Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore السياسة ومفهومها الديني والفلسفي انطلاقا من مفهوم الإنسان- أبو يعرب المرزوقي

السياسة ومفهومها الديني والفلسفي انطلاقا من مفهوم الإنسان- أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2019-09-20 14:59:00

Description: السياسة ومفهومها الديني والفلسفي انطلاقا من مفهوم الإنسان- أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪re nils frahm‬‬ ‫السياسة ومفهومها الديني‬ ‫الفلسفي‬ ‫انطلاقا من مفهوم الإنسان‬ ‫الأسماء والبيان‬





‫المحتويات ‪2‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪9 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪14 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪20 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪26 -‬‬

‫‪--‬‬ ‫كثر الكلام في السياسة وأصبح دور الاختصاص في ما يسمى بالعلوم السياسية من موضات‬ ‫العصر‪ .‬فصرت أرى وأسمع مختصين يقولون كلاما اتساءل دائما عن أسسه \"العلمية\"‬ ‫ونجاعته التفسيرية لما يطلب منهم الإدلاء برأيهم فيه‪ .‬فأردت أن اضع المشكل بصورة‬ ‫نسقية طلبا لطبيعة هذا الاختصاص ومدى جدية المتكلمين عليه وكأنه اختصاص علمي‪ .‬ولو‬ ‫كنت أصدق ذلك لما بادرت للكتابة في الموضوع‪.‬‬ ‫فعندي أن السياسة من أعسر الفنون الإنسانية وادعاء الاختصاص العلمي فيها في الكثير‬ ‫من الدعوى والدعاية‪.‬‬ ‫وسأبدأ بتمهيد شبه تاريخي للإشكالية التي هي ليست جديدة لأنها ملازمة للفكر الفلسفي‬ ‫والديني في آن‪.‬‬ ‫كانت السياسة أو العناية بالشأن العام ‪-‬أو بالمصالح العامة بالاصطلاح الخلدوني ‪ -‬أمرا‬ ‫ينشغل به جميع البشر بدرجات مختلفة حتى وإن كان من حيث علاقته بالسلطان عليهما‬ ‫شبه خاص بقلة هي التي يسميها الغزالي \"معتبري الزمان\"‪.‬‬ ‫وهم يسمون بالمصطلح السياسي في الأحكام السلطانية باهل الحل والعقد بصورة عامة‬ ‫وأصحاب الشوكة تمثيلا للقوة المادية وأصحاب الرأي بصورة واضحة تمثيلا للمشورة وبينهما‬ ‫ما يمكن اعتباره ممثلي الرمزية الشرعية التي يقبل بها هذان القوتان في الدور الرمزي‬ ‫المؤسس لدور القوتين مثل الخلفاء عند السنة‪.‬‬ ‫لكن ذلك لم ينتج فكرا في السياسة يعتبر أحد الاختصاصات العلمية والفنية بصورة جلية‬ ‫وصريحة وذات أدبيات إلا في الفكر اليوناني تحت مسمى السياسة ويجمع الفلسفة العملية‬ ‫كلها باعتبارها موضوعا لها إطارا لأفعال الدولة التي هي \"الذات\" السياسية التي تمثل‬ ‫الإرادة التي لها حق المشاركة فيها أي الاحرار في الجماعة عند اليونان‪.‬‬ ‫ولما كانت السياسة بهذا المعنى بالقياس إلى الميتافيزيقا علما رئيسا بمعنى أنها تشمل كل‬ ‫العلوم العملية شمول الميتافيزيقا كل العلوم النظرية فإن أرسطو تردد في كتاب أخلاق‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫نيقوماخوس حول منزلة العلم الرئيس الأعم هل هو الميتافيزيقا أو السياسة وحسم الأمر‬ ‫بأن جعل الأولى أولى بهذه المنزلة من الثانية‪.‬‬ ‫ولولا أنه كان يعتبر البحث في مسألة مبادئ الاستدلال جزءا ببعديها الخالص والمطبق على‬ ‫الوجود عامة (مبدأ الهوية كان يعتبر أحد مبادئ العقل لأنه ثمرة المبدئين الآخرين أعني‬ ‫مبدأ عدم التناقض والثالث المرفوع) من الميتافيزيقا لكان قد اختار دون شك العكس تماما‬ ‫بدليل استدلاله الجدلي على هذه المبادئ استدلال مبنيا على شرط شروط الحوار بين‬ ‫البشر‪ :‬المحافظة على وحدة المعنى في مفردات الخطاب حتى يكون الحوار ممكنا‪.‬‬ ‫وهذا الشرط كما هو بين يعتبر المقوم الأساسي لموضوع السياسة أو الفلسفة العملية لأن‬ ‫التواصل سواء كان صادقا ومخادعا هو أهم عناصر علاقات الأحرار في التعامل السياسي‬ ‫عامة والسياسة بمعنى السلطة السياسية خاصة‪ .‬فلا توجد سياسة تعتمد على سلطة القوة‬ ‫العنيفة وحدها بل لا بد لها من قوة رمزية أساسها القوة اللطيفة وهي تعتمد على الأقوال‬ ‫والدعوة والدعاية حتى قبل وجود الإعلام بمعناه الحديث‪.‬‬ ‫والمعلوم أن هذا التنافس بين العلمين النظري والعملي على وظيفة العلم الرئيس ملازم‬ ‫للفكر الفلسفي قديمه وحديثه‪ .‬لذلك كان اوغست كونت مثلا قد اضطر إلى التعامل معهما‬ ‫معا في سلسلة العلوم الستة التي توصل إليها في تصنفيه فاعتبر الرياضيات والاجتماع ممثلين‬ ‫لهذين الدورين‪ .‬لكن الحسم المقابل للحل الارسطي كان الحل الخلدوني‪ :‬فالتاريخ صار‬ ‫بديلا من الطبيعة في فهم الشأن الإنساني عامة والوجودي أحد أجزائه ومن ثم فيمن تمسية‬ ‫علمه \"العمران البشري والاجتماع الإنساني\" هو العلم الرئيس وهو علم نظري ومن‬ ‫تطبيقاته السياسة التي يمكن اعتبارها في نسبتها إليه مثل نسبة التكنولوجيا لعلوم‬ ‫الطبيعة‪ .‬السياسة تكنولوجيا عملية وهي إذن فن وليست علما‪.‬‬ ‫لكنها تكنولوجيا أكثر تعقيدا من تطبيق علوم الطبيعة لأن هذه إحدى أدواتها ولها أداة‬ ‫أخرى أوسع وأشمل هي تكنولوجيا تطبيق علوم الرموز وتستعمل جهازا آليا أو مكينة تجمع‬ ‫بين نوعي التكنولوجيا هي الجهاز الدولة التي تعمل بالتكنولوجيا المتحكمة في المادة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والمتحكمة في الرمز بعدي الإنسان من حيث هو كائن عضوي وكائن روحي وبعدي العالم من‬ ‫حيث هو طبيعي وتاريخي‪ .‬وكل محاولة ابن خلدون بدأت بدراسة هذا التفاعل في الباب‬ ‫الأول من المقدمة بوصفه دراسة للمسائل العامة المؤطرة لنوعي العمران البشري والاجتماع‬ ‫الإنساني ليس بإطلاق بل بمعنى حديهما بداية وغاية وما بين البداية والغاية نجد كل‬ ‫مراحل التفاعل بينهما بمنطق ما سماه ابن خلدون \"نحلة العيش\" التي هي الشكل الذي‬ ‫يتعين فيه التفاعل بين الحدين العمراني والاجتماعي‪.‬‬ ‫وهذا التفاعل بين الطبيعي والثقافي أو بين المعطيات الطبيعية وفاعليتها والمبدعات‬ ‫الثقافية وفاعليتها عرضها ابن خلدون في الباب الأول من المقدمة‪:‬‬ ‫‪ .1‬العامل الطبيعي وهو موضوع الجغرافيا الطبيعية وما فيها من شروط قيام الإنسان‬ ‫فردا وجماعة‪.‬‬ ‫‪ .2‬العامل الثقافي وهو موضوع ما يضيفه الإنسان من أدوات للتعامل مع شروط قيامه‬ ‫الطبيعية من خلال ابداعه العلمي وتطبيقاته والرمزي وتطبيقاته‪.‬‬ ‫‪ .3‬أثر الأول أو العامل الطبيعي في الثاني أو العامل الثقافي أي ما يضيفه الإنسان إلى‬ ‫الطبيعة طبيعة العالم وطبيعته هو‪.‬‬ ‫‪ .4‬أثر الثاني العامل الثقافي في الأول أو العامل الطبيعي أي كل التغيير في شروط بقاء‬ ‫الإنسان في العالم غذاء وماء ومناخا بالزراعة والآبار والكن العمراني وبتكوين التجمعات‬ ‫التي تتعاون بتقسيم العمل لسد الحاجات وفي شروط بقائه في كيانه الشخصي من تطويع‬ ‫لبدنه وهو أول آلاته في التعامل مع العالم لسد حاجاته‪.‬‬ ‫‪ .5‬وحدة ذلك هي موضوع علم \"العمران البشري والاجتماع الإنساني\" الذي تعتبر‬ ‫السياسة بالنسبة إليه تكنولوجيا تطبيقية موضوعها العالم الطبيعي الخارجي والذاتي‬ ‫للإنسان بما يبدعه الإنسان من نظريات ومناهج وأدوات وكل ذلك يعتبره ابن خلدون‬ ‫ناتجا عن الحاجة إلى الرعاية والحماية وهما أصل وجود الدولة والسياسة وأدواتهما‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الاقتصادية والثقافية لتكوين الإنسان وتموينه بما ينتجه بدلا من الاكتفاء بما تنتجه‬ ‫الطبيعة‪.‬‬ ‫وكلا العاملين المتفاعلين يصبحان بفضل هذا التفاعل تاريخيين لأن الطبيعة والثقافة ليستا‬ ‫أمرين ثابتين بل هما بحكم التفاعل بينهما يتطوران فيثقف الطبيعي ويطبعن الثقافي بل‬ ‫إن الإنسان نفسه يتغير بمقتضى هذا التفاعل وتلك هي علة قلب العلاقة بين النفس‬ ‫والدولة‪:‬‬ ‫فعند اليونان النفس هي نموذج الدولة حتى وإن كان أرسطو قد أضاف بين النفس والدولة‬ ‫بنية الأسرة‪.‬‬ ‫لكن ابن خلدون يعكس فيعتبر الدولة نموذجا لبنية النفس أو يعتبرا النفس الإنسانية‬ ‫ابنة عاداتها وابنة \"نحلة العيش\" خاصة‪ .‬ونحلة العيش تتطور بتطور التفاعل بين الطبيعي‬ ‫والثقافي بين حدين اقصيين الاول هو البداوة والثاني هو الحضارة ولكل منهما حد أقصى‪:.‬‬ ‫فالبداوة حدها الأقصى كبداية للعمران البشري والاجتماع الإنساني هو بداوة نحلة‬ ‫العيش مع الأبل في الصحاري وقد اختار أن يسميها البداوة العربية لكنها لا تعني العرب‬ ‫كجنس بل هذا النوع من البداوة ويذكر أمثلة لا تقتصر على العرب كجنس‪.‬‬ ‫والحضارة حدها الأقصى كغاية للعمران البشري والاجتماع الإنساني هو \"الترف\" القاتل‬ ‫للحضارة والدول وهو أيضا نحلة عيش في المدن عندما تفسد كل القيم الاقتصادية‬ ‫والثقافية المتعلقة بشرطي بقاء الحياة أي شروط المائدة (الغذاء) وشروط السرير‬ ‫(الجنس)‪.‬‬ ‫والمرور من حد البداية إلى حد الغاية ليس قابلا للحصر في عدد محدود من المراحل بل‬ ‫ليس من الضرورة أن يكون الحدان موجودين لأنهما يمكن أن يعتبرا حدين فرضيين‬ ‫للحصر ما بينهما وهو قابل للرد إلى خمسة مراحل اساسية هي مواد الأبوات الخمسة التي‬ ‫الباقية التي يعتبر الباب الرابع منها والخاص بالمدينة المركز فيها لأنها محل اللقاء الدائم‬ ‫بين البداوة والحضارة وملتقى الفاعليتين في الاتجاهين من البداوة إلى الحضارة صعودا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ومن الحضارة إلى البداوة نزولا في التطور العمراني والاجتماعي والمدينة هي الحد‬ ‫الاوسط في هذين المسارين‪.‬‬ ‫• الباب الثاني للعمران البدوي‬ ‫• الباب الثالث للدولة نشأة وتطورا‬ ‫• الباب الرابع للمدينة‬ ‫• الباب الخامس للاقتصاد‬ ‫• الباب السادس والأخير للعلوم والتربية والفنون‪.‬‬ ‫اعتقد أن هذه المقدمة كافية للمرور إلى موضوعي وهو محاولة فهم الظاهرة الجديدة‬ ‫التي أنتجت نخبة مختصة في العلوم السياسية وهو المشكل الذي اريد الكلام عليه لفهم‬ ‫طبيعة هذا الاختصاص وشروطه إذا كان حقا ينحو إلى العلمية كما يفيد أسمه‪ .‬ذلك أني‬ ‫أعتقد أنه أقل علمية من الميتافيزيقا لأنها كما بينت أحد فروعه أو على الأقل أحد أدواته‬ ‫التصورية ولأن ثمرات العلوم المؤسسة عليها من ادوات فاعليته المادية‪.‬‬ ‫قبل أن أزيد الموضوع تعقيدا ربما في فصول لاحقة تواصل هذه المسألة سأكتفي بالأبعاد‬ ‫التي ذكرها ابن خلدون لأبحث في الشروط الضرورية في هذا الاختصاص رغم أني بعد ذلك‬ ‫سابين أنها غير كافية ومن ثم أن كلمة \"علوم سياسية\" مجرد عنوان لا يدل على حقيقة وهي‬ ‫في كل الأحوال دلالة أقل مطابقة لما تدل عليه من اعتبار الميتافيزيقا علما لما بينت من‬ ‫العلل‪.‬‬ ‫• هل يتوفر في كوريكولوم التكوين مضمون الباب الثاني أي إشكالات العمران البدوي؟‬ ‫أعني التطورات التي تحدث في العمران البدوي حتى يصبح قادرا على تأسيس الدولة وكيف‬ ‫يمكن التعامل مع هذا النوع من العمران وخاصة في مجتمعاتنا التي ما تزال في الأغلب‬ ‫بدوية‪ .‬وحتى ما يسمى دولة فيها هو بالأحرى محمية تحت ما يشبه الانتداب (في المشرق‬ ‫بعد الحرب الأولى) أو الحماية (في تونس ومصر قبلها)‪ .‬فإذا كانت المرحلة ليس فيها‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫التطور النفسي والعقلي للفرد والجماعة بحسب رؤية ابن خلدون التي لا تؤسس الدولة‬ ‫على النموذج النفسي والتكوينية العضوية للنفس البشرية المعتبرة واحدة (القوى‬ ‫الثلاث) بل تعكس فتعتبر الدولة هي النموذج وهي من ثم تاريخية مثلها بحسب \"نحلة‬ ‫العيش\"‪.‬‬ ‫• هل يتوفر فيه مضمون الباب الثالث أي إشكالات تكون الدول وشروطها الداخلية‬ ‫والخارجية في السلم وفي الحرب؟‬ ‫أعني التطورات التي تحدث بعد الشروع في تكوين الدولة التي يحدد لها ابن خلدون على‬ ‫الأقل خمس بحسب مراحل العصبيات مراحل‪:‬‬ ‫‪ .1‬دينية‬ ‫‪ .2‬فتعاقدية عقلية مرحلة أولى مقصورة على مصالح الحكام‬ ‫‪ .3‬ثم تعاقدية عقلية مرحلة ثانية تجمع بين مصالح الحكام والمحكومين‬ ‫‪ .4‬ثم مرحلة جامعة بين هذه المراحل الثلاث‪.‬‬ ‫‪ .5‬وحينها نصل إلى دولة يمكن أن تستغني عن العصبية وتكتفي بالشرعية التي تصبح‬ ‫شبه عقيدة في الجماعة‪ .‬وقبلها مرحلة اللادولة سابقة عليها جميعا هي مرحلة صراع‬ ‫العصبيات المفضية للهرج قبل تغلب عصبية عليها وفرض بداية الدولة‪.‬‬ ‫• هل يتوفر فيه مضمون الباب الرابع أي إشكالات الحياة في المدينة وعلاقة العمرانين‬ ‫والاجتماعين؟‬ ‫ومعنى ذلك أن السياسة التي يتعادل فيها العامل الطبيعي (ورمزه البداوة حول المدينة‬ ‫وفي أطرافها أو أريافها المحيطة بها) والعامل الحضاري (ورمزه قلب المدينة وأحيائها‬ ‫الأرقى أو التي تمثل الدولة والقانون) وكيف تكون المدينة هي التي تعتبر جوهر الدولة‬ ‫حتى إن اشتقاق السياسة في اللاتينية واليونانية كلاهما مشتق من اسمها وحتى إن دولة‬ ‫الإسلام اقتضت بالبدء بوضع اسم ليثرب هو المدينة ومعها الدستور وهما رمزا الدولة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والسياسة التي سبقها مشروع إصلاح روحي وقيمي ورؤية للعالم يعتبر البداوة من أخطر‬ ‫الاشياء على المدنية والدولة والسياسة‪.‬‬ ‫• هل يتوفر فيه مضمون الباب الخامس أي إشكالات الرزق والاقتصاد والصناعات وعلاقتها‬ ‫بالعلوم؟‬ ‫وهو شرط الاستقرار لأنه من دون الانتاج \"الصناعي\" والزراعي منه لأنه شرط الاستقرار‬ ‫لا يمكن تصور دولة لأن الترحال متنافي مع تحقيق شرطي الحضارة أي المعرفة وتطبيقاتها‬ ‫والمؤسسات التربوية في التكوين وفي التموين (الانتاج الاقتصادي والثقافي لأن التموين‬ ‫عضوي وروحي)‪.‬‬ ‫• هل يتوفر فيه مضمون الباب السادس أي إشكالات العلوم والتربية واللغات والفنون‬ ‫الجميلة والذوق؟‬ ‫وهو شرط كل ما تقدم وذلك هو أصل التاريخية التي يدخلها الإنسان حتى على الطبيعة‬ ‫وعلة قلب العلاقة بين الطبيعة والثقافة واعتبار الدولة التي هي شرط ذلك كله نموذجا‬ ‫للنفس الإنسانية (ثورة ابن خلدون) وليس العكس (رؤية اليونان)‪.‬‬ ‫وأخيرا بداية وغاية هل يتوفر فيه مضمون الباب الأول من مقدمة ابن خلدون أعني‬ ‫منطق يختلف تماما عن المنطق الأرسطي الذي لا ينطبق إلى في حالة الضرورة ورد الحرية‬ ‫إليها وهو الأمر المستحيل في فهم التاريخ الإنساني من دون منطق لا يرد الحرية إلى‬ ‫الضرورة بل ربما يعكس فيرد الضرورة إلى الحرية لأن فاعلية الإنسان ليست فاعلية القوة‬ ‫المجردة كما في حالة تصادم الكتل المادية بل هي فاعلية القوة المدركة لذاتها والمقدرة‬ ‫لاستعمال القوة بحسب خطط مسبقة وهادفة مع توقع حصول ما ليس ضروريا وما ليس‬ ‫منطقيا في سلوك البشر فننتقل من المنطق العادي إلى منطق حساب الاحتمالات‬ ‫والسيناريوهات بحيث يصبح الفكر النظري استراتيجيا للفعل العملي فيكون النظر أداة‬ ‫والعمل غاية حتى عندما يكون النظر للنظر أو بمعزل عن الاستعمال الحيني؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكل ما سبق ذكره يتبين أن السياسة لا يمكن أن تكون مادة لاختصاص علمي ككل بل يمكن‬ ‫أن تنقسم إلى هذه المجالات وكل واحد منها يمكن اعتباره قابلا لأن يكون مادة علم فتكون‬ ‫هذه المجالات من جنس العلوم التي تقع تحت الميتاتاريخ مثلما أن العلوم التي تنسب عادة‬ ‫إلى الفلسفة القديمة أو ما يماثلها حاليا تحت الميتافيزيقا أو ما يماثلها حاليا من رؤى العالم‪.‬‬ ‫فيكون التعاون بين الاختصاصات هو الوحيد الكفيل بالجمع بين مجالات الفكر السياسي‬ ‫سواء كان متعلقا بها في ظرف السلم أو في ظرف الحرب سواء كان ذلك في السياسة الداخلة‬ ‫في كل جماعة أو الدولية بين الجماعات علما وأنه لا يمكن الفصل بين السياستين‪ .‬وليس‬ ‫الأمر جديدا كما قد يتصور البعض أنه ناتج عن العولمة‪ :‬فالدول دائما تتحدد بداخلها‬ ‫وبخارجها وتلك خاصة الحدود لأنها دالة على الجوار سواء كان جوارا ثابتا أو متغيرها‪.‬‬ ‫فالحدود بين الشعوب والحضارات والدول في مد وجزر دائمين‪ .‬خارطة العالم في حركة‬ ‫شبيهة بحركة الأرض نفسها وفيها زلازل حضارية مثل الزلازل الجيولوجية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫كتبت أمس مقدمة لبيان طبيعة السياسي من حيث هو تقنية تطبق عدة علوم ذكر منها‬ ‫ابن خلدون خمسة اصناف فرعية وأرجعها إلى أصل يتخللها كلها رغم كونه بدأ دراسة‬ ‫الفروع بتقديمه‪:‬‬ ‫• فالباب الأول من المقدمة خصصه للعاملين الحدين وتفاعلهما في الاتجاهين من العامل‬ ‫الطبيعي إلى العامل الثقافي ومن العامل الثقافي إلى العامل الطبيعي وحصيلتهما هي‬ ‫الوجود الإنساني في العالم أو الحضارات (أي ما يبدعه الإنسان للتعامل مع الطبيعة ومع‬ ‫الطبيعي في ذاته ثم مع التعامل نفسه) اللذين ينتجان الحضارات أو العمران البشري‬ ‫والاجتماع الإنساني موضوع علمه الجديد الذي يدرس مقومات موضوع علم التاريخ من‬ ‫حيث الطبيعة وموضوع السياسة من حيث سلطان الإنسان على حدث التاريخ‪.‬‬ ‫• والباب الثاني يدرس العمران البدوي أو شروط تكون الجماعات التي تشرع في‬ ‫الاستقرار وتكوين الدولة وانتقال السلطان على الذات والطبيعة إلى الفاعلية التي تحقق‬ ‫شرطي البقاء أي الرعاية والحماية‪.‬‬ ‫• والباب الثالث يدرس الدولة مقوماتها وتطورها وشروط بقائها وزوالها في السلم وفي‬ ‫الحرب وكيفية تحقيقها شروط الاستقرار بتغيير نوع العمران البشري والاجتماع الإنساني‬ ‫الذي انتقل من العمران البدوي إلى العمران الحضري‪.‬‬ ‫• والباب الرابع يدرس العمران الحضري وهو نوع مختلف تماما عن العمران البدوي‬ ‫بنحل العيش وخاصة بما يقتضيه الاستقرار من ضرورة الانتقال من الاعتماد على ما تنتجه‬ ‫الطبيعة إلى ما ينتجه الإنسان بالخبرة والمعرفة والمثال الأساسي هو تقدم فنون الزراعة‬ ‫والنصاعة والتجارة وبداية الاعتماد في ذلك كله على العلوم وتطبيقاتها‪.‬‬ ‫• الباب الخامس يدرس هذا النوع من شروط البقاء أو الاقتصاد المعتمد على الإنتاج‬ ‫الإنساني لشروط البقاء وفيه يضع ابن خلدون نظرية القيمة التي تقدر بكم العمل‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الضروري للإنتاج‪ .‬وفيه أيضا يبين العلاقة بين الصناعة والعلم باعتبار الاولى مهما كانت‬ ‫بدائية تؤول إلى تطبيقات العلوم‪.‬‬ ‫• الباب السادس والأخير يدرس صنفي العلوم ويبدأ بما يعتبره خاصا بالأمم أمة امة‬ ‫ويسميها نقلية ثم يثني بالعلوم التي يعتبرها كونية أي العلوم التي يسميها فلسفية أو عقلية‬ ‫وهي خاصة بتراكم الخبرة في التعامل مع الطبيعة‪ .‬ورغم أني لا اقبل هذه القسمة لأن‬ ‫الخاص في الأولى هو أعيان الظاهرات وليس علمها إذ ما من حضارة تختلف عن حضارة‬ ‫أخرى في ما يتعلق بوجود الكلام والفقه والتصوف إلخ‪ ..‬بمعنى أن التمييز بين النوعين‬ ‫يصح حتى في الثاني عندما يكون مقصورا على ما هو خاص بحقبة من تاريخ أمة‪.‬‬ ‫فعلوم الطبيعة وما شابهه لم يكن كونيا بل كان مثل العلوم النقلية خاصا في حقبة من‬ ‫حقب التاريخ ثم صار كليا لما ترقت الرؤية الفلسفية‪ .‬ونفس الامر ينبغي أن يكون في ما‬ ‫يتعلق بما يسمى علوما نقلية أو علوم الملة وخاصة في فقه النوازل أو في فقه إدارة الشأن‬ ‫العام‪ .‬ولعل الأحكام السلطانية عند المسلمين قد ارتقت إلى الشروط الكونية للنظام‬ ‫السياسي حتى وإن قبلت بما طرأ عليه من خروج عن الدستور بمقتضى الضرورة التي أباحت‬ ‫المحظور بمعنى تعويض الشرعية بالتغلب‪.‬‬ ‫واليوم أريد أن ابحث في ما أعنيه بالسياسة تقنية تطبيق هذه العلوم في مهمة السلطان‬ ‫على موضوعاتها بصورة تجعل السياسة استراتيجية تحقيق ما يترتب على مفهوم الإنسان‬ ‫كما يعرفه ابن خلدون بوصفه \"رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق\" إيجابا وتحول‬ ‫دون \"فساد معاني الإنسانية\" بالتربية والحكم العنيفين سلبا‪ .‬ومن ثم ينتج أن التحليل‬ ‫السياسي لفهم ما يجري في الدول أو بين الدول منطلقا من الجواب عن هذين السؤالين‪:‬‬ ‫‪ .1‬هل ما يجري في سياسة الجماعة يحقق الهدف الإيجابي الأول وما هي شروط‬ ‫تحقيقها ولماذا تكون قوة الدولة في الداخل والخارج رهن ذلك؟‬ ‫‪ .2‬هل ما يجري في سياسة الجماعة يحقق الهدف السلبي الثاني وما هي شروط عدم‬ ‫تحقيقها ولماذا يكون ضعف الدولة في الداخل والخارج رهن ذلك؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ويترتب على هذين السؤالين فهم الأحداث الجارية في بلاد المسلمين وعلة الضعف‬ ‫والتخلف الناتجين ليس عن السياسة بمعنى التطبيق في السلطان بل بمعنى التطبيق في‬ ‫تحقيق شروط القوة التي هي الهدفان‪ .‬وفهم الأحداث ليس مطلوبا لذاته في العلوم‬ ‫السياسية بل هو مطلوب لغايتين‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأولى لاستراتيجية البناء السياسي للدول وشروط قوتها إما لتدارك المعدوم أو‬ ‫لتجديد الموجود فيها وهو الغرض البنائي إن صح التعبير‪.‬‬ ‫‪ .2‬الثانية لتقييم الاستراتيجيات الموجودة في دولة من الدول بالقياس إلى الغاية‬ ‫الأولى أو لفهم مآل صراع بين قوتين في ضوء ما هما عليه بالقياس إلى الغاية الأولى‪.‬‬ ‫والغاية الأولى هي أولى غايات السياسي المخلص لوطنه‪ .‬والغاية الثانية هي الأولى‬ ‫للمحلل المخلص لبلده بنقد الموجود والمنشود في ضوء الغاية الأولى‪ .‬لكن العالم الأساسي في‬ ‫السياسة ينبغي أن تكون غايته الأولى مؤسسة للغاية الأولى أو لعلم السياسة التي تطبق‬ ‫العلوم التي تكلم عليها ابن خلدون والتي في ضوئها تتحدد السياسية البنائية للأمم والدول‪.‬‬ ‫ذلك أن شروط البناء السياسي متطورة وما يحدد تطورها هو ما تكلم عليه ابن خلدون‬ ‫تمثيلا دون إحاطة طبعا لأنه هو بدوره أشار إلى أن علمه ليس كاملا وأن على ما يأتي بعده‬ ‫أن يستكمله‪.‬‬ ‫وسأحاول في هذا الفصل الثاني تحليل الوضعية الحالية في دار الإسلام وعلاقتها بما حولها‬ ‫ممن يسعون للسيطرة عليها لفهم علل العجز الذي نعاني منه في التصدي للغزو في المجالات‬ ‫الستة التي حددها ابن خلدون والتي ما تزال صالحة لفهم ما يجري عندنا بالقياس إلى ما‬ ‫يجري عند خصومها سواء كانوا من الغرب أو من الشرق ومن معهما ممن هم منا ولكنهم‬ ‫صاروا خدما للغزاة بعضهم عن قناعة بأن ذلك هو شرط الخروج من وضعنا ربما بحسن نية‬ ‫والبعض الآخر لفائدة ذاتية لا علاقة لها بمصير الأمة‪.‬‬ ‫والمعيار الذي اعتمده هو ما سميته الأداتين المطلقتين الدالتين على فاعلية الإنسان‬ ‫الكونية أي رمز الفعل أو العملة ورمز الفعل أو الكلمة‪ .‬وهما الأداتان المطلقتان في كل‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫حضارة لأن الأولى تمثل القوة الاقتصادية والثانية القوة الثقافية‪ .‬والثانية شرط امكان‬ ‫الأولى لأن الإبداع المعرفي هو عصبه إذ إن البحث العلمي يبدع أدوات كل إنتاج إنساني‪.‬‬ ‫والأولى شرط بقاء الثانية لأن الاقتصاد عصب القوة إذ إن تمويل شروط القوة بما فيها‬ ‫الدفاعية كلها‪.‬‬ ‫‪ .1‬والمثال الجامع بين الأداتين هو حاليا أمريكا دون منازع وما يحركها هو الخوف من‬ ‫فقدانهما ومن ثم فالخطر يأتيها من الثاني‪.‬‬ ‫‪ .2‬والمثال المنافس لها في الأداتين هو حاليا الصين دون منازع وما يحركها هو النجاح‬ ‫في التنافس والتهدئة وعدم سبق الاحداث‪.‬‬ ‫‪ .3‬ومن فقد ما يسعى إليه الثاني بعد الحرب العالمية الثانية هو أوروبا ويعسر أن‬ ‫تسترد دورها من جديد خاصة وهي مثلنا بين فكي الكماشة العالمية أي أمريكا والصين‬ ‫‪ .4‬وفاقد ما حققه المثال الأول وما يسعى إليه الثاني هو نحن منذ بداية الانحطاط‬ ‫إلى الآن ونحن في وضع أفسد من وضع أوروبا لكن حجم الامة وتاريخها يجعلها لا تفقد‬ ‫الامل في الاستئناف خاصة وأن المعركة بين الأولى والثاني لا يمكن أن تتجنب التنافس على‬ ‫ما لدينا بحيث صار بوسعنا أن نجد مخرجا إن فهمنا قواعد اللعبة وكان لنا استراتيجيون‬ ‫يفهمون شروط إعادة البناء‪.‬‬ ‫‪ .5‬فصمودنا رغم الانحطاط وما حصل خلال قرون وقرون من عثرات يعني أنه يوجد‬ ‫عامل آخر أو مستوى آخر من رمز الفعل ومن فعل الرمز يحقق شروطه وعلينا فهمها لتقوية‬ ‫أثرها‪ .‬ولم يسبق أن تطرقت إليها بصورة مباشرة كما سأفعل الآن رغم أني لمحت إليها‬ ‫عندما تكلمت على الأبيسيوقراطيا أو دين العجل بوصفه أساس النقد القرآني للتحريف‬ ‫الذي يجعل الديني والفلسفي في صراع في حين أنهما شيء واحد في القرآن وهذا الواحد‬ ‫هو أساس النقد القرآني كله واساس الاستدلال القرآني على وجود الله ووحدانيته وعلى‬ ‫مسؤولية الإنسان بوصفه مكلفا بتعمير الأرض بقيم الاستخلاف منزلة وجودية تجعل‬ ‫الإنسانية كلها مخاطبة به وليس دينا خاصا بأمة معينة حتى وإن كانت الرسالة بلسانها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فما أعنيه بهذين الرمزين المحررين ليس من العملة والكلمة بل من انتقالهما من مجرد‬ ‫أداتين للتبادل والتواصل إلى أداتي سلطان على المتبادلين وعلى المتواصلين‪ .‬واكتشاف هذا‬ ‫التحول علة لكل أمراض الإنسانية والنهي عنه هو ما يمكن اعتباره جوهر ثورة الإسلام‬ ‫الذي مكنه من دوره الكوني الأول في شكل وعد ووعيد والذي سيمكنه ثانية من نفس الدور‬ ‫الكوني في شكل تحقيق فعلي للوعد بعد التأكد من حصول الوعيد كما هو بين من حال‬ ‫الإنسانية في العولمة التي أفسدت وسفكت الدماء‪ .‬لذلك فعودة الإسلام إلى التاريخ الكوني‬ ‫هي في هذه المرة عودة لتحقيق ما وعد به الدور الأول ولم ينجزه‪.‬‬ ‫• فهل يوجد رمز فعل يحرر العملة من السلطان على المتبادلين؟‬ ‫• وهل يوجد فعل رمز يحرر الكلمة من السلطان على المتواصلين؟‬ ‫إن الجواب المباشر مستحيل من دون شرح مفهوم الأبيسيوقراطيا أو الحكم بدين العجل‬ ‫بوصفها البنية العميقة للثيوقراطيا (الحكم باسم الله) والأنثروبوقراطيا (الحكم باسم‬ ‫الإنسان)‪ :‬ونحن اليوم مباشرة تحت هذين السلطانين ورمزهما إيران وإسرائيل وبصورة‬ ‫غير مباشرة بمن وراء إيران وإسرائيل ومعهما التوابع العربية التي هي غوافير في محميات‬ ‫وليست حكاما أصلا‪.‬‬ ‫ولو لم تكن الإنسانية الحالية قد بدأت تدرك أهمية البديلين الإسلاميين لكان الكلام‬ ‫فيهما يعد من عادات التمجيد الذاتي الذي عرف به المسلمون عند الكلام على تميز دينهم‬ ‫عن الأديان الأخرى باعتباره دين البشرية كلها ودين العلاج السوي للشأن الإنساني من‬ ‫حيث هو شأن إنساني يكون فيه الإنسان سيد نفسه ومسؤولا عن أفعاله ولا يكلفه الله إلا‬ ‫وسعه ولا يحاسبه إلا بمقتضى أفعاله الحرة وهو الأمر الذي لأجله حارب لوثر الإسلام‬ ‫لرفضه مفهوم الجزاء العادل بمقتضى الأفعال ‪ Die Werkgerechtigkeit‬فالبشرية اليوم‬ ‫أدركت خطر دور سلطان المال أو العملة ليس كأداة تبادل بل كسلطان على المتبادلين وسلطان‬ ‫الايديولوجيا أو الكلمة ليس كأداة تواصل بل كسلطان على المتواصلين وخاصة الشباب في‬ ‫الغرب عامة وفي أمريكا خاصة لكونها هي المسيطرة بهما حاليا على بقية البشرية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫شرعت في بحث ‪-‬حول السياسة ومفهومها الديني والفلسفي انطلاقا من مفهوم الإنسان‪-‬لم‬ ‫أحدد إلى الآن عدد فصوله فبقي الأمر مفتوحا‪ .‬ورغم كونه متعلقا بقضية نظرية جوهرية‬ ‫في فلسفة السياسة إلا أني وصلته بالأحداث الجارية في الإقليم لأن النظرية في حد ذاتها‬ ‫سبق لي أن كتبت فيها الكثير وخاصة في مسألة السياسية والـدولة في الإسلام مع تعريج‬ ‫عرضي على نفيها ماضيا (عبد الرازق) وإمكانها مستقبلا (حلاق)‪.‬‬ ‫ما سأحاول الكلام عليه اليوم يتعلق بالعلة التي تفهمنا اعتبار الإسلام قلب المعارك الجارية‬ ‫حاليا بين أهل الإقليم ذاتيا وبمفعول محركيهم من القوى العالمية ليس في الأحداث الراهنة‬ ‫فحسب بل منذ نشأة دولته أي منذ الفتح الإسلامي وما نتج عنه من صراعات داخلية بين‬ ‫المسلمين وخارجية مع من حولهم وخاصة مع الغرب الذي كان مسيحيا حينها‪.‬‬ ‫فكل تحليل سياسي للأوضاع الجارية وخاصة للتوقعات المتعلقة بمآلاتها تكون فاقدة لكل‬ ‫معنى إذا غاب فيها هذا العامل ودوره في الصراعات الداخلية بذاتها والصراعات الداخلية‬ ‫بدوافع مما يترتب على تاريخ الصراعات الخارجية أولا وعلى دور الإقليم خاصة ودار‬ ‫الإسلام عامة في تغير نظام في علاقة الحضارتين الإسلامية والأوروبية على الأقل خمس‬ ‫مرات‪:‬‬ ‫‪ .1‬اخراج الدولة الإسلامية لفارس وبيزنطة من سلطانهما على الإقليم‪.‬‬ ‫‪ .2‬سيطرة نظام العالم الجديد بسيطرة إسلامية إلى نهاية الحروب الصليبية‬ ‫‪ .3‬بداية الصراعات مع المغول إلى خروج المسلمين من أوروبا الغربية‪.‬‬ ‫‪ .4‬دور الاكتشافات وحروب الاسترداد وفي بداية عهد غربي رغم نشأة الخلافة العثمانية‬ ‫‪ .5‬سايكس بيكو الأولى ونهاية الخلافة في بداية القرن الماضي‪.‬‬ ‫لكن دور الإسلام في تغير نككظام العالم الجاري حاليا لم يعد قابلا للحصر في علاقة‬ ‫الإسلام بأوروبا الغربية أو الشرقية بل إن ما نرى إرهاصاته حاليا يشمل علاقته بالمعمورة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫كلها لكونه \"المابين\" المطلق في صراع قوتي النظام المقبل أي الغرب الأقصى (الولايات‬ ‫المتحدة ومن معها) والشرق الأقصى (الصين ومن معها)‪.‬‬ ‫ولست غافلا عن الاعتراض الذي يتبادر إلى ذهن أي معلق أو حتى قارئ عادي والقائل‪.‬‬ ‫ألست تبالغ؟ فما وزن الاقليم وحتى دار الإسلام ما وزنها حتى تنسب إليها دورا في صراع‬ ‫العماليق الذي لا وجه للمقارنة بين قواهم وقوى المسلمين مجتمعين ناهيك عنهم مشتتين‬ ‫كما هم حاليا‪.‬‬ ‫فأتهم بأني أبالغ في دور الإسلام في ما لا ناقة له فيه ولا جمل‪ .‬وعندما يتنازل أصحاب‬ ‫هذا الاعتراض فيسلموا بما لا بد منه نظرا لأن الأحداث ناطقة بذاتها فإنهم حينها يقولون‬ ‫إن الأمر لا يتعلق بالمسلمين بل بشعوب لم تعد تعرف ذاتها بالإسلام بل بالقوميات ومن‬ ‫يعرف نفسه بالإسلام منهم هم المنبوذون بينهم وهم من صارت الأنظمة في الاقليم ومن‬ ‫يحميها يعتبرونهم خوارج عن القانون‪.‬‬ ‫فيعرفون ما يجري بما يشبه تفتت أوروبا لما نشأت فيها القوميات وتمت القطيعة مع‬ ‫التعريف بالمسيحية أي في بداية العصر الحديث خاصة رغم أن ذلك كان موجودا في الإمارات‬ ‫الإيطالية قبل ذلك بكثير أي منذ عصر النهضة قبل الحداثة بقرنين على الاقل ومن ثم‬ ‫فما يجري عندنا هو صراع قوميات مثل أوروبا‪ .‬وطبعا لا يمكن أن أنكر أن ذلك موجود فعلا‬ ‫وأن الاعتراض الثاني شديد ا لوجاهة‪ .‬لكن الأمر في دار الإسلام يختلف اختلافا تاما عما‬ ‫حدث في أوروبا من وجهين‪:‬‬ ‫• الأول صراع القوميات عندنا مضاعف أي عودة الشعوب التي كان لها وجود حضاري‬ ‫قبل الإسلام بمنطق الثأر منه ومن ثم فلها علاقة إشكالية بالإسلام‪.‬‬ ‫• والثاني صراع قوميات لم يصبح لها دور حضاري فعلي إلا بفضل الإسلام ثم نكصت‬ ‫عنه ومن ثم فلها علاقة إشكالية بالإسلام‪.‬‬ ‫وللإشكاليتين علاقة بإشكالية نظام العالم الذي نرى إرهاصاته ودورها في ما يجري في دار‬ ‫الإسلام‪ .‬وإذا كان للصنف الأول من علاقة القوميات بالإسلام دوافع ذاتية مع تحريك‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫استعماري يوظفهم ويوظفونه لتحقيق أهدافهم فإن الصنف الثاني دوافعه الذاتية ليست‬ ‫موجودة مثل الأول إذ لا ثأر له معه بل هي دوافع أوجدها من الاستعمار الذي يوظفه ضد‬ ‫وحدة الأمة بل وضده هو نفسه لأنه يعلم أنه لا ماضي له غير الإسلامي وأنه إذا نزع عنه‬ ‫ذلك سيصبح تابعا له ويتفرنج مثلا كما في افريقيا غير التي دون الصحراء وكما يراد‬ ‫لشمالها ذي الثقافة العربية الأمازيغية‪.‬‬ ‫ومن النوع الأول يمكن ذكر الفرس الذين ويهود الإقليم بعد أن صار مسلما‪ .‬فقد اختار‬ ‫دهاتهم استراتيجية الاختراق والتخريب الداخلي وصاروا في كل لحظات التاريخ حلفاء‬ ‫لكل أعداء الإسلام سواء جاؤوا من الشرق أو من الغرب ليس خدمة لهم فحسب بل‬ ‫استخداما لهم من أجل استعادة ما فقدوه بسبب الإسلام‪.‬‬ ‫ومن النوع الثاني ما حاول الغرب في حربه على الإسلام احياء نعرات قومية لديه مثل‬ ‫العرب والترك والكرد والأمازيغ وبعض الأفارقة رغم أنهم ليس لهم تاريخ يعتد به قبل‬ ‫الإسلام فـ\"فبرك\" لهم تاريخا زائفا وأمجادا كلها لا وجود لها أو أحيا رموزا حضارية ماتت‬ ‫قبل الإسلام عند العرب ليحارب الإسلام‪.‬‬ ‫وهذا النوع الثاني هو بدوره مضاعف‪ .‬فهو مؤلف إما ممن ليس لهم ماض حضاري يعتد‬ ‫به أو ممن كان في أرضهم حضارات انقرضت مثل البابلية والفينيقية والفرعونية‬ ‫والقرطاجنية قبل الإسلام ولا يمكن إحياؤها إلا للفخر الزائف أو للسياحة‪ .‬فليس للمصرين‬ ‫شيء من الفراعنة عدى كذبهم على أنفسهم وتكبرهم على بقية العرب ويمكن قول نفس‬ ‫الشيء عن علاقة العراقيين ببابل وعلاقة السورين بفينيقيا وعلاقة التونسيين بقرطاج‪:‬‬ ‫يفاخرون بما كان ينبغي أن يستحوا حتى من ذكرهم لأنهم أقزام بالقياس إليهم‪.‬‬ ‫ولهذا الشكل كاريكاتور أكثر سخفا منه وتجده في بحث بقية العرب من بدو الجزيرة عن‬ ‫ماض سابق عن الإسلام ومثله الكرد والترك والأمازيغ وبعض الأفارقة‪ .‬فهذا من مهازل‬ ‫من يريد أن ينكر مجد أجداده الحقيقي والذي ليس له دونه وهو كله حصل في دوره الكبير‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫في تاريخ الإسلام بكذبة اختلقها الاستعمار ليفصلهم عن الأمة يسهل استتباعهم واضعاف‬ ‫الأمة ثم ابتلاعهم بفرنجتهم وإبقائهم عبيدا له إلى يوم الدين‪.‬‬ ‫فليس للعرب ولا للأتراك ولا للأكراد ولا للأمازيغ ولا للأفارقة تاريخ حضاري كوني يعتد‬ ‫به إلا بفضل دورهم في تاريخ الإسلام‪ .‬وأكبر الأدلة هو ما اقتنع به الأتراك بعد ما يقرب‬ ‫من قرن لمحاولة التنكر لتاريخهم العظيم من أجل وهم من جنس أحلام طه حسين لمصر لظنه‬ ‫أن الانتساب إلى أوروبا شرط للعظمة‪ .‬وهذا من أوهام كل الذين يتصورون أن الأمم يمكن‬ ‫أن تبنى بالتقليد وليس شرطه الإبداع‪.‬‬ ‫وأعتقد أن الأمازيغ والأكراد والعرب وبعض الأفارقة ما زالوا في اللحظة التي تجاوزتها‬ ‫تركيا فتجاوزت بتجاوزها ما كانت تعاني منه من تبعية واحتقار للذات وبدأت تسترد عافيتها‬ ‫واحترامها لذاتها وقدرتها على تحقيق شروط السيادة‪ .‬مازال علمانيو العرب والأكراد‬ ‫والأمازيغ يتصورون مجدهم في البحث عن جذور سابقة على الإسلام بإيحاء استعماري بين‬ ‫ليس هدفه إحياء ماض لا وجود له بل خداعهم لتيسير نهب ثرواتهم ومواصلة استعبادهم‪.‬‬ ‫ذلك أن الأمازيغ والأكراد والعرب مثلا كل ما يذكره التاريخ لهم هم ما حققه اجدادهم‬ ‫في تاريخ الإسلام ولم يكن لهم دول معتبرة قبله بل كانوا مستعمرات لإمبراطوريات سابقة‬ ‫على الإسلام أو على هامش التاريخ لكنه بفضله صارت لهم دول بل وامبراطوريات كما‬ ‫يبين تاريخ ابن خلدون للمغرب الكبير‪.‬‬ ‫ما الهدف من كل هذا الاستعراض لطريقتي التنصل من تاريخ الإسلام وهو تنصل لو كان‬ ‫ناجحا بحق لاستحال أن تصل الحرب عليه إلى هذا المستوى من الحدة بحيث يتجند لهذه‬ ‫المهمة‪:‬‬ ‫‪ .1‬ذراعا الاستعمار أي إيران وإسرائيل‪.‬‬ ‫‪ .2‬سندا الجانحين أي روسيا وأمريكا‪.‬‬ ‫‪ .3‬وذيول الذيلين أي الانظمة العملية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .4‬وذيول الذيول ذيول الذيول أعني مليشيات السيف التي تنتسب إلى الأنظمة العميلة‬ ‫إما لإيران أو لإسرائيل‪.‬‬ ‫‪ .5‬وأخيرا ذيول الذيول أي مليشيات القلم التي تطبل لكل من سبق أعني لمليشيات السيف‬ ‫وللأنظمة العملية وللذيلين وللحاميين أي روسيا وأمريكا‪ .‬وهذا دليل على ضعفهم وقوة‬ ‫الإسلام في اللحظة الراهنة‪.‬‬ ‫لما كتب الغزالي كتاب فضائح الباطنية بين طريقة الخلع التي كانت الباطنية تستعملها‬ ‫لإخراج الإنسان من الإسلام تمهيدا لإدخاله في مشروعهم البديل‪ .‬اليوم نحن أمام نفس‬ ‫الخطة ولكنها مضاعفة‪ :‬واحدة تعتمد على مؤامرة الفتنة الكبرى وهي \"البطننة\" والثاني‬ ‫على مؤامرة الفتنة الصغرى وهي العلمنة التابعة‪.‬‬ ‫والعرب في القرن الماضي زعموا بإحياء النزعات القومية المتقدمة على الإسلام تأسيس‬ ‫الدولة القومية كل على حضارة قطرية‪-‬البابلية والفينيقية والفرعونية والقرطاجنية‪-‬‬ ‫فلم يحققوا لا هذه ولا تلك وتحول فعلهم إلى تهديم ذاتي لسر وجودهم وقوتهم وهو ما‬ ‫مهد لتأثر البطننة والمسحنة اللذين هما مشروع الأقليات التي صارت مسيطرة على غالبة‬ ‫هل الإقليم لفرط سذاجة العرب السنة ونخبهم‪.‬‬ ‫ولما كانت النخب السنية أقل نحب المشرق تطورا وتعلما بسبب انتخاب الغرب من كان يريد‬ ‫تجنيدهم لخدمة مشاريعه في حربه على الإسلام عامة وعلى الخلافة الأخيرة خاصة فإنهم‬ ‫كانوا ضحايا سذاجة حكامهم باسم الإسلام فكانت سايكس بيكو الأولى وتجنيد العرب السنة‬ ‫فيها ضد الخلافة‪.‬‬ ‫واليوم يراد تجنيد الأكراد والأمازيغ ضد الإسلام في حرب قوميات وعرقيات وطبعا ليس‬ ‫الغرب مهتما بمصلحة هذين القوميتين ولهم في تعامله مع عرب سايكس بيكو الأولى درس‬ ‫لو أرادوا فهم الغاية من تحريك نعراتهم‪ .‬ومحاولة تحريك الأكراد في الشرق والأمازيغ‬ ‫في الغرب لا تختلف عن تحريك العرب سابقا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وصلت الآن إلى ما أردت الكلام عليه‪ :‬مجريات التاريخ في اقليمنا وفي دار الإسلام لا يمكن‬ ‫أن تفهم لو اكتفينا بتقدير الحجوم بالقوة التي بالفعل ونسينا القوة التي بالقوة‪ .‬فكون‬ ‫الصراع هو بين قطبين صاعد هو الشرق الاقصى (الصين خاصة) ونازل هو الغرب الأقصى‬ ‫(أمريكا خاصة) يشكك في دور الإسلام‪.‬‬ ‫لكن إذا كان لا أحد من القطبين يستطيع ربح المعركة من دون السيطرة على دار الإسلام‬ ‫أصبحت دار الإسلام مركز الصراع أو لنقل على الأقل ساحة المعركة‪ .‬ولما كانت شعوب‬ ‫الإسلام‪-‬على ما بهم من ضعف وتفتت‪-‬لم تعد منفعلة بل بدأت تعي منزلتها في التاريخ‬ ‫الكوني فإن الساحة لم تعد انفعالية بل شرعت في الفعل الموجب‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن المحدد الحالي هو فشل سايكس بيكو الأولى‪ .‬كانوا يتصورون أن نهاية من‬ ‫كانوا يصفونه بالرجل المريض ‪-‬الخلافة الأخيرة‪-‬نهاية لدور الإسلام نجاحا للفتنة‬ ‫الصغرى‪ .‬ولما شعروا ببداية الفشل أحيوا الفتنة الكبرى (المجيء بالخميني) ولما فشلوا‬ ‫أحيوا مسخا من الخلافة‪ .‬لكن ذلك كله فشل‪.‬‬ ‫لذلك فالحرب رهانها الاستحواذ على دار الإسلام ومنع الاستئناف‪ .‬السندان والذيلان‬ ‫والأنظمة العميلة ومليشيات السيف ومليشيات القلم كل هؤلاء مجندون للحرب على شروط‬ ‫الاستئناف وهي قد تعينت الآن في رمزين أحدهما دال على فشل الفتنة الصغرى (تركيا)‬ ‫والثاني على فشل الفتنة الكبرى (الثورة)‪.‬‬ ‫ولن يتأكد فشل الفتنة الكبرى إلا بنجاح ثورة العراقيين والسوريين وتجاوز خضوع‬ ‫الشيعة فيهما إلى الملالي في إيران‪ .‬ولن يتأكد فشل الفتنة الصغرى إلا بنجاح ثورة‬ ‫الاتراك والاكراد والامازيغ وقبائل العرب في الخليج على ما يغرونهم به من علمنة كلنا‬ ‫يعلم أنها خدعة لأن الإسلام السني غني عنها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ففي مثل هذه الحالات تكون شعوب الإقليم تعاني من فتنتين كبرى وصغرى‪ .‬فالأقل صلة‬ ‫بالعصر يعانون من ضعف متأت من وهم التعلق بالفتنة الصغرى (علمانيو العرب والأكراد‬ ‫والأمازيغ والأتراك والأنظمة العميلـة) والأكثر صلة به يستمدون قوتهم من استعمال‬ ‫الفتنة الكبرى (إيران وإسرائيل)‪.‬‬ ‫فإيران وإسرائيل يشتركان في ظاهرة يهملها المحللون ممن يتكتفون بالمظاهر ولا يغوصون‬ ‫إلى ما ورائها‪ .‬فكلتاهما تعتمد على خرافات مصدرها التحريف والتخريف الديني إما‬ ‫خرافة الأسرة المختارة أو خرافة الشعب المختار (دين مؤسس على العنصرية) لكنهما‬ ‫يعملان بمنطق العصر في التعامل مع شعوب متخلفة تدعي الحداثة خلطا بين إنتاجها‬ ‫واستيراد منتجاتها‪.‬‬ ‫فتجمع إيران وإسرائيل جسر القوتين من الماضي البعيد ومن التكيف الفعلي مع الحاضر‬ ‫القريب أي إنهما تستعملان الفتنتين الكبرى والصغرى لاستعمال الشعوب البدائية ضد‬ ‫بعضها البعض لتجعلها أدواتها في تحقيق استراتيجيتها‪ .‬فأداة إيران هم شيعة الإقليم‬ ‫لتهديم أوطانهم‪ .‬وأداة إسرائيل علمانيوه لتهديم أوطانهم والتهديم مادي ورميز في‬ ‫الحالتين‪.‬‬ ‫مثال ذلك أن إيران لا تدفع مليما واحدا في مهمة تخريب الهلال كله بل الأنظمة العميلة‬ ‫التي تحكمها شيعة العرب وقبائلهم هي التي تمول حربها على السنة ومعالمها‪ .‬ونفس الشيء‬ ‫بالنسبة إلى اسرائيل كل ما تعمله يموله حكام العرب ويبرره نخبهم‪ .‬وإيران تستعمل‬ ‫مليشيات عربية بالسيف والقلم وإسرائيل تكتفي بـمليشيا القلم‪.‬‬ ‫وبذلك يتبين أن كلامي الذي يبدو شديد التجريد النظري ملاصق تمام الملاصقة‬ ‫للأحداث في أعيانها‪ .‬وهو يبين طبائع ما يجري‪ .‬ومن ثم فهو تشخيص دقيق يمكن من العلاج‬ ‫لو كان للشعوب قيادات تستطيع أن تعمل على علم فتتحرر من الرماية في عماية كما هي‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫حال المقاومة التي صار أمراء الحرب فيها لا يختلفون عن الحكام خيانة وسعيا لتكوين إمارات‬ ‫يحكمونها بنفس الخضوع لأحد الذراعين أو لهما معا‪.‬‬ ‫وهذه الظاهرة هي التي ينبغي فهمها لفهم ما يجري وعلة هشاشة العرب في الاقليم‪ .‬فقد‬ ‫اختارت قياداتهم ونخبهم الذين بيدهم الأمر أن يتنكروا لسر القوة وأن يتبنوا سر الضعف‬ ‫في حالتهم أعني أنهم يحاربون الإسلام ويقدسون العلمانية ليس لأنهم تجاوزوا العامل‬ ‫الديني ووصلوا إلى ما وصلت إليها أوروبا كما يزعمون لأنهم يجهلون ما حصل في أوروبا‬ ‫طبيعة وأسلوبا‪.‬‬ ‫فكما بينت في محاولة الأمس في كلامي على فكرهم ممثلا له بالبلهي كل ما يعتقدونه حول‬ ‫الحداثة لا صلة له بها بل هي إيديولوجيا التحديث العنيف الذي ورثته النخب العربية‬ ‫عن الاستعمار للتعامل مع شعوبها كما كان هو يتعامل مع \"الانديجان\" بالتحضير العنيف‬ ‫الذي يحبذه هيجل وماركس وفلسفتهما التاريخية‪.‬‬ ‫لكن إيران وإسرائيل خاصة أقرب إلى منطق العصر من العرب ولهما مشروع واضح‬ ‫المعالم هو استرداد دورهم في الإقليم وما يعتبرونه ملكا لهم في الارض العربية وهو دور‬ ‫نزعه منهم الإسلام وأهل الإقليم‪-‬أقصد النخب لأن الشعوب متماثلة‪ .‬إيران وإسرائيل‬ ‫يستعملون السلاحين قوة لهم وضعف لقيادات الإقليم ونخبه المتخلفة بسبب النكوص إلى‬ ‫أمية الجاهلية وذهنيتها فضلا عن كون النخب الخليجية مثلا بدأت التحديث مؤخرا ومن‬ ‫لهم الكفاءة من نخبهم مبعدون إما لاعتمادهم على نخب مستوردة أو لعدم ثقة المتنفذين‬ ‫في شعوبهم ونخبهم‪.‬‬ ‫لو اكتفيت بالحداثة العمرانية ومظاهر الثراء لقلت إن العرب هم أكثر شعوب الاقليم‬ ‫حداثة حتى إن بعض مدنهم وخاصة أصحاب البترول والغاز في الخليج أو التظاهرات‬ ‫الرياضية والسياسية وحتى الحوارات الدولية لقلت إنهم تفوقوا حتى على أوروبا‪ .‬لكنه‬ ‫كلها كما يقول الغزالي من العارية أي مستعارة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫صحيح أن ذلك قد يؤدي في الغاية إلى تغيير الإنسان بمفعول تغيير البيئة الحضارية‪.‬‬ ‫لكن لذلك يتطلب قرونا ولنا في الماضي العربي دليل قاطع‪ .‬لما فتح العرب العالم المتحضر‬ ‫أعني مستعمرات فارس وبيزنطة أي كل الإقليم الحالي الذي يمثل قلب دار الإسلام غرقوا‬ ‫في قشور الحضارة وسرعان ما انهاروا‪.‬‬ ‫وقد خصصت سابقا محاولة لفهم أثر الانتقال السريع من البداوة إلى الحضارة من دون‬ ‫المرور بالمراحل المتدرجة بمنطق مقدمة ابن خلدون ودور الترف القاتل وهو يؤدي في غالب‬ ‫الحالات إلى النكوص بدلا من الاستفادة من البيئة التحضيرية وهو ما يعنيه ابن خلدون‬ ‫بالترف القاتل للحضارات‪ .‬وأخشى ما أخشاه علينا نحن العرب فهو هذا الترف القاتل‪.‬‬ ‫فكل شيء يجري عندنا بالمقلوب‪ .‬الأمم تبدأ بالشرط وتذهب إلى المشروط إلا نحن نبدأ‬ ‫بالمشروط ولا نعنى بالشرط‪ .‬فعندما بدأت مصر قبل اليابان التحديث حدث هذا التعاكس‪.‬‬ ‫اليابان بحثت نخبه عن شروط القوة التي هي شرط السيادة‪ .‬والمصريون قفزوا مباشرة‬ ‫للقوة العسكرية والحياة البرجوازية‪ .‬قصور رملية‪ .‬ومن علامات الحمق أن النخب العربية‬ ‫وخاصة المصرية والنخب المنتسبة إلى الاقليات المتنفذة تعتبر النهضة العربية بدأت بغزو‬ ‫نابليون لمصر‪.‬‬ ‫لن اتلكم على إسرائيل في هذا المضمار لأنها أولا لأن من منها من الاقليم اقلية والبقية‬ ‫من أوروبا وثانيا لأن قوتها الذاتية مسنودة من قوة الغرب‪ .‬سأكتفي بالكلام على إيران‪.‬‬ ‫صحيح أن شعبها لا يختلف عن شعوبنا‪ .‬لكن نخبها مختلفة تماما‪ .‬فهي لم تقطع مع مشروعها‬ ‫التاريخي وتعمل بمنطق العصر‪.‬‬ ‫ماذا يعني تعمل بمنطق العصر؟ يمكن القول إن تركيا مثلها تعمل بمنطق العصر وبدأت‬ ‫تفكر في استعادة مشروعها التاريخي وهي ما تزال في هذين البعدين أبعد من إيران في‬ ‫تحقيق شروط المناعة لأن عقدين لا يكفيان لتثبيت دولة‪ .‬لكن إيران سواء في عهد الشاه‬ ‫أو مع الملالي مشروعها ثأر لهزيمتها الأولى‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ومع ذلك فما زلت اعتقد أن إيران أوهى من بيوت العنكبوت وأن قوتها علتها سذاجة‬ ‫النخب العربية وخاصة من تشيع منها أو من \"تحدث\" بمعنى صار عدوا للإسلام ظنا أن‬ ‫العلاقة بين الإسلام والدولة هي من جنس العلاقة التي ثار عليها الفكر الحديث لجهله أن‬ ‫ثورته تحاكي ثورة الإسلام على الوساطة والوصاية‪.‬‬ ‫قد أفهم القارئ الذي يعتبر كلامي هذا من جنس \"ويني وذنك\" التي تعني بالتونسي‬ ‫تعقيد البسيط‪ .‬لكني أعتقد أن مشكل العرب هو وهم البساطة‪ .‬لا شيء في ذاته بسيط إلا‬ ‫عند بسطاء العقل والفكر‪ .‬الأمور شديدة الترابط‪ .‬وحتى يفهم القارئ ذلك فلينظر بماذا‬ ‫يفاخر العرب بعضهم على بعض ‪-‬مساحة الأرض أو رضا الغرب بحيث يكون استقبال ترومب‬ ‫لأن منهم انفتاح باب الجنة‪.‬‬ ‫فليس للعرب في ما بينهم إلا الحرب الأهلية بالأفعال وبالأقوال ليس لهم إلا أن يتلامزوا‬ ‫ويتهامزوا ويتنابزوا بأبواق مأجورة أغلبها ممن يتصورون أنفسهم نخب العرب التقدمية‬ ‫والثورية أي من جامية الحداثة بعد أن فقدت جامية الأصالة منزلتها؟‬ ‫وما يسمى إعلاما عربيا لا يتجاوز هذه الوظائف الحقيرة منذ نباح صوت العرب وأكاذيب‬ ‫هيجل إلى اليوم‪.‬‬ ‫حينها سيفهم مدى بساطة العرب وعدم تجاوزهم تفاخر القبائل الجاهلية بعضهم على‬ ‫بعض حتى صرت اعتبر الشعر العربي وخاصة الجاهلي كله دليل على عقد العرب وليس‬ ‫علي المجد لأن ما يتفاخرون به الآن ويتنابزون عليه هو من سخافات عقولهم وليس دالا‬ ‫على القوة ولا على السيادة ولا خاصة على المجد‪.‬‬ ‫ولولا ذلك ولو كان للعرب قيادات تؤمن بأن للقوة والمجد والعزة شروطا إن لم تتوفر‬ ‫يكون الفرق بين الخيمة وناطحة السحاب معدوما لأن \"صويرخ للحوثي\" يمكن أن يهزم أقوى‬ ‫دولة عربية من ثم تصبح إيران وكأنها عملاق وند لأمريكا في أذهان المعلقين العرب الذي‬ ‫يزيدون خذلان الحكام قوة في روع الشعوب‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فيمكن للسعودية والإمارات أن تكدسا السلاح وأن تكون ميزانية الدفاع فيهما أضخم‬ ‫حتى من ميزانية الصين أو روسيا‪ .‬لكن لذلك كلا شيء‪ .‬فالحروب لم تعد بالسلاح بل بأدي‬ ‫من يستعمله وما كانت أبدا بالسلاح بل هي أساسا بالإنسان وبالجامعات وبالبحث العلمي‬ ‫وبالإبداع وبالقوة الاقتصادية الناتجة عن العمل وليس عن الخامات‪.‬‬ ‫ما علمت في التاريخ الإنسان دولة تتأسس على العارية في كل شيء‪ .‬فإذا كان الجيش‬ ‫مرتزقة وكان الإدارة أجانب وكان المستشارون من الأعداء وكان الحكام من السفهاء وكانت‬ ‫النخب من الطبالة وكانت الحداثة هي المواخير فلا يمكن الكلام لا على حضارة ولا على‬ ‫تحضير ولا على دولة ولا على سيادة‪ :‬بداوة‪.‬‬ ‫طبعا سيظن أني أهاجم العرب فيزايد علي في العروبة من لعله من أصل هندي أو فارسي‬ ‫مدعيا حبا لهم أكثر مني‪ .‬ولا يهمني ذلك‪ .‬فما يعنيني هو وصف ما اعتبره علة ضعفنا نحن‬ ‫العرب ليس من اليوم بل منذ أن أدت حروب الفتنة الكبرى الأربعة إلى انهيار دولة الإسلام‬ ‫الأولى إلى خروجنا من التاريخ‪.‬‬ ‫وليست أعني بالخروج من التاريخ البعد السياسي منه فحسب بل خاصة الأبعاد الستة‬ ‫التي بدأت بها هذه المحاولة والتي هي موضوعات أبواب مقدمة ابن خلدون الستة‪ .‬صار‬ ‫تاريخنا عدا عكسيا بسبب ما سماه ابن خلدون بالترف القاتل للحضارة‪ :‬ينبغي قراءة‬ ‫المقدمة من بابها الأخير إلى الثاني‪.‬‬ ‫أعني توقفت العلوم (الباب السادس) فالاقتصاد (الباب الخامس) فالمدينة (الباب‬ ‫الرابع) فالدولة (الباب الثالث) ونكصنا إلى البداوة (الباب الثاني)‪ .‬وما لم نفهم ذلك‬ ‫فلن نستطيع الوقوف من كبوتنا واستئناف دورنا في التاريخ الكوني مع الشعوب الأربعة‬ ‫الأخرى التي قامت عليها دولة الإسلام الكبرى‪.‬‬ ‫فالشعوب التي قامت عليها دولة الإسلام كلها دون استثناء شعوب تدين ببروزها التاريخي‬ ‫الكوني للإسلام هي العرب والأتراك والأكراد والأمازيغ والأفارقة من غير العرب‪ .‬فهؤلاء‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫هم الذي حموا بيضة الإسلام ووسعوا دولته وأبقوا عليها رغم سطوة الاستعمار من بداية‬ ‫الاكتشافات التي همشت الإقليم‪.‬‬ ‫اعتقد أني الآن قد مهدت لما يمكن أن يقال قولا ذا دلالة في تحليل الأوضاع وتوقع‬ ‫الأحداث وصوغ الاستراتيجية التي تعيدنا إلى التاريخ بمراجعة هذا النكوص الذي قلب‬ ‫منطق مقدمة ابن خلدون فصرنا نبين في الفضاء دون اسس فكل ما نبنيه ما يزال من جنس‬ ‫الخيام التي تذروها الرياح مع الكثبان‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وصلت الآن إلى غاية المحاولة‪ .‬وعلي أن أشرح جزءا من العنوان لم أتطرق إليه‪ .‬فقد‬ ‫جاء فيه \"انطلاقا من مفهوم الإنسان\"‪ .‬فأي معنى لهذا المنطلق في تعريف مفهوم السياسة‬ ‫التي وصفتها بكونها فلسفية ودينية وما علاقتها بالعلم والفن نظرا وتطبيقا وخاصة على‬ ‫الوضع الراهن في الإقليم اقلب دار الإسلام لتحديد استراتيجيته الاستئناف‪.‬‬ ‫فمثلما أن تعريف السياسة استندت فيه لمقدمة ابن خلدون لبيان ما كان حاصلا بعد في‬ ‫فكرنا رغم أنه لم يستمر فتعريف الإنسان أيضا استند فيه إليها يقول ابن خلدون لنفس‬ ‫العلة‪\" :‬وفيه (في فناء الأمم إذا غلبت) والله أعلم سر آخر وهو \"أن الإنسان رئيس بطبعه‬ ‫بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"‪ .‬والرئيس إذا غلب على رئاسته وكبح عن غاية عزه‬ ‫تكاسل حتى عن شبع بطنه وري كبده وهذا موجود في أخلاق الأناسي‪ .‬ولقد يقال مثله في‬ ‫الحيوانات المفترسة وإنها لا تسافد إذا كانت في ملكة الآدميين‪ .‬فلايزال هذا القبيل المملوك‬ ‫عليه أمره في تناقص واضمحلال إلى أن يأخذهم الفناء\" (المقدمة الباب الثاني الفصل‬ ‫‪.)24‬‬ ‫هذا هو تعريف الإنسان منطلق علاجي للمسألة السياسية وظرفيتنا‪ .‬وإلى حد الآن‬ ‫استعملت في الفصول الأربعة السابقة الانثروبولوجيا الخلدونية (نظرية الإنسان)‬ ‫والحضارية دون الإشارة إلى ذلك لأن الانثروبولوجيا الخلدونية تعتبر الحضارة ‪-‬كما هو‬ ‫بين من الباب الـأول من المقدمة‪-‬ثمرة تفاعل الإنسان مع محيطه الطبيعي والثقافي بوصفه‬ ‫منتجا ومستهلكا للحصيلة المادية والروحية لهذا التفاعل‪ .‬وقد كنت في الفصول الأربعة‬ ‫السابقة شارحا لدور المقدمة التشخيصي‪ .‬والآن أعكس ليصبح ابن خلدون هو الذي يشرح‬ ‫بنفسه دور انثروبولوجيته في ما سميته تكنولوجيا بناء الفرد الإنساني والأمة والدولة‪.‬‬ ‫فما علاقة \"رئاسة الإنسان\" التي هي طبيعية وهي في آن \"بمقتضى الاستخلاف الذي خلق‬ ‫له\" في فهم ما يجري في إقليمنا من حيث كونه ظاهرة سياسية أولا ومن حيث علاقة أزماته‬ ‫بـمشروعات أطرافها واستراتيجياتهم وإمكاناتهم ومآلات سياساتهم والحال التي عليها‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫العرب الذين هم أقل أهل الإقليم وعيا بوضعهم وفهما لكونهم هم الفريسة الأساسية في‬ ‫كل المعارك الجارية‪.‬‬ ‫ولو شئت الاستعجال لاكتفيت بإيراد نصين آخرين لابن خلدون كافيين لشرحه هو نفسه‬ ‫ما يعنيه بدور رؤيته للإنسان ومنزلته الوجودية بالمنطق الفلسفي (بالطبع) وبالمنطق‬ ‫الديني (بمقتضى الاستخلاف)‪ .‬لكني مضطر لتميهد سريع يصل بين النصين حتى أساعد‬ ‫القاريء على متابعة التحليل الخلدوني البديع والثوري‪.‬‬ ‫فالمسألة الأولى التي لا بد من شرحها تتعلق بمعنى \"المغلوبية\" التي تنتج فناء الأمم بسبب‬ ‫ما يصيب «معاني الإنسانية » التي تعود كلها إلى هذا التعريف الفلسفي (بطبعه) والديني‬ ‫(بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له)‪ .‬فقد يفهم بـالمغلوبية تلك التي تنتج عن الغزو‬ ‫الخارجي خاصة والكلام على الأمة وليس على الفرد‪ .‬وهذا المعنى يعتبر فعلا ضمن مفهوم‬ ‫المغلوبية‪ .‬لكن ابن خلدون يعمم المفهوم فيجعله ظاهرة كونية تبدأ بالفرد فالأسرة‬ ‫فالجماعة بتوسط التربية والحكم سواء كانا بسبب التسلط والاستبداد الداخليين أو بسبب‬ ‫الغزو الخارجي‪ .‬ويجمع بينها كلها العنف الذي يلغي هذه الرئاسة التي هي في آن بالطبع‬ ‫وبمقتضى الاستخلاف بتوسط قتل معاني الإنسانية وإفسادها‪.‬‬ ‫والمسألة الثانية التي لا بد من شرحها كذلك هي مسألة العلاقة بين \"بالطبع\" و\"بمقتضى‬ ‫الاستخلاف الذي خلق له\"‪ .‬فهذه العلاقة محيرة لأنها علاقة بين رؤية فلسفية (بالطبع)‬ ‫ورؤية دينية (مقتضى الاستخلاف) لتحديد انثروبولوجيا فريدة النوع أعني رؤية للإنسان‬ ‫تختلف كليا عما كان موجودا في فلسفة عصره وهي لم تصبح مفهومة إلا بفضل التعريف‬ ‫الكنطي لشرط التمييز بين قانون الضرورة في العلم النظري وقانون الحرية في العلم‬ ‫العملي‪ .‬ومن تغيب عنه هذه العلاقة لن يفهم ما أقصده بقطيعة فكر المدرسة النقدية‬ ‫العربية مع الفلسفة اليونانية قطعا جذريا‪.‬‬ ‫فلو اكتفى ابن خلدون بالقول \"رئيس بالطبع\" دون \"بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"‬ ‫لاستحال أن نفهم كيف يمكن أن يكون رئيسا بالطبع ويمكن ألا يترأس وأن يغلب ويمكن مع‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ذلك منع وقوع ذلك بفضل هذه الاضافة التي تجعل الطبع لا يكفي بل نحتاج إلى ما يحرر‬ ‫من ضرورة الطبائع‪ .‬فالإنسان يشبه الاستثناء في النظام الطبيعي‪ .‬فبوسعه تجنب فقدان‬ ‫الرئاسة أو أن يستأنفها بعد فقدانها فيعود رئيسا إذا تجاوز ما هو بالضرورة الطبيعية إلى‬ ‫ما هو بالاختيار الحر‪ .‬وقد ضرب مثال الحيوان المفترس ما يحصل له إذا غلب لكنه لا‬ ‫يستطيع التحرر من فيتوقف عن التناسل لتوقفه عن المسافدة‪.‬‬ ‫فلو كانت رئاسة الإنسان بالطبع فحسب لاستحال أن يكون هذا العلم الخلدوني هادفا‬ ‫للإصلاح الممكن من فهم العلة في فقدان الرئاسة ومن ثم علاجها لتحرير الإنسان من علل‬ ‫فساد معاني الإنسانية وتمكينه من الاستئناف كما سنرى في النصين اللذين أشرت إليهما‪.‬‬ ‫فاستثناء الإنسان من الضرورة الطبيعية مع كونه كائنا طبيعيا هو الذي يقتضي أن يوجد‬ ‫مثل هذا الاقتضاء‪ :‬الاستخلاف أو الاستثناء من الضرورة الطبيعية‪.‬‬ ‫وهذا الاقتضاء هو وعي الإنسان بكونه \"خليفة\" أو مستخلف وهو ما يحرره من الضرورة‬ ‫الطبيعية أو هو الحرية التي هي شرط التكليف‪ :‬منزلة وجودية إذا حافظ عليها لا يمكن‬ ‫أن يغلب غلبة قاتلة بل هو يستطيع أن يقاوم فينتصر في النهاية ليبقى رئيسا فيكون العلاج‬ ‫متعلقا بشروط تكوين الإنسان الخليفة‪.‬‬ ‫والآن حان وقت تقديم النص الأول الذي هو رد على من يعترض على العلاج الذي‬ ‫يقترحه ابن خلدون والمتعلق بما يحول دون التربية والحكم العنيفين وإفساد معاني‬ ‫الإنسانية التي هي منزلة الخليفة المحافظ على رئاسته بالطبع‪\" :‬ولا تستنكر ذلك (تأثير‬ ‫التربية والحكم اللذين يفسدان معاني الإنسانية) بما وقع في الصحابة من أخذهم بأحكام‬ ‫الدين والشريعة ولم ينقص ذلك من بأسهم بل كانوا أشد الناس بأسا لأن الشارع صوات‬ ‫الله عليه لما أخذ المسلمون عنه دينهم كان وازعهم فيه من أنفسهم (وليس وازعا أجنبيا بل‬ ‫هو وازع ذاتي نابع منهم أو من ضميرهم) لما تلا عليهم من الترغيب والترهيب ولم يكن‬ ‫بتعليم صناعي ولا تأديب تعليمي إنما هي أحكام الدين وآدابه المتلقاة نقلا يأخذون انفسهم‬ ‫بما رسخ فيهم من عقائد الإيمان والتصديق‪ .‬فلم تزل سورة بأسهم مستحكمة كما كانت ولم‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫تخدشها أظفار التأديب والحكم‪ .‬قال عمر رضي الله عنه \"من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله\"‬ ‫حرصا على أن يكون الواحد لكل أحد من نفسه ويقينا بأن الشارع أعلم بمصالح العباد\"‬ ‫(المقدمة الباب‪ 2‬فصل ‪ 6‬معاناة اهل الحضر)‪.‬‬ ‫في هذا النص يرد ابن خلدون على من اعترض على قانونه حول دور التربية والحكم في‬ ‫افقاد الإنسان معاني الإنسانية أو تحوله من \"رئيس بالطبع\" بمقتضى الاستخلاف الذي خلق‬ ‫إذا خضع لسلطة روحية وسيطة في التربية وسلطة سياسية وصية في الحكم وكانتا عنيفتين‬ ‫فتصبحان علة فساد معاني الإنسانية في الإنسان ويفقد «سورة بأسه»‪.‬‬ ‫فقدم مثال من التربية والحكم اللذين يقويان معاني الإنسانية ويصلحانها وهي التربية‬ ‫والحكم كما يحددهما القرآن الكريم وكما عبرت عنهم آيات الغاية ‪ 21‬و‪ 22‬أي التربية‬ ‫النبوية النموذجية \"فذكر إنما أنت مذكر (لست وسيطا بين المؤمن وربه في التربية) لست‬ ‫عليهم بمسيطر (ليست وصيا على الامة في شأنها بل ينبغي أن تشاورها)‪.‬‬ ‫فإذا كان هذا حال الرسول مع الأمة لا هو وسيط ولا هو وصي بل هو يذكر ويستشير في‬ ‫الأمر فمعنى ذلك أن هذا هو نموذج التربية والحكم اللذين يبقيان على \"رئاسة الإنسان\"‬ ‫منزلة وجودية هي عين كونه جديرا بالاستخلاف أي إن حريته شرط تكليفه هي التي‬ ‫ينبغي حفظها ليكون رئيسا سيد نفسه‪.‬‬ ‫لماذا قدمت هذا النص على النص الثاني الذي سأورده في نهاية البحث؟ حتى لا يظن أن‬ ‫ابن خلدون ضد التربية وضد الحكم عامة بل هو ضد التربية والحكم العنيفين‪ .‬ولذلك‬ ‫تكلم على بقاء \"سورة البأس عند الصحابة الذين لم يفقدوا شجاعتهم ولم يصبحوا جبناء‬ ‫ومستسلمين للاضطهاد والعسف كما هي حال غالب شعوبنا التي لم تبق جديرة بالاستخلاف‬ ‫لأن مربييها وحكامها أنذال يضطهدونها ويتعسفون عليها‪ .‬فأفسدوا في الشعوب معاني‬ ‫الإنسانية بالتربية والحكم العنيفين مرتين‪:‬‬ ‫‪ .1‬فالحكام والنخب المسؤولة على التربية مباشرة أو بسلطان الإعلام‪.‬‬ ‫‪ .2‬وهم بدورهم عبيد لحاميهم ضد شعوبهم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فتكون الشعوب مستعبدة مرتين باحتلال داخلي يعمل لدى الاحتلال الخارجي‪ .‬وتلك هي‬ ‫الحال التي تمثل المغلوبية العامة من الأسرة إلى الدولة‪.‬‬ ‫والآن أورد النص الأخير وبه اختم المحاولة كلها‪:‬‬ ‫‪\" .1‬ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم‪.‬‬ ‫‪ .2‬سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل‪.‬‬ ‫‪ .3‬وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفا من انبساط الأيدي‬ ‫عليه‪.‬‬ ‫‪ .4‬وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقا‪.‬‬ ‫‪ .5‬وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة‬ ‫عن نفسه أو منزله وصار عيالا على غيره في ذلك‪.‬‬ ‫‪ .6‬بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى‬ ‫إنسانيتها فارتكس وعاد في أسفل سافلين‪.‬‬ ‫ذلك هو فساد معاني الإنسانية بوصفه من آثار التربية العنيفة (ماديا) والمتعسفة‬ ‫(روحيا)‪ .‬وهو معنى الخسر الذي هو العود أسفل سافلين ( ثم رددناه اسفل سافلين)‪ .‬والآن‬ ‫قياسا على التربية نجد نفس الفساد لمعاني الإنساني من آثار الحكم العنيف والمتعسف‪.‬يقول‬ ‫ابن خلدون في نفس النص‪:‬‬ ‫\"وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف واعتبره في كل من يملك‬ ‫امره عليه ولاتكون الملكة الكافلة له رفيقة به‪.‬وتجد ذلك فيهم استقراء‪ .‬وانظره في‬ ‫اليهودوما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق وعصربالخرج‬ ‫ومعنها في الاصطلاح المشهورالتخابث والكيد وسببه ما قلناه »‪.‬‬ ‫وما ينسبه ابن خلدون من فساد لمعاني الإنسانية بسبب العنف والعسف في التربية وفي‬ ‫الحكم لا ينبع من تفسير عنصري أو ديني‪ .‬فنحن قد صرنا يهود اليوم إذ ما وصفه ابن‬ ‫خلدون صار أخلاقنا‪ .‬فسدت فينا معاني الإنسانية بسبب التربية والحكم العنيفين‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والمتعسفين ومن لا يصدق ذلك فليفسر لنا حال تربيتنا وحكمنا واستسلام غالب شعوبنا‬ ‫للوضعية‪.‬‬ ‫من يشكك في الوصف الخلدوني لفساد معاني الإنسانية فليشرح لنا حال الأخلاق في‬ ‫المعاملات بين الناس في مجتمعاتنا‪ .‬فإذا وجد أنها تختلف عما قاله في العناصر الخمسة التي‬ ‫بينتها في هذا النص الثاني وإذا كذب قياسه الحكم على التربية من كونهما عنيفين‬ ‫ومتعسفين فهو يرفض التشخيص الصحيح الذي يقدمه ابن خلدون لكأنه يعيش بيننا‪ .‬ولا‬ ‫ينكر قوله إلا كاذب‪.‬‬ ‫وفي الختام فإن غايتي ليست بيان رأيي الشخصي بل بيان علم الأمة بادوائها ليس من‬ ‫اليوم بل منذ أن كتب ابن خلدون المقدمة‪.‬ما لا أستطيع له فهما هو لماذا لم تثمر ثورته‬ ‫النظرية ثورة عملية تحقق ما كان يمكن أن يعيد للأمة دورها في التاريخ الكوني‪.‬في التاريخ‬ ‫الشروع حتى المتأخر أفضل من القعود‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬