أبو يعرب المرزوقي الأسماء والبيان
كيف نفهم أبعاد الدور الإسرائيلي في المسرح السياسي العربي حكما ومعارضة؟وما مدى قدرتنا على التعامل مع الرهانات الدولية الحالية حتى نفهم هذا الدور ونقدرعلى التحرر منه؟ ذلك أن كيفيات التعامل مع إسرائيل هي العلامة المائزة بين النضوج الموضوعي الذي يفصل بين القدرة الفعلية ومجرد الإرادة في العمل السياسي. فالقدرة الفعلية تتميز بما تطلبه من توفير لشروط الإمكان المحدد.أما مجرد الإرادة فيستغنى عن هذه الشروط تجاهلا لمبدأ الواقع وشروط التعامل معهبحكمة ونجاعة .وهذه المقابلة تصدق على من هو في هذه الوضعية بحسن نية ،فضلا عمنهو فيه بسوئها :فالكثير من المتعنترين هم أشد الناس اعتمادا على إسرائيل في جوهروجودهم ،لأن المطاولة في التعنتر تحول دون الاستعداد للتحرر منه للانتقال من المقاومة التي هي رد فعل ،إلى القيام الذي هو فعل مشروط بالندية مع العدو.فلا يمكن أن تزعم الحرب على العدو ثم تنتظر منه أن يكون إنسانيا معك فلا يستعملكل ما لديه من أسلحة لم تفعل شيئا لتكون ندا له فيها :إنك بذلك لا تكتفي بالتسليمبتفوقه المادي بل أنت تشهد له بالتفوق الخلقي لكأنك تقول له اتركني اكذب على شعبي وحافظ علي في منزلة المتعنتر المانع من الفعل الموجب الموصل للندية بأدواتها الفعلية.إن الوعي والإرادة المجردين يطلبان ما يشتهيان من دون توفير شروط ما يسعيان إلىتحقيقه :وهذا هو ما يبدو غالبا على تعاملنا حكما ومعارضة مع إسرائيل .أما النضوجالموضوعي والقدرة على الفعل فهما يقدمان تحقيق الشروط على السعي إلى المشروط.ولعل كيفية تحقيق إسرائيل لأغراضها بتقديم تحقيق الأسباب وعجزنا عن تحقيق أدنىشرط من شروط ما نسعى إليه في صدامنا معها كافيا لفهم الفرق بين الإرادة العرية عن فن التعامل العلمي مع محددات الفعل والقدرة المدركة لشروطه. 61
لم نفهم ما فهمته أوروبا .فهي قد فهمت أنها خرجت من الحرب العالمية الثانية فاقدةلشروط الدور العالمي الذي كان لها قبلها فصارت مستعمرة يتقاسمها القطبان .وكذلك كانمآل المستعمرات الأوروبية ومنها نحن .اختارت أوروبا الصف الرابح وتوحدت فصارت ثانيقوة في العالم .واخترنا الصف الخاسر وتفرقنا فصرنا في ذيل العالم .ولا زلنا في عنادنا مع الصف الخاسر.ولعل مثال واحد يساعد على فهم القصد من الصف الخاسر الذي اختاره العرب الحاليين.فيكفي أن تقارن ما يحدث في دبي بما يحدث في سنغفورة .فسنغفورة جعلها الصينيون-مثلهامثل تايوان وهونج كونج -مصاصة لرأس المال الغربي لتمويل اقتصاد أمتهم الصين وهيعلى مقربة من أن تصبح ثاني قوة اقتصادية في العالم .ودبي جعلها العرب-مثلها مثل كلقبائل العرب -مصاصة لرأس المال العربي لتمويل اقتصاد أعداء أمتهم التي هي على مقربة من الإفلاس المطلق بمجرد أن ينضب زيت الحجر.والدليل حجة لجوء أوروبا لهذه المصاصة فهم يفضلونها على الصين وروسيا في التمويلالخارجي لأن أصحابها ليست لهم سياسة مالية تسعى إلى تحصيل التحكم في الشركات بل هممجرد تجار في المضاربات المالية يخضعون لإرادة البلد الذي يهربون إليه ثروات بلادهم لأنهم ينوون الهجرة إليه!إذا كانت إسرائيل تعمل بأدوات تمكنها من تسخير القدرة الدولية بأدواتها الأساسية(المال والإعلام والاستعلام والقوة السياسية والقوة العسكرية) لما تريده ،فمعنى ذلك أنهامهدت لذلك بعلم الأمرين وبتحقيق التوافق بين ما تريده وما يسعى إليه من بيده القدرة الدولية بحسب الظرف الدولي المواتي.ومراكز القدرة على الفعل الدولي التي تستند إليها إسرائيل اليوم فتستعملها لأغراضها ضربان:إحداهما في أمريكا التي بيدها شروط القدرة المادية الأولى في العالم الحالي وتسعى إلى تحقيق شروط القدرة الروحية بمنافسة أوروبا التي ما تزال محافظة عليها. 62
والثانية في أوروبا التي بيدها شروط القدرة الروحية في العالم الحديث وتسعى إلى تحقيق القدرة المادية التي ما تزال بيد أمريكا.لذلك فإسرائيل تستعمل أمريكا خاصة لتوفير شروط قيامها المادي ،دون أن تهملاستعمال طموح أمريكا إلى القدرة الروحية .وهي تستعمل أوروبا خاصة لتستمد شروطقيامها المعنوي ،دون أن تهمل استعمال طموح أوروبا إلى القدرة المادية .فالأولى تسلحهاوتمولها لتستعملها أداة في سيطرتها الإمبراطورية الفعلية .والثانية تمدها بشرعية منعقدتي ذنبها إزاءها (كل التاريخ المسيحي ثم النازية) وتغذيها لتتخلص من أخطائها الخلقية ورمزا لسيطرتها الروحية.وكلا بعدي إسرائيل هذين يعلمهما النافذ من النخب العربية علم اليقين بلويستعملونهما كلما دعتهم الحاجة إلى ذلك فيتوسلون إسرائيل ولوبياتها ليرضى عنهم الرأيالعام الغربي :يتوسلونها لتبييض صفحتهم في الرأي العام الغربي أما الرأي العام العربيفهو آخر همومهم .ومثل هذا غني عن التمثيل ،إذ لا وجود لنظام عربي واحد يقبلالاستثناء من مثل هذا السلوك .ولعل ذلك يصدق خاصة على الأنظمة التي تجاهر بأكبر عداء لإسرائيل :إنها أكثر الدول العربية لجوءا لمثله.فإسرائيل تسهم مباشرة مع أمريكا في حماية الكثير من الأنظمة العربية عامة والأنظمةالتي تجاهر بالخروج عن خرافة الإجماع العربي في الموقف من إسرائيل ماديا وذلك فيالمشرق والمغرب على حد سواء .وإسرائـيل تسهم بصورة غير مباشرة مع أوروبا في حماية الكثير من الحركات التي تدعي التحديث وذلك في المشرق والمغرب على حد سواء.وحتى الحركات التي تدعي الأصولية فأغلب زعمائها يعيشون في حماية أوروبا وأمريكاوبالتالي في حماية سلبية من إسرائيل التي ترضى لوبياتهما عن بقائهم تحت أعينالاستعلامات الغربية .وما لم نتخلص في الحالتين من الحاجة إلى مثل هذه الحماية يبقىدور إسرائيل ولوبياتها المنتشرة في العالم ،دورها في سياستنا العربية رئيسيا وجزء لا يتجزأ من المعادلة العربية الداخلية. 63
ويجتمع كلا الإسهامين في صيرورة أمريكا وأوروبا بالذات وإسرائيل ولوبياتها فيهمابالوساطة الجسر الضروري والكافي في كل مبادلات الدول العربية الاقتصادية مع العالمبضائع وخدمات وخبرات وأدوات تبادل استثمارا وتمويلا وتسويقا :وذلك يصح علىحركات رأس المال الخليجي الذي هو سيولة مالية لا يمكن أن تعمل حقا إلا بتوسط أربابالبنوك في العالم وعلى حركات البضائع والخدمات (كالسياحة مثلا) في بلاد المغرب العربي والتي هي بيد يهود فرنسا ممن هاجر من المغرب العربي.أما دورها في وسائل تكوين الرأي العام الدولي فإنه من البين أنها قد صارت الجسر الذيتمر به إيجابا أو سلبا كل الأنظمة والحركات العربية لتسويق ذاتها في دوائر صنع القراروفي الرأي العام الغربي النافذ .لذلك فكل من يتحدث عن معركة المقاطعة والتطبيع من دون أخذ هذه الأمور في الاعتبار لا يغالط إلا نفسه :وهو يكذب على الشعب العربي.معركة المقاطعة خسرها العرب بمجرد أن أصبح الرهان غير مقصور على إسرائيلالجغرافية .فالرهان في العلاقات الدولية تجاوز الحيز الضيق بين العرب وإسرائيل بمقتضىالعولمة إلى كل الشبكة التي بيد من يأتمر بأوامر اللوبيات ذات الصلة الوطيدة بإسرائيل:وهو أمر لا يمكن لأي عربي صادق أن ينكره خاصة والإنكار حائل دون الفعل الحقيقيالوحيد القادر على الصمود أمامه قصدت توحيد العرب وتكوين كمنوالث إسلامي قادر على التعامل الندي مع اللوبيات العالمية التي تعمل لصالح إسرائيل.فمن عدم الحكمة مواصلة هذا التصدي السلبي بالأسلوب التقليدي الذي عهدناه حتى لوسلمنا بحكمة الشروع فيه من الأصل .إذ لا يمكن أن تقاطع العالم كله لتقاطع إسرائيلمقاطعة يكون ضررها عليك أكبر من ضررها عليها .والبديل الذي نقترحه يحقق أمرين:فهو أولا يغنيك عن المقاطعة لأنه يعطيك الندية في العلاقة فيكون التهديد وحده بالمقاطعة أقوى حتى من الكذب بمقاطعة مستحيلة.وفهم هذا الأمر ثانيا يقلل من كثرة الكلام عما يسمى بسلاح البترول العربي أو سلاحالأموال العربية بصرف النظر عن عوائق استعمالهما الأخرى وخاصة شرط الإجماع فضلا 64
عن كون المرء الذي يعيش من مورد واحد لا يمكن أن يستعمله سلاحا إلا بقتل نفسه لأنه أحوج لبيعة من شاريه لشرائه.والفرق الوحيد بالنسبة إلى الأنظمة التي تتكلم باسم القومية هو أن دور إسرائيل فيسياساتها لا يبرز للعيان رغم كونه لا يقل عنه في سياسة الأنظمة التقليدية ،ورغم كونالبعد الجامع بين دوريها هذين لا يقبل الإخفاء كما يتبين من أمثلة الصدام بين الأنظمةالقومية والحركات الدينية غير التقليدية الصدام الذي يفضح كل الدعاوى والمغالطاتكما حدث في الكثير من المناسبات داخل نفس القطر أو بين الأقطار العربية أو حتى بين بعضها وبعض الأقطار الإسلامية.ويصبح الاعتماد على الوساطة الإسرائيلية المباشرة أو غير المباشرة أوضح من فلقالصبح في حالة المعارضة العلمانية حتى وإن كانت المعارضة الإسلامية نفسها باعتمادها علىالهجرة إلى الغرب تكاد تكون في نفس الوضعية .فهي لا تستمد ما يمكن أن تتمتع به مننفوذ وحرية نسبية في بلادنا إلا بما تضمنه لها أوروبا والإعلام الغربي (وهنا يكمن دور إسرائيل النافذ) من حماية.وحصيلة القول هي أن إسرائيل قد أصبحت لاعبا أساسيا في المعترك العربي الإسلاميبجميع أبعاده في مستوى الحكم والمعارضة على حد سواء وفي كل المجالات الاقتصاديةوالثقافية وحتى الاجتماعية (التحركات النقابية وكل تنظيمات المجتمع المدني مثلا) ممايوجب التعامل معها على هذا الأساس من موقع التمييز بين البحث عن شروط القدرةالمستعملة للموجود سعيا لتغليب المقبول منها على المرفوض عند الصادق من النخب ومجرد التعلق بأوهام الإرادة عند الديماغوجيين.لذلك فلا بد من الاعتراف بأنه لا يمكن للمرء أن يعالج القضايا الأربع الأولى من دونحسم هذه المسألة .فهي يمكن أن تكون العائق الجوهري ويمكن أن تكون المحفز الأساسيبحسب التعامل الناضج المستند إلى القدرة الفعلية الحاصلة والمخططة لتطوير نفسها أوالتعامل المراهق المستند إلى مجرد التنديد والوعيد .لا يمكن أن نواصل التعامل مع 65
إسرائيل في ظرف الشرق الأدنى وكأنها ليست من العناصر الأساسية المؤثرة في كل وجوه الحياة العربية فضلا عن قوميات الشرق الأوسط غير العربية.ففي الحكم لا واحد من الأنظمة التقليدية بقابل للاطمئنان للأنظمة غير التقليديةوجلها إن لم تكن كلها تعتبر إسرائيل الرادع الوحيد دون الأنظمة القومية التي تشعر بأنهاتهدد عروشها ومصالحها بناء على تجارب يصعب أن نشكك في دلالاتها :وبهذا وحده يمكنفهم الاصطفاف المسمى صف الاعتدال وصف التطرف أو صف الصمود وصف الاستسلام بحسب مصطلحات الصفين المتقابلين.وفي المعارضة لا واحدة من الحركات التحديثية العلمانية بقابلة للاطمئنان للحركاتالتأصيلية الدينية .لذلك فهي تتناسى الأنظمة التي تهدد حريات أفرادها مكتفيةبالاحتماء الإعلام والرأي العام الغربي لها وهي حماية ذات صلة وطيدة بإسرائيل حتى وإن حاول البعض إخفاء ذلك لتتفرغ للحرب على الحركات الأصولية وقيم الأمة.ولسوء الحظ فإن هاتين الحقيقتين من الأمور التي لا شك فيها .وهي من ثم علامتا الدورالأساسي لإسرائيل في السياسة العربية حكما ومعارضة .ومن ينفي ذلك يكذب على الأمةولا يريد الكشف عن الداء الذي أوصلنا إلى هذه الوضعية لئلا نعالجه العلاج الشافي.والتصريح بهذه الحقائق رغم ما فيه من آلام يمكن أن يخلص السياسات العربية الحاكمة والمعارضة من الازدواجية فيحررنا من العنتريات الزائفة. 66
02 01 01 02تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي :محمد مراس المرزوقي
Search
Read the Text Version
- 1 - 12
Pages: