Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore رؤية القرآن، لحمتها وسداها عين كيان الإنسان – أبو يعرب المرزوقي

رؤية القرآن، لحمتها وسداها عين كيان الإنسان – أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2018-09-16 11:09:34

Description: رؤية القرآن، لحمتها وسداها عين كيان الإنسان – أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫رؤية القرآن‬‫لحمتها وسداها عين كيان الإنسان‬ ‫الأسماء والبيان‬



‫المحتويات ‪1‬‬‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثاني ‪7 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثالث ‪13 -‬‬‫‪ -‬الفصل الرابع ‪19 -‬‬‫‪ -‬الفصل الخامس ‪25 -‬‬

‫‪--‬‬‫عندما بينت وحدة الديني والفلسفي في النظر والعمل وأخذت القرآن مثالا في ذلك‪ ،‬لم‬‫يكن قصدي أن مضمونهما واحد أو طريقتهما واحدة بل هما يشتركان في وصف المنشود‬ ‫بالكمال الذي يجذب الاستكمال الذي يمثله الموجود‪.‬‬ ‫صيرورة الموجود إلى المنشود هي موضوعهما وإن في اتجاهين يبدوان متقابلين‪.‬‬ ‫فالديني والفلسفي موضوعهما هذه الصيرورة وشروط تحقيقها بعمل على علم‪.‬‬ ‫• لكن الديني يقدم العمل‬ ‫• والفلسفي يقدم العلم‬‫وكلاهما محق لما بين السلوكين من تكامل فلا نعلم إلا ما نعمل ولا نعمل إلا ما نعلم‪ ،‬ما‬ ‫يعني أنه يوجد‪:‬‬ ‫• عمل هو في آن علم‬ ‫• وعلم هو في آن عمل هو الاصل الذي يتفرع عنه العمل والعلم‪.‬‬‫فالعلم والعمل المنفصلين أو المتفرعين عن \"أمر\" هو عمل وعلم في آن هو عين كيان الإنسان‬‫بمعنى أن وجوده نفسه هو هذا الانشداد إلى المنشود المطلق بكيانه من حيث هو وجود‬‫مشدود إليه بصيرورة حياته الواعية‪ :‬الحياة الواعية هي العلم والعمل اللذان لا ينفصلان‬ ‫حتى إن لنشعر وكأننا نعمل مرتين‪.‬‬ ‫نعمل في الذهني ونعمل في العين سواء بدأنا بهذا أو بذاك‪.‬‬‫إن فكرنا قبل العمل أو عملنا قبل التفكير ففي وجودنا الذهني والعيني وعي بذاتنا وهي‬‫تدبر أمرها قبل الفعل وخلاله وبعده دائما فيكون كياننا في آن نظر وعمل أو عمل ونظر‬ ‫متلازمين‪.‬‬ ‫وذلك يصح على الإنسان من حيث هو إنسان مهما كان أميا‪.‬‬‫وعندما ينفصل الوجهان بحكم الاختصاص وتقسيم \"العمل\" يصبح العلم فعل الأذهان في‬‫الرموز ويصبح العلم فعل الأعيان في الأشياء فيترمز العمل في النظر ويتشيأ العلم في‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫العمل‪ ،‬لكن الأمرين يبقيان متلاصقين لأنهما حتى بعض التخصص لا يمكن تصور أحدهما‬ ‫منفصلا عن الثاني صراحة أو ضمنا‪.‬‬ ‫والتلازم الصريح في النظر هو التلازم بين‪:‬‬‫البعد الرمزي المنطقي والرياضي والبعد الفعلي التجريبي والتطبيقي والضمني هو‬‫عندما يبلغ النظر الطبيعي درجة من النسقية تجعله مثل الفيزياء النظرية شبه مستغن‬‫عن التجريبية والتطبيق لأن النسق يتحول إلى حساب رمزي من جنس الرياضيات‬ ‫الخالصة‪.‬‬‫ونفس الشيء بالنسبة إلى العمل المنفصل عن النظر عند الممارسين لأي عمل في الأعيان‪.‬‬ ‫فهو لا يمكن أن ينفصل عن النظر الحاضر فيه صراحة أو ضمنا‪.‬‬‫فالأعمال التي تجري في الأعيان سواء في السياسة أو الاقتصاد أو في الحروب خاصة يعمل‬ ‫القائد ذو الخبرة في الأشياء وفي رموزها في آن صراحة أو ضمنا‪.‬‬‫وعمله الصريح في الرموز يكون بما يجريه فعليا في الورق من حسابات للاحتمالات والبدائل‬‫وقد يحصل ذلك في ذهنه دون تعين فعلي في الاوراق بشيء من المهارة الحاصلة بمقتضى‬‫التجربة وهي من مميزات القدرة على أخذ القرار بالتقدير السريع للمعطيات الجاهزة في‬ ‫ذهنه بحكم تراكم الخبرة وتناسق المعطيات‪.‬‬‫ويشبه ذلك ما يتميز به بعض الأذهان من قرة على الحساب الذهني الذي يكاد ينافس‬‫الأجهزة الحاسوبية في سرعة الوصول إلى النتيجة في العمليات المعقدة‪ ،‬وهذه الخاصية يحتاج‬‫إليها القائد الاستراتيجي وخاصة في الحروب حيث يكون لسرعة القرار الحسم بشرط‬ ‫الإحاطة الممكنة بالمعطيات والفرضيات والبدائل‪.‬‬‫وبذلك يكون جوهر الإشكال هو التمييز بين مفهومي العلم والعمل إذ ينفصلان وإذ‬ ‫يتصلان‪.‬‬ ‫فكلاهما يمكن النظر إليه منفصلا عن الثاني‪،‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وكلاهما لا يمكن فهم حقيقته الفعلية وشروط فاعليته من دون النظر إليه في جوهر‬ ‫كيانهما الواحد لأن انفصالهما في الاختصاص لا يعني نفي تلازمهما الشارط لفاعليتهما‪.‬‬‫القرآن مبني على هذه النظرية‪ :‬فهو يعتبر التطابق بين الفعلين أو عدم وجود المسافة بين‬‫العلم والعمل ممثلين للكمال والإطلاق في صفات الله الذاتية إرادة وعلما وقدرة وحياة‬ ‫ووجودا‪.‬‬‫فلا يوجد فصل بين علم في الذهن يفعل في الرمز المنفصل عن مرموزه بل كن (رمز) توجد‬ ‫(الشيء مرموزها)‪.‬‬ ‫وعند الإنسان العكس‪ :‬يوجد انفصال بين العمل والعمل‪.‬‬‫والشيء سابق على الرمز أو ما في العين سابق على ما في الذهن بمعنى أن المدارك الحسية‬ ‫تقدم لنا الأشياء فنستمد الافكار التي في الأذهان‪.‬‬‫لكن لو كان الإنسان مقصورا على هذه لامتنع عليه أن يتصور المستوى الأول الذي ينسبه‬ ‫إلى الله‪.‬‬‫فيكون الإنسان بمجرد وجوده الواعي وسيطا بين العالم الذي يحيط به وبين الله الذي‬ ‫يحيط بالعالم‪.‬‬‫والله المحيط بالعالم هو المنشود وعالم الكمال والعالم المحيط بالإنسان هو عالم الاستكمال‬‫المشدود إلى عالم الكمال‪ .‬وهذا قريب مما تصور عليه أفلاطون نسبة العالم الطبيعي إلى‬ ‫عالم المثل‪.‬‬‫وهذه الرؤية الأفلاطونية هي التي رفضها أرسطو ليعود إلى القول بالمطابقة بمعنى أن ما‬‫في الأذهان نسخة مما في الأعيان فيكون العالم الطبيعي هو الحقيقة وما في الأذهان نسخة‬ ‫منه‪.‬‬‫ومن ثم فقد أصبح المنشود ليس ما يتعالى على الموجود بكماله بل العكس الكمال في العالم‬ ‫الطبيعي وهو منشود علمنا‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وبهذا المعنى فقد أفسد أرسطو التقاطب بأن عكسه‪ :‬صارت صيرورة العالم الطبيعي‬‫منغلقة على نفسها وصيرورته دورية كحمار الناعورة الذي يدور في نفس المكان ليس له‬‫غاية متعالية عليه‪ ،‬بل إن الغاية التي اضطر إليها هي المحرك الذي لا يتحرك بل الميت‬ ‫لأن المادة هي المتحركة‪.‬‬‫وما فعله أرسطو للنموذج الافلاطوني في النظر بالاعتماد على الطبيعة وما بعدها عمله‬ ‫هيجل للنموذج الكنطي في العمل بالاعتماد على التاريخ وما بعده‪.‬‬‫فقلب الرجلان العلاقة بين الموجود والمنشود جاعلين الموجود غاية والمنشود من أوهام‬ ‫الإنسان الجاهل بالضرورة بدلا من أن يكون أساس تحرره منها‪.‬‬ ‫والنتيجة أن أرسطو رد ما فوق الطبيعة إليها وهيجل رد ما بعد التاريخ إليه‪.‬‬‫فلم يبق للفلسفة ما يجمعها بالدين لأنها رد ما بعد الطبيعة إلى الطبيعة وما بعد التاريخ‬‫إلى التاريخ مثلا مرحلتين من رفع \"الأمر\" الواقع الطبيعي والتاريخي إلى أمر واجب في‬ ‫حين أن الحرية تجعلهما مجرد حاصل من ممكن‪.‬‬‫وفضل ثقافة القرآن أنه كان المخلص من التردي الأرسطي وسيكون المخلص من التردي‬‫الهيجلي وبنحو ما استعادة ما يشاركه الفهم الافلاطوني والكنطي للعلاقة بين العالمين‬‫الأسمى والأدنى ودور الإنسان في الوصل بينهما باعتباره خليفة من حيث هو مكلف له دارية‬ ‫بالعلاقة بين العالمين على الأقل عقدا‪.‬‬ ‫وهنا نكتشف دلالة مفهوم الخلافة‪.‬‬‫فالإنسان المشدود إلى العالمين له وعيي عقدي وليس علميا بما قبل العالمين الطبيعي‬‫والتاريخي وعلميا وليس عقديا بما بعد العالمين الطبيعي والتاريخي‪ .‬وذلك هو معنى كونه‬‫خليفة‪ :‬يدرك ما دونهما ويؤمن بما فوقهما ووجوده سعي لفهم آيات الثاني في الاول دون‬ ‫إحاطة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وهذا الإدراك غير المحيط ‪-‬لإيمانه بالغيب فيهما‪ -‬هو عين ما رمزت إليه آية الاستخلاف‬‫بتعلميه الأسماء كلها أي القدرة على تسمية الموجود خلال التشوف إلى المنشود‪ .‬فيكون‬‫الرمز هو تاليا عن المرموز ويصبح أداته للتعامل مع العالم الطبيعي والتاريخي بالنظام‬ ‫العكسي لنظام خلقه وأمره‪.‬‬‫• ففي عالم الكمال المنشود عندنا المثل والرياضيات متقدمين على العالم الطبيعي‬ ‫والتاريخي (رؤية القرآن لخلق العالم الطبيعي والتاريخي)‬‫• وفي عالم الاستكمال الموجود عندنا نفس الشيء ولكن في الترتيب العكسي دون الكمال‬ ‫الحاصل عقدا في الاول أي العالم الطبيعي والتاريخي والرياضيات والمثل‪.‬‬‫وإذن فعندما معادلة مخمسة قلبها العالم الطبيعي والتاريخي أي شروط قيام الإنسان من‬‫حيث كون كيانه هذا الجامع بين النظر والعمل قبل الفصل بينهما في فعلين ناظر ضميره‬‫العمل وعامل ضميره النظر وهو جزء منه‪ .‬لكنه يضع فوقه مثل ورياضيات لخلقه وأمره‬ ‫ويصنع بعده رياضيات ومثل للعيش فيه‪.‬‬‫وهذا يعني أن كل فلاسفتنا ومتكلمينا القدامى ممن توهموا أن الوجود الطبيعي يرد إلى‬‫إدراكه اتباعا للرؤية الارسطية ومدرستها ومن يدعون احياءهم ووراثة تراثهم مع دعوى‬‫الحداثة ممن توهموا الوجود التاريخي هو إدراكه اتباعا للرؤية الهيجلية ومدرستها يقولون‬ ‫بالمطابقة أي السذاجة الفلسفية‪.‬‬‫لكن الديني والفلسفي هو الذي ينفي هذه المطابقة أو الرؤية الابستمولوجية الساذجة‬‫التي تعتبر العالمين الطبيعي والتاريخي يردان إلى إدراكنا وينفيان ما فيهما من غيب لا‬‫يمكن علمه مع اشتراط عقد لما يسمو عليهما من مثل ورياضيات وما يستعمل للتعامل معهما‬ ‫من رياضيات ومثل ما يبدعها الإنسان‪.‬‬‫وما كان الإنسان ان يكون قادرا على إبداع الرياضيات والمثل لو لم يكن يؤمن بوجود عالم‬‫أسمى من العالم ببعديه الطبيعي والتاريخي هو أصله وما يشرئب إليه الإنسان باعتباره‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫المنشود الكامل الذي يستكمل الإنسان به وجوده ويعتقد أن كل موجود مثله له هذا النزوع‬ ‫إلى الاستكمال وهو معنى العبادة العميق‪.‬‬ ‫وهذا هو الديني والفلسفي اللذين يمثلان لحمة الرؤية القرآنية وسداها‪.‬‬‫والفرق بين الفلسفي والديني عند الفصل بينهما من جنس الفرق بين النظري والعملي‬ ‫عند الفصل بينهما‪.‬‬‫لكننا بينا أن الفصل بينهما لا يزيل التلازم الواصل بينهما من حيث هما فعلان عين جوهر‬ ‫الإنسان‪ :‬وجوهره متعين في القرآن‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫هذا العنوان \"رؤية القرآن لحمتها وسداها عين كيان الإنسان\" محير حقا‪.‬‬ ‫كيف يكون القرآن لحمته وسداه عين كيان الإنسان؟‬‫كيف يجعل الله الإنسان آيته المطلقة فيعتبر ذلك المعجزة الوحيدة للرسول الخاتم؟‬ ‫كيف يكون الإنسان عين الحجة التي يقنع بها الله الإنسان بكل ما في الرسالة؟‬ ‫هذا هو موضوعنا‪.‬‬‫كنت دائما متحيرا أمام سورة البلد التي تلخص مفهوم النسيان في علاقة بمفهوم التذكير‬‫الاخير في الرسالة الخاتمة وما فيها من علاقة بالعالمين الأسمى والأدنى وما ينبغي للإنسان‬‫القيام به للوصل بينهما الوصل الذي يجعله أهلا للاستخلاف أو تدارك ما فوته على نفسه‬ ‫في الفرصة الأولى في الثانية‪.‬‬‫فالكيان الإنساني الذي هو طبيعي وتاريخي ذو وجودين في الأعيان وفي الأذهان‪ ،‬يعي‬‫نفسه من حيث هو أحد الكائنات الحاصلة في الوجود الخارجي فيكون له وجوده العيني مثل‬‫أي شيء آخر يدركه خارجه بحيث إن ذاته لها إدراك بكونها توجد خارج ذهنها ولها الوعي‬ ‫بذلك فيكون لها وجود في ذهنها وعيا بالذات‪.‬‬‫كل الإشكالية التي تعثرت فيها المثالية الألمانية علتها الخلط بين مفهومين للعلم بمعنى‬‫المعرفة الصناعية التي ندرك بها الأشياء ونتعامل معها ونصوغها في أنساق معرفية هي‬‫النظر العلمي وحتى المعرفة العامية والعلم بمعنى الوعي بالذات المصاحب لكل افعالنا على‬ ‫الأقل الواعي منها‪.‬‬ ‫فهذا النوع الثاني من \"العلم\" ليس غير المعنى الاول الذي هو صناعة بل هو شرطه‪.‬‬‫لكنه أيضا شرط العمل لأن أي فعل ليس فيه منه شيء لا يعد عملا‪ ،‬بل هو حركة آلية‬‫كما يحصل في أفعالنا التي صارت عادة نقوم بها دون وعي كما نحرك أرجلنا لكبح السيارة‬ ‫أو للزيادة في السرعة حيث يكون البدن جهازا آليا‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وصحيح أن أغلب افعالنا لا تنشأ إلا انطلاقا من هذا الاصل ثم تنحط لتصبح أفعالا آلية‬‫لكنها دائما ناتجة عن الأصل الذي ضبط نظامها وجعلها تكون في علاقة الأداة بالغاية وليس‬ ‫رماية في عماية‪.‬‬‫وهذه العلاقة بين الأداة والغاية أو الوسيلة والهدف في عمل الإنسان وعلمه هي التي لا‬ ‫ينفصلان فيها‪.‬‬‫ولا بد هنا من التذكير بما سميته \"المعادلة الوجودية\" والتي هي البنية العميقة للقرآن‬‫الكريم والبنية المفهومية لكيان الإنسان حتى لا أستعمل مصطلحا صار شديد الغموض أعني‬ ‫جوهر الإنسان أو حقيقة كيانه الطبيعي والتاريخ في آن‪:‬‬ ‫‪ .1‬الله‬ ‫‪ .2‬الطبيعة‬ ‫‪\" .3‬الله‪-‬الإنسان\"‬ ‫‪ .4‬التاريخ‬ ‫‪ .5‬الإنسان‪.‬‬ ‫فعندنا في الوسط \"الله‪-‬الإنسان\" أو العلاقة المباشرة بين المتحاورين في القرآن‪،‬‬‫ثم الله قبل الطبيعة والإنسان بعد التاريخ وهما نفس المتحاورين ولكن بوساطة هي العالم‬ ‫الطبيعي والعالم التاريخي‪.‬‬‫وهذه هي موضوعات الرسالة مع كلامها على ذاتها وعلى مرسلها وعلى رسولها ودوره وعلى‬ ‫المرسل إليه‪.‬‬‫وكل ذلك منزل في التاريخ العيني ليس بوصفه محددا لها‪ ،‬بل بوصفه عينة ممثلة للكوني‬‫فلا يكون السياق التاريخي محددا لها بتعينه المكاني والزماني ولا بالحضاري لا العرقي ولا‬‫اللساني‪ ،‬بل هو من جنس الآفاق التي يرينا الله فيها آياته لنتبين حقيقة القرآن من حيث‬ ‫رسالة خاتمة للإنسانية كلها‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫والدليل القاطع على ذلك هو أن القرآن يبدو وكأنه رسالة من بين الرسالات وبصورة أدق‬‫الرسالة الاخيرة لكنه في الحقيقة يقدم نفسه على أنه الرسالة في كل الرسالة من الأولى‬‫إلى الأخيرة‪ ،‬ومن ثم فهو يتضمن عرضا نقديا لتحريف هذا الديني الواحد في كل الاديان‬ ‫بمنهج \"التصديق والهمينة\"‪.‬‬ ‫والأقطع من ذلك أمران‪:‬‬‫‪ .1‬من شروط الإيمان بالرسالة الخاتمة الإيمان بكل الرسل السابقين بعد نقد تحريفها‬‫بمنهج التصديق والهيمنة أي إن ما فيها من سليم هو ما تقره الرسالة الخاتمة بوصفها تذكيرا‬‫بالرسالة المرسومة في فطرة الإنسان بميثاق بين الله والإنسان في ‪ 172‬و‪ 173‬من‬ ‫الأعراف‪.‬‬ ‫والأمر الثاني‪:‬‬‫‪.2‬حددته المائدة ‪ 48‬وهو القصد من التعدد الديني باعتباره علة لغاية تقتضيها حرية‬‫العقيدة التي تنتج عن تبين الرشد من الغي‪ :‬إنه شرط التسابق في الخيرات أي اختيار‬‫الإنسان لعقيدته بحرية ما يعني استحالة تصور الإسلام قابلا للاضطهاد الديني لكونه‬ ‫يرجئ الحكم إلى يوم الدين‪.‬‬ ‫وله في ذلك ثلاث آيات تبين المراحل في الإرجاء‪:‬‬ ‫• بوعد تام (البقرة ‪)62‬‬ ‫• وبوعد ناقص (آل عمران ‪)69‬‬ ‫• وبإرجاء ليس فيه وعد أصلا (الحج ‪)17‬‬ ‫لأنه ضم المجوسية والشرك واعتبرهما من الأديان أيضا‪.‬‬‫فيكون القصد بالتسابق في الخيرات هو الترقي الروحي للوصول إلى الإسلام غاية السعي‬ ‫إلى الحقيقة‪.‬‬‫ولست غافلا عن كون الفقهاء ضيقوا هذه الرؤية مدعين أن هذه الآيات قد نسخت بسبب‬‫ما آل إليها أمر المسلمين من الانكماش والخوف بعد أن انحطت الرؤى وأصبح منظور سد‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الذرائع أكبر أدواء فكر علماء الملة وهو أمر حاولت تعليله بحالة الطوارئ التي فرضت منذ‬ ‫الفتنة الكبرى خاصة‪.‬‬‫وكنت قد بينت أن حالة الطوارئ هذه كانت مشروعة وأن قلب القيم الذي كان تحديدا‬‫مؤقتا للحرات ومعلولا بالضرورات التي تبيح المحظورات بسبب الحروب الأهلية التي تلت‬‫الفتنة الكبرى‪ .‬لكن ما كان حلا ظرفيا يبيحه الشرع صار هو الحالة الدائمة فبقينا في حالة‬ ‫طوارئ ‪ 14‬قرنا بالتمام والكمال‪.‬‬‫فنحن الآن في ‪ 1440‬والفتنة الكبرى كانت في بداية الأربعين السنة الأولى من دولة‬ ‫الإسلام‪.‬‬‫والحمد لله فشبابنا بجنسيه بدأ مسيرة الخروج من حالة الطوارئ هذه ليستعيد الحريتين‪:‬‬‫الحرية الروحية بإزالة الوساطة بين المؤمن وربه والحرية السياسية بإزالة الوصاية بين‬ ‫المؤمن ودوره في شأن الامة‪.‬‬‫والمعلوم أن ابن خلدون لم يعتبر ذلك كما اعتبرته حالة طوارئ مؤقتة فرضتها الحروب‬‫الاهلية التي لم تتوقف منذ الفتنة الكبرى إلى الآن‪ ،‬بل هو اعتبر المرحلة السابقة‪-‬النبوية‬‫والراشدية‪-‬استثناء في التاريخ الطبيعي للدول والأمم وأن الأمر عاد إلى المنطق التاريخي‬ ‫العادي وغير الاستثنائي‪.‬‬‫فعنده أن السياسي استعاد طبيعته التي كانت مستثناة بفضل دور الرسول والتربية‬‫الرسولية التي تضاءل أثرها وعادت إلى كونها صراعا قوى سياسية وصدام عصبيات وهو لا‬‫يكتفي بالفتنة الكبرى تفسيرا‪ ،‬بل يعتبرها نتيجة لرفض القبائل العربية الكبرى التسليم‬ ‫لقريش بالسلطان وذلك هو علة الفتنة‪.‬‬‫ولذلك كانت الدولة الأموية مضطرة للعودة إلى ما تقتضيه طبيعة السياسة في ذلك العصر‬‫لأن الثورة الإسلامية كانت سابقة لعصرها ولم تنضج الأمة لنظام يكون بلا سلطة وساطة‬‫روحية وبلا وصاية سياسية (التشيع عاد إليهما صراحة والسنة في الافعال دون الاقوال)‬ ‫فتقدمت الشوكة على الشرعية في الحالتين‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ثورة الإسلام أو البديل من الوساطة الروحية ومن الوصاية السياسية كانت تقتضي‬‫استخراج نظرية القرآن في التربية ونظريته في الحكم تغنيان المؤمنين عن الوساطة الكنسية‬‫والوصاية السياسية بالطريقة التي وضعها الاستثناء من الخسر‪ :‬الإيمان والعمل الصالح‬ ‫والتواصي بالحق والتواصي بالصبر‪.‬‬ ‫فالرسول لم يكن‪:‬‬ ‫وسيطا روحيا (إنما أنت مذكر)‬ ‫ولم يكن وصيا سياسيا (لست عليهم بمسيطر)‬‫وهما خاصيتان يكون الإنسان فيها بلغة ابن خلدون ذا وزع ذاتي ومتحررا من الوزع‬‫الأجنبي أو بصورة أدق فهذا يكون تابعا لذلك بمعنى أن الشوكة في الدولة تابعة للشرعية‬ ‫التي في ضمائر المؤمنين‪.‬‬ ‫وعندئذ تتبين دلالة الآية ‪ 38‬من الشورى‪:‬‬ ‫• الاستجابة إلى الرب‬ ‫• إقامة الصلاة‬ ‫• أمر الجماعة‬ ‫• تديره بالشورى‬ ‫• للإنفاق من الرزق‪.‬‬‫والإنفاق من الرزق يعني التحرر من العلة الأساسية للصراع بين البشر بالعدل الاجتماعي‬ ‫كما حددته البقرة ‪.177‬‬ ‫لكن ذلك يقتضي مؤسسات تحرصه‪.‬‬‫وهذا ما فشل فيه الجيل الاول من الصحابة‪ :‬فقد ظنوا أن معجزات الرسول ممكنة لغيره‬‫وأن الوازع الذاتي كاف ولم يعلموا أن الدولة الامبراطورية التي نشأت ليست قبيلة لكي‬ ‫تساس بالأخلاق العادة مثل خرافة عدل فنام‪.‬‬ ‫ونسوا أنه ثلاثة من أربعة اغتيلوا بسبب عدم فهم ضرورة حماية الدولة لنفسها‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فاغتيال الفاروق واغتيال ذي النورين واغتيال الخليفة الرابع ليست إلا لأن الخلفاء رغم‬‫رشدهم لم تكن لهم ثقافة سياسية تمكن من حماية الدولة بسبب ظنهم أنهم يمكن أن يكونوا‬‫مثل الرسول ‪-‬وهو ما اعتبره ابن خلدون من المعجزات الخارجة عن السنن السياسية‪-‬بل‬ ‫إني أزعم أنه كان له جهاز حماية‪.‬‬‫ولعل مهزلة اغتيال عثمان من الادلة القاطعة أن الدولة كانت عوراء أي إنها لم تكن ذات‬‫حماية كافية بحيث إن مجموعة من الافاقين يختالون خليفة منتخب وشرعي لا يمكن فهمها‬‫من دون نسبة ذلك إلى غياب الحماية والمؤسسات التي تعمل بها الدولة الإمبراطورية التي‬ ‫لا تقاس على القبيلة‪.‬‬‫والمشكل أن الإسلاميين ما يزالون يفكرون بهذه الطريقة ومن جنسها \"سلميتنا أقوى من‬‫الرصاص\" ويقابلها الرصاص الغبي للذين لا يفهمون الفرق بين الردع والاستعمال‪ .‬فلو عمل‬‫الإسلاميون بالأنفال ‪ 60‬للردع لما احتاجوا لسلميتنا أقوى من الرصاص ولا للذين يسيئون‬ ‫استعمال القوة لجعلها ضد صاحبها‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فبأي معنى يعتبر كيان الإنسان مؤلفا مثل القرآن من هذه المعادلة الوجودية‪:‬‬ ‫‪ .1‬الله‬ ‫‪ .2‬الطبيعة‬ ‫‪( .3‬الله‪-‬الإنسان)‬ ‫‪ .4‬التاريخ‬ ‫‪ .5‬الإنسان‪.‬‬ ‫فيكون في الإنسان الله حاضرا مرتين والإنسان حاضرا مرتين‪.‬‬‫فالحضور مباشر وغير مباشر بين الطبيعة والتاريخ وغير مباشر بالطبيعة والتاريخ مع‬ ‫الوعي بالذات وبالسياق‪.‬‬ ‫ولأبدأ بالوعي بالذات وبالسياق الذي يتحيز فيه الإنسان وللنظر في القرآن‪:‬‬‫سنجد كلامه على نفسه ووعيه بذاته وبتحيزه من أهم مميزات أسلوبه في كل مرة يتكلم‬‫فيها على الله وعلى الطبيعة وعلى التاريخ وعلى الإنسان وعلى علاقة الله بالإنسان‬ ‫والإنسان بالله مباشرة وبتوسطهما‪.‬‬‫لكن الأوضح من ذلك كله هو مدلول الآية ‪ 53‬من فصلت‪ :‬فالله يرينا آياته في الآفاق‬‫(الطبيعة والتاريخ) وفي أنفسنا (ليس بمعنى موضوع علم النفس بل بمعنى ذات الإنسان‬ ‫عامة وهي كيانه بدنا وروحا) حتى يتبين لنا أن القرآن هو الحق‪.‬‬ ‫تبين حقيقة القرآن من آيات الله فيهما دليل وحدة البنية العميقة‪.‬‬‫وما أن ينظر الإنسان في ذاته فيرى إرادته وعلمه وقدرته وحياته ووجوده حتى يدرك‬‫أنها شديدة النسبية ومن ثم فهو لا يدركها إلا بالتضايف إلى ما ليس بنسبي رغم كونه من‬‫جنسها من حيث الحقيقة أي إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود كلها مطلقة وهي غاية‬ ‫اشرئبابه وموضوع عبادته ومحبته ومعنى كيانه‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فيدرك حينها دلالة المنزلة الوسطى بين الله والطبيعة قبلها‪ ،‬والتاريخ والإنسان بعدها‪،‬‬‫وهي العلاقة المباشرة بين الله والإنسان في الاتجاهين والقرآن يتكلم عليها بما يشبه الرضا‬‫المتبادل بينهما وعدمه في علاقة شديدة الحميمية فتشعر وأنت تقرأ وصف القرآن للإنسان‬ ‫سخط متبادل‪ :‬علاقة حب متقلبة‪.‬‬‫ولهذه العلة‪ ،‬فأكثر الناس تعبيرا عن الثورة على حالهم لا يعتبرونها أمرا طبيعيا عاديا‪،‬‬‫بل غالبا ما يكون في آن ثورة عليها وكأنها تتضمن شيئا من العقاب غير المستحق بمعنى أن‬‫الكفر أو السخط على الأحوال يشبه وكأنه اعتراف بوجود الله ونقمة على ما يتصوره‬ ‫الساخط ظلما فينزل بالله إلى مستواه‪.‬‬‫وعكسه المؤمن تسليما بأنه يمكن لما يكرهه أن يكون فيه خير له وأنه يمكن لما يحبه أن‬‫يكون فيه شر له فيحدث شبه تسليم يرفعه إلى مقام الرضا بالقضاء والقدر فيصبح حرا‬‫من أحوال نفسه وسيدا على مجرى حياته بشبه قبول ورضا بما ما يحدث ما يكون في ذاته‬ ‫جوهر صبر المؤمن البطولي‪.‬‬‫فيكون الموقفان الساخط والراضي معبرين عما يمكن أن نسميه القوة الروحية التي لها‬ ‫الدلالة العكسية تماما فيكون‪:‬‬ ‫• الساخط هو الضعيف‬ ‫• والراضي هو القوي‬ ‫• ويكون الأول شبه مستسلما لجبنه وعدم تحمل مصيره‬ ‫• والثاني شبه مستسلما للإرادة الإلهية الغيبية‬ ‫فيحصل ما يمكن تسميته بالاطمئنان النفسي في الضراء‪.‬‬ ‫ولو قارنا بين الوقفين مثلا في الحروب لعلمنا أن‬ ‫• الأول لا يمكن أن يكون جنديا جيدا لأي قضية ولا يعول عليه في أي جبهة‬‫• وأن الثاني عقيدته هي عقيدة عمرو المختار‪ :‬لا نستسلم ننتصر أو نموت في سبيل الله‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فيكون الإنسان حينها وكأنه عين منظور القرآن لمفهوم الإيمان الصادق وأخلاق القرآن‪.‬‬‫وهذا هو النضوج الروحي الذي لا يمكن أن يتوفر إلا لمن بلغ اللامبالاة بمجرى الوجود‬‫الطبيعي والتاريخي مع كونه يؤمن بدوره فيهما كما تحدده مهمتاه فيهما‪ :‬مكلف بتعمير‬ ‫الارض ومكلف بالاستخلاف عليها‪.‬‬ ‫• وتعمير الارض شرطه العمل على علم بقوانين الطبيعة‬ ‫• والاستخلاف شرطه العمل على علم بسنن التاريخ‬ ‫وبهذا المعنى يصبح تسليمه بالقضاء والقدر في ما يتجاوز‬ ‫• إرادته الحرة‬ ‫• وعلمه الصادق‬ ‫• وقدرته الخيرة‬ ‫• وحياته الجميلة‬ ‫• ووجوده الجليل‬‫لأن الاستخلاف منزلة وجودية هذه علامات البرهان على الأهلية له ومن ثم فتوكل‬ ‫المؤمن ليس تواكل من يسيء فهم القضاء والقدر‪ :‬الله يسألنا عما كلفنا به مما نستطيع‪.‬‬‫ولما فقد المسلمون هذه المعاني وصاروا يخلطون بين التوكل والتواكل وبين ما يتجاوز ما‬‫كلفوا به وما هم عنه مسؤولون بقدر الاستطاعة‪ ،‬أصبحوا يجدون أعذارا لقعودهم في‬‫التعمير والاستخلاف معتبرين ذلك من الإيمان بالقضاء والقدر‪ ،‬في حين أنه ليس منه بل‬ ‫من الغفلة عن الفرق بين التوكل والتواكل‪.‬‬‫وأحمد الله أني عشت إلى اللحظة التي ثار فيها شباب الامة بجنسيه واستعمل الشعار‬ ‫الأسمى في ثورته‪ ،‬أعني بيتي أبي القاسم الشابي‪.‬‬‫فدلالة الثورة التي بدأت خلع المستبدين واستعادة شباب الأمة المبادرة لتحقيق شرط‬ ‫الحرية الروحية وشرط الحرية السياسية تمثلت في جعل بيتي الشابي شعار ثورتهم‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بيتا الشابي جبرتا الكسر بين لحظتين من تاريخنا‪:‬‬‫فلكأننا عدنا إلى الصدر حيث كان كل مؤمن بالرسالة حرا روحيا ليس بينه وبين الله غير‬‫القرآن وسنة الرسول تعليما للقرآن بالأقوال والافعال‪ ،‬وحرا سياسيا ليس عليه وصي غير‬ ‫إرادته التي تعبر عن إرادة الشعب الذي اراد الحياة بمعناها القرآني‪.‬‬ ‫وإرادة الحياة بالمعنى القرآني يقابل \"حياة\" بالمعنى القرآني‪.‬‬‫فالحياة بمعناها القرآني هي حرية ارادة المؤمن وصدق علمه وخير قدرته وجمال حياته‬ ‫وجلال وجوده بوصفه خليفة لرب العالمين‪.‬‬‫لكن \"حياة\" هي العكس من ذلك تماما أي عبودية الإرادة كذب العلم وشر القدرة قبح‬ ‫الحياة وذل الوجود‪.‬‬‫ليس فضل الشباب التونسي الثورة بمعناها المادي فحسب‪ ،‬بل وكذلك اختيار الشعار‬‫وكون مؤلفه من تونس لا دلالة قطرية له لأنه شاعر العربية وخريج الزيتونة وابن الثقافة‬ ‫الإسلامية الاصيلة التي لا تعترف بما صنعه الاستعمار بدار الإسلام‪.‬‬ ‫ولهذه العلة فالثورة عمت أرض العرب والمسلمين وستنتصر حتما‪.‬‬ ‫فالله لا يخلف ميعاده‪.‬‬ ‫وعد الأمة بأنها شاهدة على العالمين‪.‬‬ ‫ولا يمكن أن تفعل ما لم تسترد قيم القرآن في حياتها فتستعيد ثورتيه الكبريين‪:‬‬ ‫• الحرية الروحية‬‫أو التحرر من وسطاء التربية التي صارت أمرا واقعا بالفعل في حياة المسلمين والحرية‬ ‫السياسية‬ ‫أو التحرر من أوصياء الحكم‪ :‬وهما علة الانحطاط‬ ‫وهما علته لأنهما يفسدان معاني الإنسانية في النظرية الخلدونية بمعنى أن‪:‬‬ ‫• الفرد يصبح عاجزا عن الإيمان والعمل الصالح‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫• والجماعة تصبح عاجزة عن التواصي بالحق والتواصي بالصبر‪.‬‬‫فلا يكون الفرد قادرا على سياسة ذاته خلقيا وتربوية ولا تكون الجماعة قادرة على‬ ‫سياسة نفسها خلقيا وسياسيا‪.‬‬‫فالتربية تتحول كما يصفها المتصوفة \"تغسيلا\" لميت ويصبح كل فرد خاضعا لمفت يتكئ‬‫عليه فلا يتحمل مسؤولة المكلف بل يختفي وراء وسيط مستبد اعتمادا على التمييز بين‬‫خاصة وعامة في ما هو فرض عين ليجعله فرض كفاية‪ ،‬وتلك هي علة انتشار الجهل والامية‬ ‫وبداية الانحطاط الذي تعاني منه الامة‪.‬‬‫والسياسة تصبح بيد المستبدين الذين يدعون ولاية الامر قلبا لكل معانيها القرآنية‬ ‫سواء‪:‬‬ ‫• بالمشاركة في الحكم (الشوى ‪)38‬‬ ‫• أو بالمشاركة في المعارضة (آل عمران ‪ 104‬و‪)110‬‬‫فيتوقف الامر بالمعروف والنهي عن المنكر ويصبح أعداء الإسلام خلقيا وسياسيا هم من‬ ‫يحكم المسلمين بدلا من حكمهم لأنفسهم‪.‬‬ ‫فالشورى ‪ 38‬تجعل الامر أمر الجماعة‪.‬‬ ‫والشورى ‪ 38‬تجعل إدارته شورى بين الجماعة‪.‬‬‫لكن فقهاء السلطان وأمراء البهتان جعلوا الامر لأولياء الامر الذين لا شرعية لهم في‬‫تمثيل إرادة الجماعة ولا أخلاق لهم للخضوع لإرادتها قلبوا الشورى فجعلوها نصيحة‬ ‫الوسطاء للأوصياء بما لا يضايق أصل البلاء‪.‬‬‫والغريب أن الكثير من هؤلاء \"العلماء\" من صفي علماء السلطان التأصيليين والتحديثيين‬‫المزعومين يدعون أن هذه المعاني مستوردة وأنها ليست من جوهر الإسلام وأنها مؤامرة‬‫ضد \"الممانعين\" وميليشياتهم حتى فضحتهم أمريكا وإسرائيل اللتين ضمنتا وجود السيسي‬ ‫وبشار وحفتر وكل الطغاة العرب‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وانظمت إليهم الثورة المضادة التي تمول حرب أمريكا وإسرائيل وإيران وروسيا على‬‫الإسلام في ذاته على ركنه التاريخي وأساس دولته وحماة بيضته من ا لعرب والترك‬‫والأكراد والأمازيغ والتي صارت خدما لكل دعاية الإسلاموفوبيا في الغرب وتمويل حرب‬ ‫الاستعمار في افريقيا وآسيا وحتى في البلقان‪.‬‬‫لكن قيم القرآن استردت جاذبيتها لأن الشباب أعاد إليها دورها الفعلي في التاريخ بإحياء‬ ‫ثورتيه‪:‬‬ ‫• الروحية للأفراد‬ ‫• والسياسية للجماعات‬‫مع ما فيه منه قيم روحية وخلقية تحرر البشر من عبادة البشر إلى عبادة رب البشر وهو‬ ‫سر الفتح الغني عن استعمال القوة لانتشار القيم بالمثال والقدوة الحسنة‪.‬‬‫حقيقة الرؤية القرآنية أردت التذكير بها لأن شباب الثورة بجنسيه يتقدم عنده العمل‬‫على النظر بسبب حماسة الشباب واندفاعه الدال على العنفوان والحمية الخلقية ما جعل‬‫الثورة رغم تحالف كل اشرار العالم عليها تنتصر بالصمود البطولي‪ ،‬وهي في النهاية سيدة‬ ‫صاحبة اليد الطولى وعدا من لا يخلف‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لم أفرغ من الكلام على \"رؤية القرآن لحمتها وسداها عين كيان الإنسان\"‪ .‬فقد يعاب‬‫علي قولي إن الصحابة فشلوا في حماية الدولة لأنهم تصرفوا بـ\"الثقة\" متصورين وكأن‬‫الامبراطورية الناشئة يمكن أن تساس كما تساس القبيلة بمنطق \"عدل فنام\"‪ .‬وغايتي ليس‬ ‫الذم‪ ،‬بل فهم العلل وقد سبق فبينت فضلهم‪.‬‬ ‫فمقومات دولة الإسلام الكونية الخمسة تحققت لكنها لم تحم‪:‬‬ ‫‪ .1‬الرسالة (نزلت من عند الله)‬ ‫‪ .2‬تكوين الجيل الذي أعد لزرعها في الارض (مرحلة الرسول)‬ ‫‪ .3‬تحديد مركزها الجغرافي (مرحلة الصديق)‬ ‫‪ .4‬تحديد مركزها التاريخي (مرحلة الفاروق)‬ ‫‪ .5‬توحيد المرجعية (مرحلة ذي النورين)‪.‬‬ ‫ثم نضجت الفتنة‪.‬‬ ‫لما قلت \"نضجت الفتنة\"؟‬ ‫يكفي تذكر حادثة السقيفة وتردد الصحابة بين حلين كانت موضوع أخذ ورد‪:‬‬ ‫• العودة إلى القبلية (منا إمام ومنكم إمام)‬‫• أو تقليد الدول التي ما زالت تستعمر أطراف مركز الدولة الناشئة والتي ما تزال‬ ‫هشة أي فارس وبيزنطة‪.‬‬ ‫فمنذئذ كانت الفتنة تنمو فحصل الانقلاب على عثمان‪.‬‬‫وابن خلدون لا يعتبر الخلاف بين الصحابة وحده كافيا لحصول الفتنة بل هو يفسره‬ ‫بأمرين تاريخيا وبأمر أعمق فلسفيا‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫• فأما الأمران التاريخيان فهما طبعا الخلاف بين الصحابة ولكن الأهم منه عدم قبول‬‫القبائل العربية الكبرى حكم قريش التي لم تكن من كبريات القبائل ويقدم هذا على‬ ‫ذاك‪.‬‬‫• وأما الامر الفلسفي العميق فهو طبيعة السياسي الذي يجعل المرحلة الرسولية‬ ‫والراشدة أمرا استثنائيا لا يخضع لمنطق السياسة‪.‬‬‫لذلك فهو يعتبر هذه المرحلة استثناء تاريخيا واعجازا دينيا لا يمكن أن يقاس عليه ما‬‫يحدث بمقتضى طبائع الأشياء‪ .‬وهو يبحث عن شروط تطورها نحو التوازن بين الشرعية‬ ‫والشوكة‬‫لذلك فكلامي على \"الفشل\" في حماية الدولة ليس هدفه استنقاص ما قام به الخلفاء‬‫الأول‪ ،‬بل فهم ما جعل جهدهم هذا الذي حقق الشروط الخمسة يبقى في الأذهان ولم‬‫يتحول إلى مؤسسات تحميه في الأعيان وتحمي خاصة نظام المؤسسات الحامي‪ .‬فالدول تحتاج‬ ‫إلى الشوكة لأن الشرعية وحدها لا تكفي خاصة إذا تآكلت‪.‬‬ ‫فمباشرة بعد حسم مسألة رئاسة الدولة حدثت الردة‪.‬‬‫وهي دالة على أن القبائل التي أسلمت لم تكن مدركة إلى أن الأمر متعلق بدولة ذات‬‫رسالة بل كانت قياداتهم تتصور أن الأمر كله هو خضوع لقوة زعيم توفي ولم يبق لهم التزام‬ ‫مع غيره‪.‬‬ ‫وهذه بداية الفتنة القبلية التي قدمها ابن خلدون على خلاف الصحابة‪.‬‬ ‫فخلاف الصحابة تغلبت عليه الشرعية ‪-‬شرعية الصديق والفاروق‪-‬‬‫لكن خلاف القبائل اضطر الصديق إلى اللجوء إلى الشوكة‪ .‬والشوكة كانت حينها ما‬ ‫تزال قوية ولم يفسدها خلاف الصحابة‪.‬‬‫لكن في الانقلاب الذي اغتيل فيه عثمان كان خلاف الصحابة قد فعل فعله فلم توجد‬ ‫القوة الحامية لرأس الدولة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ذلك أنه لا أحد يمكن أن يصدق أن الجماعة التي جاءت من مصر والعراق واغتالت‬‫عثمان كان يمكن لها أن تنجح لو أن أهل المدينة كانوا حقا متحدين ومستعدين لحماية‬‫الخليفة‪ .‬فإذا لم يكن بينهم من تواطؤ مع هؤلاء فعلى الاقل هم بقوا سلبيين ولم يتدخلوا‬ ‫بصورة تحول دون الانقلاب على الشرعية والاغتيال‪.‬‬‫وحتى أقدم مثالا مع فارق القياس‪ ،‬لو أن الشعب المصري كان بحق مؤمنا بالدولة‬‫الديموقراطية لما أستطاع القلة من الخونة الذي سموا أنفسهم جبهة الانقاذ‪-‬وهم جبنة‬‫الخونة الذين لم نر لهم بعد الانقلاب حسا‪-‬وبعض الخونة من الجيش أن يغيروا مجرى‬ ‫التاريخ في مصر التي كان يمكن أن تصبح مركز الإسلام‪.‬‬‫ما يعني أن تصديق الصحابة لوهم الشرعية المغنية عن الشوكة هي عينها وهم الاخوان‬ ‫الذين زعموا \"سلميتنا أقوى من الرصاص\"‪.‬‬‫اطمأنوا متوهمين أن الثورة اكتملت وأن النظام مستقر ولم يعدوا أو يستعدوا للدفاع‬‫عن الثورة ويكاد يكون ذلك كذلك في جل بلاد الربيع رغم صمود الثورة في سوريا وليبيا‪.‬‬ ‫صحيح أن صمودهما لم يؤت أكله‪.‬‬‫لكن الثورة لم تستسلم ولن تستسلم لأن المطاولة حققت نتيجتين إيجابيتين يغفلهما‬ ‫الكثير من المحللين‪:‬‬‫‪ .1‬وحدت الإقليم بأن جعلت الحرب الأهلية التي كانت بالقوة حول أمور سياسية‬ ‫محلية تصبح حربا أهلية حول خروج الإقليم من الاستثناء شبه خارج التاريخ الحديث‪.‬‬ ‫والامر الثاني وهو أهم‪:‬‬‫‪ .2‬عادت الأمة إلى \"فوهة\" مدفع التاريخ الكوني أعني إلى ما يشبه اللحظة التي‬‫توهم فيها أعداء الإسلام إخراجه من التاريخ‪ .‬وهي عودة لكأنها بدأت بمحو ما حققه‬‫الأعداء منذ وعد بلفور ومشروع سايكس بيكو فأصبح ما ظن قد تم هو رهان اللحظة‬ ‫وموضوع المستقبل الإقليمي‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولكن هذه المرة بصورة أوسع‪:‬‬‫كانت أوروبا هي صاحبة السلطان في العالم لكنها اليوم ليست في وضع أفضل من وضعنا‬‫على الأقل سياسيا‪ .‬فهي مثلنا توجد في كماشة فضلة الامبراطورية السوفياتية‬ ‫والامبراطورية الامريكية‪.‬‬ ‫فهي لا حول لها ولا قوة مثلنا لكن قياداتها ما زالت تعادينا بدل الحلف معنا‪.‬‬‫ويمكن القول إن الكثير من نخبنا التي تدعي الكلام باسم الإسلام لها جزء كبير من‬‫المسؤولية‪ .‬فجلهم جاهلون بما يجري فعلا في العالم وبأن الاقليم كله بفرعية الشرقي (نحن)‬‫والغربي (أوروبا) لم يعد ذا سلطان على نفسه وخاصة على شروط قيامه الاقتصادية‬ ‫والجيواستراتيجية في النظام الجديد‪.‬‬ ‫والنظام العالمي الجديد لم يبق لروسيا ما يتوهمه بوتين من دور رغم عنترياته‪.‬‬ ‫قطباه هما‪:‬‬ ‫• مغول الشرق الاقصى أو الصين‬ ‫• ومغول الغرب الاقصى أو الولايات المتحدة‪.‬‬ ‫وما بقي من العالم هو موضوع تنافسهما‪.‬‬‫أما الشرق الأدنى (نحن) والغرب الادنى (أوروبا) فما زالت قياداتهما تعيش في‬ ‫الماضي‪.‬‬‫لما أسمع بعض الشيوخ يتكلمون على الحرب الصليبية لا أميزهم عن اقصى اليمين‬ ‫الأوروبي الذي يتكلم على الغزو الإسلامي لأوروبا‪.‬‬‫كلاهما ما يزال عيش على نظام عالمي تجاوزه التاريخ وخاصة بعد أن فقدت أوروبا‬‫امبراطورياتها وصارت مستعمرة سوفياتية أمريكية ولا تزال خائفة من روسيا ومحتمية‬ ‫بأمريكا‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫سذاجة شيوخنا المتكلمين على الحروب الصليبية وغباوة اليمين الأوروبي كلتاهما مفيدة‬‫لروسيا وأمريكا حاليا ولكنها مفيدة خاصة للصين وأمريكا‪ ،‬لأني اعتقد جازما أن روسيا لم‬‫يعد لها القوة الكافية ليكون لها دور في النظام العالمي القادم لأنها من العالم الثالث رغم‬ ‫الخردة السوفياتية التي تملكها‪.‬‬‫ويوجد أمران متماثلان كذلك في فرعي الإقليم الأوسط أي الشرق الأدنى والغرب‬‫الادنى هو امكانية عودة أوروبا للتفتت القومي ومرض الأنظمة القبلية العربية التي تدعي‬‫أنها دول وهي دون المحميات منزلة بالمعنى السياسي لأنه مقومات الوجود غير التابع ممتنعة‬ ‫عليها بمقتضى الحجم‪.‬‬‫فعودة أوروبا إلى القومية‪-‬بدأ بالانفصال البريطاني‪-‬سيزيد تبعية الأوروبيين إلى‬‫أمريكا خاصة وقد يمثل فرصة لعودة روسيا إلى أوروبا الشرقية ومرض القومية الذي هو‬‫خدعة في الدول التي تمثل الثورة المضادة عند العرب هي نهاية التجمعات الخمسة التي‬ ‫بنحو ما كان يمكن أن تحقق ما يشبه تكامل أوروبا‪.‬‬‫فتتوا مجموعة الهلال وفتتوا مجموعة الخليج وفتتوا مجموعة النيل وفتتوا مجموعة‬‫المغرب وفتتوا مجموعة القرنين (قرن أفريقيا الصومال وقرن الجزية أي اليمن) ولم يبق‬‫إلا عبث أميرين غبيين يدعيان القومية العربية والعلمانية هم أعدى أعداء العروبة‬ ‫والإسلام وأكثر العرب بداوة وغباوة‪.‬‬ ‫ويوجد تماثل عجيب بيننا وبين أوروبا حاليا‪:‬‬‫• فأقصى اليمين واقصى اليسار الأوروبيين كلاهما يسعى لتفتيت أوروبا من جديد باسم‬ ‫الهويات القومية‪.‬‬‫• واقصى التحديثيين العرب وأقصى التأصيليين العرب اليوم هم أعدى أعداء التكامل‬ ‫العربي‪.‬‬ ‫ولولا الثورة ورد فعلهم عليها لما استعاد الاقليم وحدته ولو سلبا‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وما أسميه الوحدة السلبية هو ما أشرت إليه بأن اللحظة الحالية وبفضل صمود شباب‬‫الثورة بجنسيه أعاد تاريخنا إلى ما يشبه ما كان عليه منذ بداية حركة الانبعاث والنهوض‬‫وترميم الشأن قبل الوقوع في فخ النكوص إلى القوميات والعرقيات والطائفيات التي حررنا‬ ‫منها الإسلام بثورته‪.‬‬‫ففي القرن التاسع عشر بدأت الأمة تفيق من غطيطها وتحاول استرجاع دورها بدأ‬‫بالثورة على الاستعمار وهي ثورة كانت كلها من جنوب شرق آسيا إلى المغرب الأقصى ذات‬‫مرجعية إسلامية بحيث كان زعماؤها لا يعترفون بالحدود التي وضعها الاستعمار بل يقومون‬ ‫بالإيقاظ في دار الإسلام كلها‪.‬‬‫وكانت حركات المقاومة والصمود ضد الاستعمار ومحاولاته ضرب مقومات الذات ‪-‬‬‫العربية والإسلام والتاريخ المشترك والعاصمة الرمزية الواحدة عاصمة الخلافة‪-‬كل ذلك‬‫كان يمثل \"المناخ\" الروحي والقيمي والسياق السياسي الذي نحمد الله أنه قد عاد بفضل‬ ‫الثورة وهو بداية الانتصار‪.‬‬ ‫تلك هي علة تفاؤلي وتلك هي علة تشاؤم الأعداء في الداخل وفي الخارج‪.‬‬‫وما حربهم على السنة عربهم وأتراكهم وأكرادهم وأمازيغيهم في الإقليم إلا لأنهم فهموا‬‫أن الاستئناف قاب قوسين أو أدنى وأن ما كان ممكنا خلال الحرب العالمية الاولى لن يتكرر‬ ‫لأن شباب الأمة استعاد الثقة بالنفس‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لم استنقص دور الصحابة الاول وخاصة الثلاثة الأول‪ ،‬بل كان تنسيب الرؤية التي بلغت‬‫الذروة في الخروج عن رؤية الإسلام باسترجاع الوساطة والوصاية في التحريف الشيعي‬ ‫للإسلام وادعاء وراثة آل البيت للنبوة لكأنهم يقولون باتصال الوحي‪.‬‬ ‫لم تصل السنة إلى ذلك لكنها أضفت على الصحابة هالة زائفة‪.‬‬‫الاعتراف بالفضل لا ينفي تبين الخطأ من الصواب‪ ،‬وإلا فأننا نجرم في حق الإسلام‬ ‫مرتين‪:‬‬ ‫• بتجاهل رفضه لهذا ما وجدنا عليه آباءنا دون تمييز الصواب من الخطأ‬‫• الغاء ثورتيه الروحية (تحريم الوساطة والكنسية في التربية) والسياسية (تحريم‬ ‫الوصاية والاستبداد)‪.‬‬ ‫فالتعلم والأمر بالمعروف فرض عين‪.‬‬‫لكن الوساطة تغني عن التعلم وتعمم الأمية حتى يصبح الوسطاء خاصة والبقية عامة‬‫وهو أمر مناف لثورة الإسلام الروحية التي غايتها جعل التعلم فرض عين وليس فرض‬ ‫كفاية والتعلم يكون من الكتاب ومن العالم في آن كما سنرى‪.‬‬ ‫والوصاية تغني عن الامر والنهي فرض عين لأن شرطه سلطة الشعب‪.‬‬‫فإذا كان الرسول نفسه يذكره ربه بأنه من حيث كونه مربيا \"إنما أنت مذكر\" أي لست‬‫وسيطا بين الله والمؤمنين بل مبلغ رسالة ويذكره بأنه من حيث كونه حاكما \"لست عليهم‬‫بمسيطر\" أي لست وصيا بين المؤمن وشأنه العام بل هو يديره بالشورى وأنت واحد من‬ ‫الجماعة في تشاور معهم‪ ،‬فكيف بغيره؟‬‫فوجد من ادعى ما لم يدعه النبي ونهي عنها نصا في القرآن وناوس بين موقفين أشدهما‬‫تطرفا كذبة آل البيت أصحاب الوساطة الروحية والوصاية السياسية وهي رؤية فارسية‬‫وبيزنطية فرضها استغباء دهاة فارس ويهود الجزيرة على العرب السذج بعد وفاة الإمام‬ ‫ثم كذبة وراثة العلماء للأنبياء عند السنة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فليس للنبي غير التبليغ وحكمة التعليم مع التوكيد على أنه لا يعلم الغيب ومن ثم فليس‬‫عنده ما يمكن أن يرثه العلماء لا ماديا ولا رمزيا غير اخلاق القرآن وهي كلها حق المؤمنين‬‫من حيث هم مؤمنون وليست تركة يرثها العلماء ليكونوا وسطاء ويتواطؤوا مع الأوصياء‬ ‫خروجا عن سنن الإسلام الحقة‪.‬‬‫ولا بد هنا من التذكير أن ابن خلدون يعود إلى ما اعتبره مرحلة مستثناة من سنن‬‫السياسي من حيث هو سياسي ليبين أن النبوة نفسها لا تخرج عن طبائع الأشياء بمعنى أن‬ ‫الله لا يبعث نبيا إلا في منعة من قومه‪.‬‬ ‫ذلك أن الرسالات السماوية أولى من سواها بالاعتراف بسنن الخلق وطبائع الأشياء‪.‬‬‫ولذلك فسياسة الرسول لم تكن معتمدة على الاستثناء الذي يغني عن معرفة سنن‬‫التاريخ والسياسة وطبائعهما بل كان يعلم بها والدليل أنه خاض أكثر من ستين حربا قادها‬‫بنفسه ولم يكن كالذين وراثته من أدعياء الرسوخ في العلم ينتظر المعجزات دون العمل‬ ‫بالأسباب لتحقيق الرسالة التي كلف بتبليغها‪.‬‬‫ولست أبالغ إذا قلت إنه قد توقع الفتنة وأعد لها عدتها عندما قام بعملين يغفل الكثير‬ ‫دلالتهما‪:‬‬‫• فهو اسس لشرعية الدولة الأموية بمجرد أن نسب وظيفتي الدولة لأبي سفيان وابنه‬ ‫معاوية يوم الفتح الاعظم‪ .‬فهو قال من دخل بيت أبي سفيان فهو آمن‬ ‫• وكلف معاوية بكتابة القرآن مع كتبته السابقين‪.‬‬ ‫فهذان البعدان هما بعدا الشوكة والشرعية‪.‬‬‫الامن لا تكفي فيه الشرعية والشرعية لا يكفي فيها القرآن‪ .‬لذلك لا بد من الجمع‬ ‫بينهما‪.‬‬‫وكان الرسول يعلم ‪-‬وابن خلدون يشير إلى معنى العصبية في قريش‪-‬أن أساس الحكم في‬ ‫عصره هو العصبية وخاصة الشرعية فعلم أن دولة الإسلام لن تستقر من دون بني أمية‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والتاريخ أثبت ذلك مرتين‪:‬‬‫• أنها لم تستقر من دون استقرارها وخاصة بعد الاستقلال المطلق من سلطان بيزنطة في‬ ‫عهد عبد الملك‬‫• وأن دولة الإسلام لم تستقر بعدها إلى اليوم لأن ذهاب عصبة العرب الخادمة للإسلام‬‫جعلها تتفكك وتتوالى عليها الغزوات من الشرق والغرب دون أن تصمد وحدتها بعد بني‬ ‫أمية‪.‬‬‫خلافي الأساسي مع قطب ومع الفكر الإخواني علته هذه الخرافة التي تجعلهم يتوهمون‬‫أن تقديس المرحلة الراشدية يلغي أهمية ما تلاها فما ينفى عن هذه ويثبت لتلك كلاهما‬‫خطأ في فهم تاريخ الإسلام وتعامل المسلمين مع طبائع الأشياء التي لا يمكن من دون فهمها‬ ‫التمييز بين الصواب والخطأ فيهما‪.‬‬‫وحتى أشخص الداء فأحدد طبيعته وعلته عرفت المرحلة ليس بمفهوم الملك العضوض‬‫الذي لا ينطبق على المرحلة الأموية بدليل بقاء العلماء مستقلين إلى حدود حصوله بداية‬‫من شروع الدولة العباسية في فرض رؤيتها العقدية على العلماء بل هي عندي مرحلة \"حالة‬ ‫الطوارئ\" في الحروب الأهلية الاربعة‪.‬‬ ‫ولي على ذلك دليلان‪:‬‬‫‪ .1‬لم يتوقف الفتح رغم الحروب الاهلية الأربعة‪-‬بين الخليفة الرابع وأم المؤمنين‬‫وبينه وبين معاوية وبين ابنيهما وبين عبد الملك وابن الزبير‪-‬فكانت الدولة إذن في حالة‬‫طوارئ حدت من ا لحريات وعطلت العمل ببعض بنود الدستور الإسلامي بمعنى أن البيعة‬ ‫صورية والحكم وراثي‪.‬‬‫وعلماء السنة دون أن يقبلوا هذا الامر الواقع وجدوا طريقة لعدم الصدام مع الدولة‬‫التي لم تتدخل في الحرية الروحية فاعتبروا ما يحدث من باب الضرورة التي تبيح‬‫المحظور‪-‬حالة الطوارئ‪-‬فبقيت الحريات في الاقوال على الاقل فلم يعتبروا التغلب أساسا‬ ‫شرعيا للحكم إلا بمنطق الضرورة الموقتة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ولا أنفي أن الحرب بين العلويين والأمويين أدت إلى تطرفين بين متشبثين بشرعية لا‬‫يقرها الإسلام (الوساطة والوصاية أو التربية بتواصل الوحي والحكم بالحق الإلهي)‬‫ومتشبثين بالشوكة فعليا بالشرعية التي يقرها القرآن قوليا دون تطبيقها فعليا (الوساطة‬ ‫بوراثة العلماء للأنبياء والوصاية بالشوكة)‪.‬‬‫لكن ذلك كان من أعراض الجوهر السياسي الذي كان جاريا فعليا في المائة وعشرين سنة‬ ‫الأولى من تاريخ الإسلام‪.‬‬‫‪ .2‬أما الدليل الثاني فهو مسعى الخلافة الاموية مباشرة بعد الاستقرار أي بعد ابن‬‫عبد الملك محاولة الراشد الخامس إلغاء حالة الطواري والعودة إلى الشرعية الإسلامية في‬ ‫سلوك الدولة‪.‬‬‫لكن ذلك فشل إذ لم تدم محاولته أكثر من سنتين ثم انفرط العقد وعادت العصبية‬‫الجاهلية ولم تتوقف الحروب الاهلية في الدولة التي قضت عليها مؤامرات الدعوة العباسية‬‫بالاسم والفارسية بالفعل والبقية معلومة وها نحن نراها تتكرر والعرب فاغرون أفواههم‬ ‫تابعين لذراعي الاستعمار إيران وإسرائيل‪.‬‬‫عادت العرب إلى القبلية وصراعاتها وهم كذلك مباشرة بعد ذهاب الجيل الاول من‬ ‫الصحابة رغم محاولات الصمود الذي مثلته الدولة الاموية‪.‬‬‫انهار دورهم ومنذئذ وهم خارج التاريخ رغم اللحظة القصيرة في الأندلس والدولة‬ ‫الأموية الثانية‪ .‬ولولا الأتراك والأكراد والأمازيغ لما بقيت للإسلام دولة‪.‬‬ ‫ذلك أن الدول تنهار بمجرد انهيار المركز‪.‬‬ ‫والمركز هو هذا الاقليم الذي هو رهان الصراع الحالي‪:‬‬‫أي المشرق والمغرب بشعوبه السنية الاربعة أعني العرب بداية والاتراك غاية وبينهما‬‫الاكراد والامازيغ‪ .‬ولست أستنقص دور الشعوب الإسلامية الاخرى لكنها ليست هي المركز‬ ‫من دولة الإسلام‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ولست بحاجة لاستدلال طويل لأثبات هذا المعنى‪ :‬فكون الأعداء بصنفيهم (الذراعان‬‫إيران وإسرائيل) وبسند الذراعين (روسيا وأمريكا) يركزون على هذا الإقليم دليل كاف‬ ‫ومفحم لكل من يجادل في هذه الحقيقة‪.‬‬‫وليس الأمر ابن اليوم فهو بدأ منذ نزول القرآن إلى اليوم بتوالي شعوب الغرب على‬ ‫قيادته ضدنا‪.‬‬‫وما قلته عن خلافي مع قطب والاخوان حول تأويل مراحل تاريخ الإسلام لا ينفي أني‬‫أفضل قراءتهم المتعلقة باستعادة الوظيفة السياسية والاجتماعية إلى الإسلام على تخريف‬‫رضوان السيد الذي يسمي الإسلام السياسي مجرد إحيائية يعيبها عليهم دفاعا عن التقاليد‬ ‫التي جعلت الإسلام مقصورا على قشور التعبد‪.‬‬‫فهذا الموقف يمكن الدجالين من العيش في بلاطات الأمراء المستبدين والفاسدين ولا‬‫يرى من الدين إلا ما حدده به ماركس مجرد أفيون للشعوب حتى تنام فيتمتع الفسقة من‬‫العلماء والأمراء بدعوى أنهم أولو الامر في الفكر للأولين وفي الحكم للثانين وترك الإسلام‬ ‫والمسلمين للذل والمهانة تابعين‪.‬‬‫فلا وجه للمقارنة بين قطب ومفكري الإخوان رغم خلافي معهم الذي ذكرت وبين طبالي‬‫المستبدين اللاهثين وراء من يدفع أكثر العابدين لبعدي العجل معدنه وخواره في خدمة‬‫الاستبداد والفساد ورهن البلاد واستعباد العباد حتى تبقى الأمة تابعة ذليلة بدلا من أن‬ ‫تكون كما أرادها الله شاهدة على العالمين‪.‬‬‫شباب الثورة بجنسيه بوعي أو بغير وعي وإن شاء الله سيصبح جميعهم بوعي ذي أعماق‬‫تاريخية ضاربة في القدم وذي أبعاد حضارية ضاربة في الحداثة وجبر الكسر فأصبح بوسعهم‬ ‫قراءة التاريخ قراءة سوية‪:‬‬ ‫• لا تقدس ماضيا دون نقد‬ ‫• ولا حاضرا دون تحرر‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫• ولا مستقبلا دون سيادة حماية ورعاية‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook