أبو يعرب المرزوقي re nils frahm السياسة ومفهومها الديني الفلسفي انطلاقا من مفهوم الإنسان الأسماء والبيان
المحتويات 2 -الفصل الأول 1 - -الفصل الثاني 9 - -الفصل الثالث 14 - -الفصل الرابع 20 - -الفصل الخامس 26 -
-- كثر الكلام في السياسة وأصبح دور الاختصاص في ما يسمى بالعلوم السياسية من موضات العصر .فصرت أرى وأسمع مختصين يقولون كلاما اتساءل دائما عن أسسه \"العلمية\" ونجاعته التفسيرية لما يطلب منهم الإدلاء برأيهم فيه .فأردت أن اضع المشكل بصورة نسقية طلبا لطبيعة هذا الاختصاص ومدى جدية المتكلمين عليه وكأنه اختصاص علمي .ولو كنت أصدق ذلك لما بادرت للكتابة في الموضوع. فعندي أن السياسة من أعسر الفنون الإنسانية وادعاء الاختصاص العلمي فيها في الكثير من الدعوى والدعاية. وسأبدأ بتمهيد شبه تاريخي للإشكالية التي هي ليست جديدة لأنها ملازمة للفكر الفلسفي والديني في آن. كانت السياسة أو العناية بالشأن العام -أو بالمصالح العامة بالاصطلاح الخلدوني -أمرا ينشغل به جميع البشر بدرجات مختلفة حتى وإن كان من حيث علاقته بالسلطان عليهما شبه خاص بقلة هي التي يسميها الغزالي \"معتبري الزمان\". وهم يسمون بالمصطلح السياسي في الأحكام السلطانية باهل الحل والعقد بصورة عامة وأصحاب الشوكة تمثيلا للقوة المادية وأصحاب الرأي بصورة واضحة تمثيلا للمشورة وبينهما ما يمكن اعتباره ممثلي الرمزية الشرعية التي يقبل بها هذان القوتان في الدور الرمزي المؤسس لدور القوتين مثل الخلفاء عند السنة. لكن ذلك لم ينتج فكرا في السياسة يعتبر أحد الاختصاصات العلمية والفنية بصورة جلية وصريحة وذات أدبيات إلا في الفكر اليوناني تحت مسمى السياسة ويجمع الفلسفة العملية كلها باعتبارها موضوعا لها إطارا لأفعال الدولة التي هي \"الذات\" السياسية التي تمثل الإرادة التي لها حق المشاركة فيها أي الاحرار في الجماعة عند اليونان. ولما كانت السياسة بهذا المعنى بالقياس إلى الميتافيزيقا علما رئيسا بمعنى أنها تشمل كل العلوم العملية شمول الميتافيزيقا كل العلوم النظرية فإن أرسطو تردد في كتاب أخلاق أبو يعرب المرزوقي 1 الأسماء والبيان
-- نيقوماخوس حول منزلة العلم الرئيس الأعم هل هو الميتافيزيقا أو السياسة وحسم الأمر بأن جعل الأولى أولى بهذه المنزلة من الثانية. ولولا أنه كان يعتبر البحث في مسألة مبادئ الاستدلال جزءا ببعديها الخالص والمطبق على الوجود عامة (مبدأ الهوية كان يعتبر أحد مبادئ العقل لأنه ثمرة المبدئين الآخرين أعني مبدأ عدم التناقض والثالث المرفوع) من الميتافيزيقا لكان قد اختار دون شك العكس تماما بدليل استدلاله الجدلي على هذه المبادئ استدلال مبنيا على شرط شروط الحوار بين البشر :المحافظة على وحدة المعنى في مفردات الخطاب حتى يكون الحوار ممكنا. وهذا الشرط كما هو بين يعتبر المقوم الأساسي لموضوع السياسة أو الفلسفة العملية لأن التواصل سواء كان صادقا ومخادعا هو أهم عناصر علاقات الأحرار في التعامل السياسي عامة والسياسة بمعنى السلطة السياسية خاصة .فلا توجد سياسة تعتمد على سلطة القوة العنيفة وحدها بل لا بد لها من قوة رمزية أساسها القوة اللطيفة وهي تعتمد على الأقوال والدعوة والدعاية حتى قبل وجود الإعلام بمعناه الحديث. والمعلوم أن هذا التنافس بين العلمين النظري والعملي على وظيفة العلم الرئيس ملازم للفكر الفلسفي قديمه وحديثه .لذلك كان اوغست كونت مثلا قد اضطر إلى التعامل معهما معا في سلسلة العلوم الستة التي توصل إليها في تصنفيه فاعتبر الرياضيات والاجتماع ممثلين لهذين الدورين .لكن الحسم المقابل للحل الارسطي كان الحل الخلدوني :فالتاريخ صار بديلا من الطبيعة في فهم الشأن الإنساني عامة والوجودي أحد أجزائه ومن ثم فيمن تمسية علمه \"العمران البشري والاجتماع الإنساني\" هو العلم الرئيس وهو علم نظري ومن تطبيقاته السياسة التي يمكن اعتبارها في نسبتها إليه مثل نسبة التكنولوجيا لعلوم الطبيعة .السياسة تكنولوجيا عملية وهي إذن فن وليست علما. لكنها تكنولوجيا أكثر تعقيدا من تطبيق علوم الطبيعة لأن هذه إحدى أدواتها ولها أداة أخرى أوسع وأشمل هي تكنولوجيا تطبيق علوم الرموز وتستعمل جهازا آليا أو مكينة تجمع بين نوعي التكنولوجيا هي الجهاز الدولة التي تعمل بالتكنولوجيا المتحكمة في المادة أبو يعرب المرزوقي 2 الأسماء والبيان
-- والمتحكمة في الرمز بعدي الإنسان من حيث هو كائن عضوي وكائن روحي وبعدي العالم من حيث هو طبيعي وتاريخي .وكل محاولة ابن خلدون بدأت بدراسة هذا التفاعل في الباب الأول من المقدمة بوصفه دراسة للمسائل العامة المؤطرة لنوعي العمران البشري والاجتماع الإنساني ليس بإطلاق بل بمعنى حديهما بداية وغاية وما بين البداية والغاية نجد كل مراحل التفاعل بينهما بمنطق ما سماه ابن خلدون \"نحلة العيش\" التي هي الشكل الذي يتعين فيه التفاعل بين الحدين العمراني والاجتماعي. وهذا التفاعل بين الطبيعي والثقافي أو بين المعطيات الطبيعية وفاعليتها والمبدعات الثقافية وفاعليتها عرضها ابن خلدون في الباب الأول من المقدمة: .1العامل الطبيعي وهو موضوع الجغرافيا الطبيعية وما فيها من شروط قيام الإنسان فردا وجماعة. .2العامل الثقافي وهو موضوع ما يضيفه الإنسان من أدوات للتعامل مع شروط قيامه الطبيعية من خلال ابداعه العلمي وتطبيقاته والرمزي وتطبيقاته. .3أثر الأول أو العامل الطبيعي في الثاني أو العامل الثقافي أي ما يضيفه الإنسان إلى الطبيعة طبيعة العالم وطبيعته هو. .4أثر الثاني العامل الثقافي في الأول أو العامل الطبيعي أي كل التغيير في شروط بقاء الإنسان في العالم غذاء وماء ومناخا بالزراعة والآبار والكن العمراني وبتكوين التجمعات التي تتعاون بتقسيم العمل لسد الحاجات وفي شروط بقائه في كيانه الشخصي من تطويع لبدنه وهو أول آلاته في التعامل مع العالم لسد حاجاته. .5وحدة ذلك هي موضوع علم \"العمران البشري والاجتماع الإنساني\" الذي تعتبر السياسة بالنسبة إليه تكنولوجيا تطبيقية موضوعها العالم الطبيعي الخارجي والذاتي للإنسان بما يبدعه الإنسان من نظريات ومناهج وأدوات وكل ذلك يعتبره ابن خلدون ناتجا عن الحاجة إلى الرعاية والحماية وهما أصل وجود الدولة والسياسة وأدواتهما أبو يعرب المرزوقي 3 الأسماء والبيان
-- الاقتصادية والثقافية لتكوين الإنسان وتموينه بما ينتجه بدلا من الاكتفاء بما تنتجه الطبيعة. وكلا العاملين المتفاعلين يصبحان بفضل هذا التفاعل تاريخيين لأن الطبيعة والثقافة ليستا أمرين ثابتين بل هما بحكم التفاعل بينهما يتطوران فيثقف الطبيعي ويطبعن الثقافي بل إن الإنسان نفسه يتغير بمقتضى هذا التفاعل وتلك هي علة قلب العلاقة بين النفس والدولة: فعند اليونان النفس هي نموذج الدولة حتى وإن كان أرسطو قد أضاف بين النفس والدولة بنية الأسرة. لكن ابن خلدون يعكس فيعتبر الدولة نموذجا لبنية النفس أو يعتبرا النفس الإنسانية ابنة عاداتها وابنة \"نحلة العيش\" خاصة .ونحلة العيش تتطور بتطور التفاعل بين الطبيعي والثقافي بين حدين اقصيين الاول هو البداوة والثاني هو الحضارة ولكل منهما حد أقصى:. فالبداوة حدها الأقصى كبداية للعمران البشري والاجتماع الإنساني هو بداوة نحلة العيش مع الأبل في الصحاري وقد اختار أن يسميها البداوة العربية لكنها لا تعني العرب كجنس بل هذا النوع من البداوة ويذكر أمثلة لا تقتصر على العرب كجنس. والحضارة حدها الأقصى كغاية للعمران البشري والاجتماع الإنساني هو \"الترف\" القاتل للحضارة والدول وهو أيضا نحلة عيش في المدن عندما تفسد كل القيم الاقتصادية والثقافية المتعلقة بشرطي بقاء الحياة أي شروط المائدة (الغذاء) وشروط السرير (الجنس). والمرور من حد البداية إلى حد الغاية ليس قابلا للحصر في عدد محدود من المراحل بل ليس من الضرورة أن يكون الحدان موجودين لأنهما يمكن أن يعتبرا حدين فرضيين للحصر ما بينهما وهو قابل للرد إلى خمسة مراحل اساسية هي مواد الأبوات الخمسة التي الباقية التي يعتبر الباب الرابع منها والخاص بالمدينة المركز فيها لأنها محل اللقاء الدائم بين البداوة والحضارة وملتقى الفاعليتين في الاتجاهين من البداوة إلى الحضارة صعودا أبو يعرب المرزوقي 4 الأسماء والبيان
-- ومن الحضارة إلى البداوة نزولا في التطور العمراني والاجتماعي والمدينة هي الحد الاوسط في هذين المسارين. • الباب الثاني للعمران البدوي • الباب الثالث للدولة نشأة وتطورا • الباب الرابع للمدينة • الباب الخامس للاقتصاد • الباب السادس والأخير للعلوم والتربية والفنون. اعتقد أن هذه المقدمة كافية للمرور إلى موضوعي وهو محاولة فهم الظاهرة الجديدة التي أنتجت نخبة مختصة في العلوم السياسية وهو المشكل الذي اريد الكلام عليه لفهم طبيعة هذا الاختصاص وشروطه إذا كان حقا ينحو إلى العلمية كما يفيد أسمه .ذلك أني أعتقد أنه أقل علمية من الميتافيزيقا لأنها كما بينت أحد فروعه أو على الأقل أحد أدواته التصورية ولأن ثمرات العلوم المؤسسة عليها من ادوات فاعليته المادية. قبل أن أزيد الموضوع تعقيدا ربما في فصول لاحقة تواصل هذه المسألة سأكتفي بالأبعاد التي ذكرها ابن خلدون لأبحث في الشروط الضرورية في هذا الاختصاص رغم أني بعد ذلك سابين أنها غير كافية ومن ثم أن كلمة \"علوم سياسية\" مجرد عنوان لا يدل على حقيقة وهي في كل الأحوال دلالة أقل مطابقة لما تدل عليه من اعتبار الميتافيزيقا علما لما بينت من العلل. • هل يتوفر في كوريكولوم التكوين مضمون الباب الثاني أي إشكالات العمران البدوي؟ أعني التطورات التي تحدث في العمران البدوي حتى يصبح قادرا على تأسيس الدولة وكيف يمكن التعامل مع هذا النوع من العمران وخاصة في مجتمعاتنا التي ما تزال في الأغلب بدوية .وحتى ما يسمى دولة فيها هو بالأحرى محمية تحت ما يشبه الانتداب (في المشرق بعد الحرب الأولى) أو الحماية (في تونس ومصر قبلها) .فإذا كانت المرحلة ليس فيها أبو يعرب المرزوقي 5 الأسماء والبيان
-- التطور النفسي والعقلي للفرد والجماعة بحسب رؤية ابن خلدون التي لا تؤسس الدولة على النموذج النفسي والتكوينية العضوية للنفس البشرية المعتبرة واحدة (القوى الثلاث) بل تعكس فتعتبر الدولة هي النموذج وهي من ثم تاريخية مثلها بحسب \"نحلة العيش\". • هل يتوفر فيه مضمون الباب الثالث أي إشكالات تكون الدول وشروطها الداخلية والخارجية في السلم وفي الحرب؟ أعني التطورات التي تحدث بعد الشروع في تكوين الدولة التي يحدد لها ابن خلدون على الأقل خمس بحسب مراحل العصبيات مراحل: .1دينية .2فتعاقدية عقلية مرحلة أولى مقصورة على مصالح الحكام .3ثم تعاقدية عقلية مرحلة ثانية تجمع بين مصالح الحكام والمحكومين .4ثم مرحلة جامعة بين هذه المراحل الثلاث. .5وحينها نصل إلى دولة يمكن أن تستغني عن العصبية وتكتفي بالشرعية التي تصبح شبه عقيدة في الجماعة .وقبلها مرحلة اللادولة سابقة عليها جميعا هي مرحلة صراع العصبيات المفضية للهرج قبل تغلب عصبية عليها وفرض بداية الدولة. • هل يتوفر فيه مضمون الباب الرابع أي إشكالات الحياة في المدينة وعلاقة العمرانين والاجتماعين؟ ومعنى ذلك أن السياسة التي يتعادل فيها العامل الطبيعي (ورمزه البداوة حول المدينة وفي أطرافها أو أريافها المحيطة بها) والعامل الحضاري (ورمزه قلب المدينة وأحيائها الأرقى أو التي تمثل الدولة والقانون) وكيف تكون المدينة هي التي تعتبر جوهر الدولة حتى إن اشتقاق السياسة في اللاتينية واليونانية كلاهما مشتق من اسمها وحتى إن دولة الإسلام اقتضت بالبدء بوضع اسم ليثرب هو المدينة ومعها الدستور وهما رمزا الدولة أبو يعرب المرزوقي 6 الأسماء والبيان
-- والسياسة التي سبقها مشروع إصلاح روحي وقيمي ورؤية للعالم يعتبر البداوة من أخطر الاشياء على المدنية والدولة والسياسة. • هل يتوفر فيه مضمون الباب الخامس أي إشكالات الرزق والاقتصاد والصناعات وعلاقتها بالعلوم؟ وهو شرط الاستقرار لأنه من دون الانتاج \"الصناعي\" والزراعي منه لأنه شرط الاستقرار لا يمكن تصور دولة لأن الترحال متنافي مع تحقيق شرطي الحضارة أي المعرفة وتطبيقاتها والمؤسسات التربوية في التكوين وفي التموين (الانتاج الاقتصادي والثقافي لأن التموين عضوي وروحي). • هل يتوفر فيه مضمون الباب السادس أي إشكالات العلوم والتربية واللغات والفنون الجميلة والذوق؟ وهو شرط كل ما تقدم وذلك هو أصل التاريخية التي يدخلها الإنسان حتى على الطبيعة وعلة قلب العلاقة بين الطبيعة والثقافة واعتبار الدولة التي هي شرط ذلك كله نموذجا للنفس الإنسانية (ثورة ابن خلدون) وليس العكس (رؤية اليونان). وأخيرا بداية وغاية هل يتوفر فيه مضمون الباب الأول من مقدمة ابن خلدون أعني منطق يختلف تماما عن المنطق الأرسطي الذي لا ينطبق إلى في حالة الضرورة ورد الحرية إليها وهو الأمر المستحيل في فهم التاريخ الإنساني من دون منطق لا يرد الحرية إلى الضرورة بل ربما يعكس فيرد الضرورة إلى الحرية لأن فاعلية الإنسان ليست فاعلية القوة المجردة كما في حالة تصادم الكتل المادية بل هي فاعلية القوة المدركة لذاتها والمقدرة لاستعمال القوة بحسب خطط مسبقة وهادفة مع توقع حصول ما ليس ضروريا وما ليس منطقيا في سلوك البشر فننتقل من المنطق العادي إلى منطق حساب الاحتمالات والسيناريوهات بحيث يصبح الفكر النظري استراتيجيا للفعل العملي فيكون النظر أداة والعمل غاية حتى عندما يكون النظر للنظر أو بمعزل عن الاستعمال الحيني؟ أبو يعرب المرزوقي 7 الأسماء والبيان
-- لكل ما سبق ذكره يتبين أن السياسة لا يمكن أن تكون مادة لاختصاص علمي ككل بل يمكن أن تنقسم إلى هذه المجالات وكل واحد منها يمكن اعتباره قابلا لأن يكون مادة علم فتكون هذه المجالات من جنس العلوم التي تقع تحت الميتاتاريخ مثلما أن العلوم التي تنسب عادة إلى الفلسفة القديمة أو ما يماثلها حاليا تحت الميتافيزيقا أو ما يماثلها حاليا من رؤى العالم. فيكون التعاون بين الاختصاصات هو الوحيد الكفيل بالجمع بين مجالات الفكر السياسي سواء كان متعلقا بها في ظرف السلم أو في ظرف الحرب سواء كان ذلك في السياسة الداخلة في كل جماعة أو الدولية بين الجماعات علما وأنه لا يمكن الفصل بين السياستين .وليس الأمر جديدا كما قد يتصور البعض أنه ناتج عن العولمة :فالدول دائما تتحدد بداخلها وبخارجها وتلك خاصة الحدود لأنها دالة على الجوار سواء كان جوارا ثابتا أو متغيرها. فالحدود بين الشعوب والحضارات والدول في مد وجزر دائمين .خارطة العالم في حركة شبيهة بحركة الأرض نفسها وفيها زلازل حضارية مثل الزلازل الجيولوجية. أبو يعرب المرزوقي 8 الأسماء والبيان
-- كتبت أمس مقدمة لبيان طبيعة السياسي من حيث هو تقنية تطبق عدة علوم ذكر منها ابن خلدون خمسة اصناف فرعية وأرجعها إلى أصل يتخللها كلها رغم كونه بدأ دراسة الفروع بتقديمه: • فالباب الأول من المقدمة خصصه للعاملين الحدين وتفاعلهما في الاتجاهين من العامل الطبيعي إلى العامل الثقافي ومن العامل الثقافي إلى العامل الطبيعي وحصيلتهما هي الوجود الإنساني في العالم أو الحضارات (أي ما يبدعه الإنسان للتعامل مع الطبيعة ومع الطبيعي في ذاته ثم مع التعامل نفسه) اللذين ينتجان الحضارات أو العمران البشري والاجتماع الإنساني موضوع علمه الجديد الذي يدرس مقومات موضوع علم التاريخ من حيث الطبيعة وموضوع السياسة من حيث سلطان الإنسان على حدث التاريخ. • والباب الثاني يدرس العمران البدوي أو شروط تكون الجماعات التي تشرع في الاستقرار وتكوين الدولة وانتقال السلطان على الذات والطبيعة إلى الفاعلية التي تحقق شرطي البقاء أي الرعاية والحماية. • والباب الثالث يدرس الدولة مقوماتها وتطورها وشروط بقائها وزوالها في السلم وفي الحرب وكيفية تحقيقها شروط الاستقرار بتغيير نوع العمران البشري والاجتماع الإنساني الذي انتقل من العمران البدوي إلى العمران الحضري. • والباب الرابع يدرس العمران الحضري وهو نوع مختلف تماما عن العمران البدوي بنحل العيش وخاصة بما يقتضيه الاستقرار من ضرورة الانتقال من الاعتماد على ما تنتجه الطبيعة إلى ما ينتجه الإنسان بالخبرة والمعرفة والمثال الأساسي هو تقدم فنون الزراعة والنصاعة والتجارة وبداية الاعتماد في ذلك كله على العلوم وتطبيقاتها. • الباب الخامس يدرس هذا النوع من شروط البقاء أو الاقتصاد المعتمد على الإنتاج الإنساني لشروط البقاء وفيه يضع ابن خلدون نظرية القيمة التي تقدر بكم العمل أبو يعرب المرزوقي 9 الأسماء والبيان
-- الضروري للإنتاج .وفيه أيضا يبين العلاقة بين الصناعة والعلم باعتبار الاولى مهما كانت بدائية تؤول إلى تطبيقات العلوم. • الباب السادس والأخير يدرس صنفي العلوم ويبدأ بما يعتبره خاصا بالأمم أمة امة ويسميها نقلية ثم يثني بالعلوم التي يعتبرها كونية أي العلوم التي يسميها فلسفية أو عقلية وهي خاصة بتراكم الخبرة في التعامل مع الطبيعة .ورغم أني لا اقبل هذه القسمة لأن الخاص في الأولى هو أعيان الظاهرات وليس علمها إذ ما من حضارة تختلف عن حضارة أخرى في ما يتعلق بوجود الكلام والفقه والتصوف إلخ ..بمعنى أن التمييز بين النوعين يصح حتى في الثاني عندما يكون مقصورا على ما هو خاص بحقبة من تاريخ أمة. فعلوم الطبيعة وما شابهه لم يكن كونيا بل كان مثل العلوم النقلية خاصا في حقبة من حقب التاريخ ثم صار كليا لما ترقت الرؤية الفلسفية .ونفس الامر ينبغي أن يكون في ما يتعلق بما يسمى علوما نقلية أو علوم الملة وخاصة في فقه النوازل أو في فقه إدارة الشأن العام .ولعل الأحكام السلطانية عند المسلمين قد ارتقت إلى الشروط الكونية للنظام السياسي حتى وإن قبلت بما طرأ عليه من خروج عن الدستور بمقتضى الضرورة التي أباحت المحظور بمعنى تعويض الشرعية بالتغلب. واليوم أريد أن ابحث في ما أعنيه بالسياسة تقنية تطبيق هذه العلوم في مهمة السلطان على موضوعاتها بصورة تجعل السياسة استراتيجية تحقيق ما يترتب على مفهوم الإنسان كما يعرفه ابن خلدون بوصفه \"رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق\" إيجابا وتحول دون \"فساد معاني الإنسانية\" بالتربية والحكم العنيفين سلبا .ومن ثم ينتج أن التحليل السياسي لفهم ما يجري في الدول أو بين الدول منطلقا من الجواب عن هذين السؤالين: .1هل ما يجري في سياسة الجماعة يحقق الهدف الإيجابي الأول وما هي شروط تحقيقها ولماذا تكون قوة الدولة في الداخل والخارج رهن ذلك؟ .2هل ما يجري في سياسة الجماعة يحقق الهدف السلبي الثاني وما هي شروط عدم تحقيقها ولماذا يكون ضعف الدولة في الداخل والخارج رهن ذلك؟ أبو يعرب المرزوقي 10 الأسماء والبيان
-- ويترتب على هذين السؤالين فهم الأحداث الجارية في بلاد المسلمين وعلة الضعف والتخلف الناتجين ليس عن السياسة بمعنى التطبيق في السلطان بل بمعنى التطبيق في تحقيق شروط القوة التي هي الهدفان .وفهم الأحداث ليس مطلوبا لذاته في العلوم السياسية بل هو مطلوب لغايتين: .1الأولى لاستراتيجية البناء السياسي للدول وشروط قوتها إما لتدارك المعدوم أو لتجديد الموجود فيها وهو الغرض البنائي إن صح التعبير. .2الثانية لتقييم الاستراتيجيات الموجودة في دولة من الدول بالقياس إلى الغاية الأولى أو لفهم مآل صراع بين قوتين في ضوء ما هما عليه بالقياس إلى الغاية الأولى. والغاية الأولى هي أولى غايات السياسي المخلص لوطنه .والغاية الثانية هي الأولى للمحلل المخلص لبلده بنقد الموجود والمنشود في ضوء الغاية الأولى .لكن العالم الأساسي في السياسة ينبغي أن تكون غايته الأولى مؤسسة للغاية الأولى أو لعلم السياسة التي تطبق العلوم التي تكلم عليها ابن خلدون والتي في ضوئها تتحدد السياسية البنائية للأمم والدول. ذلك أن شروط البناء السياسي متطورة وما يحدد تطورها هو ما تكلم عليه ابن خلدون تمثيلا دون إحاطة طبعا لأنه هو بدوره أشار إلى أن علمه ليس كاملا وأن على ما يأتي بعده أن يستكمله. وسأحاول في هذا الفصل الثاني تحليل الوضعية الحالية في دار الإسلام وعلاقتها بما حولها ممن يسعون للسيطرة عليها لفهم علل العجز الذي نعاني منه في التصدي للغزو في المجالات الستة التي حددها ابن خلدون والتي ما تزال صالحة لفهم ما يجري عندنا بالقياس إلى ما يجري عند خصومها سواء كانوا من الغرب أو من الشرق ومن معهما ممن هم منا ولكنهم صاروا خدما للغزاة بعضهم عن قناعة بأن ذلك هو شرط الخروج من وضعنا ربما بحسن نية والبعض الآخر لفائدة ذاتية لا علاقة لها بمصير الأمة. والمعيار الذي اعتمده هو ما سميته الأداتين المطلقتين الدالتين على فاعلية الإنسان الكونية أي رمز الفعل أو العملة ورمز الفعل أو الكلمة .وهما الأداتان المطلقتان في كل أبو يعرب المرزوقي 11 الأسماء والبيان
-- حضارة لأن الأولى تمثل القوة الاقتصادية والثانية القوة الثقافية .والثانية شرط امكان الأولى لأن الإبداع المعرفي هو عصبه إذ إن البحث العلمي يبدع أدوات كل إنتاج إنساني. والأولى شرط بقاء الثانية لأن الاقتصاد عصب القوة إذ إن تمويل شروط القوة بما فيها الدفاعية كلها. .1والمثال الجامع بين الأداتين هو حاليا أمريكا دون منازع وما يحركها هو الخوف من فقدانهما ومن ثم فالخطر يأتيها من الثاني. .2والمثال المنافس لها في الأداتين هو حاليا الصين دون منازع وما يحركها هو النجاح في التنافس والتهدئة وعدم سبق الاحداث. .3ومن فقد ما يسعى إليه الثاني بعد الحرب العالمية الثانية هو أوروبا ويعسر أن تسترد دورها من جديد خاصة وهي مثلنا بين فكي الكماشة العالمية أي أمريكا والصين .4وفاقد ما حققه المثال الأول وما يسعى إليه الثاني هو نحن منذ بداية الانحطاط إلى الآن ونحن في وضع أفسد من وضع أوروبا لكن حجم الامة وتاريخها يجعلها لا تفقد الامل في الاستئناف خاصة وأن المعركة بين الأولى والثاني لا يمكن أن تتجنب التنافس على ما لدينا بحيث صار بوسعنا أن نجد مخرجا إن فهمنا قواعد اللعبة وكان لنا استراتيجيون يفهمون شروط إعادة البناء. .5فصمودنا رغم الانحطاط وما حصل خلال قرون وقرون من عثرات يعني أنه يوجد عامل آخر أو مستوى آخر من رمز الفعل ومن فعل الرمز يحقق شروطه وعلينا فهمها لتقوية أثرها .ولم يسبق أن تطرقت إليها بصورة مباشرة كما سأفعل الآن رغم أني لمحت إليها عندما تكلمت على الأبيسيوقراطيا أو دين العجل بوصفه أساس النقد القرآني للتحريف الذي يجعل الديني والفلسفي في صراع في حين أنهما شيء واحد في القرآن وهذا الواحد هو أساس النقد القرآني كله واساس الاستدلال القرآني على وجود الله ووحدانيته وعلى مسؤولية الإنسان بوصفه مكلفا بتعمير الأرض بقيم الاستخلاف منزلة وجودية تجعل الإنسانية كلها مخاطبة به وليس دينا خاصا بأمة معينة حتى وإن كانت الرسالة بلسانها. أبو يعرب المرزوقي 12 الأسماء والبيان
-- فما أعنيه بهذين الرمزين المحررين ليس من العملة والكلمة بل من انتقالهما من مجرد أداتين للتبادل والتواصل إلى أداتي سلطان على المتبادلين وعلى المتواصلين .واكتشاف هذا التحول علة لكل أمراض الإنسانية والنهي عنه هو ما يمكن اعتباره جوهر ثورة الإسلام الذي مكنه من دوره الكوني الأول في شكل وعد ووعيد والذي سيمكنه ثانية من نفس الدور الكوني في شكل تحقيق فعلي للوعد بعد التأكد من حصول الوعيد كما هو بين من حال الإنسانية في العولمة التي أفسدت وسفكت الدماء .لذلك فعودة الإسلام إلى التاريخ الكوني هي في هذه المرة عودة لتحقيق ما وعد به الدور الأول ولم ينجزه. • فهل يوجد رمز فعل يحرر العملة من السلطان على المتبادلين؟ • وهل يوجد فعل رمز يحرر الكلمة من السلطان على المتواصلين؟ إن الجواب المباشر مستحيل من دون شرح مفهوم الأبيسيوقراطيا أو الحكم بدين العجل بوصفها البنية العميقة للثيوقراطيا (الحكم باسم الله) والأنثروبوقراطيا (الحكم باسم الإنسان) :ونحن اليوم مباشرة تحت هذين السلطانين ورمزهما إيران وإسرائيل وبصورة غير مباشرة بمن وراء إيران وإسرائيل ومعهما التوابع العربية التي هي غوافير في محميات وليست حكاما أصلا. ولو لم تكن الإنسانية الحالية قد بدأت تدرك أهمية البديلين الإسلاميين لكان الكلام فيهما يعد من عادات التمجيد الذاتي الذي عرف به المسلمون عند الكلام على تميز دينهم عن الأديان الأخرى باعتباره دين البشرية كلها ودين العلاج السوي للشأن الإنساني من حيث هو شأن إنساني يكون فيه الإنسان سيد نفسه ومسؤولا عن أفعاله ولا يكلفه الله إلا وسعه ولا يحاسبه إلا بمقتضى أفعاله الحرة وهو الأمر الذي لأجله حارب لوثر الإسلام لرفضه مفهوم الجزاء العادل بمقتضى الأفعال Die Werkgerechtigkeitفالبشرية اليوم أدركت خطر دور سلطان المال أو العملة ليس كأداة تبادل بل كسلطان على المتبادلين وسلطان الايديولوجيا أو الكلمة ليس كأداة تواصل بل كسلطان على المتواصلين وخاصة الشباب في الغرب عامة وفي أمريكا خاصة لكونها هي المسيطرة بهما حاليا على بقية البشرية. أبو يعرب المرزوقي 13 الأسماء والبيان
-- شرعت في بحث -حول السياسة ومفهومها الديني والفلسفي انطلاقا من مفهوم الإنسان-لم أحدد إلى الآن عدد فصوله فبقي الأمر مفتوحا .ورغم كونه متعلقا بقضية نظرية جوهرية في فلسفة السياسة إلا أني وصلته بالأحداث الجارية في الإقليم لأن النظرية في حد ذاتها سبق لي أن كتبت فيها الكثير وخاصة في مسألة السياسية والـدولة في الإسلام مع تعريج عرضي على نفيها ماضيا (عبد الرازق) وإمكانها مستقبلا (حلاق). ما سأحاول الكلام عليه اليوم يتعلق بالعلة التي تفهمنا اعتبار الإسلام قلب المعارك الجارية حاليا بين أهل الإقليم ذاتيا وبمفعول محركيهم من القوى العالمية ليس في الأحداث الراهنة فحسب بل منذ نشأة دولته أي منذ الفتح الإسلامي وما نتج عنه من صراعات داخلية بين المسلمين وخارجية مع من حولهم وخاصة مع الغرب الذي كان مسيحيا حينها. فكل تحليل سياسي للأوضاع الجارية وخاصة للتوقعات المتعلقة بمآلاتها تكون فاقدة لكل معنى إذا غاب فيها هذا العامل ودوره في الصراعات الداخلية بذاتها والصراعات الداخلية بدوافع مما يترتب على تاريخ الصراعات الخارجية أولا وعلى دور الإقليم خاصة ودار الإسلام عامة في تغير نظام في علاقة الحضارتين الإسلامية والأوروبية على الأقل خمس مرات: .1اخراج الدولة الإسلامية لفارس وبيزنطة من سلطانهما على الإقليم. .2سيطرة نظام العالم الجديد بسيطرة إسلامية إلى نهاية الحروب الصليبية .3بداية الصراعات مع المغول إلى خروج المسلمين من أوروبا الغربية. .4دور الاكتشافات وحروب الاسترداد وفي بداية عهد غربي رغم نشأة الخلافة العثمانية .5سايكس بيكو الأولى ونهاية الخلافة في بداية القرن الماضي. لكن دور الإسلام في تغير نككظام العالم الجاري حاليا لم يعد قابلا للحصر في علاقة الإسلام بأوروبا الغربية أو الشرقية بل إن ما نرى إرهاصاته حاليا يشمل علاقته بالمعمورة أبو يعرب المرزوقي 14 الأسماء والبيان
-- كلها لكونه \"المابين\" المطلق في صراع قوتي النظام المقبل أي الغرب الأقصى (الولايات المتحدة ومن معها) والشرق الأقصى (الصين ومن معها). ولست غافلا عن الاعتراض الذي يتبادر إلى ذهن أي معلق أو حتى قارئ عادي والقائل. ألست تبالغ؟ فما وزن الاقليم وحتى دار الإسلام ما وزنها حتى تنسب إليها دورا في صراع العماليق الذي لا وجه للمقارنة بين قواهم وقوى المسلمين مجتمعين ناهيك عنهم مشتتين كما هم حاليا. فأتهم بأني أبالغ في دور الإسلام في ما لا ناقة له فيه ولا جمل .وعندما يتنازل أصحاب هذا الاعتراض فيسلموا بما لا بد منه نظرا لأن الأحداث ناطقة بذاتها فإنهم حينها يقولون إن الأمر لا يتعلق بالمسلمين بل بشعوب لم تعد تعرف ذاتها بالإسلام بل بالقوميات ومن يعرف نفسه بالإسلام منهم هم المنبوذون بينهم وهم من صارت الأنظمة في الاقليم ومن يحميها يعتبرونهم خوارج عن القانون. فيعرفون ما يجري بما يشبه تفتت أوروبا لما نشأت فيها القوميات وتمت القطيعة مع التعريف بالمسيحية أي في بداية العصر الحديث خاصة رغم أن ذلك كان موجودا في الإمارات الإيطالية قبل ذلك بكثير أي منذ عصر النهضة قبل الحداثة بقرنين على الاقل ومن ثم فما يجري عندنا هو صراع قوميات مثل أوروبا .وطبعا لا يمكن أن أنكر أن ذلك موجود فعلا وأن الاعتراض الثاني شديد ا لوجاهة .لكن الأمر في دار الإسلام يختلف اختلافا تاما عما حدث في أوروبا من وجهين: • الأول صراع القوميات عندنا مضاعف أي عودة الشعوب التي كان لها وجود حضاري قبل الإسلام بمنطق الثأر منه ومن ثم فلها علاقة إشكالية بالإسلام. • والثاني صراع قوميات لم يصبح لها دور حضاري فعلي إلا بفضل الإسلام ثم نكصت عنه ومن ثم فلها علاقة إشكالية بالإسلام. وللإشكاليتين علاقة بإشكالية نظام العالم الذي نرى إرهاصاته ودورها في ما يجري في دار الإسلام .وإذا كان للصنف الأول من علاقة القوميات بالإسلام دوافع ذاتية مع تحريك أبو يعرب المرزوقي 15 الأسماء والبيان
-- استعماري يوظفهم ويوظفونه لتحقيق أهدافهم فإن الصنف الثاني دوافعه الذاتية ليست موجودة مثل الأول إذ لا ثأر له معه بل هي دوافع أوجدها من الاستعمار الذي يوظفه ضد وحدة الأمة بل وضده هو نفسه لأنه يعلم أنه لا ماضي له غير الإسلامي وأنه إذا نزع عنه ذلك سيصبح تابعا له ويتفرنج مثلا كما في افريقيا غير التي دون الصحراء وكما يراد لشمالها ذي الثقافة العربية الأمازيغية. ومن النوع الأول يمكن ذكر الفرس الذين ويهود الإقليم بعد أن صار مسلما .فقد اختار دهاتهم استراتيجية الاختراق والتخريب الداخلي وصاروا في كل لحظات التاريخ حلفاء لكل أعداء الإسلام سواء جاؤوا من الشرق أو من الغرب ليس خدمة لهم فحسب بل استخداما لهم من أجل استعادة ما فقدوه بسبب الإسلام. ومن النوع الثاني ما حاول الغرب في حربه على الإسلام احياء نعرات قومية لديه مثل العرب والترك والكرد والأمازيغ وبعض الأفارقة رغم أنهم ليس لهم تاريخ يعتد به قبل الإسلام فـ\"فبرك\" لهم تاريخا زائفا وأمجادا كلها لا وجود لها أو أحيا رموزا حضارية ماتت قبل الإسلام عند العرب ليحارب الإسلام. وهذا النوع الثاني هو بدوره مضاعف .فهو مؤلف إما ممن ليس لهم ماض حضاري يعتد به أو ممن كان في أرضهم حضارات انقرضت مثل البابلية والفينيقية والفرعونية والقرطاجنية قبل الإسلام ولا يمكن إحياؤها إلا للفخر الزائف أو للسياحة .فليس للمصرين شيء من الفراعنة عدى كذبهم على أنفسهم وتكبرهم على بقية العرب ويمكن قول نفس الشيء عن علاقة العراقيين ببابل وعلاقة السورين بفينيقيا وعلاقة التونسيين بقرطاج: يفاخرون بما كان ينبغي أن يستحوا حتى من ذكرهم لأنهم أقزام بالقياس إليهم. ولهذا الشكل كاريكاتور أكثر سخفا منه وتجده في بحث بقية العرب من بدو الجزيرة عن ماض سابق عن الإسلام ومثله الكرد والترك والأمازيغ وبعض الأفارقة .فهذا من مهازل من يريد أن ينكر مجد أجداده الحقيقي والذي ليس له دونه وهو كله حصل في دوره الكبير أبو يعرب المرزوقي 16 الأسماء والبيان
-- في تاريخ الإسلام بكذبة اختلقها الاستعمار ليفصلهم عن الأمة يسهل استتباعهم واضعاف الأمة ثم ابتلاعهم بفرنجتهم وإبقائهم عبيدا له إلى يوم الدين. فليس للعرب ولا للأتراك ولا للأكراد ولا للأمازيغ ولا للأفارقة تاريخ حضاري كوني يعتد به إلا بفضل دورهم في تاريخ الإسلام .وأكبر الأدلة هو ما اقتنع به الأتراك بعد ما يقرب من قرن لمحاولة التنكر لتاريخهم العظيم من أجل وهم من جنس أحلام طه حسين لمصر لظنه أن الانتساب إلى أوروبا شرط للعظمة .وهذا من أوهام كل الذين يتصورون أن الأمم يمكن أن تبنى بالتقليد وليس شرطه الإبداع. وأعتقد أن الأمازيغ والأكراد والعرب وبعض الأفارقة ما زالوا في اللحظة التي تجاوزتها تركيا فتجاوزت بتجاوزها ما كانت تعاني منه من تبعية واحتقار للذات وبدأت تسترد عافيتها واحترامها لذاتها وقدرتها على تحقيق شروط السيادة .مازال علمانيو العرب والأكراد والأمازيغ يتصورون مجدهم في البحث عن جذور سابقة على الإسلام بإيحاء استعماري بين ليس هدفه إحياء ماض لا وجود له بل خداعهم لتيسير نهب ثرواتهم ومواصلة استعبادهم. ذلك أن الأمازيغ والأكراد والعرب مثلا كل ما يذكره التاريخ لهم هم ما حققه اجدادهم في تاريخ الإسلام ولم يكن لهم دول معتبرة قبله بل كانوا مستعمرات لإمبراطوريات سابقة على الإسلام أو على هامش التاريخ لكنه بفضله صارت لهم دول بل وامبراطوريات كما يبين تاريخ ابن خلدون للمغرب الكبير. ما الهدف من كل هذا الاستعراض لطريقتي التنصل من تاريخ الإسلام وهو تنصل لو كان ناجحا بحق لاستحال أن تصل الحرب عليه إلى هذا المستوى من الحدة بحيث يتجند لهذه المهمة: .1ذراعا الاستعمار أي إيران وإسرائيل. .2سندا الجانحين أي روسيا وأمريكا. .3وذيول الذيلين أي الانظمة العملية. أبو يعرب المرزوقي 17 الأسماء والبيان
-- .4وذيول الذيول ذيول الذيول أعني مليشيات السيف التي تنتسب إلى الأنظمة العميلة إما لإيران أو لإسرائيل. .5وأخيرا ذيول الذيول أي مليشيات القلم التي تطبل لكل من سبق أعني لمليشيات السيف وللأنظمة العملية وللذيلين وللحاميين أي روسيا وأمريكا .وهذا دليل على ضعفهم وقوة الإسلام في اللحظة الراهنة. لما كتب الغزالي كتاب فضائح الباطنية بين طريقة الخلع التي كانت الباطنية تستعملها لإخراج الإنسان من الإسلام تمهيدا لإدخاله في مشروعهم البديل .اليوم نحن أمام نفس الخطة ولكنها مضاعفة :واحدة تعتمد على مؤامرة الفتنة الكبرى وهي \"البطننة\" والثاني على مؤامرة الفتنة الصغرى وهي العلمنة التابعة. والعرب في القرن الماضي زعموا بإحياء النزعات القومية المتقدمة على الإسلام تأسيس الدولة القومية كل على حضارة قطرية-البابلية والفينيقية والفرعونية والقرطاجنية- فلم يحققوا لا هذه ولا تلك وتحول فعلهم إلى تهديم ذاتي لسر وجودهم وقوتهم وهو ما مهد لتأثر البطننة والمسحنة اللذين هما مشروع الأقليات التي صارت مسيطرة على غالبة هل الإقليم لفرط سذاجة العرب السنة ونخبهم. ولما كانت النخب السنية أقل نحب المشرق تطورا وتعلما بسبب انتخاب الغرب من كان يريد تجنيدهم لخدمة مشاريعه في حربه على الإسلام عامة وعلى الخلافة الأخيرة خاصة فإنهم كانوا ضحايا سذاجة حكامهم باسم الإسلام فكانت سايكس بيكو الأولى وتجنيد العرب السنة فيها ضد الخلافة. واليوم يراد تجنيد الأكراد والأمازيغ ضد الإسلام في حرب قوميات وعرقيات وطبعا ليس الغرب مهتما بمصلحة هذين القوميتين ولهم في تعامله مع عرب سايكس بيكو الأولى درس لو أرادوا فهم الغاية من تحريك نعراتهم .ومحاولة تحريك الأكراد في الشرق والأمازيغ في الغرب لا تختلف عن تحريك العرب سابقا. أبو يعرب المرزوقي 18 الأسماء والبيان
-- وصلت الآن إلى ما أردت الكلام عليه :مجريات التاريخ في اقليمنا وفي دار الإسلام لا يمكن أن تفهم لو اكتفينا بتقدير الحجوم بالقوة التي بالفعل ونسينا القوة التي بالقوة .فكون الصراع هو بين قطبين صاعد هو الشرق الاقصى (الصين خاصة) ونازل هو الغرب الأقصى (أمريكا خاصة) يشكك في دور الإسلام. لكن إذا كان لا أحد من القطبين يستطيع ربح المعركة من دون السيطرة على دار الإسلام أصبحت دار الإسلام مركز الصراع أو لنقل على الأقل ساحة المعركة .ولما كانت شعوب الإسلام-على ما بهم من ضعف وتفتت-لم تعد منفعلة بل بدأت تعي منزلتها في التاريخ الكوني فإن الساحة لم تعد انفعالية بل شرعت في الفعل الموجب. ومعنى ذلك أن المحدد الحالي هو فشل سايكس بيكو الأولى .كانوا يتصورون أن نهاية من كانوا يصفونه بالرجل المريض -الخلافة الأخيرة-نهاية لدور الإسلام نجاحا للفتنة الصغرى .ولما شعروا ببداية الفشل أحيوا الفتنة الكبرى (المجيء بالخميني) ولما فشلوا أحيوا مسخا من الخلافة .لكن ذلك كله فشل. لذلك فالحرب رهانها الاستحواذ على دار الإسلام ومنع الاستئناف .السندان والذيلان والأنظمة العميلة ومليشيات السيف ومليشيات القلم كل هؤلاء مجندون للحرب على شروط الاستئناف وهي قد تعينت الآن في رمزين أحدهما دال على فشل الفتنة الصغرى (تركيا) والثاني على فشل الفتنة الكبرى (الثورة). ولن يتأكد فشل الفتنة الكبرى إلا بنجاح ثورة العراقيين والسوريين وتجاوز خضوع الشيعة فيهما إلى الملالي في إيران .ولن يتأكد فشل الفتنة الصغرى إلا بنجاح ثورة الاتراك والاكراد والامازيغ وقبائل العرب في الخليج على ما يغرونهم به من علمنة كلنا يعلم أنها خدعة لأن الإسلام السني غني عنها. أبو يعرب المرزوقي 19 الأسماء والبيان
-- ففي مثل هذه الحالات تكون شعوب الإقليم تعاني من فتنتين كبرى وصغرى .فالأقل صلة بالعصر يعانون من ضعف متأت من وهم التعلق بالفتنة الصغرى (علمانيو العرب والأكراد والأمازيغ والأتراك والأنظمة العميلـة) والأكثر صلة به يستمدون قوتهم من استعمال الفتنة الكبرى (إيران وإسرائيل). فإيران وإسرائيل يشتركان في ظاهرة يهملها المحللون ممن يتكتفون بالمظاهر ولا يغوصون إلى ما ورائها .فكلتاهما تعتمد على خرافات مصدرها التحريف والتخريف الديني إما خرافة الأسرة المختارة أو خرافة الشعب المختار (دين مؤسس على العنصرية) لكنهما يعملان بمنطق العصر في التعامل مع شعوب متخلفة تدعي الحداثة خلطا بين إنتاجها واستيراد منتجاتها. فتجمع إيران وإسرائيل جسر القوتين من الماضي البعيد ومن التكيف الفعلي مع الحاضر القريب أي إنهما تستعملان الفتنتين الكبرى والصغرى لاستعمال الشعوب البدائية ضد بعضها البعض لتجعلها أدواتها في تحقيق استراتيجيتها .فأداة إيران هم شيعة الإقليم لتهديم أوطانهم .وأداة إسرائيل علمانيوه لتهديم أوطانهم والتهديم مادي ورميز في الحالتين. مثال ذلك أن إيران لا تدفع مليما واحدا في مهمة تخريب الهلال كله بل الأنظمة العميلة التي تحكمها شيعة العرب وقبائلهم هي التي تمول حربها على السنة ومعالمها .ونفس الشيء بالنسبة إلى اسرائيل كل ما تعمله يموله حكام العرب ويبرره نخبهم .وإيران تستعمل مليشيات عربية بالسيف والقلم وإسرائيل تكتفي بـمليشيا القلم. وبذلك يتبين أن كلامي الذي يبدو شديد التجريد النظري ملاصق تمام الملاصقة للأحداث في أعيانها .وهو يبين طبائع ما يجري .ومن ثم فهو تشخيص دقيق يمكن من العلاج لو كان للشعوب قيادات تستطيع أن تعمل على علم فتتحرر من الرماية في عماية كما هي أبو يعرب المرزوقي 20 الأسماء والبيان
-- حال المقاومة التي صار أمراء الحرب فيها لا يختلفون عن الحكام خيانة وسعيا لتكوين إمارات يحكمونها بنفس الخضوع لأحد الذراعين أو لهما معا. وهذه الظاهرة هي التي ينبغي فهمها لفهم ما يجري وعلة هشاشة العرب في الاقليم .فقد اختارت قياداتهم ونخبهم الذين بيدهم الأمر أن يتنكروا لسر القوة وأن يتبنوا سر الضعف في حالتهم أعني أنهم يحاربون الإسلام ويقدسون العلمانية ليس لأنهم تجاوزوا العامل الديني ووصلوا إلى ما وصلت إليها أوروبا كما يزعمون لأنهم يجهلون ما حصل في أوروبا طبيعة وأسلوبا. فكما بينت في محاولة الأمس في كلامي على فكرهم ممثلا له بالبلهي كل ما يعتقدونه حول الحداثة لا صلة له بها بل هي إيديولوجيا التحديث العنيف الذي ورثته النخب العربية عن الاستعمار للتعامل مع شعوبها كما كان هو يتعامل مع \"الانديجان\" بالتحضير العنيف الذي يحبذه هيجل وماركس وفلسفتهما التاريخية. لكن إيران وإسرائيل خاصة أقرب إلى منطق العصر من العرب ولهما مشروع واضح المعالم هو استرداد دورهم في الإقليم وما يعتبرونه ملكا لهم في الارض العربية وهو دور نزعه منهم الإسلام وأهل الإقليم-أقصد النخب لأن الشعوب متماثلة .إيران وإسرائيل يستعملون السلاحين قوة لهم وضعف لقيادات الإقليم ونخبه المتخلفة بسبب النكوص إلى أمية الجاهلية وذهنيتها فضلا عن كون النخب الخليجية مثلا بدأت التحديث مؤخرا ومن لهم الكفاءة من نخبهم مبعدون إما لاعتمادهم على نخب مستوردة أو لعدم ثقة المتنفذين في شعوبهم ونخبهم. لو اكتفيت بالحداثة العمرانية ومظاهر الثراء لقلت إن العرب هم أكثر شعوب الاقليم حداثة حتى إن بعض مدنهم وخاصة أصحاب البترول والغاز في الخليج أو التظاهرات الرياضية والسياسية وحتى الحوارات الدولية لقلت إنهم تفوقوا حتى على أوروبا .لكنه كلها كما يقول الغزالي من العارية أي مستعارة. أبو يعرب المرزوقي 21 الأسماء والبيان
-- صحيح أن ذلك قد يؤدي في الغاية إلى تغيير الإنسان بمفعول تغيير البيئة الحضارية. لكن لذلك يتطلب قرونا ولنا في الماضي العربي دليل قاطع .لما فتح العرب العالم المتحضر أعني مستعمرات فارس وبيزنطة أي كل الإقليم الحالي الذي يمثل قلب دار الإسلام غرقوا في قشور الحضارة وسرعان ما انهاروا. وقد خصصت سابقا محاولة لفهم أثر الانتقال السريع من البداوة إلى الحضارة من دون المرور بالمراحل المتدرجة بمنطق مقدمة ابن خلدون ودور الترف القاتل وهو يؤدي في غالب الحالات إلى النكوص بدلا من الاستفادة من البيئة التحضيرية وهو ما يعنيه ابن خلدون بالترف القاتل للحضارات .وأخشى ما أخشاه علينا نحن العرب فهو هذا الترف القاتل. فكل شيء يجري عندنا بالمقلوب .الأمم تبدأ بالشرط وتذهب إلى المشروط إلا نحن نبدأ بالمشروط ولا نعنى بالشرط .فعندما بدأت مصر قبل اليابان التحديث حدث هذا التعاكس. اليابان بحثت نخبه عن شروط القوة التي هي شرط السيادة .والمصريون قفزوا مباشرة للقوة العسكرية والحياة البرجوازية .قصور رملية .ومن علامات الحمق أن النخب العربية وخاصة المصرية والنخب المنتسبة إلى الاقليات المتنفذة تعتبر النهضة العربية بدأت بغزو نابليون لمصر. لن اتلكم على إسرائيل في هذا المضمار لأنها أولا لأن من منها من الاقليم اقلية والبقية من أوروبا وثانيا لأن قوتها الذاتية مسنودة من قوة الغرب .سأكتفي بالكلام على إيران. صحيح أن شعبها لا يختلف عن شعوبنا .لكن نخبها مختلفة تماما .فهي لم تقطع مع مشروعها التاريخي وتعمل بمنطق العصر. ماذا يعني تعمل بمنطق العصر؟ يمكن القول إن تركيا مثلها تعمل بمنطق العصر وبدأت تفكر في استعادة مشروعها التاريخي وهي ما تزال في هذين البعدين أبعد من إيران في تحقيق شروط المناعة لأن عقدين لا يكفيان لتثبيت دولة .لكن إيران سواء في عهد الشاه أو مع الملالي مشروعها ثأر لهزيمتها الأولى. أبو يعرب المرزوقي 22 الأسماء والبيان
-- ومع ذلك فما زلت اعتقد أن إيران أوهى من بيوت العنكبوت وأن قوتها علتها سذاجة النخب العربية وخاصة من تشيع منها أو من \"تحدث\" بمعنى صار عدوا للإسلام ظنا أن العلاقة بين الإسلام والدولة هي من جنس العلاقة التي ثار عليها الفكر الحديث لجهله أن ثورته تحاكي ثورة الإسلام على الوساطة والوصاية. قد أفهم القارئ الذي يعتبر كلامي هذا من جنس \"ويني وذنك\" التي تعني بالتونسي تعقيد البسيط .لكني أعتقد أن مشكل العرب هو وهم البساطة .لا شيء في ذاته بسيط إلا عند بسطاء العقل والفكر .الأمور شديدة الترابط .وحتى يفهم القارئ ذلك فلينظر بماذا يفاخر العرب بعضهم على بعض -مساحة الأرض أو رضا الغرب بحيث يكون استقبال ترومب لأن منهم انفتاح باب الجنة. فليس للعرب في ما بينهم إلا الحرب الأهلية بالأفعال وبالأقوال ليس لهم إلا أن يتلامزوا ويتهامزوا ويتنابزوا بأبواق مأجورة أغلبها ممن يتصورون أنفسهم نخب العرب التقدمية والثورية أي من جامية الحداثة بعد أن فقدت جامية الأصالة منزلتها؟ وما يسمى إعلاما عربيا لا يتجاوز هذه الوظائف الحقيرة منذ نباح صوت العرب وأكاذيب هيجل إلى اليوم. حينها سيفهم مدى بساطة العرب وعدم تجاوزهم تفاخر القبائل الجاهلية بعضهم على بعض حتى صرت اعتبر الشعر العربي وخاصة الجاهلي كله دليل على عقد العرب وليس علي المجد لأن ما يتفاخرون به الآن ويتنابزون عليه هو من سخافات عقولهم وليس دالا على القوة ولا على السيادة ولا خاصة على المجد. ولولا ذلك ولو كان للعرب قيادات تؤمن بأن للقوة والمجد والعزة شروطا إن لم تتوفر يكون الفرق بين الخيمة وناطحة السحاب معدوما لأن \"صويرخ للحوثي\" يمكن أن يهزم أقوى دولة عربية من ثم تصبح إيران وكأنها عملاق وند لأمريكا في أذهان المعلقين العرب الذي يزيدون خذلان الحكام قوة في روع الشعوب. أبو يعرب المرزوقي 23 الأسماء والبيان
-- فيمكن للسعودية والإمارات أن تكدسا السلاح وأن تكون ميزانية الدفاع فيهما أضخم حتى من ميزانية الصين أو روسيا .لكن لذلك كلا شيء .فالحروب لم تعد بالسلاح بل بأدي من يستعمله وما كانت أبدا بالسلاح بل هي أساسا بالإنسان وبالجامعات وبالبحث العلمي وبالإبداع وبالقوة الاقتصادية الناتجة عن العمل وليس عن الخامات. ما علمت في التاريخ الإنسان دولة تتأسس على العارية في كل شيء .فإذا كان الجيش مرتزقة وكان الإدارة أجانب وكان المستشارون من الأعداء وكان الحكام من السفهاء وكانت النخب من الطبالة وكانت الحداثة هي المواخير فلا يمكن الكلام لا على حضارة ولا على تحضير ولا على دولة ولا على سيادة :بداوة. طبعا سيظن أني أهاجم العرب فيزايد علي في العروبة من لعله من أصل هندي أو فارسي مدعيا حبا لهم أكثر مني .ولا يهمني ذلك .فما يعنيني هو وصف ما اعتبره علة ضعفنا نحن العرب ليس من اليوم بل منذ أن أدت حروب الفتنة الكبرى الأربعة إلى انهيار دولة الإسلام الأولى إلى خروجنا من التاريخ. وليست أعني بالخروج من التاريخ البعد السياسي منه فحسب بل خاصة الأبعاد الستة التي بدأت بها هذه المحاولة والتي هي موضوعات أبواب مقدمة ابن خلدون الستة .صار تاريخنا عدا عكسيا بسبب ما سماه ابن خلدون بالترف القاتل للحضارة :ينبغي قراءة المقدمة من بابها الأخير إلى الثاني. أعني توقفت العلوم (الباب السادس) فالاقتصاد (الباب الخامس) فالمدينة (الباب الرابع) فالدولة (الباب الثالث) ونكصنا إلى البداوة (الباب الثاني) .وما لم نفهم ذلك فلن نستطيع الوقوف من كبوتنا واستئناف دورنا في التاريخ الكوني مع الشعوب الأربعة الأخرى التي قامت عليها دولة الإسلام الكبرى. فالشعوب التي قامت عليها دولة الإسلام كلها دون استثناء شعوب تدين ببروزها التاريخي الكوني للإسلام هي العرب والأتراك والأكراد والأمازيغ والأفارقة من غير العرب .فهؤلاء أبو يعرب المرزوقي 24 الأسماء والبيان
-- هم الذي حموا بيضة الإسلام ووسعوا دولته وأبقوا عليها رغم سطوة الاستعمار من بداية الاكتشافات التي همشت الإقليم. اعتقد أني الآن قد مهدت لما يمكن أن يقال قولا ذا دلالة في تحليل الأوضاع وتوقع الأحداث وصوغ الاستراتيجية التي تعيدنا إلى التاريخ بمراجعة هذا النكوص الذي قلب منطق مقدمة ابن خلدون فصرنا نبين في الفضاء دون اسس فكل ما نبنيه ما يزال من جنس الخيام التي تذروها الرياح مع الكثبان. أبو يعرب المرزوقي 25 الأسماء والبيان
-- وصلت الآن إلى غاية المحاولة .وعلي أن أشرح جزءا من العنوان لم أتطرق إليه .فقد جاء فيه \"انطلاقا من مفهوم الإنسان\" .فأي معنى لهذا المنطلق في تعريف مفهوم السياسة التي وصفتها بكونها فلسفية ودينية وما علاقتها بالعلم والفن نظرا وتطبيقا وخاصة على الوضع الراهن في الإقليم اقلب دار الإسلام لتحديد استراتيجيته الاستئناف. فمثلما أن تعريف السياسة استندت فيه لمقدمة ابن خلدون لبيان ما كان حاصلا بعد في فكرنا رغم أنه لم يستمر فتعريف الإنسان أيضا استند فيه إليها يقول ابن خلدون لنفس العلة\" :وفيه (في فناء الأمم إذا غلبت) والله أعلم سر آخر وهو \"أن الإنسان رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" .والرئيس إذا غلب على رئاسته وكبح عن غاية عزه تكاسل حتى عن شبع بطنه وري كبده وهذا موجود في أخلاق الأناسي .ولقد يقال مثله في الحيوانات المفترسة وإنها لا تسافد إذا كانت في ملكة الآدميين .فلايزال هذا القبيل المملوك عليه أمره في تناقص واضمحلال إلى أن يأخذهم الفناء\" (المقدمة الباب الثاني الفصل .)24 هذا هو تعريف الإنسان منطلق علاجي للمسألة السياسية وظرفيتنا .وإلى حد الآن استعملت في الفصول الأربعة السابقة الانثروبولوجيا الخلدونية (نظرية الإنسان) والحضارية دون الإشارة إلى ذلك لأن الانثروبولوجيا الخلدونية تعتبر الحضارة -كما هو بين من الباب الـأول من المقدمة-ثمرة تفاعل الإنسان مع محيطه الطبيعي والثقافي بوصفه منتجا ومستهلكا للحصيلة المادية والروحية لهذا التفاعل .وقد كنت في الفصول الأربعة السابقة شارحا لدور المقدمة التشخيصي .والآن أعكس ليصبح ابن خلدون هو الذي يشرح بنفسه دور انثروبولوجيته في ما سميته تكنولوجيا بناء الفرد الإنساني والأمة والدولة. فما علاقة \"رئاسة الإنسان\" التي هي طبيعية وهي في آن \"بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" في فهم ما يجري في إقليمنا من حيث كونه ظاهرة سياسية أولا ومن حيث علاقة أزماته بـمشروعات أطرافها واستراتيجياتهم وإمكاناتهم ومآلات سياساتهم والحال التي عليها أبو يعرب المرزوقي 26 الأسماء والبيان
-- العرب الذين هم أقل أهل الإقليم وعيا بوضعهم وفهما لكونهم هم الفريسة الأساسية في كل المعارك الجارية. ولو شئت الاستعجال لاكتفيت بإيراد نصين آخرين لابن خلدون كافيين لشرحه هو نفسه ما يعنيه بدور رؤيته للإنسان ومنزلته الوجودية بالمنطق الفلسفي (بالطبع) وبالمنطق الديني (بمقتضى الاستخلاف) .لكني مضطر لتميهد سريع يصل بين النصين حتى أساعد القاريء على متابعة التحليل الخلدوني البديع والثوري. فالمسألة الأولى التي لا بد من شرحها تتعلق بمعنى \"المغلوبية\" التي تنتج فناء الأمم بسبب ما يصيب «معاني الإنسانية » التي تعود كلها إلى هذا التعريف الفلسفي (بطبعه) والديني (بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له) .فقد يفهم بـالمغلوبية تلك التي تنتج عن الغزو الخارجي خاصة والكلام على الأمة وليس على الفرد .وهذا المعنى يعتبر فعلا ضمن مفهوم المغلوبية .لكن ابن خلدون يعمم المفهوم فيجعله ظاهرة كونية تبدأ بالفرد فالأسرة فالجماعة بتوسط التربية والحكم سواء كانا بسبب التسلط والاستبداد الداخليين أو بسبب الغزو الخارجي .ويجمع بينها كلها العنف الذي يلغي هذه الرئاسة التي هي في آن بالطبع وبمقتضى الاستخلاف بتوسط قتل معاني الإنسانية وإفسادها. والمسألة الثانية التي لا بد من شرحها كذلك هي مسألة العلاقة بين \"بالطبع\" و\"بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" .فهذه العلاقة محيرة لأنها علاقة بين رؤية فلسفية (بالطبع) ورؤية دينية (مقتضى الاستخلاف) لتحديد انثروبولوجيا فريدة النوع أعني رؤية للإنسان تختلف كليا عما كان موجودا في فلسفة عصره وهي لم تصبح مفهومة إلا بفضل التعريف الكنطي لشرط التمييز بين قانون الضرورة في العلم النظري وقانون الحرية في العلم العملي .ومن تغيب عنه هذه العلاقة لن يفهم ما أقصده بقطيعة فكر المدرسة النقدية العربية مع الفلسفة اليونانية قطعا جذريا. فلو اكتفى ابن خلدون بالقول \"رئيس بالطبع\" دون \"بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" لاستحال أن نفهم كيف يمكن أن يكون رئيسا بالطبع ويمكن ألا يترأس وأن يغلب ويمكن مع أبو يعرب المرزوقي 27 الأسماء والبيان
-- ذلك منع وقوع ذلك بفضل هذه الاضافة التي تجعل الطبع لا يكفي بل نحتاج إلى ما يحرر من ضرورة الطبائع .فالإنسان يشبه الاستثناء في النظام الطبيعي .فبوسعه تجنب فقدان الرئاسة أو أن يستأنفها بعد فقدانها فيعود رئيسا إذا تجاوز ما هو بالضرورة الطبيعية إلى ما هو بالاختيار الحر .وقد ضرب مثال الحيوان المفترس ما يحصل له إذا غلب لكنه لا يستطيع التحرر من فيتوقف عن التناسل لتوقفه عن المسافدة. فلو كانت رئاسة الإنسان بالطبع فحسب لاستحال أن يكون هذا العلم الخلدوني هادفا للإصلاح الممكن من فهم العلة في فقدان الرئاسة ومن ثم علاجها لتحرير الإنسان من علل فساد معاني الإنسانية وتمكينه من الاستئناف كما سنرى في النصين اللذين أشرت إليهما. فاستثناء الإنسان من الضرورة الطبيعية مع كونه كائنا طبيعيا هو الذي يقتضي أن يوجد مثل هذا الاقتضاء :الاستخلاف أو الاستثناء من الضرورة الطبيعية. وهذا الاقتضاء هو وعي الإنسان بكونه \"خليفة\" أو مستخلف وهو ما يحرره من الضرورة الطبيعية أو هو الحرية التي هي شرط التكليف :منزلة وجودية إذا حافظ عليها لا يمكن أن يغلب غلبة قاتلة بل هو يستطيع أن يقاوم فينتصر في النهاية ليبقى رئيسا فيكون العلاج متعلقا بشروط تكوين الإنسان الخليفة. والآن حان وقت تقديم النص الأول الذي هو رد على من يعترض على العلاج الذي يقترحه ابن خلدون والمتعلق بما يحول دون التربية والحكم العنيفين وإفساد معاني الإنسانية التي هي منزلة الخليفة المحافظ على رئاسته بالطبع\" :ولا تستنكر ذلك (تأثير التربية والحكم اللذين يفسدان معاني الإنسانية) بما وقع في الصحابة من أخذهم بأحكام الدين والشريعة ولم ينقص ذلك من بأسهم بل كانوا أشد الناس بأسا لأن الشارع صوات الله عليه لما أخذ المسلمون عنه دينهم كان وازعهم فيه من أنفسهم (وليس وازعا أجنبيا بل هو وازع ذاتي نابع منهم أو من ضميرهم) لما تلا عليهم من الترغيب والترهيب ولم يكن بتعليم صناعي ولا تأديب تعليمي إنما هي أحكام الدين وآدابه المتلقاة نقلا يأخذون انفسهم بما رسخ فيهم من عقائد الإيمان والتصديق .فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة كما كانت ولم أبو يعرب المرزوقي 28 الأسماء والبيان
-- تخدشها أظفار التأديب والحكم .قال عمر رضي الله عنه \"من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله\" حرصا على أن يكون الواحد لكل أحد من نفسه ويقينا بأن الشارع أعلم بمصالح العباد\" (المقدمة الباب 2فصل 6معاناة اهل الحضر). في هذا النص يرد ابن خلدون على من اعترض على قانونه حول دور التربية والحكم في افقاد الإنسان معاني الإنسانية أو تحوله من \"رئيس بالطبع\" بمقتضى الاستخلاف الذي خلق إذا خضع لسلطة روحية وسيطة في التربية وسلطة سياسية وصية في الحكم وكانتا عنيفتين فتصبحان علة فساد معاني الإنسانية في الإنسان ويفقد «سورة بأسه». فقدم مثال من التربية والحكم اللذين يقويان معاني الإنسانية ويصلحانها وهي التربية والحكم كما يحددهما القرآن الكريم وكما عبرت عنهم آيات الغاية 21و 22أي التربية النبوية النموذجية \"فذكر إنما أنت مذكر (لست وسيطا بين المؤمن وربه في التربية) لست عليهم بمسيطر (ليست وصيا على الامة في شأنها بل ينبغي أن تشاورها). فإذا كان هذا حال الرسول مع الأمة لا هو وسيط ولا هو وصي بل هو يذكر ويستشير في الأمر فمعنى ذلك أن هذا هو نموذج التربية والحكم اللذين يبقيان على \"رئاسة الإنسان\" منزلة وجودية هي عين كونه جديرا بالاستخلاف أي إن حريته شرط تكليفه هي التي ينبغي حفظها ليكون رئيسا سيد نفسه. لماذا قدمت هذا النص على النص الثاني الذي سأورده في نهاية البحث؟ حتى لا يظن أن ابن خلدون ضد التربية وضد الحكم عامة بل هو ضد التربية والحكم العنيفين .ولذلك تكلم على بقاء \"سورة البأس عند الصحابة الذين لم يفقدوا شجاعتهم ولم يصبحوا جبناء ومستسلمين للاضطهاد والعسف كما هي حال غالب شعوبنا التي لم تبق جديرة بالاستخلاف لأن مربييها وحكامها أنذال يضطهدونها ويتعسفون عليها .فأفسدوا في الشعوب معاني الإنسانية بالتربية والحكم العنيفين مرتين: .1فالحكام والنخب المسؤولة على التربية مباشرة أو بسلطان الإعلام. .2وهم بدورهم عبيد لحاميهم ضد شعوبهم. أبو يعرب المرزوقي 29 الأسماء والبيان
-- فتكون الشعوب مستعبدة مرتين باحتلال داخلي يعمل لدى الاحتلال الخارجي .وتلك هي الحال التي تمثل المغلوبية العامة من الأسرة إلى الدولة. والآن أورد النص الأخير وبه اختم المحاولة كلها: \" .1ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم. .2سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل. .3وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي عليه. .4وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا. .5وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله وصار عيالا على غيره في ذلك. .6بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل سافلين. ذلك هو فساد معاني الإنسانية بوصفه من آثار التربية العنيفة (ماديا) والمتعسفة (روحيا) .وهو معنى الخسر الذي هو العود أسفل سافلين ( ثم رددناه اسفل سافلين) .والآن قياسا على التربية نجد نفس الفساد لمعاني الإنساني من آثار الحكم العنيف والمتعسف.يقول ابن خلدون في نفس النص: \"وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف واعتبره في كل من يملك امره عليه ولاتكون الملكة الكافلة له رفيقة به.وتجد ذلك فيهم استقراء .وانظره في اليهودوما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق وعصربالخرج ومعنها في الاصطلاح المشهورالتخابث والكيد وسببه ما قلناه ». وما ينسبه ابن خلدون من فساد لمعاني الإنسانية بسبب العنف والعسف في التربية وفي الحكم لا ينبع من تفسير عنصري أو ديني .فنحن قد صرنا يهود اليوم إذ ما وصفه ابن خلدون صار أخلاقنا .فسدت فينا معاني الإنسانية بسبب التربية والحكم العنيفين أبو يعرب المرزوقي 30 الأسماء والبيان
-- والمتعسفين ومن لا يصدق ذلك فليفسر لنا حال تربيتنا وحكمنا واستسلام غالب شعوبنا للوضعية. من يشكك في الوصف الخلدوني لفساد معاني الإنسانية فليشرح لنا حال الأخلاق في المعاملات بين الناس في مجتمعاتنا .فإذا وجد أنها تختلف عما قاله في العناصر الخمسة التي بينتها في هذا النص الثاني وإذا كذب قياسه الحكم على التربية من كونهما عنيفين ومتعسفين فهو يرفض التشخيص الصحيح الذي يقدمه ابن خلدون لكأنه يعيش بيننا .ولا ينكر قوله إلا كاذب. وفي الختام فإن غايتي ليست بيان رأيي الشخصي بل بيان علم الأمة بادوائها ليس من اليوم بل منذ أن كتب ابن خلدون المقدمة.ما لا أستطيع له فهما هو لماذا لم تثمر ثورته النظرية ثورة عملية تحقق ما كان يمكن أن يعيد للأمة دورها في التاريخ الكوني.في التاريخ الشروع حتى المتأخر أفضل من القعود. أبو يعرب المرزوقي 31 الأسماء والبيان
-- أبو يعرب المرزوقي 32 الأسماء والبيان
Search
Read the Text Version
- 1 - 36
Pages: