Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore ضمائر مستحيلة، أو المسلمات الضمنية لعلم الكلام الجديد - أبو يعرب المرزوقي

ضمائر مستحيلة، أو المسلمات الضمنية لعلم الكلام الجديد - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2019-03-31 20:33:08

Description: ضمائر مستحيلة، أو المسلمات الضمنية لعلم الكلام الجديد - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫أو المسلمات الضمنية لعلم‬ ‫الكلام الجديد‬ ‫الأسماء والبيان‬



‫المحتويات ‪1‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪8 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪15 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪21 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪28 -‬‬

‫‪--‬‬ ‫حضرت أمس الأول (الخميس ‪ )2019.01.17‬محاضرة الصديق عبد الجبار الرفاعي الذي‬ ‫نزل ضيفا على قسم العلوم الإسلامية في بيت الحكمة حول نظرية الوحي بين الدهلوي (من‬ ‫كبار علماء السنة في القرن ‪ )18-12‬وشبستري (من متكلمي التشيع معاصر لا يزال حيا‬ ‫يرزق)‪ .‬وكان مدار الإشكال علاقة الوحي بالتاريخ وظرفياته‪.‬‬ ‫وفي الحقيقة‪ ،‬فالإشكال الأعمق الذي جعل الدكتور عبد الجبار مداره حول الوحي‬ ‫والتاريخ إن صح التعبير (تاريخ ظرفيات التعين الفعلي للرسالة) هو رؤية ما يسمى بعلم‬ ‫الكلام الجديد‪.‬‬ ‫وقد سبق لي أن بينت أن علم الكلام الجديد بدأ في الفلسفة الغربية بعد أن نكص بها‬ ‫هيجل إلى ما قبل كنط وخاصة إلى علم الكلام القديم عندما جعل مدار فلسفته بكل أبعادها‬ ‫وليس فرعها المتعلق بفلسفة الدين إحلال الإلهي في الإنساني برمز المسيح (راجع في ذلك‬ ‫مقدمتي ترجمتي لدروسه في فلسفة الدين وكذلك خاصة محاضرتي في المقارنة بين موقفه‬ ‫وموقف ابن رشد من أدلة وجود الله)‪.‬‬ ‫ففلسفة هيجل كلها بما في ذلك منطقه الذي هو ميتافيزيقاه ترجمة فلسفية لطبيعة الرؤية‬ ‫المسيحية التي تعتبر المسيح ابن الله والإلهي حالا في الإنساني أمرين كلاهما يعتبرهما‬ ‫الإسلام تحريفا لأن المسيح فيه إنسان رسول وعبد من عباد الله وليس إلها ولا إبن إله (آل‬ ‫عمران ‪ .)79‬فعلم الكلام الجديد متأثر بالهيجلية ومن ثم فهو مشروط بتمسيح الإسلام‬ ‫وهو يؤول إلى الانتقال من تحديد علاقة الإنساني بالأهلي من رؤية الاستخلافية إلى‬ ‫الرؤية الحلولية‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى‪ ،‬فله أساس ذاتي في الثقافة الإسلامية إذ هو قد بدأ مع التصوف المتفلسف‬ ‫وهو بنحو ما شديد القرب من التشيع بتوسط الأيمة الذين لهم دور المسيح‪ .‬وليس هذا ما‬ ‫يعنيني‪ ،‬بل التفسير الفلسفي لمثل هذه الرؤية التي أردها إلى رؤيتين‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪1 .1‬ابتسمولوجية (نظرية المعرفة المطابقة أو رد الوجود إلى الإدراك ما يعني توهم‬ ‫العلم المحيط ونفي الغيب المعرفي)‬ ‫‪ .2‬وأكسيولوجية (نظرية القيمة المطابقة أو التحسين والتقبيح العقليين ما يعني العمل‬ ‫المحيط ونفي الغيب القيمي‪ :‬ما نظنه خيرا وهو شر وما نظنه شرا وهو خير)‪.‬‬ ‫والمسألة عند هيجل هي بنحو ما جوهر التطابق بين فلسفة التاريخ وفلسفة الدين لأن‬ ‫التاريخ من حيث هو محكوم بأرواح الشعوب يرد إلى الدين الذي هو العبارة الحقيقية عن‬ ‫أرواح الشعوب رغم أنها متعينة في كل أقوالها وأفعالها فيكون الدين هو خلاصتها وجوهر‬ ‫الروحي فيها‪.‬‬ ‫وتلك هي الإشكالية التي تعنيني في المقام الأول والتي سأتكلم فيها ولن أتكلم إلا فيها‪.‬‬ ‫وقد عالجت الموضوع في كلامي على هيجل لكن ما يعنيني في المحاولة ليس هيجل بل أمران‪:‬‬ ‫‪ .1‬إذا كان يمكن لهيجل أن يفلسف الرؤية المسيحية لمفهوم المسيح وعلاقته بالرب‪-‬الابن‬ ‫الشفيع‪-‬فكيف يمكن لمسلم أن يفلسف القرآن بما يماثل ذلك فيلغي مفهوم الاستخلاف‬ ‫ويعوضه بما يجعل الإنسان وكأنه \"ابن الله\" أو المسيح؟‬ ‫‪ .2‬وهل القائلون بما يسمى كلاما جديدا مدركون بأن شرطه تمسيح الإسلام بهذا المعنى‬ ‫الذي يعتبره تحريفا كما هو بين من آل عمران ‪79‬؟‬ ‫والأمر الأول إذن متعلق بطبيعة القرآن والأمر الثاني متعلق بطبيعة القائلين بالكلام‬ ‫الجديد‪ .‬وسأبدأ بالأمر الثاني‪ .‬وهو ما يعلل استعمال الأستاذ عبد الجبار الدهلوي ممثل‬ ‫غاية ما وصل إليه التصوف المتفلسف في العصر المتأخر من الفكر الصوفي‪-‬الذي يفضل‬ ‫تسميته بالاصطلاح الشيغي بالعرفان النظري‪.‬‬ ‫لكن الكلام الجديد لا يصدر عن الفلسفة الهيجلية وحدها بل له مصدر قديم هو الذي‬ ‫عاد إليه هيجل كما بينت في غير موضع‪ .‬فما نسميه كلاما جديدا له مصدران‪:‬‬ ‫‪ .1‬قديم هو التصوف المتفلسف هو سابق على هيجل الذي كان هو نفسه متأثرا بالتصوف‬ ‫المتفلسف (من له دراية بتكوينية فلسفته يتبين له ذلك)‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬وحديث ترتب على فلسفة هيجل التي بنت عليه رؤية التاريخ بوصفه عين تحقق أرواح‬ ‫الشعوب أي عين مرحل تعين الروح الكلي‪.‬‬ ‫واختبار الدهلوي وشبستري موفق إلى حد كبير لكونه يمثل هذين المصدرين‪:‬‬ ‫• مصدر التصوف المتفلسف‬ ‫• ومصدر الفلسفة المتصوفة إن صح التعبير‪.‬‬ ‫وكلاهما يبدوان لي طبيعيين في رؤية شيعية لكنهما لا يمكن أن يقبل بهما الفكر السني‬ ‫إذا كان فكرا حقا وكان بالطبع يعلم علة ما لا يمكن أن يطابق رؤية القرآن‪ .‬ولست أنفي‬ ‫سنية الدهلوي بل سنية التصوف المتفلسف لما سنرى من العلل‪.‬‬ ‫وقبل أن أعلل هذا الحكم الذي يبدو مبنيا على التمييز الحاسم بين الرؤيتين السنية‬ ‫والشيعية دينيا وفلسفيا ما يعني أنهما رؤيتان لا يمكن أن تلتقيا لا دينيا ولا فلسفيا لا بد‬ ‫أن أذكر ما اعترضت به مساء الأمس على موقف المتكلمين الجدد وعلاقتهما بالتصوف‬ ‫المتفلسف في العلاقة بين القرآن والتاريخ وأنه ليس مبنيا على حجج دينية بل على حجج‬ ‫فلسفية خالصة تسليما بهذا الفصل لكونه من شروط موقف المتكلمين الجدد لأن ما منه‬ ‫يستمدون الأرخنة والدوننة يزعمون أنه نتيجة حتمية لمنظور الفلسفة والعلوم الحديثة في‬ ‫الدين‪.‬‬ ‫كان اعتراضي متعلقا بضمائر هذا الموقف المؤرخن للوحي بمعنى اعتباره استجابة للظرفيات‬ ‫التي نزلت فيها الرسالة ولحياة النبي نفسه وشعبه ولغته وخاصة اعتبار النبي مترجم للوحي‬ ‫بلسان قومه ‪-‬كما يرى الشيخ المتألمن‪ -‬وقد حصرتها في خمسة ضمائر مسكوت عنها من‬ ‫أصحاب الكلام الجديد والتصوف المتفلسف‪.‬‬ ‫وقدمت لاعتراضي بأني مستعد للقبول برؤى المتكلمين الجدد والتصوف المتفلسف أي‬ ‫مصدري أرخنة الوعي ودوننته (رد ما ليس بدنيوي إلى الدنيوي) إذا أثبتوا لي أنهم‬ ‫واعون بهذه الضمائر وقادرون على إثباتها بأي طريقة شاءوا‪ ،‬منطقية أو نقلية‪ ،‬أي‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بنصوص من القرآن‪ .‬ولا يمكنهم ادعاء اللدنية حتى لو سلمناها لهم لأنها تتنافى مع دعواهم‬ ‫الأرخنة والدوننة‪.‬‬ ‫ولما كنت لا أومن بوجود علم لدني أو عرفاني بلغة صوفية متفلسفة‪ ،‬فإنـي مستعد لأن‬ ‫اثبت بالاستدلال العقلي والنقلي أنها أوهام أو حيل لتأسيس سلطة روحية وسلطة سياسية‪.‬‬ ‫وهذان الاستدلالان هما الطريقتان الوحيدتان الممكنتان للتواصل بين البشر لأن اللدني‬ ‫حتى لو سلمنا بوجوده فهو وجداني ولا ينقال (ابن خلدون‪ :‬شفاء السائل)‪.‬‬ ‫فما هي الضمائر المسكوت عنها في رؤية المتكلمين الجدد وهي شارطة لموقفهم حتما؟‬ ‫وأبدأ بأكثرها بداهة‪:‬‬ ‫‪ .1‬هل العالم الدنيوي والتاريخي فيه ما يثبت أنه الوحيد الموجود بحيث ينفي إمكان‬ ‫وجود غيره حتى من باب الفرض شديد الاحتمال؟ وأثني بشرطه‪.‬‬ ‫‪ .2‬هل يوجد في علمنا بالغا ما بلغ ما يثبت أنه مطابق لحقيقة الوجود الخارجي حتى في‬ ‫هذا العالم الدنيوي أو في عالم الشهادة؟‬ ‫ثم‪:‬‬ ‫‪ .3‬عن أي وحي نتكلم؟‬ ‫فالقرآن لم يقصر الوحي على الأنبياء والرسل بل الله يوحي للنمل والنحل والرجل‬ ‫والمرأة والطفل والشيخ فهل الوحي للنمل والنحل مثلا يخضعان لظرفيات الإيحاء خضوع‬ ‫الوحي الذي يتلقاه الأنبياء ويترجموه بلغة قومته وعاداتهم حتى لو سلمنا بالبسط والقبض‬ ‫الشبستري؟‬ ‫ثم‪:‬‬ ‫‪ .4‬هل الوحي الذي يتلقاه النبي يتعلق بمضمون يأتي به الوحي أو بإحالة على مضمون‬ ‫موجود في كيان الإنسان لأن القرآن لم يقل إن النبي يقدم شيئا نزل عليه مضمونيا بل‬ ‫طلب منه أن يذكر الإنسان بما فيه مفطورا وحدده القرآن بكونه عقدا بين أبناء آدم وهو‬ ‫في ظهور آبائهم (الأعراف ‪.)173-172‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وأخيرا‪:‬‬ ‫‪ .5‬هل القرآن فيه علم بالغيب يحتاج إلى ترجمة نبوية فيكون النبي وسيطا بين كلام الله‬ ‫والإنسان المخاطب به أم إن الكلام بنوعيه القديم والجديد والتصوف الفلسفي يخلط بين‬ ‫الإعلام بوجود الغيب والعلم بمضمونه ما يعني أن مفهوم الرسالة يصبح مستحيلا فضلا عن‬ ‫كون النبي ينفي علمه بالغيب‪.‬‬ ‫لما كنت واثقا من أن هذه الاعتراضات لا يمكن الرد عليها لا عقلا ولا نقلا وكنت لا أقبل‬ ‫غيرهما لأني اعتبر اللدنية من أكاذيب موظفي الدين ليستمدوا منه سلطانا على الناس‬ ‫بإيهامهم أنهم يعلمون الغيب انتهيت إلى النتيجة التالية‪:‬‬ ‫الكلام الجديد والتصوف المتفلسف هدفه النكوص دون ثورتي الإسلام الروحية والسياسية‬ ‫حتى يؤسس للوساطة في الأولى والوصاية في الثانية‪.‬‬ ‫وثورتا الإسلام تلخصها آية واحدة لا يمكن أن يجادل فيها ذو عقل‪\" :‬فذكر إنما أنت مذكر‬ ‫\" وهي الثورة الأولى أو ثورة الحرية الروحية المخلصة للإنسان من الوسطاء \"لست عليهم‬ ‫بمسيطر\" هي الثورة الثانية أو ثورة الحرية السياسية المخلصة للإنسان من الأوصياء‪.‬‬ ‫\"فإنما\" حاصرة وهي تلغي كل وساطة بين الإنسان وربه‪ .‬فالنبي يذكر بما فطر عليه الإنسان‬ ‫ومن ثم فهو لا يأتي بمضمون غير ما يجده الإنسان بالتذكر‪.‬‬ ‫وهذا كاف لتحرير الإنسان من وساطة روحية بينه وبين ربه ومن ثم فهو ملغ للمرجعيات‬ ‫التي تدعي سلطة روحية عليه‪ .‬وسنرى ما الذي يتعلق به التذكير أو القصد بما هو مرسوم‬ ‫في فطرة الإنسان وينساه فيكون دور الرسالة تذكيرا به وليس إتيانا بمضمون جديد غير‬ ‫سابق الوجود في كيان الإنسان‪.‬‬ ‫وغني عن البيان أنه من السخف تصور الله يرسل رسالة إلى البشر ويضع فيها ما لا يمكن‬ ‫أن يعلموه إذ القرآن ينفي صراحة علم الإنسان بالغيب فينتج من ثم أن القرآن من حيث‬ ‫هو رسالة تذكير للبشر بما يوجد فيهم لا يذكرهم بما لا يستطيعون تذكره وإذن فليس فيها‬ ‫غيب أصلا بل فيه إعلام بوجوده حدا لعلم الإنسان فيكون علم الإنسان وعمله محدودين‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بـالغيب‪ .‬لا يذكر القرآن الإنسان إلا بما يستطيع علمه وعمله حتى يكون التكليف‬ ‫بالمستطاع‪.‬‬ ‫وسنرى كيف حدد القرآن ما يستطيع الإنسان علمه (فصلت ‪ )53‬وحدد ما لا يستطيع علمه‬ ‫(آل عمران ‪ )7‬لكن الفقهاء والمتصوفة والمتكلمين والفلاسفة والمفسرين عكسوا تماما‬ ‫فأهملوا المأمور به واهتموا بالمنهي عنه وهو ما جعل علوم الملة الغائية الخمسة كلها تحريفا‬ ‫للإسلام مائة في المائة‪.‬‬ ‫وهنا آتي إلى علة العلل‪ :‬الهدف هو تأسيس سلطة روحية بين الله والإنسان أو بين القرآن‬ ‫والإنسان‪ .‬فلا يكون القرآن خطابا مباشرة يوجهه الله للمؤمنين بل جعلوه مقتضيا وسطاء‬ ‫جعلا كان صريحا جزءا من العقيدة عند الشيعة وهو ضمني حتى ولو لم يصبح جزءا من‬ ‫العقيدة عند السنة في عبارة \"ورثة الأنبياء\"‪.‬‬ ‫ليس للأنبياء ورثة لا في الثروة ولا في التراث‪ .‬هذه من الاكاذيب التي افسدت على‬ ‫المسلمين أحد فروض العين فجعلته فرض كفاية خلطا بين التخصص الذي يقتضيه التعليم‬ ‫وبين الوساطة الروحية التي ينفيها القرآن‪ .‬العالم معلم يذكر وليس وسيطا روحيا يمثل‬ ‫إرادة الله‪ :‬فكل نفس بما كسبت رهينة‪.‬‬ ‫ونمر الآن إلى الثورة الثانية وهي ثمرة الثورة الأولى وغايتها‪ :‬لم يكتف القرآن بالقول‬ ‫\"إنما أنت مذكر\" وهي الثورة الأولى بل أضاف \"لست عليهم بمسيطر\"‪ .‬وهذه لا تتعلق‬ ‫بالوساطة بل بالوصاية‪ .‬وهي النكوص الثاني الذي تحقق صراحة في التشيع وضمنا في‬ ‫التسنن‪ :‬الأيمة عند الشيعة جزءا من الأمر الواجب في العقيدة وأولي الأمر عند السنة‬ ‫جزءا من الأمر الواقع في الشريعة‪ .‬وما هو أمر واجب عند الشيعة غير حاصل في الأمر‬ ‫الواقع بسبب الغيبة‪ .‬وما هو أمر واقع عند السنة غير الواجب غير الحاصل بسبب التغلب‪.‬‬ ‫لكن إذا كان الرسول ليس مسيطرا أي ليس له سلطان \"زماني\" على المؤمنين وليس له‬ ‫سلطان \"روحاني\" عليهم فالقول بالوسيط في التربية وبالوصي في الحكم كفر بالقرآن‪ .‬وهو‬ ‫نكوص إلى نظامي التربية والحكم في المجتمعات المتقدمة على الإسلام والتي لا تعتبر الفرد‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫في علاقة مباشرة مع ربه‪ .‬وهذه العلاقة المباشرة مع الرب روحية وسياسية‪ .‬فهي روحية‬ ‫وسياسية تحررا‪:‬‬ ‫‪ .1‬روحيا من الوساطة في التربية لأن الله أقرب إلى الفرد من حبل الوريد‪.‬‬ ‫‪ .2‬وسياسيا من الوصاية في الحكم لأن الشورى ‪ 38‬تجعل الأمر أمر الأمة‪.‬‬ ‫والأمة تعرف بكونها مؤلفة ممن استجابوا لربهم في إدارة أمرهم بالشوري بينهم ولا حاجة‬ ‫لوصي عليهم سواء كان إماما (تشيع) أو ولي أمر(تسنن)‪.‬‬ ‫من ينوب الأمة فرض كفاية ليس هو ولي أمر بل هو نائب صاحب الأمر الذي هو الأمة‪.‬‬ ‫فالانشغال بالأمر فرض عين‪ .‬وهو عين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (آل عمران ‪)104‬‬ ‫شرطا في كون الإنسان منتسبا إلى الخيرية (آل عمران ‪ .)110‬فيكون من تنوبه الأمة مجرد‬ ‫أجير عندها قيما مؤقتا على الأمر فرض كفاية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أبدأ الفصل الثاني بسؤال كان ينبغي أن يجيب عنه المتكلمون جديدهم وقديمهم ومثلهم‬ ‫التصوف الفلسفي‪:‬‬ ‫هل ينطلقون في كلامهم على الوحي في الرؤية القرآنية من الوحي كما يعرفه القرآن؟‬ ‫أم هم يأتون إليه ليؤولوه بما يطابق رؤاهم المستمدة من خارجه سواء كانت دينية أو‬ ‫فلسفية درس القرآن تحريفاتها؟‬ ‫وهل يميزون بين الإعلام بوجود الغيب بوصفه مفهوما حدا مفاده أن علم الإنسان نسبي‬ ‫وليس محيطا والعلم بالغيب الذي يفيد العكس تماما بمعنى أن علم الإنسان غير نسبي‬ ‫ومحيط؟ كل قارئ نزيه للقرآن لا يجد المعنى الثاني فيه بل كل ما يجده هو المعنى الأول‬ ‫فضلا عن كون الثاني منافيا لمعنى التراسل‪.‬‬ ‫كيف يمكن أن يكون القرآن رسالة ورسالة خاتمة ثم يتضمن التناقض المطلق‪ ،‬فيحتوي‬ ‫على ما ينافي معنى الرسالة أي إنها تأتي بما لا يمكن للمرسل إليه أن يعلمه وأن يفهمه؟‬ ‫فإذا كان المرسل مطلق الصفات فلا يمكن أن يوجد فيه مثل هذا العيب فيرسل رسالة‬ ‫منافية لذاتها تعلم الإنسان بحجب الغيب وتتضمنه؟‬ ‫القرآن رسالة خاتمة‪:‬‬ ‫فيها‪:‬‬ ‫‪ .1‬مرسل هو الله‬ ‫‪ .2‬ومرسل إليه هو الإنسان‬ ‫‪ .3‬ورسول حدد دوره بكونه إنما هو مذكر وظيفته تبليغ التذكير بما يوجد في كيان‬ ‫الإنسان‬ ‫‪ .4‬وهذا هو مضمون الرسالة‬ ‫‪ .5‬بمنهج تبليغ حددته سورة الإسراء في آيتها ‪ :106‬فرآنا فرقناه لتقرأه على الناس‬ ‫على مكث ونزلناه تنزيلا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فيكون المذكر في الحقيقة هو القرآن وليس الرسول‪ :‬لأنه هو الذي سيقرأه على الناس‬ ‫على مكث وهو مذكر بهذا المعنى أي الصوت الذي يقرأ الذكر أي القرآن‪.‬‬ ‫ويصبح السؤال هو‪ :‬كيف يذكر القرآن بما ينبغي أن يكون موجودا قبل التذكير في محل‬ ‫ما وليس في الذكر ذاته الذي هو فعل إشارة لما يذكر به؟‬ ‫ما يذكر به القرآن ليس في نصه بل في المحل الذي غفل الإنسان عن تجلي آيات ربه فيه‪.‬‬ ‫وتلك هي الآيات التي يذكر بها القرآن‪َ {:‬سنُ ِريهِ ْم آيَا ِت َنا فِي ا ْلآ َفا ِق وَفِي َأن ُف ِسهِمْ حَ ّتَ ٰى‬ ‫يَتَبَيَّ َن َل ُه ْم أَ َّنهُ الْحَ ُقَّ ۗ أَوَ َلمْ َي ْكفِ ِبرَ َّبِ َك أَنَّهُ عَلَ ٰى كُ ِّلَ شَيْءٍ َشهِي ٌد }(فصلت ‪.)53‬‬ ‫فإذا فهمنا أن القرآن يعتبر تبين أنه الحق لا يستنتج من شرح ألفاظه‪-‬وهو ما يرد إليه‬ ‫مضمون التفاسير كلها‪-‬بل مما يرينه من آياته في الآفاق وفي الأنفس فمعنى ذلك أن الآفاق‬ ‫والأنفس هي المحل الذي تتجلى فيه الآيات وأن الآيات غير هذا المحل وهي من ثم ما هو‬ ‫ثابت فيهما من نظام قيامهما‪.‬‬ ‫ونظام القيام أو الآيات التي تتجلى في الآفاق وفي الأنفس هو مادة كل استدلال قرآني‬ ‫سواء كان بأسلوب الاستدلال المفهومي ذي البنية المنطقية أو الدرامي ذي البنية القصصية‬ ‫(وهما أسلوبا القرآني) بحيث إن المعجزة القرآنية ليست معتمدة على خرق العادات بل‬ ‫على نظام لا يتحول وفوق التاريخ‪.‬‬ ‫ولا يعني ثبات هذا النظام الذي تمثله آيات الله في الآفاق وفي الأنفس وعدم تحوله في‬ ‫ذاته أن علمنا به ثابت وغير متحول لأن علمنا كما يؤكد على ذلك التذكير القرآن اجتهادي‬ ‫وهو نسبي وغير محيط ومن ثم فهو مجال البحث الذي لا يتوقف مهما طال عمر الإنسانية‬ ‫ثم هو ليس موجها إلى البشر وحدهم‪.‬‬ ‫فجميع الكائنات والمخلوقات أمم مثلنا والخطاب موجه إليها ليذكرها بما يناسبها من نظام‬ ‫الآفاق والانفس أو من آيات الله فيهما آياته التي تبين أن القرآن هو الحق بشهادة الله‬ ‫نفسه كما في الآية‪ .‬وهذا هو الوحي الموجه إلى جميع الموجودات كل بحسب نوع تلقيها‬ ‫للرسالة التي هي آيات الله فيهما‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ونظام القيام في الآفاق والانفس أو آيات الله المتجلية فيهما حدد القرآن طبيعته بالنسبة‬ ‫إلى الآفاق وإلى الأنفس‪ .‬وهو مخمس الأبعاد اثنان للآفاق واثنان للأنفس وأصلها جميعا‪.‬‬ ‫فالآفاق نوعان‪ :‬الطبيعة والتاريخ‪.‬‬ ‫‪ .1‬فالطبيعة والقرآن قال إنها خاضعة لنظام رياضي مطبق على ما تدركه الحواس‬ ‫منها (كل شيء خلقناه بقدر)‪ .‬وهذا هو نظام الخلق‪.‬‬ ‫حدد القرآن طبيعة النظامين لكنه لم يمدنا بأي قانون محدد للطبيعة وأي سنة محددة‬ ‫للتاريخ رغم كلامه على مثلهما العليا وإرشاده بتعيين طبيعتهما والتوكيد على ثبات نظامهما‬ ‫دون نفي للتغير إذ الثابت في التغير هو نظامه‪ :‬قوانين وسنن‪ .‬لذلك فخرافة الإعجاز‬ ‫العلمي بمعنى قوانين أو سنن محددة قابلة للصوغ في عبارات يصح وصفها بكونها علمية‬ ‫بالمعنى العلمي الذي لا يمكن أن نصل إليه بغير البحث العلمي قول مناف للقرآن تمام المنافاة‬ ‫لأن ذلك يعني أن الإنسان ليس مكلفا بطلب العلم بل يكفيه معرفة العربية‪.‬‬ ‫لو كان القرآن مدونة قوانين علمية لكان معنى ذلك يدعوا المؤمنين لعدم القيام بالبحث‬ ‫العلمي والاكتفاء بشرح الفاظ القرآن السقيم الذي يعتمده أصحاب الأعجاز وهو من أدلة‬ ‫الكسل والسخف والدجل‪ .‬وإذا كان نظام الأفق الطبيعي رياضيا تجريبيا فما هو نظام‬ ‫الأفق التاريخي للموجودات عامة وللإنسانية خاصة‪.‬‬ ‫ولا بد هنا من الرد على اعتراض وجيه‪ :‬ما أقدمه هنا أليس هو علما مستمد من القرآن؟‬ ‫والجواب يستمد من ضرورة التمييز بين الإشارات الرؤيوية والعلم‪ .‬فالإشارات‬ ‫الرؤيوية تتعلق بشروط العلم والعمل وليست علما ولا عملا‪ .‬فعندما أتكلم عن النظر‬ ‫والعقد من حيث هما تجهيز متقدم على الشروع في العلم وعن العمل والشرع من حيث هما‬ ‫تجهيز متقدم على الشروع في العمل وعن طبيعة الظاهرات الطبيعية وعن طبيعة‬ ‫الظاهرات التاريخية فالكلام ليس علميا بل رؤيويا مشروط في الشروع في العلم والعمل‪.‬‬ ‫ولو لم يكن ذلك كذلك لاستحال الاكتساب العلمي أو العملي أصلا والشروط الرؤيوية‬ ‫هي ما يتجلى للإنسان من ذاته ومن محيطه بمجرد لقائه بهما في ما يمثل شروط قيامه‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫العضوي والروحي‪ :‬لا يمكنه أن يتعامل مع الطبيعة ومع التاريخ من دون أن يكون لهذا‬ ‫التعامل دور المذكر بما فيه من تجهيز شارط للتعامل وبما فيها من طبائع شارطة لسد الحاجات‬ ‫التي فيه‪ .‬وتلك هي آيات الله في الآفاق والأنفس المؤسسة للبحث العلمي والعملي في حياة‬ ‫البشر أعني لما نتبين به أن القرآن حق‪.‬‬ ‫‪ .2‬والتاريخ قال القرآن إن نظامه سنن خلقية وتطبيقاتها سياسية وهي سنن لا تتبدل‬ ‫ولا تتحول لكن علمنا لها تاريخي ونسبي دائما‪ .‬وهذا هو نظام الأمر‪.‬‬ ‫والآن ما هما نظاما الأنفس؟‬ ‫إنهما ما جهز به الإنسان لكي يذكر ذينك النظامين‪.‬‬ ‫‪ .3‬فلا يمكن للإنسان أن يعلم نظام الطبيعة إذا لم يكن مجهزا بالنظر (الرياضيات‬ ‫والتجربة)‪.‬‬ ‫‪ .4‬ولا يمكن أن يعلم نظام التاريخ إذا لم يكن مجهزا بالعمل والشرع (الأخلاقيات‬ ‫والسياسة)‪.‬‬ ‫فما هو أصل هذه النظم الأربعة؟‬ ‫أصل هذه النظم الاربعة (اثنان للآفاق الطبيعية والتاريخية‪ ،‬واثنان للأنفس أو لتجهيز‬ ‫الإنسان حتى يكتشف نظام الأفق الطبيعي خارجه وفيه وحتى يكتشف نظام الأفق‬ ‫التاريخي خارجه وفيه) يحدده القرآن بوصفه عين مهمتي الإنسان في الوجود‪:‬‬ ‫‪ .1‬مستعمر في الأرض‪.‬‬ ‫‪ .2‬بقيم الاستخلاف فيها‪.‬‬ ‫كل القصة هي إذن قصة الاستخلاف والاستعمار في الأرض‪ .‬ذلك هو مضمون التذكير‪.‬‬ ‫تكليف بمهمة هي الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف وشروط ذلك علاقة بالطبيعة لقيام‬ ‫الإنسان العضوي وعلاقة بالتاريخ لقيامه الروحي وشرط الأول علوم الطبيعة وشرط‬ ‫الثاني علوم التاريخ‪ .‬وإذن فنحن أمام خمس فلسفات هي عين مضمون الرسالة التي يذكر‬ ‫بها الرسول بوصفه بشيرا ونذيرا‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬فلسفة الأصل هي علاقة بين خليفة (الإنسان) ومستخلف (الله)‪.‬‬ ‫‪ .2‬فلسفة الطبيعية رياضية تجريبية‪.‬‬ ‫‪ .3‬فلسفة التاريخ خلقية سياسية‪.‬‬ ‫‪ .4‬الابستمولوجيا أو تجهيز الإنسان بقدرة النظر والعقد لعلمهما‪.‬‬ ‫‪ .5‬والأكسيولوجيا أو تجهيز الإنسان بقدرة العمل والشرع للعمل فيهما‪.‬‬ ‫ولا يوجد في القرآن شيء آخر يتعلق بغير هذه الفلسفات وما يترتب عليها في نظام حياة‬ ‫الإنسان من حيث هو مكلف بمهمة تعمير الأرض بقيم الاستخلاف‪ .‬وهي رؤى فلسفية وليست‬ ‫علوما أي إنها توجه الإنسان إلى ما عليه إنجازه ليحقق مهمته بوصفه مستعمرا في الأرض‬ ‫بقيم الاستخلاف مع تذكيره بأن علمه وعمله محدودان وليسا محيطين‪ .‬ومن ثم فهو مطالب‬ ‫بالاجتهاد في النظر والعقد والجهاد في العمل والشرع والحرص على الصدق فيهما علما وأن‬ ‫النتيجة بيد الله وليست بيده‪.‬‬ ‫ويمكن أن نستنتج كل ما في القرآن من هذه للبنية العميقة للتذكير القرآني‪ .‬فلو كان‬ ‫الإنسان ذا علم بالغيب محيط لا لاستحال أن يكون الإسلام في نفس الوقت الديني في كل‬ ‫دين والناقد لكل التحريفات السابقة التي أصلها وفصلها محاولة إيجاد وسيط روحي بين‬ ‫المؤمن وربه ووصي سياسي عليه‪.‬‬ ‫وقد حدد القرآن التحريف الذي يتصدى له بمنهج التصديق والهيمنة فرده في سورة آل‬ ‫عمران إلى حلف صريح بين الساعين إلى تأسيس السلطان الروحي على المؤمنين (وساطة‬ ‫رجال الدين) وللسلطان الزماني عليهم (وصاية الحكام) لمنع حرية الإنسان الروحية أو‬ ‫العلاقة المباشرة بين المؤمنين وربهم وحريتهم السياسية بينهم وبين أمرهم‪ .‬فيجعلونهم‬ ‫تابعين في أخراهم وفي دنياهم‪ .‬وكلتا التبعتين لا يقبل بهما يوم الدين لأن الإنسان يأتي‬ ‫ربه فردا مسؤولا على أعماله ولا يقبل منه الاحتجاج بالوسيط ولا بالوصي‪.‬‬ ‫وهدف المتكلمين والمتصوفة هو الوساطة الروحية ومن ثم فكل واحد منهم يريد أن يكون‬ ‫وسيطا بين المؤمنين وربهم إما بوضع مدونات عقدية أو طرق صوفية غايتها تحريف التربية‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بمنطق \"إنما أنت مذكر\" إلى \"إنما أنت ملقن\"‪ .‬وهم في خدمة حكام هدفهم الوصاية على‬ ‫المؤمنين نفيا للشورى ‪ .38‬وبذلك فهم \"أمراء\" الثورة المضادة ضد ثورتي الإسلام‪:‬‬ ‫‪ .1‬ثورة تحرير الإنسانية من وساطة الكنيسة الروحية‪.‬‬ ‫‪ .2‬وثورة تحرير الإنسان من وصاية الحكم السياسي‪.‬‬ ‫وسواء كان ذلك بدعوى عصمة الأيمة أو بدعوى قوة الشوكة والعصبية‪ .‬وهذان‬ ‫الثورتان المميزتان للإسلام هما ما يحاربه الكلام والتصوف بدعوى معرفة الغيب وقلب‬ ‫قاعدتي العلم والعمل‪.‬‬ ‫قلبوا قاعدة النهي عن ادعاء العلم بالغيب آل عمران ‪ 7‬فحرفوها وزعموا أن الراسخين‬ ‫في العلم لهم القدرة على تأويل المتشابه مثل الله بأن جعلوا \"واوها\" عطفية بدلا من كونها‬ ‫استئنافية‪ .‬فكان أن صارت القلوب الزائغة ومبتغية الفتنة هـي المسيطرة على فكرهم وهم‬ ‫علة كل الحروب بين الملل والنحل‪.‬‬ ‫وقلبوا فصلت ‪ 53‬وبدلا من طلب آيات الله في الآفاق وفي الأنفس أهملوها وتصوروا العلم‬ ‫موجودا في ألفاظ القرآن‪ .‬فصار علمهم أكداس من ثرثرة خالية من العلم بالآفاق الطبيعية‬ ‫رياضيا وتجريبيا وبالأفاق التاريخية خلقيا وسياسيا واكتفوا بالوعظ والإرشاد فلم يسهموا‬ ‫في تعمير الأرض بقيم الاستخلاف‪ .‬والنتيجة هي عكس ما طلبت سورة العصر شروطا‬ ‫للاستثناء من الخسر الذي هو نسيان ما دور الرسالة التذكير به‪:‬‬ ‫‪ .1‬لم يعد المسلم مؤمنا حقا‪.‬‬ ‫‪ .2‬ولا عاملا صالحا‪.‬‬ ‫‪ .3‬ولم تعد الأمة متواصية بالحق في الاجتهاد‪.‬‬ ‫‪ .4‬ولا متواصية بالصبر في الجهاد‪.‬‬ ‫‪ .5‬فأصبحت فاقدة لحرية الإرادة ولصدق العلم ولخير القدرة ولجميل الحياة‬ ‫ولجليل الوجود بل هي صارت متصفة بعكس ذلك كله وذلك هو الخسر الذي تعتبر تلك‬ ‫الشروط الاربعة شروط الاستثناء منه‪ .‬والعلة هي تجني هؤلاء الأدعياء على القرآن‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وسأقف عند هذا الحد لأن باقي المسائل المتعلقة بالمضمرات في الكلام والتصوف درستها في‬ ‫عديد المواضع وخاصة مسألة تعدد العوالم وعلاقة ذلك بالنكوص الهيجلي وعودته إلى‬ ‫كلام القرون الوسطى وتصوفها ليصوغ فلسفيا الرؤية المسيحية لفلسفة الدين‪ .‬ولا حاجة‬ ‫لتكرار ما سبق بيانه بالدقة اللازمة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وقوفي عند ذاك الحد في الفصل السابق لا يعني نهاية المحاولة بل يعني نهاية الكلام في‬ ‫مضمون المحاضرة التي علقت عليها لأمر إلى مسالة مبدئية هي التي تحرك أصحاب الكلام‬ ‫الجديد دون اعتبار للدوافع العقدية أو الإيديولوجية أعني ما يجعل حلولهم تبدو‬ ‫\"فلسفية\" و\"عقلانية\" و \"حداثية\" و\"تنويرية\"‪ .‬ويتعلق الأمر بمسألتين‪:‬‬ ‫‪ .1‬ما يسمونه ثمرات المنهجيات الجديدة لدراسة الدين شكلا ومضمونا‪.‬‬ ‫‪ .2‬وما يسمونه علاقة الدين بالتاريخ من حيث الرسالة والرسول‪.‬‬ ‫• والأول يزعمونه حاجة أبستمولوجية‪.‬‬ ‫• والثاني يعتبرونه ضرورة وجودية‪.‬‬ ‫فلا يمكن أن يبقي تقدم العلوم الأديان خارج ثمراتها‪ .‬ولا يمكن أن نتصور شأنا إنسانيا‬ ‫خارج التاريخ مطلق الجمود‪.‬‬ ‫ويبدو هذا الكلام معقولا إلى أقصى حد‪ .‬إذ فعلا تقدمت المعرفة إلى حد كبير ويصعب‬ ‫أن يبقى الدين وعلومه خارج رهاناتها وثمراتها‪ .‬وفعلا كذلك يصعب أن يكون كل شيء‬ ‫تاريخيا ويبقى مع ذلك ما في القرآن خارج التاريخ فيفهم ويؤول وكأن دلالاته‪ .‬لكن ما‬ ‫يبدو بداهة معقولية هو في الحقيقة بادئ رأي‪.‬‬ ‫وبادئ الرأي هو ما يتجاوزه من يسمون أنفسهم عقلانيين وتنوريريين وحداثيين من‬ ‫العرب وخاصة أولئك الذي يتجرؤون على الإسلام ويحاولون بكل الوسائل تطبيق ما يمكن‬ ‫أن ينطبق على الأديان المحرفة التي كان نقده لتحريفه سباقا بمنهج التصديق والهيمنة‬ ‫المتحرر من هذه الضمائر المستحيلة نقدا لـمعنيي التحريف الذي تقدم القرآن في علاجه‬ ‫قبل ما بدأ يحصل في الفكر الغربي الحديث بهذه الضمائر أو ما ينسب إلى سبينوزا في كلامه‬ ‫على اليهودية وكل ما يقال عن نقد التوراة وصيغ الأناجيل‪:‬‬ ‫‪ .1‬التحريف المادي ويتعلق بمادة النص نفسه زيادة ونقصانا‪.‬‬ ‫‪ .2‬التعريف المعنوي تحريفا للعقائد نتيجة للمادي أو غير ذلك‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن ذلك لا يحول دون بقاء شيء من الوجاهة حول المسألة الثانية المتعلقة بالتاريخية‪.‬‬ ‫وهي مضاعفة‪:‬‬ ‫‪ .1‬كيف يمكن ألا يكون القرآن متأثرا بالبيئة التي نزل فيها وهي مرحلة تاريخية من‬ ‫ثقافة أمة‪.‬‬ ‫‪ .2‬وكيف يبقى القرآن بعد نزوله محافظا على دلالات صالحة لكل زمان ومكان‪:‬‬ ‫الاعتراضان يحتاجان لتوضيح‪.‬‬ ‫لكنها وجاهة دالة على سذاجة أصحابها‪ .‬لو كانت فصلت ‪ 53‬قد اعتبرت الآفاق والأنفس‬ ‫هي ما يبين حقيقة القرآن لكان اعتراض التاريخية فعلا اعتراضا وجيها‪ .‬لكنها قالت آيات‬ ‫الله في الآفاق وفي الأنفس‪ .‬فلا شك أن الآفاق والأنفس متغيرة لكن الكلام لا يتعلق بها‬ ‫بل بما يتجلى فيها من آيات الله فهل هي متغيرة؟‬ ‫وأبدأ بحجة عامة من حجج العقل السليم‪ :‬لو كان كل شيء متغيرا لاستحال التغير‬ ‫ولاستحال علمه‪ .‬فلا بد أن يوجد شيء يتغير وهو غير تغيراته ولا بد أن نقيس التغير‬ ‫بالإضافة إليه‪ .‬وحجة العقل السليم وحدها لا تكفي وليست مقنعة لأن الرد عليها سهل‬ ‫جدا‪ :‬البداية يمكن أن نميزها عما يليها وهو تغيرها‪.‬‬ ‫لذلك فالسؤال هو ما الثابت في التغير حتى لو لم يكن قابلا للعلم بصورة ثابتة؟ فالآية‬ ‫تقول آيات الله في الآفاق وفي الانفس‪ .‬فيكون الثابت هو الآيات ويكون المتغير الآفاق‬ ‫والأنفس‪ .‬وقد حددت الفلسفات الخمسة التي أرجعت إليها آيات الله في الآفاق وفي‬ ‫الانفس‪ .‬وسأبين أنها ثوابت كونية لعالمنا‪.‬‬ ‫وأقول لعالمنا لأنها موجهة إلينا وقد تكون العوالم الأخرى لها ثوابت أخرى‪ .‬ففي عالم‬ ‫يومه بخمسين ألف سنة من أيام عالمنا مثلا قد تكون آيات الله فيه مختلفة وهي ثوابت ذلك‬ ‫العالم المختلف عن عالمنا‪.‬‬ ‫لكن بما أن الرسالة موجهة إلى الإنسان (ومعه الجن في القرآن) فإن ما يعنينا هو ثوابت‬ ‫عالمنا الذي هو نظام مرجعي للتذكير‪ .‬وقد بينت في كلامي على دلالة فصلت ‪:53‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬أن الخلق قانونه رياضي تجريبي‪ .‬وهذا ثابت حتى لو تغيرت المقادير والمعادلات‬ ‫المعبرة عن الظاهرات الطبيعية فهي تبقى دائما مادة لصوغ رياضي مطبق على معطيات‬ ‫تجريبية‪.‬‬ ‫‪ .2‬وأن الأمر سننه خلقية سياسية (السياسة هي التجربة الخلقية الأكبر إذ لا معنى‬ ‫لأخلاق لا تتجاوز أحوال النفس ولم تمتحن في الممارسة المثلى للعلاقات البشرية التي تبرز‬ ‫مميزاتها العميقة في العلاقة بالسلطة ومغرياتها فعلا وانفعالا) وهذا ثابت حتى لو تغيرت‬ ‫الأخلاق والسياسة غايات وأدوات‪.‬‬ ‫وبينت أن آيات الأنفس مثلها مثل آيات الآفاق (ما من الإنسان طبيعي وتاريخي تابع‬ ‫لآيات الآفاق أي ‪ 1‬و‪ )2‬هي‪:‬‬ ‫‪ .3‬النظر والعقد للتعامل النظري والعقدي مع الطبيعة (العلم نظرية نعتقد في‬ ‫حقيقتها وإلا فهي خرافة)‬ ‫‪ .4‬العمل والشرع للتعامل مع التاريخ (العمل فعل مكون وممون بقوانين سياسية‬ ‫وخلقية)‪.‬‬ ‫‪ .5‬وأصلها جميعا مهمة الإنسان في هذا العالم وهي تعميره بقيم الاستخلاف‪.‬‬ ‫فالتعمير من حيث هو علاقة بقوانين الطبيعة وتطبيقاتها شرط في قيام الإنسان المجهز‬ ‫لتحقيقهما بالنظر والعقد‪ .‬وقيم الاستخلاف من حيث هي علاقة بسنن التاريخ وتطبيقاتها‬ ‫شرط ي قيام الإنسان المجهز لتحقيقها بالعمل والشرع‪ .‬وهذه الآيات الخمس التي تؤسس‪:‬‬ ‫‪ .1‬فلسفة مهمة الإنسان وشروطها المتفرعة عنها‬ ‫‪ .2‬فلسفة الطبيعة‬ ‫‪ .3‬فلسفة التاريخ‬ ‫‪ .4‬فلسفة النظر والعقد‬ ‫‪ .5‬فلسفة العمل والشرع مهما تغيرت حيثياتها وأدواتها ومناهجها تبقى طلب قوانين‬ ‫الطبيعة وتطبيقاتها وسنن التاريخ وتطبيقاتها بالنظر والعقد وبالعمل والشرع‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فكون الإنسان لا يمكن أن يقطع المكان في سفره من دون وسيلة نقل ثابت لا يتغير حتى‬ ‫وإن تغيرت وسيلة النقل من الأرجل إلى الطائرة إلى الصاروخ‪ .‬وحتى لو سلمنا بصحة‬ ‫نظرية التطور فإن قوانين الوراثة في الظاهرات الحية التي في عالمنا تبقى ثابتة رغم تغير‬ ‫الظاهرة الحية‪.‬‬ ‫آيات الله في الآفاق ليست قانونا طبيعيا معينا ولا عادة تاريخية معينة يمكن أن نقرأ‬ ‫القرآن في ضوئهما بل هي كون الطبيعي لا يعلم من دون الرياضي المطبق على المدرك‬ ‫الحسي سواء بحواسنا أو بكملاتها الصناعية من النظارات إلى كل وسائل إدراك لامتناهي‬ ‫الصغر ولا متناهي الكبر‪.‬‬ ‫آيات الله في التاريخ ليست عادات حضارة معينة سياسية كانت أو خلقية بل كون الحضارة‬ ‫لا يمكن أن تكون خالية من نظامين من هذا الجنس أي من الأخلاق أو الوازع الذاتي بلغة‬ ‫ابن خلدون والقانون أو الوازع الأجنبي بنفس اللغة وأزيد بان الافضل منهما يحدده‬ ‫القرآن بصورة كونية متعالية وثابتة‪.‬‬ ‫وهي لا يحددها بوصفها من جنس الموجود الحاصل بل من جنس المنشود أعني من جنس‬ ‫المثال الأعلى سأذكر مثاليين اعليين بفضلهما يستتب السلم بين البشر‪:‬‬ ‫• ففي النساء ‪ 1‬يجعل القرآن البشر كلهم اخوة‪.‬‬ ‫• وفي الحجرات ‪ 13‬يجعلهم كلهم متساوين ولا يتفاضلون إلا بالتقوى‪.‬‬ ‫ويضع مبادئ عامة في شكل مثاليين أعليين هما شرطا إزاحة علل الصراع بين البشر بعد‬ ‫أن تأسيس الأخوة والمساواة‪:‬‬ ‫‪ .1‬فالعلة الأولى للصراع بين البشر هي الرزق المادي ومن هنا وضع نظام التكافل‬ ‫الاجتماعي‪.‬‬ ‫‪ .2‬والعلة الثانية للصراع بينهم هي الرزق الروحي ومن هنا ترك الحسم بين الأديان‬ ‫إلى يوم الدين‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وينتج من ثم ضرورة الحرية الدينية لأن التعدد الديني كان مطلوبا باعتباره شرطا في‬ ‫التسابق في الخيرات (المائدة ‪ )48‬بمعنى أن الإنسان الذي لا يكره على الدين يختار بعد‬ ‫تبين الرشد من الغي الدين الذي يعتقد أنه الأفضل فيكون التدين حرية مطلقة والفصل‬ ‫بين المتدينين يكون يوم الدين‪ .‬فيتحقق شرط التعايش المدني والسياسي والخلقي ليس‬ ‫بنوع الدين بل بـمبادي سورة العصر الخمسة‪:‬‬ ‫‪ .1‬الوعي بعلل الخسر ويترتب عليه فروع أربعة وهي‪:‬‬ ‫‪ .2‬الإيمان (وهو مشروط بتقدم الكفر بالطاغوت البقرة ‪)256‬‬ ‫‪ .3‬والعمل الصالح‬ ‫‪ .4‬والتواصي بالحق‬ ‫‪ .5‬والتواصي بالصبر‪.‬‬ ‫وذلك بين من آيتين صريحتين في القرآن‪ :‬البقرة ‪ 62‬والمائدة ‪.69‬‬ ‫والشروط هي الإيمان (بالله واليوم الآخر) والعمل الصالح‪.‬‬ ‫وقد طبقت الآيتان هذا الموقف على دينين منزلين ودينين طبيعيين‪ .‬ولم تكتف بالإرجاء‬ ‫دون الوعد ‪-‬لا خوف عليهم ولا هم يحزنون‪-‬إلا الآية الثالثة (الحج ‪ )17‬لأنها تضمنت‬ ‫أيضا الشرك‪ .‬وهذا هو غاية القبول بالحد الأدنى بداية للترقي الروحي‪.‬‬ ‫ومن هنا نفهم كيف أن دستور الرسول في المدينة لم يستثن أحدا لأن القرآن وضع شريعة‬ ‫خاتمة تتضمن الاعتراف بتعدد الشرائع (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) باعتباره شرط‬ ‫الترقي الروحي والخلقي في الجماعة وشرط حرية المعتقد لأن من دون ذلك يصبح الإكراه‬ ‫في الدين ممكنا والقرآن ينفيه‪.‬‬ ‫واعترف بأن كل هذه المعاني ضاعت من ثقافة المسلمين وذلك هو قصدي بتحريف علوم‬ ‫الملة القرآن‪ .‬فهذه المعاني هي التي تفهمنا دلالة أسئلة الفاتحين الخمسة التي توجه إلى‬ ‫البلدان التي فتحت في بداية الإسلام‪:‬‬ ‫‪ .1‬الدعوة إلى الإسلام لتحير العباد من عبادة العبادة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬والوعد بالنساء ‪ 1‬والحجرات ‪.13‬‬ ‫‪ .3‬وذلك هو معنى فيكون لكم ما لنا وعليكم ما علينا‬ ‫‪ .4‬فإن لم تفعلوا ولم تحولوا دوننا وتبليغ الرسالة فستكونوا في دولتنا وتدفعون‬ ‫الجزية نظير الزكاة التي يدفعها المسلم لقيام الدولة‪.‬‬ ‫‪ .5‬فإن أبيتم ذلك فهي الحرب‪.‬‬ ‫وطبعا فالتاريخ لا يذكر إلا ثلاث منها لأن الاثنين الأخريين كانا مضمرين‪ .‬لكن ذلك لم‬ ‫يطبق دائما إذ لا يوجد مثال أعلى يطبق دائما‪ .‬ولو طبق رجال المقاومة أخلاق الحرب‬ ‫الإسلامية لم شوهوا الإسلام‪ .‬فالجهاد لم يبق في سبيل الله بل في خدمة أمراء الحرب‪.‬‬ ‫ويكفي على ذلك دليلا أكبر جرائم عرفها الإسلام‪ :‬تفجير بيوت الله وقتل المصلين أيا كان‬ ‫دينهم خروجا عن القرآن‪.‬‬ ‫فهذا التوحش هو من نتائج تحريف قيم القرآن والنكوص إلى الجاهلية‪ .‬وهو من علامات‬ ‫الضعف‪ .‬فمن فقد شروط تعمير الارض (النظر والعقد) يفقد مباشرة شروط الاستخلاف‬ ‫(العمل والشرع) فيصبح أقرب إلى الحيوان يصارع من اجل مجرد البقاء فينسيه الفقر‬ ‫المادي معاني الفقرة الوجودي فيفقد كل تجاوز للموجود المخلد إلى الأرض طلبا للمنشود‬ ‫الجاذب إلى السماء‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لما حددت المسألتين قدمت التاريخية على ما يكثرون اللغط حوله بالكلام على المناهج‬ ‫الجديدة في دارسة الدين وغالبا ما كان المتكلمون في ذلك من أبعد الناس عنها وعن الدين‬ ‫وعن العلم وعن الفلسفة‪.‬‬ ‫هل الدافع إلى التفلسف في الدين لخريج الآداب العربية الشهرة لعدم القدرة على‬ ‫الإبداع الأدبي؟‬ ‫فالثلاثة الذين ملأوا الدنيا طنينا من الآداب العربية (أركون من الجزائر وأبو زيد من‬ ‫مصر والشرفي من تونس) وكلهم يتكلمون على هذه المناهج المزعومة جديدة ولم أر أحدا‬ ‫منهم استعمل شيئا منها‪ :‬هي وعود أشبه بالإشهار لهذه العلوم أكثر من كونها انتهاجا لها في‬ ‫علاج أدنى مسألة من المسائل‪.‬‬ ‫فكثرة الكلام على تاريخ الأديان وعلى الهرمينوطيقا رغم تقدم هذه المناهج الذي لا‬ ‫ينكره أحد فهمي دائما ملازمة للفكر الديني مهما عدنا إلى الماضي المعلوم من تاريخ الفكر‬ ‫الديني‪ .‬فلا تجد دينا لا ينزل نفسه في تاريخ الأديان وخاصة القرآن ولا تجد خطبا دينيا‬ ‫قديما أو حديثا ليس موضوع تأويل‪.‬‬ ‫ولهذه المسألة علاقة مباشرة بمسالة التاريخية لا تفهم إلا عندما نرد المسالتين معا إلى‬ ‫جذر خفي بدأ مع العودة إلى نظرية المعرفة ونظرية القيمة العائدتين إلى القول‬ ‫بالمطابقة‪ .‬فالمطابقة في نظرية المعرفة تعتبر العلم مطابقا لموضوع محيطا به ونظرية القيمة‬ ‫تعتبر القيمة مطابقة لموضوعها‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى يصفون ابن رشد والمعتزلة بكونهم عقلانيين‪ :‬الأول يعتبر علمه مطابقا‬ ‫للموضوع إذ يعلمه على ما هو عليه لكونه راسخا في العلم ويحاول تأويل الإسلام برده إلى‬ ‫علمه بالأشياء على ما هي عليه‪.‬‬ ‫ويزعم الثانون العقل محسنا ومقبحا فتكون القيمة عندهم مطابقة للموضوع المقيم صفية‬ ‫ذاتية له‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولا يوجد اليوم عاقل فضلا عن عقلاني يمكن أن يصدق هذين الكذبتين‪:‬‬ ‫‪ .1‬فمن يتصور علمه محيطا بالموضوع لا بد أن يكون مختل العقل‪.‬‬ ‫‪ .2‬ومن يتصور تقييمه للأشياء مطابقا لقيمة ذاتيها فيها ليس مختل العقل فحسب بل‬ ‫لا يكون إلا اضحوكة العقلاء‪ .‬علمنا بالأشياء نسبي وتقييمنا لها أكثر منه نسبية‪.‬‬ ‫كيف يصل القول بالمطابقة في نظرية المعرفة وفي نظرية القيمة بين دعوى التاريخية‬ ‫للوحي ودعوى استعمال العلوم الجديدة في دراسة الدين‪ .‬ولنبدأ بهذه‪ :‬طبعا من يتصور‬ ‫شرح ألفاظ القرآن دراسة للإسلام لتبين حقيقة القرآن فهو لم يقرآ فصلت ‪ 53‬فيجعل‬ ‫الدين هو نصوصه التي تنطبق عليها الهرمينوطيقا‪.‬‬ ‫ولما كانت الهرمينوطيقا في الحقيقة على الأقل في شكلها الذي وضعه مؤسسها في الغرب‬ ‫حسب تقاليد تاريخها الغربية‪-‬شلاير ماخر‪-‬أو غاية مدارسها من تلاميذ هيدجر ‪-‬جادامار‪-‬‬ ‫تحوم حول الإنسان من حيث هو محل الإلهي‪-‬بنكهة مسيحية حيث المسيح هو مثال الإنسان‬ ‫المتأله‪-‬فإن الأمر كله يتمثل في محاولة قراءة القرآن بعلم نفس الرسول وظرفياته أو بروح‬ ‫الشعب متعينة في ثقافته ولغته‪.‬‬ ‫ولا عجب إذا شعر المرء بما يشبه الموقف الشعوبي الذي يعتبر القرآن مجرد تعبير عن‬ ‫البداوة العربية فيكون الكلام على تاريخية الوحي نفيا لما يتعالى على «أرواح الشعوب»‬ ‫بالمعنى الهيجلي‪ .‬فالرسول لم يكن بوسعه ‪-‬باصطلاح هيجلي‪-‬أن يقفز على روح عصره‬ ‫وثقافة شعبه‪ .‬ولست أتهم أحدا ولكني أعجب ممن يقول إنه لا يعقل أن يكون الله قد‬ ‫تكلم بلسان العرب‪.‬‬ ‫وقد سبق أن جادلني أحد كبار قساوسة مصر وكنا ضيوفا عند الشيخ حسن حنفي مدعيا‬ ‫أنه يسلم بأن معاني القرآن إلهية لكنه لا يعقل أن يكون لسانه إلهيا بنفس هذه الحجة‪.‬‬ ‫فسألته‪ :‬كيف إذن يكون المسيح عليه السلام ابن له بلحمه وشحمه؟ وكيف تكون المخلوقات‬ ‫ليست مجرد معاني بل لها أجساد حية وجامدة؟ هل هذه من صنع ذاتها وليس فيها إلهيا إلا‬ ‫المعاني؟ وطبعا لم يحر جوابا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫إذ كان عليه أن ينسب المعاني للرب وأن ينسب تعينها في الوجود الفعلي لغيره‪ .‬ولا فرق‬ ‫بين التعين اللساني والتعين العضوي أو المادي لان المعاني هي صورها إن صح التعبير‬ ‫بالاصطلاح الأرسطي‪ .‬وإذا نسب التعين في الظاهرات الطبيعية إلى الطبيعة وتعين‬ ‫الظاهرات التاريخية إلى التاريخ فعليه كذلك أن يعتبر فعل التعيين خارج عن دور الإلهي‬ ‫فيهما فيكون دوره مقصورا على المعاني‪ .‬ولما كانت المعاني لا يمكن أن تعني من دون تعينها‬ ‫فإن التدخل الإلهي عامة وفي المسيح خاصة يصبح عدما فتزول عقيدته التي يحاججني بها‪.‬‬ ‫لذلك بهت الذي كفر‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى الهرمينوطيقي سواء شلايرماخريا أو جادماريا يصبح السلفيون أكثر فهما‬ ‫للقراءة الهرمينوطيقية للقرآن من خلال الاعتماد على حديث الرسول وسيرته الذاتية‪.‬‬ ‫والفرق أن هؤلاء يرفعون بذلك الحديث إلى مرتبة القرآن بل ربما أكثر والرسول إلى‬ ‫مرتبة الناطق باسم الله بل وربما أكثر‪ .‬وأولئك ينزلون الإنجيل إلى حديث المسيح والله‬ ‫إليه‪.‬‬ ‫كل ما يتوهمه الكثير من \"عمق\" في فكر ابن عربي هو من هذا الجنس وهو تخريف في‬ ‫تخريف إذ ليس فيه أكثر من علم النفس الارسطي وانحطاط الفلسفة اليونانية في عصرها‬ ‫المتأخر القائم على التناظر بين العالمين الأكبر والأصغر مع خرافات التنجيم وعلم الحروف‬ ‫وبعض لمحات من رسائل اخوان الصفا نتائج تزعم علمية وهي خالية مما يضفي عليها صفة‬ ‫العلم لأنها منزوعة جزئها الاستدلالي الذي يجعلها ذات مسحة علمية على الأقل شكلا‪.‬‬ ‫فسواء رفعت بعض الناس إلى الألوهية أو خفضت الألوهية إلى بعض الناس فأنت في‬ ‫الحالتين راجم بالغيب‪ .‬كل ما يمكن أن أقوله هو أن الإنسان لا يكاد يعلم واحد في المائة‬ ‫من ذاته فكيف بعلمه بالرب وبالوجود المطلق‪ .‬ولما كان علمنا تاريخيا مثلنا ولما كانوا قائلين‬ ‫بإبستمولوجية المطابقة فإنهم يسقطون تاريخية العلم على موضوعه لكأن الموضوع في ذاته‬ ‫هو ما يتصوره منه الإنسان‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولما كان لا يصح حتى على عالم الشهادة بديل تغير العلم دون أن يعني ذلك أن قوانين‬ ‫الطبيعة هي التي تغيرت‪ ،‬فكيف يطلق على الدين؟‬ ‫والنتيجة أن من يتكلم على الإسلام مثل هذا الكلام ينفي وجود الغيب أولا وينفي‬ ‫محجوبيته ثانيا‪.‬‬ ‫ولا يحق له حينها أن يقول إنه يتكلم في الإسلام‪ .‬فليقل للأمانة مثلا‪:‬‬ ‫‪ .1‬أرفض أن يكون في الوجود ما لا يقبل العلم من الإنسان ومن ثم أضع أن الوجود‬ ‫ليس له إلا وجه واحد هو ما يراه منه الإنسان‪.‬‬ ‫‪ .2‬أو أزعم أن كل ما لا يعمله الإنسان ليس موجودا بل هو مجرد أوهام يضعها‬ ‫الإنسان حتى يؤمن بالغيب الذي يعتبره غير موجود بل هو من وضع البشر‪.‬‬ ‫ولا يمكن أن يدعي قولا في الغيب إلا من توهم أمرين كلاهما ممتنع عقلا ولا حاجة للنقل‬ ‫للاعتراف به‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأمر الأول هو اعتبار الوجود مطلق الشفافية للعقل الإنساني‪.‬‬ ‫‪ .2‬الأمر الثاني هو اعتبار العقل الإنسان مطلق النفاذ لأسرار الوجود‪.‬‬ ‫وحصيلتهما هي الزعم بأن الوجود مقصور على ما يدركه الإنسان منه ولا يوجد كائنات‬ ‫أخرى يمكن أن يكون لها إدراك مطلق الاختلاف مع الإدراك الإنساني‪ .‬وحتى لو اقتصرنا‬ ‫على الإنسان فإنه مما لا يقبله عقل أن يكون ما يدركه البشر في بداية تاريخهم مثل ما‬ ‫يدركونه في مراحله المتوالية بحيث إن جيلا من الأجيال يمكنه أن يزعم أن الوجود يرد‬ ‫إلى ما يدركه هو منه‪.‬‬ ‫ولهذه العلة اعتبر ابن خلدون المتكلمين والفلاسفة وكل المتألهين ضحايا هذه المعتقدات‬ ‫التي جعلتهم ينتسبون إلى الموقف الذي يرد الوجود إلى الإدراك‪ .‬وطبعا فهذا الكلام لم‬ ‫يعد يستسيغه حتى كبار علماء الطبيعة والفلك وخاصة علماء بواطن الظاهرات الطبيعية‬ ‫في لامتناهي الصغر حيث ينفتح باب الجليل الذي لا يقبل الرد إلى عالم الشهادة فضلا عن‬ ‫القليل الذي ندركه منه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن القرآن يقول إن الإنسان لا يتبين حقيقة القرآن إلا من خلال ما يريه الله من آياته‬ ‫في الآفاق وفي الأنفس ولم يقل في نصه ولا في سيرة الرسول وحديثه ولا في ظروف عصره‬ ‫حتى وإن كان ذلك كله هو من الآفاق والأنفس دون أن يكون ما يتجلى فيهما من آياته‪.‬‬ ‫ومن ثم فهو من البداية يعتبر الهرمينوطيقا التقليدية الشلايرماخرية (بـالإنسان‬ ‫واللسان) أو الجادمارية (بالموروث وتقاليد فهم النصوص) لا تبين حقيقته‪.‬‬ ‫لكن يمكن أن تدرج بوصفها من عناصر الآفاق والأنفس فلا تكون حينها ردا إلى ما هو‬ ‫تاريخي في النبي الإنسان حديثا وسيرة ولا في التراث نصوصا وموروثا تفسيريا بل من حيث‬ ‫هما منتسبان إلى النظر والعقد والعمل والشرع في علاقة بقوانين الطبيعة وبسنن التاريخ‬ ‫المتعاليين على الظرف‪.‬‬ ‫وما أن تميز بين علمنا وموضوعه وبين تقييميا وموضوعه حتى يزول هذا الوهم الذي‬ ‫يرد الموضوعين إلى فعلي الإنسان المعرفي والتقويمي فيسقط تاريخية الفعلين على لا‬ ‫تاريخية الموضوعين على الأقل في ذاتها من حيث هما أفق لامتناه نسعى إليه ولا يمكن أن‬ ‫نحيط به علما أو تقييما‪.‬‬ ‫لكن الأمر يظن بخلاف ذلك في وهم المتأله العرفاني إذ يشطح بما يزعمه نفاذا إلى‬ ‫الغيب العلمي بدل مجرد الاجتهاد النسبي الممكن للإنسان الناظر والمتأله السلطاني إذ‬ ‫ينطح بما يزعمه نفاذا إلى الغيب العملي بدل مجرد الجهاد النسبي الممكن للإنسان العامل‪.‬‬ ‫والشطح ليس شيئا آخر غير هذيان المتألهين وهو في الحقيقة تأله بالمعنى الخلدوني‪ :‬فهو‬ ‫يعتبر تضخم الذات عند العالم والحاكم والمتصوف أشبه بالمرض النفسي الذي يجعل صاحبه‬ ‫يتوهم أنه من السلطان الروحي أو المادي أو كليهما ما يجعله يعتبر نفسه ربا يمكنه أن‬ ‫يفرض علمه وسيطا روحيا وإرادته وصيا سياسيا‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فكل المستبدين بأي أمر هم من هذا النوع من مرضى تضخم الذات وقد‬ ‫اعتبر ابن خلدون ذلك من صفات الإنسان ويسميه حب التأله مفهوما من الكلمات الأضداد‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لأنه يفيد التأله بالمعنى التعبدي والتأله بمعنى الكبر الذي هو صفة مذمومة في الأخلاق‬ ‫القرآنية‪ .‬فصاحبه ينسى أنه مربوب حتى لو ألحد‪.‬‬ ‫ولا يقوم بذلك إلا من فقد الوعي بضعفه أولا وبفقره الوجودي‪ .‬فلا يمكن أن يفعل‬ ‫ذلك من يذكر أنه مائت وأنه يمرض وأنه ضعيف إلى حد لا يمكن أن يضمن لنفسه بقاء‬ ‫بين نفس ونفس‪ .‬فمن يدرك أن كيانه العضوي مؤلف من مليارات الخلايا التي قد تختل‬ ‫إحداها فيصبح في خبر كان ثم يدعي الربوبية‪.‬‬ ‫فالكبر‪-‬ومنه الكبر المتمثل في تضخم ذوات أصحاب التصوف الفلسفي أو العرفان‬ ‫والمستبدين من الحكام كما وصف ذلك ابن خلدون في كلامه على حب التأله‪ -‬ليس مذموما‬ ‫خلقيا فحسب بل هو من علامات الحمق الدال على غفلة وجودية تجعل صاحبها وكأنه يعيش‬ ‫في تخدير دائم يلهيه عن هشاشة كيانه وعن خواء وجدانه ومع ذلك تجد هؤلاء أكثر الناس‬ ‫دغمائية لكأنهم لا ينطقون عن الهوى بعلم يزعمونه محيطا معتبرين مداركهم وضيق أفقهم‬ ‫هو عين االلامتناهي‪.‬‬ ‫وعبارة {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} لا تعني علما بالغيب المحجوب في عالم‬ ‫الشهادة وقد يصبح ممكنا يوم يصبح البصر حديدا في الآخرة كما في الرؤية بل تعني من‬ ‫علمه بما هو شاهد من الوجود للإنسان‪ .‬ذلك أن القرآن لا يمكن أن يقول في آية الكرسي‬ ‫ما ينافي حكمه في الإحاطة وعلم الغيب‪.‬‬ ‫والحصيلة فهم هذه المبادئ‪:‬‬ ‫‪ .1‬امتناع العلم المحيط على الإنسان‬ ‫‪ .2‬وامتناع رد الوجود اللامتناهي إلى الوجه الذي يره منه الإنسان‬ ‫‪ .3‬وآمنا بما يقوله القرآن إن كل المخلوقات أمم مثلنا ومن ثم فهي مخاطبة إما‬ ‫بالقرآن أو بما يماثله من حيث الوظيفة التذكيرية‬ ‫‪ .4‬وأن تكريم آدم لا يتجاوز الاستخلاف‪.‬‬ ‫أمكن لنا حينها‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .5‬أن نفهم معنى الوحي القرآني بوصفه تذكير بكل هذه الامور التي هي مكتوبة في‬ ‫كياننا العضوي والروحي بمعنى أن كل فرد إنساني نسخة من منزلته الوجودية في ما يمكن‬ ‫أن نعتبره سجل الوجود وخزينة منازل الموجودات أو بلغة دينية اللوح المحفوظ‪ :‬فنحن لا‬ ‫نعلم الكثير حتى عن ذواتنا ناهيك عن هذا العالم كله وعن العوالم الممكنة لغيرنا من‬ ‫المخلوقات وكلها يعتبرها القرآن أمما مثلنا ومنها عامل الآخرة ومصير المخلوقات فيها‪.‬‬ ‫وكم أعجب من أمرئ يجهل جل ذاته سواء في بعدها العضوي أو بعدها الروحي يزعم أن‬ ‫له أحكاما قطعية في المسائل الدينية التي من هذا الجنس‪ .‬والإكثار من الكلام فيها هو‬ ‫الذي ضيع الأمة‪ :‬أكداس من الثرثرة أدت إلى عكس ما ذكر به القرآن في آل عمران ‪7‬‬ ‫فعم زيغ القلوب وابتغاء الفتنة وغابت فصلت ‪ .53‬فغاب معها السعي لرؤية آيات الله في‬ ‫الآفاق وفي الأنفس رؤية تحقق‪:‬‬ ‫‪ .1‬مهمة الإنسان من حيث هو خليفة يعمر الأرض‪.‬‬ ‫‪ .2‬بالبحث العلمي لمعرفة قوانين الطبيعة وتطبيقها وسنن التاريخ وتطبيقها من أجل‬ ‫التعمير‬ ‫‪ .3‬وبالعمل الخلقي والسياسي لتطبيق علوم الطبيعة وسنن التاريخ لجعل التعمير‬ ‫بقيم الاستخلاف‪.‬‬ ‫‪ .4‬ثم بالنظر والعقد في الانفس من حيث لها قدرة العلم‪.‬‬ ‫‪ .5‬وبالعمل والشرع في الأنفس من حيث لها قدرة العمل‪.‬‬ ‫وبذلك يكون القرآن قد ذكر بما يمكن الإنسان من تحقيق شروط التعمير بقيم‬ ‫الاستخلاف التعمير الذي لا يفسد في الأرض ولا يسفك فيها الدماء بمجرد أن يجعله تعميرا‬ ‫بقيم القرآن وذلك هو معنى تكريم الله له وتكليفه في فرصة ثانية بعد فشله في فرصته‬ ‫الأولى وقبول توبته بخلاف عقيدة الخطيئة الموروثة المسيحية التي تحوج إلى شفيع يؤسس‬ ‫لسلطان روحي (وساطة مرجعية كنسية) وحق إلهي في الحكم (وصاية شعب مختار أو أسرة‬ ‫مختارة)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أخصص هذا الفصل الاخير لبيان زبدة المحاولة‪ :‬ما الذي ينتج عن مهمة الإنسان كما يذكر‬ ‫بها القرآن وفروعها الأربعة باعتبارها خمس فلسفات جعلتي أعتبر الإسلام ليس دينا من‬ ‫بين الأديان بل الديني في كل الأديان التي مثل لها بالخمسة التي قدمها وأرجأ الفصل بينها‬ ‫ليوم الدين والتمثيل بطبعه للأنواع‪.‬‬ ‫وإذ هي فلسفات فهي أيضا ممثلة للفلسفي في الفلسفات مضمونا مطابقا للدين في الأديان‬ ‫ومن ثم فهي أيضا ممثلة للأنواع وليس للأعيان الفردية‪ .‬فالأنواع الممثلة لكل الأديان‬ ‫اثنان منزلان هما اليهودية والمسيحية واثنان طبيعيان هما الصابئية والمجوسية والأخير هو‬ ‫جوهر التحريف الذي يطرأ عليها وهو الشرك‪.‬‬ ‫وهذا الديني في الأديان هو عينه الفلسفي في الفلسفات كما ورد في القرآن هو جوهر‬ ‫فلسفة الاستخلاف علاقة بين الله والإنسان المتحرر من التألهين اللذين وصفت تأله المتصوف‬ ‫والوساطة وتأله الحاكم المستبد والوصاية‪ .‬لذلك فالقرآن درس نسقي للوساطة والوصاية‬ ‫بوصفهما علة التحريف تحولان دون الحرية الروحية (التي تعارضها الوساطة في التربية‬ ‫الروحية) والحرية السياسية (التي تعارضها الوصاية في الحكم السياسي)‪.‬‬ ‫ولذلك فيعسر على من ربي تربية شيعية أو مسيحية أو يهودية يمكن أن يفهم هذين‬ ‫الثورتين القرآنيتين لأن هذه الرؤى ثلاثتها تنبني على مؤسسة الوساطة في التربية ومؤسسة‬ ‫الوصاية في السياسة‪ .‬وطبعا السنة أيضا نكصت إلى هذه الرؤية نكون أمر واقع دون أن‬ ‫يكون نكوص أمر واجب لأنها رؤية ليست عقدية بل تعتبر منافية للعقيدة‪.‬‬ ‫فالسنة خاضعة لمبدأ الضرورة التي تبيح المحظور بسبب التحول الذي حصل بعد الفتنة‬ ‫الكبرى ما جعلها تربى وتحكم بعكس ما في عقيدتها أي بما يشبه حالة الطواري في الدول‬ ‫الديموقراطية التي تفرض تعطيل الدستور والحكم بالقوانين الاستثنائية فصار المؤقت‬ ‫دائما‪ :‬ما تزال السنة منذ أربعة عشر قرنا محكومة بحالة الطواري وقانون التغلب‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولا يمكن أن يجادل أحد قرأ القرآن حتى مرة واحدة في هذا البعد الأول من القرآن‬ ‫بوصفه يؤسس كل الـمضمون الديني والفلسفي على هذه العلاقة بحيث إن القرآن من حيث‬ ‫هو رسالة لاتخلو سورة من هذا الحوار الدائم بين الله والإنسان حول هذين الحريتين جاريا‬ ‫في كيان الإنسان يحييه التذكير بشيرا ونذيرا‪.‬‬ ‫وهذا هو اللامتغير الأول الذي ليس تاريخيا فيه إلا مراحل تحققه أو مراحل تذكره في‬ ‫حياة الجماعات الإنسانية الساعية للتحرر من الوسطاء ومن الأوصياء‪ .‬فيكون ثابته هو‬ ‫عينه بنيته العميقة التي تحكم التغير‪ .‬فإذا كان القصد النظر في مراحل تحققه أو مراحل‬ ‫تذكر بنيته العميقة فهما في تغير دائم لكن هذا التغير يجري في إطار ثبات لا يتبدل ولا‬ ‫يتحول وهو القصد بالسنن التاريخية في العمل والشرع‪.‬‬ ‫وهذا الأصل الأول الذي أثبته بوصفه الأصل الديني في كل دين من حيث هو علاقة بين‬ ‫الإنسان وربه هو عينه الفلسفي في كل فلسفة بمعنى أنه ثابت في كل الفلسفات والمتغير فيه‬ ‫هو مراحل تذكره ثمرة للمعنى السقراطي للتذكير وفيه السعي الدائب لتحرير الإنسان‬ ‫من الوسطاء والأوصياء وهو جوهر التنوير‪.‬‬ ‫وليس بالصدفة أن كان جل فلاسفة التنوير مثالين القرآن من روسو إلى لاسنج إلى جوته‪.‬‬ ‫وحتى هيجل على تحيزه لم يجد مفرا من اعتبار قيم الإسلام وحتى موقفه القيمي من جنس‬ ‫قيم الثروة الفرنسية رغم اختلاف التأسيس وطبعا هو كان يتصورها مصدرا للتعصب للمجرد‬ ‫ولو عاش الآن لاكتشف فيه غاية الإنسان عامة‪ .‬ويتفرع عن هذا الأصل المشترك الفلسفات‬ ‫الجزئية الأربع‪:‬‬ ‫‪ .1‬فلسفة الطبيعة إذ من ينكر أن القرآن يعتبر الخلق محكوما بالقدر أي بالمعادلات‬ ‫الرياضية مطبقة على التجربة الطبيعية؟‬ ‫‪ .2‬وفلسفة التاريخ إذ من ينكر أن القرآن يعتبر الأمر محكوما بالسنن التي لا تتبدل ولا‬ ‫تتحول أي القيم الخلقية والتجربة السياسية؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .3‬ومن ينكر أن القرآن يتكلم على تجهيز الإنسان بشروط النظر والعقد أي بشروط‬ ‫معرفة الآفاق والأنفس لأن العلم من حيث هو طلب الحقيقة هدفه العقد ليس بالمعنى‬ ‫المقصور على الدينيات بل العقد بمعنى عام هو مطلوب البحث العلمي لمعرفة قوانين‬ ‫الطبيعية من الآفاق والأنفس وليس من شرح النصوص؟‬ ‫‪ .4‬ومن ينكر أن القرآن يتكلم على تجهيز الإنسان بشروط العمل والشرع اي بشروط‬ ‫التعامل مع الآفاق والانفس لأن التعامل معهما هو تحقيق الحقيقة التي أوصل إليها النظر‬ ‫والعقد ليس بالمعنى الديني فحسب بل بالمعنى الفلسفي لتحقيق الحقيقة في التاريخ بالعمل‬ ‫والشرع عند الأفراد أو الجماعات؟‬ ‫وإذا كان كل ذلك يحدث في شكل تذكير بما هو حاصل بعد في كيان الإنسان فمعنى ذلك‬ ‫أن الأمر في صلة بمهمة الإنسان التي جهز لها بالنظر والعقد والعمل والشرع‪ .‬فما طبيعة‬ ‫الصلة الأولى التي يحتاج فيها الإنسان إلى النظر والعقد؟‬ ‫أليست صلة الإنسان بالطبيعة من حيث هي مصدر قيامه العضوي؟‬ ‫وما طبيعة الصلة الثانية التي يحتاج فيها الإنسان إلى العمل والشريعة؟‬ ‫أليست صلة الإنسان بالتاريخ من حيث هو مصدر قيامه الروحي؟‬ ‫وهل يمكن تصور الصفة الأولى بالطبيعة من دون تجاوزها إلى مابعدها فتكون هذه الصلة‬ ‫غير المباشرة بما وراءها تذكير بالصلة المباشرة بالله أو علاقة الاستعمار؟‬ ‫هل يمكن تصور الإنسان مستغنيا في يوم من الأيام من هذه الصلة بمعنى أنه يمكن أن‬ ‫يوجد من دون صلته بالطبيعة مستعمرا فيها في حين أن قيامه العضوي مستحيل من دون‬ ‫استمداد شروط بقائه منها؟‬ ‫أليس هذا أمرا ثابتا والمتغير هو أعيان ما يستمده من الارض مثلا ليغتذي وأنواع سلوكه‬ ‫إصلاحا وإفسادا؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫هل يمكن تصور الإنسان في يوم من الأيام مستغنيا عن هذه الصلة بمعنى أنه يمكن أن‬ ‫يوحد دون صلة بالتاريخ مستخلفا فيه في حين أن قيامه الروحي مستحيل من دون استمداد‬ ‫شروط بقائه الروحي منه (كل تراث الإنسانية المتراكم)؟‬ ‫أليس هذا أمرا ثابتا والمتغير أعيان المتراكم المذكر بعلاقة الاستخلاف؟‬ ‫فإذا كانت الصلة الأولى بالطبيعة صلة بين الإنسان والطبيعة فهي صلة عمودية وهي‬ ‫الاستعمار الذي بفضله يستمد الإنسان شروط بقائه العضوي‪ .‬وإذا كانت الصلة الثانية‬ ‫بالتاريخ صلة بين الإنسان والإنسان فهي صلة افقية وهي الاستخلاف الذي بفضله يستمد‬ ‫الإنسان شروط بقائه الروحي‪ .‬وللأول شرط غير ما للثاني‪.‬‬ ‫فشرط العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة هو التبادل بين البشر‪ .‬وهما متشارطان‬ ‫في الحقيقة‪ .‬وشرط العلاقة الأفقية بين الإنسان والتاريخ التواصل بين البش‪ .‬وهما‬ ‫متشارطان في الحقيقة‪ .‬فيصبح التبادل وشروطه أي التعاوض العادل والتواصل وشرطه‬ ‫أي التفاوض الصادق مقومي الحياة الجماعية في الاستعمار والاستخلاف‪.‬‬ ‫من ينكر أن أخلاق القرآن متعقلة بهما؟‬ ‫ومن يستطيع أن يتصور أن التبادل وشروطه والتواصل وشروطه يمكن أن يتغيرا بأكثر‬ ‫من التغير المضموني مع بقائهما الشكلي الدائم وبقاء شروطهما الخلقية الموجبة في الصلاح‬ ‫والسالبة في الطلاح؟‬ ‫هل يمكن أن يقبل الإنسان طوعا تبادلا دون تعاوض عادل؟‬ ‫وهل يمكن أن يقبل طوعا تواصلا دون تفاوض صادق؟‬ ‫والمعلوم أن رمز التبادل بشرط التعاوض العادل رمزه الميزان وفيه إنذار \"ويل‬ ‫للمطففين\"‪ .‬وأن رمز التواصل بشرط التفاوض الصادق رمزه \"الكلمة\" وفيه إنذار \"ويل‬ ‫لكل همزة لمزة\"‪ .‬فالويل تعلق بالمهمتين الاستعمار والاستخلاف وبما وراء الطبيعة وما وراء‬ ‫التاريخ أي بما يذكر بعلاقة الإنسان بربه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فهل يجد القارئ في القرآن الكلام في ظرفيات معينة في التبادل وشروط التعاوض العادل‬ ‫أم هو يترك ذلك لقدرة الإنسان على تنظيم عمله بتشريعات وضع أنها متعددة بالجوهر‬ ‫(لكل جعلنا شرعة ومنهاجا) ما يعني أنه ميز بالمتغير عن الثابت فادخل التعدد في الأول‬ ‫وحدد الثاني علاجها يكون بالاجتهاد؟‬ ‫وهل يجد القارئ في القرآن الكلام على ظرفيات معينة في التواصل وشروط التفاوض‬ ‫الصادق أم هو ترك ذلك لقدرة الإنسان على تنظيم علمه بتشريعات وضع أنها كذلك‬ ‫متعددة وهي في القرآن شروط الحوار التي يمكن أن نستخرج منه جل قواعده المنطقية‬ ‫والخلقية وخاصة الانفتاح على المحاور وحسن النوايا؟‬ ‫فالعلاقات الأربعة ولها أصل مشترك واحد وهي‪:‬‬ ‫‪ .1‬بين الإنسان والطبيعة بالنظر والعقد‪.‬‬ ‫‪ .2‬وبين الإنسان والتاريخ بالعمل والشرع‪.‬‬ ‫‪ .3‬ثم التبادل بالتعاوض العادل لثمرة العلاقة الأولى‪.‬‬ ‫‪ .4‬والتواصل بالتفاوض الصادق لثمرة العلاقة الثانية‪.‬‬ ‫‪ .5‬وأصل ذلك كله بالتلازم بين الخليفة والمستخلف مباشرة وبتوسطهما فتلك شروط‬ ‫الجماعة‪.‬‬ ‫وهذا كله يذكر به القرآن ليس بوصفه مضمون الرسالة بل بوصفه ما تشير إليه الرسالة‬ ‫في الآفاق والأنفس توجيها إلى آيات الله التي تتجلى فيها لتحديد لتبين حقيقة القرآن‪.‬‬ ‫ولما كان الإنسان نفسه فيه بالإضافة إلى الأنفس مقوم طبيعي هو كيانه العضوي ومقوم‬ ‫تاريخي هو كيانه الروحي فإنه ذو وجودين‪.‬‬ ‫فوجوده من حيث هو جزء من الطبيعة وجزء من التاريخ يكون كيانه من الآفاق وهو خاضع‬ ‫لقوانين الطبيعة وسنن التاريخ لكنه من حيث هو متميز عن الطبيعة والتاريخ وهو متعال‬ ‫عليهما بما هو مستعمر في الاول ومستخلف في الثاني يكون في صلة مع المرسل مباشرة ومعه‬ ‫بتوسط شرطي قيامه الطبيعي والتاريخي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهو بكيانه العضوي جزء من المكان الطبيعي وهو بكيانه الروحي جزء من الزمان‬ ‫التاريخي‪ .‬لكن له مكان تاريخي وزمان طبيعي‪ .‬ولذلك فمكانه مضاعف وزمانه مضاعف‪.‬‬ ‫وهو بذلك كائن ذو أبعاد خمسه اثنان زمانيان طبيعي وتاريخي واثنان مكانيان طبيعي‬ ‫وتاريخي‪ .‬ولهذه العلة هو محدود الحيزين ولا محدودهما‪.‬‬ ‫فمن حيث هو محدد التحيز المكاني والزماني هو كائن طبيعي لا يستطيع أن يخرج من‬ ‫المحيط الطبيعي بمكانه وزمانه‪ .‬لكنه من حيث هو لا محدد التحيز المكاني والزماني هو‬ ‫كائن روحي يخرج من المحيط الطبيعي إلى ما المحيط ما بعد الطبيعي فيسرح في فضاء‬ ‫اللامتناهي وتعدد العوالم فيتحرر من سجن الدنيا‪.‬‬ ‫ولما يرتقي إلى هذا الفضاء اللامتناهي ومتعدد العوالم يصبح متحررا من وهم المطابقة‬ ‫بين علمه وعمله المحدودين ووعيه بوجود اللامحدود فيهما وحتى وإن كان من اللامعلوم‬ ‫واللامعلوم إنسانيا‪ .‬ومن ذلك مفهوم الغيب المعرفي والخلقي‪ .‬أخبرنا القرآن بوجوده لكنه‬ ‫لم يخبرنا بمضمونه بدليل وما أوتيتم من العلم إلا قليلا وبديل وقد يكون خيرا ما ترونه‬ ‫شرا وشرا ما ترونه خيرا بل أكد أن مضمون علمه وقيمة عمله محجوبـان علينا بمن فينا‬ ‫الرسل والأنبياء‪.‬‬ ‫ولا يوجد عاقل يذهب به تضخم الذات إلى حد الزعم بأن علمه محيط إحاطة تجعله‬ ‫يقضي بإطلاق في حقائق الأشياء معرفيا وفي قيمها عمليا‪ .‬ومن أجل الحد من هذه القصور‬ ‫المعرفي والقيمي وضع الله مبدأين في سورة العصر هما مبدأ التواصي بالحق لمعرفته ومبدأ‬ ‫التواصي بالصبر لقيمته حتى يكونا شرطين للتعاون والتبادل وعدل التعاوض وللتفاهم‬ ‫والتواصل وصدق التفاوض بين البشر‪.‬‬ ‫وبذلك فهو قد أمدنا بصلة مباشرة بالله وبصلة غير مباشرة به عن طريق شروط بقائنا‬ ‫الطبيعية (مجال التبادل لسد حاجاتنا العضوية) والتاريخية (مجال التواصل لسد حاجاتنا‬ ‫الروحية) دون أن يطلق هذه الشروط بحيث تصبح هي المحددة كما يزعم من يريدون‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أرخنة الوحي والقرآن مدعين أن تطور المعرفة ينفي ثبات موضوعها سواء كان فلسفيا أو‬ ‫دينيا‪.‬‬ ‫فمجال التبادل أو الطبيعة لا يمكن أن يكون مستجيبا لما يبقينا من دون ما بعد يجعل بعض‬ ‫ما فيه مسخرا لنا‪ .‬ومجال التواصل أو التاريخ لا يمكن أن يكون مستجيبا لما يبقي نظام‬ ‫بقائنا من دون ما بعد يجعل بعض ما فيه من قيم شرط تعايشنا السلمي الذي من دون دونه‬ ‫لا يمكن أن يحصل التعاون بين البشر والتعاوض العادل‪.‬‬ ‫فيكون كلاهما وسيطا بين الإنسان وربه كما يتبين مما بعدهما المذكر بالعلاقة المباشرة بين‬ ‫الإنسان وربه في كيانه العضوي والروحي وهو ما يعتبر الوحي تذكيرا به‪ .‬ولذلك فالرسول‬ ‫الخاتم ليس وسيطا ولا وصيا بل إنما هو مذكر وليس مسيطرا‪ .‬وهذا كله متعال على التاريخ‬ ‫وعلى الظرفيات سواء كانت مرتبطة بذات الرسول أو بلسانه أو بثقافته أو بعصره‪ .‬وتلك‬ ‫هي الآيات التي في الآفاق والأنفس والتي إذا رأيناها بالبصيرة تبين لنا أن القرآن أو‬ ‫الوحي الخاتم حق وأن ما يبشر به وينذر منه حق وليس علاجات تاريخية متغيرة‪.‬‬ ‫انتهى‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪35‬‬ ‫الأسماء والبيان‬