القسم الثاني
المحتويات 1 81419242935394450
أعود إلى مسألة التراث في القسم الثاني لضرب أمثلة من دراسة كاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث كما وعدت في خاتمة كلامي النظري حول التراث.ويقتضي الخوض في الأمثلة من الكاريكاتورين ،وصلا بين العلاج النظري والعلاج التطبيقي على أمثلة أطبق فيه ما تم بيانه من فاعليات التراث المبدع.وأولى عمليات الوصل ،تتعلق بتقدير أضرار الدارسات التي يقوم بها المنتسبون إلى الكاريكاتورين .فكاريكاتور التحديث اقل ضررا من كاريكاتور التأصيل.والعلة مضاعفة :فهم أولا مرفوضون لمجرد كونهم لا يخفون عداءهم للتراث ،ثم لأنهميدّعون استعمال فنون تبدو غير قابلة للفهم لعدم تمكنهم منها .فضررهم طفيف لأن منيستفزه عداؤهم الصريح ،ينفرهم .ومن يفهم قصورهم فيما يزعمون الاعتماد عليه من فنيات حديثة ،يحتقرهم .وحالي معهم تجمع الوجهين.أحتقرهم لعلمي بقصورهم إلى حد لا يصدقه من تنطلي عليه طنطناتهم .وأنفر منهم لعدائهم العلني للإسلام خاصة ،وهم أذل الناس أمام اليهودية والمسيحية.وهؤلاء إذن ليسوا مصدر الخطر على التراث .إذ هم بما أشرت إليه ،لا يؤثرون في عامة الناس ولا في خاصتهم .فكلامهم نسخ باهتة من الاستشراق دون مناهجه.لكني مع ذلك سأقدم أمثلة منهم حتى يعلم الجميع أن الكلام على وقاحتهم وضحالة علمهم ليس مجرد دعوى أقدمها بانحياز ،بل لأن ذلك وصف أمين لهم.لكن الخطر على التراث ذي الفاعلية الحية ،مصدره كاريكاتور التأصيل ،إما بإحياء علوم الملة الخمسة بشكلها القديم الذي فقد فاعليته ،أو بدعوى تحديثها.وأصحاب دعوى التحديث أخطر من أصحاب إحياء الشكل الذي كان ينبغي أن تتخطاه علوم الملة لتبقى حية فتؤدي وظائف جديدة عوضت ما ناسب نشأتها الأولى. 64 1
ذلك أن التراث ذا الفاعلية الحية ،يشبه الثعبان الذي يبدل ثوبه بحسب فصول حياته: ينزع القشور وينمي اللب ،فيتطور بتطور الوظائف التي يؤديها.وقبل الكلام عن هذا الخطر ،لا بد أن أحدد الوظائف التي يؤديها التراث ذو الفاعلية الإبداعية الذي يغير الأعضاء لتلائم الوظائف بقانون الحياة.وسأحدد هذه الوظائف بالاعتماد على نظرية المعادلة الوجودية ذات القطبين (الله والإنسان) والوسطين (الطبيعة والتاريخ) والتواصل المتبادل بين القطبين.والتواصل المتبادل بين القطبين الله والإنسان ،يكون مباشرة (الحرية الروحية) وبصورة غير مباشرة بتوسط الطبيعة والتاريخ (الحرية السياسية).والتواصل الثاني ،شرط في الأول عند التحقق العيني .لأن الثاني غاية الأول .لكنه مشروط به في التحقق الذهني ،لأن وجود الغاية التصوري يقود التحقيق.والتواصل بتوسط الطبيعة والتاريخ ،هو موضوع استعمار الإنسان في الأرض .والتواصل المباشر هو موضوع استخلاف الإنسان .وتلك هي وظائف التراث المبدع.وهذه الوظائف ثابتة في كل عمران بشري (استعمار الإنسان في الأرض) واجتماع إنساني (استخلاف الإنسان في الأرض) لكن أعضاءها تراث يتغير ليحفظ فاعليته.ولتقريب المعنى ،فإن أشكال التراث المتوالية تشبه الأجيال في الحياة :الأجيال تتوالى كحوامل للحياة ،وأشكال التراث تتوالى كحوامل لفاعلية الحضارة.بالنسبة إلى الحياة ،ليست الأجيال إلا أعضاء تحمل وظائف الحياة .والحياة تبدلها لتبقي على يفاعها وقوتها .وتلك نسبة أشكال التراث لوظائف الحضارة.وسنحاول تحديد الوظائف بدقة أكثر من خلال تطبيقها على الوصل في المعادلة الوجودية ،صاعدا ونازلا ،مباشر وغير مباشر ،وعلى مجالات الانتخاب الخمسة. ومجالات الانتخاب الخمسة هي: .1الإرادة (السياسة) .2المعرفة (العلوم) .3القدرة (الاقتصاد) 64 2
.4الحياة (الفنون) .5الوجود (رؤى العالم دينا وفلسفة)ولا بد من التذكير بما أدخلته على نظرية نيتشة في أصناف التاريخ المتحفي والمعلميوالنقدي .إذ بينت أن تطبيقها على التراث يوجب مضاعفة النقدي في كتابه \"تأملات غيرمناسبة للعصر أو للوقت\" ضد ثقافة الزهو الألماني بعد هزيمة فرنسا في منتصف القرن التاسععشر .وقد ترجمت فصل التاريخ مع مقال التنوير لكنط ،نماذج نصين نموذجين لتدريسالفلسفة للباكالوريا عند تعريبها سنة 1975-1974تمثيلا لعلاقة النقد الفلسفي بروحعصرها .وهو موضوع لا يختلف كثيرا عن بحثنا الحالي :علاقة فاعلية التراث في لحظتنا التاريخ المأزومة ،وكيف يتجدد بصورة تحفظ حيوية الحضارة الإسلامية.ومضاعفة النقد المقصودة ،هي نقد المتحفي والمعلمي حتى يتحول الأول إلى تراث حي، والثاني إلى تراث مبدع .فتكون بنية التراث مخمسة على النحو التالي: -فالمتحفي لذكرى المحبين -والمعلمي لنماذج المستقبل -وذكرى المحبين حياة روحية في الوجدان -ونماذج المستقبل عنفوان وجودي يتوق للإبداع :سر التراثبعبارة وجيزة ،من ليس له ذكرى المحب ونموذج المبدع ،لا يمكن أن يكون لنقده معنى. لأنه يكون كالحال في لحظتنا ،سلوك عدو يخرب أو غبي يجرب :وهذا الحاصل.فـ\"تأملات غير مناسبة للوقت \" Unzeitgemässe Betrachtugnenدراسة نقدية للتراث الألماني باعتباره لسان شعب تخلط نخبه بين الحضارة والعجرفة.وهذا الخلط ،جله علاقتنا بالاستعمار الأوروبي وبوريثته الأميركية ،فولد لدى الكثير فقدان الثقة في الذات وعقد نقص .طبعا مواقف أصحاب الكاريكاتورين.فصار جلهم أعمى لا يرى ما في التراث من فواعل جوهرية ،ظنا أنها ترد إلى ما شابها بمفعول الانحطاط الذاتي والمستورد من تشويه لقيمتها ودورها. 64 3
وما يعجب له المرء ،أن نقد التراث في دراسات الكاريكاتورين رمي في عماية .لأنه ينقد التراث جملة دون تفصيل ،مع التركيز على الدين ومرجعيتيه.فالنقد ليكون علميا ،ينبغي أن يتعلق بأصنافه صنفا صنفا .بل وأكثر من ذلك ،ينبغي أن يتعلق باختصاصات كل صنف اختصاصا اختصاصا كما في نقد المعرفة.فلا معنى لنقد صنف العلوم مثلا من دون تعيين اختصاص بعينه ،ونقده بما يناسبه من المعرفة العلمية بقصد تقويمه وتمكينه من التطور ،إذا كان قابلا له.ذلك أن بعض ما كان يعتبر من \"العلوم\" في عصر مضى ،يمكن أن يكون قد مات نهائيا ولم يعد منها بسبب تجاوزه ودوره في منظومة العلوم الموالية.ومن الأمثلة على ذلك ،ما قام به ابن خلدون من نقد التراث العلمي ،وما أعتبره علوما زائفة كـ\"علم\" الحروف والتنجيم وحتى السيمياء والميتافيزيقا.فهو ميز في التراث العلمي بين ما يقبل النقد التجويدي ،وما يعد علما زائفا .مبينا ما يقبل التجويد وما ينبغي بيان زيفه لاخراجه من دائرة العلوم.ومعنى ذلك ،أن ابن خلدون وهو في أواخر العصور الوسطى ،كان أدرى بنقد التراث في حالتي التاريخ والعلوم من نجوم نقد التراث من مدرستي الكاريكاتور.وعندما اعتبرت الكثير من علوم الملة قد مات ،وينبغي وضع البدائل التي تؤدي نفس الوظيفة بإبداعها وليس باستيرادها ،فقصدي هو قصد ابن خلدون.لم يلغ علم التاريخ-وهو أهم علوم الملة لأنه فيها جميعا كالمنطق في علوم الفلسفة :العلم الأداة الأساسي-بل ألغى ما مات من مناهجه وأبدع البديل.وهذا الحل ينطبق على جل علوم الملة في مجالات الانتخاب الخمسة ،أي السياسة والعلم والاقتصاد والفن ورؤى الوجود ،بوصفها قاصرة مرتين كما هو بين.فلا هي مناسبة لعلاج ما عليها علاجه في أنظمة الحياة السياسة والعلمية والاقتصادية والفنية والرؤيوية ،ولا هي مستجيبة لأحكام المرجعيتين فيها.وأعلم أن الكثير قد يقبل بيسر الحكم بعدم مناسبتها لمجالات الانتخاب ،لكن قل من يقبل أنها أيضا غير مناسبة لما يحكم به القرآن والسنة في دورها فيها. 64 4
وما يتجاوزه تاريخ أي علم من الأعضاء ،يبقى مادة لتاريخه ،لا جزءا من فاعليته الحية: ندرس تاريخ فلك بطليموس وطب ابن سينا كتاريخ علم وليس كعلم.وهذا يصح على اغلب علوم الملة وأصولها .بل عليها كلها :فلا التفسير ولا الفقه ولا التصوف ولا الكلام ولا الفلسفية بغنية عن ثورة \"خلدونية\" معرفية. 64 7
التراث صنفان مختلفان من حيث الطبيعة: -الأول هو المرجعيات -والثاني استثمارها في حياة الجماعة السياسة والمعرفية والاقتصادية والفنية والرؤيوية.مثال ذلك في حضارتا الإسلامية :المرجعية هي القرآن والسنة ،وأساسهما الإيمان والمعايير العلمية تنطبق على قوامهما المادي وليس على مضمونهما العقدي.ومعنى ذلك أن متن القرآن والحديث والأخبار حول السنن الفعلية ،تقبل الدرس العلمي من حيث اثبات المدونات .لكن مضمونها العقدي إيماني خالص.تأسيس الإيمان على العلم بمعايير العلمية تناقض خالص .فالإيمان عقد ذاتي .والعلم عقد موضوعي يحتكم فيه الى التجربة أو المنطق والقابلية للتكرار.فإيماني بأن القرآن كلام الله ،لا يمكن إثباته علميا ولا يمكن نفيه علميا .وكلاهما عبث. وهو من علامات سخف اصحاب الكاريكاتورين في درس التراث عامة.لكن اثبات جمع القرآن أو صحيح الحديث ،أي إثبات كيان متني المرجعيتين علميا واجب: فالتمييز بين ما هو منهما ،وما هو ليس منهما ،شرط في صحة الإيمان.وإذن ،فالعلم في درس التراث يتعلق بهذا الوجه بخصوص المرجعيات الإيمانية ،ثم بكل ما ينتج عن استثمارها في حياة الجماعة بحسب أصناف الأفعال الخمسة.فبالنسبة إلينا كمسلمين -وقس عليه غيرنا في علاقته بمرجعياته-وقع استثمار القرآن والسنة إيجابا وسلبا لتحديد ما ينبغي وما لا ينبغي فيها جميعا.استمرت المرجعيتان في السياسة والعلم والاقتصاد والفنون والرؤى .فهذه أجناس استثمار المرجعيات في كل الجماعات ،سواء كانت إيمانية أو غير إيمانية. والفرق بين الإيمانية وغير الإيمانية ،كيفي: 64 8
-المرجعيات الإيمانية تعتبر ثوابت. -المرجعيات غير الإيمانية تعتبر فرضيات عمل تبقى ما بقيت مثمرة. وهذا هو الفرق بين المرجعيات الدينية والمرجعيات الفلسفية. -فالأولى إيمانية بإطلاق -والثانية إيمانية بنسبية إلى فاعلية دورها في الأفعال الخمسةوحتى يخرج أصحاب المرجعيات الدينية من مأزق العلاقة بين ثباتها وصيرورة الاستثمار، كان حل التأويل الدائم في قراءات متوالية للمرجعيات تجدد فهمها.ولا يعني ذلك أن المرجعيات الفلسفية لا تمر بنفس المسار :فكل مدرسة فلسفية تتحول مرجعياتها إلى ما يشبه الدوغم الذي تتوالى الأجيال على تأويلها.والمدراس الفلسفية تنهار فتصبح تراثا ميتا بتعذر تأويلها المناسب لحال المعرفة مستحيلا وهو قليل الحصول في الأديان فتبقى حية بحياة المؤمنين بها. لكن لا أحد يقول إن الأديان البدائية قد فقدت فاعليتها.فاعليتها تبقى حية ما ظل المؤمنون بها يعملون بمقتضاها على الأقل شعائريا :فرق جوهري.وعلامة الجهل بدرس التراث ،غفلة عن هذه الفروق الدقيقة حتى لو سلمنا بأن العلم لا يعترف بالفرق بين العقدي الديني والأسطوري :المهم أنهما عقد.الموقف من العقد ،حتى في حالة عدم التمييز بين الديني والأسطوري ،هو الاحترام وليس النقد والاقتصار على درس الكيان المادي لمتن المرجعيات لا غير.وعندما تجمع أمة على تحديد متونها المرجعية ،خاصة إذا كانت مثل امتنا قد أشبعت ذلك درسا وتدقيقا ،فإن كيان المتون نفسه يصبح جزءا من العقيدة.ومعنى ذلك أن المسلم اليوم -عدا قلة باطنية-لا يؤمن بالقرآن فحسب ،بل يؤمن بأنه ما في المصحف ولا شيء غيره ،وأنه لا شيء في المصحف ليس من القرآن.وعندما تكون الأمة مثل المسلمين ،فإن بعض متونها تبقى محل درس دائم كالحال في الحديث .وفيه حقا يمكن القول إن درس الكيان المادي للمتن درس تراثي. 64 9
وبهذا المعنى ،فعلماء الحديث ،بخلاف ما بادئ الراي ،هم أول من أسس نقد التراث .بلوالدرس العلمي للمتون الدينية بمعايير تدرجت في الدقة العلمية .فهم لم يكتفوا بنقدالرواية ،بل نقدوا المتن جمعا بين الرواية والدراية .وليس خطؤهم هم إذا رات بعض الفرق أن الدرس اكتمل ولم يعد محتاجا للتجويد.وهو ما ركبه القرآنيون لجهلهم بحقيقة المعرفة العلمية ،ظنا أن التشكيك في البعضيوجب نفي الكل .ثم إن دعواهم القرآنية مناقضة لتعليلهم رفض الحديث .فدعواهمحماية القرآن مما يرونه منافيا لقيمه في بعضها ،حتى لو صحت ،لا تستقيم .لأن حجتهم الأساسية تتعلق بالأحكام .وهي موجودة في المدني منه.نفي الحديث بالكلية باسم قيم الحداثة ،يلزم عنه نفي القرآن المدني .لأن ما يعيبونه على الحديث إذا أطلق بحجة حماية القرآن ،يسقط جزئه المدني.نعود إذن إلى الجنس الثاني من التراث الإسلامي مثالا :استثمار المرجعيات في اصناف الأفعال .أي في السياسة والمعرفة والاقتصاد والفن والرؤى.وينبغي أن أميز بين الاستثمار المتعلق بعالم الشهادة القابل للبحث العلمي ،والاستثمار في الغيب .وهذا استثمار زائف لأن ما في المرجعيات مغن عنه.وكل مدار تفسير القرآن يتعلق بهذين الاستثمارين في النظر والعمل بخصوص عالم الشهادة أو عالم الغيب .والثاني زائف ،والأول حصل بنسبية الاجتهاد.وما يحصل بنسبية الاجتهاد يخضع لشروط التعامل مع المرجعيات الفلسفية لا الدينية: أي إنها فرضيات عمل وليست عقائد تثبت ما ظلت مثمرة في مجالها.لذلك فكل الاستثمارات الاجتهادية ،حتى وإن استندت إلى مرجعيات دينية ،فإن تعلقها بعالم الشهادة يجعلها من جنس استثمار المرجعيات الفلسفية.وتلك علة مفهوم التجديد على رأس كل قرن .إذ غالبا ما يكون عمر التأويل المؤسس للمعرفة الحدية مثلا في حدود القرن ،ثم يتغير البارادايم التأويلي.وإذا طبقنا المعادلة الوجودية ،كانت الاستثمارات متعلقة بالوسيطين خاصة أي بالطبيعة والتاريخ وما في الوصل بين القطبين من طبيعي وتاريخي. 64 10
فالطبيعة والتاريخ هما عالم الشهادة .والوصل بين الإنسان وما يتعالى على الطبيعة والتاريخ سواء كان دينيا أو فلسفيا يتصف بصفتيهما وينتج عنهما. لكن الوصل كما أسلفنا في دراسات سابقة نوعان: -هذا الذي ذكرنا هو الوصل الصاعد من القطب الإنساني إلى القطب الإلهي. -والثاني نازل من هذا إلى ذاكوهذا الوصل النازل ،هو المرجعية الدينية أو الرسالة ،وهو في حضارتنا الإسلامية، القرآن لا غير .لأن السنة القولية والفعلية هي تعليم الرسول للقرآن.قدسية السنة هي كونها تعليم المعصوم .ويمكن استثناء الحديث القدسي الذي يعلن النبي صراحة أنه كلام الله .لكنه لم يقل عن الحديث إنه كلام الله.لكن الحديث العادي إن صح ،فهو الاجتهاد الأسمى .لأنه اجتهاد الرسول في فهم القرآن وتعليمه كما أمر .ومن ثم فهو تابع للقرآن تفسيرا وتعليما. فكيف يمكن رد استثمار المرجعية إلى المعادلة الوجودية؟إذا درست بمقتضى عالم الشهادة بمنطق قيس عالم الغيب عليه ،كان الاستثمار علوما زائفة.أما إذا درست مع استثناء الغيب ،فإنها تكون من جنس العلوم الفلسفية التي تعتبر مسلماتها ومقدماتها فرضيات تمكن من تفسير الظواهر في حدود العلم.وذلك ما تحدده الآية 53من فصلت :فالآيات في الآفاق (الطبيعة والتاريخ ومنهما الإنسان) وفي الأنفس (نفسها في علمنا) هي المعلوم من عالم الشهادة.وهي التي تبين أن المرجعية القرآنية حق .لأنها مبنية على أسلوبين في الكلام عليهما في علاقة بما ورائهما: -تحليلي بدليل الأولى -وتأويلي بالأمثالوهذا يعني أن كل ما ينسب إلى علم الكلام من معرفة ،هو معرفة زائفة لعلتين منهجية وعقدية: 64 11
-قيس الغيب على الشهادة -ورد النقلي للعقلي بالتأويل.ذلك أن رد الغيب إلى الشاهد ،نفي للدين من أصله .وهو مناف لدعوى الكلام بأنه يثبت العقائد بالعقل .ورد النقلي للعقلي مستحيل حتى في معرفة الشاهد.يتصورون مفهوم النقل مقصورا على الأديان .لكن العلوم كلها فيها وجه نقلي ووجه عقلي .بما في ذلك علوم الفلسفة :وتلك علة حاجة العلم للتجربة.مضمون العلوم كلها نقلي إلا ما كان منها من جنس ما يسميه ابن تيمية بالمقدرات الذهنية .لكنها عندئذ ليست علوما لموجود ،بل إبداع لنموذج مجرد.والنموذج المجرد هو صورة كل العلوم :العلم هو بنية مجردة متعينة بمضمون تجريبي محدد موجود ،يخصصها في تطبيق معين على مادة معينة نقلية بالضرورة. والمغالطة الكلامية تتمثل في الخلط بين الغائب والغيب. كل غيب غائب .لكن ليس كل غائب غيبا.قيس الغائب على الشاهد ممكن في علم الشاهد لا غير .وهو شرط كل تعميم ما علمناعلى ما لم نعلم بفرض التماثل بين الأمرين .وهو أداة منهجية لتوسيع الاستقراء ،لكنه مصدر عديد الأخطاء حتى في علم الشاهد.قيس ذات الله وصفاته حتى بالسلب على ذات أي موجود وصفاته ،ينتج عن مغالطة الخلط بين الغيب والغائب .ونفس الأمر بخصائص الآخرة والبعث والحساب.ما نحتاج للإيمان به ورد في المرجعية القرآنية وفي تفسير الرسول وتعليمه أو السنة .وهو إيماني لا علمي ولا يمكن صوغه بأفضل من صوغ المرجعية.كل عقائد المذاهب الكلامية ثرثرة لا فائدة منها إلا شرور الفتن تصديقا للآية السابعة من آل عمران .علم العقيدة الوحيد المقبول نصي وتاريخي. وأقصد بالنصي أمرين: -لا يمكن أن يكون المتكلم الذي يصوغ عقيدة لمذهب أبلغ من نص القرآن في صوغها. -والثاني النصي يحفظ وحدة الجماعة ولا يفتتها. 64 12
وأقصد بالتاريخي ،هو ما سميته قبل قليل بدراسة كيان المرجعية المادي .فهذا عمل تاريخي وخاصة فيما يتعلق بجمع القرآن وتمحيص الحديث وتخليصه. 64 13
عندما وضعت نظرية المعادلة الوجودية ،لم يكن القصد علاج مسالة فلسفية فحسب ،بلتحديد النظام العميق للقرآن الكريم الذي تجاذبته القراءات المذهبية ،فمزقه أصحابهاشر تمزيق حتى أصبح يقول كل شيء ولا شيء .كبار المفسرين تفننوا في استعمال أدواتالعصر اللغوية التاريخية والتوظيف الإيديولوجي ،ثم سيطرت العلوم الزائفة التي حولت القراءات الكلامية إلى أدوات صراع مذهبي مضاعف: -داخلي بين فرق الكلام -وخارجي مع الأديان وكلاهما أضر بدورهفصراع المذاهب الداخلي تأسيس لحروب دينية وحرب أهلية لا تتوقف .والصراع مع الأديان الأخرى تأسيس لما ينافي الرسالة التي تؤسس للتسابق في الخيرات.فعبارة إن الدين عند الله الإسلام ،لا تنفي التعدد الديني شرط التسابق في الخيرات. فالديني في الأديان غايتها .وهي تسعى إليه سعيا لامتناهي المسار.وبهذا التصور ،نفهم لما كان القرآن أشبه بفلسفة دين باحثة عن هذا الديني ،بوصفه جوهر الإسلام الذي رغم كونه فطريا يبقى غاية عسيرة الإدراك.ولهذه العلة ،نجد فيه عرضا نقديا للتجارب الدينية والروحية في عبارتها ورعايتها وفي سلوك أهلها .لكأنه عرض تاريخي للتجارب الروحية للبشرية كلها.وطبعا فلا يمكن أن يتكلم على التجارب الروحية كلها ،بل هو لخصها في قطبين منزلين وقطبين طبيعيين ،وأصل بداية وغاية نكوص في الآية 17من الحج.والقطبان المنزلان هما اليهودية والمسيحية .والقطبان الطبيعيان هما الصابئة والمجوسية .والأصل السلبي الشرك ،تتجاوزه الأديان وتنكص إليه بالتحريف.أما الأصل الإيجابي ،فهو الإسلام من حيث هو فطرة تتهود وتتنصر وتتصبأ وتتمجس وتتشرك انحرافات عن الديني في الأديان الذي هو أخلاق النظر والعمل. 64 14
فالديني هو أخلاق النظر والعمل المتعينة في الإرادة والمعرفة والقدرة والحياة والوجود عندما تتجلى في السياسة والعلم والاقتصاد والفن والرؤى.فلنبين الآن كيف أن نظام القرآن المحدد لوحدته بوصفه مشروعا مضاعفا :درس نقدي للتراث الديني في مرجعياته واستثماراتها وبديل إصلاحي للإنسانية.ولهذه العلة ،فالوجهان يدلان على أنه يتألف من مقومي الاستراتيجية الحضارية بوظيفتيها المحققتين لكيان الإنسان مستعمرا في الأرض ومستخلفا فيها.ومدار الاستعمار في الأرض علم الطبيعة والتاريخ والعمل على علم فيهما .ومدار الاستخلاف العلاقة بين القطبين (الله والإنسان) بتوسطهما ومباشرة. وهذا هو الوجه الأول من الوصل بين عناصر المعادلة الوجودية.أما الوجه الثاني ،فهو المرجعية القرآنية التي لا تتضمن إلا هذه الأبعاد رسالة خاتمة.ولأنها خاتمة ،فلا بد أن تكون قائلة بانتسابها إلى التجربة الروحية الإنسانية عامة لكأنها ملخصها ،وبكونها حركة إصلاحية لتحريفاتها وليست جديدة.وحدة الديني في الأديان لا تنفي تعددها وتنوعها .كما أن وحدة الحي في الأحياء لا ينفي تعددها وتنوعها :لذلك فالتوحيد طلبا للوحدة هو جوهر القرآن.وأكبر الأدلة على أن القرآن بحث في الديني في الأديان مبدؤه المنهجي \"التصديق والهيمنة\" .فكل ما يثبت الوحدة يصدقه القرآن فيهيمن بطلبه كغاية.وتلك هي علة تسميتي مشروع القرآن بـ\"استراتيجية التوحيد\" واعتباري السنة \"منطق السياسة المحمدية\" أي السياسة التي تحقق عينة من توحيد الإنسانية.ونحن الآن على أعتاب استئناف المشروع .فالإنسانية اتحدت ماديا ولا بد من توحيدها روحيا (النساء 1والحجرات )13للتسابق في الخيرات (المائدة .)48والتسابق في الخيرات هو السعي إلى الديني في الأديان بأخلاق النظر والعمل في السياسة والعلم والاقتصاد والفن والرؤى بعدم الغفلة عن التعالي.وهذا هو درس القرآن للتراث .وهو النموذج الذي ينبغي اتباعه بمبدئه المنهجي \"التصديق والهيمنة\" .نصدق الصادق من تجارب الإنسانية مع هيمنة الغاية. 64 15
القرآن ليس مجرد تراث .هو فاعلية حية لمرجعية تنعكس على نفسها لدرس تراث الإنسانية في تجاربها الروحية الشاملة للاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها.لذلك ،فكل من يستغرب شمول الإسلام للأفعال الخمسة (السياسي والعلمي والاقتصادي والفني والرؤيوي) ما يزال يقيس الإسلام على الأديان الأخرى.لكنه لا يقاس عليها ،لأنه الديني فيها جميعا وغايتها المثلى .معرفا نفسه بكونه الرسالةالأخيرة التي تصوغه فترده إلى اخلاق النظر والعمل الشاملين .والنظر والعمل الشاملينلا يفصلان بين بعدي الإنسان من حيث هو مستعمر في الأرض ومستخلف فيها .بل الإسلام يعتبر الفصل بينهما التحريف الذي يصلحه.وهذا هو جوهر نقد تراث الإنسانية بوصفه الفاعلية الشاملة للنظر والعمل وثمراتهما في السياسة والعلم والاقتصاد والفن والرؤى وما وراءها من تعال.وهذا هو فعل الوصل الصاعد من الإنسان إلى الله وصدق الرسالة أو بيان أنها الحق ( 53من فصلت) وذلك هو نظام هذه الأنشطة .أي آيات الآفاق والانفس.تطابق التواصلين يفيد أن استراتيجية القرآن الناقدة للتراث الروحي وتطبيقها في الأفعال الخمسة والإصلاح ،أخلاق لغاية عمرانية اجتماعية بقيم سامية. والسؤال هو ما الذي جعل ذلك ينقلب رأسا على عقب؟وما الذي جعل نقد هذه الاستراتيجية القرآنية يظنها الكاريكاتوران مطابقة لانقلابها رأسا على عقب؟ونقد التراث لدى الكاريكاتورين ،التأصيلي مدحا للذات وذما للغرب ،والتحديثي للغرب وذما للذات ،لم يكن كذلك إلا بسبب عدم الوعي بالانقلاب الحاصل.وقد سميت هذا الانقلاب بالانتقال من الدستور القرآن إلى حالة الطوارئ ،بسبب الحرب الأهلية الناتجة عن الفتنة الكبرى :أباحت الضرورات المحظورات.عوضت الحريتان الروحية (العلاقة المباشرة بين المؤمن وربه) والسياسية (العلاقة المباشرة بينه والشأن العام) بما نقده القرآن في التراث الروحي. 64 16
استبدلت بالحرية الروحية وساطة كنسية لأصحاب العلوم المزيفة .واستبدلت بالحرية السياسية وساطة استبدادية تحكم بالحق الإلهي :فسدت التربية والحكم.فعادت التراث الذي نقده القرآن ،ليصبح هو المؤثر في مجريات الأمور الفعلية .وبقيت تعاليم القرآن قيما لا وجود لها إلا في الأذهان ُمثلا غير متحققة.بقي الدستور حبرا على ورق .وأصبح الحكم الفعلي على سنن الامبراطوريتين اللتين أزاحهما الإسلام والتربية بتقاليدهما .فمحيت كلتا الحريتين القرآنيتين.لكن كاريكاتور التأصيل يدافع عن هذه التحريفات ظنا أنها الأصل .وكاريكاتور التحديث ينتقد المرجعيات غالبا بسوء نية خالطا بينها وبين تحريفاتها.وبذلك يتبين خطر درس التراث .من دون هذه المقدمات النظرية التي تحرره من تشويهات الكاريكاتورين المادح والذام للتراث الإسلامي المحرف والمشوه.فالتأصيلي غافل عن كون القرآن هو بالجوهر درس للتراث الروحي من أجل تخليصه مما يحول دونه وتحقيق وظيفتي الإنسان المستعمر والمستخلف ،فينكص لمنقوده.لكن التحديثي ليس غافلا .بل هو بقصد سيء ،يهمل الدرس القرآني للنقد التراثي المحرر للإنسانية من نقيضي الحريتين ويرده إلى تحريفات عصر الانحطاط.وحسما للأمر كله ،فقد بينت أن علة الانحطاط ليس المرجعية ،بل تحريفاته بسبب النقلة من الدستور القرآني إلى حالة الطوارئ في حكم المسلمين وتربيتهم.فلنفرض مثلا أن أوروبا بقيت بين الحربين خاضعة لحالة الطوارئ في الحرب الأولى، لنكصت مثلنا إلى حالها قبل ثورتيها في نظامي الحكم والتربية.ونحن نرى بالعين المجردة اليوم كيف أن أمريكا مباشرة بعد 9- 11نكصت في حكم بوش إلى حال مزرية وهي ما تزال في نكوصها وخاصة بعد وصول ترامب.التحديد الداخلي والخارجي ،وخاصة إذا طال بقاؤه ،يؤدي إلى نكوص كل القيم بسبب الخوف والانكماش :والأمة عاشت هذه الحالة في تاريخها بعد الراشدين.فبعد الصليبيات والمغوليات والحروب الأهلية وتفتت الخلافة إلى سلطنات ،غالبها تحت حكم الحاميات المرتزقة ،نحمد الله أن الجوهر صمد وهو يستأنف. 64 17
ولسوء الحظ أو لحسنه ،فالاستئناف يوازي مرحلة أخرى من مغوليات غربية هذه المرة، وفي نحو ما جامعة بين صليبيات ومغوليات وخيانات داخلية أدهى وأمر.لكن تجذر قيم القرآن وتعمق ثقافة العزة وعودة الشباب للطموح بالدور الكوني للأمة وتوسع رقعة الإسلام وتعدد شعوبه ،يجعل الاستئناف قويا وأكيدا.فمن منا لا يعجب ممن يقرأ القرآن ويرى نقد التراث السياسي للفراعنة يعتبر من الدفاع عن القرآن والحكم بالشرعية الدفاع عن فراعنة العرب وفسادهم؟ومن منا لا يعجب من قارئ القرآن الذي يرى ما يقوله القرآن حول دور الكنسية في تحريف الدين ويدافع عن سلطة وسيطة بين المؤمن وربه ويسميهم علماء؟ومنا منا لا يعجب من قارئ للقرآن يقبل ان يسمى من يغتصب الحكم بالانقلاب ،ولي أمر، وهو في الحقيقة مفرط في الأمر لمن يحميه من القوى الاستعمارية؟ذلك ما أعنيه باستبدال حكم الغياب لحالة الطوارئ بدستور القرآن الذي يحمل بثورتيه المؤمنين مسؤولية ذاته الخلقية ومسؤولية الجماعة السياسية. 64 18
وقبل أن أصل إلى انتخاب أمثلة من الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي ،لا بد من الكلام في هبل الثاني في فكر من يسمون بالعقلانيين ،قديمهم وحديثهم.في القسم الأول ،قدمت بحثا قديما كتبته في \"الواقع\" الذي هو وثن الحداثيين والتأصيليين من النخبة العربية. وأمر الآن إلى وثنهم الثاني \"العقل\".وسأبدأ بمفهومه القرآني الذي هو أسمى تصور للعقل عرفته البشرية .لأنه يجمع بين دلالتي الفهم بمعنى ملكة الفهم المعرفية ،وملكة التقويم الخلقية.لست صاحب هذا الفهم .فالمحاسبي بين ذلك أفضل مني .وابن خلدون عمق المعنى، فأضاف وسطا بينهما :فبين التمييزي والتجريبي ،أو الخلقي وضع النظري.ولتيسير نظرية ابن خلدون ،فالتمييزي للتصور والنظري للتصديق بلغة أرسطو المنطقية .أي الأول للباب الثاني ،والثاني للباب الأول من التحليلات الأواخر.أما التجريبي في وصف ابن خلدون ،فيعني ما نعنيه الآن بالعقل العملي الذي ينتج عن التجربة في الجماعة ،لاستبطان أخلاقها الموضوعية تصورا وسلوكا.والنظري في الفكر القديم والوسيط ،فهو ذو الوسط الواصل بين تال ومقدم .أو هو المعرفة غير المباشرة لاعتمادها على علاقة منطقية بين مقدمة ونتيجة.ويقابلونه عادة بالضروري أو المعرفة المباشرة التي تتعلق بمدارك التصورات البسيطة، والتي منها يتركب النظري بحد أوسط بين حدين معرفة غير مباشرة.هذه التعريفات ضرورية لفهم الاخطاء السائدة في تصور العقل وقدراته المعرفية المبالغ فيها ،للظن بأن \"الواقع\" ينعكس عليه انعكاس الصور على المرآة.فحتى أرسطو ،وهو من هو ،كان يعتقد أن العلم يحصل بهذا الانعكاس الذي لا يشوبه إلا عدم التدقيق الاصطلاحي للحدود وعدم السلامة المنطقية للاستنباط. 64 19
ورغم ذلك ،فهو لا ينكر الأمرين اللذين كان ينبغي أن يحدا من هذين الوهمين: -الأول أن اثباته لما يسمى مبادئ العقل كان جدليا في الميتافيزيقا. -والثاني هو الظن بأن الحاجة إلى قطع التسلسل وإيقاف الدور في المبادئ الاولية للمعرفة ،حجة كافية للتسليم بأن سدها يتجاوز فرضية الانطلاق العملية.فلا شيء يثبت أن ما يثبت جدليا وما يسلم لحاجة الانطلاق في الاستدلال ،كافيان لجعله من الحقائق الضرورية وليس من الفرضيات العلمية لكل صناعة.ومجرد فهم ذلك ،يجعل هذه المسلمات التي صارت تعد حقائق مطلقة ليست إ ّلا أدوات عمل تتغير بحسب العمل والغاية منه ،ومستوى تعقده وطابعه غير المباشر.والتصريح بهذه الحقيقة العميقة ،هي التي حببتني في ابن تيمية :فهو أول من نفى إطلاق مقدمات المعرفة وبيّن أنها إضافية مرتين :للمخاطب وللغاية.ومعنى ذلك ،أنه يعتبر تأسيس المعرفة الإنسانية لا يتجاوز التأسيس الجدلي البراجماتي ،ولا يحتاج لما يظن حقائق أولية لا جدال في حقيقتها المطلقة.بعبارة أوجز ،يعتبر ابن تيمية ما يسمى بالأوليات أو بالمعرفة الضرورية الغنية عن الدليل ،فرضيات إضافية للمخاطب بها وللغاية المعرفية منها لا غير.وحجته لا تقبل الدحض :فهو يرى أن كل تصور قابل للتجويد بلا حد ،وأن كل نتيجة علمية تقتضي وجود مقدمة كلية .ولا كلية في اي علم ذي موضوع وجودي. فالكليات العلمية عنده مقصورة على نوعين من المعرفة: -الأولى هي معرفة المقدرات الذهنية وهي ليست علما لموضوع موجود بل مصفوفة رمزية خاوية. -والثانية هو الكليات الاعتقادية في الأديان وهي إيمانية لا علمية وهي أحكام تشريعية تتعلق بالمنشود وليست حقائق للموجود.وهذه المصفوفة الرمزية الخاوية-رياضية ومنطقية-تصبح علما لموضوع معين عندما تملأ خاناتها الخاوية بمضمون معين مستعد من التجربة وهي إحصائية. 64 20
ذلك أن أي موضوع موجود في الأعيان ،لا متناهي الصفات والتنوع .ولا يمكن لأي استقراء أن يكون تاما في الوجود الفعلي .بل يقتصر على المقدرات الذهنية.وإذن ،فالمباشر من المعرفة لا متناه على الأقل كإمكان عقلي ،لأن التصور قابل للتجويد اللامتناهي وغير المباشر بملء المصفوفة الذهنية استقراء ناقص.لذلك فإني اعترف بأني لا ارى سبيلا ممكنة لوصف الحداثيين العرب فلاسفة الإسلام التقليديين والمتكلمين عامة ،والمعتزلة خاصة ،بكونهم عقلانيين.وإذا كنت أنفي عقلانية الفلاسفة والمتكلمين التي يدعيها لهم التحديثيون العرب ،فمن باب أولى أن أنفي كلام التأصيليين على المعلوم من الدين بالضرورة.لن أجادل تأصيليا يقول لي إني أومن بأن المعتقد كذا أو كذا ضروريا في منظومتي المرجعية ،بمعنى أني لا أستطيع التسليم بما يبنى عليه من دونه.لكني لا أفهم \"المعلوم من الديني بالضرورة\" ،فهو بهذا يتسلم مفهوم العقل الفلسفي والكلامي القائل بما بينا أنه ليس ضروريا ،بل حاجيا في معرفة ساذجة.واسمي معرفة ساذجة كل معرفة تتصور الوجود شفافا والعقل نفاذا لحقيقته ،بصورة تجعله مرآة تنعكس عليها الحقائق ناصعة كما تصورها خالقها أو طبيعتها.المعرفة \"العقلية\" نسبية جدا .وهي أداة عملية تطبق مقدرات ذهنية صيغت في بنية رمزية بخانات خاوية نملؤها عند التطبيق بتصورات نسبية لموضوع معين.فتطبيق الرياضيات في الفيزياء أوفي الاقتصاد ،يكون بملء خانات منظومة المقدرات الذهنية التي تمثلها حروف بينها وصلات منطقية بقيم الموضوع العيني.ولما كانت القيم التي تعبر عن الموضوع المدروس تجريبية أو فرضية ،وبها تشحن خانات البنية الرمزية التي هي مقدرات ذهنية ،فإن العلم احصائي دائما.وذلك دليل قاطع على أن العقل العلمي واع بحدوده ولا يدعي العلم المطلق الذي يتطابق فيه ما في الأذهان من تقديرات مع ما في الأعيان من موجودات.بوسعي الآن أن أتكلم على ما وصفته بالعلوم الزائفة ،أعني كل ما بني على \"وثن\" العقل في علم الكلام والفلسفة(النظر) وعلى الفقه والتصوف (العمل). 64 21
فهذه \"العلوم\" بنيت على تصور غفل للمعرفة العلمية ،أساسها القول بنظرية المعرفة المطابقة التي تعتبر العقل مرآة عاكسة \"للواقع\" الشفاف لنفاذه.والدين بريء من هذا الوهم .لأنه يعتبر كل موجود فيه وجه شاهد ووجه غيبي .ومن ثمّ ،فحقيقة الوجود في الأعيان لا يمكن أن ترد إلى تصورها في الأذهان.وهذا التصور الديني للمعرفة ،متقدم جدا على أوهام المتكلمين والفلاسفة والفقهاء والمتصوفة .وهوما يقول به ثالوث المدرسة النقدية المذكور في بحوثي.فالغزالي وابن تيمية وابن خلدون ثلاثتهم ينفي أن يرد الوجود إلى الإدراك حتى وإن بقي عندهم وهم إدراك ذوقي يتجاوز المعرفي كما في وجدان الزهاد.وإذا كان الغزالي قد لجأ اليه ظنا أنه يشفي غليله المعرفي ،فإن ابن خلدون نفى كل إمكانية لقول ما يدركه الوجدان .وإذن فهو لا يمكن أن يكون معرفيا.وابن تيمية متردد في ذلك .فإذا أبقى على القول بلا تناهي تجويد التصور وامتناع المعرفة الكلية للموجود الفعلي ،فإنه لا يمكن أن يغامر كالغزالي.ولعله يقصر هذا الذوق المتجاوز للعقلي على الأنبياء الذين يتلقون الوحي .ومثله ابن خلدون الذي استثني الأنبياء من عدم القدرة على قول الوجداني.وبهذا المعنى ،فالكلام على عقلانية المعتزلة وابن رشد غايتين لعقلانية كاريكاتور التحديث لدى النخب العربية من مهازل الأمية الفلسفية المسيطرة.لذلك ،فنقدة التراث كلهم من هذا الرهط أو من الكاريكاتور الثاني الذي استبطن أوهام الحداثيين في ردوده عليهم ،ردودا سندها الفلسفي من نفس الجنس.وأختم الفصل بالكلام على أصل هذه العلوم الزائفة ،لكونه يظن علما بمرجعياته .ايالقرآن والسنة :أعني التفسير .فالتفسير كله مبني على هذه الأوهام ،وخاصة التفاسيرالتي تدعي العقلانية ،أعني الاعتزالية وحتى الأشعرية المتأخرة (ورمزها الرازي) .هي تفاسير مبينة على نظرية المعرفة الساذجة كما وصفت.وقد يعجب الكثير لو قلت إن هذه التفاسير المزعومة عقلانية دون التفسير بالأثر وبالحديث .لأن هذه على الأقل متواضعة ولا تدعي يتجاوز الفهم النصي. 64 22
والفهم النصي مع التاريخ ،هما التعليم السوي للعقائد الإيمانية دون زعم تجربة علمية تنفي شرط الإيمان والتجربة الروحية بعقلانية ضميرها نفي الغيب. 64 23
والضرب الأول يقول بفعلين إلهيين هما أساس الطبائع وأساس الشرائع ،أي العالم الطبيعي والعالم التاريخي وهما فعل الخلق-والإعدام والأمر-والنهي.والضرب الثاني ينفي الفعلين ،ويعتبر الإيجاد والإعدام والأمر والنهي كلها أفعال الطبيعة أو الصدفة ،وليس وراءها رب خالق للطبيعة والتاريخ وشارع لهما.وبذلك يتبين أن نظرية الرب لا تعدو أن تكون أحد هذين الضربين اللذين هما موقف واحد من وجهيه الموجب والسالب مما وراء نظام الطبيعة والتاريخ.وهذه هي الإشكالية الجوهرية المشتركة بين الدين والفلسفة ،لأنها في الحالتين شرط تأسيس النظر والعمل أو العلم والأخلاق في تراث الإنسان الحضاري.والثيولوجيا اثباتا ونفيا للرب الخالق والآمر ،تنتج عن انثروبولوجيا قائلة بما في فصلت 53أو مستغنية عنه اقتصارا على التولد الطبيعي والصدفة.وبذلك يكون مفهوم الانثروبولوجيا (نظرية الإنسان) منطلق كل فكر في الأبعاد الأربعة الباقية ،أي في الرب والطبيعة والتاريخ والوصل بين العناصر.ولا بد أن كل من قرأ القرآن بتدبر ،قد وجد أن العلاقة بين القطبين الرب والإنسان هي المحور الرئيس في القرآن الذي يدرس التراسل بينهما قولا وفعلا.وأقصد بالإنسان هنا الفرد والجماعة في آن .لذلك جاء في سورة العصر أن الاستثناء من الخسر يجمع بين فعلين فرديين وفعلين مشتركين ،واصل يوحد بينها.فالإيمان والعمل الصالح فعلان فرديان لا مشاركة فيهما .والتواصي بالحق والتواصي بالصبر ،مشاركة في فعلين جمعيين .والأصل طلب الاستثناء من الخسر.وأهمية العلاقة بين قطبي المعادلة ،مباشرة كانت أو غير مباشرة ،تبرز من أسماء الله الحسنى وما يناظرها من أسماء الإنسان المتأرجحة بين الحسن والقبح.وهذا التأرجح بين الحسن والقبح هو مجال ممارسة الحرية الإنسانية ،التي تضفي معنى على التمييز بين الخلق والأمر :الحرية هي أن المأمور يطيع أو يعصي.وتلك علة التمييز بين الربوبية والألوهية عند المؤمنين ،لكن الملحدين ينفون الرب فضلا عن الإله لأن البديل هو الطبيعة أو الصدفة وتربب الإنسان. 64 25
ولنكتف بالمقابلة بين الصفات الخمس :الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود .كلها مطلقة وكاملة إذا وصف بها الله .ونسبية وناقصة إذا وصف بها الإنسان.وبهذا المعنى ،فالصفات التي تشتق منها أسماء الله الحسنى قابلة للرد إلى هذه الصفات الخمس .والصفات التي تشتق من وصف القرآن للإنسان ،ترد إليها.والفرق الوحيد هو اطلاقها وكمالها في وصف الله ،ونسبيتها ونقصها في وصف الإنسان: مثلا الله فعال لما يريد ،والإنسان لا يستطيع أن يفعل كل ما يريد.وهذا التطابق في الصفات والاختلاف في تكييفها ليس كميا فحسب :فصفة القدرة مثلا لا تختلف كميا ،بل كيفيا من جنس اختلاف الزمان مع الدهر أو السرمد.وبصورة أوضح ليس اللامتناهي قدرا أكبر من المتناهي ،بل هو طبيعة ثانية مختلفة تماما .لأن الأكبر يبقى قابلا للإحاطة به ،أما اللامتناهي فلامحدود.ومع ذلك فمبدأ ليس كمثله شيء يعني أن المماثلة الحاصلة في بادئ الرأي ،هي في نسبة الرمز إلى المرموز :وهو معنى آية .أي إنها رمز ما هي آيته.وإذن وخاصة في هذه الصفات الخمس ،يمكن القول إن الإنسان رمز أو آية تشدنا إلى ذات الله وصفاته بما يشبه العينة المتناهية من اللامتناهي الإلهي.ولعل هذا هو المعنى العميق للاستخلاف :الإنسان من حيث هو إنسان خليفة بمعنى خلافة الرمز للمرموز .ولأضرب مثالي نظرية رمز الفعل وفعل الرمز.فالعملة (رمز الفعل) ليس فيها شيء مما ترمز إليه-ورقة أو قطعة نقدية-ترمز لقدرةشرائية ليست من طبيعة الورقة أو القطعة بل هي ما ترمز إليه وفي حدود سريان فاعليتها.فهي ترمز إلى كل ما يمكن شراؤه بها مما يحتاج إليه الإنسان من بضائع وخدمات ،فتكون آيتهما في جيب مالكها في نطاق سريانها.وفعل الرمز أو الكلمة ،تؤدي معنى هي آيته أو رمزه لكنها ليست معنى .بل آية معنى أوحامل معنى ،وخليفته عند المرسل والمرسل إليه في التواصل اللساني والمعنى الواحد يقالبعدة ألسن ،فإنه يكون متعدد الرموز أو الآيات الدالة عليه دون أن تكون إياه .ولولا ذلك ،لاستحال التواصل بين الشعوب بالترجمة. 64 26
لذلك قالت فصلت 53إن الله يرينا حقيقة القرآن في آياته بظهورها في الآفاق (الطبيعة والتاريخ والنفس) في الأعيان وفي الأذهان (نفسها في النفس)استخلاف الإنسان يعني أنه آية ترمز إلى المطلق دون أن تكون مماثلة له .لأنها من آيات ظهوره وهي الأسمى بمنطوق القرآن من كثير مما خلق الله. المعادلة: .1الله قطب أول .2العالم الطبيعي وسيط أول .3التاريخ وسيط ثان .4الإنسان قطب ثان .5الوصل الصاعد (أفعال الإنسان) والنازل (الرسالة).تلك موضوعات القرآن مشفوعة بعودته على ذاته ليعرفها بكونها رسالة متعلقة بنقد ما حصل فيها من تحريف وما ينبغي تحقيق الإصلاح فيه رسالة خاتمة.ويمكن اعتبار هذا الوصف تعريفا جامعا مانعا للقرآن إذا اقتصرنا على مضمونه ولم ننظر في وظيفته :فنقدها كتجارب روحية وتاريخية ،يمهد لتحقيق الرسالة.والرسالة تتحقق بالإرادة (السياسة :الحكم والتربية) والمعرفة (الابداع العلمي) والقدرة (الانتاج المادي) والحياة (الانتاج الرمزي) والوجود (الرؤى).وإذن ،فما تتحقق به الرسالة ،هو الصفات الإنسانية النسبية والناقصة في خدمة مقومي ذات الإنسان بما هو رمز من المطلقة والتامة :تعمير الأرض كخليفة.وكون صفات الإنسان الخمس رمزا لصفات الله الخمس بالتقابل الوارد في القرآن ،والذي شرحته هنا ،لا يخص الفرد كفرد فحسب .بل كمنتسب للإنسانية ككل.وينتج عن كلامنا على العلاقة بين الرمز والمرموز :فلا يوجد رمز قادر على ان يرمز من دون انتسابه لمجموعة رموز ،لأن رامزيته هي منزلته في النظام.فرمز الرمز لمرموزه ينتج عن تناظر نظامين رامز ومرموز لموضعين في التواصل ،مرسلة ومرسل إليها ،حتى لو كانت واحدة فالدلالة بالتناظر بين وجهي الترميز. 64 27
فانتباه المرسل والمرسل إليه متوجه للمنظومتين ليكتشف مدلول الرمز باكتشاف منزلته في نظامه الرامز ،ويستنتج منها منزلة المدلول في نظامه المرموز.وهنا المرسل ليس كمثله شيء .إذن شرط التواصل يبدو شبه معطل .فالمرسل يرسل بقيس المرسل إليه على نفسه .والمرسل إليه يتلقى بقيس المرسل على نفسه.لا تفاهم بدون التنقل بين الموضعين من المرسل إلى المرسل إليه في الإرسال .والعكس في التلقي ضمن الجماعة المتواصلة .وهذا مستحيل مع الله لما بيّنا.لذلك كان أسلوب الرسالة القرآنية وكأنه مشبه لو لا حرز ليس كمثله شيء .لذلك كان أسلوب الكلام :إما التشبيه الحشوي أو النفي المعطل التنزيهي.ولا وساطة بين هذين التحريفين الصادرين عن علاقة الرمز والمرموز وتوسط التناظر بين المتراسلين .لكن فهمها يحررنا منهما وتغنينا عن التأويل.حقيقة العلاقة بين الرمز والمرموز كمنزلتين في نظامين رمزي ومادي بين طرفين لا يتواصلان إ ّلا بأداء كل منهما الدورين في آن ،تغني عن التأويل.لكن إذا اعتبرنا أن الله يتواصل معه بأساليب التواصل بين البشر مع \"ليس كمثله\" شيء، فهمنا أن المتعالي لا يرد إلى تجلياته أو آياته :أساس العبادة. 64 28
كل ما أوردناه لا يتجاوز الكلام على عالم الشهادة ،مستثنين ما اعتبره القرآن من الغيبكما نبين .واتبعنا مبدأ فصلت 53باستعمال المعادلة الوجودية .لكن المعادلة تؤدي دورينآخرين في الفكر الديني .أعني أدلة وجود الله وتحديد علوم الملة الرئيسية .وكلاهما حصر بعدة أوجه نعتبر نسقيتها ضعيفة.وقد أجمل هيجل الأدلة في ضميمة دروسه في فلسفة الدين ،وقد ترجمناها مع الدروس لكن تصنيفه يختلف عن تصنيف لايبنتس وعن تصنيف ابن رشد والمتكلمين.أما علوم الملة ،فهي متغيرة من ملة إلى ملة ولم تصنف بصورة نسقية .بل هي حصيلة تطور تاريخي لا يمكن أن يعتبر ذا نسقية عقلية مناسبة للبحث العلمي.سأخصص هذا الفصل السادس لهاتين المسألتين لأستوفيهما حقهما ،استعدادا لمناقشة بعض الامثلة من درس التراث الكاريكاتوري ،تأصيليا كان أو تحديثيا. وابدأ بالمسألة الأولى :ادلة وجود الله بالأولى التي يقول بها القرآن. وهي بعدة عناصر المعادلة الوجودية وأصلها قلبها .أي الوصل بين هذه العناصر. الأدلة: .1يستمد من مفهوم القطب الأول .2ومن مفهوم القطب الثاني .3ومن مفهوم الطبيعة .4ومن مفهوم التاريخ .5والأخير وهو الأصل من الوصل بينهاوبعض هذه الأدلة لها أسماء معلومة ،وبعضها الأخر لا وجود للاسم ولا للمسمى .وما يعنيني هو أن التسميات تبدو عديمة الصلة بعضها بالبعض شبه تحكمية. 64 29
فالمستمد من مفهوم الإله يسمونه الدليل الوجودي .Ontologiqueوالمستمد من الطبيعة ونظامها يسمونه الدليل الطبيعي اللاهوتي .Physicothéologiqueوبسبب الدليل الرابع المستمد من مفهوم الإنسان ،لم تبرز العلاقة بينه وبين الوجودي، وبقي الطبيعي والخلقي غير واضحي العلاقة .متماثلة بين الزوجين.فالدليل الوجودي ممتنع من دون المقابلة بين المفهومين الله والإنسان .ومفهوم الكمال والوجود منه يؤسس للدليل الوجودي لأن المقابلة مع عدمه أصله.وعي الإنسان بعدم كماله يجعله يفترض الكمال موجودا ومتضمنا للوجود ضرورة، فيطبقه على الله .ومنه الدليل الوجودي أي استنتاج الوجود من الكمال.ديكارت اكتشف الوصل بين وعي الإنسان بعدم كمالة ومفهوم الكمال ،ولم ير العلاقة بين هذه العلاقة وتأسيس الدليل الوجودي على الكمال في مفهوم الله.وهذه اضافتنا للدليل الوجودي الذي هو دليل مضاعف أو مركب على نحو لم يره المتكلمون ،بدليل وجوب الوجود واونسالم بالدليل الوجودي غير المؤسس.وأهمية هذه العلاقة أنه تنطبق على علاقة الدليل الطبيعي اللاهوتي بالدليل الخلقي اللاهوتي .والأساس علاقة التاريخ والحرية بالطبيعة والضرورة.وهنا نجد نفس العلاقة بين الإنسان والله ،لكنها معكوسة :تناظر بين الأول علاقة كمال الله بنقص الإنسان والثاني ،علاقة حرية الإنسان بضرورة الطبيعة.والأدلة الفرعية اثنان لا أربعة ،لأن الدليل الوجودي يتأسس على علاقة كمال الله بنقص الإنسان ،والسببي على علاقة حرية الإنسان بضرورة الطبيعة.والأصل هو التجربة الروحية والفعلية التي تصل هذه الفروع الأربعة ،أعني الوصل بين شرطي العلاقتين -1 :المباشرة الله والإنسان -2غيرالمباشرة بينهماوالعلاقة الأولى بين الله والإنسان واضحة العلاقة ،مع صلة الوعي بالنقص .وشرطه الوعي بالكمال .وقد اكتفيت ببيان صلتها الخفية بالدليل الوجودي. 64 30
لكن العلاقة الثانية تحتاج إلى توضيح :فصلة الوعي بالحرية ،شرطه الوعي بالضرورة. فالوعي بالحاجة إلى شرع ،هو الوعي بضرورة تنظيم ما ليس بالطبع. وإذن فأدلة وجود الله زوجين اثنين مضاعفين: -الوعي بالنقص يقتضي الوعي بالكمال. -والوعي بالضرورة يقتضي الوعي بالحرية. والأساس في الحالتين الإنسان.لكن هذا الوعي المربع -جوهر كيان الإنسان-هو عين عيش تجربة الإنسان الروحية والفعلية بوصفها وصلا بينه وبين ما وراء ذاته والطبيعة والتاريخ.أصل أدلة وجود الله أبعاد وجود الإنسان أو الدليل على وجود الله آيته الأسمى ،أي خليفته الذي يدرك الكمال بنقص خلقته وحرية أمره :الخلق والامر.وبإدراك هذه العلاقات ،نفهم بيسر كل أدلة القرآن على وجود الله وكلها من الشاهد وليست قيسا للغيب على الشاهد ولا تأويلا يرد النقلي للعقلي. فنحقق غايتين:-1تجاوزعلم الكلام الإسلامي واللاهوت المسيحي ،لأنهما كليهما يخلوان من إدراك هذه العلاقات -2وندرك عمق نسق القرآن الاستدلالينسق الاستدلال القرآني مطلق الاختلاف عن علم الكلام .فالكلام علم زائف لاعتماده على قيس الغيب على الشاهد ،ولرده ما يتجاوز العقل بالتأويل إليه.وسندرس العلوم الزائفة فنعرض رأي المدرسة النقدية العربية ،ثم نبين علل زيفها بعد التحرر من وهم احيائها بتحديد علوم الملة ذات الأساس القرآني.إلى المسألة الثانية :كيف نستنتج من المعادلة الوجودية القصد بالأسس القرآنية لعلوم الملة والمنافية لوهم الاعجاز العلمي أساس كل العلوم الزائفة؟ولنبدأ بالأيسر :فالقرآن لا يقدم لنا قوانين الطبيعة المفصلة ،لكنه يحدد طبيعتها الكلية .فكل المخلوقات ذات بنية رياضية بنص القرآن .ما معنى ذلك؟ 64 31
إذا كان كل شيء خلق بقدر ،وكانت المخلوقات مختلفة ،فأقدارها مختلفة .وإذا كانت مع ذلك متاحبة في الوجود ،فلا بد أن بين الأقدار علاقات تمكن منه.هذا ما يقوله القرآن عن الطبيعة من حيث الخلقة :كل شيء كيانه بقدر ،ومنظومتها تناسق بين كيانات رياضية الكيان :قوانين قيامها وتفاعلها رياضية.فإذا جمعنا ذلك مع فصلت ،53نستنتج أن آيات الله في الآفاق والأنفس التي نعلم بها حقيقة القرآن ،قوانين رياضية يطلبها البحث العلمي من الآفاق.وإذن ،فعلوم الطبيعة أو اكتشاف قوانينها ،لا توجد في نص القرآن .بل فيما وجه إليه نص القرآن عقولنا للبحث عنها مقتصرا على تحديد طبيعتها الرياضية.هذا من حيث خلقتها ،أما من حيث وظيفتها في حياة الإنسان ،فهو يعلمنا بأنها تحتوي على شروط بقاء الإنسان بشرط رعايتها وحفظها من الفساد في الأرض.ولما كان التاريخ يتضمن بعدا طبيعيا مع بعد متجاوز له ،فإن رياضية الكيان لا تكفي. ولذلك يضيف القرآن تحديد طبيعة الزيادة فيها :السنن الخلقية.وهو يعتبر هذه السنن المتعلقة بالحرية في التاريخ الإضافية للضرورة الطبيعية ،هي بدورها لا تقبل التبديل والتحويل .والعلم بها شرط قيام العمران.وتتعلق هذه السنن بشروط التبادل والتواصل بين البشر أولا ،ثم بينهم وبين الطبيعة ثانيا .وثم بينهم وبين ما وراء الطبيعة والتاريخ .أي كل المعادلة.وهذه السنن تتعلق باستعمار الإنسان في الأرض واستخلافه فيها ،وهما محكومان بالتقابل الوارد في أمثولة الاستخلاف :راي الملائكة في آدم أو تجنبه.والتاريخ يثبت أن هذه السنن فعلا لا تتبدل ولا تتغير .وسلوك الإنسان الحر يخضع لسنن خلقية موجبه بتجنب سفك الدماء والفساد في الأرض أو باتباعهما.ويكاد هم الرسالة الأول والغالب ،ينصب على هذا المستوى الثاني من السنن .إذ المستوى الأول من القوانين الرياضية يعمل بالضرورة لا بالاختيار الحر.ليس في القرآن علم بجزئيات الطبيعة والتاريخ وبقوانين محددة ،بل هي تحديد لرياضية الطبائع المضطرة ولسننية الشرائع السياسية الخلقية الحرة. 64 32
والكلام في هذه التحريفات الناتجة عن كاريكاتور التحديث ،سنبحث فيها عند الكلام على الأمثلة التي سنضربها والتي تبين صدق شيخ الإسلام ابن تيمية.فنصف المتكلم يفسد الأديان .ونصف الفقيه البلدان .ونصف الطبيب الابدان .ونصف اللغوي اللسان .ونحن نثبت أن نصف الفيلسوف يفسد الفرقان والوجدان.بقي علم الوصل القرآني أصل كل العلوم :تفسير القرآن الكريم :إدراك وحدة القرآن ومشروعه بوصفه استراتيجية استعمار الإنسان في الارض واستخلافه فيها.وبهذا المعنى ،فاستراتيجية الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها ،هي منظومة القوانين والسنن التي تحقق شروطهما ،وتحقق وحدة الإنسانية بأخلاق القرآن. 64 34
بينا علاقة المرجعية بالتراث أصلا له: .1فالقرآن سلبا درس نقدي لتراث الإنسانية الروحي والتاريخي. .2وهو إيجابا مشروع مستقبلي لتوحيد الإنسانية.وبينا امكانية استخراج أسس كل أجناس التراث بحسب الأفعال الخمسة (السياسي والعلمي والاقتصادي والفني والرؤيوي) من المعادلة الوجودية دون تفاصيلها.وأثبتنا أن الأسس تتعلق بالمابعد المؤسس للطبائع والشرائع ،ولمناهج تحقيق الأفعال الخمسة فيهما ،شرطين لقوام الإنسان مستعمرا ومستخلفا في الأرض.وهذا المابعد ليس ما بعد طبيعة بل هو ما بعد أخلاق أو ما بعد تاريخ كوني ،يشمل الوجودين الدنيوي والأخروي بمقتضى المعادلة الوجودية كما عرضناها.فاستخرجنا مما بعد الأخلاق هذا ،المحدد لطبيعة الطبائع الرياضية وطبيعة الشرائع السننية تأسيس النظر والعمل المحققين لشروط الاستعمار والاستخلاف.والنظر والعمل المحققان لهذه الشروط في الأنشطة الإنسانية الخمسة ،أي السياسي والعلمي والاقتصادي والفني والرؤيوي هي التي تنتج التراث الذي ندرسه.فلنشرع الآن في تحديد هذا التراث لنبين فاعليته بحصيلة منتجه الحضاري في الحقبة التي يركز أصحاب الكاريكاتوران على درسها ،مدحا وذما ،إحياء وقتلا.فحصيلة فاعلية التراث في الأفعال الإنسانية الخمسة وصلتها بالطبائع والشرائع ،هي كل ما أضافته الإنسانية عامة ،والأمة خاصة للطبيعة .أي التاريخ.وتلك هي ثورة ابن خلدون :لم يعد التاريخ كلاما على الأسر الحاكمة حصرا في السياسة، بل هو أصبح العرض النقدي للتراث بكامله في الأفعال الخمسة.التراث هو التاريخ الحي والفاعل للسياسي والعلمي والاقتصادي والفني والرؤيوي. وهذه هي مواد المقدمة .ولو اقتصر على النظرية لكفته بعض صفحات منها. 64 35
لكنه وضع النظرية ،أي النقد التاريخي الشامل ،على أساس عرض الخبر على طبائع العمران .ثم طبقها على مقومات العمران وطبائعه وهي الأفعال الخمسة.تطبيق نظريته التاريخية بوصفه نقد الخبر بعرضه على طبائع العمران ،يجعله تاريخا نقديا لكل التراث السياسي والعلمي والاقتصادي والفني والرؤيوي.والثورة مضاعفة :فهي تتعلق بكتابة التاريخ وبحقيقة موضوع التاريخ .وهما المعنيان اللذان يميز بينهما الألمان بالهستوري علما ،والجشسته موضوعا.ثورة ابستمولوجية (كتابة التاريخ) ووجودية (حقيقة التاريخ) .وشرط الثورتين تفتح الباب لجعل التاريخ فلسفيا والفلسفة تاريخية :وعي معرفي ووجودي.والوعي المعرفي (فلسفة التاريخ) بمنزلة الإنسان في الوجود (ثورة الإسلام بمقتضى المعادلة) كان درسا نقديا للتراث عودة على نفسه :الإبداع الحضاري.فيصبح سؤالنا :ما الإبداع الحضاري في السياسة والعلم والاقتصاد (العمل) والفنون والرؤى الذي علينا عرضه لتميزه عن العلوم الزائفة للكاريكاتورين.فتتحدد نماذج كاريكاتور التحديث أعني درس التراث الإسلامي بمنظور ماركسي أو بمنظور يدعي تطبيق منهج الابستمي الفوكلدية وما يقابلهما في التأصيل.ولم أصف أسس درس التاريخ في كاريكاتور التأصيل كما فعلت بدرسه في كاريكاتورالتحديث ،لأنه في الحقيقة يقتصر على رد الفعل وموقف الدفاع ضده .فليس لأصحابالكاريكاتور التأصيلي اسس منهجية تتجاوز الردود على \"شبهات المستشرقين\" وعلى الماركسيين والبنيويين المقلدين لأبستميا الفوكلدية.وطبعا فوصفي درس التاريخ بالنهج الماركسي (ابو زيد) أو بالنهج الفوكلدي (الجابري) بكونه كاريكاتور تحديث ،لا يستنقص من قيمة الرجلين ،بل فساد الدرس.والفساد مضاعف :اعتبار الأساس مسلما دون نقد ،وهو موقف شبيه بموقف فلاسفة العرب القدامى الذين تسلموا الفلسفة اليونانية وكأنها حقائق نهائية.فعندما يقول الفارابي إن العلم اكتمل ولم يبق إلا تعلمه وتعليمه ،وصفا لفلسفة أرسطو، فهو لا يفكر فلسفيا بل هو يشرع مذهبا مدرسيا لكأنه رجل دين. 64 36
ونفس الأمر يقال عن ابي زيد مع الماركسية المتخلفة وعن الجابري مع البنيوية الابستيمية على النهج الفوكلدي .لكنه يوجد فرق بين قدمائنا وهذين.فالفارابي وابن رشد مثلا ،لم يكونا دون أرسطو وأفلاطون ،فهما لفلسفتهما ،بل هما أشبعاهما درسا واستوعباهما بقدر ما توفر لهما من مصادر ومراجع.أما ابو زيد والجابري ،فمعرفتهما بما يعتمدانه شديدة السطحية ومتخلفة عن نهجي ماركس وفوكو إلى حد قد لا يصدقه القارئ فيظنني متحاملا عليهما.لكن القارئ سيقتنع بأني لا أبالغ عندما يأتي الكلام عليهما وعلى نهج التأصيليين ،فيفهم لماذا قلت إن حاضرنا الفكري ما يزال دون فكر ابن خلدون.فشتان بين من أبدع ثورة في فلسفة التاريخ علمه وموضوعه ،ووصلهما بفلسفة الوجود والدين ،وبين من يردد ببغاويا وسطحيا عموميات ماركسية أو فوكلدية.كلاهما نقد للتراث .لكن الفرق هو كالفرق بين الثرى والثريا .صحيح أن القشور والموضة تنسب ابن خلدون إلى القرون الوسطى وهؤلاء إلى العصر الحديث.أكرر :فكرنا الحالي سواء عند التأصيليين أو عند التحديثيين ما يزال وبشدة متخلفا دون ثالوث المدرسة النقدية :الغزالي وابن تيمية وابن خلدونفسواء أخذنا العلوم التقليدية (الدين وفروعه) أو الحديثة (الفلسفة وفروعها) سنجد البون شاسعا بين هؤلاء وكل المتكلمين حاليا في كلا النوعين.لا أحد من علماء الدين الحاليين وصل إلى كعب الغزالي وابن تيمية .ولا أحد من متعاطيي الفلسفة تجاوز ابن تيمية وابن خلدون إلا في القشور والطنطنة.فالتجاوز ليس في المضمون (المتفلسف اليوم يعلم ما لم يعلمه الفارابي أو ابن سينا مضمونيا) لكنه من حيث جوهر فعل التفلسف ،دونه بسنوات ضوئية.ونفس القول يصدق على علماء الدين :قد يوجد علماء دين اليوم يتكلمون في مضامين يجهلها الغزالي مثلا ،لكنه لا يوجد عالم مسلم حالي يضاهيه إبداعا.بضاعتهم بضاعة صينية :تجد عليها عناوين المبدعات الأوروبية لكنها مزيفة ،ليس فيها ما فيها من قيمة ابداعية بها تتحدد قيمة المنتج مسمى لا مجرد اسم. 64 37
(تعديل) وفي الحالتين المعيار هو الروح الإبداعية التي غابت عند الكاريكاتورين. يتصوران تكديس المعلومات علما :باعة خردة وفريب تحاكي بلا إبداع. ولأضرب أمثلة من إبداع ابن خلدون في الأنشطة الخمسة: .1في السياسة وضع نظرية دور القوة والعصبية. .2في العلم أضاف الشرط العمراني في تطور المعرفة. .3ثم في الاقتصاد وضع عدة نظريات أهمها استقلال العملة ونظرية الضرائب ونظرية خصخصة الاقتصاد. .4ثم في الفنون وضع نظرية الذوق الشعري وتعدده. .5وأخيرا ،بين أن الرؤى الوجودية شرط مناظر للشرط الطبيعي في بناء الحضارات ،وبهما بدأت المقدمة أي الشرط الطبيعي والثقافي مقومين لموضع التاريخ.وكلها نظريات لم يرثها عن الفلسفة اليونانية ولم يحاكي فيها أحدا .لذلك فلابد من التمييز بين المبدع والمحاكي وبين المحاكي الجيد والمحاكي الرديء.من وصفتهم بكاريكاتور التأصيل وبكاريكاتور التحديث محاكون سيئون .الأولون لما انحط من ماضينا ،والثانون لما انحط من الحداثة .بياعة خردة وفريب.أعلم أن كلامي هذا قد يظنه الكثير \"اعتدادا بالنفس\" .وأعلم أنه قد سبب لي الكثير من العداوات .لكني أعتقد أن \"علماءنا\" ليسوا أفضل من ساستنا.الساسة نجوم تبرز بقوة الحكم أو المعارضة .وكلتاهما نجوم تابعة لمن يختارهم من الحماة. والعلماء نجوم تبرز بالتبعية لهؤلاء التابعين :لا أبداع.الشللية والحزبية والتبعية هي منطق سلسلة العمل :سياسيون في الحكم أو المعارضة، تابعون لحماة يستتبعون نخبا فكرية واقتصادية وفنية ورؤيوية.وقد أكون أبالغ في هذا التشاؤم ربما ،لأن المبدعين لم يبرزوا بعد .لأن بروزهم يخضع لمنطق التاريخ المديد .لكن النهوض بدأ منذ قرنين ولم نر ثمرة. 64 38
أبدأ الأمثلة بالكلام على كاريكاتور التأصيل ،وفيه سيكون العلاج عاما دون تعيين لنجممعين ،لأنها متماثلة وما تشترك فيه ضمن مادة التربية الدينية .وكان في شكل ردود علىثلاث مدارس فلسفية وعلمية ،وعلى ما يسمى بشبهات الاستشراق من منطلق صراع الإلحاد عقديا أو أعداء الإسلام مذهبيا.ولذلك ،فهي تبدو تأصيلية بمنطق حداثي ،إذ ترد على المدارس الثلاثة الماركسية والداروينية والفرويدية بمجرد العقد أو بآراء علماء غربيين منافسين.ويسمون المعتمدين في الرد من المنافسين لهم بالمنصفين .وخاصة إذا تعلق الأمر بما يرودونه من شهادات بعض المستشرقين لصالح رؤاهم التي يدافعون عنها.وكنت أمقت هذا الاسلوب في التربية الدينية لأنه لا ينتسب لا إلى الدين ولا إلى الفلسفةولا إلى العلم ولا حتى إلى حماية الإسلام اللائقة به .وبلغ سخف بعضهم إلى محاولة عكسالآية ،فيبحثون في القرآن والسنة -بما يسمونه الأعجاز العلمي-على سبق في اكتشاف ما يؤيد هذه النظريات \"الملحدة\".فوضعوا نظرية تميز بين الإنسان الذي تصح عليه الداروينية ،ثم الآدمية التي تصح عليها الرواية القرآنية لتغييره قبل استخلافه ،مرورا إلى الآدمية.كما وضعوا نظرية النفوس الثلاث-الامارة واللوامة والمطمئنة-ليبينوا سبق القرآن ،ولم يبق إلا ماركس الذي لم يجدوا له نظرية .فذلك لن يرضي مستخدميهم.فكيف يجدوا في الإسلام محاولة فهم ما يناقض سلوكهم المبرر للظلم والعسف وترضية أولياء الأمر الذين ينبغي لهم السمع والطاعة حتى لو كان كافور مصر؟لن أطيل الكلام في كاريكاتور التحديث .ولن تكون الأمثلة عينية ،لأن ما يعنيني في هذه الحالة بيان اصناف اساليبهم المستندة كلها إلى العلم الزائف. 64 39
وأخطر أسلوب هو أسلوب التأصيليين بدعوى الحجاج بالعلوم الحديثة ومحاولة الدفاع عن الإسلام بتحديث يرضي مستخدميهم ويؤمركه ويمسحه بدعوى نقد التطرف.ومن هذا النوع خاصة ،الدعاة الجدد .ولعل رمزهم عدنان ابراهيم الذي يمكن حسبان عدد صور الإسلام بعدد الممولين المتوالين على استغلال دجله المقيت. هم إذن صنفان كلاهما مضاعف: -صنف التأصيل بدعوى الإصلاح ،وفرعاه قراءة اساسها المعرفة الحديثة أو قراءة أساسها القيم الحديثة لأمركة الإسلام. -والصنف التقليدي ،وصنفاه زعم إحياء التراث النصي أو إحياء التراث \"العقلي\" وبيان ما فيه من مناسبة للعصر بالانتخاب التحكمي والمذهبي المقيت.ويبقى الأهم في ذلك كله برنامج التربية الدينية بالمدرسة التونسية في جيلي :الردود الخمسة على داروين وفرويد وماركس والالحاد وشبهات الاستشراق.وعليها سأركز بحثي في هذا الفصل الثامن ،والفصلان الباقيان أخصصهما لمثالين من كاريكاتور التحديث اي نقد حاميد أبا زيد الماركسي والجابري الفوكلدي.وقبل الغوص في درس هذه المسائل ،سأحدد أصلها الذي تنبع منه الفروع الأربعة .فهي صورة مطابقة لوضع التراث الرسمي في خدمة أنظمة تابعة ومتبعوعهم.والفرق الوحيد بين الصنفين ،هو أن الثاني الذي يدعي الإصلاح بالاعتماد المزعوم علىالعلم أو على القيم الحديثة يؤصل للأمركة بالانتخاب التراثي .فيرضي الكاريكاتورين فيخدمة الأنظمة التابعة وحاميهم خاصة إذا كان يزعم الرد على الصنف الأول الذي يتهم بكون تعاليمه تخرج الإرهابيين والتكفيريين.والصنف الأول الذي كان يخدم الأنظمة التي تدعي الحكم بالإسلام ،أصبح في مهب الريح لأن هذه الأنظمة تريد التخلص منهم وتعويضهم بالمدرسة الأولى.وقد اتضح الوضع منذ أن عرت الثورة المذابح وأعلنت ثورة صنفي الأنظمة المضادةالحرب الصريحة على الإسلام بالصنف الثاني وخلطه مع فكر الصنف الأول .فتقاسمت الأنظمة الأدوار: 64 40
الأنظمة القبلية تمول الثورة المضادة .والأنظمة العسكرية تفتك بالشعوب .والغرب يقودهم ويحميهم إعلاميا ودوليا وعسكريا.والحصيلة هي أن دراسة التراث في مدارس الكاريكاتور التأصيلي بصنفيه المضاعفين استخدم التراث لصالح الاستبداد والفساد بشكلين قبل الثورة وبعدها.فقبل سقوط أحد القطبين ،كانت الأنظمة العسكرية والقبلية في صراع باسم الإسلام والقومية وتبعية واضحة للقطبين الرأسمالي والشيوعي.وتلك كانت علة وجود الفرعين في كاريكاتور التأصيل الإصلاحي التقليدي والذي يدعي الحداثة العلمية والقيمية .وظل الامر في شبه هدنة إلى الثورة.عندئذ اتحد صنفا الأنظمة القبلية والعسكرية كما بينت وأصبح الإصلاح التقليدي متهما وبات التيار المفضل هو الجامع بين دجل العلم والقيم والتصوف.لذلك فأصحاب السلفية لن يبقوا منها إلا على الجامية .وأصحاب العلمانية لن يبقوا إلا على الصوفية .فيتحول الدين إلى باطنية في خدمة نفاة الحريتين.والحريتان كما هو معلوم ،هما جوهر الإسلام :الحرية الروحية التي تنفي الوساطة بين المؤمن وربه ،والحرية السياسية التي تنفي الحكم بالحق الإلهي.وإذن ،فالكل سيكون في خدمة الباطنية الصفوية والصهيونية في الإقليم ،ذراعين للحماة في الغرب والشرق والسنة التي عقموا فكرها لتصبح في مهب الريح.وما أكتبه في التراث ،هدفه بيان أن السنة هي بالأساس فاعلية تراثية ،لأنها تعني جوهريا جملة السلوكات ذات الفاعلية الشرعية لتحقيق قيم الإسلام.بعد هذا التوضيح للإشكالية وعلاقتها بالأحداث الجارية ،لأن التراث هو روح الجماعة أو أخلاقها الموضوعية في الأعيان وفي الأذهان ،سأمر للعلاج.والعلاج الذي سأقدمه هو في آن هو العلاج العلمي ،وهو الوحيد الذي تستند إليه السنة. ودليلي أن أكثر المفردات المترددة في القرآن الكريم مفردة العلم.لكن دليلي الأقوى هو أن السنة نفسها تعني سن سلوكات مناسبة وحفظها ما ظلت مناسبة لتحقيق مقومي كيان الإنسان :الاستعمار والاستخلاف في الأرض. 64 41
وفي غياب البحث العلمي الميداني والمختص والجماعات العلمية التي تحدد العلمية واللاعلمية ،لا يمكن الكلام على نقد للتراث عامة والعلمي خاصة.وكلما سمعت الكلام عن الاعجاز العلمي يقشعر بدني :فهذا تجن عن القرآن والسنة.فالله يقول معرفة حقيقة القرآن تكون بآيات الله في الآفاق والأنفس .لكنهم يعكسون،فيجعلون معرفة حقيقة الآفاق والأنفس في تفسير ألفاظ القرآن ونصه .لذلك اضطررتأن أبين أن القرآن خطاب ما بعدي للأفعال الخمسة .فهو يحدد طبيعة الطبائع بكونهارياضية ،وطبيعة الشرائع بكونها سننية .لكنه لا يعطينا أي قانون طبيعي او تاريخي .ولو فعل لصار خاضعا للتكذيب ككل علم.وهذا هو التجني على قدسية القرآن .لذلك فالفقهاء مثلا يخطئون عندما يتصورون أن القرآن يشرع للنوازل ،في حين أنه ما بعد يشرع لشروط التشريع لا غير.فالتشريع القرآني ليس للنوازل ،بل لأخلاق التشريعات التي يتنظم بها تعامل الناس بعضهم مع البعض حتى يكون الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف.ولأن الفقهاء لم يفهموا ذلك ،أصبحت الشريعة أهم مشكل في أنظمة حياة المسلمين بدلا من أن تكون الحل :هي أخلاق التشريع وليست التشريع المباشر.التشريع المباشر تاريخي اقداما وإدبارا .لكن أخلاق التشريع أو ما نجده في كل حكم من تعليل خلقي ،هي نظام الشروط الثابتة للاستعمار بقيم الاستخلاف.ولأن ذلك غاب عن الأذهان ،تحول القرآن الكريم عند الدجالين إلى متن حكم شعبية، يرددها العاجزون الذين ينتظرون من الله أن ينجدهم وهم قواعد. 64 43
جمعت ممثلي الكاريكاتور التأصيلي فلم أدرس أمثلة معينة بل اكتفيت بأسلوبي علاجهم للتراث أعني التقليديين وأدعياء استعمال العلم والقيم الحديثةوكان يمكن أن أعامل كاريكاتور التحديث نفس المعاملة لأنهم لا يبتعدون كثيرا عنهم، ولأنهم ليسوا قلة ما يعسر انتخاب الأمثلة العينية .فضلت العكس.وعلي أن اعلل انتخابي مثالين هما الجابري وأبي زيد ،وليسوا أفضل من يمثلهم لكني أعتقد أنهم أكثرهم نجومية وشهرة .ومن ثم أكثرهم تأثيرا منذ ثلاث عقود.أو بصورة أدق ،أكثرهم تمثيلا للمدرستين السائدتين في درس التراث ونقده ،إما بمنطلقات ماركسية أو ما بعد ماركسية ،أو غيرها عامة حداثية أو ما بعدها.وكان يمكن أن اختار أركون مما يعد الماركسية الما بعد حداثية .لكنه لم يدرس شيئا لأن كل أعماله وعود بلا إنجاز .ومن ثم فجعجعته لا طحين لها.وكان يمكن أن اختار حسن حنفي وهو أكثرهم اجتهادا في الجمع بين التأصيل والتحديث بقراءة يمكن نسبتها إلى ما يناظر الماركسية أو اليمين الهيجلي.لكني عندئذ أكون قد اخترت مثالين من المشرق ،بل ومن مصر .وفي ذلك اجحاف بالمغرب العربي الذي هو حاليا-وبكل تواضع-قاطرة الفكر الحديث بلا منازع.وفيه يمكن القول إن ملحة \"بضاعتنا ردت إلينا\" لم تعد صالحة .ورغم أني لست من محبذي هذا الموقف ،إلا أنه أعاد التوازن بين جناحي الوطن .وفي ذلك خير.ولعل الجابري هو أفضل ممثل من هذه الناحية :جعل هذه العقدة بين الجناحين أهم صفة مميزة من كلامه على التراث في مقابلته الشهيرة التي دحضتها.فالمقابلة بين المشرق اللاعقلاني والمغرب العقلاني لاتصف حقيقة في التراث ،بل عقدة في أنفس بعض المغاربة من سخافة التكبر المشرقي في الكلام عليه. 64 44
وهي ليست عقدة جديدة .لأن ابن خلدون خصص لها فقرات طويلة في الفصل الأخير من المقدمة وعللها بالتفاوت الحضاري في عصره ليبين أنها عقدة زائفة.وبعد هذه العقدة بين الجناحين ،نجد عقدة أخرى أخطر في الجناح المشرقي :المقابلة بين عرب الشمال والخليجيين :دعوى الحضارة وثروة البدو النفطية.وهذه العقدة ناتجة هي بدورها عن درس التراث .وقد تدخلت فيها الطائفية الإسلاميةالداخلية (تحقير السنة) والطائفية بين الأديان (تحقير الإسلام) ،أي إن البداوة صارتسبة ضد السنة الخليجية ،وبالتدريج سبة ضد الإسلام نفسه .حتى إن بعضهم صار يعتبر الرسول نفسه بدويا غازيا من أجل المال والجنس.تلك هي الأمراض الناتجة عن درس التراث عندما يصبح كاريكاتوريا سواء كان تأصيليا أو تحديثيا .ولأجل ذلك ،وفي صلة بالأحداث الجارية ،قمت بهذا العمل.وهو عمل بين بين .ليس أكاديميا بأتم معنى الكلمة حتى وإن تضمن أهم خصائص البحث الأكاديمي ،لاعتماده خبرة طويلة بالمجال لكنه موجه للقارئ العادي.فرأيت من العدل أن اختار أفضل ممثل لدرس التراث في المشرق من مصر ،وأفضلهم في المغرب العربي من المغرب الأقصى ،وكلاهما جدير بتمثيل الجناحين.وسأبدأ بالجابري لأني إلى حد الآن لم أكتب في عمله إلا جميلات قصيرات تحرجا مما سأقول إذا كتب خصيصا للكلام عليه .أما ضمن بحث عام فلا بأس منه.أما نصر حامد أبو زيد فقد كتبت فيه نصا (في كتاب التفسير) سأكتفي بنشره في خاتمة هذا البحث حول الكلام على كاريكاتوري درس التراث التأصيلي والتحديثي.وإذن فسأبدأ بالجابري .وعلي أن أشرح لماذا وضعته ضمن كاريكاتور التحديث .فما أسميه كاريكاتور التحديث ،هو التعامل التطبيقي السطحي مع الفكر الجاهز.وشرط هذا التعامل ،يكون دائما ناتجا عن تكون في الفكر القديم ومحاولة تجاوزه بدعوى استعمال الفكر الحديث بإغفال هوة سحيقة بينهما يعسر القفز عليها.وللتوضيح ،فإن من يعتبر ابن رشد ممثلا للعقلانية لا يمكن ان يفهم فوكو مهما حاول فضلا عن أن يدعي استعمال أهم مفهوم فوكلدي لدرس التراث الإسلامي. 64 45
تلك كانت مشكلتي مع المرحوم الجابري .كنت اتجنب تنبيهه إلى ذلك بعد أن رأيت رد فعله ،إزاء ملاحظة عابرة في هامش رسالتي التي كان أحد مناقشيها.وهي ملاحظة أوردتها في كتاب صدر بعد وفاته رحمه الله ،بعنوان أشياء من النقد والترجمة عن دار جداول .وتتعلق الملاحظة بثالوثه وبثالوث عبد الرحمن.لذلك فهذا الفصل سيتضمن مطلبين :ما معنى الابستيمي الفوكلدي الذي أجزم بأن الجابري طبقه بسطحية لا تليق علميا .وما علامة عدم اللياقة العلمية.فوكو كان أستاذنا في جيلي وأنا في تونس مدة سنتين ،وألف كتاب الكلمات والأشياء في تونس كذلك أو هو صدر وهو مقيم في تونس ولي بعض دراية بمضمونه.اعتقد أن كل من له تكوين فلسفي ومنطقي ،يعلم أن دراسة المعرفة عامة بمنظور منطقي ،تميز بين المضمون القضوي في الخطاب العلمي والموقف القضوي.والدرس الأول هو الذي يسمى ابستمولوجي ،أي إنه يدرس المضمون العلمي للقضايا العلمية دون اهتمام بمواقف الذات العارفة منها من حيث درجات عقدها.أما درس مواقف الذات العارفة ودرجات عقدها في مضمون القضايا ،فيسمى ابستيميك من جنس أظن أعتقد أو أنا متيقن أن كذا هو كذا إلخ ..من درجات العقد.نعم الجماعة العلمية تصل إلى قناعة تجعلها تثق أن ما اعتبرته علميا في قضاياها علمي لتوفر شرطي العلمية :أفضل تفسير للظاهرة مع قابلية الامتحان.وبصورة عامة ،لكأن الابستيمولوجي ليس إلا غاية الابستميك في الجماعة العلمية .أي إنه الدرجة النهائية في عقدهم لتحقق الشرطين في العلمية بضمانتين. الضمانتان: -منطقية ،وهي الاندراج المتناسق في متن العلم الذي تنتسب إليه لأن المتن نظام متكامل. -تجريبية ،هي قابلية الامتحان التجريبي المتكرر.الابستمي هي ما وراء هذين الأمرين :أي شروط إمكان ظهور الأشياء بفضل شروط إمكان الكلام عليها التي هي محددة مناظير الرؤية لهذه الأشياء. 64 46
وواضح لذي عقل أن هذا المفهوم يناقض تمام المناقضة للنظرية الماركسية :الرمزي وصيرورته هما المحددان للشيء وصيرورته ،لأنهما يجليان المرئي عقليا.وحتى أساعد القارئ فلنترجم هذا القلب للعلاقة بين الرمزي والشيء في تحديد شروط مرئية الاشياء بأنه هيجلية محدثة ،بشرط أن نفهم المنعرج اللساني.وترجمتي لفلسفة الابستمية بالهيجلية المحدثة تعني أمرين :تقدم الرمزي على الشيء أو الروحي على المادي .وتاريخية هذه الرؤية للعالم وما فيه.وإذن ،ففلسفة الابستمية الفوكلدية تقتضي التاريخانية المطلقة لصيرورة الأنظمة الرمزية ،ويتبعها التاريخانية المطلقة لما يرى من العالم وأشيائه.ولهذه العلة ربطت الأمر بفلسفة الأشكال الرمزية وصيرورتها نورا يسقط على العالمليرينا ما فيه فيكون العالم متعددا بتعدد الحضارات وصيرورتها .فتبرز أهمية الألسن فيرؤية العالم وأشيائه ويتحرر العقل من وهم كونه مرآة لعالم موضوعي واحد ينعكس عليه بل هو بوظيفته الرمزية منتج ومنتوج الرمز.يكفي أن نعوض \"الوظيفة الرمزية\" بـ\"وظيفة الروح\" الهيجلية حتى نفهم القصد بالابستمي بشرط التخلص من الجوهرية الهيجلية والاقتصار على الرمزية.والتخلص من الواقع والعقل ،شرطه التخلص من الذات والمؤلف ،لأن كل ما يجري في المجال الرمزي يشبه الأدب الشعبي :طبقات قصصية تتراكم من دون مؤلف.الفوكلدية مضادة للماركسية لأنها بلغة ماركسية تجعل الـ\"بنية الفوقية\" الرامزة محددة لـ\"البنية التحتية\" الأشياء المرموزة وتنفي الذات الفاعلية.وحتى لا أطيل في القسم الثاني من كلامي على الجابري بعد توضيح مفهوم الأبستمي، سأكتفي بأسئلة وأجوبة تلغرافية حول ثالوثه وتنافيه مع الابستمي.وأترك لغيري ما اعتبره عيبا خلقيا لا يغتفر في تعامل الباحثين :فلست أشكك في أمانة الرجل ولا في ذكائه كما فعل أحد الذين كانون من المعجبين. علاقة عناصر الثالوث: هل هي متصاحبة دائما أم إنها في صيرورة تجعل الأدنى يصعد إلى الأعلى مثلا؟ 64 47
Search