أبو يعرب المرزوقي re nils frahm رؤية العالم بين الوحدة والتعدد الوجوديين الأسماء والبيان
المحتويات 2 -الفصل الأول 1 - -الفصل الثاني 7 - -الفصل الثالث 14 - -الفصل الرابع 20 - -الفصل الخامس 26 -
-- لما حددت رؤى العالم والوجود بينت أن أصلها الذي تتفرع عنه ذو صلة بعلاقة الضرورة الشرطية (نظام العالم الطبيعي) والضرورة اللاشرطية (ما يتجاوز ما يقبل العلم مما يبدو ذا ضرورة غير شرطية) والحرية الشرطية (نظام العالم الحضاري) والحرية اللاشرطية (ما يتجاوز ما يقبل العلم مما يبدو حرية غير شرطية) .وقسمت المقابلتين بين الضرورتين الشرطية واللاشرطية وبين الحريتين الشرطية واللاشرطية إلى الموقف الإيماني بالعناية الإلهية ونفي الصدفة فيها جميعا والموقف الإيماني بالصدفة ونفي العناية الإلهية فيها جميعا .وبدا وكأني أقول بالتقابل بين المواقف من العالم والوجود بمنطق الإثبات والسلب فأكون من القائلين بمنطق الجدل والصراع بين الموقفين وباحثا عما يسمى التوليف بينهما حصيلة جدلية صارت من ممضوغات حداثيي العرب يستعلموها حلا سحريا مع نظيرتها عند الإسلاميين وهي ما يسمونها التدافع مفهوما ما أتى الله به من سلطان لأن ما يوجد في القرآن الكريم هو نقيضه التام إذ لا تدافع بل الدافع هو الله والمدفوع هو الإنسان معركة تحرير الإنسان من الخضوع لفوضى الصدفة. وإذن فقصدي لا علاقة له بالحل الجدلي .لذلك فقد وصلت ذلك كله بالمعادلة الوجودية وبينت أن صورة الإنسان عن نفسه واحدة سواء اختار الموقف الأول أو الموقف الثاني :لأن منزلة الإنسان أيا كان موقفه إثباتا أو نفيا واحدة .فالنفي في حالتي الضرورة اللاشرطية والحرية اللاشرطية لا يختلف عن الإثبات في القول بالتلازم بين مفهومين أحدهما يرمز إلى ما يؤدي وظيفة الإنسان والثاني إلى ما يؤدي وظيفة الإله رمزا بالإثبات في الحالة الأولى وبالنفي في الحالة الثانية وذلك هو شرط الحرية والتكليف الذي يترتب عليه الاختيار الحر بين الموقفين دون أن يغير ذلك من المنزلة الوجودية للإنسان من حيث هو دائما ومهما فعل يبقى مشدودا إلى ما فوقه حتى لو ساد على كل ما يعتقد أنه دونه. فالتقابل بين الإثبات والنفي في هذه العلاقة لا يغير من التلازم بين القطبين وهو الأمر الذي لا معنى للإثبات والنفي فيه لأنه شرط وجودهما كليهما ومن ثم فهما يتفرعان عنه أبو يعرب المرزوقي 1 الأسماء والبيان
-- وليسا شارطين له .فسواء أثبت الإنسان الإله أو نفاه يكون في الحالتين معبرا عن عقد في شيء لا يستطيع الا يصل ذاته به إثباتا أو نفيا .فلما ينفيه هو لا ينفي وجوده بل ينفي مفارقته لبعدي العالم الذي يعيش فيه أي الطبيعة والتاريخ ويجعل ما يؤدي وظيفته في علاقة ذاته بما يتعالى عليها محايثا فيهما على الأقل بوصفه النظام أو اللانظام الذي يحكم مسارهما وتكوينيتهما. وإذن فالفرق بين الموقفين لا يتعلق بوجود المتعالي على الإنسان بل بطبيعته وبكيفية وجوده .فالأول يعتبره سلطانا يعترف به ويقيمه خلقيا بكونه رحيما والثاني يعتبره سلطانا غير مبال به ومن فهو لا يحتاج إلى وصفه خلقيا .لكن كلا الموقفين يتضمن اعترافا بسلطان مجهول الطبيعة والكيف حتى وإن كان المثبت يحدد صلة «عاطفية» بينه وبينه والثاني يعتبره لا مباليا .والمعلوم أن أفلاطون في فصل القانون الجنائي من النواميس (الفصل العاشر منه) تكلم على جريمة نفي وجود الله أو عنايته أو نزاهته الخلقية بحيث لا يكون قابلا للإغراء بما يقدمه له الإنسان من \"هدايا\". ولم يحيرني فيلسوف في علاج مسألة رؤية العالم والوجود وإن بصورة شديدة اللامباشرة تحيير ابن تيمية لي لما قرأت نصيه التاليين اللذين عجبت لعدم رؤية أثرهما في فكر الأمة الفلسفي والديني طيلة القرون الفاصلة بينه وبيني .فحتى من أرادوا أن ينظروا في علاقته بالفلسفة اكتفوا بموضة الكلام على موقفه من المنطق الأرسطي دون فهم مناط الخلاف .فليس صحيح أن ابن تيمية نقد المنطق الأرسطي من حيث كونه منطقا أعني التحليلات الأوائل بل هو انتقد النقلة منه إلى التحليلات الأواخر أو ما يؤسس استعماله مقياسا لمعرفة حقيقة الوجود معرفة محيطة. لذلك فقد اضطرني نصاه هذان إلى إعادة النظر في الكثير مما كنت أتصوره حقائق فلسفية ثابتة لم يخامرني شك في تأسيسها عند أفلاطون وارسطو قديما وعند كبار فلسفة الحداثة في القرن السادس عشر قبل الشروع في فهم هذين النصين المحيرين فعلا رغم أني اطلعت على كل محاولات التشكيك في الرؤى الفلسفية المتعلقة بنظرية المعرفة وخاصة بعد أبو يعرب المرزوقي 2 الأسماء والبيان
-- النكوص الهيجلي والماركسي دون الرؤية الكنطية وما ترتبت عليه من رؤى الوجود التي ترد في الحقيقة إلى القول بوحدة العالم واعتبار ما عدى هذه الرؤية إما من الخيال أو من المعتقدات الإيمانية التي لا تتأسس على استدلال عقلي مقنع للاقتصار على الموجب منه. • النص الأول: فأما النص الأول فهو من كتاب المنطق \":فالعلوم الأولية البدهية العقلية المحضة ليست إلا في المقدرات الذهنية كالعدد والمقدار لا في الأمور الخارجية الموجودة\" (المنطق ص73-72. الجزء التاسع من مجموع الفتاوى) .وهي العلوم الوحيدة التي تكون المعرفة فيها برهانية في مقابل علوم الوجود الخارجي. • النص الثاني: وأما النص الثاني فهو من كتاب الدرء \":لكن المعاني الكلية العامة المطلقة في الذهن كالألفاظ المطلقة العامة في اللسان وكالخط الدال على تلك الألفاظ .فالخط يطابق اللفظ. واللفظ يطابق المعنى .لا أن في الخارج شيئا هو نفسه يعم هذا وهذا أو يوجد في هذا وهذا أو يشترك فيه هذا وهذا .فإن هذا لا يقوله من يتصور ما يقول .وإنما يقوله من اشتبهت عليه الأمور الذهنية بالأمور الخارجية أو من قلد بعض من قال ذلك من الغالطين\" (درء التعارض ج 1.ص .)225-223ولا شيء مقوم للأشياء الموجودة في الخارج سواء اعتبرناه مفارقا (أفلاطون) أو محايثا (أرسطو) للأشياء الخارجية. فكلا النصين محير من الوجوه التالية التي تمنع من مواصلة القول بالمطابقة في نظرية المعرفة وفي نظرية القيمة وخاصة بوحدة العالم أو بإمكانية علم الأشياء على ما هي عليه كما يدعي الفلاسفة وهما يؤديان إلى رؤية ليس فيها ما يقبل المقارنة مع ما كنت أجده في الفلسفة وخاصة في ما بعد الحديثة الكلاسيكية (أي فلسفة هيجل وماركس) وما بعد الحداثة بالمعنى الذي يقال عن الفلسفة بداية من نيتشه ومن خرافة السرديات البديلة من رؤى العالم الفلسفية: أبو يعرب المرزوقي 3 الأسماء والبيان
-- .1بمضمون النص الأـول وحصر العلم الأولي والكلي والمحض والبرهاني في المقدارت الذهنية. .2وبعلاقته بالنص الثاني وجعل المعاني الكلية رموزا تحيل على الأشياء وليست مقومات لها ومن ثم فالحد لا يعرف ماهية الشيء بل يعرب رمزنا إليه في حدود علمنا المتطور به. .3وبصلتهما بالفلسفة السابقة على ابن تيمية أعني الفلسفية اليونانية والمعاصره له أعني الفلسفة العربية الإسلامية التي حاولت تجاوز الفلسفة اليونانية. .4وبما يترتب على النصين من قطيعة شبه مطلقة مع نظرية المعرفة في النظر والعقد ونظرية القيمة في العمل والشرع (الأول) ونظرية الرمز عامة واللسان خاصة وعلاقتها بالوجود (الثاني). .5ومن ثم فعلاقتهما برؤى العالم والوجود تجعله غير منحصر في المعلوم منه ومن ثم فالنصان يميزان بين نوعين من العلم والقيمة في العالم الشاهد ببعديه الطبيعي والتاريخي أعني العلم والقيمة غير المحيطين ونوعين من العلم والقيمة في العالم الغيبي ببعديه ما بعد الطبيعي وما بعد التاريخي حيث نفترض وجود من له العلم والقيمة المحيطان. ويبقى ما سماه ابن تيمية بالتقدير الذهني النظري وما قسته عليه في المستوى العملي أمرين يعسر تحديد منزلتهما بين هذه العالمين المضاعفين فنضطر إلى التفكير في عالم خامس مجهول لأن نسبته إلى الذهني لا تعني بالضرورة إنه من الظاهرات النفسية في فكر الإنسان وإلا لكان النفسي اصلا للطبيعي والتاريخي في عالم الشهادة (أي عالم التجربة الإنسانية) ولما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ في عالم الغيب (أي عالم ما يضعه الإنسان شرطا في وجود الطبيعة والتاريخ دون أن يكون قابلا للتجربة). ورغم أن الإنسان لا يستطيع الزعم بأن هذين البعدين من الغيب قابلين للتجربة فإن وضعهما موجودين بهذه الصفة لا يلغي إمكانية الكلام عليهما معرفة وقيمة بالتقدير الذهني قياسا على العالمين الشاهدين مع المحافظة على شرط مجانس للعبارة القرآني في أبو يعرب المرزوقي 4 الأسماء والبيان
-- كلامه على الله المصحوب بليس كمثله شيء .فيكون التعامل مع العقد الأخروي مثل التعامل مع العقد الدنيوي مع القول إن الأول ليس كمثله شيء من الثاني. وهذا هو الأساس الذي يعتمد عليه علم التفسير السني الذي هو أصل أصول علوم الملة كلها وهو غير علم الكلام الذي يفترض القول بالمطابقة وقيس الغيب على الشاهد تحت مسمى مغالطي أساسه الخلط بين الغائب والغيب .فعلم التفسير المؤسس لعلوم الملة بخلاف علم الكلام يفترض أنه في مستوى المعرفة والقيمة يكتفي بالمنظور الإضافي إلى الإنسان أي بالعلم والعمل النسبيين وليس في مستوى منهما يكون مطلقا ومحيطا. وأساس ذلك هو القول إن العالم الشاهد الطبيعي والتاريخي هو بدوره آيات أو من المعاني الرامزة لما وراءه مثله مثل الألفاظ والرسوم الكتابية والمعاني الكلية المقدرة ذهنيا :فتكون الرموز بالمعنى التيمي خمسة : .1الرسوم الكتابية .2الألفاظ اللسانية .3المعاني الكلية في التقدير الذهني .4أعيانها في علمنا التجريبي .5الموجودات في عالم الشهادة. والمعنى الخامس هو معنى كون كل موجود آية مما بعده اصلا لوجوده ولكونه على ما هو عليه في ذاته وليس في ما ندركه منه فنجعله رمزا دالا عليه وقد نقع في خطأ فنتصور ما اخترناه من اعراضه التي ندركها منه عين حقيقته فنخلط بين ما ندركه من الشيء وحقيقة الشيء فنجعل إدراكنا محيطا بالأشياء .ومن ثم فالعالم الشاهد هو بدوره نظام رموز لعالم غيبي هو بدوره مليء بالغيب لأننا لا نحيط بدلالة رموزه على مرموزه الذي هو ما به نفهمه حتى وإن كنا نفهمه بما نجهله ونفترضه حتى نضفي معنى علميا وقيميا عليه وقد تكون المقدرات الذهنية الأولى هي الرياضيات والمقدرات الذهنية الثانية هي الأخلاقيات. أبو يعرب المرزوقي 5 الأسماء والبيان
-- لكن عندئذ لا بد من معرفة طبيعة التقدير الذهني المضاعف أي الذي تكلم عليه ابن تيمية (النظري منه) والذي قسته عليه (العملي منه) .والمعلوم أن ابن تيمية تكلم على الكليات العقدية في الدين مثل الكليات النظرية في المعرفة والقيمة دون أن يحدد طبيعتها مثلما فعل مع هذه فضرب منها مثال الرياضيات. .1هل موضوع المقدرات الذهنية موجود في الأذهان أم في نوع آخر من الوجود غير وجود الأعيان الطبيعية والأعيان التاريخية وغير ما نفترضه ما وراء الطبيعة وما وراء التاريخ؟ فما هو هذا الوجود الذي ليس طبيعيا وليس تاريخيا وليس ما بعد طبيعي وليس ما بعد تاريخي والذي يعتبر شرطا في قابليتهما للعلم والقيمة؟ .2ماذا لو كان هذا الوجود هو عين كيان الإنسان الذي هو طبيعي وتاريخي فيكون من حيث هو \"الكود\" الواصل بين الطبيعي والتاريخي فيس الشاهد وما بعد الطبيعي وما بعد التاريخي في الغيب؟ وحينئذ نسأل عن طبيعة العلاقة بين الوجودين العيني في الطبائع والشرائع من عالم الشهادة الذي يعيش يه الإنسان ويجربه في ذاته وفي ما حوله من العالمين الطبيعي والتاريخ وشروط الوجود الذهني في علومهما وقيمهما اللذين يحصلان في تاريخ الإنسانية من حيث هو في صلة مباشرة مع الوجودين الطبيعي والتاريخي (حياته الدنيوية) وصلته غير المباشرة بما بعدهما من حيث هما آيتان منهما ما يجعله بهذه الصورة مضطرا لوضع علاقة مباشرة بأصل المابعدين أي الله أو ما يؤدي وظيفته :وذلك هو القصد بالمعادلة الوجودية التي حاولت وضع نظريتها. أبو يعرب المرزوقي 6 الأسماء والبيان
-- ولا بد هنا من الحسم مع العلاج الهيجلي الذي يؤسس عليه رؤيته الحلولية الصوفية أو القول بوحدة الوجود المذوتة تعديلا أجراه على وحدة الوجود المطبعنة عند سبينوزا بتوسط تأويله لنظرية المسيح ابنا وشفيعا للإنسانية دينيا أسنده فلسفيا إلى نظرية في العقل التأملي Die Vernunftبالمقابل مع العقل الاستريائي Der Verstandليغير مبدأ الهوية التي صارت عين أعراضها والقضية التي لم تعد مؤلفة من موضوع ومحمول بل الموضوع هو عين محمولات التي هي تجليه وذلك لتأسيس المنطق الجدلي ونظرية المعرفة والقيمة القائلة بالمطابقة بين العقلي والواقعي دون تحديد لطبيعة العقلي والواقعي اللذين يتكلم عليهما. فإذا كان القصد بالعقل عقل الإنسان وبالواقع ما يدركه الإنسان بعلمه في مرحلة من مراحله فيمكن القبول بذلك إذ حينئذ تصبح العبارة تحصيل حاصل إذ معناها ما أدركه من الوجود إذا عيرته بمعيار مداركي التي محصتها بمعايير العلمية فهي عين ما أدركه وهو إضافي إلى مداركي .لكن إذا كان القصد إن ذلك يحيط بالموجود فتلك هي المغالطة الهيجلية .فشرط هذا القول ليكون مقبولا هو أن يكون عقل الإنسان -تسليما بوجود عقل واحد للبشر تتحد فيه عقول الأفراد -عقلا محيطا بالوجود وحينها يصدق القول بالمطابقة. وهذه المقدمة في حل هيجل علتها أن الجواب عن السؤالين اللذين ترتبا على رؤية ابن تيمية يستحيل من دون الحسم مع رؤية هيجل التي وحدت بين الديني والفلسفي ليس من حيث غاية المدخلين الديني والفلسفي أعني البحث في الحقيقة والقيمة بحثا الديني فيه لا يسلم بالإحاطة المعرفية والقيمية ومن ثم فهو لا يقول بالمطابقة فيكون بذلك أشمل من الفلسفي الذي يفترض الإحاطة الإنسانية فيهما بل من حيث طبيعة الإلهي والإنساني الذي يؤسس عليه هذه الإحاطة لأن حله أساسه نظرية حلول الإلهي في الإنساني خاصة وفي العالم عامة (نظرية المصالحة) .وبصفتي مسلما وحتى من حيث انشغالي الفلسفي أبو يعرب المرزوقي 7 الأسماء والبيان
-- أعتبر ذلك مستحيل حتى لو قبلنا بأن النهى (الفرنونفت) يتجاوز الحصاة (الفرستند) تجاوز البصيرة للبصر. فهذا التجاوز جنيس البصيرة هو الذي يثبت استحالة رد الوجود المطلق إلى الإدراك الإنساني الذي هو دائما نسبي .وحتى أثبت ذلك فلا من حسم قضية تقض المضجع في الرؤية التيمية التي أتبناها تبنيا تاما: .1فإذا كان ما نعلمه لا علاقة له بما تتقوم به الأشياء. .2وكان ما نعلمه من المعاني الكلية هو مجرد رموز نرمز بها إلى ما نختاره من أعراض الشيء للإشارة إليه بها كما يقول ابن تيمية .3ولم يكن اعتبارها محددة لهوية الشيء ومقومة له صحيحا لأن ذلك يقتضي أن يتطابق ما ندركه مع الوجود مطابقة محيطة. .4فكيف يكون ما نصل إليه من معرفة وتقييم مع ذلك علما وقيمة يمكنان من التعامل مع الأشياء وخاصة من التأثير فيها تقنيا (النظر القابل للتطبيق تقينا) وخلقيا (العمل القابل للتطبيق خلقيا)؟ .5وفي الجملة كيف يمكن للمعاني الكلية التي هي مجرد رموز تشير إلى الوجود وليست حقيقته أن تجعل التعامل ميسورا وكأنها حقيقة ومقومة للموجودات تقويما يجعلنا قادرين تقنيا على التعمير وخلقيا على الاستخلاف بمعنى أن ما جهز به الإنسان لهذين المهمتين يصبح محققا للهدف منهما؟ سآخذ مثالين: أحدهما من الطبيعة والثاني من التاريخ. • مثال من الطبيعة: وهو ليس أبسط مثال وليكن الإدراك البصري .فعندما أرى شيئا سأفترض أنه يتحدد في نهاية طريق طويلة ذات مراحل غايتها وصول المعلومة إلى مركز التأويل في المخ. أبو يعرب المرزوقي 8 الأسماء والبيان
-- فكيف ينتقل الشيء الذي اراه من وصفي إياه خارج بصري ثم في صورته التي تقع على عيني ثم بين عيني ومركز التأويل في المخ؟ كيف يمر بعدة تحولات لا تبقى فيه الصورة التي أراها في شكل صورة بل معان مختلفة الطبيعة بعضها كهربائي وبعضها كيماوي لأصل إلى ما أراه انعكاس صورة على عيني؟ فالصورة تنتقل في العصب البصري (كيف) وتصل إلى العصابين المعقدة وتنتقل فيها (كيف وبأي شكل) ثم تنتقل بينها في لقاء أفنانها (كيف) حتى تصل مركز التأويل (كيف). وكيف يسترجع التأويل الصورة التي مرت بعدة تشكلات؟ لو قست ذلك على نقلة المعلومات في وسائل التواصل بين القارات وهي في آن صورة وصوت لتبين أن ما يحصل هو عملية ترجمة للصورة والصوت إلى موجات مختلفة الخصائص الرياضية شكلا وأبعادا ثم استعادة الأصل في المصب بترجمة أخرى عكسية تعيدهما إلى ما كانتا عليه في المنبع وكل ذلك يمر بما وصفت بالنسبة إلى البصر ومثله إلى السمع. كل هذه العمليات صرنا اليوم نصفها كما حاولت ذكره .لكن تعدد الأشكال التي تمر بها الصورة والصوت تجعلنا نتساءل عن طبيعة علاقتها بما يمكن أن يعتبر حقيقة الشيء الذي تم انتقاله مرورا بها من الترجمة الاولى في بداية المنبع إلى الترجمة الأخيرة في غاية المصب .فهل كان القدامى يعلمون شيئا من ذلك لما كانوا يتكلمون على طبيعة الشيء الذي نحن بصدده؟ أما كانوا هم بدورهم لهم تأويلات للتعبير عن هذه العملية وكانوا يتصورون ما يصفونها به مقوما للشيء الذي يحصل في العملية؟ فمثلا كان تفسير الصدى الذي يعيد إلى صوتي الذي صدر عني بعد أن يصطدم بحاجز فيعود إلى نفس الصوت الذي صدر عني على أنه نفس الصوت الذاهب والصوت العائد دون أن يحصل بين الذاهب والعائد كل ما أشرنا إليه من تحولات موجية نستعملها حاليا وكأنها وسائط بين الصوتين ترجمة طردية ثم عكسية. أبو يعرب المرزوقي 9 الأسماء والبيان
-- وهذا يجعل كلام ابن تيمية أكثر مقبولية إذا اعتبرنا كل ما نصف به هذه الأمور هو من جنس ما كان يصفها به القدامى من حيث الوظيفة والعلاقة بحقيقتها وتبين خلال تطور معرفتنا وتقييمنا أنه ليس مقوما لحقيقة الشيء ولا لقيمته بل هو معبر عن مرحلة من مراحل تأويلنا له حتى بعد أن صرنا قادرين على \"نظرية\" الشيء وتطبيقه تقنيا كما نتأوله معرفيا فنستنتج أن ما نؤوله به هو حقيقته وعلى \"عمل\" الفعل وتطبيقه خلقيا كما نتأوله قيميا فنستنتج أن ما نؤوله به هو قيمته. ومع ذلك يبقى دائما على الأقل فرضيا أن وصفنا الأخير ليس أخيرا إلا بالنسبة إلى مرحلة معرفتنا الحالية .وقد حصل لنا ذلك في محاولات الوصول إلى آخر ما نعتبره ممثلا للمادة في تفتيت الذرات .وقد لا يكون لهذا المسار نهاية .فقد نكتشف تفسيرا آخر يكون هو بدوره معلقا وإضافيا إلى رؤيتنا الحالية لما نعتبره مقوما للشيء الذي نعرفه بالمعاني الكلية التي تبقى بحسب الرؤية التيمية رموزا للإشارة إلى الشيء وليست هي حقيقته التي تبقى مجهولة لكأنها غاية لا تدرك ربما لما فيها من الغيب الذي شرط علمه وتقييمه الإحاطة الممتنعة على الإنسان. • مثال من التاريخ: كيف يعرف الفرد الإنساني ليس من حيث انتسابه إلى النوع الإنساني انتسابا بمقتضى الإرث العضوي البايولوجي بل انتسابا بمقتضى الإرث الثقافي .فالكثير يتصوره مطلق الحرية وذا فردية مستقلة تماما على \"شيء ما\" هو جملة الرموز التي نشير إليه بها وأنه متفرد حقا في مستوى البعد الثقافي من كينونته مثل الزعم بان الفرد يمكن أن يكون ذا عقيدة فردية أو ذا موقف فردي ليس للإرث الثقافي الذي ينتسب بمقتضاه إلى جماعة بعينها دور في الإشارة إليه به .ولذلك فالثقافات لها في الأفراد المنتسبين إليها نوع من العلامات المشتركة التي قد لا ندركها عندما ننظر إلى الفرد في الجماعة لكنه من ان ينظر إليه فرد آخر من جماعة أخرى حتى يدرك فيه ما لا يدركه من يشاركه تلك العلامات. أبو يعرب المرزوقي 10 الأسماء والبيان
-- فبين أنه لا يوجد فردان ينطقان حروف العربية بنفس الطريقة .والفرق بين الفونيتيك والفونولوجي معلوم للجميع فالكلام يتمايز في الذهن بالثانية وليس بالأولى بحيث إن السامع يعدل ما يسمع كأن نعدل نطق الطفل أو الالثغ .لكن رغم فردية النطق الفونيتكي فإننا نكتشف الفروق الجمعية بين اللهجات عند الجماعات والأفراد المنتسبين إليها .فلا أحد يخلط بين الجزائري عامة والتونسي عامة رغم أن الجزائريين كأفراد لا ينطقون الحروف نفس النطق وان التونسيين كذلك. ولذلك فالبحث الانثروبولوجي يثبت أن فردية الفرد الثقافية لا تختلف من حيث النسبية عن فرديته العضوية ولا يمكن لأحد أن يدعي أنه يوجد إيمان فردي مثلا من دون الجماعة التي لها نفس الإيمان أو الحس البصري أو السمعي او الشمي أو الذوقي أو اللمسي العري عن أثر الثقافة الواحدة رغم العلم بأن ما أره أو أسمعه أو أشمه أو أذوقه أو المسه لا يشاركني في أحد .لكن ما لا يشاركني فيه أحد لا يجعلني أرى أو أسمع أو أشم أو أذوق أو ألمس بصورة مستقلة تماما عن المعاني الكلية التي انطبعت في الإدراك بحكم الاكتساب الثقافي منذ المولد. صحيح أن الارث العضوي يخضع لقوانين بايولوجية لكنه ليس تابعا لإرادة الفرد وله مع ذلك تفرد نسبي بملامح عضوية لا يلغي المشترك بين الإرثين البايولوجيين الناتجين عن سلسلة أبيه وسلسلة أمه السابقتين مع تفرد ما .وقياسا على ذلك نستطيع القول إن الإرثين الثقافيين الناتجين عن سلسلة ثقافة أبيه وسلسة ثقافة أمه السابقتين فيهما ما هو موروث بالاكتساب السابق على الاختيار دون أن يلغي ذلك ما يكتسب بالاختيار .والمهم هنا هو نفي أن يكون الاختيار ملغيا للمكتسب قبله في الملامح المحددة لما يعرف به أو لما يرمز إليه به في سلوكه الثقافي وكيانه اللاعضوي تماما كالملامح المحددة لما يعرف به أو لما يرمز إليه به في سلوكه وكيانه وكيانه العضوي .وكلاهما من المعاني الكلية التي يعتبرها ابن تيمية رموزا للإشارة إليه وليست مقومات لكيانه أو لذاته. أبو يعرب المرزوقي 11 الأسماء والبيان
-- لكن ما يتفرد به كذات ليس في متناوله الإحاطة به بل هو يكتفي بعلامات تمكنه من الإشارة إليه دون مطابقة إذ يمكن أن تتغير بحسب الناظر إليه أو حتى بحسب تغير ما يعتبر \"دالا\" على التفرد في الجماعة ولا في متناول من يريد أن يصل إلى حقيقته لأنها من جنس ما يتفرد به أي موجود وكل ما نحاول الإشارة إليه به يكون جنيس ما تكلمنا عليه في المثال الطبيعي ومن ثم فهو لا يقبل التحديد بمقومات لأن تحديده إن سلمنا بإمكانه يقتضي أن يكون بما لا يتناهى من المميزات إذ غالبا ما تكون العلاقة بين الماصدق والمفهوم في تعكس من حيث الكم :كلما كانت عناصر الماصدق قليلة كما كانت عناصر المفهوم كثيرة .ولذلك قال ابن تيمية لا يمكن الزعم بعلم لوازم اللوازم كلها في معرفة شيء ما من دون أن نعلم كل شيء في الوجود وتلك هي علة امتناع المطابقة في المعرفة والقيمة بسبب امتناع الإحاطة. ما وراء الأعراض التي نختارها رموزا لتعريف الشيء الطبيعي أو التاريخي موضوع الإدراك إضافية لنا وهي ليست مقومة له .لذلك فيمكن اعتبار الشيء في ذاته الذي هو غير ما ندركه أحد اثنين. • حصيلة المثالين الأولى: فإما هما شيء واحد غير اعراضهما وتعتبر أعراضهما إضافية إلى مدركيهما-ومنهم هو ذاته إذا كان مدركا لتعلقاته مثل الإنسان -فيكون عروضه بعدد المدركين وأصنافهم وأنواعهم وليس مقصورا على المدركين من البشر إذ يمكن اعتبار كل الموجودات مدركة له بنوع تعلقها به لأننا نحن ندرك الشيء بنوع تعقلنا به معرفيا وقيما وتقنيا. • حصيلة المثالين الثانية: أو هو جملة أعراضهما عند كل الموجودات الأخرى أي وحدتها التي هي حقيقته دون أن تكون غير جملة الأعراض اللامتناهية بحسب لا تناهي الموجودات في تعلقها بهما وهو ما يقصده ابن تيمية بلوازم اللوازم اللامتناهية لأنها تمتد إلى كل الوجود .ولذلك فشرط أبو يعرب المرزوقي 12 الأسماء والبيان
-- علمه المحيط الإحاطة بالعالم كله ومعرفة كل هذه التعلقات التي له مع كل الموجودات المحيطة به باعتباره أحد عناصر نظام الوجود كله في العالم أو العوالم كلها. ومن ثم فامتناع الإحاطة في النظر والعقد وما يترتب عليهما من قدرة تقنية في التعمير وامتناعها في العمل والشرع ما يترتب عليهما من قدرة خلقية في الاستخلاف يقتضيان أن نفهم العلاقة بين النظر والعقد وبين العمل والشرع حتى نفهم علة الوصل بين الأولين والقدرة التقنية في التعمير وتلك هي الغاية من التجهيز بهما وعلة الوصل بين الثانيين والقدرة الخلقية في الاستخلاف وتلك هي الغاية من التجهيز بهما. أبو يعرب المرزوقي 13 الأسماء والبيان
-- وصلنا الآن إلى قلب المحاولة فصلها الثالث .فلنختم مسألة الدور الذي تؤديه المعاني الكلية والخيار بين كونها رموزا مثل الرسوم الكتابية والألفاظ اللغوية (رأي ابن تيمية) وبين كونها مقومة للأشياء التي تعرف بها فتكون ماهيتها المحددة لحقيقتها مؤلفة من تلك المعاني (أرسطو بوصفها مقومات الصورة المحايثة وأفلاطون بصورة محاكية لمثل مفارقة). وطبعا فالذي ساد هو الرؤية الأفلاطونية والأرسطية من حيث القول بالمقومية وليس بالرمزية التي يقول بها ابن تيمية. وقد حاولت بيان أفضلية الحل التيمي بما بتغير هذه المعاني الكلية التي نعرف بها الأشياء تعريف إشارة إليها بها وليس تعريف مقومات تحدد كيانها .وضربت مثالين من إدراكنا للظاهرات الطبيعية والتاريخية وأخذت أقربها للفهم اعتمادا على مثال المرئيات والمسموعات وعلى إدراكنا لما فينا من مكتسب ثقافي وكيف تصل إلينا وتحول بين البداية والغاية التي تعود إلى البداية معتبرا ذلك ترجمة لرموز تشير إلى المدركات وليست مقومات لها أو هي أعراض ننتخبها للدلالة عليها بها دون أن نعتبر ذلك مقوما نهائيا إذ قد يتقدم العلم فنكتشف أن غيرها أولى بتعريفها. فكلنا يعلم أن البشرية عاشت ألفين ومائتي سنة أي من أرسطو إلى نهاية القرن الثامن عشر على نظرية العناصر الخمسة أي التراب والماء والهواء والنار والجوهر الخامس باعتبارها عناصر مقومة لمادة الأشياء التي تتألف بالصورة سواء كانت محايثة أو مفارقة تحصل بتدخل واهب الصور (هو الإله الصانع عند أفلاطون ويمكن ان نعتبر حركة الأفلاك مؤدية لنفس الوظيفة عند أرسطو لأنه أشبه بالمخض الذي يحصل زبدة المادة بتصويرها أو بإخراج ما فيها بالقوة إلى الفعل). لكن العلم تقدم وصارت العناصر بفصل اكتشافات القرن التاسع عشر خاصة حتى وصل تصنيف لاعنار في الجدول الدوري الذي وضعه مندلياف إلى ما يقرب من المائتين مع وجودا خانات لم تملأ بعد .ورغم الاختلاف الكمي وحتى الكيفي بين تصور العناصر فإن المشترك أبو يعرب المرزوقي 14 الأسماء والبيان
-- بين هذا الجدول وما تقدم عليه واحد :إنه اعتبار هذه العناصر وقائع ليس لنا تفسير لكونها على ما نصفها عليه من خلال تفاعلاتها في ما بينها أو أعراضها التي اخترناها لوصفها .واعتبارها بسائط يمكن أن يعد مؤقتا إذ قد نكتشف أنها ليست بسائط ولعلها قابلة للتحلل إلى عناصر أخرى دونها لطافة وتخصصا .وقد يكون ما يحصل بالنسبة إلى مكونات الذرة دليل على ذلك. فلو اعتبرناها كما يرى ذلك ابن تيمية رموزا دالة على نظام علاقات العناصر أكثر من دلالتها على حقيقتها لكانت أشبه بنظام علاقات الرموز اللسانية في أي نظام لغوي أو أي نظام ترميز سواء بالألوان أو التضاريس أو بأي منظومة من العناصر التي نعتبرها بسيطة ونؤلف بينها لتكون صورة مما نريد التعبير عنه بها .فمثلا عندما نختار الالوان في رسم الخرائط أو التضاريس في رسمها فنحن نفترض أن ما في الخريطة نظام رموز في الخارطة متناظر مع نظام مرموزات في الأرض مع وضع سلم في الخارطة بالقياس إلى سلم في الأرض. وذلك تقريبا ما يعنيه اعتبار المعاني الكلية التي يظنها أفلاطون حكاية للمثل في الأشياء المحسوسة وأرسطة صورا مقومة للأشياء اعتبارها رموزا مثل الرسوم الكتابية والألفاظ اللغوية عند ابن تيمية ما يعني أن العلم لا يبحث في حقائق الأشياء وإنما في ما بينها من علاقات مناظرة لما بين الرموز التي نختارها للتعبير عما ندركه من أعراضها التي نختارها باعتبارها ممثلة لها في مرحلة ما من مراحل إدراكنا لها .ولا يعني ذلك أننا ننفي أن لها حقائق ذاتية وراء هذه العلاقات أو نثبتها بل نرفع الحكم لأن معرفتها مستحيلة لاشتراطها المستحيل أعني المعرفة والتقييم المحيطين وهما مما ليس في متناول الإنسان. وحتى أبين ذلك فعلي أن أجيب عن سؤالين يتعلقان بالنظام الرمزي الذي رمزت به للإنسان دون أن أزعم أني أقدم تعريفا لحقيقته بل أقدم نظاما للكلام عليه كما يرمز إليه رؤية القرآن في نظرية الإنسان أو الانثروبولوجية القرآنية التي تنتسب إلى النوع الثاني من المعاني الكلية التي يعترف بها ابن تيمية بالإضافة إلى المقدرات الذهنية الرياضية أعني المعاني الكلية العقدية والتي يمكن اعتبارها من النوع الذي قسته على المعاني الكلية أبو يعرب المرزوقي 15 الأسماء والبيان
-- النظرية وسميته المعاني الكلية العملية وهي معاني كلية أخلاقية إذا قورنت بالمعاني الكلية الرياضية. ولست افعل من منطلق إيماني بصحة نظرية الإنسان القرآنية أو الانثروبولوجيا القرآنية لأن المشكل العقدي ليس موضوع بحثي وعقيدتي ليست محل نقاش مع غيري لأنها بيني وبين ربي ولا علاقة لأحد بها .غاية البحث وما يعني غيري منه هما علاقة التناسق بين الرؤية القرآنية والرؤية التيمية وأهميتها في فهم فعل النظر والعقد وفي فعل العمل والشرع اللذين يتعلق الأمر بدورهما في رؤية العالم والوجود وحدة أو تعددا ومطابقة لما أدعيه من الوحدة العميقة بين الفلسفي والديني دون زعم ما يزعمه هيجل من مقتضياتها أعني القول بحول الرب في الإنسان والعالم أو مفهوم المصالحة التي تؤدي إلى رؤية تقول بالمطابقة المعرفية والقيمية ووحدة العالم لكأن الإنسان وعالم الشهادة الإنساني يمثلان الوجود كله فيكون الوجود مقصورا على ما يرد إلى الإدراك الإنساني .وهذا هو جوهر التحريف بالمعنى القرآني للكلمة :مفهوم التأله الإنساني الذي أبلى في درسه ابن خلدون أحسن بلاء ورد إليه كل أدواء الحضارة الإنسانية لكونه علة فساد التربية والحكم أي بعدي السياسة التي هي طبيعة علاقة الإنسان العمودية بالطبيعة (النظر والعقد) وبالتاريخ (العمل والشرع): .1لماذا جمعت بين النظر والعقد واعتبرت التقني ثمرة لهما لدورهما في الاستعمار أي كونهما تجهيز الإنسان لهذه المهمة؟ .2ولماذا جمعت بين العمل والشرع واعتبرت الخلقي مثرة لهما لدورهما في الاستخلاف أي كونهما تجهيز الإنسان لهذه المهمة؟ ولا بد من القول إن الأمر كله مرتهن بوظيفتي الإنسان في الانثروبولوجيا القرآنية: .1فهو مستخلف في الأرض منزلة وجودية تحدد دوره في الوجود في الرؤية القرآني للإنسان. أبو يعرب المرزوقي 16 الأسماء والبيان
-- .2فهو مستعمر في الأرض فرصة ثانية لإثبات جدارته بالاستخلاف إذ عمرها بقيم الاستخلاف الذي خلق له. والمعنى الأول يحررنا من الرؤية الهيجلية التي تعتبر منزلة الإنسان كونه محل وجود الله أو معرفته لذاته .والمعنى الثاني يحررنا من الرؤية الماركسية التي تعتبر الإنسان ظاهرة طبيعية لا علاقة لها بما يتعالى على الطبيعة سواء كان مفارقا كما في الرؤية التي ترفض الحلول الهيجلي أو كما في الرؤية الهيجلية .ومعنى ذلك أن الرؤية القرآني التي تقول بالوحدة بين الديني والفلسفي هي التي تثبت هذين الوظيفتين وتحافظ على اعتبار المتعالي ليس محايثا للعالم الشاهد ومن ثم فالعوالم متعددة بحسب منازل الموجودات الوجودية وما منزلة الإنسان فيه إلا واحدة منها وليس الوحيدة. والإنسان مجهز لأداء هذين الوظيفتين بالنظر والعقد شرطا في علاج العلاقة العمودية بين الإنسان والعالم الطبيعي وأثره في العالم التاريخي وهو كذلك مجهز بالعمل والشرع شرطا في علاج العلاقة الأفقية بين الإنسان والعالم التاريخي وأثره في العالم الطبيعي. والجهاز الأول مشروط في الجهاز الثاني ومفروض حصوله ليكون للثاني وظيفة تنظيمه على علم .ومن ثم فالإشكال الذي يشترك الديني والفلسفي في علاجه ويتحدان في ما يشترطانه هو إشكال العلاقتين العمودية والافقية وتفاعلهما في الاتجاهين وأصل هذه العوامل الاربعة هو منزلة الإنسان الوجودية التي هي الاستخلاف والاستعمار في الأرض. وسأكتفي في هذا الفصل الثالث بالجهاز الأول أعني بجهاز النظر والعقد مؤجلا الجهاز الثاني إلى الفصل الرابع لبيان طابعه المضاعف إذ هو يعالج العلاقة الأفقية بين الإنسان والتاريخ لذاتها وبها تنتظم قيم التواصل ويعالجها كذلك من حيث علاقتها بالعلاقة العمودية وبها تنظم قيم التبادل .والانتظامان هما جوهر السياسة بمعنى التربية والحكم وبمعنى القانون والأخلاق. • الجمع بين النظر والعقد شرطا في علاج العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة: أبو يعرب المرزوقي 17 الأسماء والبيان
-- يمكن ان ننطلق في تحليل الجمع بين النظر والعقد من الجمع بين مضمون القضية والموقف القضوي أي بين المضمون المعرفي قبل اثبات \"إن\" ونفيها أو الوجوديين في الأعيان أي بالاقتصار على إثبات هل ونفيها أو اثبات المحمول للموضوع أو نفيه في الأذهان أي قبل الانتقال من الوجود الذهني إلى الوجود العيني. فالأول يتوجه لموضوع النظر دون إثبات أو نفي أي إنه يرفع الحكم بخصوص وجود ما يدركه الفكر الناظر. والثاني هو الموقف من حصيلة هذا الإدراك بدرجات مختلفة من الاثبات والتبني أو من النفي ورفض التبني وهو أمر يراوح بين اليقين والشك في حصيلة البحث النظري .فكل معرفة إنسانية تتألف من حكمين أحدهما ذهني منفصل عن العيني الذي يوجد خارج الذهن والثاني عيني خارج الذهني .وهذا القدرة في رفع الحكم على ما يدركه الفكر في الذهن بمعزل عن الوجود الخارجي تتعلق بالتصورات والمفهومات وليس بالمتصورات وموضوعات المفهومات. .1فالحكم الأول يتعلق بنسبة خصائص معينة لموضوع معين بصرف النظر عن وجود الموضوع ووجودها له أو عن عدمهما وإذن فهذا الحكم الأول يتعلق بالنسبة بين الموضوع والمحمول ضمن النظرية. .2والحكم الثاني يتعلق بالاعتقاد في هذه النسبة إثباتا لوجودها أو شكا فيه بدرجات مختلفة وله علاقة بوجود الموضوع ووجود الخصائص للموضوع أو إذن فهذا الحكم الثاني يتعلق بإثبات النسبة في الوجود خارج النظرية أو بنفيها ومن ثم فهو يحدد موقف الباحث من الحصيلة ودرجة اعتقاده فيها. ولا يمكن للنظرية أن تصبح قابلة للتطبيق من دون الجمع بين الحكمين :وإذن فالنظر عامة له علاقة بالعقد شرطا في النقلة من المفهوم الذي يحلل منطقيا إلى الماصدق الذي يحلل تجريبيا .وأفضل الأمثلة في القانون هو العلاقة بين نص القانون ومناط الحكم الذي أبو يعرب المرزوقي 18 الأسماء والبيان
-- يقتضي الانتقال من الرمز إلى المرموز لتوصيف الأفعال التي هي مادة الحكم الذي يكتفي بالإشارة إليها بأسمائها ورموزها. فالأول يتعلق بها من حيث هو مضمون الحكم .والثاني يتعلق بها من حيث درجة تصديق الباحث في حقيقتها الفعلية خارج النظرية .فإذا تأكد الباحث في صحتها اعتقد ذلك ويكون التزامه بتطبيقها متناسبا مع درجة الاعتقاد في صحتها .ولذلك فهما شرط الانتقال من النظر إلى التطبيق ومن العلم النظري إلى العلم التطبيقي أو التقنية .ولا يمكن تصور التعمير من دون الوصل بين النظر والعقد المؤسسين للانتقال من النظر إلى العمل في كل معرفة إنسانية .والعمل الذي يكون على علم هو ما نمسيه تقنية أو صناعة. لكن العادة جرت في الفكر العامي المسيطر على علماء الدين على الأقل منذ بداية الانحطاط حصر العقد على العقد الديني أو الإيماني وفي ما لا علاقة له بالتقنيات لأن المعرفة الدينية عندهم تنحصر في ما وراء الطبيعة أي في ما لا يقبل العلم لأنه من الغيب وليس في الطبيعة والتاريخ أي في ما يقبل العلم .وهو ما اعتبرته جوهر التحريف لأنهم قلبوا نهي الآية السابعة من آل عمران إلى أمر وأمر الآية 53من فصلت إلى نهي. أبو يعرب المرزوقي 19 الأسماء والبيان
-- لما وصلنا إلى العمل والشرع انتقلنا من التعمير إلى قيمه وشروط نظامه من حيث هو علاقة عمودية بين الإنسان والطبيعة (موضوع النظر والعقد) أي إلى جوهر السياسة في علاقتها بالاستخلاف .ولما كان العمل والشرع يدرس العلاقة الأفقية بين الإنسان والتاريخ فموضوعه الأول هو التواصل بين البشر وليس التبادل إلا من حيث هو مصدر كل العلل التي تحول دون التواصل أو ما يسميه القرآن التعارف (الحجرات )13تأسيسا على نظرية الأخوة البشرية (النساء .)1 والسؤال حول العمل والشرع مثل جنيسه في كلامنا على النظر والعقد هو لماذا جمعنا بين بعديه جمعنا بين النظر والعقد ثم لماذا اعتبرنا العمل والشرع متعلقا بالأخلاق لصلتها بالاستخلاف تعلق الاول بالتقنية لصلتها بالتعمير .لكن وهذا هو الأهم هو لماذا نعتبر العمل والشرع فوق النظر والعقد في نسبة الغاية إلى الأداة -إذ حتى لما يعتبر النظر والعقد غايتين فالقصد أنهما يصبحان عملا روحيا أو عبادة-لأن الاستخلاف هو الغاية من الاستعمار في الارض هو الميسر له من خلال ما يضفيه عليه من قيم ونظام بفضل التربية والحكم. ففوقية العمل والشرع على النظر والعقد علتها أنه جوهر السياسة بالمعنى الأسمى للكملة لأنها الممارسة الإنسانية الجامعة بين التعمير المشروط بالنظر والعقد جوهر المعرفة وتطبيقاتها (التقنية أو الصناعة) والاستخلاف المشروط بالعمل والشرع جوهر القيمة وتطبيقاتها أي بعلاج علاقة الإنسان العمودية بالطبيعة وعلاقته الأفقية بالتاريخ. ولأشرح الآن علة الجمع بين العمل والشرع واعتبار ثمرته التطبيق الخلقي أو السياسة التي هي جوهر الاستخلاف الذي يحقق الغاية الذاتية له اي التواصل بين البشر أو العلاقة الأفقية مع التاريخ مجال الاستخلاف الأول والغاية التابعة لها أي التبادل بين البشر أو العلاقة العمودية بين البشر والطبيعة مجال التعمير الأول .فنسبة السياسة -الأخلاق الجامعة بين شكليها أي القانون والقيم التي تعبر عنها-إلى الاستخلاف والتعمير هي نسبة أبو يعرب المرزوقي 20 الأسماء والبيان
-- انتقال المعرفة والقيمة إلى الوجود الفعلي في التاريخ الإنسان من حيث هو لقاء بين الطبيعة والإنسانية التي هي في آن جزء من الطبيعة وما يتعالى عليها بما له من وعي معرفي وقيمي بما يصله بيها ويصله بغيره في ما يستخرجانه منها لقيامه. وهذا يعني أن الوصل بين النظر والعقد وثمرته التطبيق التقني (كل الأدوات التي تعالج علاقة الإنسان العمودية بالطبيعة) والوصل بين العمل والشرع وثمرته التطبيق الخلقي (كل المؤسسات التي تعالج علاقة الإنسان الأفقية بالتاريخ) ليس هو في الحقيقة إلا الشرح الفعلي لما سميته المعادلة الوجودية: • فالعلاقة العمودية هي ما يوجد أحد جانبي قلب المعادلة الذي هو العلاقة المباشرة بين الإنسان والتعالي عامة سواء كان إلها مفارقا أو قوة مماثلة محايثة للطبيعة وللتاريخ. • والعلاقة الأفقية هي ما يوجد على الجانب الثاني لقلب المعادلة الذي هو العلاقة المباشرة بين الإنسان والتعالي عامة سواء كان إلها مفارقا أو قوة محايثة للتاريخ والطبيعة. وهذان العلاقتان لا تدركان مباشرتين إلا بوصفهم كذلك غير مباشرتين أي ما وراء الطبيعة وما وراء التاريخ .لكنها بمجرد ان توضع كما وراء لهما تتحول إلى ما قبل فيصبح الماوراءان ماقبلان يتوسطان بين الإنسان والطبيعة وبينه وبين التاريخ .ومعنى ذلك أن العلاقة تقلب فيكون الإنسان في علاقته بالطبيعة وفي علاقته بالتاريخ مقدما ما وراءهما عليهما باعتباره ما به يضفي المعنى والقيمة عليهما وما به يعلم ويقيم الأشياء الطبيعية والاشياء التاريخية. وحتى نفهم التفاعل المتبادل في الاتجاهين بين النظر والعقد ما يثمره من تقنيات لعلاج ما يطرحه التعمير من حيث هو علاقة بين الإنسان والطبيعة من اشكالات للإنسان ناتجة عن سد الحاجات العضوية خاصة والعمل والشرع وما يثمره منه أخلاقيات لعلاج ما يطرحه الاستخلاف من حيث هو علاقة الإنسان بالتاريخ من إشكالات للإنسان ناتجة عن سد الحاجات الروحية لا بد من وصل هذين التفاعلين بـ: أبو يعرب المرزوقي 21 الأسماء والبيان
-- .1المائدة والسرير استعارتين على العلاقة بالطبيعة باعتبارها ما يستمده الإنسان من الطبيعة لقيامه العضوي (الغذاء خاصة) وما يعطيه للحياة للتوارث العضوي النوع الإنساني (الجنس خاصة). .2فن المائدة وفن السرير استعارتين على العلاقة بالتاريخ باعتباره ما يستمده الإنسان من التاريخ لقيامه الروحي (القيم الجمالية) وما يعطيه للثقافة للتوارث الحضاري الإنساني (القيم الجلالية). فالنظر والعقد لا يمكن أن يصبحا أصلا للتقنية من دون وسطين :العلم من حيث هو نظر وعقد والعلم من حيث هو تطبيق للنظر والعقد يعتبر الطبيعة هي بدورها عملا تقنيا يمكن اكتشاف النظام الذي \"صنع\" بمقتضاه .وهذا هو القصد في الغاية من معنى ما وراء الطبيعة .فما وراء الطبيعة ليس شيئا آخر غير قيس الطبيعة على الحضارة الإنسانية واعتبارها هي بدورها مصنوعة بنفس الطريقة التي يعمل بها الإنسان. فتكون المرحلة الأولى تصور ما وراء الطبيعة-وذلك هو أصل الميثولوجيات-عالم ربوبيا أو شبه عالم تكون فيه نسبة الآلهة إلى الطبيعة عين نسبة الإنسان إلى التاريخ في علاقتهم بما يصنعونه .وما يسمونه علما نظريا هو ما يعتبرونه المرحلة التي يكون فيها الصانع صانعا بكن أي يأمر الأشياء فتطيع وهو معنى السحر إن صح التعبير .السحر هو النموذج الحقيقي للعلم النظري الذي تكون فيها كلمة \"كن\" ذات سلطان خالق. ولما يكتشف الساحر أن ذلك لا يكفي ينتقل إلى التقنية التي هي الجمع بين \"كن النظرية أو الخلق بالرمز\" و\"افعل العملية أو الخلق بالفعل\" .والجمع بين الرمز الخالق في مستوى المفهوم بالنظرية والفعل المحقق في مستوى الوجود بالتجربة هو العلم المطبق أساس كل تقنية. لكن قبل ذلك يكون الساحر قد اكتشف أن عقد المسحور في فاعلية السحر هي التي تجعل للساحر فاعلية على الضمائر وليس على الأشياء فيكون اكتشاف السلطة الرمزية للسحر هو النموذج الأول لفاعلية النظرية .ومعنى ذلك أن السياسة أو ما بعد التاريخ هي النموذج أبو يعرب المرزوقي 22 الأسماء والبيان
-- الأول لما بعد الطبيعة :صاحب السلطان المادي لما يستقر له الأمر يصبح لها سلطان رمزي يغني عن الشوكة كما قال ابن خلدون حول إمكانية الاستغناء عن شوكة العصبية عندما يستقر الأمر لأسرة حاكمة فتصبح مهابة دون حاجة للعنف المادي. وهو ما يعني أن قيس الطبيعة على التاريخ أو على السياسة هو غاية نشأة الدولة التي صارت مهابة دون حاجة إلى العنف ومن ثم فتأليه الحكام أو المهابة التي تتأسس على سلطان رمزي هو الدين وهو بداية الكلام في ما بعد الطبيعة من حيث هي إلهيات أو ميثولوجيا. ولما حاول أفلاطون وارسطو تجريد الفكر الفلسفي من هذا القياس زادوا الطين بلة لأن ما كان مبنيا على حقيقة الاسقاط السياسي أو نظام السلطان السياسي في الجماعات البشرية على السلطان الديني في نظام الطبيعة تصوروا الإله على صورة الإنسان ونسبوا إليه صفات الفيلسوف الذي ينظر إلى مثل أو صور ثم يبني العالم تقنيا مثلما يبني الإنسان المدينة سياسيا .تلك هي نظرية النوس أو العقل الذي هو رفع إلى مستوى الألوهية للعقل الإنساني ومحاولة تنزيه الآلهة مما يعتبر ناتجا عن ضعف الإنسان ونقائصه. وطبعا هذا الكلام لا يعني أني اعتقد أن الله من إنتاج الفكر الإنساني إذ حتى الطبيعة والتاريخ فهما ليسا من إنتاج الفكر الإنساني .ما هو من إنتاج الفكر الإنساني هو صورة الله التي يدركها الإنسان وصورة الطبيعة التي يدركها الإنسان وصورة الإنسان التي يدركها الإنسان .وإذن فالإنسان الذي يقول بالمطابقة المعرفية والقيمية هو الذي يتصور أن خلق الإنسان لصورته عن الأشياء خلق للأشياء أو أن قيس الإنسان لخلق الله للطبيعة على خلقه هو للحضارة. أما إذا تحرر من القول بالمطابقة في المعرفة وفي القيمة فإن هذه المناظرة بين الفعلين فعل الإنسان وفعل ما وراء الطبيعة وما وراء التاريخ يتماثلان في تصور الإنسان لكننا لا نعلم أيا منهما على حقيقته .ما ندركه هو التناظر بينهما في علم الإنسان وعمله بمعنى أن الإنسان لا يستطيع تصور مابعد الطبيعة إلا بالقياس إلى مابعد التاريخ أي قياس الله على الإنسان .وما كان ذلك ليخصل لو لم يكن النظام السياسي من حيث مصدره الطبيعي مبنيا أبو يعرب المرزوقي 23 الأسماء والبيان
-- على تحول القوة الفاعلة بالسلطان الطبيعي إلى قوة فاعلة بالسلطان الثقافي أو الرمزي ومن ثم فتأله السلطان السياسي هو الذي ينتج صورة عن الإله الفكر الحديث يخلط بينها وبين الإله الذي تشير إليه الصورة التي للإنسان عليه بالقياس إلى نفسه دون أن تكون إياه. ومن يقرأ القرآن من هذا المنطلق يفهم أنه من البداية إلى النهاية نقد لهذه الفكرة التي تجعل الإيمان بالله مشروطا بالكفر بالطاغوت :فالطاغوت هو تأله بعض البشر لاستعباد بقية البشر والإيمان هو تحرير كل البشر من هذه العبودية للبشر من أجل تحقيق العبودية لله وحده واعتبار كل البشر سواسية في الاستخلاف وقلب العلاقة بحيث يصبح نظام العالم الذي يقدمه الدين المنزل المتحرر من الميثولوجيا ومن إطلاقها الفلسفي أساس نظام الحرية والمساواة بين البشر في دولة ذات شريعة تحددها الآية 13من الحجرات بين البشر من حيث هم اخوة كما تحدد ذلك الآية الأولى من النساء. وحينئذ يكون المفهوم الرئيسي هو مفهوم الغيب :الله وما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ لا يقاس أي منها على الإنسان وعلاقته بالطبيعة وبالتاريخ .فالطبيعة التي للإنسان بها علاقة وله قدرة على علمها والتعامل معه من أجل قيامه العضوي تخضع للضرورة الشرطية وكذلك التاريخ يخضع للحرية الشرطية .لكن ما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ كلاهما متحرر من الضرورة الشرطية :فلا يمكن تصور الطبيعة في ذاتها خلقت لغاية تتجاوزها سواء اعتبرناها ضرورة شرطية أو حرية شرطية ومن ثم فهما فوق الشرطيات إذ هما شارطان لغيرهما وليسا مشروطين بشيء .فيكون الوجود الطبيعي والتاريخي ضرورتين لما هو طبيعي وتاريخي من الموجودات لكنهما في ذاتهما ضرورة لا شرطية وحرية لا شرطية بمعنى أن الله لم يخلق شيئا لحاجة إليه أو لكونه مضطرا لخلقه بل هو مطلق الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود .ومن ثم فالإيمان المحرر للإنسان من الاستبداد في الطبيعة وفي التاريخ يقتضي مبدأين: أبو يعرب المرزوقي 24 الأسماء والبيان
-- .1الإيمان بالغيب أو بمحدودية إرادتنا وعلمنا وقدرتنا وحياتنا ووجودنا :وهذه تثبت ذلك بذاتها والغفلة عنها هي التأله الكاذب عند الإنسان .وهو مرض نفسي لا يحرر منه إلى ذهاب الإنسان إلى المرحاض. .2الإيمان بالضرورة الشرطية بمعنى أن علاقة الإنسان بالطبيعة لا تفهم من دون الضرورة الشرطية بمعنى أن ما فيها مما يجعل حياة الإنسان ممكنة لا يمكن أن يكون من الصدف. .3الإيمان بالحرية الشرطية بمعنى أن علاقة الإنسان بالتاريخ لا تفهم من دون الحرية الشرطية بمعنى أن ما يفعله الإنسان ليس ممكنا من دون أن يكون للإنسان قدرة على الاختيار أو التحرر من الضرورة. .4لا يمكن فهم علاقة 2بـ 1أي الضرورة الشرطية بالغيب من دون تصور ما وراء الضرورة الشرطية ضرورة لا شرطية بمعنى أن الإنسان خاضع لضرورة شرطية هي ضرورة لا شرطية عند الخالق. .5لا يمكن فهم علاقة 3بـ-1أي الحرية الشرطية بالغيب من دون تصور ما وراء الضرورة الشرطية حرية لا شرطية بمعنى أن الإنسان له حرية شرطية مكلفة من حرية لا شرطية عند الآمر. وبذلك نفهم معنى \"ألا له الخلق والامر\" أو معنى \"القضاء والقدر\" .فالخلق حكمه المقدرات الذهنية الرياضية والامر حكمه المقدرات الذهنية الخلقية والإنسان له شيء منهما لأن له إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود كلها نسبية إلى ما يقاس عليها مع الإطلاق أي إرادة الله وعلمه وقدرته وحياته ووجوده اللامتناهية وللامشروطة والمطلقة ولا يمكن تصور أي إنسان مهما ادعى الإلحاد قادرا على التخلص من هذه البنية لكيانه أو لما سميته المعادلة الوجودية. أبو يعرب المرزوقي 25 الأسماء والبيان
-- حان الآن أوان بيان التناظر بين النظر والعقد في المعرفة وتطبيقاتها أو جهاز العلاقة العمودية بين الإنسان والعالم الطبيعي وما بعده وغايتها التعمير من جهة اولى والعمل والشرع في القيمة أو جهاز العلاقة الأفقية بين الإنسان والعالم التاريخي وما بعده وغايتها الاستخلاف .قبل المزيد من تعميق العلاقة بين العلاقة العمودية والعلاقة الأفقية التي درسناها في الفصل السابق. فقد رأينا أن العلاقة بين الجهاز المعرفي وتطبيقاته يتألف من عنصرين يؤديان إلى وظيفتين: .1العنصر المتعلق بمضمون القضية أو حكم \"درجات هل\" أو النظر. .2والعنصر المتعلق بالموقف من القضية أو حكم \"درجات إن\" أو العقد. .3والعلاقة بين الحكمين هي التي تجعل التطبيق ممكن بقدر قرب الثاني من الدلالة شبه اليقين من الأول. .4حينها يصبح بوسع التطبيق أن يبدع ما يترجم النظرية التي نعتقد في صحتها إلى عملية تقنية قابلة لإنتاج ما توصلت إليه النظرية. .5وهذه المراحل أصلها طبيعة الجهاز المعرفي العقدي ومنها تستنج نظرية المعرفة المتعلقة بالموجود. وقياسا على هذه العناصر في الجهاز المعرفي نستطيع تحديد عناصر الجهاز القيمي وحتى أيسر الأمر فسأقوم بالقياس من غايته إلى بدايته. .1فنحن في مجال القيم ننتقل من العلاقة بالموجود إلى العلاقة بالمنشود .وذلك هو أصل نظرية القيمة التي هي أصل عناصر الجهاز الثاني جهاز العمل والشرع. .2فالعمل يتعلق دائما بإيجاد شيء وليس بعلم شيء موجود .وهو إذن من عالم المنشود وليس من عالم الموجود .وفيه العناصر التالية. .3العنصر المتعلق بالمنشود من الإيجاد وهو حكم القيمة أو الشرع. أبو يعرب المرزوقي 26 الأسماء والبيان
-- .4التي ستحكم الحكم الثاني وهو العمل الذي يجري حسب قانون الحكم الأول أو الشرع,. .5والعلاقة بين الحكمين هي التي تجعل العمل يجري من البداية حكم القيمة أو الشرع إلى الغاية أو انجاز العمل. ويكفي أن نقلب هذا الترتيب حتى نجد التناظر التام بين الجهازين :جهاز النظر والعقد أو ما يجعل الإنسان قادرا على التعمير وتلك هي العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة أي كل ما ينتسب إلى الضرورة الشرطية والضرورة اللاشرطية التي تقاس عليها وجهاز العمل والشرع أو ما يجعل الإنسان قادرا على الاستخلاف وتلك هي العلاقة الأفقية بين الإنسان والإنسان أي كل ما ينتسب إلى الحرية الشرطية والحرية اللاشرطية التي تقاس عليها. والعلاقة بين العلاقة بالموجود والعلاقة بالمنشود علاقة بين النظر والعقد اللذين كان الكثير يتصورهما ثابتين بثبات الموجود أو بصورة أدق بثبات الضرورة الشرطية والعمل والشرع اللذين كان الكثير يتصورهما متغيرين بتغير المنشود أو بصورة أدق بتغير الحرية الشرطية خطآن في الفلسفة القديمة والوسيطة التي يمكن لرؤية ابن تيمية تحرير الفكر الإنسان منهما لأن حقيقة الموجود وحقيقة المنشود كلتاهما مجهولة لأنها من الغيب وما نعلمه منهما ليس مقوما لهما بل هو بعض أعراضهما التي نختارها في مراحل معرفتنا وتقييمنا رموزا مشيرة إليهما ويمكن اعتبار حكمنا على الماضي رمزا لما يبدو ثابتا وحكمنا على المستقبل لما يبدو متغيرا في في النظر والعقد وفي العمل والشرع بمعنى أننا لم نعد قادرين على تغيير الماضي ولم نستقر بعد على المستقبل .لكن لما ندرك أن ما نراه من الماضي هو بدوره متغير لأنه كان مستقبلا ويبقى دائما قابلا للتأويل لأن حدثه يبقى في حديثه الذي هو رمز دائم التأويل لمرموزه الذي هو الحدث فإن الموجود يصبح وكأن المنشود الذي تحقق فبقي متواصلا بوصفه حيا أو الذي لم يتحقق فبقي متواصلا وكأنه ميت .وقد يبحث الميت ويدفن الحي في بقائهما الرمزي أو في الحديث الدائر حول الحدث. أبو يعرب المرزوقي 27 الأسماء والبيان
-- ومن ثم فالمنشود أعمق من الموجود إذ هو بنية كامنة في الموجود يبعث منه ما سبق أن مات ويعدم منه ما سبق أن كان حيا .وبذلك بصبح الحاضر هو هذا التلازم بين الموجود والمنشود وتصبح العلاقة بالطبيعة هي بدورها تابعة للمنشود الإنساني تبعا للعلاقة بالتاريخ التي ليست هي إلا الموجود من المنشود وهو معنى الحرية الشرطية .فتكون الحرية الشرطية أوسع من الضرورة الشرطية بل وهي المحددة للشروط ليس من حيث البنية المجردة بل من حيث تعيين مضمونها تعيينا ييسر التغيير بتغيير المضمون وذلك هو معنى الصناعة والتعمير الذي يجعل الضرورة الشرطية في الطبيعة تابعة للحرية الشرطية في التاريخ. فكيف يتجلى دور العمل والشرع بوصفهما شرطين جهازين لعلاقة الإنسان الأفقية بالتاريخ وما بعده في صلة بالقيم الاستخلافية وكيف يتجلى دور النظر والعقد شرطين جهازين لعلاقة الإنسان العمودية بالطبيعة وما بعدها في صلى بالمعارف التعميرية في ما بين الحرية الشرطية وما بعدها من حرية لا شرطية والضرورة الشرطية وما بعدها من ضرورة لا شرطية سواء نسبتا إلى رب معتن بالمخلوقات أو صدفة لامبالية بها؟ لا يمكن أن أجيب عن هذين السؤالين إذا اعتبرت ما وصفت به الموجودات الطبيعية والموجودات التاريخية مقوما لهما وليس رمزا لها بما اختير من أعراض هي ما أدركه معرفيا وما اعيره قيما في علاقة بالعالمين الطبيعي والتاريخي وما لا أستطيع افتراضه واراءهما من حقائق غيبية لا أعلمها لكني أعلم ضرورتها سواء اعتبرتها ذات عناية أو عديمة العناية بالعالمين ونظاميهما. والآن فلأقارن نظام الجهازين كما عرضته مع قلب الترتيب بين العناصر في عرض الثاني بالقياس إلى الترتيب بين العناصر في عرض الأول .فما جاء غاية في الأول صار بداية في الثاني وهما متطابقان ويتعلقان بأصل العناصر الاربعة المتفرعة عنه في الجهازين: .1الأخير في الأول والأول في الثاني. .2الرابع في الأول والثاني في الثاني .3الثالث في الأول والثالث في الثاني أبو يعرب المرزوقي 28 الأسماء والبيان
-- .4الثاني في الأول والرابع في الثاني .5الأول في الأول والأخير في الثاني. فإذا فهمنا هذا التناظر العكسي تبين لنا أن ما هو غاية النظر والعقد هو بداية العمل والشرع ومعنى ذلك أن العمل والشرع يفترض دائما رؤية نظرية مصحوبة بعقيدة مهما كانتا بدائيتين ومن ثم فلابد أن تكون البداية هي عين ما يثبته التاريخ أي الكلام في ما وراء الشيء بعد الشيء أي إن كل مرحلة في السعي إلى معرفة ما وراء الطبيعة يحدد مرحلة في العسي إلى قيمة ما وراء التاريخ .ومن ثم فالمنطلق هو دائما العلاقة المباشرة بين الإنسان و\"القوة\" التي يفترضها وراء الطبيعة وعلاقته العمودية بها وانطلاقا منها يستمد سلم القيم في مستوى الرؤية .لكن ذلك هو في الحقيقة عكس ما يحصل فعلا :أي إنه يسقط سلم القيم في مستوى الرؤية التي تحصل فعلا في التاريخ على ما ورائه وعلى ما وراء الطبيعة. وذلك هو المرحلة الأولى التي ينطلق منها ابن خلدون في الباب الأول من المقدمة بإعادة النظر في العملية كلها إذ هو يعرض المحدد الطبيعي أعني الجغرافيا والمناخ وما يترتب عليه في حياة الإنسان من حيث شروط قيامه ويتكلم على إبداع الإنسان للنظام الذي يمكنه من التعامل مع المحدد الطبيعي بالتعامل معه وكأنه ناتج عن نظام شبيه بنظام حياته فيسقط عليه نظام حياته من حيث هو نظام حياته جاعلا إيها نموذجا لما وراء الطبيعة. وبذلك يعتبر أن المشكل الأساسي هو تحديد ما يضمن البقاء قانونا لسياسته شروط قيامه العضوي والروحي أي شروط العلاقتين العمودية مع المحدد الطبيعي ومع هذا المحدد التاريخي :فيكون الأمر متعلقا بالتعمير وبالاستخلاف أو بسياسة الرعاية وسياسة الحماية بمعنييها من العامل الطبيعي ومن العامل التاريخي أو من العامل الطبيعي ومما يترتب عليه من تنافس بين البشر بوصفه شرط قيام :فيكون المشكل مضاعفا: .1كيف يحل الإنسان مشكل استمداد شروط القيام من الطبيعة؟ وجواب الأول يحققه جهاز النظر والعقد وتطبيقه أي المعرفة التي تجعل الحل التقني ممكنا .وهذا هو مهمة أبو يعرب المرزوقي 29 الأسماء والبيان
-- التربية أو تكوين الإنسان وتنظيم حياته الروحية ليكون قادرا على تحقيق هذه الغاية أي الرعاية بإنتاج ما يسد الحاجات العضوية للإنسان .وبذلك يتبين أن العمل والشرع شرط لعلاج مشكل النظر والعقد لأنه شرط التكوين الضروري لتنمية جهاز النظر والعقد بوصفه أداة للتعامل مع الطبيعة أو علاج ما يعترض الأنسان في علاقته العمودية بها. .2كيف يحول دون التنافس عليها ومنع تحصيل شروط القيام؟ وجواب الثاني يحققه جهاز العمل والشرع وتطبيقه أي القيمة التي تجعل الحل الخلقي ممكنا .وهذا مهمة الحكم أو تنظيم حياته المادية ليكون قادرا على تحقيق هذه الغاية .وبذلك يتبين أن الحكم أو الحماية هي التي تحول دون أن يكون ما يقتضيه التعامل مع الطبيعة من ضرورة تكون الجماعات المتعاونية حائلا دون التعاون بسبب التنافس وما يترتب عليه من عدوان متبادل في نفس الجماعة أو بين الجماعات .فيكون الحكم هو الحل وبذلك يتضح أن الشرع أو حماية سلم القيم شرط العمل. وانطلاقا من هنا نفهم أن يكون أول العمل والشرع هو دائما غاية النظر والعقد بحسب الترتيب الذي ذكرت :فغاية النظر والعقد وتطبيقاتهما في التعامل مع الطبيعة تكون في كل لحظة من لحظات التاريخ الإنساني بداية العمل والشرع وتطبيقاتهما في التعامل مع التاريخ .ومعنى ذلك أن المثال الذي ورد في سورة هود والذي أطلت في شرحه يبين أن التحرر من سلطان الطبيعة بداية التحرر ومراحله هي مراحل التحرر من سلطان التاريخ أي إن الإنسان يتحرر سياسيا من سلطان الحكم بجهاز العمل والشرع بقدر ما يتحرر سلطان الطبيعة التربية بجهاز النظر والعقد .فتكون رؤية الإنسان لعلاقته العمودية بالطبيعة رهن قدرات جهاز النظر والعقد الذي يمكن من قدرات العمل والشرع الذي يحدد رؤيته لعلاقته بالتاريخ. وفي سورة هود نجد ترتيب هذا التحرر فنلاحظ أن البداية هي ثورة نوح التي تمثل تحرير الإنسان من سلطان الطبيعة بالتقنية (السفينة والزراعة) والغاية هي ثورة موسى التي تمثل تحرير الإنسان من سلطان التاريخ بالأخلاق (الشرع والخروج عن فرعون) .وبين أبو يعرب المرزوقي 30 الأسماء والبيان
-- الثورتين نجد المراحل التالية :ثورة هود على المستحوذين على الثروة ثم ثورة صالح على المسيطرين على توزيع الماء ثم ثورة لوط على المسيطرين على الجنس ثم ثورة شعيب على المسيطرين على شروط التبادل الاقتصادي العادل من خلال مشكل المكاييل والموازين. وبذلك تتضح العلاقة بين العلاقتين العمودية مع الطبيعة والافقية مع التاريخ وبين الجهازين النظر والعقد والعمل والشرع وبين الغايتين التعمير والاستخلاف .ويتضح أن كل ذلك مداره المعادلة الوجودية التي هي علاقة الإنسان بما يتعالى عليه مباشرة أي بالضرورة والحرية اللامشروطتين بوصفهما ما بعدين للضرورة المشروطة أو الطبيعة وللحرية المشروط أو التاريخ .وذلك ما كان علينا بيانه. أبو يعرب المرزوقي 31 الأسماء والبيان
-- أبو يعرب المرزوقي 32 الأسماء والبيان
Search
Read the Text Version
- 1 - 36
Pages: