Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore التراث معرفته وتحديد دوره التاريخي - الفصل الرابع - ابو يعرب المرزوقي

التراث معرفته وتحديد دوره التاريخي - الفصل الرابع - ابو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2017-06-07 07:48:24

Description: أوجز النتائج التي وصلنا إليها في ممهدات درس التراث. وأولها أن الرؤية الابستمولوجية التي أنطلق منها، تعتبر التراث في ذاته عين روح الجماعة. لكنها تعتبر علمه ككل علم، ليس معرفة مطابقة لحقيقته، بل هو منظومة حيل عقلية تصنع نماذج رمزية تحاكي ما تفترضه حقيقة الموضوع، دون دعوى المطابقة.

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫الأسماء والبيان‬





‫أوجز النتائج التي وصلنا إليها في ممهدات درس التراث‪ .‬وأولها أن الرؤية‬‫الابستمولوجية التي أنطلق منها‪ ،‬تعتبر التراث في ذاته عين روح الجماعة‪ .‬لكنها تعتبر‬‫علمه ككل علم‪ ،‬ليس معرفة مطابقة لحقيقته‪ ،‬بل هو منظومة حيل عقلية تصنع نماذج‬ ‫رمزية تحاكي ما تفترضه حقيقة الموضوع‪ ،‬دون دعوى المطابقة‪.‬‬‫وهو إذن مثله مثل علم الظاهرات الطبيعية \"آلة\" تعير بمدى أدائها للوظيفة التي لأجلها‬ ‫صنعت‪ ،‬فيكون الحكم لها أو عليها بمدى نجاحها في تحقيق المطلوب‪.‬‬‫والمطلوب هو الاقتراب بأفضل ما يمكن مما يعلل ما نلحظه أو نجربه من تمظهرات‬ ‫الموضوع‪ .‬ويبقى النموذج التفسيري الفرضي قابلا للمراجعة لتجويد أدائه‪.‬‬‫وهنا يصح القول إن الروح من أمر ربي‪ :‬فتعبير التراث عن روح الجماعة روح‪ ،‬وهو من‬ ‫أمر ربي‪ ،‬أي إننا لا نعلمه علم اليقين‪ ،‬ونظرياتنا تحاكي ما ندركه منه‪.‬‬‫وهو جزء مقوم منه‪ ،‬تماما كما يعتبر وعينا بذواتنا جزءا مقوما من ذاتنا دون أن ترد‬ ‫إليه أو أن يحيط بها‪ .‬لكن محاولات فهم التراث تدعي أكثر من ذلك‪.‬‬‫لذلك‪ ،‬فنحن سنعيرها بهذا المنظور ونعير مفاضلاتها للتراث به‪ :‬فمثلا زعم البعض‬ ‫بعقلانية الاعتزال وثورية فكر رشد ثوري‪ .‬أتساءل عن جدية اصحاب الزعم‪.‬‬‫ولا أستطيع الا أتردد بين حلين‪ :‬إما أن اطلاعهم على هذين الفكرين زهيد‪ ،‬أو أن فهمهم‬ ‫للعقلانية متخلف يعتبر المعرفة مرآة عاكسة لما يسمونه واقعا‪.‬‬‫وهذه خاصية الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي‪ :‬كلاهما يقول بالمطابقة في نظرية‬ ‫المعرفة‪ ،‬ويتصوران رؤيتهم للتراث الإسلامي والأوروبي هي حقيقتهما‪.‬‬ ‫‪41‬‬

‫لذلك فأصحاب الكاريكاتورين لا يكاد فكرهم يميز بين الفلكلور والتراث‪ ،‬وبين‬ ‫أيديولوجيتهم وعلمه من وثنية تخلد بين المثال الأعلى وإحدى تعيناته‪.‬‬‫منطلقنا المعرفي (الابستيمولوجي) يعتبر النظريات \"آلات\" رمزية من جنس الآلات‬ ‫الميكانيكية‪ ،‬ليست نسخة من موضوع‪ ،‬بل جهاز لعلاج موضوع‪ .‬وهي نسبية مرتين‪.‬‬‫فمن حيث هي خطاب يوجه للغير‪ ،‬تكون إضافية لما لديه من دراية‪ .‬ومن حيث هي تفسير‬ ‫لموضوع‪ ،‬تكون إضافية لما يفترض عليه الموضوع بموجب معطياته التجريبية‪.‬‬‫والغريب أن أدعياء الفكر العقلاني ظلوا دون ابن تيمية الذي أدرك جيدا طبيعة‬ ‫النظريات واتصافها بهذين التضايفين‪ :‬مع المخاطب والمشكل المطلوب حله‪.‬‬‫فهو يقول دائما إنه لا يوجد تصور نهائي لأي موضوع‪ ،‬وان المقدمات اضافية للمخاطب‬ ‫والمشكل المعالج وليس مطلقات عقلية‪ ،‬بل هي \"أباديع\" نظرية نسبية‪.‬‬‫ولا يستثني من هذه الرؤية إلا العقائد التي هي إيمانية وليست علمية بهذا المعنى‪:‬‬ ‫وذلك لأن مقدماتها وأدلتها تعتبر حقائق مطلقة نطق بها المعصوم‪.‬‬‫وسنرى أن كل إشكاليات التراث‪ ،‬وعقبات فهمه‪ ،‬هو الخلط الذي نتج عن معركتين طغتا‬ ‫على فلسفة النظر والعقد‪ ،‬وفلسفة العمل والشرع‪ ،‬وطبيعة الاصل فيها‪.‬‬‫فمعركة النظر والعقد هي معركة الكلام والفلسفة‪ ،‬أو علاقة الإيمان بالعلم‪ .‬ومعركة‬ ‫العمل والشرع‪ ،‬هي معركة الفقه والتصوف‪ ،‬أو علاقة الأخلاق والقانون‪.‬‬‫وهاتان المعركتان لا يمكن أن تحسما فلسفيا ودينيا‪ ،‬ما لم نعد النظر في نظرية المعرفة‬ ‫ولم نتخلص من القول بنظرية الحقيقة المطابقة أو العقل المرآة‪.‬‬‫وكان من المفروض أن يتحرر القائلون بالمعرفة المرآة منها‪ ،‬بمجرد تأمل معرفة الذات‬ ‫لذاتها‪ :‬فلا يوجد ما هو أكثر يقينية وأقل إحاطة بموضوعها منها‪.‬‬‫لكن ابن تيمية لم يكن مجهزا بما يمكن من صوغ نظريته هذه‪ .‬فهو يميز منطقيا بين‬ ‫الابستمي والأبستمولوجي دون وعي نظري كاف‪ .‬فالإيمان موقف قضوي مطلق‪.‬‬‫إنه الموقف العقدي الإيماني الذي يختلف عن العقد العلمي‪ ،‬الذي هو مجرد اجماع‬ ‫الجماعة العلمية التواضعي على توفر شروط العلمية في مضمون القضية‪.‬‬ ‫‪42‬‬

‫وهو كذلك موقف قضوي يمكن صوغه بالصورة التالية‪ :‬عقد في حكم ما‪ ،‬لتوفر ما تواضعت‬ ‫عليه الجماعة العلمية في المجال واعتبرته كافيا لوصفه بالعلمي‪.‬‬‫الابستيمولوجي درجة تواضعية من العقد المعرفي‪ ،‬وهو موقف قضوي من حكم في مضمون‬ ‫قضوي فيه معايير تعتبرها الجماعة علامات العملية دون ادعاء المطابقة‪.‬‬‫والمعلوم أن كل قراء التراث الإسلامي يقولون بالمطابقة‪ ،‬سواء كانت قراءاتهم تابعة‬ ‫للماركسية أو الهيجلية أو محاكية للفوكلدية وما بعد الحداثة‪.‬‬‫أما قراؤه من كاريكاتور التأصيل‪ ،‬فحدث ولا حرج‪ :‬فجلهم خارج تاريخ الفكر ونظريات‬ ‫المعرفة‪ .‬فهم متخلفون قرونا حتى على نظرياتها القديمة والوسيطة‪.‬‬‫وإذن‪ ،‬ففي الحالتين لا يوجد تمييز واضح بين اليقين والحقيقة‪ .‬فالأول يتعلق بدرجة‬ ‫الاعتقاد في مضمون القضية‪ ،‬وهو إذن موقف قضوي ينتسب إلى الابستميك‪.‬‬‫والثانية تعريف وضعي للحقيقة العلمية‪ ،‬بجملة من المعايير تعتبر مضمون القضية ثابت‬ ‫بإجماع جماعة العلماء‪ ،‬وبقابلية التثبت منه بنفس الشروط لأي مختص‪.‬‬‫وهذا التعريف لا يتعلق باليقين‪ ،‬بل بالصادقية العلمية بتلك الشروط‪ .‬وهو على كل حال‬ ‫ممكن في الطبيعيات ومستحيل في التاريخيات‪ :‬لعدم قابلية التكرر‪.‬‬‫ولذلك فقابلية التثبت المتاحة في الطبيعيات بتكرار التجارب‪ ،‬مستحيلة في التاريخ ومنه‬ ‫التراث الذي هو تاريخي بالجوهر وكل أحداثه فريدة لا تتكرر‪.‬‬‫وأغرب ما يتميز به فهم ابن تيمية‪ ،‬أنه يعتبر اليقين مقصورا على العقائد غاية للتصديق‬‫الإيماني‪ ،‬وينفي عن التصديق العلمي اليقين في الوجوديات‪ .‬لكنه يقول به في المقدرات‬‫الذهنية التي لا تتعلق بالوجوديات‪ ،‬بل بمبدعات ذهنية افتراضية مشروطة في المعرفة‬ ‫العلمية وتفقد إطلاقها عند التطبيق‪.‬‬‫ويقدم منها مثالين‪ ،‬هما المنطق المجرد بوصفه أحد فروع الرياضيات أو المقدرات الذهنية‬ ‫التي من جنس الحساب والهندسة النظرية‪ :‬وهي نوع من التراث‪.‬‬ ‫فيكون التراث بهذا المعنى نوعين‪:‬‬ ‫‪43‬‬

‫وبهذا المعنى‪ ،‬فالفنون كلها من جنس المقدرات الذهنية لأنها أباديع ليست متصلة‬ ‫بالموجود‪ ،‬بل بمنشود عقلي بعضه ضروري للعلم والبعض الآخر للذوق‪.‬‬‫ابن تيمية لم ير علاقة المقدرات الذهنية الرياضية والمنطقية بالفنون الإبداعية‬ ‫كالآداب‪ ،‬لكن فصله بين علم الموجود وعلم المقدر الذهني يقتضيه‪.‬‬‫وطبيعي أن نرى في ذلك مفارقة عجيبة‪ :‬فأسمى درجات الدقة العلمية (الرياضيات) وما‬ ‫هو أبعد ما يكون عن الدقة العلمية (الأدب) من طبيعة واحدة‪.‬‬‫كلاهما افتراضي وليس واقعيا‪ .‬والافتراضي الرياضي ضروري للعلم‪ ،‬والأدبي ضروري‬ ‫للعمل‪ .‬وكلاهما أساس التراث بما هو إبداع سلطان الإنسان على الطبيعة‪.‬‬‫وهذا هو التعريف النهائي للتراث الحي‪ :‬إبداع للافتراضي شرطا لعلم الموجود‪ ،‬والعمل‬ ‫على علم بسلطان عليه‪ .‬والرياضي شرط أداتي‪ ،‬والفني شرط غائي‪.‬‬‫وبهما كلاهما يتحقق الوصل إلى حد التطابق بين الذاتي والموضوعي‪ :‬فالموضوعي هو ما‬ ‫صنعه الإنسان ليس كفرد‪ ،‬بل كجماعة لتحقيق ذات الجماعة في التاريخ‪.‬‬‫وهكذا‪ ،‬يمكن تجاوز العقبات المعرفية التي تحول دوننا وتحرير درس التراث من‬ ‫الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي‪ .‬درسه الذي يرده إلى حرب إيديولوجية‪.‬‬ ‫‪44‬‬



‫‪02 01‬‬ ‫‪01‬‬ ‫‪02‬‬‫تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي‪ :‬محمد مراس المرزوقي‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook