Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore التراث، معرفته وتحديد دوره التاريخي – القسم الثاني – أبو يعرب المرزوقي

التراث، معرفته وتحديد دوره التاريخي – القسم الثاني – أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2017-06-26 12:06:57

Description: التراث، معرفته وتحديد دوره التاريخي – القسم الثاني – أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫القسم الثاني‬



‫المحتويات‬ ‫‪1‬‬ ‫‪8‬‬‫‪14‬‬‫‪19‬‬‫‪24‬‬‫‪29‬‬‫‪35‬‬‫‪39‬‬‫‪44‬‬‫‪50‬‬

‫أعود إلى مسألة التراث في القسم الثاني لضرب أمثلة من دراسة كاريكاتور التأصيل‬ ‫وكاريكاتور التحديث كما وعدت في خاتمة كلامي النظري حول التراث‪.‬‬‫ويقتضي الخوض في الأمثلة من الكاريكاتورين‪ ،‬وصلا بين العلاج النظري والعلاج‬ ‫التطبيقي على أمثلة أطبق فيه ما تم بيانه من فاعليات التراث المبدع‪.‬‬‫وأولى عمليات الوصل‪ ،‬تتعلق بتقدير أضرار الدارسات التي يقوم بها المنتسبون إلى‬ ‫الكاريكاتورين‪ .‬فكاريكاتور التحديث اقل ضررا من كاريكاتور التأصيل‪.‬‬‫والعلة مضاعفة‪ :‬فهم أولا مرفوضون لمجرد كونهم لا يخفون عداءهم للتراث‪ ،‬ثم لأنهم‬‫يدّعون استعمال فنون تبدو غير قابلة للفهم لعدم تمكنهم منها‪ .‬فضررهم طفيف لأن من‬‫يستفزه عداؤهم الصريح‪ ،‬ينفرهم‪ .‬ومن يفهم قصورهم فيما يزعمون الاعتماد عليه من‬ ‫فنيات حديثة‪ ،‬يحتقرهم‪ .‬وحالي معهم تجمع الوجهين‪.‬‬‫أحتقرهم لعلمي بقصورهم إلى حد لا يصدقه من تنطلي عليه طنطناتهم‪ .‬وأنفر منهم‬ ‫لعدائهم العلني للإسلام خاصة‪ ،‬وهم أذل الناس أمام اليهودية والمسيحية‪.‬‬‫وهؤلاء إذن ليسوا مصدر الخطر على التراث‪ .‬إذ هم بما أشرت إليه‪ ،‬لا يؤثرون في عامة‬ ‫الناس ولا في خاصتهم‪ .‬فكلامهم نسخ باهتة من الاستشراق دون مناهجه‪.‬‬‫لكني مع ذلك سأقدم أمثلة منهم حتى يعلم الجميع أن الكلام على وقاحتهم وضحالة علمهم‬ ‫ليس مجرد دعوى أقدمها بانحياز‪ ،‬بل لأن ذلك وصف أمين لهم‪.‬‬‫لكن الخطر على التراث ذي الفاعلية الحية‪ ،‬مصدره كاريكاتور التأصيل‪ ،‬إما بإحياء علوم‬ ‫الملة الخمسة بشكلها القديم الذي فقد فاعليته‪ ،‬أو بدعوى تحديثها‪.‬‬‫وأصحاب دعوى التحديث أخطر من أصحاب إحياء الشكل الذي كان ينبغي أن تتخطاه‬ ‫علوم الملة لتبقى حية فتؤدي وظائف جديدة عوضت ما ناسب نشأتها الأولى‪.‬‬ ‫‪64 1‬‬

‫ذلك أن التراث ذا الفاعلية الحية‪ ،‬يشبه الثعبان الذي يبدل ثوبه بحسب فصول حياته‪:‬‬ ‫ينزع القشور وينمي اللب‪ ،‬فيتطور بتطور الوظائف التي يؤديها‪.‬‬‫وقبل الكلام عن هذا الخطر‪ ،‬لا بد أن أحدد الوظائف التي يؤديها التراث ذو الفاعلية‬ ‫الإبداعية الذي يغير الأعضاء لتلائم الوظائف بقانون الحياة‪.‬‬‫وسأحدد هذه الوظائف بالاعتماد على نظرية المعادلة الوجودية ذات القطبين (الله‬ ‫والإنسان) والوسطين (الطبيعة والتاريخ) والتواصل المتبادل بين القطبين‪.‬‬‫والتواصل المتبادل بين القطبين الله والإنسان‪ ،‬يكون مباشرة (الحرية الروحية) وبصورة‬ ‫غير مباشرة بتوسط الطبيعة والتاريخ (الحرية السياسية)‪.‬‬‫والتواصل الثاني‪ ،‬شرط في الأول عند التحقق العيني‪ .‬لأن الثاني غاية الأول‪ .‬لكنه‬ ‫مشروط به في التحقق الذهني‪ ،‬لأن وجود الغاية التصوري يقود التحقيق‪.‬‬‫والتواصل بتوسط الطبيعة والتاريخ‪ ،‬هو موضوع استعمار الإنسان في الأرض‪ .‬والتواصل‬ ‫المباشر هو موضوع استخلاف الإنسان‪ .‬وتلك هي وظائف التراث المبدع‪.‬‬‫وهذه الوظائف ثابتة في كل عمران بشري (استعمار الإنسان في الأرض) واجتماع إنساني‬ ‫(استخلاف الإنسان في الأرض) لكن أعضاءها تراث يتغير ليحفظ فاعليته‪.‬‬‫ولتقريب المعنى‪ ،‬فإن أشكال التراث المتوالية تشبه الأجيال في الحياة‪ :‬الأجيال تتوالى‬ ‫كحوامل للحياة‪ ،‬وأشكال التراث تتوالى كحوامل لفاعلية الحضارة‪.‬‬‫بالنسبة إلى الحياة‪ ،‬ليست الأجيال إلا أعضاء تحمل وظائف الحياة‪ .‬والحياة تبدلها‬ ‫لتبقي على يفاعها وقوتها‪ .‬وتلك نسبة أشكال التراث لوظائف الحضارة‪.‬‬‫وسنحاول تحديد الوظائف بدقة أكثر من خلال تطبيقها على الوصل في المعادلة‬ ‫الوجودية‪ ،‬صاعدا ونازلا‪ ،‬مباشر وغير مباشر‪ ،‬وعلى مجالات الانتخاب الخمسة‪.‬‬ ‫ومجالات الانتخاب الخمسة هي‪:‬‬ ‫‪ .1‬الإرادة (السياسة)‬ ‫‪ .2‬المعرفة (العلوم)‬ ‫‪ .3‬القدرة (الاقتصاد)‬ ‫‪64 2‬‬

‫‪ .4‬الحياة (الفنون)‬ ‫‪ .5‬الوجود (رؤى العالم دينا وفلسفة)‬‫ولا بد من التذكير بما أدخلته على نظرية نيتشة في أصناف التاريخ المتحفي والمعلمي‬‫والنقدي‪ .‬إذ بينت أن تطبيقها على التراث يوجب مضاعفة النقدي في كتابه \"تأملات غير‬‫مناسبة للعصر أو للوقت\" ضد ثقافة الزهو الألماني بعد هزيمة فرنسا في منتصف القرن التاسع‬‫عشر‪ .‬وقد ترجمت فصل التاريخ مع مقال التنوير لكنط‪ ،‬نماذج نصين نموذجين لتدريس‬‫الفلسفة للباكالوريا عند تعريبها سنة ‪ 1975-1974‬تمثيلا لعلاقة النقد الفلسفي بروح‬‫عصرها‪ .‬وهو موضوع لا يختلف كثيرا عن بحثنا الحالي‪ :‬علاقة فاعلية التراث في لحظتنا‬ ‫التاريخ المأزومة‪ ،‬وكيف يتجدد بصورة تحفظ حيوية الحضارة الإسلامية‪.‬‬‫ومضاعفة النقد المقصودة‪ ،‬هي نقد المتحفي والمعلمي حتى يتحول الأول إلى تراث حي‪،‬‬ ‫والثاني إلى تراث مبدع‪ .‬فتكون بنية التراث مخمسة على النحو التالي‪:‬‬ ‫‪ -‬فالمتحفي لذكرى المحبين‬ ‫‪ -‬والمعلمي لنماذج المستقبل‬ ‫‪ -‬وذكرى المحبين حياة روحية في الوجدان‬ ‫‪ -‬ونماذج المستقبل عنفوان وجودي يتوق للإبداع‪ :‬سر التراث‬‫بعبارة وجيزة‪ ،‬من ليس له ذكرى المحب ونموذج المبدع‪ ،‬لا يمكن أن يكون لنقده معنى‪.‬‬ ‫لأنه يكون كالحال في لحظتنا‪ ،‬سلوك عدو يخرب أو غبي يجرب‪ :‬وهذا الحاصل‪.‬‬‫فـ\"تأملات غير مناسبة للوقت ‪ \" Unzeitgemässe Betrachtugnen‬دراسة نقدية للتراث‬ ‫الألماني باعتباره لسان شعب تخلط نخبه بين الحضارة والعجرفة‪.‬‬‫وهذا الخلط‪ ،‬جله علاقتنا بالاستعمار الأوروبي وبوريثته الأميركية‪ ،‬فولد لدى الكثير‬ ‫فقدان الثقة في الذات وعقد نقص‪ .‬طبعا مواقف أصحاب الكاريكاتورين‪.‬‬‫فصار جلهم أعمى لا يرى ما في التراث من فواعل جوهرية‪ ،‬ظنا أنها ترد إلى ما شابها‬ ‫بمفعول الانحطاط الذاتي والمستورد من تشويه لقيمتها ودورها‪.‬‬ ‫‪64 3‬‬

‫وما يعجب له المرء‪ ،‬أن نقد التراث في دراسات الكاريكاتورين رمي في عماية‪ .‬لأنه ينقد‬ ‫التراث جملة دون تفصيل‪ ،‬مع التركيز على الدين ومرجعيتيه‪.‬‬‫فالنقد ليكون علميا‪ ،‬ينبغي أن يتعلق بأصنافه صنفا صنفا‪ .‬بل وأكثر من ذلك‪ ،‬ينبغي أن‬ ‫يتعلق باختصاصات كل صنف اختصاصا اختصاصا كما في نقد المعرفة‪.‬‬‫فلا معنى لنقد صنف العلوم مثلا من دون تعيين اختصاص بعينه‪ ،‬ونقده بما يناسبه من‬ ‫المعرفة العلمية بقصد تقويمه وتمكينه من التطور‪ ،‬إذا كان قابلا له‪.‬‬‫ذلك أن بعض ما كان يعتبر من \"العلوم\" في عصر مضى‪ ،‬يمكن أن يكون قد مات نهائيا ولم‬ ‫يعد منها بسبب تجاوزه ودوره في منظومة العلوم الموالية‪.‬‬‫ومن الأمثلة على ذلك‪ ،‬ما قام به ابن خلدون من نقد التراث العلمي‪ ،‬وما أعتبره علوما‬ ‫زائفة كـ\"علم\" الحروف والتنجيم وحتى السيمياء والميتافيزيقا‪.‬‬‫فهو ميز في التراث العلمي بين ما يقبل النقد التجويدي‪ ،‬وما يعد علما زائفا‪ .‬مبينا ما‬ ‫يقبل التجويد وما ينبغي بيان زيفه لاخراجه من دائرة العلوم‪.‬‬‫ومعنى ذلك‪ ،‬أن ابن خلدون وهو في أواخر العصور الوسطى‪ ،‬كان أدرى بنقد التراث في‬ ‫حالتي التاريخ والعلوم من نجوم نقد التراث من مدرستي الكاريكاتور‪.‬‬‫وعندما اعتبرت الكثير من علوم الملة قد مات‪ ،‬وينبغي وضع البدائل التي تؤدي نفس‬ ‫الوظيفة بإبداعها وليس باستيرادها‪ ،‬فقصدي هو قصد ابن خلدون‪.‬‬‫لم يلغ علم التاريخ‪-‬وهو أهم علوم الملة لأنه فيها جميعا كالمنطق في علوم الفلسفة‪ :‬العلم‬ ‫الأداة الأساسي‪-‬بل ألغى ما مات من مناهجه وأبدع البديل‪.‬‬‫وهذا الحل ينطبق على جل علوم الملة في مجالات الانتخاب الخمسة‪ ،‬أي السياسة والعلم‬ ‫والاقتصاد والفن ورؤى الوجود‪ ،‬بوصفها قاصرة مرتين كما هو بين‪.‬‬‫فلا هي مناسبة لعلاج ما عليها علاجه في أنظمة الحياة السياسة والعلمية والاقتصادية‬ ‫والفنية والرؤيوية‪ ،‬ولا هي مستجيبة لأحكام المرجعيتين فيها‪.‬‬‫وأعلم أن الكثير قد يقبل بيسر الحكم بعدم مناسبتها لمجالات الانتخاب‪ ،‬لكن قل من يقبل‬ ‫أنها أيضا غير مناسبة لما يحكم به القرآن والسنة في دورها فيها‪.‬‬ ‫‪64 4‬‬





‫وما يتجاوزه تاريخ أي علم من الأعضاء‪ ،‬يبقى مادة لتاريخه‪ ،‬لا جزءا من فاعليته الحية‪:‬‬ ‫ندرس تاريخ فلك بطليموس وطب ابن سينا كتاريخ علم وليس كعلم‪.‬‬‫وهذا يصح على اغلب علوم الملة وأصولها‪ .‬بل عليها كلها‪ :‬فلا التفسير ولا الفقه ولا‬ ‫التصوف ولا الكلام ولا الفلسفية بغنية عن ثورة \"خلدونية\" معرفية‪.‬‬ ‫‪64 7‬‬

‫التراث صنفان مختلفان من حيث الطبيعة‪:‬‬ ‫‪ -‬الأول هو المرجعيات‬‫‪ -‬والثاني استثمارها في حياة الجماعة السياسة والمعرفية والاقتصادية والفنية‬ ‫والرؤيوية‪.‬‬‫مثال ذلك في حضارتا الإسلامية‪ :‬المرجعية هي القرآن والسنة‪ ،‬وأساسهما الإيمان والمعايير‬ ‫العلمية تنطبق على قوامهما المادي وليس على مضمونهما العقدي‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن متن القرآن والحديث والأخبار حول السنن الفعلية‪ ،‬تقبل الدرس العلمي‬ ‫من حيث اثبات المدونات‪ .‬لكن مضمونها العقدي إيماني خالص‪.‬‬‫تأسيس الإيمان على العلم بمعايير العلمية تناقض خالص‪ .‬فالإيمان عقد ذاتي‪ .‬والعلم‬ ‫عقد موضوعي يحتكم فيه الى التجربة أو المنطق والقابلية للتكرار‪.‬‬‫فإيماني بأن القرآن كلام الله‪ ،‬لا يمكن إثباته علميا ولا يمكن نفيه علميا‪ .‬وكلاهما عبث‪.‬‬ ‫وهو من علامات سخف اصحاب الكاريكاتورين في درس التراث عامة‪.‬‬‫لكن اثبات جمع القرآن أو صحيح الحديث‪ ،‬أي إثبات كيان متني المرجعيتين علميا واجب‪:‬‬ ‫فالتمييز بين ما هو منهما‪ ،‬وما هو ليس منهما‪ ،‬شرط في صحة الإيمان‪.‬‬‫وإذن‪ ،‬فالعلم في درس التراث يتعلق بهذا الوجه بخصوص المرجعيات الإيمانية‪ ،‬ثم بكل‬ ‫ما ينتج عن استثمارها في حياة الجماعة بحسب أصناف الأفعال الخمسة‪.‬‬‫فبالنسبة إلينا كمسلمين ‪-‬وقس عليه غيرنا في علاقته بمرجعياته‪-‬وقع استثمار القرآن‬ ‫والسنة إيجابا وسلبا لتحديد ما ينبغي وما لا ينبغي فيها جميعا‪.‬‬‫استمرت المرجعيتان في السياسة والعلم والاقتصاد والفنون والرؤى‪ .‬فهذه أجناس استثمار‬ ‫المرجعيات في كل الجماعات‪ ،‬سواء كانت إيمانية أو غير إيمانية‪.‬‬ ‫والفرق بين الإيمانية وغير الإيمانية‪ ،‬كيفي‪:‬‬ ‫‪64 8‬‬

‫‪ -‬المرجعيات الإيمانية تعتبر ثوابت‪.‬‬ ‫‪ -‬المرجعيات غير الإيمانية تعتبر فرضيات عمل تبقى ما بقيت مثمرة‪.‬‬ ‫وهذا هو الفرق بين المرجعيات الدينية والمرجعيات الفلسفية‪.‬‬ ‫‪ -‬فالأولى إيمانية بإطلاق‬ ‫‪ -‬والثانية إيمانية بنسبية إلى فاعلية دورها في الأفعال الخمسة‬‫وحتى يخرج أصحاب المرجعيات الدينية من مأزق العلاقة بين ثباتها وصيرورة الاستثمار‪،‬‬ ‫كان حل التأويل الدائم في قراءات متوالية للمرجعيات تجدد فهمها‪.‬‬‫ولا يعني ذلك أن المرجعيات الفلسفية لا تمر بنفس المسار‪ :‬فكل مدرسة فلسفية تتحول‬ ‫مرجعياتها إلى ما يشبه الدوغم الذي تتوالى الأجيال على تأويلها‪.‬‬‫والمدراس الفلسفية تنهار فتصبح تراثا ميتا بتعذر تأويلها المناسب لحال المعرفة مستحيلا‬ ‫وهو قليل الحصول في الأديان فتبقى حية بحياة المؤمنين بها‪.‬‬ ‫لكن لا أحد يقول إن الأديان البدائية قد فقدت فاعليتها‪.‬‬‫فاعليتها تبقى حية ما ظل المؤمنون بها يعملون بمقتضاها على الأقل شعائريا‪ :‬فرق‬ ‫جوهري‪.‬‬‫وعلامة الجهل بدرس التراث‪ ،‬غفلة عن هذه الفروق الدقيقة حتى لو سلمنا بأن العلم لا‬ ‫يعترف بالفرق بين العقدي الديني والأسطوري‪ :‬المهم أنهما عقد‪.‬‬‫الموقف من العقد‪ ،‬حتى في حالة عدم التمييز بين الديني والأسطوري‪ ،‬هو الاحترام وليس‬ ‫النقد والاقتصار على درس الكيان المادي لمتن المرجعيات لا غير‪.‬‬‫وعندما تجمع أمة على تحديد متونها المرجعية‪ ،‬خاصة إذا كانت مثل امتنا قد أشبعت ذلك‬ ‫درسا وتدقيقا‪ ،‬فإن كيان المتون نفسه يصبح جزءا من العقيدة‪.‬‬‫ومعنى ذلك أن المسلم اليوم ‪-‬عدا قلة باطنية‪-‬لا يؤمن بالقرآن فحسب‪ ،‬بل يؤمن بأنه ما‬ ‫في المصحف ولا شيء غيره‪ ،‬وأنه لا شيء في المصحف ليس من القرآن‪.‬‬‫وعندما تكون الأمة مثل المسلمين‪ ،‬فإن بعض متونها تبقى محل درس دائم كالحال في‬ ‫الحديث‪ .‬وفيه حقا يمكن القول إن درس الكيان المادي للمتن درس تراثي‪.‬‬ ‫‪64 9‬‬

‫وبهذا المعنى‪ ،‬فعلماء الحديث‪ ،‬بخلاف ما بادئ الراي‪ ،‬هم أول من أسس نقد التراث‪ .‬بل‬‫والدرس العلمي للمتون الدينية بمعايير تدرجت في الدقة العلمية‪ .‬فهم لم يكتفوا بنقد‬‫الرواية‪ ،‬بل نقدوا المتن جمعا بين الرواية والدراية‪ .‬وليس خطؤهم هم إذا رات بعض‬ ‫الفرق أن الدرس اكتمل ولم يعد محتاجا للتجويد‪.‬‬‫وهو ما ركبه القرآنيون لجهلهم بحقيقة المعرفة العلمية‪ ،‬ظنا أن التشكيك في البعض‬‫يوجب نفي الكل‪ .‬ثم إن دعواهم القرآنية مناقضة لتعليلهم رفض الحديث‪ .‬فدعواهم‬‫حماية القرآن مما يرونه منافيا لقيمه في بعضها‪ ،‬حتى لو صحت‪ ،‬لا تستقيم‪ .‬لأن حجتهم‬ ‫الأساسية تتعلق بالأحكام‪ .‬وهي موجودة في المدني منه‪.‬‬‫نفي الحديث بالكلية باسم قيم الحداثة‪ ،‬يلزم عنه نفي القرآن المدني‪ .‬لأن ما يعيبونه‬ ‫على الحديث إذا أطلق بحجة حماية القرآن‪ ،‬يسقط جزئه المدني‪.‬‬‫نعود إذن إلى الجنس الثاني من التراث الإسلامي مثالا‪ :‬استثمار المرجعيات في اصناف‬ ‫الأفعال‪ .‬أي في السياسة والمعرفة والاقتصاد والفن والرؤى‪.‬‬‫وينبغي أن أميز بين الاستثمار المتعلق بعالم الشهادة القابل للبحث العلمي‪ ،‬والاستثمار في‬ ‫الغيب‪ .‬وهذا استثمار زائف لأن ما في المرجعيات مغن عنه‪.‬‬‫وكل مدار تفسير القرآن يتعلق بهذين الاستثمارين في النظر والعمل بخصوص عالم‬ ‫الشهادة أو عالم الغيب‪ .‬والثاني زائف‪ ،‬والأول حصل بنسبية الاجتهاد‪.‬‬‫وما يحصل بنسبية الاجتهاد يخضع لشروط التعامل مع المرجعيات الفلسفية لا الدينية‪:‬‬ ‫أي إنها فرضيات عمل وليست عقائد تثبت ما ظلت مثمرة في مجالها‪.‬‬‫لذلك فكل الاستثمارات الاجتهادية‪ ،‬حتى وإن استندت إلى مرجعيات دينية‪ ،‬فإن تعلقها‬ ‫بعالم الشهادة يجعلها من جنس استثمار المرجعيات الفلسفية‪.‬‬‫وتلك علة مفهوم التجديد على رأس كل قرن‪ .‬إذ غالبا ما يكون عمر التأويل المؤسس‬ ‫للمعرفة الحدية مثلا في حدود القرن‪ ،‬ثم يتغير البارادايم التأويلي‪.‬‬‫وإذا طبقنا المعادلة الوجودية‪ ،‬كانت الاستثمارات متعلقة بالوسيطين خاصة أي بالطبيعة‬ ‫والتاريخ وما في الوصل بين القطبين من طبيعي وتاريخي‪.‬‬ ‫‪64 10‬‬

‫فالطبيعة والتاريخ هما عالم الشهادة‪ .‬والوصل بين الإنسان وما يتعالى على الطبيعة‬ ‫والتاريخ سواء كان دينيا أو فلسفيا يتصف بصفتيهما وينتج عنهما‪.‬‬ ‫لكن الوصل كما أسلفنا في دراسات سابقة نوعان‪:‬‬ ‫‪ -‬هذا الذي ذكرنا هو الوصل الصاعد من القطب الإنساني إلى القطب الإلهي‪.‬‬ ‫‪ -‬والثاني نازل من هذا إلى ذاك‬‫وهذا الوصل النازل‪ ،‬هو المرجعية الدينية أو الرسالة‪ ،‬وهو في حضارتنا الإسلامية‪،‬‬ ‫القرآن لا غير‪ .‬لأن السنة القولية والفعلية هي تعليم الرسول للقرآن‪.‬‬‫قدسية السنة هي كونها تعليم المعصوم‪ .‬ويمكن استثناء الحديث القدسي الذي يعلن النبي‬ ‫صراحة أنه كلام الله‪ .‬لكنه لم يقل عن الحديث إنه كلام الله‪.‬‬‫لكن الحديث العادي إن صح‪ ،‬فهو الاجتهاد الأسمى‪ .‬لأنه اجتهاد الرسول في فهم القرآن‬ ‫وتعليمه كما أمر‪ .‬ومن ثم فهو تابع للقرآن تفسيرا وتعليما‪.‬‬ ‫فكيف يمكن رد استثمار المرجعية إلى المعادلة الوجودية؟‬‫إذا درست بمقتضى عالم الشهادة بمنطق قيس عالم الغيب عليه‪ ،‬كان الاستثمار علوما‬ ‫زائفة‪.‬‬‫أما إذا درست مع استثناء الغيب‪ ،‬فإنها تكون من جنس العلوم الفلسفية التي تعتبر‬ ‫مسلماتها ومقدماتها فرضيات تمكن من تفسير الظواهر في حدود العلم‪.‬‬‫وذلك ما تحدده الآية ‪ 53‬من فصلت‪ :‬فالآيات في الآفاق (الطبيعة والتاريخ ومنهما‬ ‫الإنسان) وفي الأنفس (نفسها في علمنا) هي المعلوم من عالم الشهادة‪.‬‬‫وهي التي تبين أن المرجعية القرآنية حق‪ .‬لأنها مبنية على أسلوبين في الكلام عليهما في‬ ‫علاقة بما ورائهما‪:‬‬ ‫‪ -‬تحليلي بدليل الأولى‬ ‫‪ -‬وتأويلي بالأمثال‬‫وهذا يعني أن كل ما ينسب إلى علم الكلام من معرفة‪ ،‬هو معرفة زائفة لعلتين منهجية‬ ‫وعقدية‪:‬‬ ‫‪64 11‬‬

‫‪ -‬قيس الغيب على الشهادة‬ ‫‪ -‬ورد النقلي للعقلي بالتأويل‪.‬‬‫ذلك أن رد الغيب إلى الشاهد‪ ،‬نفي للدين من أصله‪ .‬وهو مناف لدعوى الكلام بأنه‬ ‫يثبت العقائد بالعقل‪ .‬ورد النقلي للعقلي مستحيل حتى في معرفة الشاهد‪.‬‬‫يتصورون مفهوم النقل مقصورا على الأديان‪ .‬لكن العلوم كلها فيها وجه نقلي ووجه‬ ‫عقلي‪ .‬بما في ذلك علوم الفلسفة‪ :‬وتلك علة حاجة العلم للتجربة‪.‬‬‫مضمون العلوم كلها نقلي إلا ما كان منها من جنس ما يسميه ابن تيمية بالمقدرات‬ ‫الذهنية‪ .‬لكنها عندئذ ليست علوما لموجود‪ ،‬بل إبداع لنموذج مجرد‪.‬‬‫والنموذج المجرد هو صورة كل العلوم‪ :‬العلم هو بنية مجردة متعينة بمضمون تجريبي‬ ‫محدد موجود‪ ،‬يخصصها في تطبيق معين على مادة معينة نقلية بالضرورة‪.‬‬ ‫والمغالطة الكلامية تتمثل في الخلط بين الغائب والغيب‪.‬‬ ‫كل غيب غائب‪ .‬لكن ليس كل غائب غيبا‪.‬‬‫قيس الغائب على الشاهد ممكن في علم الشاهد لا غير‪ .‬وهو شرط كل تعميم ما علمنا‬‫على ما لم نعلم بفرض التماثل بين الأمرين‪ .‬وهو أداة منهجية لتوسيع الاستقراء‪ ،‬لكنه‬ ‫مصدر عديد الأخطاء حتى في علم الشاهد‪.‬‬‫قيس ذات الله وصفاته حتى بالسلب على ذات أي موجود وصفاته‪ ،‬ينتج عن مغالطة‬ ‫الخلط بين الغيب والغائب‪ .‬ونفس الأمر بخصائص الآخرة والبعث والحساب‪.‬‬‫ما نحتاج للإيمان به ورد في المرجعية القرآنية وفي تفسير الرسول وتعليمه أو السنة‪ .‬وهو‬ ‫إيماني لا علمي ولا يمكن صوغه بأفضل من صوغ المرجعية‪.‬‬‫كل عقائد المذاهب الكلامية ثرثرة لا فائدة منها إلا شرور الفتن تصديقا للآية السابعة‬ ‫من آل عمران‪ .‬علم العقيدة الوحيد المقبول نصي وتاريخي‪.‬‬ ‫وأقصد بالنصي أمرين‪:‬‬ ‫‪ -‬لا يمكن أن يكون المتكلم الذي يصوغ عقيدة لمذهب أبلغ من نص القرآن في صوغها‪.‬‬ ‫‪ -‬والثاني النصي يحفظ وحدة الجماعة ولا يفتتها‪.‬‬ ‫‪64 12‬‬

‫وأقصد بالتاريخي‪ ،‬هو ما سميته قبل قليل بدراسة كيان المرجعية المادي‪ .‬فهذا عمل‬ ‫تاريخي وخاصة فيما يتعلق بجمع القرآن وتمحيص الحديث وتخليصه‪.‬‬ ‫‪64 13‬‬

‫عندما وضعت نظرية المعادلة الوجودية‪ ،‬لم يكن القصد علاج مسالة فلسفية فحسب‪ ،‬بل‬‫تحديد النظام العميق للقرآن الكريم الذي تجاذبته القراءات المذهبية‪ ،‬فمزقه أصحابها‬‫شر تمزيق حتى أصبح يقول كل شيء ولا شيء‪ .‬كبار المفسرين تفننوا في استعمال أدوات‬‫العصر اللغوية التاريخية والتوظيف الإيديولوجي‪ ،‬ثم سيطرت العلوم الزائفة التي حولت‬ ‫القراءات الكلامية إلى أدوات صراع مذهبي مضاعف‪:‬‬ ‫‪ -‬داخلي بين فرق الكلام‬ ‫‪ -‬وخارجي مع الأديان وكلاهما أضر بدوره‬‫فصراع المذاهب الداخلي تأسيس لحروب دينية وحرب أهلية لا تتوقف‪ .‬والصراع مع‬ ‫الأديان الأخرى تأسيس لما ينافي الرسالة التي تؤسس للتسابق في الخيرات‪.‬‬‫فعبارة إن الدين عند الله الإسلام‪ ،‬لا تنفي التعدد الديني شرط التسابق في الخيرات‪.‬‬ ‫فالديني في الأديان غايتها‪ .‬وهي تسعى إليه سعيا لامتناهي المسار‪.‬‬‫وبهذا التصور‪ ،‬نفهم لما كان القرآن أشبه بفلسفة دين باحثة عن هذا الديني‪ ،‬بوصفه‬ ‫جوهر الإسلام الذي رغم كونه فطريا يبقى غاية عسيرة الإدراك‪.‬‬‫ولهذه العلة‪ ،‬نجد فيه عرضا نقديا للتجارب الدينية والروحية في عبارتها ورعايتها وفي‬ ‫سلوك أهلها‪ .‬لكأنه عرض تاريخي للتجارب الروحية للبشرية كلها‪.‬‬‫وطبعا فلا يمكن أن يتكلم على التجارب الروحية كلها‪ ،‬بل هو لخصها في قطبين منزلين‬ ‫وقطبين طبيعيين‪ ،‬وأصل بداية وغاية نكوص في الآية ‪ 17‬من الحج‪.‬‬‫والقطبان المنزلان هما اليهودية والمسيحية‪ .‬والقطبان الطبيعيان هما الصابئة‬ ‫والمجوسية‪ .‬والأصل السلبي الشرك‪ ،‬تتجاوزه الأديان وتنكص إليه بالتحريف‪.‬‬‫أما الأصل الإيجابي‪ ،‬فهو الإسلام من حيث هو فطرة تتهود وتتنصر وتتصبأ وتتمجس‬ ‫وتتشرك انحرافات عن الديني في الأديان الذي هو أخلاق النظر والعمل‪.‬‬ ‫‪64 14‬‬

‫فالديني هو أخلاق النظر والعمل المتعينة في الإرادة والمعرفة والقدرة والحياة والوجود‬ ‫عندما تتجلى في السياسة والعلم والاقتصاد والفن والرؤى‪.‬‬‫فلنبين الآن كيف أن نظام القرآن المحدد لوحدته بوصفه مشروعا مضاعفا‪ :‬درس نقدي‬ ‫للتراث الديني في مرجعياته واستثماراتها وبديل إصلاحي للإنسانية‪.‬‬‫ولهذه العلة‪ ،‬فالوجهان يدلان على أنه يتألف من مقومي الاستراتيجية الحضارية‬ ‫بوظيفتيها المحققتين لكيان الإنسان مستعمرا في الأرض ومستخلفا فيها‪.‬‬‫ومدار الاستعمار في الأرض علم الطبيعة والتاريخ والعمل على علم فيهما‪ .‬ومدار‬ ‫الاستخلاف العلاقة بين القطبين (الله والإنسان) بتوسطهما ومباشرة‪.‬‬ ‫وهذا هو الوجه الأول من الوصل بين عناصر المعادلة الوجودية‪.‬‬‫أما الوجه الثاني‪ ،‬فهو المرجعية القرآنية التي لا تتضمن إلا هذه الأبعاد رسالة خاتمة‪.‬‬‫ولأنها خاتمة‪ ،‬فلا بد أن تكون قائلة بانتسابها إلى التجربة الروحية الإنسانية عامة لكأنها‬ ‫ملخصها‪ ،‬وبكونها حركة إصلاحية لتحريفاتها وليست جديدة‪.‬‬‫وحدة الديني في الأديان لا تنفي تعددها وتنوعها‪ .‬كما أن وحدة الحي في الأحياء لا‬ ‫ينفي تعددها وتنوعها‪ :‬لذلك فالتوحيد طلبا للوحدة هو جوهر القرآن‪.‬‬‫وأكبر الأدلة على أن القرآن بحث في الديني في الأديان مبدؤه المنهجي \"التصديق‬ ‫والهيمنة\"‪ .‬فكل ما يثبت الوحدة يصدقه القرآن فيهيمن بطلبه كغاية‪.‬‬‫وتلك هي علة تسميتي مشروع القرآن بـ\"استراتيجية التوحيد\" واعتباري السنة \"منطق‬ ‫السياسة المحمدية\" أي السياسة التي تحقق عينة من توحيد الإنسانية‪.‬‬‫ونحن الآن على أعتاب استئناف المشروع‪ .‬فالإنسانية اتحدت ماديا ولا بد من توحيدها‬ ‫روحيا (النساء ‪ 1‬والحجرات ‪ )13‬للتسابق في الخيرات (المائدة ‪.)48‬‬‫والتسابق في الخيرات هو السعي إلى الديني في الأديان بأخلاق النظر والعمل في السياسة‬ ‫والعلم والاقتصاد والفن والرؤى بعدم الغفلة عن التعالي‪.‬‬‫وهذا هو درس القرآن للتراث‪ .‬وهو النموذج الذي ينبغي اتباعه بمبدئه المنهجي‬ ‫\"التصديق والهيمنة\"‪ .‬نصدق الصادق من تجارب الإنسانية مع هيمنة الغاية‪.‬‬ ‫‪64 15‬‬

‫القرآن ليس مجرد تراث‪ .‬هو فاعلية حية لمرجعية تنعكس على نفسها لدرس تراث‬ ‫الإنسانية في تجاربها الروحية الشاملة للاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها‪.‬‬‫لذلك‪ ،‬فكل من يستغرب شمول الإسلام للأفعال الخمسة (السياسي والعلمي والاقتصادي‬ ‫والفني والرؤيوي) ما يزال يقيس الإسلام على الأديان الأخرى‪.‬‬‫لكنه لا يقاس عليها‪ ،‬لأنه الديني فيها جميعا وغايتها المثلى‪ .‬معرفا نفسه بكونه الرسالة‬‫الأخيرة التي تصوغه فترده إلى اخلاق النظر والعمل الشاملين‪ .‬والنظر والعمل الشاملين‬‫لا يفصلان بين بعدي الإنسان من حيث هو مستعمر في الأرض ومستخلف فيها‪ .‬بل الإسلام‬ ‫يعتبر الفصل بينهما التحريف الذي يصلحه‪.‬‬‫وهذا هو جوهر نقد تراث الإنسانية بوصفه الفاعلية الشاملة للنظر والعمل وثمراتهما‬ ‫في السياسة والعلم والاقتصاد والفن والرؤى وما وراءها من تعال‪.‬‬‫وهذا هو فعل الوصل الصاعد من الإنسان إلى الله وصدق الرسالة أو بيان أنها الحق‬ ‫(‪ 53‬من فصلت) وذلك هو نظام هذه الأنشطة‪ .‬أي آيات الآفاق والانفس‪.‬‬‫تطابق التواصلين يفيد أن استراتيجية القرآن الناقدة للتراث الروحي وتطبيقها في‬ ‫الأفعال الخمسة والإصلاح‪ ،‬أخلاق لغاية عمرانية اجتماعية بقيم سامية‪.‬‬ ‫والسؤال هو ما الذي جعل ذلك ينقلب رأسا على عقب؟‬‫وما الذي جعل نقد هذه الاستراتيجية القرآنية يظنها الكاريكاتوران مطابقة لانقلابها‬ ‫رأسا على عقب؟‬‫ونقد التراث لدى الكاريكاتورين‪ ،‬التأصيلي مدحا للذات وذما للغرب‪ ،‬والتحديثي للغرب‬ ‫وذما للذات‪ ،‬لم يكن كذلك إلا بسبب عدم الوعي بالانقلاب الحاصل‪.‬‬‫وقد سميت هذا الانقلاب بالانتقال من الدستور القرآن إلى حالة الطوارئ‪ ،‬بسبب الحرب‬ ‫الأهلية الناتجة عن الفتنة الكبرى‪ :‬أباحت الضرورات المحظورات‪.‬‬‫عوضت الحريتان الروحية (العلاقة المباشرة بين المؤمن وربه) والسياسية (العلاقة‬ ‫المباشرة بينه والشأن العام) بما نقده القرآن في التراث الروحي‪.‬‬ ‫‪64 16‬‬

‫استبدلت بالحرية الروحية وساطة كنسية لأصحاب العلوم المزيفة‪ .‬واستبدلت بالحرية‬ ‫السياسية وساطة استبدادية تحكم بالحق الإلهي‪ :‬فسدت التربية والحكم‪.‬‬‫فعادت التراث الذي نقده القرآن‪ ،‬ليصبح هو المؤثر في مجريات الأمور الفعلية‪ .‬وبقيت‬ ‫تعاليم القرآن قيما لا وجود لها إلا في الأذهان ُمثلا غير متحققة‪.‬‬‫بقي الدستور حبرا على ورق‪ .‬وأصبح الحكم الفعلي على سنن الامبراطوريتين اللتين‬ ‫أزاحهما الإسلام والتربية بتقاليدهما‪ .‬فمحيت كلتا الحريتين القرآنيتين‪.‬‬‫لكن كاريكاتور التأصيل يدافع عن هذه التحريفات ظنا أنها الأصل‪ .‬وكاريكاتور‬ ‫التحديث ينتقد المرجعيات غالبا بسوء نية خالطا بينها وبين تحريفاتها‪.‬‬‫وبذلك يتبين خطر درس التراث‪ .‬من دون هذه المقدمات النظرية التي تحرره من‬ ‫تشويهات الكاريكاتورين المادح والذام للتراث الإسلامي المحرف والمشوه‪.‬‬‫فالتأصيلي غافل عن كون القرآن هو بالجوهر درس للتراث الروحي من أجل تخليصه مما‬ ‫يحول دونه وتحقيق وظيفتي الإنسان المستعمر والمستخلف‪ ،‬فينكص لمنقوده‪.‬‬‫لكن التحديثي ليس غافلا‪ .‬بل هو بقصد سيء‪ ،‬يهمل الدرس القرآني للنقد التراثي‬ ‫المحرر للإنسانية من نقيضي الحريتين ويرده إلى تحريفات عصر الانحطاط‪.‬‬‫وحسما للأمر كله‪ ،‬فقد بينت أن علة الانحطاط ليس المرجعية‪ ،‬بل تحريفاته بسبب النقلة‬ ‫من الدستور القرآني إلى حالة الطوارئ في حكم المسلمين وتربيتهم‪.‬‬‫فلنفرض مثلا أن أوروبا بقيت بين الحربين خاضعة لحالة الطوارئ في الحرب الأولى‪،‬‬ ‫لنكصت مثلنا إلى حالها قبل ثورتيها في نظامي الحكم والتربية‪.‬‬‫ونحن نرى بالعين المجردة اليوم كيف أن أمريكا مباشرة بعد ‪ 9- 11‬نكصت في حكم بوش‬ ‫إلى حال مزرية وهي ما تزال في نكوصها وخاصة بعد وصول ترامب‪.‬‬‫التحديد الداخلي والخارجي‪ ،‬وخاصة إذا طال بقاؤه‪ ،‬يؤدي إلى نكوص كل القيم بسبب‬ ‫الخوف والانكماش‪ :‬والأمة عاشت هذه الحالة في تاريخها بعد الراشدين‪.‬‬‫فبعد الصليبيات والمغوليات والحروب الأهلية وتفتت الخلافة إلى سلطنات‪ ،‬غالبها تحت‬ ‫حكم الحاميات المرتزقة‪ ،‬نحمد الله أن الجوهر صمد وهو يستأنف‪.‬‬ ‫‪64 17‬‬

‫ولسوء الحظ أو لحسنه‪ ،‬فالاستئناف يوازي مرحلة أخرى من مغوليات غربية هذه المرة‪،‬‬ ‫وفي نحو ما جامعة بين صليبيات ومغوليات وخيانات داخلية أدهى وأمر‪.‬‬‫لكن تجذر قيم القرآن وتعمق ثقافة العزة وعودة الشباب للطموح بالدور الكوني للأمة‬ ‫وتوسع رقعة الإسلام وتعدد شعوبه‪ ،‬يجعل الاستئناف قويا وأكيدا‪.‬‬‫فمن منا لا يعجب ممن يقرأ القرآن ويرى نقد التراث السياسي للفراعنة يعتبر من‬ ‫الدفاع عن القرآن والحكم بالشرعية الدفاع عن فراعنة العرب وفسادهم؟‬‫ومن منا لا يعجب من قارئ القرآن الذي يرى ما يقوله القرآن حول دور الكنسية في‬ ‫تحريف الدين ويدافع عن سلطة وسيطة بين المؤمن وربه ويسميهم علماء؟‬‫ومنا منا لا يعجب من قارئ للقرآن يقبل ان يسمى من يغتصب الحكم بالانقلاب‪ ،‬ولي أمر‪،‬‬ ‫وهو في الحقيقة مفرط في الأمر لمن يحميه من القوى الاستعمارية؟‬‫ذلك ما أعنيه باستبدال حكم الغياب لحالة الطوارئ بدستور القرآن الذي يحمل بثورتيه‬ ‫المؤمنين مسؤولية ذاته الخلقية ومسؤولية الجماعة السياسية‪.‬‬ ‫‪64 18‬‬

‫وقبل أن أصل إلى انتخاب أمثلة من الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي‪ ،‬لا بد من‬ ‫الكلام في هبل الثاني في فكر من يسمون بالعقلانيين‪ ،‬قديمهم وحديثهم‪.‬‬‫في القسم الأول‪ ،‬قدمت بحثا قديما كتبته في \"الواقع\" الذي هو وثن الحداثيين‬ ‫والتأصيليين من النخبة العربية‪.‬‬ ‫وأمر الآن إلى وثنهم الثاني \"العقل\"‪.‬‬‫وسأبدأ بمفهومه القرآني الذي هو أسمى تصور للعقل عرفته البشرية‪ .‬لأنه يجمع بين‬ ‫دلالتي الفهم بمعنى ملكة الفهم المعرفية‪ ،‬وملكة التقويم الخلقية‪.‬‬‫لست صاحب هذا الفهم‪ .‬فالمحاسبي بين ذلك أفضل مني‪ .‬وابن خلدون عمق المعنى‪،‬‬ ‫فأضاف وسطا بينهما‪ :‬فبين التمييزي والتجريبي‪ ،‬أو الخلقي وضع النظري‪.‬‬‫ولتيسير نظرية ابن خلدون‪ ،‬فالتمييزي للتصور والنظري للتصديق بلغة أرسطو‬ ‫المنطقية‪ .‬أي الأول للباب الثاني‪ ،‬والثاني للباب الأول من التحليلات الأواخر‪.‬‬‫أما التجريبي في وصف ابن خلدون‪ ،‬فيعني ما نعنيه الآن بالعقل العملي الذي ينتج عن‬ ‫التجربة في الجماعة‪ ،‬لاستبطان أخلاقها الموضوعية تصورا وسلوكا‪.‬‬‫والنظري في الفكر القديم والوسيط‪ ،‬فهو ذو الوسط الواصل بين تال ومقدم‪ .‬أو هو‬ ‫المعرفة غير المباشرة لاعتمادها على علاقة منطقية بين مقدمة ونتيجة‪.‬‬‫ويقابلونه عادة بالضروري أو المعرفة المباشرة التي تتعلق بمدارك التصورات البسيطة‪،‬‬ ‫والتي منها يتركب النظري بحد أوسط بين حدين معرفة غير مباشرة‪.‬‬‫هذه التعريفات ضرورية لفهم الاخطاء السائدة في تصور العقل وقدراته المعرفية المبالغ‬ ‫فيها‪ ،‬للظن بأن \"الواقع\" ينعكس عليه انعكاس الصور على المرآة‪.‬‬‫فحتى أرسطو‪ ،‬وهو من هو‪ ،‬كان يعتقد أن العلم يحصل بهذا الانعكاس الذي لا يشوبه‬ ‫إلا عدم التدقيق الاصطلاحي للحدود وعدم السلامة المنطقية للاستنباط‪.‬‬ ‫‪64 19‬‬

‫ورغم ذلك‪ ،‬فهو لا ينكر الأمرين اللذين كان ينبغي أن يحدا من هذين الوهمين‪:‬‬ ‫‪ -‬الأول أن اثباته لما يسمى مبادئ العقل كان جدليا في الميتافيزيقا‪.‬‬‫‪ -‬والثاني هو الظن بأن الحاجة إلى قطع التسلسل وإيقاف الدور في المبادئ الاولية‬ ‫للمعرفة‪ ،‬حجة كافية للتسليم بأن سدها يتجاوز فرضية الانطلاق العملية‪.‬‬‫فلا شيء يثبت أن ما يثبت جدليا وما يسلم لحاجة الانطلاق في الاستدلال‪ ،‬كافيان لجعله‬ ‫من الحقائق الضرورية وليس من الفرضيات العلمية لكل صناعة‪.‬‬‫ومجرد فهم ذلك‪ ،‬يجعل هذه المسلمات التي صارت تعد حقائق مطلقة ليست إ ّلا أدوات‬ ‫عمل تتغير بحسب العمل والغاية منه‪ ،‬ومستوى تعقده وطابعه غير المباشر‪.‬‬‫والتصريح بهذه الحقيقة العميقة‪ ،‬هي التي حببتني في ابن تيمية‪ :‬فهو أول من نفى‬ ‫إطلاق مقدمات المعرفة وبيّن أنها إضافية مرتين‪ :‬للمخاطب وللغاية‪.‬‬‫ومعنى ذلك‪ ،‬أنه يعتبر تأسيس المعرفة الإنسانية لا يتجاوز التأسيس الجدلي‬ ‫البراجماتي‪ ،‬ولا يحتاج لما يظن حقائق أولية لا جدال في حقيقتها المطلقة‪.‬‬‫بعبارة أوجز‪ ،‬يعتبر ابن تيمية ما يسمى بالأوليات أو بالمعرفة الضرورية الغنية عن‬ ‫الدليل‪ ،‬فرضيات إضافية للمخاطب بها وللغاية المعرفية منها لا غير‪.‬‬‫وحجته لا تقبل الدحض‪ :‬فهو يرى أن كل تصور قابل للتجويد بلا حد‪ ،‬وأن كل نتيجة‬ ‫علمية تقتضي وجود مقدمة كلية‪ .‬ولا كلية في اي علم ذي موضوع وجودي‪.‬‬ ‫فالكليات العلمية عنده مقصورة على نوعين من المعرفة‪:‬‬‫‪ -‬الأولى هي معرفة المقدرات الذهنية وهي ليست علما لموضوع موجود بل مصفوفة رمزية‬ ‫خاوية‪.‬‬‫‪ -‬والثانية هو الكليات الاعتقادية في الأديان وهي إيمانية لا علمية وهي أحكام تشريعية‬ ‫تتعلق بالمنشود وليست حقائق للموجود‪.‬‬‫وهذه المصفوفة الرمزية الخاوية‪-‬رياضية ومنطقية‪-‬تصبح علما لموضوع معين عندما تملأ‬ ‫خاناتها الخاوية بمضمون معين مستعد من التجربة وهي إحصائية‪.‬‬ ‫‪64 20‬‬

‫ذلك أن أي موضوع موجود في الأعيان‪ ،‬لا متناهي الصفات والتنوع‪ .‬ولا يمكن لأي‬ ‫استقراء أن يكون تاما في الوجود الفعلي‪ .‬بل يقتصر على المقدرات الذهنية‪.‬‬‫وإذن‪ ،‬فالمباشر من المعرفة لا متناه على الأقل كإمكان عقلي‪ ،‬لأن التصور قابل للتجويد‬ ‫اللامتناهي وغير المباشر بملء المصفوفة الذهنية استقراء ناقص‪.‬‬‫لذلك فإني اعترف بأني لا ارى سبيلا ممكنة لوصف الحداثيين العرب فلاسفة الإسلام‬ ‫التقليديين والمتكلمين عامة‪ ،‬والمعتزلة خاصة‪ ،‬بكونهم عقلانيين‪.‬‬‫وإذا كنت أنفي عقلانية الفلاسفة والمتكلمين التي يدعيها لهم التحديثيون العرب‪ ،‬فمن‬ ‫باب أولى أن أنفي كلام التأصيليين على المعلوم من الدين بالضرورة‪.‬‬‫لن أجادل تأصيليا يقول لي إني أومن بأن المعتقد كذا أو كذا ضروريا في منظومتي‬ ‫المرجعية‪ ،‬بمعنى أني لا أستطيع التسليم بما يبنى عليه من دونه‪.‬‬‫لكني لا أفهم \"المعلوم من الديني بالضرورة\"‪ ،‬فهو بهذا يتسلم مفهوم العقل الفلسفي‬ ‫والكلامي القائل بما بينا أنه ليس ضروريا‪ ،‬بل حاجيا في معرفة ساذجة‪.‬‬‫واسمي معرفة ساذجة كل معرفة تتصور الوجود شفافا والعقل نفاذا لحقيقته‪ ،‬بصورة‬ ‫تجعله مرآة تنعكس عليها الحقائق ناصعة كما تصورها خالقها أو طبيعتها‪.‬‬‫المعرفة \"العقلية\" نسبية جدا‪ .‬وهي أداة عملية تطبق مقدرات ذهنية صيغت في بنية‬ ‫رمزية بخانات خاوية نملؤها عند التطبيق بتصورات نسبية لموضوع معين‪.‬‬‫فتطبيق الرياضيات في الفيزياء أوفي الاقتصاد‪ ،‬يكون بملء خانات منظومة المقدرات‬ ‫الذهنية التي تمثلها حروف بينها وصلات منطقية بقيم الموضوع العيني‪.‬‬‫ولما كانت القيم التي تعبر عن الموضوع المدروس تجريبية أو فرضية‪ ،‬وبها تشحن خانات‬ ‫البنية الرمزية التي هي مقدرات ذهنية‪ ،‬فإن العلم احصائي دائما‪.‬‬‫وذلك دليل قاطع على أن العقل العلمي واع بحدوده ولا يدعي العلم المطلق الذي‬ ‫يتطابق فيه ما في الأذهان من تقديرات مع ما في الأعيان من موجودات‪.‬‬‫بوسعي الآن أن أتكلم على ما وصفته بالعلوم الزائفة‪ ،‬أعني كل ما بني على \"وثن\" العقل‬ ‫في علم الكلام والفلسفة(النظر) وعلى الفقه والتصوف (العمل)‪.‬‬ ‫‪64 21‬‬

‫فهذه \"العلوم\" بنيت على تصور غفل للمعرفة العلمية‪ ،‬أساسها القول بنظرية المعرفة‬ ‫المطابقة التي تعتبر العقل مرآة عاكسة \"للواقع\" الشفاف لنفاذه‪.‬‬‫والدين بريء من هذا الوهم‪ .‬لأنه يعتبر كل موجود فيه وجه شاهد ووجه غيبي‪ .‬ومن‬ ‫ثمّ‪ ،‬فحقيقة الوجود في الأعيان لا يمكن أن ترد إلى تصورها في الأذهان‪.‬‬‫وهذا التصور الديني للمعرفة‪ ،‬متقدم جدا على أوهام المتكلمين والفلاسفة والفقهاء‬ ‫والمتصوفة‪ .‬وهوما يقول به ثالوث المدرسة النقدية المذكور في بحوثي‪.‬‬‫فالغزالي وابن تيمية وابن خلدون ثلاثتهم ينفي أن يرد الوجود إلى الإدراك حتى وإن‬ ‫بقي عندهم وهم إدراك ذوقي يتجاوز المعرفي كما في وجدان الزهاد‪.‬‬‫وإذا كان الغزالي قد لجأ اليه ظنا أنه يشفي غليله المعرفي‪ ،‬فإن ابن خلدون نفى كل‬ ‫إمكانية لقول ما يدركه الوجدان‪ .‬وإذن فهو لا يمكن أن يكون معرفيا‪.‬‬‫وابن تيمية متردد في ذلك‪ .‬فإذا أبقى على القول بلا تناهي تجويد التصور وامتناع‬ ‫المعرفة الكلية للموجود الفعلي‪ ،‬فإنه لا يمكن أن يغامر كالغزالي‪.‬‬‫ولعله يقصر هذا الذوق المتجاوز للعقلي على الأنبياء الذين يتلقون الوحي‪ .‬ومثله ابن‬ ‫خلدون الذي استثني الأنبياء من عدم القدرة على قول الوجداني‪.‬‬‫وبهذا المعنى‪ ،‬فالكلام على عقلانية المعتزلة وابن رشد غايتين لعقلانية كاريكاتور‬ ‫التحديث لدى النخب العربية من مهازل الأمية الفلسفية المسيطرة‪.‬‬‫لذلك‪ ،‬فنقدة التراث كلهم من هذا الرهط أو من الكاريكاتور الثاني الذي استبطن‬ ‫أوهام الحداثيين في ردوده عليهم‪ ،‬ردودا سندها الفلسفي من نفس الجنس‪.‬‬‫وأختم الفصل بالكلام على أصل هذه العلوم الزائفة‪ ،‬لكونه يظن علما بمرجعياته‪ .‬اي‬‫القرآن والسنة‪ :‬أعني التفسير‪ .‬فالتفسير كله مبني على هذه الأوهام‪ ،‬وخاصة التفاسير‬‫التي تدعي العقلانية‪ ،‬أعني الاعتزالية وحتى الأشعرية المتأخرة (ورمزها الرازي)‪ .‬هي‬ ‫تفاسير مبينة على نظرية المعرفة الساذجة كما وصفت‪.‬‬‫وقد يعجب الكثير لو قلت إن هذه التفاسير المزعومة عقلانية دون التفسير بالأثر‬ ‫وبالحديث‪ .‬لأن هذه على الأقل متواضعة ولا تدعي يتجاوز الفهم النصي‪.‬‬ ‫‪64 22‬‬

‫والفهم النصي مع التاريخ‪ ،‬هما التعليم السوي للعقائد الإيمانية دون زعم تجربة علمية‬ ‫تنفي شرط الإيمان والتجربة الروحية بعقلانية ضميرها نفي الغيب‪.‬‬ ‫‪64 23‬‬



‫والضرب الأول يقول بفعلين إلهيين هما أساس الطبائع وأساس الشرائع‪ ،‬أي العالم‬ ‫الطبيعي والعالم التاريخي وهما فعل الخلق‪-‬والإعدام والأمر‪-‬والنهي‪.‬‬‫والضرب الثاني ينفي الفعلين‪ ،‬ويعتبر الإيجاد والإعدام والأمر والنهي كلها أفعال‬ ‫الطبيعة أو الصدفة‪ ،‬وليس وراءها رب خالق للطبيعة والتاريخ وشارع لهما‪.‬‬‫وبذلك يتبين أن نظرية الرب لا تعدو أن تكون أحد هذين الضربين اللذين هما موقف‬ ‫واحد من وجهيه الموجب والسالب مما وراء نظام الطبيعة والتاريخ‪.‬‬‫وهذه هي الإشكالية الجوهرية المشتركة بين الدين والفلسفة‪ ،‬لأنها في الحالتين شرط‬ ‫تأسيس النظر والعمل أو العلم والأخلاق في تراث الإنسان الحضاري‪.‬‬‫والثيولوجيا اثباتا ونفيا للرب الخالق والآمر‪ ،‬تنتج عن انثروبولوجيا قائلة بما في فصلت‬ ‫‪ 53‬أو مستغنية عنه اقتصارا على التولد الطبيعي والصدفة‪.‬‬‫وبذلك يكون مفهوم الانثروبولوجيا (نظرية الإنسان) منطلق كل فكر في الأبعاد الأربعة‬ ‫الباقية‪ ،‬أي في الرب والطبيعة والتاريخ والوصل بين العناصر‪.‬‬‫ولا بد أن كل من قرأ القرآن بتدبر‪ ،‬قد وجد أن العلاقة بين القطبين الرب والإنسان‬ ‫هي المحور الرئيس في القرآن الذي يدرس التراسل بينهما قولا وفعلا‪.‬‬‫وأقصد بالإنسان هنا الفرد والجماعة في آن‪ .‬لذلك جاء في سورة العصر أن الاستثناء من‬ ‫الخسر يجمع بين فعلين فرديين وفعلين مشتركين‪ ،‬واصل يوحد بينها‪.‬‬‫فالإيمان والعمل الصالح فعلان فرديان لا مشاركة فيهما‪ .‬والتواصي بالحق والتواصي‬ ‫بالصبر‪ ،‬مشاركة في فعلين جمعيين‪ .‬والأصل طلب الاستثناء من الخسر‪.‬‬‫وأهمية العلاقة بين قطبي المعادلة‪ ،‬مباشرة كانت أو غير مباشرة‪ ،‬تبرز من أسماء الله‬ ‫الحسنى وما يناظرها من أسماء الإنسان المتأرجحة بين الحسن والقبح‪.‬‬‫وهذا التأرجح بين الحسن والقبح هو مجال ممارسة الحرية الإنسانية‪ ،‬التي تضفي معنى‬ ‫على التمييز بين الخلق والأمر‪ :‬الحرية هي أن المأمور يطيع أو يعصي‪.‬‬‫وتلك علة التمييز بين الربوبية والألوهية عند المؤمنين‪ ،‬لكن الملحدين ينفون الرب فضلا‬ ‫عن الإله لأن البديل هو الطبيعة أو الصدفة وتربب الإنسان‪.‬‬ ‫‪64 25‬‬

‫ولنكتف بالمقابلة بين الصفات الخمس‪ :‬الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود‪ .‬كلها‬ ‫مطلقة وكاملة إذا وصف بها الله‪ .‬ونسبية وناقصة إذا وصف بها الإنسان‪.‬‬‫وبهذا المعنى‪ ،‬فالصفات التي تشتق منها أسماء الله الحسنى قابلة للرد إلى هذه الصفات‬ ‫الخمس‪ .‬والصفات التي تشتق من وصف القرآن للإنسان‪ ،‬ترد إليها‪.‬‬‫والفرق الوحيد هو اطلاقها وكمالها في وصف الله‪ ،‬ونسبيتها ونقصها في وصف الإنسان‪:‬‬ ‫مثلا الله فعال لما يريد‪ ،‬والإنسان لا يستطيع أن يفعل كل ما يريد‪.‬‬‫وهذا التطابق في الصفات والاختلاف في تكييفها ليس كميا فحسب‪ :‬فصفة القدرة مثلا لا‬ ‫تختلف كميا‪ ،‬بل كيفيا من جنس اختلاف الزمان مع الدهر أو السرمد‪.‬‬‫وبصورة أوضح ليس اللامتناهي قدرا أكبر من المتناهي‪ ،‬بل هو طبيعة ثانية مختلفة‬ ‫تماما‪ .‬لأن الأكبر يبقى قابلا للإحاطة به‪ ،‬أما اللامتناهي فلامحدود‪.‬‬‫ومع ذلك فمبدأ ليس كمثله شيء يعني أن المماثلة الحاصلة في بادئ الرأي‪ ،‬هي في نسبة‬ ‫الرمز إلى المرموز‪ :‬وهو معنى آية‪ .‬أي إنها رمز ما هي آيته‪.‬‬‫وإذن وخاصة في هذه الصفات الخمس‪ ،‬يمكن القول إن الإنسان رمز أو آية تشدنا إلى‬ ‫ذات الله وصفاته بما يشبه العينة المتناهية من اللامتناهي الإلهي‪.‬‬‫ولعل هذا هو المعنى العميق للاستخلاف‪ :‬الإنسان من حيث هو إنسان خليفة بمعنى خلافة‬ ‫الرمز للمرموز‪ .‬ولأضرب مثالي نظرية رمز الفعل وفعل الرمز‪.‬‬‫فالعملة (رمز الفعل) ليس فيها شيء مما ترمز إليه‪-‬ورقة أو قطعة نقدية‪-‬ترمز لقدرة‬‫شرائية ليست من طبيعة الورقة أو القطعة بل هي ما ترمز إليه وفي حدود سريان فاعليتها‪.‬‬‫فهي ترمز إلى كل ما يمكن شراؤه بها مما يحتاج إليه الإنسان من بضائع وخدمات‪ ،‬فتكون‬ ‫آيتهما في جيب مالكها في نطاق سريانها‪.‬‬‫وفعل الرمز أو الكلمة‪ ،‬تؤدي معنى هي آيته أو رمزه لكنها ليست معنى‪ .‬بل آية معنى أو‬‫حامل معنى‪ ،‬وخليفته عند المرسل والمرسل إليه في التواصل اللساني والمعنى الواحد يقال‬‫بعدة ألسن‪ ،‬فإنه يكون متعدد الرموز أو الآيات الدالة عليه دون أن تكون إياه‪ .‬ولولا‬ ‫ذلك‪ ،‬لاستحال التواصل بين الشعوب بالترجمة‪.‬‬ ‫‪64 26‬‬

‫لذلك قالت فصلت ‪ 53‬إن الله يرينا حقيقة القرآن في آياته بظهورها في الآفاق (الطبيعة‬ ‫والتاريخ والنفس) في الأعيان وفي الأذهان (نفسها في النفس)‬‫استخلاف الإنسان يعني أنه آية ترمز إلى المطلق دون أن تكون مماثلة له‪ .‬لأنها من آيات‬ ‫ظهوره وهي الأسمى بمنطوق القرآن من كثير مما خلق الله‪.‬‬ ‫المعادلة‪:‬‬ ‫‪ .1‬الله قطب أول‬ ‫‪ .2‬العالم الطبيعي وسيط أول‬ ‫‪ .3‬التاريخ وسيط ثان‬ ‫‪ .4‬الإنسان قطب ثان‬ ‫‪ .5‬الوصل الصاعد (أفعال الإنسان) والنازل (الرسالة)‪.‬‬‫تلك موضوعات القرآن مشفوعة بعودته على ذاته ليعرفها بكونها رسالة متعلقة بنقد ما‬ ‫حصل فيها من تحريف وما ينبغي تحقيق الإصلاح فيه رسالة خاتمة‪.‬‬‫ويمكن اعتبار هذا الوصف تعريفا جامعا مانعا للقرآن إذا اقتصرنا على مضمونه ولم‬ ‫ننظر في وظيفته‪ :‬فنقدها كتجارب روحية وتاريخية‪ ،‬يمهد لتحقيق الرسالة‪.‬‬‫والرسالة تتحقق بالإرادة (السياسة‪ :‬الحكم والتربية) والمعرفة (الابداع العلمي)‬ ‫والقدرة (الانتاج المادي) والحياة (الانتاج الرمزي) والوجود (الرؤى)‪.‬‬‫وإذن‪ ،‬فما تتحقق به الرسالة‪ ،‬هو الصفات الإنسانية النسبية والناقصة في خدمة مقومي‬ ‫ذات الإنسان بما هو رمز من المطلقة والتامة‪ :‬تعمير الأرض كخليفة‪.‬‬‫وكون صفات الإنسان الخمس رمزا لصفات الله الخمس بالتقابل الوارد في القرآن‪ ،‬والذي‬ ‫شرحته هنا‪ ،‬لا يخص الفرد كفرد فحسب‪ .‬بل كمنتسب للإنسانية ككل‪.‬‬‫وينتج عن كلامنا على العلاقة بين الرمز والمرموز‪ :‬فلا يوجد رمز قادر على ان يرمز من‬ ‫دون انتسابه لمجموعة رموز‪ ،‬لأن رامزيته هي منزلته في النظام‪.‬‬‫فرمز الرمز لمرموزه ينتج عن تناظر نظامين رامز ومرموز لموضعين في التواصل‪ ،‬مرسلة‬ ‫ومرسل إليها‪ ،‬حتى لو كانت واحدة فالدلالة بالتناظر بين وجهي الترميز‪.‬‬ ‫‪64 27‬‬

‫فانتباه المرسل والمرسل إليه متوجه للمنظومتين ليكتشف مدلول الرمز باكتشاف منزلته في‬ ‫نظامه الرامز‪ ،‬ويستنتج منها منزلة المدلول في نظامه المرموز‪.‬‬‫وهنا المرسل ليس كمثله شيء‪ .‬إذن شرط التواصل يبدو شبه معطل‪ .‬فالمرسل يرسل‬ ‫بقيس المرسل إليه على نفسه‪ .‬والمرسل إليه يتلقى بقيس المرسل على نفسه‪.‬‬‫لا تفاهم بدون التنقل بين الموضعين من المرسل إلى المرسل إليه في الإرسال‪ .‬والعكس في‬ ‫التلقي ضمن الجماعة المتواصلة‪ .‬وهذا مستحيل مع الله لما بيّنا‪.‬‬‫لذلك كان أسلوب الرسالة القرآنية وكأنه مشبه لو لا حرز ليس كمثله شيء‪ .‬لذلك كان‬ ‫أسلوب الكلام‪ :‬إما التشبيه الحشوي أو النفي المعطل التنزيهي‪.‬‬‫ولا وساطة بين هذين التحريفين الصادرين عن علاقة الرمز والمرموز وتوسط التناظر‬ ‫بين المتراسلين‪ .‬لكن فهمها يحررنا منهما وتغنينا عن التأويل‪.‬‬‫حقيقة العلاقة بين الرمز والمرموز كمنزلتين في نظامين رمزي ومادي بين طرفين لا‬ ‫يتواصلان إ ّلا بأداء كل منهما الدورين في آن‪ ،‬تغني عن التأويل‪.‬‬‫لكن إذا اعتبرنا أن الله يتواصل معه بأساليب التواصل بين البشر مع \"ليس كمثله\" شيء‪،‬‬ ‫فهمنا أن المتعالي لا يرد إلى تجلياته أو آياته‪ :‬أساس العبادة‪.‬‬ ‫‪64 28‬‬

‫كل ما أوردناه لا يتجاوز الكلام على عالم الشهادة‪ ،‬مستثنين ما اعتبره القرآن من الغيب‬‫كما نبين‪ .‬واتبعنا مبدأ فصلت ‪ 53‬باستعمال المعادلة الوجودية‪ .‬لكن المعادلة تؤدي دورين‬‫آخرين في الفكر الديني‪ .‬أعني أدلة وجود الله وتحديد علوم الملة الرئيسية‪ .‬وكلاهما‬ ‫حصر بعدة أوجه نعتبر نسقيتها ضعيفة‪.‬‬‫وقد أجمل هيجل الأدلة في ضميمة دروسه في فلسفة الدين‪ ،‬وقد ترجمناها مع الدروس‬ ‫لكن تصنيفه يختلف عن تصنيف لايبنتس وعن تصنيف ابن رشد والمتكلمين‪.‬‬‫أما علوم الملة‪ ،‬فهي متغيرة من ملة إلى ملة ولم تصنف بصورة نسقية‪ .‬بل هي حصيلة‬ ‫تطور تاريخي لا يمكن أن يعتبر ذا نسقية عقلية مناسبة للبحث العلمي‪.‬‬‫سأخصص هذا الفصل السادس لهاتين المسألتين لأستوفيهما حقهما‪ ،‬استعدادا لمناقشة بعض‬ ‫الامثلة من درس التراث الكاريكاتوري‪ ،‬تأصيليا كان أو تحديثيا‪.‬‬ ‫وابدأ بالمسألة الأولى‪ :‬ادلة وجود الله بالأولى التي يقول بها القرآن‪.‬‬ ‫وهي بعدة عناصر المعادلة الوجودية وأصلها قلبها‪ .‬أي الوصل بين هذه العناصر‪.‬‬ ‫الأدلة‪:‬‬ ‫‪ .1‬يستمد من مفهوم القطب الأول‬ ‫‪ .2‬ومن مفهوم القطب الثاني‬ ‫‪ .3‬ومن مفهوم الطبيعة‬ ‫‪ .4‬ومن مفهوم التاريخ‬ ‫‪ .5‬والأخير وهو الأصل من الوصل بينها‬‫وبعض هذه الأدلة لها أسماء معلومة‪ ،‬وبعضها الأخر لا وجود للاسم ولا للمسمى‪ .‬وما‬ ‫يعنيني هو أن التسميات تبدو عديمة الصلة بعضها بالبعض شبه تحكمية‪.‬‬ ‫‪64 29‬‬

‫فالمستمد من مفهوم الإله يسمونه الدليل الوجودي ‪ .Ontologique‬والمستمد من‬ ‫الطبيعة ونظامها يسمونه الدليل الطبيعي اللاهوتي ‪.Physicothéologique‬‬‫وبسبب الدليل الرابع المستمد من مفهوم الإنسان‪ ،‬لم تبرز العلاقة بينه وبين الوجودي‪،‬‬ ‫وبقي الطبيعي والخلقي غير واضحي العلاقة‪ .‬متماثلة بين الزوجين‪.‬‬‫فالدليل الوجودي ممتنع من دون المقابلة بين المفهومين الله والإنسان‪ .‬ومفهوم الكمال‬ ‫والوجود منه يؤسس للدليل الوجودي لأن المقابلة مع عدمه أصله‪.‬‬‫وعي الإنسان بعدم كماله يجعله يفترض الكمال موجودا ومتضمنا للوجود ضرورة‪،‬‬ ‫فيطبقه على الله‪ .‬ومنه الدليل الوجودي أي استنتاج الوجود من الكمال‪.‬‬‫ديكارت اكتشف الوصل بين وعي الإنسان بعدم كمالة ومفهوم الكمال‪ ،‬ولم ير العلاقة‬ ‫بين هذه العلاقة وتأسيس الدليل الوجودي على الكمال في مفهوم الله‪.‬‬‫وهذه اضافتنا للدليل الوجودي الذي هو دليل مضاعف أو مركب على نحو لم يره‬ ‫المتكلمون‪ ،‬بدليل وجوب الوجود واونسالم بالدليل الوجودي غير المؤسس‪.‬‬‫وأهمية هذه العلاقة أنه تنطبق على علاقة الدليل الطبيعي اللاهوتي بالدليل الخلقي‬ ‫اللاهوتي‪ .‬والأساس علاقة التاريخ والحرية بالطبيعة والضرورة‪.‬‬‫وهنا نجد نفس العلاقة بين الإنسان والله‪ ،‬لكنها معكوسة‪ :‬تناظر بين الأول علاقة كمال‬ ‫الله بنقص الإنسان والثاني‪ ،‬علاقة حرية الإنسان بضرورة الطبيعة‪.‬‬‫والأدلة الفرعية اثنان لا أربعة‪ ،‬لأن الدليل الوجودي يتأسس على علاقة كمال الله‬ ‫بنقص الإنسان‪ ،‬والسببي على علاقة حرية الإنسان بضرورة الطبيعة‪.‬‬‫والأصل هو التجربة الروحية والفعلية التي تصل هذه الفروع الأربعة‪ ،‬أعني الوصل بين‬ ‫شرطي العلاقتين‪ -1 :‬المباشرة الله والإنسان‬ ‫‪-2‬غيرالمباشرة بينهما‬‫والعلاقة الأولى بين الله والإنسان واضحة العلاقة‪ ،‬مع صلة الوعي بالنقص‪ .‬وشرطه‬ ‫الوعي بالكمال‪ .‬وقد اكتفيت ببيان صلتها الخفية بالدليل الوجودي‪.‬‬ ‫‪64 30‬‬

‫لكن العلاقة الثانية تحتاج إلى توضيح‪ :‬فصلة الوعي بالحرية‪ ،‬شرطه الوعي بالضرورة‪.‬‬ ‫فالوعي بالحاجة إلى شرع‪ ،‬هو الوعي بضرورة تنظيم ما ليس بالطبع‪.‬‬ ‫وإذن فأدلة وجود الله زوجين اثنين مضاعفين‪:‬‬ ‫‪ -‬الوعي بالنقص يقتضي الوعي بالكمال‪.‬‬ ‫‪ -‬والوعي بالضرورة يقتضي الوعي بالحرية‪.‬‬ ‫والأساس في الحالتين الإنسان‪.‬‬‫لكن هذا الوعي المربع ‪-‬جوهر كيان الإنسان‪-‬هو عين عيش تجربة الإنسان الروحية‬ ‫والفعلية بوصفها وصلا بينه وبين ما وراء ذاته والطبيعة والتاريخ‪.‬‬‫أصل أدلة وجود الله أبعاد وجود الإنسان أو الدليل على وجود الله آيته الأسمى‪ ،‬أي‬ ‫خليفته الذي يدرك الكمال بنقص خلقته وحرية أمره‪ :‬الخلق والامر‪.‬‬‫وبإدراك هذه العلاقات‪ ،‬نفهم بيسر كل أدلة القرآن على وجود الله وكلها من الشاهد‬ ‫وليست قيسا للغيب على الشاهد ولا تأويلا يرد النقلي للعقلي‪.‬‬ ‫فنحقق غايتين‪:‬‬‫‪-1‬تجاوزعلم الكلام الإسلامي واللاهوت المسيحي‪ ،‬لأنهما كليهما يخلوان من إدراك هذه‬ ‫العلاقات‬ ‫‪ -2‬وندرك عمق نسق القرآن الاستدلالي‬‫نسق الاستدلال القرآني مطلق الاختلاف عن علم الكلام‪ .‬فالكلام علم زائف لاعتماده‬ ‫على قيس الغيب على الشاهد‪ ،‬ولرده ما يتجاوز العقل بالتأويل إليه‪.‬‬‫وسندرس العلوم الزائفة فنعرض رأي المدرسة النقدية العربية‪ ،‬ثم نبين علل زيفها بعد‬ ‫التحرر من وهم احيائها بتحديد علوم الملة ذات الأساس القرآني‪.‬‬‫إلى المسألة الثانية‪ :‬كيف نستنتج من المعادلة الوجودية القصد بالأسس القرآنية لعلوم‬ ‫الملة والمنافية لوهم الاعجاز العلمي أساس كل العلوم الزائفة؟‬‫ولنبدأ بالأيسر‪ :‬فالقرآن لا يقدم لنا قوانين الطبيعة المفصلة‪ ،‬لكنه يحدد طبيعتها‬ ‫الكلية‪ .‬فكل المخلوقات ذات بنية رياضية بنص القرآن‪ .‬ما معنى ذلك؟‬ ‫‪64 31‬‬

‫إذا كان كل شيء خلق بقدر‪ ،‬وكانت المخلوقات مختلفة‪ ،‬فأقدارها مختلفة‪ .‬وإذا كانت مع‬ ‫ذلك متاحبة في الوجود‪ ،‬فلا بد أن بين الأقدار علاقات تمكن منه‪.‬‬‫هذا ما يقوله القرآن عن الطبيعة من حيث الخلقة‪ :‬كل شيء كيانه بقدر‪ ،‬ومنظومتها‬ ‫تناسق بين كيانات رياضية الكيان‪ :‬قوانين قيامها وتفاعلها رياضية‪.‬‬‫فإذا جمعنا ذلك مع فصلت ‪ ،53‬نستنتج أن آيات الله في الآفاق والأنفس التي نعلم بها‬ ‫حقيقة القرآن‪ ،‬قوانين رياضية يطلبها البحث العلمي من الآفاق‪.‬‬‫وإذن‪ ،‬فعلوم الطبيعة أو اكتشاف قوانينها‪ ،‬لا توجد في نص القرآن‪ .‬بل فيما وجه إليه‬ ‫نص القرآن عقولنا للبحث عنها مقتصرا على تحديد طبيعتها الرياضية‪.‬‬‫هذا من حيث خلقتها‪ ،‬أما من حيث وظيفتها في حياة الإنسان‪ ،‬فهو يعلمنا بأنها تحتوي على‬ ‫شروط بقاء الإنسان بشرط رعايتها وحفظها من الفساد في الأرض‪.‬‬‫ولما كان التاريخ يتضمن بعدا طبيعيا مع بعد متجاوز له‪ ،‬فإن رياضية الكيان لا تكفي‪.‬‬ ‫ولذلك يضيف القرآن تحديد طبيعة الزيادة فيها‪ :‬السنن الخلقية‪.‬‬‫وهو يعتبر هذه السنن المتعلقة بالحرية في التاريخ الإضافية للضرورة الطبيعية‪ ،‬هي‬ ‫بدورها لا تقبل التبديل والتحويل‪ .‬والعلم بها شرط قيام العمران‪.‬‬‫وتتعلق هذه السنن بشروط التبادل والتواصل بين البشر أولا‪ ،‬ثم بينهم وبين الطبيعة‬ ‫ثانيا‪ .‬وثم بينهم وبين ما وراء الطبيعة والتاريخ‪ .‬أي كل المعادلة‪.‬‬‫وهذه السنن تتعلق باستعمار الإنسان في الأرض واستخلافه فيها‪ ،‬وهما محكومان بالتقابل‬ ‫الوارد في أمثولة الاستخلاف‪ :‬راي الملائكة في آدم أو تجنبه‪.‬‬‫والتاريخ يثبت أن هذه السنن فعلا لا تتبدل ولا تتغير‪ .‬وسلوك الإنسان الحر يخضع‬ ‫لسنن خلقية موجبه بتجنب سفك الدماء والفساد في الأرض أو باتباعهما‪.‬‬‫ويكاد هم الرسالة الأول والغالب‪ ،‬ينصب على هذا المستوى الثاني من السنن‪ .‬إذ المستوى‬ ‫الأول من القوانين الرياضية يعمل بالضرورة لا بالاختيار الحر‪.‬‬‫ليس في القرآن علم بجزئيات الطبيعة والتاريخ وبقوانين محددة‪ ،‬بل هي تحديد‬ ‫لرياضية الطبائع المضطرة ولسننية الشرائع السياسية الخلقية الحرة‪.‬‬ ‫‪64 32‬‬



‫والكلام في هذه التحريفات الناتجة عن كاريكاتور التحديث‪ ،‬سنبحث فيها عند الكلام‬ ‫على الأمثلة التي سنضربها والتي تبين صدق شيخ الإسلام ابن تيمية‪.‬‬‫فنصف المتكلم يفسد الأديان‪ .‬ونصف الفقيه البلدان‪ .‬ونصف الطبيب الابدان‪ .‬ونصف‬ ‫اللغوي اللسان‪ .‬ونحن نثبت أن نصف الفيلسوف يفسد الفرقان والوجدان‪.‬‬‫بقي علم الوصل القرآني أصل كل العلوم‪ :‬تفسير القرآن الكريم‪ :‬إدراك وحدة القرآن‬ ‫ومشروعه بوصفه استراتيجية استعمار الإنسان في الارض واستخلافه فيها‪.‬‬‫وبهذا المعنى‪ ،‬فاستراتيجية الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها‪ ،‬هي منظومة القوانين‬ ‫والسنن التي تحقق شروطهما‪ ،‬وتحقق وحدة الإنسانية بأخلاق القرآن‪.‬‬ ‫‪64 34‬‬

‫بينا علاقة المرجعية بالتراث أصلا له‪:‬‬ ‫‪ .1‬فالقرآن سلبا درس نقدي لتراث الإنسانية الروحي والتاريخي‪.‬‬ ‫‪ .2‬وهو إيجابا مشروع مستقبلي لتوحيد الإنسانية‪.‬‬‫وبينا امكانية استخراج أسس كل أجناس التراث بحسب الأفعال الخمسة (السياسي‬ ‫والعلمي والاقتصادي والفني والرؤيوي) من المعادلة الوجودية دون تفاصيلها‪.‬‬‫وأثبتنا أن الأسس تتعلق بالمابعد المؤسس للطبائع والشرائع‪ ،‬ولمناهج تحقيق الأفعال‬ ‫الخمسة فيهما‪ ،‬شرطين لقوام الإنسان مستعمرا ومستخلفا في الأرض‪.‬‬‫وهذا المابعد ليس ما بعد طبيعة بل هو ما بعد أخلاق أو ما بعد تاريخ كوني‪ ،‬يشمل‬ ‫الوجودين الدنيوي والأخروي بمقتضى المعادلة الوجودية كما عرضناها‪.‬‬‫فاستخرجنا مما بعد الأخلاق هذا‪ ،‬المحدد لطبيعة الطبائع الرياضية وطبيعة الشرائع‬ ‫السننية تأسيس النظر والعمل المحققين لشروط الاستعمار والاستخلاف‪.‬‬‫والنظر والعمل المحققان لهذه الشروط في الأنشطة الإنسانية الخمسة‪ ،‬أي السياسي‬ ‫والعلمي والاقتصادي والفني والرؤيوي هي التي تنتج التراث الذي ندرسه‪.‬‬‫فلنشرع الآن في تحديد هذا التراث لنبين فاعليته بحصيلة منتجه الحضاري في الحقبة‬ ‫التي يركز أصحاب الكاريكاتوران على درسها‪ ،‬مدحا وذما‪ ،‬إحياء وقتلا‪.‬‬‫فحصيلة فاعلية التراث في الأفعال الإنسانية الخمسة وصلتها بالطبائع والشرائع‪ ،‬هي كل‬ ‫ما أضافته الإنسانية عامة‪ ،‬والأمة خاصة للطبيعة‪ .‬أي التاريخ‪.‬‬‫وتلك هي ثورة ابن خلدون‪ :‬لم يعد التاريخ كلاما على الأسر الحاكمة حصرا في السياسة‪،‬‬ ‫بل هو أصبح العرض النقدي للتراث بكامله في الأفعال الخمسة‪.‬‬‫التراث هو التاريخ الحي والفاعل للسياسي والعلمي والاقتصادي والفني والرؤيوي‪.‬‬ ‫وهذه هي مواد المقدمة‪ .‬ولو اقتصر على النظرية لكفته بعض صفحات منها‪.‬‬ ‫‪64 35‬‬

‫لكنه وضع النظرية‪ ،‬أي النقد التاريخي الشامل‪ ،‬على أساس عرض الخبر على طبائع‬ ‫العمران‪ .‬ثم طبقها على مقومات العمران وطبائعه وهي الأفعال الخمسة‪.‬‬‫تطبيق نظريته التاريخية بوصفه نقد الخبر بعرضه على طبائع العمران‪ ،‬يجعله تاريخا‬ ‫نقديا لكل التراث السياسي والعلمي والاقتصادي والفني والرؤيوي‪.‬‬‫والثورة مضاعفة‪ :‬فهي تتعلق بكتابة التاريخ وبحقيقة موضوع التاريخ‪ .‬وهما المعنيان‬ ‫اللذان يميز بينهما الألمان بالهستوري علما‪ ،‬والجشسته موضوعا‪.‬‬‫ثورة ابستمولوجية (كتابة التاريخ) ووجودية (حقيقة التاريخ)‪ .‬وشرط الثورتين تفتح‬ ‫الباب لجعل التاريخ فلسفيا والفلسفة تاريخية‪ :‬وعي معرفي ووجودي‪.‬‬‫والوعي المعرفي (فلسفة التاريخ) بمنزلة الإنسان في الوجود (ثورة الإسلام بمقتضى‬ ‫المعادلة) كان درسا نقديا للتراث عودة على نفسه‪ :‬الإبداع الحضاري‪.‬‬‫فيصبح سؤالنا‪ :‬ما الإبداع الحضاري في السياسة والعلم والاقتصاد (العمل) والفنون‬ ‫والرؤى الذي علينا عرضه لتميزه عن العلوم الزائفة للكاريكاتورين‪.‬‬‫فتتحدد نماذج كاريكاتور التحديث أعني درس التراث الإسلامي بمنظور ماركسي أو‬ ‫بمنظور يدعي تطبيق منهج الابستمي الفوكلدية وما يقابلهما في التأصيل‪.‬‬‫ولم أصف أسس درس التاريخ في كاريكاتور التأصيل كما فعلت بدرسه في كاريكاتور‬‫التحديث‪ ،‬لأنه في الحقيقة يقتصر على رد الفعل وموقف الدفاع ضده‪ .‬فليس لأصحاب‬‫الكاريكاتور التأصيلي اسس منهجية تتجاوز الردود على \"شبهات المستشرقين\" وعلى‬ ‫الماركسيين والبنيويين المقلدين لأبستميا الفوكلدية‪.‬‬‫وطبعا فوصفي درس التاريخ بالنهج الماركسي (ابو زيد) أو بالنهج الفوكلدي (الجابري)‬ ‫بكونه كاريكاتور تحديث‪ ،‬لا يستنقص من قيمة الرجلين‪ ،‬بل فساد الدرس‪.‬‬‫والفساد مضاعف‪ :‬اعتبار الأساس مسلما دون نقد‪ ،‬وهو موقف شبيه بموقف فلاسفة العرب‬ ‫القدامى الذين تسلموا الفلسفة اليونانية وكأنها حقائق نهائية‪.‬‬‫فعندما يقول الفارابي إن العلم اكتمل ولم يبق إلا تعلمه وتعليمه‪ ،‬وصفا لفلسفة أرسطو‪،‬‬ ‫فهو لا يفكر فلسفيا بل هو يشرع مذهبا مدرسيا لكأنه رجل دين‪.‬‬ ‫‪64 36‬‬

‫ونفس الأمر يقال عن ابي زيد مع الماركسية المتخلفة وعن الجابري مع البنيوية‬ ‫الابستيمية على النهج الفوكلدي‪ .‬لكنه يوجد فرق بين قدمائنا وهذين‪.‬‬‫فالفارابي وابن رشد مثلا‪ ،‬لم يكونا دون أرسطو وأفلاطون‪ ،‬فهما لفلسفتهما‪ ،‬بل هما‬ ‫أشبعاهما درسا واستوعباهما بقدر ما توفر لهما من مصادر ومراجع‪.‬‬‫أما ابو زيد والجابري‪ ،‬فمعرفتهما بما يعتمدانه شديدة السطحية ومتخلفة عن نهجي‬ ‫ماركس وفوكو إلى حد قد لا يصدقه القارئ فيظنني متحاملا عليهما‪.‬‬‫لكن القارئ سيقتنع بأني لا أبالغ عندما يأتي الكلام عليهما وعلى نهج التأصيليين‪ ،‬فيفهم‬ ‫لماذا قلت إن حاضرنا الفكري ما يزال دون فكر ابن خلدون‪.‬‬‫فشتان بين من أبدع ثورة في فلسفة التاريخ علمه وموضوعه‪ ،‬ووصلهما بفلسفة الوجود‬ ‫والدين‪ ،‬وبين من يردد ببغاويا وسطحيا عموميات ماركسية أو فوكلدية‪.‬‬‫كلاهما نقد للتراث‪ .‬لكن الفرق هو كالفرق بين الثرى والثريا‪ .‬صحيح أن القشور‬ ‫والموضة تنسب ابن خلدون إلى القرون الوسطى وهؤلاء إلى العصر الحديث‪.‬‬‫أكرر‪ :‬فكرنا الحالي سواء عند التأصيليين أو عند التحديثيين ما يزال وبشدة متخلفا‬ ‫دون ثالوث المدرسة النقدية‪ :‬الغزالي وابن تيمية وابن خلدون‬‫فسواء أخذنا العلوم التقليدية (الدين وفروعه) أو الحديثة (الفلسفة وفروعها) سنجد‬ ‫البون شاسعا بين هؤلاء وكل المتكلمين حاليا في كلا النوعين‪.‬‬‫لا أحد من علماء الدين الحاليين وصل إلى كعب الغزالي وابن تيمية‪ .‬ولا أحد من‬ ‫متعاطيي الفلسفة تجاوز ابن تيمية وابن خلدون إلا في القشور والطنطنة‪.‬‬‫فالتجاوز ليس في المضمون (المتفلسف اليوم يعلم ما لم يعلمه الفارابي أو ابن سينا‬ ‫مضمونيا) لكنه من حيث جوهر فعل التفلسف‪ ،‬دونه بسنوات ضوئية‪.‬‬‫ونفس القول يصدق على علماء الدين‪ :‬قد يوجد علماء دين اليوم يتكلمون في مضامين‬ ‫يجهلها الغزالي مثلا‪ ،‬لكنه لا يوجد عالم مسلم حالي يضاهيه إبداعا‪.‬‬‫بضاعتهم بضاعة صينية‪ :‬تجد عليها عناوين المبدعات الأوروبية لكنها مزيفة‪ ،‬ليس فيها‬ ‫ما فيها من قيمة ابداعية بها تتحدد قيمة المنتج مسمى لا مجرد اسم‪.‬‬ ‫‪64 37‬‬

‫(تعديل) وفي الحالتين المعيار هو الروح الإبداعية التي غابت عند الكاريكاتورين‪.‬‬ ‫يتصوران تكديس المعلومات علما‪ :‬باعة خردة وفريب تحاكي بلا إبداع‪.‬‬ ‫ولأضرب أمثلة من إبداع ابن خلدون في الأنشطة الخمسة‪:‬‬ ‫‪ .1‬في السياسة وضع نظرية دور القوة والعصبية‪.‬‬ ‫‪ .2‬في العلم أضاف الشرط العمراني في تطور المعرفة‪.‬‬‫‪ .3‬ثم في الاقتصاد وضع عدة نظريات أهمها استقلال العملة ونظرية الضرائب‬ ‫ونظرية خصخصة الاقتصاد‪.‬‬ ‫‪ .4‬ثم في الفنون وضع نظرية الذوق الشعري وتعدده‪.‬‬‫‪ .5‬وأخيرا‪ ،‬بين أن الرؤى الوجودية شرط مناظر للشرط الطبيعي في بناء‬ ‫الحضارات‪ ،‬وبهما بدأت المقدمة أي الشرط الطبيعي والثقافي مقومين لموضع التاريخ‪.‬‬‫وكلها نظريات لم يرثها عن الفلسفة اليونانية ولم يحاكي فيها أحدا‪ .‬لذلك فلابد من‬ ‫التمييز بين المبدع والمحاكي وبين المحاكي الجيد والمحاكي الرديء‪.‬‬‫من وصفتهم بكاريكاتور التأصيل وبكاريكاتور التحديث محاكون سيئون‪ .‬الأولون لما انحط‬ ‫من ماضينا‪ ،‬والثانون لما انحط من الحداثة‪ .‬بياعة خردة وفريب‪.‬‬‫أعلم أن كلامي هذا قد يظنه الكثير \"اعتدادا بالنفس\"‪ .‬وأعلم أنه قد سبب لي الكثير‬ ‫من العداوات‪ .‬لكني أعتقد أن \"علماءنا\" ليسوا أفضل من ساستنا‪.‬‬‫الساسة نجوم تبرز بقوة الحكم أو المعارضة‪ .‬وكلتاهما نجوم تابعة لمن يختارهم من الحماة‪.‬‬ ‫والعلماء نجوم تبرز بالتبعية لهؤلاء التابعين‪ :‬لا أبداع‪.‬‬‫الشللية والحزبية والتبعية هي منطق سلسلة العمل‪ :‬سياسيون في الحكم أو المعارضة‪،‬‬ ‫تابعون لحماة يستتبعون نخبا فكرية واقتصادية وفنية ورؤيوية‪.‬‬‫وقد أكون أبالغ في هذا التشاؤم ربما‪ ،‬لأن المبدعين لم يبرزوا بعد‪ .‬لأن بروزهم يخضع‬ ‫لمنطق التاريخ المديد‪ .‬لكن النهوض بدأ منذ قرنين ولم نر ثمرة‪.‬‬ ‫‪64 38‬‬

‫أبدأ الأمثلة بالكلام على كاريكاتور التأصيل‪ ،‬وفيه سيكون العلاج عاما دون تعيين لنجم‬‫معين‪ ،‬لأنها متماثلة وما تشترك فيه ضمن مادة التربية الدينية‪ .‬وكان في شكل ردود على‬‫ثلاث مدارس فلسفية وعلمية‪ ،‬وعلى ما يسمى بشبهات الاستشراق من منطلق صراع الإلحاد‬ ‫عقديا أو أعداء الإسلام مذهبيا‪.‬‬‫ولذلك‪ ،‬فهي تبدو تأصيلية بمنطق حداثي‪ ،‬إذ ترد على المدارس الثلاثة الماركسية‬ ‫والداروينية والفرويدية بمجرد العقد أو بآراء علماء غربيين منافسين‪.‬‬‫ويسمون المعتمدين في الرد من المنافسين لهم بالمنصفين‪ .‬وخاصة إذا تعلق الأمر بما‬ ‫يرودونه من شهادات بعض المستشرقين لصالح رؤاهم التي يدافعون عنها‪.‬‬‫وكنت أمقت هذا الاسلوب في التربية الدينية لأنه لا ينتسب لا إلى الدين ولا إلى الفلسفة‬‫ولا إلى العلم ولا حتى إلى حماية الإسلام اللائقة به‪ .‬وبلغ سخف بعضهم إلى محاولة عكس‬‫الآية‪ ،‬فيبحثون في القرآن والسنة ‪-‬بما يسمونه الأعجاز العلمي‪-‬على سبق في اكتشاف ما‬ ‫يؤيد هذه النظريات \"الملحدة\"‪.‬‬‫فوضعوا نظرية تميز بين الإنسان الذي تصح عليه الداروينية‪ ،‬ثم الآدمية التي تصح‬ ‫عليها الرواية القرآنية لتغييره قبل استخلافه‪ ،‬مرورا إلى الآدمية‪.‬‬‫كما وضعوا نظرية النفوس الثلاث‪-‬الامارة واللوامة والمطمئنة‪-‬ليبينوا سبق القرآن‪ ،‬ولم‬ ‫يبق إلا ماركس الذي لم يجدوا له نظرية‪ .‬فذلك لن يرضي مستخدميهم‪.‬‬‫فكيف يجدوا في الإسلام محاولة فهم ما يناقض سلوكهم المبرر للظلم والعسف وترضية‬ ‫أولياء الأمر الذين ينبغي لهم السمع والطاعة حتى لو كان كافور مصر؟‬‫لن أطيل الكلام في كاريكاتور التحديث‪ .‬ولن تكون الأمثلة عينية‪ ،‬لأن ما يعنيني في هذه‬ ‫الحالة بيان اصناف اساليبهم المستندة كلها إلى العلم الزائف‪.‬‬ ‫‪64 39‬‬

‫وأخطر أسلوب هو أسلوب التأصيليين بدعوى الحجاج بالعلوم الحديثة ومحاولة الدفاع‬ ‫عن الإسلام بتحديث يرضي مستخدميهم ويؤمركه ويمسحه بدعوى نقد التطرف‪.‬‬‫ومن هذا النوع خاصة‪ ،‬الدعاة الجدد‪ .‬ولعل رمزهم عدنان ابراهيم الذي يمكن حسبان‬ ‫عدد صور الإسلام بعدد الممولين المتوالين على استغلال دجله المقيت‪.‬‬ ‫هم إذن صنفان كلاهما مضاعف‪:‬‬‫‪ -‬صنف التأصيل بدعوى الإصلاح‪ ،‬وفرعاه قراءة اساسها المعرفة الحديثة أو قراءة‬ ‫أساسها القيم الحديثة لأمركة الإسلام‪.‬‬‫‪ -‬والصنف التقليدي‪ ،‬وصنفاه زعم إحياء التراث النصي أو إحياء التراث \"العقلي\" وبيان‬ ‫ما فيه من مناسبة للعصر بالانتخاب التحكمي والمذهبي المقيت‪.‬‬‫ويبقى الأهم في ذلك كله برنامج التربية الدينية بالمدرسة التونسية في جيلي‪ :‬الردود‬ ‫الخمسة على داروين وفرويد وماركس والالحاد وشبهات الاستشراق‪.‬‬‫وعليها سأركز بحثي في هذا الفصل الثامن‪ ،‬والفصلان الباقيان أخصصهما لمثالين من‬ ‫كاريكاتور التحديث اي نقد حاميد أبا زيد الماركسي والجابري الفوكلدي‪.‬‬‫وقبل الغوص في درس هذه المسائل‪ ،‬سأحدد أصلها الذي تنبع منه الفروع الأربعة‪ .‬فهي‬ ‫صورة مطابقة لوضع التراث الرسمي في خدمة أنظمة تابعة ومتبعوعهم‪.‬‬‫والفرق الوحيد بين الصنفين‪ ،‬هو أن الثاني الذي يدعي الإصلاح بالاعتماد المزعوم على‬‫العلم أو على القيم الحديثة يؤصل للأمركة بالانتخاب التراثي‪ .‬فيرضي الكاريكاتورين في‬‫خدمة الأنظمة التابعة وحاميهم خاصة إذا كان يزعم الرد على الصنف الأول الذي يتهم‬ ‫بكون تعاليمه تخرج الإرهابيين والتكفيريين‪.‬‬‫والصنف الأول الذي كان يخدم الأنظمة التي تدعي الحكم بالإسلام‪ ،‬أصبح في مهب‬ ‫الريح لأن هذه الأنظمة تريد التخلص منهم وتعويضهم بالمدرسة الأولى‪.‬‬‫وقد اتضح الوضع منذ أن عرت الثورة المذابح وأعلنت ثورة صنفي الأنظمة المضادة‬‫الحرب الصريحة على الإسلام بالصنف الثاني وخلطه مع فكر الصنف الأول‪ .‬فتقاسمت‬ ‫الأنظمة الأدوار‪:‬‬ ‫‪64 40‬‬

‫الأنظمة القبلية تمول الثورة المضادة‪ .‬والأنظمة العسكرية تفتك بالشعوب‪ .‬والغرب‬ ‫يقودهم ويحميهم إعلاميا ودوليا وعسكريا‪.‬‬‫والحصيلة هي أن دراسة التراث في مدارس الكاريكاتور التأصيلي بصنفيه المضاعفين‬ ‫استخدم التراث لصالح الاستبداد والفساد بشكلين قبل الثورة وبعدها‪.‬‬‫فقبل سقوط أحد القطبين‪ ،‬كانت الأنظمة العسكرية والقبلية في صراع باسم الإسلام‬ ‫والقومية وتبعية واضحة للقطبين الرأسمالي والشيوعي‪.‬‬‫وتلك كانت علة وجود الفرعين في كاريكاتور التأصيل الإصلاحي التقليدي والذي يدعي‬ ‫الحداثة العلمية والقيمية‪ .‬وظل الامر في شبه هدنة إلى الثورة‪.‬‬‫عندئذ اتحد صنفا الأنظمة القبلية والعسكرية كما بينت وأصبح الإصلاح التقليدي متهما‬ ‫وبات التيار المفضل هو الجامع بين دجل العلم والقيم والتصوف‪.‬‬‫لذلك فأصحاب السلفية لن يبقوا منها إلا على الجامية‪ .‬وأصحاب العلمانية لن يبقوا إلا‬ ‫على الصوفية‪ .‬فيتحول الدين إلى باطنية في خدمة نفاة الحريتين‪.‬‬‫والحريتان كما هو معلوم‪ ،‬هما جوهر الإسلام‪ :‬الحرية الروحية التي تنفي الوساطة بين‬ ‫المؤمن وربه‪ ،‬والحرية السياسية التي تنفي الحكم بالحق الإلهي‪.‬‬‫وإذن‪ ،‬فالكل سيكون في خدمة الباطنية الصفوية والصهيونية في الإقليم‪ ،‬ذراعين للحماة‬ ‫في الغرب والشرق والسنة التي عقموا فكرها لتصبح في مهب الريح‪.‬‬‫وما أكتبه في التراث‪ ،‬هدفه بيان أن السنة هي بالأساس فاعلية تراثية‪ ،‬لأنها تعني‬ ‫جوهريا جملة السلوكات ذات الفاعلية الشرعية لتحقيق قيم الإسلام‪.‬‬‫بعد هذا التوضيح للإشكالية وعلاقتها بالأحداث الجارية‪ ،‬لأن التراث هو روح الجماعة‬ ‫أو أخلاقها الموضوعية في الأعيان وفي الأذهان‪ ،‬سأمر للعلاج‪.‬‬‫والعلاج الذي سأقدمه هو في آن هو العلاج العلمي‪ ،‬وهو الوحيد الذي تستند إليه السنة‪.‬‬ ‫ودليلي أن أكثر المفردات المترددة في القرآن الكريم مفردة العلم‪.‬‬‫لكن دليلي الأقوى هو أن السنة نفسها تعني سن سلوكات مناسبة وحفظها ما ظلت مناسبة‬ ‫لتحقيق مقومي كيان الإنسان‪ :‬الاستعمار والاستخلاف في الأرض‪.‬‬ ‫‪64 41‬‬



‫وفي غياب البحث العلمي الميداني والمختص والجماعات العلمية التي تحدد العلمية‬ ‫واللاعلمية‪ ،‬لا يمكن الكلام على نقد للتراث عامة والعلمي خاصة‪.‬‬‫وكلما سمعت الكلام عن الاعجاز العلمي يقشعر بدني‪ :‬فهذا تجن عن القرآن والسنة‪.‬‬‫فالله يقول معرفة حقيقة القرآن تكون بآيات الله في الآفاق والأنفس‪ .‬لكنهم يعكسون‪،‬‬‫فيجعلون معرفة حقيقة الآفاق والأنفس في تفسير ألفاظ القرآن ونصه‪ .‬لذلك اضطررت‬‫أن أبين أن القرآن خطاب ما بعدي للأفعال الخمسة‪ .‬فهو يحدد طبيعة الطبائع بكونها‬‫رياضية‪ ،‬وطبيعة الشرائع بكونها سننية‪ .‬لكنه لا يعطينا أي قانون طبيعي او تاريخي‪ .‬ولو‬ ‫فعل لصار خاضعا للتكذيب ككل علم‪.‬‬‫وهذا هو التجني على قدسية القرآن‪ .‬لذلك فالفقهاء مثلا يخطئون عندما يتصورون أن‬ ‫القرآن يشرع للنوازل‪ ،‬في حين أنه ما بعد يشرع لشروط التشريع لا غير‪.‬‬‫فالتشريع القرآني ليس للنوازل‪ ،‬بل لأخلاق التشريعات التي يتنظم بها تعامل الناس‬ ‫بعضهم مع البعض حتى يكون الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف‪.‬‬‫ولأن الفقهاء لم يفهموا ذلك‪ ،‬أصبحت الشريعة أهم مشكل في أنظمة حياة المسلمين بدلا‬ ‫من أن تكون الحل‪ :‬هي أخلاق التشريع وليست التشريع المباشر‪.‬‬‫التشريع المباشر تاريخي اقداما وإدبارا‪ .‬لكن أخلاق التشريع أو ما نجده في كل حكم من‬ ‫تعليل خلقي‪ ،‬هي نظام الشروط الثابتة للاستعمار بقيم الاستخلاف‪.‬‬‫ولأن ذلك غاب عن الأذهان‪ ،‬تحول القرآن الكريم عند الدجالين إلى متن حكم شعبية‪،‬‬ ‫يرددها العاجزون الذين ينتظرون من الله أن ينجدهم وهم قواعد‪.‬‬ ‫‪64 43‬‬

‫جمعت ممثلي الكاريكاتور التأصيلي فلم أدرس أمثلة معينة بل اكتفيت بأسلوبي علاجهم‬ ‫للتراث أعني التقليديين وأدعياء استعمال العلم والقيم الحديثة‬‫وكان يمكن أن أعامل كاريكاتور التحديث نفس المعاملة لأنهم لا يبتعدون كثيرا عنهم‪،‬‬ ‫ولأنهم ليسوا قلة ما يعسر انتخاب الأمثلة العينية‪ .‬فضلت العكس‪.‬‬‫وعلي أن اعلل انتخابي مثالين هما الجابري وأبي زيد‪ ،‬وليسوا أفضل من يمثلهم لكني‬ ‫أعتقد أنهم أكثرهم نجومية وشهرة‪ .‬ومن ثم أكثرهم تأثيرا منذ ثلاث عقود‪.‬‬‫أو بصورة أدق‪ ،‬أكثرهم تمثيلا للمدرستين السائدتين في درس التراث ونقده‪ ،‬إما‬ ‫بمنطلقات ماركسية أو ما بعد ماركسية‪ ،‬أو غيرها عامة حداثية أو ما بعدها‪.‬‬‫وكان يمكن أن اختار أركون مما يعد الماركسية الما بعد حداثية‪ .‬لكنه لم يدرس شيئا لأن‬ ‫كل أعماله وعود بلا إنجاز‪ .‬ومن ثم فجعجعته لا طحين لها‪.‬‬‫وكان يمكن أن اختار حسن حنفي وهو أكثرهم اجتهادا في الجمع بين التأصيل والتحديث‬ ‫بقراءة يمكن نسبتها إلى ما يناظر الماركسية أو اليمين الهيجلي‪.‬‬‫لكني عندئذ أكون قد اخترت مثالين من المشرق‪ ،‬بل ومن مصر‪ .‬وفي ذلك اجحاف بالمغرب‬ ‫العربي الذي هو حاليا‪-‬وبكل تواضع‪-‬قاطرة الفكر الحديث بلا منازع‪.‬‬‫وفيه يمكن القول إن ملحة \"بضاعتنا ردت إلينا\" لم تعد صالحة‪ .‬ورغم أني لست من‬ ‫محبذي هذا الموقف‪ ،‬إلا أنه أعاد التوازن بين جناحي الوطن‪ .‬وفي ذلك خير‪.‬‬‫ولعل الجابري هو أفضل ممثل من هذه الناحية‪ :‬جعل هذه العقدة بين الجناحين أهم‬ ‫صفة مميزة من كلامه على التراث في مقابلته الشهيرة التي دحضتها‪.‬‬‫فالمقابلة بين المشرق اللاعقلاني والمغرب العقلاني لاتصف حقيقة في التراث‪ ،‬بل عقدة‬ ‫في أنفس بعض المغاربة من سخافة التكبر المشرقي في الكلام عليه‪.‬‬ ‫‪64 44‬‬

‫وهي ليست عقدة جديدة‪ .‬لأن ابن خلدون خصص لها فقرات طويلة في الفصل الأخير‬ ‫من المقدمة وعللها بالتفاوت الحضاري في عصره ليبين أنها عقدة زائفة‪.‬‬‫وبعد هذه العقدة بين الجناحين‪ ،‬نجد عقدة أخرى أخطر في الجناح المشرقي‪ :‬المقابلة بين‬ ‫عرب الشمال والخليجيين‪ :‬دعوى الحضارة وثروة البدو النفطية‪.‬‬‫وهذه العقدة ناتجة هي بدورها عن درس التراث‪ .‬وقد تدخلت فيها الطائفية الإسلامية‬‫الداخلية (تحقير السنة) والطائفية بين الأديان (تحقير الإسلام)‪ ،‬أي إن البداوة صارت‬‫سبة ضد السنة الخليجية‪ ،‬وبالتدريج سبة ضد الإسلام نفسه‪ .‬حتى إن بعضهم صار يعتبر‬ ‫الرسول نفسه بدويا غازيا من أجل المال والجنس‪.‬‬‫تلك هي الأمراض الناتجة عن درس التراث عندما يصبح كاريكاتوريا سواء كان تأصيليا‬ ‫أو تحديثيا‪ .‬ولأجل ذلك‪ ،‬وفي صلة بالأحداث الجارية‪ ،‬قمت بهذا العمل‪.‬‬‫وهو عمل بين بين‪ .‬ليس أكاديميا بأتم معنى الكلمة حتى وإن تضمن أهم خصائص البحث‬ ‫الأكاديمي‪ ،‬لاعتماده خبرة طويلة بالمجال لكنه موجه للقارئ العادي‪.‬‬‫فرأيت من العدل أن اختار أفضل ممثل لدرس التراث في المشرق من مصر‪ ،‬وأفضلهم في‬ ‫المغرب العربي من المغرب الأقصى‪ ،‬وكلاهما جدير بتمثيل الجناحين‪.‬‬‫وسأبدأ بالجابري لأني إلى حد الآن لم أكتب في عمله إلا جميلات قصيرات تحرجا مما‬ ‫سأقول إذا كتب خصيصا للكلام عليه‪ .‬أما ضمن بحث عام فلا بأس منه‪.‬‬‫أما نصر حامد أبو زيد فقد كتبت فيه نصا (في كتاب التفسير) سأكتفي بنشره في خاتمة‬ ‫هذا البحث حول الكلام على كاريكاتوري درس التراث التأصيلي والتحديثي‪.‬‬‫وإذن فسأبدأ بالجابري‪ .‬وعلي أن أشرح لماذا وضعته ضمن كاريكاتور التحديث‪ .‬فما‬ ‫أسميه كاريكاتور التحديث‪ ،‬هو التعامل التطبيقي السطحي مع الفكر الجاهز‪.‬‬‫وشرط هذا التعامل‪ ،‬يكون دائما ناتجا عن تكون في الفكر القديم ومحاولة تجاوزه بدعوى‬ ‫استعمال الفكر الحديث بإغفال هوة سحيقة بينهما يعسر القفز عليها‪.‬‬‫وللتوضيح‪ ،‬فإن من يعتبر ابن رشد ممثلا للعقلانية لا يمكن ان يفهم فوكو مهما حاول‬ ‫فضلا عن أن يدعي استعمال أهم مفهوم فوكلدي لدرس التراث الإسلامي‪.‬‬ ‫‪64 45‬‬

‫تلك كانت مشكلتي مع المرحوم الجابري‪ .‬كنت اتجنب تنبيهه إلى ذلك بعد أن رأيت رد‬ ‫فعله‪ ،‬إزاء ملاحظة عابرة في هامش رسالتي التي كان أحد مناقشيها‪.‬‬‫وهي ملاحظة أوردتها في كتاب صدر بعد وفاته رحمه الله‪ ،‬بعنوان أشياء من النقد‬ ‫والترجمة عن دار جداول‪ .‬وتتعلق الملاحظة بثالوثه وبثالوث عبد الرحمن‪.‬‬‫لذلك فهذا الفصل سيتضمن مطلبين‪ :‬ما معنى الابستيمي الفوكلدي الذي أجزم بأن‬ ‫الجابري طبقه بسطحية لا تليق علميا‪ .‬وما علامة عدم اللياقة العلمية‪.‬‬‫فوكو كان أستاذنا في جيلي وأنا في تونس مدة سنتين‪ ،‬وألف كتاب الكلمات والأشياء في‬ ‫تونس كذلك أو هو صدر وهو مقيم في تونس ولي بعض دراية بمضمونه‪.‬‬‫اعتقد أن كل من له تكوين فلسفي ومنطقي‪ ،‬يعلم أن دراسة المعرفة عامة بمنظور‬ ‫منطقي‪ ،‬تميز بين المضمون القضوي في الخطاب العلمي والموقف القضوي‪.‬‬‫والدرس الأول هو الذي يسمى ابستمولوجي‪ ،‬أي إنه يدرس المضمون العلمي للقضايا‬ ‫العلمية دون اهتمام بمواقف الذات العارفة منها من حيث درجات عقدها‪.‬‬‫أما درس مواقف الذات العارفة ودرجات عقدها في مضمون القضايا‪ ،‬فيسمى ابستيميك‬ ‫من جنس أظن أعتقد أو أنا متيقن أن كذا هو كذا إلخ‪ ..‬من درجات العقد‪.‬‬‫نعم الجماعة العلمية تصل إلى قناعة تجعلها تثق أن ما اعتبرته علميا في قضاياها علمي‬ ‫لتوفر شرطي العلمية‪ :‬أفضل تفسير للظاهرة مع قابلية الامتحان‪.‬‬‫وبصورة عامة‪ ،‬لكأن الابستيمولوجي ليس إلا غاية الابستميك في الجماعة العلمية‪ .‬أي‬ ‫إنه الدرجة النهائية في عقدهم لتحقق الشرطين في العلمية بضمانتين‪.‬‬ ‫الضمانتان‪:‬‬‫‪ -‬منطقية‪ ،‬وهي الاندراج المتناسق في متن العلم الذي تنتسب إليه لأن المتن نظام متكامل‪.‬‬ ‫‪ -‬تجريبية‪ ،‬هي قابلية الامتحان التجريبي المتكرر‪.‬‬‫الابستمي هي ما وراء هذين الأمرين‪ :‬أي شروط إمكان ظهور الأشياء بفضل شروط‬ ‫إمكان الكلام عليها التي هي محددة مناظير الرؤية لهذه الأشياء‪.‬‬ ‫‪64 46‬‬

‫وواضح لذي عقل أن هذا المفهوم يناقض تمام المناقضة للنظرية الماركسية‪ :‬الرمزي‬ ‫وصيرورته هما المحددان للشيء وصيرورته‪ ،‬لأنهما يجليان المرئي عقليا‪.‬‬‫وحتى أساعد القارئ فلنترجم هذا القلب للعلاقة بين الرمزي والشيء في تحديد شروط‬ ‫مرئية الاشياء بأنه هيجلية محدثة‪ ،‬بشرط أن نفهم المنعرج اللساني‪.‬‬‫وترجمتي لفلسفة الابستمية بالهيجلية المحدثة تعني أمرين‪ :‬تقدم الرمزي على الشيء‬ ‫أو الروحي على المادي‪ .‬وتاريخية هذه الرؤية للعالم وما فيه‪.‬‬‫وإذن‪ ،‬ففلسفة الابستمية الفوكلدية تقتضي التاريخانية المطلقة لصيرورة الأنظمة‬ ‫الرمزية‪ ،‬ويتبعها التاريخانية المطلقة لما يرى من العالم وأشيائه‪.‬‬‫ولهذه العلة ربطت الأمر بفلسفة الأشكال الرمزية وصيرورتها نورا يسقط على العالم‬‫ليرينا ما فيه فيكون العالم متعددا بتعدد الحضارات وصيرورتها‪ .‬فتبرز أهمية الألسن في‬‫رؤية العالم وأشيائه ويتحرر العقل من وهم كونه مرآة لعالم موضوعي واحد ينعكس عليه‬ ‫بل هو بوظيفته الرمزية منتج ومنتوج الرمز‪.‬‬‫يكفي أن نعوض \"الوظيفة الرمزية\" بـ\"وظيفة الروح\" الهيجلية حتى نفهم القصد‬ ‫بالابستمي بشرط التخلص من الجوهرية الهيجلية والاقتصار على الرمزية‪.‬‬‫والتخلص من الواقع والعقل‪ ،‬شرطه التخلص من الذات والمؤلف‪ ،‬لأن كل ما يجري في‬ ‫المجال الرمزي يشبه الأدب الشعبي‪ :‬طبقات قصصية تتراكم من دون مؤلف‪.‬‬‫الفوكلدية مضادة للماركسية لأنها بلغة ماركسية تجعل الـ\"بنية الفوقية\" الرامزة محددة‬ ‫لـ\"البنية التحتية\" الأشياء المرموزة وتنفي الذات الفاعلية‪.‬‬‫وحتى لا أطيل في القسم الثاني من كلامي على الجابري بعد توضيح مفهوم الأبستمي‪،‬‬ ‫سأكتفي بأسئلة وأجوبة تلغرافية حول ثالوثه وتنافيه مع الابستمي‪.‬‬‫وأترك لغيري ما اعتبره عيبا خلقيا لا يغتفر في تعامل الباحثين‪ :‬فلست أشكك في أمانة‬ ‫الرجل ولا في ذكائه كما فعل أحد الذين كانون من المعجبين‪.‬‬ ‫علاقة عناصر الثالوث‪:‬‬ ‫هل هي متصاحبة دائما أم إنها في صيرورة تجعل الأدنى يصعد إلى الأعلى مثلا؟‬ ‫‪64 47‬‬