المعاني الدينية إلى الظاهرات التاريخية والحرية‬ ‫الشرطية مناظرة لنسبة المعاني الرياضية إلى الظاهرات الطبيعية والضرورة الشرطية‪.‬‬ ‫وهذا هو الأمر الذي أضفته لرؤية ابن تيمية والذي يتجاهله الكثير للظن أن المعاني الكلية‬ ‫تابعة للنظر والعلم دون العمل والفنون والآداب‪.‬‬ ‫وإذن فلا خوف من تهمة نفي وجود الأشياء الدينية بهذا القياس لأنه من السخف أن‬ ‫يتصور الإنسان أن الأشياء الرياضية التي ليس لها مثيل في الوجود الخارجي ليست موجودة‬ ‫بوجود يخصها يختلف عن الوجود المحسوس‪ .‬فالأمر لا يتعلق بالوجود في الحالتين بل بنوعه‬ ‫وبالدور في النظر وبالدور في العمل‪ .‬لكأننا قلنا بحاجة العمل مثل النظر لمقدرات ذهنية‬ ‫تكون كلية ومحضة وبرهانية مثلها‪.‬‬ ‫فيبقى مخرج \"ليس كمثله شيء\" مشكلا لأنها تتعلق بنوع الوجود مع انطباقها على إثباته‬ ‫وعلى نفيه‪ .‬فيقع الخلط بين المثالي الذي ليس \"كمثله شيء\" في الوجود الخارجي والخيالي‬ ‫الذي ليس \"كمثله شيء\" في الوجود الخارجي‪ .‬وغالبا ما يتصور الكثير أن المعاني الكلية‬ ‫الدينية هي من النوع الثاني أي إنها من الوجود الخيالي وخاصة عند الحداثيين العرب‬ ‫الذين لا يعترفون إلا بما يشاركون فيه الدود‪ :‬خلط المثالي بالخيالي‪.‬‬ ‫هل كان ابن تيمية مدركا لهذه الإشكالية عندما حصر وجود الكليات في المعاني الدينية‬ ‫التي سميتها المقدرات الذهنية العملية والمعاني الكلية في المقدرات الذهنية النظرية؟‬ ‫هل كان يعني أن وجود المعاني الكلية فيهما من نفس الطبيعة أي إنها هي الوجود المثالي‬ ‫المشروط في الوجود الخارجي المدرك بالحواس الخارجية أو بالحواس الباطنية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪37‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ذلك ما فهمته من الكلام على الكليات في الأديان وما بفضله سمحت لنفسي بقراءة كلمة‬ ‫\"العقلي الصريح\" بمعنى العقلي المحض وليس بمعنى المعبر عنه بصراحة أي إنه يقصد‬ ‫الصراح لا الصريح فيكون المعنى هو الكليات الذهنية النظرية ‪-‬في المعرفة العلمية‪-‬‬ ‫والكليات الذهنية العملية ‪-‬في المعرفة الدينية‪-‬لا تتعارضان أبدا وأن النقل الصحيح فيهما‬ ‫متطابق‪ .‬فهو يصف الأولى بكونها كلية ومحضة وبرهانية‪ .‬ولما كانت الثانية كليات فهي‬ ‫مثلها ذهنية ولها هذه الخصائص الثلاث من حيث هي علم‪.‬‬ ‫ولأسلم إذن أن العقلـي \"الصراح\" والنقلي \"الصراح\" من طبيعة واحدة عند النظر إليهما‬ ‫بمنظور خصائص المعرفة‪ .‬فيكونا مشتركين في كون علمهما \"كليا ومحضا وبرهانيا\"‪ .‬إذا كان‬ ‫الأمر متعلقا بالمدرات الذهنية سواء كانت نظرية أو عملية فيبدو لي أمرا بينا بنفسه لأن‬ ‫الأمر يتعلق بالمثل التي من دونها يمتنع أن نفترض للوجود الخارجي سواء كان علميا أو‬ ‫عمليا صورة معينة قابلة للعبارة عنها بهما ويكون كل تعين من جنس «القيمة» التي تجعل‬ ‫المتغير في الرياضيات ينطبق على شيء محدد‪.‬‬ ‫فأقبل أن يكون علم العقلـي الصراح لا يعارض علم النقلـي الصراح ومن ثم فلهذا مثل‬ ‫ما لذاك من مقدرات ذهنية هي معانيه المثالية التي يستند إليها في علم الوجود الخارجي‬ ‫سواء كان طبيعيا أو دينيا‪ .‬لكن كيف لي أن أقبل أن يكون النقلـي الصحيح واحدا فيهما‬ ‫خلال تطبيقهما على مجاليهما النظري والعملي؟‬ ‫ذلك ما أزعم أن ابن تيمية يقصده بعدم تعارض النقلـي الصحيح مع علم العقلـي للوجود‬ ‫الخارجي‪ .‬فعلم الوجود الخارجي ليس \"كليا ولا محضا ولا برهانيا\" فيكون من جنس النقلـي‬ ‫بمعنى أنه في الحقيقة ذو مضمون تاريخي حتما وهو مختلف في تعيناته رغم وحدته في‬ ‫مثاله‪ .‬فهو تاريخ ما نصنعه من صور عن الوجود المجهول بالطبع خلال تعاملنا معه‪.‬‬ ‫فما نطبق عليه الرياضيات في الطبيعيات ليس من جنس الرياضيات بل هو من جنس ما‬ ‫لا يقبل الصوغ الرياضي التام مهما تقدمت علوم الرياضيات وهو متغير دائما لأنه مضمون‬ ‫نحاول صوغه ببناء صورة منه والتعبير عنه بعبارة رياضية‪ .‬فنكون نحن صناع الصورة التي‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪38‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫نعتبرها ممثلة للموضوع وهو المستوى الأول من الترميز ثم صناع العبارة وهو المستوى‬ ‫الثاني من الترميز‪.‬‬ ‫وقد نصل إلى مرحلة نكتفي فيها بالمستوى الثاني من الترميز فنتعامل مع الطبيعيات‬ ‫النظرية وكأنها رياضيات خالصة‪ .‬ويمكن كذلك أن نفترض فنا يتعامل مع العمل على هذا‬ ‫النحو ولعل اليتوبيات من هذا الجنس‪ .‬وهو هدف بعيد الحصول بصورة تامة في الحالتين‬ ‫وخاصة في الثانية لوجوب الاحتكام إلى التجربة التي هي الحكم النهائي على صحة الفيزياء‬ ‫والتاريخ حتى النظرية بمعنى أن المشتق من الفرضيات يبقى معلقا في منزلة الفرضية حتى‬ ‫لو أيدته التجربة في لحظة ما لأن التجارب المقبلة قد تنقضها إذا تقدم العلم فاكتشف‬ ‫بدائل أدق وهو ما عبر عنه ابن تيمية بالقول إن كل تصور وراء تصور بلا حد‪.‬‬ ‫فاستنتاج النسبية الكلية مثلا يبقى فرضية بسبب الحاجة إلى حكم تقدم المعرفة وتقدم‬ ‫وسائل إدراك المعطى الطبيعي بالتجربة الفعلية وليس بالتجربة الافتراضية الذهنية‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فهمت فصلت ‪ :53‬فتبين حقيقة القرآن تكون بما يرينا الله من آياته في الآفاق‬ ‫والأنفس التي نحتكم إليها في فهمنا لنصه‪ .‬وبذلك أعود الآن إلى بيت القصيد‪:‬‬ ‫‪ .1‬مقدرات ذهنية لا تعلم الضرورة الشرطية في الطبائع إلا علما نسبيا ولا بد لها‬ ‫من تطبيق نموذج علمها على علمها‪.‬‬ ‫‪ .2‬مقدرات ذهنية لا تعلم الحرية الشرطية في الشرائع إلا علما نسبيا ولا بد لها من‬ ‫تطبيق نموذج علمها على علمها‪.‬‬ ‫والضرورة الشرطية للطبائع‪ .‬والحرية الشرطية للشرائع‪ .‬والمشكل أن الإنسان من حيث‬ ‫هو في علاقة بالطبائع لا بد له من علم مثالي للمقدرات الذهنية النظرية (كلي ومحظ‬ ‫وبرهاني) نموذجا لعلمها علما نسبيا‪ .‬ومن حيث هو في علاقة بالشرائع لا بد له من علم‬ ‫مثالي للمقدرات الذهنية العملية (كلي ومحظ وبرهاني) نموذجا لعلمها علما نسبيا‪ :‬مجالان‬ ‫لا يتعارضان بل يتكاملان بتراتب لأن الحرية الشرطية فوق الضرورة الشرطية إذا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪39‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫اعتبرنا الطبيعة نفسها ثمرة خيارات تجعلها تكون على ما هي عليه إذ لا شيء يثبت أنها‬ ‫كذلك بصورة لا بديل عنها‪ .‬فيمكن تصور الطبيعة على نحو آخر‪.‬‬ ‫وهذا من أهم أدلة الغزالي ضد تصور الفلاسفة للسببية باعتباره علية الضرورة ولا‬ ‫يتصورونها ناتجة عن علية الحرية التي هي أسمى منها‪ .‬فما يبدو ضروريا بالنسبة إلينا‬ ‫يمكن أن يكون حرا بالنسبة إلى خالقه بمعنى أننا نستطيع تصور ا لعالم بنظام مختلف عما‬ ‫نشهده منه‪ .‬وظن الفلاسفة أن ذلك مستحيل (ابن رشد مثلا) يسميه الغزالي ضيق‬ ‫الحوصلة‪.‬‬ ‫فهما لا يتعارضان بالعقل الخالص أو الصراح‪ .‬فالأولى مقدرات ذهنية نظرية كلية‬ ‫ومحضة وبرهانية (كلام ابن تيمية على الرياضيات والمنطق)‪ .‬والثانية التي قستها عليها‬ ‫مقدرات ذهنية عملية كلية ومحضة وبرهانية (كلامي قياسا على كلام ابن تيمية)‪ :‬المستوى‬ ‫المثالي من معرفة موضوعها يحدده شكلها‪.‬‬ ‫وهما لا يتعارضان بالتطبيق النسبي للعقلـي الصراح‪ .‬فتطبيق المقدرات الذهنية‬ ‫النظرية على الطبيعة مثلا لا يبقى كما هو في المثال بل يصبح محتكما إلى الضرورة‬ ‫الشرطية في الطبيعة وهو من ثم نسبي إلى ما يحصل تاريخيا من خبرة عن الموضوع وتقدم‬ ‫في إدراك أعراضه وانتخاب ما يظن ممثلا لمقوماته‪.‬‬ ‫وما قلناه عن تطبيق المقدرات الذهنية النظرية على الطبيعة يقال مثله على تطبيق‬ ‫المقدرات الذهنية العملية على التاريخ‪ .‬فهو لا يبقى كما هو في المثال بل يصبح محتكما إلى‬ ‫الحرية الشرطية في التاريخ وهو نسبي إلى ما يحصل تاريخيا من خبرة عنه وتقدم في‬ ‫إدراك أعراضه وانتخاب ما يظن مقوما له‪.‬‬ ‫أعتقد صادقا أني تخلصت من مأزقي الذي لا أحمل ابن تيمية مسؤوليته‪ .‬فهو لم يفترض‬ ‫مقدرات ذهنية عملية رغم أنه وضع مبدأها‪ .‬أنا وحدي أتحمل مسؤولية هذا المفهوم‪ .‬لكنه‬ ‫سلم بوجود كليات العقائد الدينية‪ .‬وهي إذن من جنس المعاني الكلية المقدرة ذهنيا‪ .‬والكلي‬ ‫والمحض والبرهاني لم يعد مقصورا على النظر بل تعداه إلى العمل وهو أصل الديني‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪40‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وبهذا أكون في نفس الوقت قد برهنت على مفهوم وحدة الديني والفلسفي في هذا المستوى‬ ‫وليس في مستوى تاريخهما‪.‬‬ ‫فيمكن إذن أن أقول دون خوف من اتهامي بالخروج عن الملة إن المعاني الكلية الدينية‬ ‫مقدرات ذهنية مثل المعاني الكلية الرياضية وهو أمر لا يتعلق بالتشكيك في وجودها بل هي‬ ‫جوهر الوجود المتعالي عند من تحرر من الذهن العامي الذي يتصور الوجود على المدرك‬ ‫حسيا لا غير‪ .‬علم المثال شرط علم المحسوس‪.‬‬ ‫وحصيلة رؤية ابن تيمية‪ :‬إذا كان علم الضرورة الشرطية ‪-‬قانون الطبيعة‪-‬يحتاج إلى‬ ‫الرياضيات والمنطقيات علما للمقدرات الذهنية النظرية الذي هو كلي ومحظ وبرهاني فإن‬ ‫علم الحرية الشرطية ‪-‬قانون التاريخ‪-‬يحتاج إلى الأخلاقيات والدينيات علما للمقدرات‬ ‫الذهنية العملية الذي هو كلي ومحظ وبرهاني‪.‬‬ ‫ولما كان الإنسان مكلفا بالتعمير بقيم الاستخلاف فإن المهمة الأولى التعمير يسيطر عليها‬ ‫قانون الضرورة الشرطية والمهمة الثانية قيم الاستخلاف يسيطر عليها قانون الحرية‬ ‫الشرطية وكانت المهمة الأولى شرطا أداتيا لقيام الإنسان والثانية شرطا غائيا لوجوده فإن‬ ‫الأولى تابعة للثانية‪.‬‬ ‫وإذن فالحرية الشرطية تسيطر على الضرورة الشرطية غائيا سيطرة الضرورة‬ ‫الشرطية على الحرية الشرطية أداتيا ما يعني أن الإبداع العلمي في المقدرات الذهنية‬ ‫التي من جنس المعاني الكلية النظرية شرط أداتي للإبداع العملي في المقدرات الذهنية‬ ‫التي من جنس العملية‪ :‬الديني غاية والفلسفي أداة‪.‬‬ ‫والغاية مستحيلة من دون أداتها‪ .‬وهذا هو ما غاب عن اذهان علماء الدين في الإسلام‬ ‫فأفسدوا الدنيا والدين‪ .‬والأداة ممكنة من دون الغاية وهذا ما جعل التعمير يصبح‬ ‫تدميرا للإنسان والعالم‪ .‬ومسؤولية المسلمين على الأمرين كبيرة‪ :‬فهم تخلوا عن شرط‬ ‫مقاومة التدمير الذي طلبته الأنفال ‪ 60‬أي الردع‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪41‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وهكذا فقد أدركت ما كنت أسعى إليه‪ :‬وهو بيان أن القضية كلها تعود إلى قلب علماء‬ ‫الإسلام دلالة فصلت ‪ 53‬من الأمر إلى النهي وإلى قلب آل عمران ‪7‬من النهي إلى الأمر‬ ‫فكان أن أهملوا شروط فهم العلاقة بين الحرية الشرطية والضرورة الشرطية فلم يعمروا‬ ‫ولم يخلفوا بل اكتفوا بالأقوال دون أفعال‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪42‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪43‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook