تأصيل الدولة ووظائفها في الإسلام – الفصل السابع – أبو يعرب المرزوقي

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫الأسماء والبيان‬





‫إن هذه العلاقة بين نوعي التربية النظامية واللانظامية التي تجعل الأول قاطرة للثانية‬ ‫لشمولها بسعتها البشرية كلها بتجاوز قصير التاريخ ومديده‪.‬‬‫تجاوز التاريخ قصيره بمديده ومديره بما يصله بما بعده هما جوهر التربية النظامية بما‬ ‫هي قاطرة للجماعات سموا نحو الكونية وما بعد الدنيا‪.‬‬‫لذلك اعتبرنا التربية النظامية ودورها القاطرة اللانظامية عين السعي لتحقيق شروط‬ ‫الاستعمار في الارض بالعمل على علم وشروط تجاوزه بجاذبية المتعالي‪.‬‬‫فلننظر الآن في التربية اللانظامية وكيف تمثل بأثر فاعلية التربية النظامية دور تدعيم‬ ‫الوراثات الخمس وكيف تتدرج نحو تجاوزها إلى الكونية‪.‬‬ ‫الوراثات الخمس‪:‬‬ ‫‪ -‬التراث‬ ‫‪ -‬والثروة‬ ‫‪ -‬والمكان‬ ‫‪ -‬والزمان‬ ‫‪ -‬والبايولوجية (الإثنية)‪.‬‬ ‫الجماعة تتحدد بها وتقوم بها رحما جزئيا وتتأنس بالتدرج نحو الرحم الكوني‪.‬‬‫فالتربية النظامية شرط المحافظة على الجماعة بالرحم الجزئي وشرط تجاوزها إلى‬ ‫الرحم الكوني‪ :‬وذلك هو مضمون النساء ‪1‬حيث نجد المفاهيم الأربعة وأصلها‪.‬‬ ‫فالمفهومان الكونيان هما الرب والخلق من نفس واحدة‪.‬‬ ‫والمفهومان الجزئيان هما الله الذي تساءلون به والأرحام‪.‬‬ ‫والأصل مراقبة الاله بصورته الخاتمة‪.‬‬ ‫‪61‬‬

‫النساء ‪ 1‬من بدائع القرآن الكريم‪ :‬ففيها هذه العلاقة وفيها الوراثات الخمسة‪ :‬التحرير‬ ‫من المكان والزمان والتراث والثروة والعرق للوصل بمضمونها‪.‬‬‫لكن قطار التربية النظامية واللانظامية توقف بسبب تحريف ثورتي الإسلام‪:‬‬ ‫فـ\"الامراء\" حرفوا العلاقة بين الدستور والقانون فسودوا الثاني على الاول‪.‬‬‫وسود \"العلماء\" العلم على الوجود بأن ردوا الثاني إلى الأول وبدلا من علم الطبيعة‬ ‫والتاريخ للتحرر من سلطانهما أغرقوا الأمة في ثرثرة في ماورائهما‪.‬‬‫فصار الاستخلاف أقوالا منافية للأفعال وصار الاستعمار في الأرض عبودية للحاجة ولمن‬ ‫بيده سدها من سادة العالم الذي فقدت الأمة سلطانها عليه‪.‬‬‫وهذا كله مناف لنظرية السياسة القرآنية مؤسساتها (الحكم) ولنظرية الفلسفة القرآني‬ ‫ومؤسساتها (التربية) فألغيت ثورة الحريتين بإعادة الطاغوتين‪.‬‬‫نكصت الأمة إلى شكل الدولة المصرية الجامد بعد أن صار الفرعون مستبدا جاهلا‬ ‫وهامان مبررا للاستبداد بثرثرة فيما وراء الطبيعة التاريخ‪.‬‬‫ما أريد تأصيله هو استعادة دور التربية النظامية لتكون قاطرة للتربية اللانظامية‬ ‫فتصبح الجماعة قادرة على تثبيت كيانها واحيائه بالكونية القيمية‪.‬‬‫ويخطئ من يتصور أن وصفي للنكوص والتحريف مقصور على ذوي الثقافة الإسلامية‬ ‫التقليدية بل هو يشمل من يدعون الحداثة وهم أكثر إصابة منهم بالمرض‪.‬‬‫فالحداثيون العرب يخلطون بين ثقافة الحداثة والتنوير وثقالة الاستعمار والتزوير‪.‬‬ ‫ليست حداثتهم إلا تبني ما استنبطوه من سلوك المستعمر إزاء شعوبهم‪.‬‬‫والاستعماري ونخبه الفكرية فعل بالحداثة وقيمها ما فعله \"الأمراء\" و\"العلماء\" بالأمة‬ ‫قلبا للعلاقة بين الدستور والقانون وبين الوجود والعلم‪.‬‬‫ولهذه العلة فمجتمعاتنا تعيش حربا أهلية بين تحريفين للإسلام وللحداثة أدت إلى نفي‬ ‫التعدد والتعايش والقيم الكلية وإطلاق الصفين رؤاهم بلاوعي‪.‬‬‫لذلك اعتبرت علة النكوص الأول الحرب الأهلية التي ترتبت على الفتنة الكبرى وعلة‬ ‫النكوص الثاني الحرب الأهلية التي ترتبت على الفتنة الصغرى‪.‬‬ ‫‪62‬‬

‫ومدار الفتنتين هو مآل الحرب الأهلية حول الحكم والتربية الذي ألغى الحريتين‬ ‫الروحية والسياسية فأسس الاستبدادين والفسادين في الحكم والتربية‪.‬‬‫والغريب هو أن النخب التي تدعي الحداثة صارت أكثر تعصبا وتحجرا من النخب التي‬ ‫تدعي الأصالة‪ :‬لكأن هذه تريد أن تتحدث بصدق وتلك تزداد خوفا منها‪.‬‬‫لذلك تجد النخب التي تدعي الحداثة تزداد لجوءا للاحتماء بنوعي الانظمة المستبدة‬ ‫العسكرية والقبلية في بلاد العرب ويرفضون التأصيلي المحدث‪.‬‬‫فهم يتمنون لو أن كل الإسلاميين داعشيون‪ .‬فهذا يسهل عليهم الأمر ويمدهم بالسند‬ ‫الغربي‪ .‬أما الإسلامي التحديثي فيخيفهم لعجزهم عن منافسته السياسية‪.‬‬‫ولذلك فهم قد أصبحوا أعدى أعداء الديموقراطية التي يعتقدون أنهم لا حظ لهم في‬ ‫المحافظة على سلطانهم لو أصحبت أسلوب الحكم في البلاد العربية‪.‬‬‫وهذا الذي أصفه في علاقة النخبتين والحرب الاهلية هو مجال التربية والأخلاق‬ ‫الموضوعية في الجماعة التي نريد دراسة دورها التربوي اللانظامي‪.‬‬‫فالمناخ الروحي لدى النخبتين والأخلاق الموضوعية في سلوكهما أفضل ما وصفه ابن‬ ‫خلدون بفساد معاني الإنسانية‪ :‬النفاق والكذب والجبن والنذالة‪.‬‬‫وأزعم أني رأيت الكثير من الشعوب والثقافات‪ .‬لكني لم ار أسفل من النخب العربية‬ ‫بصنفيها الإسلامي والعلماني‪ .‬قلة قليلة منهم يمكن الوثوق بهم‪.‬‬‫وما يقال عن الحكام يمكن أن يقال عن المعارضين مثله وحتى أكثر منه‪ :‬الكل يريد‬ ‫قسطه من الاستبداد والفساد والمرقاة إليهما هو السياسة والحكم‪.‬‬‫وليس بالضرورة المساهمة الذاتية بل المساهمة بالتبعية حتى للمافيات السرية والعلنية‪.‬‬ ‫فكون تونس فيها مائتين وسبع من الاحزاب لا يدل على حب الوطن بل على خيانته‪.‬‬‫فإذا أضفت إليها مرض العصر أو ما يسمى بمنظمات المجتمع المدني علمت ان الأمر لا‬ ‫علاقة له برعاية الشأن العام بل بالتمعش من دعوى رعايته‪ :‬أبصق في وجوهم‪.‬‬‫والسؤال هو كيف يمكن في مثل هذا المناخ أن نحقق شرطي التربية‪ :‬اللانظامية‬ ‫بالانغماس في المجتمع والنظامية بتجنب تأثير هذا المناخ الروحي العفن‪.‬‬ ‫‪63‬‬

‫حل افلاطون إجرامي‪ :‬عزل التربية النظامية عن المجتمع أو القضاء على ما ينافي قيم‬ ‫التربية النظامية التي يقترحها‪ .‬والتأصيل هدفه تحديد حل القرآن‪.‬‬‫وهذا المناخ الروحي الذي يسيطر على المسلمين في كل المحميات التي يسمونها دولا والذي‬ ‫آل إلى فساد معاني الإنسانية يحكمه قانون عام أحاول صوغه‪.‬‬‫فكل أمة صار صراعها الداخلي ملهيا عن صراعها الخارجي إلى حد يجعل الأول أداة‬ ‫الثاني الى ان يصل مآلها الانهيار وقد يصل إلى الزوال‪ :‬سر قانون ابن خلدون‪.‬‬‫ابن خلدون وضع قانونا اشتقه من فساد معاني الإنسانية مباشرة لكنه غفل عن ذكر‬ ‫كيفية حصول المآل منه‪ .‬فهو لا يحصل مباشرة بل بوساطة هذه العلاقة‪.‬‬‫ففساد معاني الإنسانية كما يصفه ابن خلدون هو الذي يفرض على الأمة سلطان الصَّغَار‬ ‫أي تفاهة النفوس عند نخبها صراعا على التوافه وتغفل عن أعدائها‪.‬‬‫بل أكثر من ذلك لا تكتفي بالغفلة عن اعدائها بل هي التي تدعوهم لمساعدتهم في الحرب‬ ‫الأهلية بينهم فيكونوا بذلك أداة تحقيق أهداف اعدائهم‪.‬‬‫بهذا يصبح قانون ابن خلدون واضحا‪ .‬ولنا عديد الأمثلة في الماضي(الاندلس) وفي‬ ‫الحاضر تفتت العراق وسوريا وبداية تفتت الخليج وقبله تفتت المغرب‪.‬‬‫وعلامته الأساسية الطبالون الذين يصفقون للمتنازعين فيعظمون أفعالهم التي هي في‬ ‫الحقيقة تخريب ذاتي وخدمة للأعداء‪ .‬وأزعم أن فلسطين من ضحاياه‪.‬‬‫هذا هو المناخ العام الذي كان مسيطرا على العرب قبل الإسلام فجعلهم عبدي فارس‬ ‫وبيزنطة مناذرة وغساسنة وابن خلدون يعتبرهم علة الفتنة الكبرى‪.‬‬‫فالتشيع توظيف فارسي لذوي الميل المناذري لحزب علي والتسنن توظيف رومي لذوي‬ ‫الميل الغساسني‪ :‬وهما أصل الفتنة الكبرى بالانقلاب على عثمان‪.‬‬‫والانقلاب على عثمان بداية الانقلاب على العلاقة بين الدستور والقوانين وبين الوجود‬ ‫والعلوم فرد الأول منهما في الحالتين إلى الثاني‪ :‬سر الطاغوتين‪.‬‬‫ولا تزال الأمة على هذه الحال نخبها لصغارهم الروحي والسياسي ليسوا إلا دمى يحركهم‬ ‫الغرق في اخلاد الكلاب إلى الأرض فيفقدون الامة سلطانها عليها‪.‬‬ ‫‪64‬‬

‫كيف في هذه الحالة التي وصفت يمكن للتربية اللانظامية أن تحقق المطلوب فالتربية‬ ‫النظامية من دونها تكون مجرد نظريات يعارضها حال القيم الفعلية‪.‬‬‫وقد يبدو التفسير دوريا فهو تفسير للانقلاب المعرفي بالانقلاب السياسي وتفسير‬ ‫للانقلاب السياسي بالانقلاب المعرفي‪ .‬لكن الأمر أعمق من ذلك بكثير‪.‬‬‫الانقلاب السياسي لا يكفي لتفسير الانقلاب المعرفي والانقلاب المعرفي لا يكفي لتفسير‬ ‫الانقلاب السياسي‪ .‬إذن ماذا حصل؟‬ ‫الانقلاب السياسي بداية‪.‬‬‫بداية كان يمكن ألا تدوم لو لم يؤيدها الانقلاب المعرفي‪ .‬فقد أضفى عليه شرعية في‬ ‫كلا الصفين‪ :‬الشيعي والسني‪ .‬المعرفي دعم السياسي بالعلوم الزائفة‪.‬‬‫كان يمكن للانقلاب السياسي أن يعتبر حالة طوارئ موقتة للخروج من الحرب الأهلية‪.‬‬ ‫أصبح للحزبين ذا كنسية وحق في الحكم مخالف لنظرية القرآن‪.‬‬‫الكنسية الشيعية والحق الإلهي صريحان‪ .‬الكنسية السنية والحق الطبيعي (للغلبة) ليس‬ ‫صريحا بل هو يعتبر في الفقه كله مخالفا للشرعية فغطي بشكلياتها‪.‬‬‫وبذلك يتبين أن التفسير ليس دوريا بل هو مبني على أن الانقلاب السياسي معلول بحرب‬ ‫أهلية والانقلاب المعرفي جعل حالة الطوارئ شرعية دائمة‪.‬‬‫والانقلاب المعرفي أنتج كل العلوم الزائفة التي حرفت وظيفة المعرفة بوصفها عبادة في‬ ‫الغيبيات وبحث في قانون الطبيعة والتاريخ في الشاهديات‪.‬‬‫فأصبحت الأمة جاهلة بقوانين الطبيعة الرياضية وقوانين التاريخ الخلقية فعجزت عن‬ ‫علاج مسائل تعمير الارض بالعلوم والأخلاق‪ :‬فساد معاني الإنسانية‪.‬‬‫ولهذه العلة اعتبرت تقلب دلالة فصلت ‪ 53‬والجرأة على آل عمران ‪ 7‬مركز المسألة‬ ‫المعرفية وعلة تخلف الأمة التي أصبح علمها ثرثرة وعملها تهريجا‪.‬‬‫ولا يمكن للثرثرة والتهريج أن يمثلا مناخا اجتماعيا علميا وعمليا تقنيا وخلقيا لتكوين‬ ‫أجيال قادرة على تحقيق أهداف التربية والتكوين شروطا للسيادة‪.‬‬ ‫‪65‬‬

‫اعتذر لمن يكتب املاءات التغريدات لأني لم اسرحه حتى يوم العيد‪ .‬فالأمر جلل وجلال‬ ‫العيد يقتضيه‪ :‬حال أمة الإسلام تجعلني أسأل بأية حال عدت يا عيد‪.‬‬‫خاصة وكل شيء يكاد يجيب ليس في الأمر تجديد‪ .‬كل ما وصفته نراه حيا في أزمة الخليج‬ ‫التي تكررت في كل المجموعات العربية بل وبين نخب كل بلد عربي‪.‬‬‫حل القرآن الكريم بين‪ :‬الحريتان الروحية في التربية والسياسية في الحكم هما ما بدأ به‬ ‫الإسلام مع كل ما وضعه من مبادي لتحقيق شروط وحدة المتعدد‪.‬‬‫فهذا الحل يعالج القضية في الداخل (نفس الجماعة) وفي الخارج (بين الجماعات) وهو‬ ‫حل للقانون المحلي والقانون الدولي بنفس القيم الكونية‪.‬‬‫فالتربية اللانظامية تعوض التربية النظامية عندما تكون الجماعة فاقدة للحرية‬ ‫الروحية وللحرية السياسية‪ .‬فهذا الفقدان هو فساد معاني الإنسانية‪.‬‬‫ولما كانت الإنسانية كلها مسهمة في التربية النظامية مهما انغلقت الأمة فإن هذا الانغلاق‬ ‫يجعل الأمة عقيما تكتفي باستعارة منجزات الإنسانية‪.‬‬ ‫‪66‬‬



‫‪02 01‬‬ ‫‪01‬‬ ‫‪02‬‬‫تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي‪ :‬محمد مراس المرزوقي‬