Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore رؤية العالم بين الوحدة والتعدد الوجوديين - أبو يعرب المرزوقي

رؤية العالم بين الوحدة والتعدد الوجوديين - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2019-10-04 17:21:52

Description: رؤية العالم بين الوحدة والتعدد الوجوديين - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪re nils frahm‬‬ ‫رؤية العالم‬ ‫بين الوحدة والتعدد الوجوديين‬ ‫الأسماء والبيان‬





‫المحتويات ‪2‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪7 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪14 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪20 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪26 -‬‬

‫‪--‬‬ ‫لما حددت رؤى العالم والوجود بينت أن أصلها الذي تتفرع عنه ذو صلة بعلاقة الضرورة‬ ‫الشرطية (نظام العالم الطبيعي) والضرورة اللاشرطية (ما يتجاوز ما يقبل العلم مما‬ ‫يبدو ذا ضرورة غير شرطية) والحرية الشرطية (نظام العالم الحضاري) والحرية‬ ‫اللاشرطية (ما يتجاوز ما يقبل العلم مما يبدو حرية غير شرطية)‪ .‬وقسمت المقابلتين بين‬ ‫الضرورتين الشرطية واللاشرطية وبين الحريتين الشرطية واللاشرطية إلى الموقف‬ ‫الإيماني بالعناية الإلهية ونفي الصدفة فيها جميعا والموقف الإيماني بالصدفة ونفي العناية‬ ‫الإلهية فيها جميعا‪ .‬وبدا وكأني أقول بالتقابل بين المواقف من العالم والوجود بمنطق‬ ‫الإثبات والسلب فأكون من القائلين بمنطق الجدل والصراع بين الموقفين وباحثا عما يسمى‬ ‫التوليف بينهما حصيلة جدلية صارت من ممضوغات حداثيي العرب يستعلموها حلا سحريا‬ ‫مع نظيرتها عند الإسلاميين وهي ما يسمونها التدافع مفهوما ما أتى الله به من سلطان لأن‬ ‫ما يوجد في القرآن الكريم هو نقيضه التام إذ لا تدافع بل الدافع هو الله والمدفوع هو‬ ‫الإنسان معركة تحرير الإنسان من الخضوع لفوضى الصدفة‪.‬‬ ‫وإذن فقصدي لا علاقة له بالحل الجدلي‪ .‬لذلك فقد وصلت ذلك كله بالمعادلة الوجودية‬ ‫وبينت أن صورة الإنسان عن نفسه واحدة سواء اختار الموقف الأول أو الموقف الثاني‪ :‬لأن‬ ‫منزلة الإنسان أيا كان موقفه إثباتا أو نفيا واحدة‪ .‬فالنفي في حالتي الضرورة اللاشرطية‬ ‫والحرية اللاشرطية لا يختلف عن الإثبات في القول بالتلازم بين مفهومين أحدهما يرمز‬ ‫إلى ما يؤدي وظيفة الإنسان والثاني إلى ما يؤدي وظيفة الإله رمزا بالإثبات في الحالة‬ ‫الأولى وبالنفي في الحالة الثانية وذلك هو شرط الحرية والتكليف الذي يترتب عليه‬ ‫الاختيار الحر بين الموقفين دون أن يغير ذلك من المنزلة الوجودية للإنسان من حيث هو‬ ‫دائما ومهما فعل يبقى مشدودا إلى ما فوقه حتى لو ساد على كل ما يعتقد أنه دونه‪.‬‬ ‫فالتقابل بين الإثبات والنفي في هذه العلاقة لا يغير من التلازم بين القطبين وهو الأمر‬ ‫الذي لا معنى للإثبات والنفي فيه لأنه شرط وجودهما كليهما ومن ثم فهما يتفرعان عنه‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وليسا شارطين له‪ .‬فسواء أثبت الإنسان الإله أو نفاه يكون في الحالتين معبرا عن عقد في‬ ‫شيء لا يستطيع الا يصل ذاته به إثباتا أو نفيا‪ .‬فلما ينفيه هو لا ينفي وجوده بل ينفي‬ ‫مفارقته لبعدي العالم الذي يعيش فيه أي الطبيعة والتاريخ ويجعل ما يؤدي وظيفته في‬ ‫علاقة ذاته بما يتعالى عليها محايثا فيهما على الأقل بوصفه النظام أو اللانظام الذي يحكم‬ ‫مسارهما وتكوينيتهما‪.‬‬ ‫وإذن فالفرق بين الموقفين لا يتعلق بوجود المتعالي على الإنسان بل بطبيعته وبكيفية‬ ‫وجوده‪ .‬فالأول يعتبره سلطانا يعترف به ويقيمه خلقيا بكونه رحيما والثاني يعتبره سلطانا‬ ‫غير مبال به ومن فهو لا يحتاج إلى وصفه خلقيا‪ .‬لكن كلا الموقفين يتضمن اعترافا بسلطان‬ ‫مجهول الطبيعة والكيف حتى وإن كان المثبت يحدد صلة «عاطفية» بينه وبينه والثاني‬ ‫يعتبره لا مباليا‪ .‬والمعلوم أن أفلاطون في فصل القانون الجنائي من النواميس (الفصل‬ ‫العاشر منه) تكلم على جريمة نفي وجود الله أو عنايته أو نزاهته الخلقية بحيث لا يكون‬ ‫قابلا للإغراء بما يقدمه له الإنسان من \"هدايا\"‪.‬‬ ‫ولم يحيرني فيلسوف في علاج مسألة رؤية العالم والوجود وإن بصورة شديدة اللامباشرة‬ ‫تحيير ابن تيمية لي لما قرأت نصيه التاليين اللذين عجبت لعدم رؤية أثرهما في فكر الأمة‬ ‫الفلسفي والديني طيلة القرون الفاصلة بينه وبيني‪ .‬فحتى من أرادوا أن ينظروا في‬ ‫علاقته بالفلسفة اكتفوا بموضة الكلام على موقفه من المنطق الأرسطي دون فهم مناط‬ ‫الخلاف‪ .‬فليس صحيح أن ابن تيمية نقد المنطق الأرسطي من حيث كونه منطقا أعني‬ ‫التحليلات الأوائل بل هو انتقد النقلة منه إلى التحليلات الأواخر أو ما يؤسس استعماله‬ ‫مقياسا لمعرفة حقيقة الوجود معرفة محيطة‪.‬‬ ‫لذلك فقد اضطرني نصاه هذان إلى إعادة النظر في الكثير مما كنت أتصوره حقائق‬ ‫فلسفية ثابتة لم يخامرني شك في تأسيسها عند أفلاطون وارسطو قديما وعند كبار فلسفة‬ ‫الحداثة في القرن السادس عشر قبل الشروع في فهم هذين النصين المحيرين فعلا رغم أني‬ ‫اطلعت على كل محاولات التشكيك في الرؤى الفلسفية المتعلقة بنظرية المعرفة وخاصة بعد‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫النكوص الهيجلي والماركسي دون الرؤية الكنطية وما ترتبت عليه من رؤى الوجود التي‬ ‫ترد في الحقيقة إلى القول بوحدة العالم واعتبار ما عدى هذه الرؤية إما من الخيال أو من‬ ‫المعتقدات الإيمانية التي لا تتأسس على استدلال عقلي مقنع للاقتصار على الموجب منه‪.‬‬ ‫• النص الأول‪:‬‬ ‫فأما النص الأول فهو من كتاب المنطق‪ \":‬فالعلوم الأولية البدهية العقلية المحضة ليست إلا‬ ‫في المقدرات الذهنية كالعدد والمقدار لا في الأمور الخارجية الموجودة\" (المنطق ص‪73-72.‬‬ ‫الجزء التاسع من مجموع الفتاوى)‪ .‬وهي العلوم الوحيدة التي تكون المعرفة فيها برهانية‬ ‫في مقابل علوم الوجود الخارجي‪.‬‬ ‫• النص الثاني‪:‬‬ ‫وأما النص الثاني فهو من كتاب الدرء‪ \":‬لكن المعاني الكلية العامة المطلقة في الذهن‬ ‫كالألفاظ المطلقة العامة في اللسان وكالخط الدال على تلك الألفاظ‪ .‬فالخط يطابق اللفظ‪.‬‬ ‫واللفظ يطابق المعنى‪ .‬لا أن في الخارج شيئا هو نفسه يعم هذا وهذا أو يوجد في هذا وهذا‬ ‫أو يشترك فيه هذا وهذا‪ .‬فإن هذا لا يقوله من يتصور ما يقول‪ .‬وإنما يقوله من اشتبهت‬ ‫عليه الأمور الذهنية بالأمور الخارجية أو من قلد بعض من قال ذلك من الغالطين\" (درء‬ ‫التعارض ج‪ 1.‬ص‪ .)225-223‬ولا شيء مقوم للأشياء الموجودة في الخارج سواء اعتبرناه‬ ‫مفارقا (أفلاطون) أو محايثا (أرسطو) للأشياء الخارجية‪.‬‬ ‫فكلا النصين محير من الوجوه التالية التي تمنع من مواصلة القول بالمطابقة في نظرية‬ ‫المعرفة وفي نظرية القيمة وخاصة بوحدة العالم أو بإمكانية علم الأشياء على ما هي عليه‬ ‫كما يدعي الفلاسفة وهما يؤديان إلى رؤية ليس فيها ما يقبل المقارنة مع ما كنت أجده في‬ ‫الفلسفة وخاصة في ما بعد الحديثة الكلاسيكية (أي فلسفة هيجل وماركس) وما بعد‬ ‫الحداثة بالمعنى الذي يقال عن الفلسفة بداية من نيتشه ومن خرافة السرديات البديلة‬ ‫من رؤى العالم الفلسفية‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬بمضمون النص الأـول وحصر العلم الأولي والكلي والمحض والبرهاني في المقدارت‬ ‫الذهنية‪.‬‬ ‫‪ .2‬وبعلاقته بالنص الثاني وجعل المعاني الكلية رموزا تحيل على الأشياء وليست مقومات‬ ‫لها ومن ثم فالحد لا يعرف ماهية الشيء بل يعرب رمزنا إليه في حدود علمنا المتطور به‪.‬‬ ‫‪ .3‬وبصلتهما بالفلسفة السابقة على ابن تيمية أعني الفلسفية اليونانية والمعاصره له‬ ‫أعني الفلسفة العربية الإسلامية التي حاولت تجاوز الفلسفة اليونانية‪.‬‬ ‫‪ .4‬وبما يترتب على النصين من قطيعة شبه مطلقة مع نظرية المعرفة في النظر والعقد‬ ‫ونظرية القيمة في العمل والشرع (الأول) ونظرية الرمز عامة واللسان خاصة وعلاقتها‬ ‫بالوجود (الثاني)‪.‬‬ ‫‪ .5‬ومن ثم فعلاقتهما برؤى العالم والوجود تجعله غير منحصر في المعلوم منه ومن ثم‬ ‫فالنصان يميزان بين نوعين من العلم والقيمة في العالم الشاهد ببعديه الطبيعي والتاريخي‬ ‫أعني العلم والقيمة غير المحيطين ونوعين من العلم والقيمة في العالم الغيبي ببعديه ما‬ ‫بعد الطبيعي وما بعد التاريخي حيث نفترض وجود من له العلم والقيمة المحيطان‪.‬‬ ‫ويبقى ما سماه ابن تيمية بالتقدير الذهني النظري وما قسته عليه في المستوى العملي‬ ‫أمرين يعسر تحديد منزلتهما بين هذه العالمين المضاعفين فنضطر إلى التفكير في عالم‬ ‫خامس مجهول لأن نسبته إلى الذهني لا تعني بالضرورة إنه من الظاهرات النفسية في فكر‬ ‫الإنسان وإلا لكان النفسي اصلا للطبيعي والتاريخي في عالم الشهادة (أي عالم التجربة‬ ‫الإنسانية) ولما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ في عالم الغيب (أي عالم ما يضعه الإنسان‬ ‫شرطا في وجود الطبيعة والتاريخ دون أن يكون قابلا للتجربة)‪.‬‬ ‫ورغم أن الإنسان لا يستطيع الزعم بأن هذين البعدين من الغيب قابلين للتجربة فإن‬ ‫وضعهما موجودين بهذه الصفة لا يلغي إمكانية الكلام عليهما معرفة وقيمة بالتقدير‬ ‫الذهني قياسا على العالمين الشاهدين مع المحافظة على شرط مجانس للعبارة القرآني في‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫كلامه على الله المصحوب بليس كمثله شيء ‪ .‬فيكون التعامل مع العقد الأخروي مثل‬ ‫التعامل مع العقد الدنيوي مع القول إن الأول ليس كمثله شيء من الثاني‪.‬‬ ‫وهذا هو الأساس الذي يعتمد عليه علم التفسير السني الذي هو أصل أصول علوم الملة‬ ‫كلها وهو غير علم الكلام الذي يفترض القول بالمطابقة وقيس الغيب على الشاهد تحت‬ ‫مسمى مغالطي أساسه الخلط بين الغائب والغيب‪ .‬فعلم التفسير المؤسس لعلوم الملة بخلاف‬ ‫علم الكلام يفترض أنه في مستوى المعرفة والقيمة يكتفي بالمنظور الإضافي إلى الإنسان أي‬ ‫بالعلم والعمل النسبيين وليس في مستوى منهما يكون مطلقا ومحيطا‪.‬‬ ‫وأساس ذلك هو القول إن العالم الشاهد الطبيعي والتاريخي هو بدوره آيات أو من المعاني‬ ‫الرامزة لما وراءه مثله مثل الألفاظ والرسوم الكتابية والمعاني الكلية المقدرة ذهنيا‪ :‬فتكون‬ ‫الرموز بالمعنى التيمي خمسة ‪:‬‬ ‫‪ .1‬الرسوم الكتابية‬ ‫‪ .2‬الألفاظ اللسانية‬ ‫‪ .3‬المعاني الكلية في التقدير الذهني‬ ‫‪ .4‬أعيانها في علمنا التجريبي‬ ‫‪ .5‬الموجودات في عالم الشهادة‪.‬‬ ‫والمعنى الخامس هو معنى كون كل موجود آية مما بعده اصلا لوجوده ولكونه على ما هو‬ ‫عليه في ذاته وليس في ما ندركه منه فنجعله رمزا دالا عليه وقد نقع في خطأ فنتصور ما‬ ‫اخترناه من اعراضه التي ندركها منه عين حقيقته فنخلط بين ما ندركه من الشيء وحقيقة‬ ‫الشيء فنجعل إدراكنا محيطا بالأشياء‪ .‬ومن ثم فالعالم الشاهد هو بدوره نظام رموز لعالم‬ ‫غيبي هو بدوره مليء بالغيب لأننا لا نحيط بدلالة رموزه على مرموزه الذي هو ما به نفهمه‬ ‫حتى وإن كنا نفهمه بما نجهله ونفترضه حتى نضفي معنى علميا وقيميا عليه وقد تكون‬ ‫المقدرات الذهنية الأولى هي الرياضيات والمقدرات الذهنية الثانية هي الأخلاقيات‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن عندئذ لا بد من معرفة طبيعة التقدير الذهني المضاعف أي الذي تكلم عليه ابن‬ ‫تيمية (النظري منه) والذي قسته عليه (العملي منه)‪ .‬والمعلوم أن ابن تيمية تكلم على‬ ‫الكليات العقدية في الدين مثل الكليات النظرية في المعرفة والقيمة دون أن يحدد طبيعتها‬ ‫مثلما فعل مع هذه فضرب منها مثال الرياضيات‪.‬‬ ‫‪ .1‬هل موضوع المقدرات الذهنية موجود في الأذهان أم في نوع آخر من الوجود غير وجود‬ ‫الأعيان الطبيعية والأعيان التاريخية وغير ما نفترضه ما وراء الطبيعة وما وراء التاريخ؟‬ ‫فما هو هذا الوجود الذي ليس طبيعيا وليس تاريخيا وليس ما بعد طبيعي وليس ما بعد‬ ‫تاريخي والذي يعتبر شرطا في قابليتهما للعلم والقيمة؟‬ ‫‪ .2‬ماذا لو كان هذا الوجود هو عين كيان الإنسان الذي هو طبيعي وتاريخي فيكون من‬ ‫حيث هو \"الكود\" الواصل بين الطبيعي والتاريخي فيس الشاهد وما بعد الطبيعي وما بعد‬ ‫التاريخي في الغيب؟‬ ‫وحينئذ نسأل عن طبيعة العلاقة بين الوجودين العيني في الطبائع والشرائع من عالم‬ ‫الشهادة الذي يعيش يه الإنسان ويجربه في ذاته وفي ما حوله من العالمين الطبيعي والتاريخ‬ ‫وشروط الوجود الذهني في علومهما وقيمهما اللذين يحصلان في تاريخ الإنسانية من حيث‬ ‫هو في صلة مباشرة مع الوجودين الطبيعي والتاريخي (حياته الدنيوية) وصلته غير‬ ‫المباشرة بما بعدهما من حيث هما آيتان منهما ما يجعله بهذه الصورة مضطرا لوضع علاقة‬ ‫مباشرة بأصل المابعدين أي الله أو ما يؤدي وظيفته ‪ :‬وذلك هو القصد بالمعادلة الوجودية‬ ‫التي حاولت وضع نظريتها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولا بد هنا من الحسم مع العلاج الهيجلي الذي يؤسس عليه رؤيته الحلولية الصوفية أو‬ ‫القول بوحدة الوجود المذوتة تعديلا أجراه على وحدة الوجود المطبعنة عند سبينوزا‬ ‫بتوسط تأويله لنظرية المسيح ابنا وشفيعا للإنسانية دينيا أسنده فلسفيا إلى نظرية في‬ ‫العقل التأملي ‪ Die Vernunft‬بالمقابل مع العقل الاستريائي ‪ Der Verstand‬ليغير مبدأ‬ ‫الهوية التي صارت عين أعراضها والقضية التي لم تعد مؤلفة من موضوع ومحمول بل‬ ‫الموضوع هو عين محمولات التي هي تجليه وذلك لتأسيس المنطق الجدلي ونظرية المعرفة‬ ‫والقيمة القائلة بالمطابقة بين العقلي والواقعي دون تحديد لطبيعة العقلي والواقعي‬ ‫اللذين يتكلم عليهما‪.‬‬ ‫فإذا كان القصد بالعقل عقل الإنسان وبالواقع ما يدركه الإنسان بعلمه في مرحلة من‬ ‫مراحله فيمكن القبول بذلك إذ حينئذ تصبح العبارة تحصيل حاصل إذ معناها ما أدركه من‬ ‫الوجود إذا عيرته بمعيار مداركي التي محصتها بمعايير العلمية فهي عين ما أدركه وهو‬ ‫إضافي إلى مداركي‪ .‬لكن إذا كان القصد إن ذلك يحيط بالموجود فتلك هي المغالطة‬ ‫الهيجلية‪ .‬فشرط هذا القول ليكون مقبولا هو أن يكون عقل الإنسان ‪-‬تسليما بوجود عقل‬ ‫واحد للبشر تتحد فيه عقول الأفراد ‪-‬عقلا محيطا بالوجود وحينها يصدق القول‬ ‫بالمطابقة‪.‬‬ ‫وهذه المقدمة في حل هيجل علتها أن الجواب عن السؤالين اللذين ترتبا على رؤية ابن‬ ‫تيمية يستحيل من دون الحسم مع رؤية هيجل التي وحدت بين الديني والفلسفي ليس من‬ ‫حيث غاية المدخلين الديني والفلسفي أعني البحث في الحقيقة والقيمة بحثا الديني فيه لا‬ ‫يسلم بالإحاطة المعرفية والقيمية ومن ثم فهو لا يقول بالمطابقة فيكون بذلك أشمل من‬ ‫الفلسفي الذي يفترض الإحاطة الإنسانية فيهما بل من حيث طبيعة الإلهي والإنساني‬ ‫الذي يؤسس عليه هذه الإحاطة لأن حله أساسه نظرية حلول الإلهي في الإنساني خاصة‬ ‫وفي العالم عامة (نظرية المصالحة)‪ .‬وبصفتي مسلما وحتى من حيث انشغالي الفلسفي‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أعتبر ذلك مستحيل حتى لو قبلنا بأن النهى (الفرنونفت) يتجاوز الحصاة (الفرستند)‬ ‫تجاوز البصيرة للبصر‪.‬‬ ‫فهذا التجاوز جنيس البصيرة هو الذي يثبت استحالة رد الوجود المطلق إلى الإدراك‬ ‫الإنساني الذي هو دائما نسبي‪ .‬وحتى أثبت ذلك فلا من حسم قضية تقض المضجع في‬ ‫الرؤية التيمية التي أتبناها تبنيا تاما‪:‬‬ ‫‪ .1‬فإذا كان ما نعلمه لا علاقة له بما تتقوم به الأشياء‪.‬‬ ‫‪ .2‬وكان ما نعلمه من المعاني الكلية هو مجرد رموز نرمز بها إلى ما نختاره من أعراض‬ ‫الشيء للإشارة إليه بها كما يقول ابن تيمية‬ ‫‪ .3‬ولم يكن اعتبارها محددة لهوية الشيء ومقومة له صحيحا لأن ذلك يقتضي أن‬ ‫يتطابق ما ندركه مع الوجود مطابقة محيطة‪.‬‬ ‫‪ .4‬فكيف يكون ما نصل إليه من معرفة وتقييم مع ذلك علما وقيمة يمكنان من‬ ‫التعامل مع الأشياء وخاصة من التأثير فيها تقنيا (النظر القابل للتطبيق تقينا) وخلقيا‬ ‫(العمل القابل للتطبيق خلقيا)؟‬ ‫‪ .5‬وفي الجملة كيف يمكن للمعاني الكلية التي هي مجرد رموز تشير إلى الوجود‬ ‫وليست حقيقته أن تجعل التعامل ميسورا وكأنها حقيقة ومقومة للموجودات تقويما يجعلنا‬ ‫قادرين تقنيا على التعمير وخلقيا على الاستخلاف بمعنى أن ما جهز به الإنسان لهذين‬ ‫المهمتين يصبح محققا للهدف منهما؟‬ ‫سآخذ مثالين‪:‬‬ ‫أحدهما من الطبيعة‬ ‫والثاني من التاريخ‪.‬‬ ‫• مثال من الطبيعة‪:‬‬ ‫وهو ليس أبسط مثال وليكن الإدراك البصري‪ .‬فعندما أرى شيئا سأفترض أنه يتحدد في‬ ‫نهاية طريق طويلة ذات مراحل غايتها وصول المعلومة إلى مركز التأويل في المخ‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فكيف ينتقل الشيء الذي اراه من وصفي إياه خارج بصري ثم في صورته التي تقع على‬ ‫عيني ثم بين عيني ومركز التأويل في المخ؟‬ ‫كيف يمر بعدة تحولات لا تبقى فيه الصورة التي أراها في شكل صورة بل معان مختلفة‬ ‫الطبيعة بعضها كهربائي وبعضها كيماوي لأصل إلى ما أراه انعكاس صورة على عيني؟‬ ‫فالصورة تنتقل في العصب البصري (كيف) وتصل إلى العصابين المعقدة وتنتقل فيها‬ ‫(كيف وبأي شكل) ثم تنتقل بينها في لقاء أفنانها (كيف) حتى تصل مركز التأويل (كيف)‪.‬‬ ‫وكيف يسترجع التأويل الصورة التي مرت بعدة تشكلات؟‬ ‫لو قست ذلك على نقلة المعلومات في وسائل التواصل بين القارات وهي في آن صورة وصوت‬ ‫لتبين أن ما يحصل هو عملية ترجمة للصورة والصوت إلى موجات مختلفة الخصائص‬ ‫الرياضية شكلا وأبعادا ثم استعادة الأصل في المصب بترجمة أخرى عكسية تعيدهما إلى ما‬ ‫كانتا عليه في المنبع وكل ذلك يمر بما وصفت بالنسبة إلى البصر ومثله إلى السمع‪.‬‬ ‫كل هذه العمليات صرنا اليوم نصفها كما حاولت ذكره‪ .‬لكن تعدد الأشكال التي تمر بها‬ ‫الصورة والصوت تجعلنا نتساءل عن طبيعة علاقتها بما يمكن أن يعتبر حقيقة الشيء الذي‬ ‫تم انتقاله مرورا بها من الترجمة الاولى في بداية المنبع إلى الترجمة الأخيرة في غاية‬ ‫المصب‪ .‬فهل كان القدامى يعلمون شيئا من ذلك لما كانوا يتكلمون على طبيعة الشيء الذي‬ ‫نحن بصدده؟‬ ‫أما كانوا هم بدورهم لهم تأويلات للتعبير عن هذه العملية وكانوا يتصورون ما يصفونها‬ ‫به مقوما للشيء الذي يحصل في العملية؟‬ ‫فمثلا كان تفسير الصدى الذي يعيد إلى صوتي الذي صدر عني بعد أن يصطدم بحاجز‬ ‫فيعود إلى نفس الصوت الذي صدر عني على أنه نفس الصوت الذاهب والصوت العائد دون‬ ‫أن يحصل بين الذاهب والعائد كل ما أشرنا إليه من تحولات موجية نستعملها حاليا وكأنها‬ ‫وسائط بين الصوتين ترجمة طردية ثم عكسية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهذا يجعل كلام ابن تيمية أكثر مقبولية إذا اعتبرنا كل ما نصف به هذه الأمور هو من‬ ‫جنس ما كان يصفها به القدامى من حيث الوظيفة والعلاقة بحقيقتها وتبين خلال تطور‬ ‫معرفتنا وتقييمنا أنه ليس مقوما لحقيقة الشيء ولا لقيمته بل هو معبر عن مرحلة من‬ ‫مراحل تأويلنا له حتى بعد أن صرنا قادرين على \"نظرية\" الشيء وتطبيقه تقنيا كما نتأوله‬ ‫معرفيا فنستنتج أن ما نؤوله به هو حقيقته وعلى \"عمل\" الفعل وتطبيقه خلقيا كما نتأوله‬ ‫قيميا فنستنتج أن ما نؤوله به هو قيمته‪.‬‬ ‫ومع ذلك يبقى دائما على الأقل فرضيا أن وصفنا الأخير ليس أخيرا إلا بالنسبة إلى‬ ‫مرحلة معرفتنا الحالية‪ .‬وقد حصل لنا ذلك في محاولات الوصول إلى آخر ما نعتبره ممثلا‬ ‫للمادة في تفتيت الذرات‪ .‬وقد لا يكون لهذا المسار نهاية‪ .‬فقد نكتشف تفسيرا آخر يكون‬ ‫هو بدوره معلقا وإضافيا إلى رؤيتنا الحالية لما نعتبره مقوما للشيء الذي نعرفه بالمعاني‬ ‫الكلية التي تبقى بحسب الرؤية التيمية رموزا للإشارة إلى الشيء وليست هي حقيقته التي‬ ‫تبقى مجهولة لكأنها غاية لا تدرك ربما لما فيها من الغيب الذي شرط علمه وتقييمه الإحاطة‬ ‫الممتنعة على الإنسان‪.‬‬ ‫• مثال من التاريخ‪:‬‬ ‫كيف يعرف الفرد الإنساني ليس من حيث انتسابه إلى النوع الإنساني انتسابا بمقتضى‬ ‫الإرث العضوي البايولوجي بل انتسابا بمقتضى الإرث الثقافي‪ .‬فالكثير يتصوره مطلق‬ ‫الحرية وذا فردية مستقلة تماما على \"شيء ما\" هو جملة الرموز التي نشير إليه بها وأنه‬ ‫متفرد حقا في مستوى البعد الثقافي من كينونته مثل الزعم بان الفرد يمكن أن يكون ذا‬ ‫عقيدة فردية أو ذا موقف فردي ليس للإرث الثقافي الذي ينتسب بمقتضاه إلى جماعة‬ ‫بعينها دور في الإشارة إليه به‪ .‬ولذلك فالثقافات لها في الأفراد المنتسبين إليها نوع من‬ ‫العلامات المشتركة التي قد لا ندركها عندما ننظر إلى الفرد في الجماعة لكنه من ان ينظر‬ ‫إليه فرد آخر من جماعة أخرى حتى يدرك فيه ما لا يدركه من يشاركه تلك العلامات‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فبين أنه لا يوجد فردان ينطقان حروف العربية بنفس الطريقة‪ .‬والفرق بين الفونيتيك‬ ‫والفونولوجي معلوم للجميع فالكلام يتمايز في الذهن بالثانية وليس بالأولى بحيث إن‬ ‫السامع يعدل ما يسمع كأن نعدل نطق الطفل أو الالثغ‪ .‬لكن رغم فردية النطق الفونيتكي‬ ‫فإننا نكتشف الفروق الجمعية بين اللهجات عند الجماعات والأفراد المنتسبين إليها‪ .‬فلا‬ ‫أحد يخلط بين الجزائري عامة والتونسي عامة رغم أن الجزائريين كأفراد لا ينطقون‬ ‫الحروف نفس النطق وان التونسيين كذلك‪.‬‬ ‫ولذلك فالبحث الانثروبولوجي يثبت أن فردية الفرد الثقافية لا تختلف من حيث‬ ‫النسبية عن فرديته العضوية ولا يمكن لأحد أن يدعي أنه يوجد إيمان فردي مثلا من دون‬ ‫الجماعة التي لها نفس الإيمان أو الحس البصري أو السمعي او الشمي أو الذوقي أو‬ ‫اللمسي العري عن أثر الثقافة الواحدة رغم العلم بأن ما أره أو أسمعه أو أشمه أو أذوقه‬ ‫أو المسه لا يشاركني في أحد‪ .‬لكن ما لا يشاركني فيه أحد لا يجعلني أرى أو أسمع أو أشم‬ ‫أو أذوق أو ألمس بصورة مستقلة تماما عن المعاني الكلية التي انطبعت في الإدراك بحكم‬ ‫الاكتساب الثقافي منذ المولد‪.‬‬ ‫صحيح أن الارث العضوي يخضع لقوانين بايولوجية لكنه ليس تابعا لإرادة الفرد وله مع‬ ‫ذلك تفرد نسبي بملامح عضوية لا يلغي المشترك بين الإرثين البايولوجيين الناتجين عن‬ ‫سلسلة أبيه وسلسلة أمه السابقتين مع تفرد ما‪ .‬وقياسا على ذلك نستطيع القول إن الإرثين‬ ‫الثقافيين الناتجين عن سلسلة ثقافة أبيه وسلسة ثقافة أمه السابقتين فيهما ما هو موروث‬ ‫بالاكتساب السابق على الاختيار دون أن يلغي ذلك ما يكتسب بالاختيار‪ .‬والمهم هنا هو نفي‬ ‫أن يكون الاختيار ملغيا للمكتسب قبله في الملامح المحددة لما يعرف به أو لما يرمز إليه به في‬ ‫سلوكه الثقافي وكيانه اللاعضوي تماما كالملامح المحددة لما يعرف به أو لما يرمز إليه به في‬ ‫سلوكه وكيانه وكيانه العضوي‪ .‬وكلاهما من المعاني الكلية التي يعتبرها ابن تيمية رموزا‬ ‫للإشارة إليه وليست مقومات لكيانه أو لذاته‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن ما يتفرد به كذات ليس في متناوله الإحاطة به بل هو يكتفي بعلامات تمكنه من‬ ‫الإشارة إليه دون مطابقة إذ يمكن أن تتغير بحسب الناظر إليه أو حتى بحسب تغير ما‬ ‫يعتبر \"دالا\" على التفرد في الجماعة ولا في متناول من يريد أن يصل إلى حقيقته لأنها من‬ ‫جنس ما يتفرد به أي موجود وكل ما نحاول الإشارة إليه به يكون جنيس ما تكلمنا عليه في‬ ‫المثال الطبيعي ومن ثم فهو لا يقبل التحديد بمقومات لأن تحديده إن سلمنا بإمكانه يقتضي‬ ‫أن يكون بما لا يتناهى من المميزات إذ غالبا ما تكون العلاقة بين الماصدق والمفهوم في تعكس‬ ‫من حيث الكم ‪ :‬كلما كانت عناصر الماصدق قليلة كما كانت عناصر المفهوم كثيرة‪ .‬ولذلك‬ ‫قال ابن تيمية لا يمكن الزعم بعلم لوازم اللوازم كلها في معرفة شيء ما من دون أن نعلم‬ ‫كل شيء في الوجود وتلك هي علة امتناع المطابقة في المعرفة والقيمة بسبب امتناع‬ ‫الإحاطة‪.‬‬ ‫ما وراء الأعراض التي نختارها رموزا لتعريف الشيء الطبيعي أو التاريخي موضوع‬ ‫الإدراك إضافية لنا وهي ليست مقومة له‪ .‬لذلك فيمكن اعتبار الشيء في ذاته الذي هو‬ ‫غير ما ندركه أحد اثنين‪.‬‬ ‫• حصيلة المثالين الأولى‪:‬‬ ‫فإما هما شيء واحد غير اعراضهما وتعتبر أعراضهما إضافية إلى مدركيهما‪-‬ومنهم هو‬ ‫ذاته إذا كان مدركا لتعلقاته مثل الإنسان‪ -‬فيكون عروضه بعدد المدركين وأصنافهم‬ ‫وأنواعهم وليس مقصورا على المدركين من البشر إذ يمكن اعتبار كل الموجودات مدركة له‬ ‫بنوع تعلقها به لأننا نحن ندرك الشيء بنوع تعقلنا به معرفيا وقيما وتقنيا‪.‬‬ ‫• حصيلة المثالين الثانية‪:‬‬ ‫أو هو جملة أعراضهما عند كل الموجودات الأخرى أي وحدتها التي هي حقيقته دون أن‬ ‫تكون غير جملة الأعراض اللامتناهية بحسب لا تناهي الموجودات في تعلقها بهما وهو ما‬ ‫يقصده ابن تيمية بلوازم اللوازم اللامتناهية لأنها تمتد إلى كل الوجود‪ .‬ولذلك فشرط‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫علمه المحيط الإحاطة بالعالم كله ومعرفة كل هذه التعلقات التي له مع كل الموجودات‬ ‫المحيطة به باعتباره أحد عناصر نظام الوجود كله في العالم أو العوالم كلها‪.‬‬ ‫ومن ثم فامتناع الإحاطة في النظر والعقد وما يترتب عليهما من قدرة تقنية في التعمير‬ ‫وامتناعها في العمل والشرع ما يترتب عليهما من قدرة خلقية في الاستخلاف يقتضيان أن‬ ‫نفهم العلاقة بين النظر والعقد وبين العمل والشرع حتى نفهم علة الوصل بين الأولين‬ ‫والقدرة التقنية في التعمير وتلك هي الغاية من التجهيز بهما وعلة الوصل بين الثانيين‬ ‫والقدرة الخلقية في الاستخلاف وتلك هي الغاية من التجهيز بهما‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وصلنا الآن إلى قلب المحاولة فصلها الثالث‪ .‬فلنختم مسألة الدور الذي تؤديه المعاني‬ ‫الكلية والخيار بين كونها رموزا مثل الرسوم الكتابية والألفاظ اللغوية (رأي ابن تيمية)‬ ‫وبين كونها مقومة للأشياء التي تعرف بها فتكون ماهيتها المحددة لحقيقتها مؤلفة من تلك‬ ‫المعاني (أرسطو بوصفها مقومات الصورة المحايثة وأفلاطون بصورة محاكية لمثل مفارقة)‪.‬‬ ‫وطبعا فالذي ساد هو الرؤية الأفلاطونية والأرسطية من حيث القول بالمقومية وليس‬ ‫بالرمزية التي يقول بها ابن تيمية‪.‬‬ ‫وقد حاولت بيان أفضلية الحل التيمي بما بتغير هذه المعاني الكلية التي نعرف بها الأشياء‬ ‫تعريف إشارة إليها بها وليس تعريف مقومات تحدد كيانها‪ .‬وضربت مثالين من إدراكنا‬ ‫للظاهرات الطبيعية والتاريخية وأخذت أقربها للفهم اعتمادا على مثال المرئيات‬ ‫والمسموعات وعلى إدراكنا لما فينا من مكتسب ثقافي وكيف تصل إلينا وتحول بين البداية‬ ‫والغاية التي تعود إلى البداية معتبرا ذلك ترجمة لرموز تشير إلى المدركات وليست‬ ‫مقومات لها أو هي أعراض ننتخبها للدلالة عليها بها دون أن نعتبر ذلك مقوما نهائيا إذ قد‬ ‫يتقدم العلم فنكتشف أن غيرها أولى بتعريفها‪.‬‬ ‫فكلنا يعلم أن البشرية عاشت ألفين ومائتي سنة أي من أرسطو إلى نهاية القرن الثامن‬ ‫عشر على نظرية العناصر الخمسة أي التراب والماء والهواء والنار والجوهر الخامس‬ ‫باعتبارها عناصر مقومة لمادة الأشياء التي تتألف بالصورة سواء كانت محايثة أو مفارقة‬ ‫تحصل بتدخل واهب الصور (هو الإله الصانع عند أفلاطون ويمكن ان نعتبر حركة الأفلاك‬ ‫مؤدية لنفس الوظيفة عند أرسطو لأنه أشبه بالمخض الذي يحصل زبدة المادة بتصويرها أو‬ ‫بإخراج ما فيها بالقوة إلى الفعل)‪.‬‬ ‫لكن العلم تقدم وصارت العناصر بفصل اكتشافات القرن التاسع عشر خاصة حتى وصل‬ ‫تصنيف لاعنار في الجدول الدوري الذي وضعه مندلياف إلى ما يقرب من المائتين مع وجودا‬ ‫خانات لم تملأ بعد‪ .‬ورغم الاختلاف الكمي وحتى الكيفي بين تصور العناصر فإن المشترك‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بين هذا الجدول وما تقدم عليه واحد‪ :‬إنه اعتبار هذه العناصر وقائع ليس لنا تفسير‬ ‫لكونها على ما نصفها عليه من خلال تفاعلاتها في ما بينها أو أعراضها التي اخترناها‬ ‫لوصفها‪ .‬واعتبارها بسائط يمكن أن يعد مؤقتا إذ قد نكتشف أنها ليست بسائط ولعلها قابلة‬ ‫للتحلل إلى عناصر أخرى دونها لطافة وتخصصا‪ .‬وقد يكون ما يحصل بالنسبة إلى مكونات‬ ‫الذرة دليل على ذلك‪.‬‬ ‫فلو اعتبرناها كما يرى ذلك ابن تيمية رموزا دالة على نظام علاقات العناصر أكثر من‬ ‫دلالتها على حقيقتها لكانت أشبه بنظام علاقات الرموز اللسانية في أي نظام لغوي أو أي‬ ‫نظام ترميز سواء بالألوان أو التضاريس أو بأي منظومة من العناصر التي نعتبرها بسيطة‬ ‫ونؤلف بينها لتكون صورة مما نريد التعبير عنه بها‪ .‬فمثلا عندما نختار الالوان في رسم‬ ‫الخرائط أو التضاريس في رسمها فنحن نفترض أن ما في الخريطة نظام رموز في الخارطة‬ ‫متناظر مع نظام مرموزات في الأرض مع وضع سلم في الخارطة بالقياس إلى سلم في الأرض‪.‬‬ ‫وذلك تقريبا ما يعنيه اعتبار المعاني الكلية التي يظنها أفلاطون حكاية للمثل في الأشياء‬ ‫المحسوسة وأرسطة صورا مقومة للأشياء اعتبارها رموزا مثل الرسوم الكتابية والألفاظ‬ ‫اللغوية عند ابن تيمية ما يعني أن العلم لا يبحث في حقائق الأشياء وإنما في ما بينها من‬ ‫علاقات مناظرة لما بين الرموز التي نختارها للتعبير عما ندركه من أعراضها التي نختارها‬ ‫باعتبارها ممثلة لها في مرحلة ما من مراحل إدراكنا لها‪ .‬ولا يعني ذلك أننا ننفي أن لها‬ ‫حقائق ذاتية وراء هذه العلاقات أو نثبتها بل نرفع الحكم لأن معرفتها مستحيلة لاشتراطها‬ ‫المستحيل أعني المعرفة والتقييم المحيطين وهما مما ليس في متناول الإنسان‪.‬‬ ‫وحتى أبين ذلك فعلي أن أجيب عن سؤالين يتعلقان بالنظام الرمزي الذي رمزت به‬ ‫للإنسان دون أن أزعم أني أقدم تعريفا لحقيقته بل أقدم نظاما للكلام عليه كما يرمز إليه‬ ‫رؤية القرآن في نظرية الإنسان أو الانثروبولوجية القرآنية التي تنتسب إلى النوع الثاني‬ ‫من المعاني الكلية التي يعترف بها ابن تيمية بالإضافة إلى المقدرات الذهنية الرياضية‬ ‫أعني المعاني الكلية العقدية والتي يمكن اعتبارها من النوع الذي قسته على المعاني الكلية‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫النظرية وسميته المعاني الكلية العملية وهي معاني كلية أخلاقية إذا قورنت بالمعاني الكلية‬ ‫الرياضية‪.‬‬ ‫ولست افعل من منطلق إيماني بصحة نظرية الإنسان القرآنية أو الانثروبولوجيا‬ ‫القرآنية لأن المشكل العقدي ليس موضوع بحثي وعقيدتي ليست محل نقاش مع غيري لأنها‬ ‫بيني وبين ربي ولا علاقة لأحد بها‪ .‬غاية البحث وما يعني غيري منه هما علاقة التناسق‬ ‫بين الرؤية القرآنية والرؤية التيمية وأهميتها في فهم فعل النظر والعقد وفي فعل العمل‬ ‫والشرع اللذين يتعلق الأمر بدورهما في رؤية العالم والوجود وحدة أو تعددا ومطابقة لما‬ ‫أدعيه من الوحدة العميقة بين الفلسفي والديني دون زعم ما يزعمه هيجل من مقتضياتها‬ ‫أعني القول بحول الرب في الإنسان والعالم أو مفهوم المصالحة التي تؤدي إلى رؤية تقول‬ ‫بالمطابقة المعرفية والقيمية ووحدة العالم لكأن الإنسان وعالم الشهادة الإنساني يمثلان‬ ‫الوجود كله فيكون الوجود مقصورا على ما يرد إلى الإدراك الإنساني‪ .‬وهذا هو جوهر‬ ‫التحريف بالمعنى القرآني للكلمة‪ :‬مفهوم التأله الإنساني الذي أبلى في درسه ابن خلدون‬ ‫أحسن بلاء ورد إليه كل أدواء الحضارة الإنسانية لكونه علة فساد التربية والحكم أي‬ ‫بعدي السياسة التي هي طبيعة علاقة الإنسان العمودية بالطبيعة (النظر والعقد)‬ ‫وبالتاريخ (العمل والشرع)‪:‬‬ ‫‪ .1‬لماذا جمعت بين النظر والعقد واعتبرت التقني ثمرة لهما لدورهما في الاستعمار‬ ‫أي كونهما تجهيز الإنسان لهذه المهمة؟‬ ‫‪ .2‬ولماذا جمعت بين العمل والشرع واعتبرت الخلقي مثرة لهما لدورهما في‬ ‫الاستخلاف أي كونهما تجهيز الإنسان لهذه المهمة؟‬ ‫ولا بد من القول إن الأمر كله مرتهن بوظيفتي الإنسان في الانثروبولوجيا القرآنية‪:‬‬ ‫‪ .1‬فهو مستخلف في الأرض منزلة وجودية تحدد دوره في الوجود في الرؤية القرآني‬ ‫للإنسان‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬فهو مستعمر في الأرض فرصة ثانية لإثبات جدارته بالاستخلاف إذ عمرها بقيم‬ ‫الاستخلاف الذي خلق له‪.‬‬ ‫والمعنى الأول يحررنا من الرؤية الهيجلية التي تعتبر منزلة الإنسان كونه محل وجود‬ ‫الله أو معرفته لذاته‪ .‬والمعنى الثاني يحررنا من الرؤية الماركسية التي تعتبر الإنسان‬ ‫ظاهرة طبيعية لا علاقة لها بما يتعالى على الطبيعة سواء كان مفارقا كما في الرؤية التي‬ ‫ترفض الحلول الهيجلي أو كما في الرؤية الهيجلية‪ .‬ومعنى ذلك أن الرؤية القرآني التي‬ ‫تقول بالوحدة بين الديني والفلسفي هي التي تثبت هذين الوظيفتين وتحافظ على اعتبار‬ ‫المتعالي ليس محايثا للعالم الشاهد ومن ثم فالعوالم متعددة بحسب منازل الموجودات‬ ‫الوجودية وما منزلة الإنسان فيه إلا واحدة منها وليس الوحيدة‪.‬‬ ‫والإنسان مجهز لأداء هذين الوظيفتين بالنظر والعقد شرطا في علاج العلاقة العمودية‬ ‫بين الإنسان والعالم الطبيعي وأثره في العالم التاريخي وهو كذلك مجهز بالعمل والشرع‬ ‫شرطا في علاج العلاقة الأفقية بين الإنسان والعالم التاريخي وأثره في العالم الطبيعي‪.‬‬ ‫والجهاز الأول مشروط في الجهاز الثاني ومفروض حصوله ليكون للثاني وظيفة تنظيمه‬ ‫على علم‪ .‬ومن ثم فالإشكال الذي يشترك الديني والفلسفي في علاجه ويتحدان في ما‬ ‫يشترطانه هو إشكال العلاقتين العمودية والافقية وتفاعلهما في الاتجاهين وأصل هذه‬ ‫العوامل الاربعة هو منزلة الإنسان الوجودية التي هي الاستخلاف والاستعمار في الأرض‪.‬‬ ‫وسأكتفي في هذا الفصل الثالث بالجهاز الأول أعني بجهاز النظر والعقد مؤجلا الجهاز‬ ‫الثاني إلى الفصل الرابع لبيان طابعه المضاعف إذ هو يعالج العلاقة الأفقية بين الإنسان‬ ‫والتاريخ لذاتها وبها تنتظم قيم التواصل ويعالجها كذلك من حيث علاقتها بالعلاقة‬ ‫العمودية وبها تنظم قيم التبادل‪ .‬والانتظامان هما جوهر السياسة بمعنى التربية والحكم‬ ‫وبمعنى القانون والأخلاق‪.‬‬ ‫• الجمع بين النظر والعقد شرطا في علاج العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫يمكن ان ننطلق في تحليل الجمع بين النظر والعقد من الجمع بين مضمون القضية والموقف‬ ‫القضوي أي بين المضمون المعرفي قبل اثبات \"إن\" ونفيها أو الوجوديين في الأعيان أي‬ ‫بالاقتصار على إثبات هل ونفيها أو اثبات المحمول للموضوع أو نفيه في الأذهان أي قبل‬ ‫الانتقال من الوجود الذهني إلى الوجود العيني‪.‬‬ ‫فالأول يتوجه لموضوع النظر دون إثبات أو نفي أي إنه يرفع الحكم بخصوص وجود ما‬ ‫يدركه الفكر الناظر‪.‬‬ ‫والثاني هو الموقف من حصيلة هذا الإدراك بدرجات مختلفة من الاثبات والتبني أو من‬ ‫النفي ورفض التبني وهو أمر يراوح بين اليقين والشك في حصيلة البحث النظري‪ .‬فكل‬ ‫معرفة إنسانية تتألف من حكمين أحدهما ذهني منفصل عن العيني الذي يوجد خارج‬ ‫الذهن والثاني عيني خارج الذهني‪ .‬وهذا القدرة في رفع الحكم على ما يدركه الفكر في‬ ‫الذهن بمعزل عن الوجود الخارجي تتعلق بالتصورات والمفهومات وليس بالمتصورات‬ ‫وموضوعات المفهومات‪.‬‬ ‫‪ .1‬فالحكم الأول يتعلق بنسبة خصائص معينة لموضوع معين بصرف النظر عن وجود‬ ‫الموضوع ووجودها له أو عن عدمهما وإذن فهذا الحكم الأول يتعلق بالنسبة بين الموضوع‬ ‫والمحمول ضمن النظرية‪.‬‬ ‫‪ .2‬والحكم الثاني يتعلق بالاعتقاد في هذه النسبة إثباتا لوجودها أو شكا فيه بدرجات‬ ‫مختلفة وله علاقة بوجود الموضوع ووجود الخصائص للموضوع أو إذن فهذا الحكم الثاني‬ ‫يتعلق بإثبات النسبة في الوجود خارج النظرية أو بنفيها ومن ثم فهو يحدد موقف الباحث‬ ‫من الحصيلة ودرجة اعتقاده فيها‪.‬‬ ‫ولا يمكن للنظرية أن تصبح قابلة للتطبيق من دون الجمع بين الحكمين‪ :‬وإذن فالنظر‬ ‫عامة له علاقة بالعقد شرطا في النقلة من المفهوم الذي يحلل منطقيا إلى الماصدق الذي‬ ‫يحلل تجريبيا‪ .‬وأفضل الأمثلة في القانون هو العلاقة بين نص القانون ومناط الحكم الذي‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫يقتضي الانتقال من الرمز إلى المرموز لتوصيف الأفعال التي هي مادة الحكم الذي يكتفي‬ ‫بالإشارة إليها بأسمائها ورموزها‪.‬‬ ‫فالأول يتعلق بها من حيث هو مضمون الحكم‪ .‬والثاني يتعلق بها من حيث درجة تصديق‬ ‫الباحث في حقيقتها الفعلية خارج النظرية‪ .‬فإذا تأكد الباحث في صحتها اعتقد ذلك ويكون‬ ‫التزامه بتطبيقها متناسبا مع درجة الاعتقاد في صحتها‪ .‬ولذلك فهما شرط الانتقال من‬ ‫النظر إلى التطبيق ومن العلم النظري إلى العلم التطبيقي أو التقنية‪ .‬ولا يمكن تصور‬ ‫التعمير من دون الوصل بين النظر والعقد المؤسسين للانتقال من النظر إلى العمل في كل‬ ‫معرفة إنسانية‪ .‬والعمل الذي يكون على علم هو ما نمسيه تقنية أو صناعة‪.‬‬ ‫لكن العادة جرت في الفكر العامي المسيطر على علماء الدين على الأقل منذ بداية‬ ‫الانحطاط حصر العقد على العقد الديني أو الإيماني وفي ما لا علاقة له بالتقنيات لأن‬ ‫المعرفة الدينية عندهم تنحصر في ما وراء الطبيعة أي في ما لا يقبل العلم لأنه من الغيب‬ ‫وليس في الطبيعة والتاريخ أي في ما يقبل العلم‪ .‬وهو ما اعتبرته جوهر التحريف لأنهم‬ ‫قلبوا نهي الآية السابعة من آل عمران إلى أمر وأمر الآية ‪ 53‬من فصلت إلى نهي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لما وصلنا إلى العمل والشرع انتقلنا من التعمير إلى قيمه وشروط نظامه من حيث هو‬ ‫علاقة عمودية بين الإنسان والطبيعة (موضوع النظر والعقد) أي إلى جوهر السياسة في‬ ‫علاقتها بالاستخلاف‪ .‬ولما كان العمل والشرع يدرس العلاقة الأفقية بين الإنسان والتاريخ‬ ‫فموضوعه الأول هو التواصل بين البشر وليس التبادل إلا من حيث هو مصدر كل العلل‬ ‫التي تحول دون التواصل أو ما يسميه القرآن التعارف (الحجرات ‪ )13‬تأسيسا على نظرية‬ ‫الأخوة البشرية (النساء ‪.)1‬‬ ‫والسؤال حول العمل والشرع مثل جنيسه في كلامنا على النظر والعقد هو لماذا جمعنا‬ ‫بين بعديه جمعنا بين النظر والعقد ثم لماذا اعتبرنا العمل والشرع متعلقا بالأخلاق لصلتها‬ ‫بالاستخلاف تعلق الاول بالتقنية لصلتها بالتعمير‪ .‬لكن وهذا هو الأهم هو لماذا نعتبر العمل‬ ‫والشرع فوق النظر والعقد في نسبة الغاية إلى الأداة ‪-‬إذ حتى لما يعتبر النظر والعقد‬ ‫غايتين فالقصد أنهما يصبحان عملا روحيا أو عبادة‪-‬لأن الاستخلاف هو الغاية من‬ ‫الاستعمار في الارض هو الميسر له من خلال ما يضفيه عليه من قيم ونظام بفضل التربية‬ ‫والحكم‪.‬‬ ‫ففوقية العمل والشرع على النظر والعقد علتها أنه جوهر السياسة بالمعنى الأسمى للكملة‬ ‫لأنها الممارسة الإنسانية الجامعة بين التعمير المشروط بالنظر والعقد جوهر المعرفة‬ ‫وتطبيقاتها (التقنية أو الصناعة) والاستخلاف المشروط بالعمل والشرع جوهر القيمة‬ ‫وتطبيقاتها أي بعلاج علاقة الإنسان العمودية بالطبيعة وعلاقته الأفقية بالتاريخ‪.‬‬ ‫ولأشرح الآن علة الجمع بين العمل والشرع واعتبار ثمرته التطبيق الخلقي أو السياسة‬ ‫التي هي جوهر الاستخلاف الذي يحقق الغاية الذاتية له اي التواصل بين البشر أو العلاقة‬ ‫الأفقية مع التاريخ مجال الاستخلاف الأول والغاية التابعة لها أي التبادل بين البشر أو‬ ‫العلاقة العمودية بين البشر والطبيعة مجال التعمير الأول‪ .‬فنسبة السياسة ‪-‬الأخلاق‬ ‫الجامعة بين شكليها أي القانون والقيم التي تعبر عنها‪-‬إلى الاستخلاف والتعمير هي نسبة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫انتقال المعرفة والقيمة إلى الوجود الفعلي في التاريخ الإنسان من حيث هو لقاء بين‬ ‫الطبيعة والإنسانية التي هي في آن جزء من الطبيعة وما يتعالى عليها بما له من وعي معرفي‬ ‫وقيمي بما يصله بيها ويصله بغيره في ما يستخرجانه منها لقيامه‪.‬‬ ‫وهذا يعني أن الوصل بين النظر والعقد وثمرته التطبيق التقني (كل الأدوات التي‬ ‫تعالج علاقة الإنسان العمودية بالطبيعة) والوصل بين العمل والشرع وثمرته التطبيق‬ ‫الخلقي (كل المؤسسات التي تعالج علاقة الإنسان الأفقية بالتاريخ) ليس هو في الحقيقة‬ ‫إلا الشرح الفعلي لما سميته المعادلة الوجودية‪:‬‬ ‫• فالعلاقة العمودية هي ما يوجد أحد جانبي قلب المعادلة الذي هو العلاقة المباشرة بين‬ ‫الإنسان والتعالي عامة سواء كان إلها مفارقا أو قوة مماثلة محايثة للطبيعة وللتاريخ‪.‬‬ ‫• والعلاقة الأفقية هي ما يوجد على الجانب الثاني لقلب المعادلة الذي هو العلاقة‬ ‫المباشرة بين الإنسان والتعالي عامة سواء كان إلها مفارقا أو قوة محايثة للتاريخ والطبيعة‪.‬‬ ‫وهذان العلاقتان لا تدركان مباشرتين إلا بوصفهم كذلك غير مباشرتين أي ما وراء‬ ‫الطبيعة وما وراء التاريخ‪ .‬لكنها بمجرد ان توضع كما وراء لهما تتحول إلى ما قبل فيصبح‬ ‫الماوراءان ماقبلان يتوسطان بين الإنسان والطبيعة وبينه وبين التاريخ‪ .‬ومعنى ذلك أن‬ ‫العلاقة تقلب فيكون الإنسان في علاقته بالطبيعة وفي علاقته بالتاريخ مقدما ما وراءهما‬ ‫عليهما باعتباره ما به يضفي المعنى والقيمة عليهما وما به يعلم ويقيم الأشياء الطبيعية‬ ‫والاشياء التاريخية‪.‬‬ ‫وحتى نفهم التفاعل المتبادل في الاتجاهين بين النظر والعقد ما يثمره من تقنيات لعلاج‬ ‫ما يطرحه التعمير من حيث هو علاقة بين الإنسان والطبيعة من اشكالات للإنسان ناتجة‬ ‫عن سد الحاجات العضوية خاصة والعمل والشرع وما يثمره منه أخلاقيات لعلاج ما يطرحه‬ ‫الاستخلاف من حيث هو علاقة الإنسان بالتاريخ من إشكالات للإنسان ناتجة عن سد‬ ‫الحاجات الروحية لا بد من وصل هذين التفاعلين بـ‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬المائدة والسرير استعارتين على العلاقة بالطبيعة باعتبارها ما يستمده الإنسان‬ ‫من الطبيعة لقيامه العضوي (الغذاء خاصة) وما يعطيه للحياة للتوارث العضوي النوع‬ ‫الإنساني (الجنس خاصة)‪.‬‬ ‫‪ .2‬فن المائدة وفن السرير استعارتين على العلاقة بالتاريخ باعتباره ما يستمده‬ ‫الإنسان من التاريخ لقيامه الروحي (القيم الجمالية) وما يعطيه للثقافة للتوارث الحضاري‬ ‫الإنساني (القيم الجلالية)‪.‬‬ ‫فالنظر والعقد لا يمكن أن يصبحا أصلا للتقنية من دون وسطين‪ :‬العلم من حيث هو نظر‬ ‫وعقد والعلم من حيث هو تطبيق للنظر والعقد يعتبر الطبيعة هي بدورها عملا تقنيا يمكن‬ ‫اكتشاف النظام الذي \"صنع\" بمقتضاه‪ .‬وهذا هو القصد في الغاية من معنى ما وراء‬ ‫الطبيعة‪ .‬فما وراء الطبيعة ليس شيئا آخر غير قيس الطبيعة على الحضارة الإنسانية‬ ‫واعتبارها هي بدورها مصنوعة بنفس الطريقة التي يعمل بها الإنسان‪.‬‬ ‫فتكون المرحلة الأولى تصور ما وراء الطبيعة‪-‬وذلك هو أصل الميثولوجيات‪-‬عالم ربوبيا‬ ‫أو شبه عالم تكون فيه نسبة الآلهة إلى الطبيعة عين نسبة الإنسان إلى التاريخ في علاقتهم‬ ‫بما يصنعونه‪ .‬وما يسمونه علما نظريا هو ما يعتبرونه المرحلة التي يكون فيها الصانع صانعا‬ ‫بكن أي يأمر الأشياء فتطيع وهو معنى السحر إن صح التعبير‪ .‬السحر هو النموذج الحقيقي‬ ‫للعلم النظري الذي تكون فيها كلمة \"كن\" ذات سلطان خالق‪.‬‬ ‫ولما يكتشف الساحر أن ذلك لا يكفي ينتقل إلى التقنية التي هي الجمع بين \"كن النظرية‬ ‫أو الخلق بالرمز\" و\"افعل العملية أو الخلق بالفعل\"‪ .‬والجمع بين الرمز الخالق في مستوى‬ ‫المفهوم بالنظرية والفعل المحقق في مستوى الوجود بالتجربة هو العلم المطبق أساس كل‬ ‫تقنية‪.‬‬ ‫لكن قبل ذلك يكون الساحر قد اكتشف أن عقد المسحور في فاعلية السحر هي التي تجعل‬ ‫للساحر فاعلية على الضمائر وليس على الأشياء فيكون اكتشاف السلطة الرمزية للسحر هو‬ ‫النموذج الأول لفاعلية النظرية‪ .‬ومعنى ذلك أن السياسة أو ما بعد التاريخ هي النموذج‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الأول لما بعد الطبيعة‪ :‬صاحب السلطان المادي لما يستقر له الأمر يصبح لها سلطان رمزي‬ ‫يغني عن الشوكة كما قال ابن خلدون حول إمكانية الاستغناء عن شوكة العصبية عندما‬ ‫يستقر الأمر لأسرة حاكمة فتصبح مهابة دون حاجة للعنف المادي‪.‬‬ ‫وهو ما يعني أن قيس الطبيعة على التاريخ أو على السياسة هو غاية نشأة الدولة التي‬ ‫صارت مهابة دون حاجة إلى العنف ومن ثم فتأليه الحكام أو المهابة التي تتأسس على سلطان‬ ‫رمزي هو الدين وهو بداية الكلام في ما بعد الطبيعة من حيث هي إلهيات أو ميثولوجيا‪.‬‬ ‫ولما حاول أفلاطون وارسطو تجريد الفكر الفلسفي من هذا القياس زادوا الطين بلة لأن‬ ‫ما كان مبنيا على حقيقة الاسقاط السياسي أو نظام السلطان السياسي في الجماعات البشرية‬ ‫على السلطان الديني في نظام الطبيعة تصوروا الإله على صورة الإنسان ونسبوا إليه صفات‬ ‫الفيلسوف الذي ينظر إلى مثل أو صور ثم يبني العالم تقنيا مثلما يبني الإنسان المدينة‬ ‫سياسيا‪ .‬تلك هي نظرية النوس أو العقل الذي هو رفع إلى مستوى الألوهية للعقل الإنساني‬ ‫ومحاولة تنزيه الآلهة مما يعتبر ناتجا عن ضعف الإنسان ونقائصه‪.‬‬ ‫وطبعا هذا الكلام لا يعني أني اعتقد أن الله من إنتاج الفكر الإنساني إذ حتى الطبيعة‬ ‫والتاريخ فهما ليسا من إنتاج الفكر الإنساني‪ .‬ما هو من إنتاج الفكر الإنساني هو صورة‬ ‫الله التي يدركها الإنسان وصورة الطبيعة التي يدركها الإنسان وصورة الإنسان التي‬ ‫يدركها الإنسان‪ .‬وإذن فالإنسان الذي يقول بالمطابقة المعرفية والقيمية هو الذي يتصور‬ ‫أن خلق الإنسان لصورته عن الأشياء خلق للأشياء أو أن قيس الإنسان لخلق الله للطبيعة‬ ‫على خلقه هو للحضارة‪.‬‬ ‫أما إذا تحرر من القول بالمطابقة في المعرفة وفي القيمة فإن هذه المناظرة بين الفعلين فعل‬ ‫الإنسان وفعل ما وراء الطبيعة وما وراء التاريخ يتماثلان في تصور الإنسان لكننا لا نعلم‬ ‫أيا منهما على حقيقته‪ .‬ما ندركه هو التناظر بينهما في علم الإنسان وعمله بمعنى أن‬ ‫الإنسان لا يستطيع تصور مابعد الطبيعة إلا بالقياس إلى مابعد التاريخ أي قياس الله على‬ ‫الإنسان‪ .‬وما كان ذلك ليخصل لو لم يكن النظام السياسي من حيث مصدره الطبيعي مبنيا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫على تحول القوة الفاعلة بالسلطان الطبيعي إلى قوة فاعلة بالسلطان الثقافي أو الرمزي‬ ‫ومن ثم فتأله السلطان السياسي هو الذي ينتج صورة عن الإله الفكر الحديث يخلط بينها‬ ‫وبين الإله الذي تشير إليه الصورة التي للإنسان عليه بالقياس إلى نفسه دون أن تكون‬ ‫إياه‪.‬‬ ‫ومن يقرأ القرآن من هذا المنطلق يفهم أنه من البداية إلى النهاية نقد لهذه الفكرة‬ ‫التي تجعل الإيمان بالله مشروطا بالكفر بالطاغوت ‪ :‬فالطاغوت هو تأله بعض البشر‬ ‫لاستعباد بقية البشر والإيمان هو تحرير كل البشر من هذه العبودية للبشر من أجل تحقيق‬ ‫العبودية لله وحده واعتبار كل البشر سواسية في الاستخلاف وقلب العلاقة بحيث يصبح‬ ‫نظام العالم الذي يقدمه الدين المنزل المتحرر من الميثولوجيا ومن إطلاقها الفلسفي أساس‬ ‫نظام الحرية والمساواة بين البشر في دولة ذات شريعة تحددها الآية ‪ 13‬من الحجرات بين‬ ‫البشر من حيث هم اخوة كما تحدد ذلك الآية الأولى من النساء‪.‬‬ ‫وحينئذ يكون المفهوم الرئيسي هو مفهوم الغيب‪ :‬الله وما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ‬ ‫لا يقاس أي منها على الإنسان وعلاقته بالطبيعة وبالتاريخ‪ .‬فالطبيعة التي للإنسان بها‬ ‫علاقة وله قدرة على علمها والتعامل معه من أجل قيامه العضوي تخضع للضرورة الشرطية‬ ‫وكذلك التاريخ يخضع للحرية الشرطية‪ .‬لكن ما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ كلاهما‬ ‫متحرر من الضرورة الشرطية‪ :‬فلا يمكن تصور الطبيعة في ذاتها خلقت لغاية تتجاوزها‬ ‫سواء اعتبرناها ضرورة شرطية أو حرية شرطية ومن ثم فهما فوق الشرطيات إذ هما‬ ‫شارطان لغيرهما وليسا مشروطين بشيء‪ .‬فيكون الوجود الطبيعي والتاريخي ضرورتين لما‬ ‫هو طبيعي وتاريخي من الموجودات لكنهما في ذاتهما ضرورة لا شرطية وحرية لا شرطية‬ ‫بمعنى أن الله لم يخلق شيئا لحاجة إليه أو لكونه مضطرا لخلقه بل هو مطلق الإرادة والعلم‬ ‫والقدرة والحياة والوجود‪ .‬ومن ثم فالإيمان المحرر للإنسان من الاستبداد في الطبيعة وفي‬ ‫التاريخ يقتضي مبدأين‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬الإيمان بالغيب أو بمحدودية إرادتنا وعلمنا وقدرتنا وحياتنا ووجودنا‪ :‬وهذه‬ ‫تثبت ذلك بذاتها والغفلة عنها هي التأله الكاذب عند الإنسان‪ .‬وهو مرض نفسي لا يحرر‬ ‫منه إلى ذهاب الإنسان إلى المرحاض‪.‬‬ ‫‪ .2‬الإيمان بالضرورة الشرطية بمعنى أن علاقة الإنسان بالطبيعة لا تفهم من دون‬ ‫الضرورة الشرطية بمعنى أن ما فيها مما يجعل حياة الإنسان ممكنة لا يمكن أن يكون من‬ ‫الصدف‪.‬‬ ‫‪ .3‬الإيمان بالحرية الشرطية بمعنى أن علاقة الإنسان بالتاريخ لا تفهم من دون‬ ‫الحرية الشرطية بمعنى أن ما يفعله الإنسان ليس ممكنا من دون أن يكون للإنسان قدرة‬ ‫على الاختيار أو التحرر من الضرورة‪.‬‬ ‫‪ .4‬لا يمكن فهم علاقة ‪ 2‬بـ ‪ 1‬أي الضرورة الشرطية بالغيب من دون تصور ما وراء‬ ‫الضرورة الشرطية ضرورة لا شرطية بمعنى أن الإنسان خاضع لضرورة شرطية هي‬ ‫ضرورة لا شرطية عند الخالق‪.‬‬ ‫‪ .5‬لا يمكن فهم علاقة ‪ 3‬بـ‪-1‬أي الحرية الشرطية بالغيب من دون تصور ما وراء‬ ‫الضرورة الشرطية حرية لا شرطية بمعنى أن الإنسان له حرية شرطية مكلفة من حرية‬ ‫لا شرطية عند الآمر‪.‬‬ ‫وبذلك نفهم معنى \"ألا له الخلق والامر\" أو معنى \"القضاء والقدر\"‪ .‬فالخلق حكمه‬ ‫المقدرات الذهنية الرياضية والامر حكمه المقدرات الذهنية الخلقية والإنسان له شيء‬ ‫منهما لأن له إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود كلها نسبية إلى ما يقاس عليها مع الإطلاق‬ ‫أي إرادة الله وعلمه وقدرته وحياته ووجوده اللامتناهية وللامشروطة والمطلقة ولا يمكن‬ ‫تصور أي إنسان مهما ادعى الإلحاد قادرا على التخلص من هذه البنية لكيانه أو لما سميته‬ ‫المعادلة الوجودية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫حان الآن أوان بيان التناظر بين النظر والعقد في المعرفة وتطبيقاتها أو جهاز العلاقة‬ ‫العمودية بين الإنسان والعالم الطبيعي وما بعده وغايتها التعمير من جهة اولى والعمل‬ ‫والشرع في القيمة أو جهاز العلاقة الأفقية بين الإنسان والعالم التاريخي وما بعده وغايتها‬ ‫الاستخلاف‪ .‬قبل المزيد من تعميق العلاقة بين العلاقة العمودية والعلاقة الأفقية التي‬ ‫درسناها في الفصل السابق‪.‬‬ ‫فقد رأينا أن العلاقة بين الجهاز المعرفي وتطبيقاته يتألف من عنصرين يؤديان إلى‬ ‫وظيفتين‪:‬‬ ‫‪ .1‬العنصر المتعلق بمضمون القضية أو حكم \"درجات هل\" أو النظر‪.‬‬ ‫‪ .2‬والعنصر المتعلق بالموقف من القضية أو حكم \"درجات إن\" أو العقد‪.‬‬ ‫‪ .3‬والعلاقة بين الحكمين هي التي تجعل التطبيق ممكن بقدر قرب الثاني من الدلالة شبه‬ ‫اليقين من الأول‪.‬‬ ‫‪ .4‬حينها يصبح بوسع التطبيق أن يبدع ما يترجم النظرية التي نعتقد في صحتها إلى‬ ‫عملية تقنية قابلة لإنتاج ما توصلت إليه النظرية‪.‬‬ ‫‪ .5‬وهذه المراحل أصلها طبيعة الجهاز المعرفي العقدي ومنها تستنج نظرية المعرفة المتعلقة‬ ‫بالموجود‪.‬‬ ‫وقياسا على هذه العناصر في الجهاز المعرفي نستطيع تحديد عناصر الجهاز القيمي وحتى‬ ‫أيسر الأمر فسأقوم بالقياس من غايته إلى بدايته‪.‬‬ ‫‪ .1‬فنحن في مجال القيم ننتقل من العلاقة بالموجود إلى العلاقة بالمنشود‪ .‬وذلك هو أصل‬ ‫نظرية القيمة التي هي أصل عناصر الجهاز الثاني جهاز العمل والشرع‪.‬‬ ‫‪ .2‬فالعمل يتعلق دائما بإيجاد شيء وليس بعلم شيء موجود‪ .‬وهو إذن من عالم المنشود‬ ‫وليس من عالم الموجود‪ .‬وفيه العناصر التالية‪.‬‬ ‫‪ .3‬العنصر المتعلق بالمنشود من الإيجاد وهو حكم القيمة أو الشرع‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .4‬التي ستحكم الحكم الثاني وهو العمل الذي يجري حسب قانون الحكم الأول أو‬ ‫الشرع‪,.‬‬ ‫‪ .5‬والعلاقة بين الحكمين هي التي تجعل العمل يجري من البداية حكم القيمة أو الشرع‬ ‫إلى الغاية أو انجاز العمل‪.‬‬ ‫ويكفي أن نقلب هذا الترتيب حتى نجد التناظر التام بين الجهازين‪ :‬جهاز النظر والعقد‬ ‫أو ما يجعل الإنسان قادرا على التعمير وتلك هي العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة‬ ‫أي كل ما ينتسب إلى الضرورة الشرطية والضرورة اللاشرطية التي تقاس عليها وجهاز‬ ‫العمل والشرع أو ما يجعل الإنسان قادرا على الاستخلاف وتلك هي العلاقة الأفقية بين‬ ‫الإنسان والإنسان أي كل ما ينتسب إلى الحرية الشرطية والحرية اللاشرطية التي تقاس‬ ‫عليها‪.‬‬ ‫والعلاقة بين العلاقة بالموجود والعلاقة بالمنشود علاقة بين النظر والعقد اللذين كان‬ ‫الكثير يتصورهما ثابتين بثبات الموجود أو بصورة أدق بثبات الضرورة الشرطية والعمل‬ ‫والشرع اللذين كان الكثير يتصورهما متغيرين بتغير المنشود أو بصورة أدق بتغير الحرية‬ ‫الشرطية خطآن في الفلسفة القديمة والوسيطة التي يمكن لرؤية ابن تيمية تحرير الفكر‬ ‫الإنسان منهما لأن حقيقة الموجود وحقيقة المنشود كلتاهما مجهولة لأنها من الغيب وما نعلمه‬ ‫منهما ليس مقوما لهما بل هو بعض أعراضهما التي نختارها في مراحل معرفتنا وتقييمنا‬ ‫رموزا مشيرة إليهما ويمكن اعتبار حكمنا على الماضي رمزا لما يبدو ثابتا وحكمنا على‬ ‫المستقبل لما يبدو متغيرا في في النظر والعقد وفي العمل والشرع بمعنى أننا لم نعد قادرين‬ ‫على تغيير الماضي ولم نستقر بعد على المستقبل‪ .‬لكن لما ندرك أن ما نراه من الماضي هو‬ ‫بدوره متغير لأنه كان مستقبلا ويبقى دائما قابلا للتأويل لأن حدثه يبقى في حديثه الذي‬ ‫هو رمز دائم التأويل لمرموزه الذي هو الحدث فإن الموجود يصبح وكأن المنشود الذي تحقق‬ ‫فبقي متواصلا بوصفه حيا أو الذي لم يتحقق فبقي متواصلا وكأنه ميت‪ .‬وقد يبحث الميت‬ ‫ويدفن الحي في بقائهما الرمزي أو في الحديث الدائر حول الحدث‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ومن ثم فالمنشود أعمق من الموجود إذ هو بنية كامنة في الموجود يبعث منه ما سبق أن مات‬ ‫ويعدم منه ما سبق أن كان حيا‪ .‬وبذلك بصبح الحاضر هو هذا التلازم بين الموجود والمنشود‬ ‫وتصبح العلاقة بالطبيعة هي بدورها تابعة للمنشود الإنساني تبعا للعلاقة بالتاريخ التي‬ ‫ليست هي إلا الموجود من المنشود وهو معنى الحرية الشرطية‪ .‬فتكون الحرية الشرطية‬ ‫أوسع من الضرورة الشرطية بل وهي المحددة للشروط ليس من حيث البنية المجردة بل من‬ ‫حيث تعيين مضمونها تعيينا ييسر التغيير بتغيير المضمون وذلك هو معنى الصناعة والتعمير‬ ‫الذي يجعل الضرورة الشرطية في الطبيعة تابعة للحرية الشرطية في التاريخ‪.‬‬ ‫فكيف يتجلى دور العمل والشرع بوصفهما شرطين جهازين لعلاقة الإنسان الأفقية‬ ‫بالتاريخ وما بعده في صلة بالقيم الاستخلافية وكيف يتجلى دور النظر والعقد شرطين‬ ‫جهازين لعلاقة الإنسان العمودية بالطبيعة وما بعدها في صلى بالمعارف التعميرية في ما بين‬ ‫الحرية الشرطية وما بعدها من حرية لا شرطية والضرورة الشرطية وما بعدها من ضرورة‬ ‫لا شرطية سواء نسبتا إلى رب معتن بالمخلوقات أو صدفة لامبالية بها؟‬ ‫لا يمكن أن أجيب عن هذين السؤالين إذا اعتبرت ما وصفت به الموجودات الطبيعية‬ ‫والموجودات التاريخية مقوما لهما وليس رمزا لها بما اختير من أعراض هي ما أدركه معرفيا‬ ‫وما اعيره قيما في علاقة بالعالمين الطبيعي والتاريخي وما لا أستطيع افتراضه واراءهما من‬ ‫حقائق غيبية لا أعلمها لكني أعلم ضرورتها سواء اعتبرتها ذات عناية أو عديمة العناية‬ ‫بالعالمين ونظاميهما‪.‬‬ ‫والآن فلأقارن نظام الجهازين كما عرضته مع قلب الترتيب بين العناصر في عرض الثاني‬ ‫بالقياس إلى الترتيب بين العناصر في عرض الأول‪ .‬فما جاء غاية في الأول صار بداية في‬ ‫الثاني وهما متطابقان ويتعلقان بأصل العناصر الاربعة المتفرعة عنه في الجهازين‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأخير في الأول والأول في الثاني‪.‬‬ ‫‪ .2‬الرابع في الأول والثاني في الثاني‬ ‫‪ .3‬الثالث في الأول والثالث في الثاني‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .4‬الثاني في الأول والرابع في الثاني‬ ‫‪ .5‬الأول في الأول والأخير في الثاني‪.‬‬ ‫فإذا فهمنا هذا التناظر العكسي تبين لنا أن ما هو غاية النظر والعقد هو بداية العمل‬ ‫والشرع ومعنى ذلك أن العمل والشرع يفترض دائما رؤية نظرية مصحوبة بعقيدة مهما‬ ‫كانتا بدائيتين ومن ثم فلابد أن تكون البداية هي عين ما يثبته التاريخ أي الكلام في ما‬ ‫وراء الشيء بعد الشيء أي إن كل مرحلة في السعي إلى معرفة ما وراء الطبيعة يحدد‬ ‫مرحلة في العسي إلى قيمة ما وراء التاريخ‪ .‬ومن ثم فالمنطلق هو دائما العلاقة المباشرة بين‬ ‫الإنسان و\"القوة\" التي يفترضها وراء الطبيعة وعلاقته العمودية بها وانطلاقا منها يستمد‬ ‫سلم القيم في مستوى الرؤية‪ .‬لكن ذلك هو في الحقيقة عكس ما يحصل فعلا‪ :‬أي إنه يسقط‬ ‫سلم القيم في مستوى الرؤية التي تحصل فعلا في التاريخ على ما ورائه وعلى ما وراء‬ ‫الطبيعة‪.‬‬ ‫وذلك هو المرحلة الأولى التي ينطلق منها ابن خلدون في الباب الأول من المقدمة بإعادة‬ ‫النظر في العملية كلها إذ هو يعرض المحدد الطبيعي أعني الجغرافيا والمناخ وما يترتب‬ ‫عليه في حياة الإنسان من حيث شروط قيامه ويتكلم على إبداع الإنسان للنظام الذي يمكنه‬ ‫من التعامل مع المحدد الطبيعي بالتعامل معه وكأنه ناتج عن نظام شبيه بنظام حياته‬ ‫فيسقط عليه نظام حياته من حيث هو نظام حياته جاعلا إيها نموذجا لما وراء الطبيعة‪.‬‬ ‫وبذلك يعتبر أن المشكل الأساسي هو تحديد ما يضمن البقاء قانونا لسياسته شروط قيامه‬ ‫العضوي والروحي أي شروط العلاقتين العمودية مع المحدد الطبيعي ومع هذا المحدد‬ ‫التاريخي‪ :‬فيكون الأمر متعلقا بالتعمير وبالاستخلاف أو بسياسة الرعاية وسياسة الحماية‬ ‫بمعنييها من العامل الطبيعي ومن العامل التاريخي أو من العامل الطبيعي ومما يترتب عليه‬ ‫من تنافس بين البشر بوصفه شرط قيام‪ :‬فيكون المشكل مضاعفا‪:‬‬ ‫‪ .1‬كيف يحل الإنسان مشكل استمداد شروط القيام من الطبيعة؟ وجواب الأول يحققه‬ ‫جهاز النظر والعقد وتطبيقه أي المعرفة التي تجعل الحل التقني ممكنا‪ .‬وهذا هو مهمة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫التربية أو تكوين الإنسان وتنظيم حياته الروحية ليكون قادرا على تحقيق هذه الغاية أي‬ ‫الرعاية بإنتاج ما يسد الحاجات العضوية للإنسان‪ .‬وبذلك يتبين أن العمل والشرع شرط‬ ‫لعلاج مشكل النظر والعقد لأنه شرط التكوين الضروري لتنمية جهاز النظر والعقد بوصفه‬ ‫أداة للتعامل مع الطبيعة أو علاج ما يعترض الأنسان في علاقته العمودية بها‪.‬‬ ‫‪ .2‬كيف يحول دون التنافس عليها ومنع تحصيل شروط القيام؟ وجواب الثاني يحققه جهاز‬ ‫العمل والشرع وتطبيقه أي القيمة التي تجعل الحل الخلقي ممكنا‪ .‬وهذا مهمة الحكم أو‬ ‫تنظيم حياته المادية ليكون قادرا على تحقيق هذه الغاية‪ .‬وبذلك يتبين أن الحكم أو‬ ‫الحماية هي التي تحول دون أن يكون ما يقتضيه التعامل مع الطبيعة من ضرورة تكون‬ ‫الجماعات المتعاونية حائلا دون التعاون بسبب التنافس وما يترتب عليه من عدوان متبادل‬ ‫في نفس الجماعة أو بين الجماعات‪ .‬فيكون الحكم هو الحل وبذلك يتضح أن الشرع أو‬ ‫حماية سلم القيم شرط العمل‪.‬‬ ‫وانطلاقا من هنا نفهم أن يكون أول العمل والشرع هو دائما غاية النظر والعقد بحسب‬ ‫الترتيب الذي ذكرت‪ :‬فغاية النظر والعقد وتطبيقاتهما في التعامل مع الطبيعة تكون في‬ ‫كل لحظة من لحظات التاريخ الإنساني بداية العمل والشرع وتطبيقاتهما في التعامل مع‬ ‫التاريخ‪ .‬ومعنى ذلك أن المثال الذي ورد في سورة هود والذي أطلت في شرحه يبين أن‬ ‫التحرر من سلطان الطبيعة بداية التحرر ومراحله هي مراحل التحرر من سلطان التاريخ‬ ‫أي إن الإنسان يتحرر سياسيا من سلطان الحكم بجهاز العمل والشرع بقدر ما يتحرر سلطان‬ ‫الطبيعة التربية بجهاز النظر والعقد‪ .‬فتكون رؤية الإنسان لعلاقته العمودية بالطبيعة‬ ‫رهن قدرات جهاز النظر والعقد الذي يمكن من قدرات العمل والشرع الذي يحدد رؤيته‬ ‫لعلاقته بالتاريخ‪.‬‬ ‫وفي سورة هود نجد ترتيب هذا التحرر فنلاحظ أن البداية هي ثورة نوح التي تمثل تحرير‬ ‫الإنسان من سلطان الطبيعة بالتقنية (السفينة والزراعة) والغاية هي ثورة موسى التي‬ ‫تمثل تحرير الإنسان من سلطان التاريخ بالأخلاق (الشرع والخروج عن فرعون)‪ .‬وبين‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الثورتين نجد المراحل التالية‪ :‬ثورة هود على المستحوذين على الثروة ثم ثورة صالح على‬ ‫المسيطرين على توزيع الماء ثم ثورة لوط على المسيطرين على الجنس ثم ثورة شعيب على‬ ‫المسيطرين على شروط التبادل الاقتصادي العادل من خلال مشكل المكاييل والموازين‪.‬‬ ‫وبذلك تتضح العلاقة بين العلاقتين العمودية مع الطبيعة والافقية مع التاريخ وبين‬ ‫الجهازين النظر والعقد والعمل والشرع وبين الغايتين التعمير والاستخلاف‪ .‬ويتضح أن‬ ‫كل ذلك مداره المعادلة الوجودية التي هي علاقة الإنسان بما يتعالى عليه مباشرة أي‬ ‫بالضرورة والحرية اللامشروطتين بوصفهما ما بعدين للضرورة المشروطة أو الطبيعة‬ ‫وللحرية المشروط أو التاريخ‪ .‬وذلك ما كان علينا بيانه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook