أبو يعرب المرزوقي أو المسلمات الضمنية لعلم الكلام الجديد الأسماء والبيان
المحتويات 1 -الفصل الأول 1 - -الفصل الثاني 8 - -الفصل الثالث 15 - -الفصل الرابع 21 - -الفصل الخامس 28 -
-- حضرت أمس الأول (الخميس )2019.01.17محاضرة الصديق عبد الجبار الرفاعي الذي نزل ضيفا على قسم العلوم الإسلامية في بيت الحكمة حول نظرية الوحي بين الدهلوي (من كبار علماء السنة في القرن )18-12وشبستري (من متكلمي التشيع معاصر لا يزال حيا يرزق) .وكان مدار الإشكال علاقة الوحي بالتاريخ وظرفياته. وفي الحقيقة ،فالإشكال الأعمق الذي جعل الدكتور عبد الجبار مداره حول الوحي والتاريخ إن صح التعبير (تاريخ ظرفيات التعين الفعلي للرسالة) هو رؤية ما يسمى بعلم الكلام الجديد. وقد سبق لي أن بينت أن علم الكلام الجديد بدأ في الفلسفة الغربية بعد أن نكص بها هيجل إلى ما قبل كنط وخاصة إلى علم الكلام القديم عندما جعل مدار فلسفته بكل أبعادها وليس فرعها المتعلق بفلسفة الدين إحلال الإلهي في الإنساني برمز المسيح (راجع في ذلك مقدمتي ترجمتي لدروسه في فلسفة الدين وكذلك خاصة محاضرتي في المقارنة بين موقفه وموقف ابن رشد من أدلة وجود الله). ففلسفة هيجل كلها بما في ذلك منطقه الذي هو ميتافيزيقاه ترجمة فلسفية لطبيعة الرؤية المسيحية التي تعتبر المسيح ابن الله والإلهي حالا في الإنساني أمرين كلاهما يعتبرهما الإسلام تحريفا لأن المسيح فيه إنسان رسول وعبد من عباد الله وليس إلها ولا إبن إله (آل عمران .)79فعلم الكلام الجديد متأثر بالهيجلية ومن ثم فهو مشروط بتمسيح الإسلام وهو يؤول إلى الانتقال من تحديد علاقة الإنساني بالأهلي من رؤية الاستخلافية إلى الرؤية الحلولية. وبهذا المعنى ،فله أساس ذاتي في الثقافة الإسلامية إذ هو قد بدأ مع التصوف المتفلسف وهو بنحو ما شديد القرب من التشيع بتوسط الأيمة الذين لهم دور المسيح .وليس هذا ما يعنيني ،بل التفسير الفلسفي لمثل هذه الرؤية التي أردها إلى رؤيتين: أبو يعرب المرزوقي 1 الأسماء والبيان
-- 1 .1ابتسمولوجية (نظرية المعرفة المطابقة أو رد الوجود إلى الإدراك ما يعني توهم العلم المحيط ونفي الغيب المعرفي) .2وأكسيولوجية (نظرية القيمة المطابقة أو التحسين والتقبيح العقليين ما يعني العمل المحيط ونفي الغيب القيمي :ما نظنه خيرا وهو شر وما نظنه شرا وهو خير). والمسألة عند هيجل هي بنحو ما جوهر التطابق بين فلسفة التاريخ وفلسفة الدين لأن التاريخ من حيث هو محكوم بأرواح الشعوب يرد إلى الدين الذي هو العبارة الحقيقية عن أرواح الشعوب رغم أنها متعينة في كل أقوالها وأفعالها فيكون الدين هو خلاصتها وجوهر الروحي فيها. وتلك هي الإشكالية التي تعنيني في المقام الأول والتي سأتكلم فيها ولن أتكلم إلا فيها. وقد عالجت الموضوع في كلامي على هيجل لكن ما يعنيني في المحاولة ليس هيجل بل أمران: .1إذا كان يمكن لهيجل أن يفلسف الرؤية المسيحية لمفهوم المسيح وعلاقته بالرب-الابن الشفيع-فكيف يمكن لمسلم أن يفلسف القرآن بما يماثل ذلك فيلغي مفهوم الاستخلاف ويعوضه بما يجعل الإنسان وكأنه \"ابن الله\" أو المسيح؟ .2وهل القائلون بما يسمى كلاما جديدا مدركون بأن شرطه تمسيح الإسلام بهذا المعنى الذي يعتبره تحريفا كما هو بين من آل عمران 79؟ والأمر الأول إذن متعلق بطبيعة القرآن والأمر الثاني متعلق بطبيعة القائلين بالكلام الجديد .وسأبدأ بالأمر الثاني .وهو ما يعلل استعمال الأستاذ عبد الجبار الدهلوي ممثل غاية ما وصل إليه التصوف المتفلسف في العصر المتأخر من الفكر الصوفي-الذي يفضل تسميته بالاصطلاح الشيغي بالعرفان النظري. لكن الكلام الجديد لا يصدر عن الفلسفة الهيجلية وحدها بل له مصدر قديم هو الذي عاد إليه هيجل كما بينت في غير موضع .فما نسميه كلاما جديدا له مصدران: .1قديم هو التصوف المتفلسف هو سابق على هيجل الذي كان هو نفسه متأثرا بالتصوف المتفلسف (من له دراية بتكوينية فلسفته يتبين له ذلك) أبو يعرب المرزوقي 2 الأسماء والبيان
-- .2وحديث ترتب على فلسفة هيجل التي بنت عليه رؤية التاريخ بوصفه عين تحقق أرواح الشعوب أي عين مرحل تعين الروح الكلي. واختبار الدهلوي وشبستري موفق إلى حد كبير لكونه يمثل هذين المصدرين: • مصدر التصوف المتفلسف • ومصدر الفلسفة المتصوفة إن صح التعبير. وكلاهما يبدوان لي طبيعيين في رؤية شيعية لكنهما لا يمكن أن يقبل بهما الفكر السني إذا كان فكرا حقا وكان بالطبع يعلم علة ما لا يمكن أن يطابق رؤية القرآن .ولست أنفي سنية الدهلوي بل سنية التصوف المتفلسف لما سنرى من العلل. وقبل أن أعلل هذا الحكم الذي يبدو مبنيا على التمييز الحاسم بين الرؤيتين السنية والشيعية دينيا وفلسفيا ما يعني أنهما رؤيتان لا يمكن أن تلتقيا لا دينيا ولا فلسفيا لا بد أن أذكر ما اعترضت به مساء الأمس على موقف المتكلمين الجدد وعلاقتهما بالتصوف المتفلسف في العلاقة بين القرآن والتاريخ وأنه ليس مبنيا على حجج دينية بل على حجج فلسفية خالصة تسليما بهذا الفصل لكونه من شروط موقف المتكلمين الجدد لأن ما منه يستمدون الأرخنة والدوننة يزعمون أنه نتيجة حتمية لمنظور الفلسفة والعلوم الحديثة في الدين. كان اعتراضي متعلقا بضمائر هذا الموقف المؤرخن للوحي بمعنى اعتباره استجابة للظرفيات التي نزلت فيها الرسالة ولحياة النبي نفسه وشعبه ولغته وخاصة اعتبار النبي مترجم للوحي بلسان قومه -كما يرى الشيخ المتألمن -وقد حصرتها في خمسة ضمائر مسكوت عنها من أصحاب الكلام الجديد والتصوف المتفلسف. وقدمت لاعتراضي بأني مستعد للقبول برؤى المتكلمين الجدد والتصوف المتفلسف أي مصدري أرخنة الوعي ودوننته (رد ما ليس بدنيوي إلى الدنيوي) إذا أثبتوا لي أنهم واعون بهذه الضمائر وقادرون على إثباتها بأي طريقة شاءوا ،منطقية أو نقلية ،أي أبو يعرب المرزوقي 3 الأسماء والبيان
-- بنصوص من القرآن .ولا يمكنهم ادعاء اللدنية حتى لو سلمناها لهم لأنها تتنافى مع دعواهم الأرخنة والدوننة. ولما كنت لا أومن بوجود علم لدني أو عرفاني بلغة صوفية متفلسفة ،فإنـي مستعد لأن اثبت بالاستدلال العقلي والنقلي أنها أوهام أو حيل لتأسيس سلطة روحية وسلطة سياسية. وهذان الاستدلالان هما الطريقتان الوحيدتان الممكنتان للتواصل بين البشر لأن اللدني حتى لو سلمنا بوجوده فهو وجداني ولا ينقال (ابن خلدون :شفاء السائل). فما هي الضمائر المسكوت عنها في رؤية المتكلمين الجدد وهي شارطة لموقفهم حتما؟ وأبدأ بأكثرها بداهة: .1هل العالم الدنيوي والتاريخي فيه ما يثبت أنه الوحيد الموجود بحيث ينفي إمكان وجود غيره حتى من باب الفرض شديد الاحتمال؟ وأثني بشرطه. .2هل يوجد في علمنا بالغا ما بلغ ما يثبت أنه مطابق لحقيقة الوجود الخارجي حتى في هذا العالم الدنيوي أو في عالم الشهادة؟ ثم: .3عن أي وحي نتكلم؟ فالقرآن لم يقصر الوحي على الأنبياء والرسل بل الله يوحي للنمل والنحل والرجل والمرأة والطفل والشيخ فهل الوحي للنمل والنحل مثلا يخضعان لظرفيات الإيحاء خضوع الوحي الذي يتلقاه الأنبياء ويترجموه بلغة قومته وعاداتهم حتى لو سلمنا بالبسط والقبض الشبستري؟ ثم: .4هل الوحي الذي يتلقاه النبي يتعلق بمضمون يأتي به الوحي أو بإحالة على مضمون موجود في كيان الإنسان لأن القرآن لم يقل إن النبي يقدم شيئا نزل عليه مضمونيا بل طلب منه أن يذكر الإنسان بما فيه مفطورا وحدده القرآن بكونه عقدا بين أبناء آدم وهو في ظهور آبائهم (الأعراف .)173-172 أبو يعرب المرزوقي 4 الأسماء والبيان
-- وأخيرا: .5هل القرآن فيه علم بالغيب يحتاج إلى ترجمة نبوية فيكون النبي وسيطا بين كلام الله والإنسان المخاطب به أم إن الكلام بنوعيه القديم والجديد والتصوف الفلسفي يخلط بين الإعلام بوجود الغيب والعلم بمضمونه ما يعني أن مفهوم الرسالة يصبح مستحيلا فضلا عن كون النبي ينفي علمه بالغيب. لما كنت واثقا من أن هذه الاعتراضات لا يمكن الرد عليها لا عقلا ولا نقلا وكنت لا أقبل غيرهما لأني اعتبر اللدنية من أكاذيب موظفي الدين ليستمدوا منه سلطانا على الناس بإيهامهم أنهم يعلمون الغيب انتهيت إلى النتيجة التالية: الكلام الجديد والتصوف المتفلسف هدفه النكوص دون ثورتي الإسلام الروحية والسياسية حتى يؤسس للوساطة في الأولى والوصاية في الثانية. وثورتا الإسلام تلخصها آية واحدة لا يمكن أن يجادل فيها ذو عقل\" :فذكر إنما أنت مذكر \" وهي الثورة الأولى أو ثورة الحرية الروحية المخلصة للإنسان من الوسطاء \"لست عليهم بمسيطر\" هي الثورة الثانية أو ثورة الحرية السياسية المخلصة للإنسان من الأوصياء. \"فإنما\" حاصرة وهي تلغي كل وساطة بين الإنسان وربه .فالنبي يذكر بما فطر عليه الإنسان ومن ثم فهو لا يأتي بمضمون غير ما يجده الإنسان بالتذكر. وهذا كاف لتحرير الإنسان من وساطة روحية بينه وبين ربه ومن ثم فهو ملغ للمرجعيات التي تدعي سلطة روحية عليه .وسنرى ما الذي يتعلق به التذكير أو القصد بما هو مرسوم في فطرة الإنسان وينساه فيكون دور الرسالة تذكيرا به وليس إتيانا بمضمون جديد غير سابق الوجود في كيان الإنسان. وغني عن البيان أنه من السخف تصور الله يرسل رسالة إلى البشر ويضع فيها ما لا يمكن أن يعلموه إذ القرآن ينفي صراحة علم الإنسان بالغيب فينتج من ثم أن القرآن من حيث هو رسالة تذكير للبشر بما يوجد فيهم لا يذكرهم بما لا يستطيعون تذكره وإذن فليس فيها غيب أصلا بل فيه إعلام بوجوده حدا لعلم الإنسان فيكون علم الإنسان وعمله محدودين أبو يعرب المرزوقي 5 الأسماء والبيان
-- بـالغيب .لا يذكر القرآن الإنسان إلا بما يستطيع علمه وعمله حتى يكون التكليف بالمستطاع. وسنرى كيف حدد القرآن ما يستطيع الإنسان علمه (فصلت )53وحدد ما لا يستطيع علمه (آل عمران )7لكن الفقهاء والمتصوفة والمتكلمين والفلاسفة والمفسرين عكسوا تماما فأهملوا المأمور به واهتموا بالمنهي عنه وهو ما جعل علوم الملة الغائية الخمسة كلها تحريفا للإسلام مائة في المائة. وهنا آتي إلى علة العلل :الهدف هو تأسيس سلطة روحية بين الله والإنسان أو بين القرآن والإنسان .فلا يكون القرآن خطابا مباشرة يوجهه الله للمؤمنين بل جعلوه مقتضيا وسطاء جعلا كان صريحا جزءا من العقيدة عند الشيعة وهو ضمني حتى ولو لم يصبح جزءا من العقيدة عند السنة في عبارة \"ورثة الأنبياء\". ليس للأنبياء ورثة لا في الثروة ولا في التراث .هذه من الاكاذيب التي افسدت على المسلمين أحد فروض العين فجعلته فرض كفاية خلطا بين التخصص الذي يقتضيه التعليم وبين الوساطة الروحية التي ينفيها القرآن .العالم معلم يذكر وليس وسيطا روحيا يمثل إرادة الله :فكل نفس بما كسبت رهينة. ونمر الآن إلى الثورة الثانية وهي ثمرة الثورة الأولى وغايتها :لم يكتف القرآن بالقول \"إنما أنت مذكر\" وهي الثورة الأولى بل أضاف \"لست عليهم بمسيطر\" .وهذه لا تتعلق بالوساطة بل بالوصاية .وهي النكوص الثاني الذي تحقق صراحة في التشيع وضمنا في التسنن :الأيمة عند الشيعة جزءا من الأمر الواجب في العقيدة وأولي الأمر عند السنة جزءا من الأمر الواقع في الشريعة .وما هو أمر واجب عند الشيعة غير حاصل في الأمر الواقع بسبب الغيبة .وما هو أمر واقع عند السنة غير الواجب غير الحاصل بسبب التغلب. لكن إذا كان الرسول ليس مسيطرا أي ليس له سلطان \"زماني\" على المؤمنين وليس له سلطان \"روحاني\" عليهم فالقول بالوسيط في التربية وبالوصي في الحكم كفر بالقرآن .وهو نكوص إلى نظامي التربية والحكم في المجتمعات المتقدمة على الإسلام والتي لا تعتبر الفرد أبو يعرب المرزوقي 6 الأسماء والبيان
-- في علاقة مباشرة مع ربه .وهذه العلاقة المباشرة مع الرب روحية وسياسية .فهي روحية وسياسية تحررا: .1روحيا من الوساطة في التربية لأن الله أقرب إلى الفرد من حبل الوريد. .2وسياسيا من الوصاية في الحكم لأن الشورى 38تجعل الأمر أمر الأمة. والأمة تعرف بكونها مؤلفة ممن استجابوا لربهم في إدارة أمرهم بالشوري بينهم ولا حاجة لوصي عليهم سواء كان إماما (تشيع) أو ولي أمر(تسنن). من ينوب الأمة فرض كفاية ليس هو ولي أمر بل هو نائب صاحب الأمر الذي هو الأمة. فالانشغال بالأمر فرض عين .وهو عين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (آل عمران )104 شرطا في كون الإنسان منتسبا إلى الخيرية (آل عمران .)110فيكون من تنوبه الأمة مجرد أجير عندها قيما مؤقتا على الأمر فرض كفاية. أبو يعرب المرزوقي 7 الأسماء والبيان
-- أبدأ الفصل الثاني بسؤال كان ينبغي أن يجيب عنه المتكلمون جديدهم وقديمهم ومثلهم التصوف الفلسفي: هل ينطلقون في كلامهم على الوحي في الرؤية القرآنية من الوحي كما يعرفه القرآن؟ أم هم يأتون إليه ليؤولوه بما يطابق رؤاهم المستمدة من خارجه سواء كانت دينية أو فلسفية درس القرآن تحريفاتها؟ وهل يميزون بين الإعلام بوجود الغيب بوصفه مفهوما حدا مفاده أن علم الإنسان نسبي وليس محيطا والعلم بالغيب الذي يفيد العكس تماما بمعنى أن علم الإنسان غير نسبي ومحيط؟ كل قارئ نزيه للقرآن لا يجد المعنى الثاني فيه بل كل ما يجده هو المعنى الأول فضلا عن كون الثاني منافيا لمعنى التراسل. كيف يمكن أن يكون القرآن رسالة ورسالة خاتمة ثم يتضمن التناقض المطلق ،فيحتوي على ما ينافي معنى الرسالة أي إنها تأتي بما لا يمكن للمرسل إليه أن يعلمه وأن يفهمه؟ فإذا كان المرسل مطلق الصفات فلا يمكن أن يوجد فيه مثل هذا العيب فيرسل رسالة منافية لذاتها تعلم الإنسان بحجب الغيب وتتضمنه؟ القرآن رسالة خاتمة: فيها: .1مرسل هو الله .2ومرسل إليه هو الإنسان .3ورسول حدد دوره بكونه إنما هو مذكر وظيفته تبليغ التذكير بما يوجد في كيان الإنسان .4وهذا هو مضمون الرسالة .5بمنهج تبليغ حددته سورة الإسراء في آيتها :106فرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث ونزلناه تنزيلا. أبو يعرب المرزوقي 8 الأسماء والبيان
-- فيكون المذكر في الحقيقة هو القرآن وليس الرسول :لأنه هو الذي سيقرأه على الناس على مكث وهو مذكر بهذا المعنى أي الصوت الذي يقرأ الذكر أي القرآن. ويصبح السؤال هو :كيف يذكر القرآن بما ينبغي أن يكون موجودا قبل التذكير في محل ما وليس في الذكر ذاته الذي هو فعل إشارة لما يذكر به؟ ما يذكر به القرآن ليس في نصه بل في المحل الذي غفل الإنسان عن تجلي آيات ربه فيه. وتلك هي الآيات التي يذكر بها القرآنَ {:سنُ ِريهِ ْم آيَا ِت َنا فِي ا ْلآ َفا ِق وَفِي َأن ُف ِسهِمْ حَ ّتَ ٰى يَتَبَيَّ َن َل ُه ْم أَ َّنهُ الْحَ ُقَّ ۗ أَوَ َلمْ َي ْكفِ ِبرَ َّبِ َك أَنَّهُ عَلَ ٰى كُ ِّلَ شَيْءٍ َشهِي ٌد }(فصلت .)53 فإذا فهمنا أن القرآن يعتبر تبين أنه الحق لا يستنتج من شرح ألفاظه-وهو ما يرد إليه مضمون التفاسير كلها-بل مما يرينه من آياته في الآفاق وفي الأنفس فمعنى ذلك أن الآفاق والأنفس هي المحل الذي تتجلى فيه الآيات وأن الآيات غير هذا المحل وهي من ثم ما هو ثابت فيهما من نظام قيامهما. ونظام القيام أو الآيات التي تتجلى في الآفاق وفي الأنفس هو مادة كل استدلال قرآني سواء كان بأسلوب الاستدلال المفهومي ذي البنية المنطقية أو الدرامي ذي البنية القصصية (وهما أسلوبا القرآني) بحيث إن المعجزة القرآنية ليست معتمدة على خرق العادات بل على نظام لا يتحول وفوق التاريخ. ولا يعني ثبات هذا النظام الذي تمثله آيات الله في الآفاق وفي الأنفس وعدم تحوله في ذاته أن علمنا به ثابت وغير متحول لأن علمنا كما يؤكد على ذلك التذكير القرآن اجتهادي وهو نسبي وغير محيط ومن ثم فهو مجال البحث الذي لا يتوقف مهما طال عمر الإنسانية ثم هو ليس موجها إلى البشر وحدهم. فجميع الكائنات والمخلوقات أمم مثلنا والخطاب موجه إليها ليذكرها بما يناسبها من نظام الآفاق والانفس أو من آيات الله فيهما آياته التي تبين أن القرآن هو الحق بشهادة الله نفسه كما في الآية .وهذا هو الوحي الموجه إلى جميع الموجودات كل بحسب نوع تلقيها للرسالة التي هي آيات الله فيهما. أبو يعرب المرزوقي 9 الأسماء والبيان
-- ونظام القيام في الآفاق والانفس أو آيات الله المتجلية فيهما حدد القرآن طبيعته بالنسبة إلى الآفاق وإلى الأنفس .وهو مخمس الأبعاد اثنان للآفاق واثنان للأنفس وأصلها جميعا. فالآفاق نوعان :الطبيعة والتاريخ. .1فالطبيعة والقرآن قال إنها خاضعة لنظام رياضي مطبق على ما تدركه الحواس منها (كل شيء خلقناه بقدر) .وهذا هو نظام الخلق. حدد القرآن طبيعة النظامين لكنه لم يمدنا بأي قانون محدد للطبيعة وأي سنة محددة للتاريخ رغم كلامه على مثلهما العليا وإرشاده بتعيين طبيعتهما والتوكيد على ثبات نظامهما دون نفي للتغير إذ الثابت في التغير هو نظامه :قوانين وسنن .لذلك فخرافة الإعجاز العلمي بمعنى قوانين أو سنن محددة قابلة للصوغ في عبارات يصح وصفها بكونها علمية بالمعنى العلمي الذي لا يمكن أن نصل إليه بغير البحث العلمي قول مناف للقرآن تمام المنافاة لأن ذلك يعني أن الإنسان ليس مكلفا بطلب العلم بل يكفيه معرفة العربية. لو كان القرآن مدونة قوانين علمية لكان معنى ذلك يدعوا المؤمنين لعدم القيام بالبحث العلمي والاكتفاء بشرح الفاظ القرآن السقيم الذي يعتمده أصحاب الأعجاز وهو من أدلة الكسل والسخف والدجل .وإذا كان نظام الأفق الطبيعي رياضيا تجريبيا فما هو نظام الأفق التاريخي للموجودات عامة وللإنسانية خاصة. ولا بد هنا من الرد على اعتراض وجيه :ما أقدمه هنا أليس هو علما مستمد من القرآن؟ والجواب يستمد من ضرورة التمييز بين الإشارات الرؤيوية والعلم .فالإشارات الرؤيوية تتعلق بشروط العلم والعمل وليست علما ولا عملا .فعندما أتكلم عن النظر والعقد من حيث هما تجهيز متقدم على الشروع في العلم وعن العمل والشرع من حيث هما تجهيز متقدم على الشروع في العمل وعن طبيعة الظاهرات الطبيعية وعن طبيعة الظاهرات التاريخية فالكلام ليس علميا بل رؤيويا مشروط في الشروع في العلم والعمل. ولو لم يكن ذلك كذلك لاستحال الاكتساب العلمي أو العملي أصلا والشروط الرؤيوية هي ما يتجلى للإنسان من ذاته ومن محيطه بمجرد لقائه بهما في ما يمثل شروط قيامه أبو يعرب المرزوقي 10 الأسماء والبيان
-- العضوي والروحي :لا يمكنه أن يتعامل مع الطبيعة ومع التاريخ من دون أن يكون لهذا التعامل دور المذكر بما فيه من تجهيز شارط للتعامل وبما فيها من طبائع شارطة لسد الحاجات التي فيه .وتلك هي آيات الله في الآفاق والأنفس المؤسسة للبحث العلمي والعملي في حياة البشر أعني لما نتبين به أن القرآن حق. .2والتاريخ قال القرآن إن نظامه سنن خلقية وتطبيقاتها سياسية وهي سنن لا تتبدل ولا تتحول لكن علمنا لها تاريخي ونسبي دائما .وهذا هو نظام الأمر. والآن ما هما نظاما الأنفس؟ إنهما ما جهز به الإنسان لكي يذكر ذينك النظامين. .3فلا يمكن للإنسان أن يعلم نظام الطبيعة إذا لم يكن مجهزا بالنظر (الرياضيات والتجربة). .4ولا يمكن أن يعلم نظام التاريخ إذا لم يكن مجهزا بالعمل والشرع (الأخلاقيات والسياسة). فما هو أصل هذه النظم الأربعة؟ أصل هذه النظم الاربعة (اثنان للآفاق الطبيعية والتاريخية ،واثنان للأنفس أو لتجهيز الإنسان حتى يكتشف نظام الأفق الطبيعي خارجه وفيه وحتى يكتشف نظام الأفق التاريخي خارجه وفيه) يحدده القرآن بوصفه عين مهمتي الإنسان في الوجود: .1مستعمر في الأرض. .2بقيم الاستخلاف فيها. كل القصة هي إذن قصة الاستخلاف والاستعمار في الأرض .ذلك هو مضمون التذكير. تكليف بمهمة هي الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف وشروط ذلك علاقة بالطبيعة لقيام الإنسان العضوي وعلاقة بالتاريخ لقيامه الروحي وشرط الأول علوم الطبيعة وشرط الثاني علوم التاريخ .وإذن فنحن أمام خمس فلسفات هي عين مضمون الرسالة التي يذكر بها الرسول بوصفه بشيرا ونذيرا: أبو يعرب المرزوقي 11 الأسماء والبيان
-- .1فلسفة الأصل هي علاقة بين خليفة (الإنسان) ومستخلف (الله). .2فلسفة الطبيعية رياضية تجريبية. .3فلسفة التاريخ خلقية سياسية. .4الابستمولوجيا أو تجهيز الإنسان بقدرة النظر والعقد لعلمهما. .5والأكسيولوجيا أو تجهيز الإنسان بقدرة العمل والشرع للعمل فيهما. ولا يوجد في القرآن شيء آخر يتعلق بغير هذه الفلسفات وما يترتب عليها في نظام حياة الإنسان من حيث هو مكلف بمهمة تعمير الأرض بقيم الاستخلاف .وهي رؤى فلسفية وليست علوما أي إنها توجه الإنسان إلى ما عليه إنجازه ليحقق مهمته بوصفه مستعمرا في الأرض بقيم الاستخلاف مع تذكيره بأن علمه وعمله محدودان وليسا محيطين .ومن ثم فهو مطالب بالاجتهاد في النظر والعقد والجهاد في العمل والشرع والحرص على الصدق فيهما علما وأن النتيجة بيد الله وليست بيده. ويمكن أن نستنتج كل ما في القرآن من هذه للبنية العميقة للتذكير القرآني .فلو كان الإنسان ذا علم بالغيب محيط لا لاستحال أن يكون الإسلام في نفس الوقت الديني في كل دين والناقد لكل التحريفات السابقة التي أصلها وفصلها محاولة إيجاد وسيط روحي بين المؤمن وربه ووصي سياسي عليه. وقد حدد القرآن التحريف الذي يتصدى له بمنهج التصديق والهيمنة فرده في سورة آل عمران إلى حلف صريح بين الساعين إلى تأسيس السلطان الروحي على المؤمنين (وساطة رجال الدين) وللسلطان الزماني عليهم (وصاية الحكام) لمنع حرية الإنسان الروحية أو العلاقة المباشرة بين المؤمنين وربهم وحريتهم السياسية بينهم وبين أمرهم .فيجعلونهم تابعين في أخراهم وفي دنياهم .وكلتا التبعتين لا يقبل بهما يوم الدين لأن الإنسان يأتي ربه فردا مسؤولا على أعماله ولا يقبل منه الاحتجاج بالوسيط ولا بالوصي. وهدف المتكلمين والمتصوفة هو الوساطة الروحية ومن ثم فكل واحد منهم يريد أن يكون وسيطا بين المؤمنين وربهم إما بوضع مدونات عقدية أو طرق صوفية غايتها تحريف التربية أبو يعرب المرزوقي 12 الأسماء والبيان
-- بمنطق \"إنما أنت مذكر\" إلى \"إنما أنت ملقن\" .وهم في خدمة حكام هدفهم الوصاية على المؤمنين نفيا للشورى .38وبذلك فهم \"أمراء\" الثورة المضادة ضد ثورتي الإسلام: .1ثورة تحرير الإنسانية من وساطة الكنيسة الروحية. .2وثورة تحرير الإنسان من وصاية الحكم السياسي. وسواء كان ذلك بدعوى عصمة الأيمة أو بدعوى قوة الشوكة والعصبية .وهذان الثورتان المميزتان للإسلام هما ما يحاربه الكلام والتصوف بدعوى معرفة الغيب وقلب قاعدتي العلم والعمل. قلبوا قاعدة النهي عن ادعاء العلم بالغيب آل عمران 7فحرفوها وزعموا أن الراسخين في العلم لهم القدرة على تأويل المتشابه مثل الله بأن جعلوا \"واوها\" عطفية بدلا من كونها استئنافية .فكان أن صارت القلوب الزائغة ومبتغية الفتنة هـي المسيطرة على فكرهم وهم علة كل الحروب بين الملل والنحل. وقلبوا فصلت 53وبدلا من طلب آيات الله في الآفاق وفي الأنفس أهملوها وتصوروا العلم موجودا في ألفاظ القرآن .فصار علمهم أكداس من ثرثرة خالية من العلم بالآفاق الطبيعية رياضيا وتجريبيا وبالأفاق التاريخية خلقيا وسياسيا واكتفوا بالوعظ والإرشاد فلم يسهموا في تعمير الأرض بقيم الاستخلاف .والنتيجة هي عكس ما طلبت سورة العصر شروطا للاستثناء من الخسر الذي هو نسيان ما دور الرسالة التذكير به: .1لم يعد المسلم مؤمنا حقا. .2ولا عاملا صالحا. .3ولم تعد الأمة متواصية بالحق في الاجتهاد. .4ولا متواصية بالصبر في الجهاد. .5فأصبحت فاقدة لحرية الإرادة ولصدق العلم ولخير القدرة ولجميل الحياة ولجليل الوجود بل هي صارت متصفة بعكس ذلك كله وذلك هو الخسر الذي تعتبر تلك الشروط الاربعة شروط الاستثناء منه .والعلة هي تجني هؤلاء الأدعياء على القرآن. أبو يعرب المرزوقي 13 الأسماء والبيان
-- وسأقف عند هذا الحد لأن باقي المسائل المتعلقة بالمضمرات في الكلام والتصوف درستها في عديد المواضع وخاصة مسألة تعدد العوالم وعلاقة ذلك بالنكوص الهيجلي وعودته إلى كلام القرون الوسطى وتصوفها ليصوغ فلسفيا الرؤية المسيحية لفلسفة الدين .ولا حاجة لتكرار ما سبق بيانه بالدقة اللازمة. أبو يعرب المرزوقي 14 الأسماء والبيان
-- وقوفي عند ذاك الحد في الفصل السابق لا يعني نهاية المحاولة بل يعني نهاية الكلام في مضمون المحاضرة التي علقت عليها لأمر إلى مسالة مبدئية هي التي تحرك أصحاب الكلام الجديد دون اعتبار للدوافع العقدية أو الإيديولوجية أعني ما يجعل حلولهم تبدو \"فلسفية\" و\"عقلانية\" و \"حداثية\" و\"تنويرية\" .ويتعلق الأمر بمسألتين: .1ما يسمونه ثمرات المنهجيات الجديدة لدراسة الدين شكلا ومضمونا. .2وما يسمونه علاقة الدين بالتاريخ من حيث الرسالة والرسول. • والأول يزعمونه حاجة أبستمولوجية. • والثاني يعتبرونه ضرورة وجودية. فلا يمكن أن يبقي تقدم العلوم الأديان خارج ثمراتها .ولا يمكن أن نتصور شأنا إنسانيا خارج التاريخ مطلق الجمود. ويبدو هذا الكلام معقولا إلى أقصى حد .إذ فعلا تقدمت المعرفة إلى حد كبير ويصعب أن يبقى الدين وعلومه خارج رهاناتها وثمراتها .وفعلا كذلك يصعب أن يكون كل شيء تاريخيا ويبقى مع ذلك ما في القرآن خارج التاريخ فيفهم ويؤول وكأن دلالاته .لكن ما يبدو بداهة معقولية هو في الحقيقة بادئ رأي. وبادئ الرأي هو ما يتجاوزه من يسمون أنفسهم عقلانيين وتنوريريين وحداثيين من العرب وخاصة أولئك الذي يتجرؤون على الإسلام ويحاولون بكل الوسائل تطبيق ما يمكن أن ينطبق على الأديان المحرفة التي كان نقده لتحريفه سباقا بمنهج التصديق والهيمنة المتحرر من هذه الضمائر المستحيلة نقدا لـمعنيي التحريف الذي تقدم القرآن في علاجه قبل ما بدأ يحصل في الفكر الغربي الحديث بهذه الضمائر أو ما ينسب إلى سبينوزا في كلامه على اليهودية وكل ما يقال عن نقد التوراة وصيغ الأناجيل: .1التحريف المادي ويتعلق بمادة النص نفسه زيادة ونقصانا. .2التعريف المعنوي تحريفا للعقائد نتيجة للمادي أو غير ذلك. أبو يعرب المرزوقي 15 الأسماء والبيان
-- لكن ذلك لا يحول دون بقاء شيء من الوجاهة حول المسألة الثانية المتعلقة بالتاريخية. وهي مضاعفة: .1كيف يمكن ألا يكون القرآن متأثرا بالبيئة التي نزل فيها وهي مرحلة تاريخية من ثقافة أمة. .2وكيف يبقى القرآن بعد نزوله محافظا على دلالات صالحة لكل زمان ومكان: الاعتراضان يحتاجان لتوضيح. لكنها وجاهة دالة على سذاجة أصحابها .لو كانت فصلت 53قد اعتبرت الآفاق والأنفس هي ما يبين حقيقة القرآن لكان اعتراض التاريخية فعلا اعتراضا وجيها .لكنها قالت آيات الله في الآفاق وفي الأنفس .فلا شك أن الآفاق والأنفس متغيرة لكن الكلام لا يتعلق بها بل بما يتجلى فيها من آيات الله فهل هي متغيرة؟ وأبدأ بحجة عامة من حجج العقل السليم :لو كان كل شيء متغيرا لاستحال التغير ولاستحال علمه .فلا بد أن يوجد شيء يتغير وهو غير تغيراته ولا بد أن نقيس التغير بالإضافة إليه .وحجة العقل السليم وحدها لا تكفي وليست مقنعة لأن الرد عليها سهل جدا :البداية يمكن أن نميزها عما يليها وهو تغيرها. لذلك فالسؤال هو ما الثابت في التغير حتى لو لم يكن قابلا للعلم بصورة ثابتة؟ فالآية تقول آيات الله في الآفاق وفي الانفس .فيكون الثابت هو الآيات ويكون المتغير الآفاق والأنفس .وقد حددت الفلسفات الخمسة التي أرجعت إليها آيات الله في الآفاق وفي الانفس .وسأبين أنها ثوابت كونية لعالمنا. وأقول لعالمنا لأنها موجهة إلينا وقد تكون العوالم الأخرى لها ثوابت أخرى .ففي عالم يومه بخمسين ألف سنة من أيام عالمنا مثلا قد تكون آيات الله فيه مختلفة وهي ثوابت ذلك العالم المختلف عن عالمنا. لكن بما أن الرسالة موجهة إلى الإنسان (ومعه الجن في القرآن) فإن ما يعنينا هو ثوابت عالمنا الذي هو نظام مرجعي للتذكير .وقد بينت في كلامي على دلالة فصلت :53 أبو يعرب المرزوقي 16 الأسماء والبيان
-- .1أن الخلق قانونه رياضي تجريبي .وهذا ثابت حتى لو تغيرت المقادير والمعادلات المعبرة عن الظاهرات الطبيعية فهي تبقى دائما مادة لصوغ رياضي مطبق على معطيات تجريبية. .2وأن الأمر سننه خلقية سياسية (السياسة هي التجربة الخلقية الأكبر إذ لا معنى لأخلاق لا تتجاوز أحوال النفس ولم تمتحن في الممارسة المثلى للعلاقات البشرية التي تبرز مميزاتها العميقة في العلاقة بالسلطة ومغرياتها فعلا وانفعالا) وهذا ثابت حتى لو تغيرت الأخلاق والسياسة غايات وأدوات. وبينت أن آيات الأنفس مثلها مثل آيات الآفاق (ما من الإنسان طبيعي وتاريخي تابع لآيات الآفاق أي 1و )2هي: .3النظر والعقد للتعامل النظري والعقدي مع الطبيعة (العلم نظرية نعتقد في حقيقتها وإلا فهي خرافة) .4العمل والشرع للتعامل مع التاريخ (العمل فعل مكون وممون بقوانين سياسية وخلقية). .5وأصلها جميعا مهمة الإنسان في هذا العالم وهي تعميره بقيم الاستخلاف. فالتعمير من حيث هو علاقة بقوانين الطبيعة وتطبيقاتها شرط في قيام الإنسان المجهز لتحقيقهما بالنظر والعقد .وقيم الاستخلاف من حيث هي علاقة بسنن التاريخ وتطبيقاتها شرط ي قيام الإنسان المجهز لتحقيقها بالعمل والشرع .وهذه الآيات الخمس التي تؤسس: .1فلسفة مهمة الإنسان وشروطها المتفرعة عنها .2فلسفة الطبيعة .3فلسفة التاريخ .4فلسفة النظر والعقد .5فلسفة العمل والشرع مهما تغيرت حيثياتها وأدواتها ومناهجها تبقى طلب قوانين الطبيعة وتطبيقاتها وسنن التاريخ وتطبيقاتها بالنظر والعقد وبالعمل والشرع. أبو يعرب المرزوقي 17 الأسماء والبيان
-- فكون الإنسان لا يمكن أن يقطع المكان في سفره من دون وسيلة نقل ثابت لا يتغير حتى وإن تغيرت وسيلة النقل من الأرجل إلى الطائرة إلى الصاروخ .وحتى لو سلمنا بصحة نظرية التطور فإن قوانين الوراثة في الظاهرات الحية التي في عالمنا تبقى ثابتة رغم تغير الظاهرة الحية. آيات الله في الآفاق ليست قانونا طبيعيا معينا ولا عادة تاريخية معينة يمكن أن نقرأ القرآن في ضوئهما بل هي كون الطبيعي لا يعلم من دون الرياضي المطبق على المدرك الحسي سواء بحواسنا أو بكملاتها الصناعية من النظارات إلى كل وسائل إدراك لامتناهي الصغر ولا متناهي الكبر. آيات الله في التاريخ ليست عادات حضارة معينة سياسية كانت أو خلقية بل كون الحضارة لا يمكن أن تكون خالية من نظامين من هذا الجنس أي من الأخلاق أو الوازع الذاتي بلغة ابن خلدون والقانون أو الوازع الأجنبي بنفس اللغة وأزيد بان الافضل منهما يحدده القرآن بصورة كونية متعالية وثابتة. وهي لا يحددها بوصفها من جنس الموجود الحاصل بل من جنس المنشود أعني من جنس المثال الأعلى سأذكر مثاليين اعليين بفضلهما يستتب السلم بين البشر: • ففي النساء 1يجعل القرآن البشر كلهم اخوة. • وفي الحجرات 13يجعلهم كلهم متساوين ولا يتفاضلون إلا بالتقوى. ويضع مبادئ عامة في شكل مثاليين أعليين هما شرطا إزاحة علل الصراع بين البشر بعد أن تأسيس الأخوة والمساواة: .1فالعلة الأولى للصراع بين البشر هي الرزق المادي ومن هنا وضع نظام التكافل الاجتماعي. .2والعلة الثانية للصراع بينهم هي الرزق الروحي ومن هنا ترك الحسم بين الأديان إلى يوم الدين. أبو يعرب المرزوقي 18 الأسماء والبيان
-- وينتج من ثم ضرورة الحرية الدينية لأن التعدد الديني كان مطلوبا باعتباره شرطا في التسابق في الخيرات (المائدة )48بمعنى أن الإنسان الذي لا يكره على الدين يختار بعد تبين الرشد من الغي الدين الذي يعتقد أنه الأفضل فيكون التدين حرية مطلقة والفصل بين المتدينين يكون يوم الدين .فيتحقق شرط التعايش المدني والسياسي والخلقي ليس بنوع الدين بل بـمبادي سورة العصر الخمسة: .1الوعي بعلل الخسر ويترتب عليه فروع أربعة وهي: .2الإيمان (وهو مشروط بتقدم الكفر بالطاغوت البقرة )256 .3والعمل الصالح .4والتواصي بالحق .5والتواصي بالصبر. وذلك بين من آيتين صريحتين في القرآن :البقرة 62والمائدة .69 والشروط هي الإيمان (بالله واليوم الآخر) والعمل الصالح. وقد طبقت الآيتان هذا الموقف على دينين منزلين ودينين طبيعيين .ولم تكتف بالإرجاء دون الوعد -لا خوف عليهم ولا هم يحزنون-إلا الآية الثالثة (الحج )17لأنها تضمنت أيضا الشرك .وهذا هو غاية القبول بالحد الأدنى بداية للترقي الروحي. ومن هنا نفهم كيف أن دستور الرسول في المدينة لم يستثن أحدا لأن القرآن وضع شريعة خاتمة تتضمن الاعتراف بتعدد الشرائع (لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا) باعتباره شرط الترقي الروحي والخلقي في الجماعة وشرط حرية المعتقد لأن من دون ذلك يصبح الإكراه في الدين ممكنا والقرآن ينفيه. واعترف بأن كل هذه المعاني ضاعت من ثقافة المسلمين وذلك هو قصدي بتحريف علوم الملة القرآن .فهذه المعاني هي التي تفهمنا دلالة أسئلة الفاتحين الخمسة التي توجه إلى البلدان التي فتحت في بداية الإسلام: .1الدعوة إلى الإسلام لتحير العباد من عبادة العبادة أبو يعرب المرزوقي 19 الأسماء والبيان
-- .2والوعد بالنساء 1والحجرات .13 .3وذلك هو معنى فيكون لكم ما لنا وعليكم ما علينا .4فإن لم تفعلوا ولم تحولوا دوننا وتبليغ الرسالة فستكونوا في دولتنا وتدفعون الجزية نظير الزكاة التي يدفعها المسلم لقيام الدولة. .5فإن أبيتم ذلك فهي الحرب. وطبعا فالتاريخ لا يذكر إلا ثلاث منها لأن الاثنين الأخريين كانا مضمرين .لكن ذلك لم يطبق دائما إذ لا يوجد مثال أعلى يطبق دائما .ولو طبق رجال المقاومة أخلاق الحرب الإسلامية لم شوهوا الإسلام .فالجهاد لم يبق في سبيل الله بل في خدمة أمراء الحرب. ويكفي على ذلك دليلا أكبر جرائم عرفها الإسلام :تفجير بيوت الله وقتل المصلين أيا كان دينهم خروجا عن القرآن. فهذا التوحش هو من نتائج تحريف قيم القرآن والنكوص إلى الجاهلية .وهو من علامات الضعف .فمن فقد شروط تعمير الارض (النظر والعقد) يفقد مباشرة شروط الاستخلاف (العمل والشرع) فيصبح أقرب إلى الحيوان يصارع من اجل مجرد البقاء فينسيه الفقر المادي معاني الفقرة الوجودي فيفقد كل تجاوز للموجود المخلد إلى الأرض طلبا للمنشود الجاذب إلى السماء. أبو يعرب المرزوقي 20 الأسماء والبيان
-- لما حددت المسألتين قدمت التاريخية على ما يكثرون اللغط حوله بالكلام على المناهج الجديدة في دارسة الدين وغالبا ما كان المتكلمون في ذلك من أبعد الناس عنها وعن الدين وعن العلم وعن الفلسفة. هل الدافع إلى التفلسف في الدين لخريج الآداب العربية الشهرة لعدم القدرة على الإبداع الأدبي؟ فالثلاثة الذين ملأوا الدنيا طنينا من الآداب العربية (أركون من الجزائر وأبو زيد من مصر والشرفي من تونس) وكلهم يتكلمون على هذه المناهج المزعومة جديدة ولم أر أحدا منهم استعمل شيئا منها :هي وعود أشبه بالإشهار لهذه العلوم أكثر من كونها انتهاجا لها في علاج أدنى مسألة من المسائل. فكثرة الكلام على تاريخ الأديان وعلى الهرمينوطيقا رغم تقدم هذه المناهج الذي لا ينكره أحد فهمي دائما ملازمة للفكر الديني مهما عدنا إلى الماضي المعلوم من تاريخ الفكر الديني .فلا تجد دينا لا ينزل نفسه في تاريخ الأديان وخاصة القرآن ولا تجد خطبا دينيا قديما أو حديثا ليس موضوع تأويل. ولهذه المسألة علاقة مباشرة بمسالة التاريخية لا تفهم إلا عندما نرد المسالتين معا إلى جذر خفي بدأ مع العودة إلى نظرية المعرفة ونظرية القيمة العائدتين إلى القول بالمطابقة .فالمطابقة في نظرية المعرفة تعتبر العلم مطابقا لموضوع محيطا به ونظرية القيمة تعتبر القيمة مطابقة لموضوعها. وبهذا المعنى يصفون ابن رشد والمعتزلة بكونهم عقلانيين :الأول يعتبر علمه مطابقا للموضوع إذ يعلمه على ما هو عليه لكونه راسخا في العلم ويحاول تأويل الإسلام برده إلى علمه بالأشياء على ما هي عليه. ويزعم الثانون العقل محسنا ومقبحا فتكون القيمة عندهم مطابقة للموضوع المقيم صفية ذاتية له. أبو يعرب المرزوقي 21 الأسماء والبيان
-- ولا يوجد اليوم عاقل فضلا عن عقلاني يمكن أن يصدق هذين الكذبتين: .1فمن يتصور علمه محيطا بالموضوع لا بد أن يكون مختل العقل. .2ومن يتصور تقييمه للأشياء مطابقا لقيمة ذاتيها فيها ليس مختل العقل فحسب بل لا يكون إلا اضحوكة العقلاء .علمنا بالأشياء نسبي وتقييمنا لها أكثر منه نسبية. كيف يصل القول بالمطابقة في نظرية المعرفة وفي نظرية القيمة بين دعوى التاريخية للوحي ودعوى استعمال العلوم الجديدة في دراسة الدين .ولنبدأ بهذه :طبعا من يتصور شرح ألفاظ القرآن دراسة للإسلام لتبين حقيقة القرآن فهو لم يقرآ فصلت 53فيجعل الدين هو نصوصه التي تنطبق عليها الهرمينوطيقا. ولما كانت الهرمينوطيقا في الحقيقة على الأقل في شكلها الذي وضعه مؤسسها في الغرب حسب تقاليد تاريخها الغربية-شلاير ماخر-أو غاية مدارسها من تلاميذ هيدجر -جادامار- تحوم حول الإنسان من حيث هو محل الإلهي-بنكهة مسيحية حيث المسيح هو مثال الإنسان المتأله-فإن الأمر كله يتمثل في محاولة قراءة القرآن بعلم نفس الرسول وظرفياته أو بروح الشعب متعينة في ثقافته ولغته. ولا عجب إذا شعر المرء بما يشبه الموقف الشعوبي الذي يعتبر القرآن مجرد تعبير عن البداوة العربية فيكون الكلام على تاريخية الوحي نفيا لما يتعالى على «أرواح الشعوب» بالمعنى الهيجلي .فالرسول لم يكن بوسعه -باصطلاح هيجلي-أن يقفز على روح عصره وثقافة شعبه .ولست أتهم أحدا ولكني أعجب ممن يقول إنه لا يعقل أن يكون الله قد تكلم بلسان العرب. وقد سبق أن جادلني أحد كبار قساوسة مصر وكنا ضيوفا عند الشيخ حسن حنفي مدعيا أنه يسلم بأن معاني القرآن إلهية لكنه لا يعقل أن يكون لسانه إلهيا بنفس هذه الحجة. فسألته :كيف إذن يكون المسيح عليه السلام ابن له بلحمه وشحمه؟ وكيف تكون المخلوقات ليست مجرد معاني بل لها أجساد حية وجامدة؟ هل هذه من صنع ذاتها وليس فيها إلهيا إلا المعاني؟ وطبعا لم يحر جوابا. أبو يعرب المرزوقي 22 الأسماء والبيان
-- إذ كان عليه أن ينسب المعاني للرب وأن ينسب تعينها في الوجود الفعلي لغيره .ولا فرق بين التعين اللساني والتعين العضوي أو المادي لان المعاني هي صورها إن صح التعبير بالاصطلاح الأرسطي .وإذا نسب التعين في الظاهرات الطبيعية إلى الطبيعة وتعين الظاهرات التاريخية إلى التاريخ فعليه كذلك أن يعتبر فعل التعيين خارج عن دور الإلهي فيهما فيكون دوره مقصورا على المعاني .ولما كانت المعاني لا يمكن أن تعني من دون تعينها فإن التدخل الإلهي عامة وفي المسيح خاصة يصبح عدما فتزول عقيدته التي يحاججني بها. لذلك بهت الذي كفر. وبهذا المعنى الهرمينوطيقي سواء شلايرماخريا أو جادماريا يصبح السلفيون أكثر فهما للقراءة الهرمينوطيقية للقرآن من خلال الاعتماد على حديث الرسول وسيرته الذاتية. والفرق أن هؤلاء يرفعون بذلك الحديث إلى مرتبة القرآن بل ربما أكثر والرسول إلى مرتبة الناطق باسم الله بل وربما أكثر .وأولئك ينزلون الإنجيل إلى حديث المسيح والله إليه. كل ما يتوهمه الكثير من \"عمق\" في فكر ابن عربي هو من هذا الجنس وهو تخريف في تخريف إذ ليس فيه أكثر من علم النفس الارسطي وانحطاط الفلسفة اليونانية في عصرها المتأخر القائم على التناظر بين العالمين الأكبر والأصغر مع خرافات التنجيم وعلم الحروف وبعض لمحات من رسائل اخوان الصفا نتائج تزعم علمية وهي خالية مما يضفي عليها صفة العلم لأنها منزوعة جزئها الاستدلالي الذي يجعلها ذات مسحة علمية على الأقل شكلا. فسواء رفعت بعض الناس إلى الألوهية أو خفضت الألوهية إلى بعض الناس فأنت في الحالتين راجم بالغيب .كل ما يمكن أن أقوله هو أن الإنسان لا يكاد يعلم واحد في المائة من ذاته فكيف بعلمه بالرب وبالوجود المطلق .ولما كان علمنا تاريخيا مثلنا ولما كانوا قائلين بإبستمولوجية المطابقة فإنهم يسقطون تاريخية العلم على موضوعه لكأن الموضوع في ذاته هو ما يتصوره منه الإنسان. أبو يعرب المرزوقي 23 الأسماء والبيان
-- ولما كان لا يصح حتى على عالم الشهادة بديل تغير العلم دون أن يعني ذلك أن قوانين الطبيعة هي التي تغيرت ،فكيف يطلق على الدين؟ والنتيجة أن من يتكلم على الإسلام مثل هذا الكلام ينفي وجود الغيب أولا وينفي محجوبيته ثانيا. ولا يحق له حينها أن يقول إنه يتكلم في الإسلام .فليقل للأمانة مثلا: .1أرفض أن يكون في الوجود ما لا يقبل العلم من الإنسان ومن ثم أضع أن الوجود ليس له إلا وجه واحد هو ما يراه منه الإنسان. .2أو أزعم أن كل ما لا يعمله الإنسان ليس موجودا بل هو مجرد أوهام يضعها الإنسان حتى يؤمن بالغيب الذي يعتبره غير موجود بل هو من وضع البشر. ولا يمكن أن يدعي قولا في الغيب إلا من توهم أمرين كلاهما ممتنع عقلا ولا حاجة للنقل للاعتراف به: .1الأمر الأول هو اعتبار الوجود مطلق الشفافية للعقل الإنساني. .2الأمر الثاني هو اعتبار العقل الإنسان مطلق النفاذ لأسرار الوجود. وحصيلتهما هي الزعم بأن الوجود مقصور على ما يدركه الإنسان منه ولا يوجد كائنات أخرى يمكن أن يكون لها إدراك مطلق الاختلاف مع الإدراك الإنساني .وحتى لو اقتصرنا على الإنسان فإنه مما لا يقبله عقل أن يكون ما يدركه البشر في بداية تاريخهم مثل ما يدركونه في مراحله المتوالية بحيث إن جيلا من الأجيال يمكنه أن يزعم أن الوجود يرد إلى ما يدركه هو منه. ولهذه العلة اعتبر ابن خلدون المتكلمين والفلاسفة وكل المتألهين ضحايا هذه المعتقدات التي جعلتهم ينتسبون إلى الموقف الذي يرد الوجود إلى الإدراك .وطبعا فهذا الكلام لم يعد يستسيغه حتى كبار علماء الطبيعة والفلك وخاصة علماء بواطن الظاهرات الطبيعية في لامتناهي الصغر حيث ينفتح باب الجليل الذي لا يقبل الرد إلى عالم الشهادة فضلا عن القليل الذي ندركه منه. أبو يعرب المرزوقي 24 الأسماء والبيان
-- لكن القرآن يقول إن الإنسان لا يتبين حقيقة القرآن إلا من خلال ما يريه الله من آياته في الآفاق وفي الأنفس ولم يقل في نصه ولا في سيرة الرسول وحديثه ولا في ظروف عصره حتى وإن كان ذلك كله هو من الآفاق والأنفس دون أن يكون ما يتجلى فيهما من آياته. ومن ثم فهو من البداية يعتبر الهرمينوطيقا التقليدية الشلايرماخرية (بـالإنسان واللسان) أو الجادمارية (بالموروث وتقاليد فهم النصوص) لا تبين حقيقته. لكن يمكن أن تدرج بوصفها من عناصر الآفاق والأنفس فلا تكون حينها ردا إلى ما هو تاريخي في النبي الإنسان حديثا وسيرة ولا في التراث نصوصا وموروثا تفسيريا بل من حيث هما منتسبان إلى النظر والعقد والعمل والشرع في علاقة بقوانين الطبيعة وبسنن التاريخ المتعاليين على الظرف. وما أن تميز بين علمنا وموضوعه وبين تقييميا وموضوعه حتى يزول هذا الوهم الذي يرد الموضوعين إلى فعلي الإنسان المعرفي والتقويمي فيسقط تاريخية الفعلين على لا تاريخية الموضوعين على الأقل في ذاتها من حيث هما أفق لامتناه نسعى إليه ولا يمكن أن نحيط به علما أو تقييما. لكن الأمر يظن بخلاف ذلك في وهم المتأله العرفاني إذ يشطح بما يزعمه نفاذا إلى الغيب العلمي بدل مجرد الاجتهاد النسبي الممكن للإنسان الناظر والمتأله السلطاني إذ ينطح بما يزعمه نفاذا إلى الغيب العملي بدل مجرد الجهاد النسبي الممكن للإنسان العامل. والشطح ليس شيئا آخر غير هذيان المتألهين وهو في الحقيقة تأله بالمعنى الخلدوني :فهو يعتبر تضخم الذات عند العالم والحاكم والمتصوف أشبه بالمرض النفسي الذي يجعل صاحبه يتوهم أنه من السلطان الروحي أو المادي أو كليهما ما يجعله يعتبر نفسه ربا يمكنه أن يفرض علمه وسيطا روحيا وإرادته وصيا سياسيا. وبهذا المعنى فكل المستبدين بأي أمر هم من هذا النوع من مرضى تضخم الذات وقد اعتبر ابن خلدون ذلك من صفات الإنسان ويسميه حب التأله مفهوما من الكلمات الأضداد أبو يعرب المرزوقي 25 الأسماء والبيان
-- لأنه يفيد التأله بالمعنى التعبدي والتأله بمعنى الكبر الذي هو صفة مذمومة في الأخلاق القرآنية .فصاحبه ينسى أنه مربوب حتى لو ألحد. ولا يقوم بذلك إلا من فقد الوعي بضعفه أولا وبفقره الوجودي .فلا يمكن أن يفعل ذلك من يذكر أنه مائت وأنه يمرض وأنه ضعيف إلى حد لا يمكن أن يضمن لنفسه بقاء بين نفس ونفس .فمن يدرك أن كيانه العضوي مؤلف من مليارات الخلايا التي قد تختل إحداها فيصبح في خبر كان ثم يدعي الربوبية. فالكبر-ومنه الكبر المتمثل في تضخم ذوات أصحاب التصوف الفلسفي أو العرفان والمستبدين من الحكام كما وصف ذلك ابن خلدون في كلامه على حب التأله -ليس مذموما خلقيا فحسب بل هو من علامات الحمق الدال على غفلة وجودية تجعل صاحبها وكأنه يعيش في تخدير دائم يلهيه عن هشاشة كيانه وعن خواء وجدانه ومع ذلك تجد هؤلاء أكثر الناس دغمائية لكأنهم لا ينطقون عن الهوى بعلم يزعمونه محيطا معتبرين مداركهم وضيق أفقهم هو عين االلامتناهي. وعبارة {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} لا تعني علما بالغيب المحجوب في عالم الشهادة وقد يصبح ممكنا يوم يصبح البصر حديدا في الآخرة كما في الرؤية بل تعني من علمه بما هو شاهد من الوجود للإنسان .ذلك أن القرآن لا يمكن أن يقول في آية الكرسي ما ينافي حكمه في الإحاطة وعلم الغيب. والحصيلة فهم هذه المبادئ: .1امتناع العلم المحيط على الإنسان .2وامتناع رد الوجود اللامتناهي إلى الوجه الذي يره منه الإنسان .3وآمنا بما يقوله القرآن إن كل المخلوقات أمم مثلنا ومن ثم فهي مخاطبة إما بالقرآن أو بما يماثله من حيث الوظيفة التذكيرية .4وأن تكريم آدم لا يتجاوز الاستخلاف. أمكن لنا حينها: أبو يعرب المرزوقي 26 الأسماء والبيان
-- .5أن نفهم معنى الوحي القرآني بوصفه تذكير بكل هذه الامور التي هي مكتوبة في كياننا العضوي والروحي بمعنى أن كل فرد إنساني نسخة من منزلته الوجودية في ما يمكن أن نعتبره سجل الوجود وخزينة منازل الموجودات أو بلغة دينية اللوح المحفوظ :فنحن لا نعلم الكثير حتى عن ذواتنا ناهيك عن هذا العالم كله وعن العوالم الممكنة لغيرنا من المخلوقات وكلها يعتبرها القرآن أمما مثلنا ومنها عامل الآخرة ومصير المخلوقات فيها. وكم أعجب من أمرئ يجهل جل ذاته سواء في بعدها العضوي أو بعدها الروحي يزعم أن له أحكاما قطعية في المسائل الدينية التي من هذا الجنس .والإكثار من الكلام فيها هو الذي ضيع الأمة :أكداس من الثرثرة أدت إلى عكس ما ذكر به القرآن في آل عمران 7 فعم زيغ القلوب وابتغاء الفتنة وغابت فصلت .53فغاب معها السعي لرؤية آيات الله في الآفاق وفي الأنفس رؤية تحقق: .1مهمة الإنسان من حيث هو خليفة يعمر الأرض. .2بالبحث العلمي لمعرفة قوانين الطبيعة وتطبيقها وسنن التاريخ وتطبيقها من أجل التعمير .3وبالعمل الخلقي والسياسي لتطبيق علوم الطبيعة وسنن التاريخ لجعل التعمير بقيم الاستخلاف. .4ثم بالنظر والعقد في الانفس من حيث لها قدرة العلم. .5وبالعمل والشرع في الأنفس من حيث لها قدرة العمل. وبذلك يكون القرآن قد ذكر بما يمكن الإنسان من تحقيق شروط التعمير بقيم الاستخلاف التعمير الذي لا يفسد في الأرض ولا يسفك فيها الدماء بمجرد أن يجعله تعميرا بقيم القرآن وذلك هو معنى تكريم الله له وتكليفه في فرصة ثانية بعد فشله في فرصته الأولى وقبول توبته بخلاف عقيدة الخطيئة الموروثة المسيحية التي تحوج إلى شفيع يؤسس لسلطان روحي (وساطة مرجعية كنسية) وحق إلهي في الحكم (وصاية شعب مختار أو أسرة مختارة). أبو يعرب المرزوقي 27 الأسماء والبيان
-- أخصص هذا الفصل الاخير لبيان زبدة المحاولة :ما الذي ينتج عن مهمة الإنسان كما يذكر بها القرآن وفروعها الأربعة باعتبارها خمس فلسفات جعلتي أعتبر الإسلام ليس دينا من بين الأديان بل الديني في كل الأديان التي مثل لها بالخمسة التي قدمها وأرجأ الفصل بينها ليوم الدين والتمثيل بطبعه للأنواع. وإذ هي فلسفات فهي أيضا ممثلة للفلسفي في الفلسفات مضمونا مطابقا للدين في الأديان ومن ثم فهي أيضا ممثلة للأنواع وليس للأعيان الفردية .فالأنواع الممثلة لكل الأديان اثنان منزلان هما اليهودية والمسيحية واثنان طبيعيان هما الصابئية والمجوسية والأخير هو جوهر التحريف الذي يطرأ عليها وهو الشرك. وهذا الديني في الأديان هو عينه الفلسفي في الفلسفات كما ورد في القرآن هو جوهر فلسفة الاستخلاف علاقة بين الله والإنسان المتحرر من التألهين اللذين وصفت تأله المتصوف والوساطة وتأله الحاكم المستبد والوصاية .لذلك فالقرآن درس نسقي للوساطة والوصاية بوصفهما علة التحريف تحولان دون الحرية الروحية (التي تعارضها الوساطة في التربية الروحية) والحرية السياسية (التي تعارضها الوصاية في الحكم السياسي). ولذلك فيعسر على من ربي تربية شيعية أو مسيحية أو يهودية يمكن أن يفهم هذين الثورتين القرآنيتين لأن هذه الرؤى ثلاثتها تنبني على مؤسسة الوساطة في التربية ومؤسسة الوصاية في السياسة .وطبعا السنة أيضا نكصت إلى هذه الرؤية نكون أمر واقع دون أن يكون نكوص أمر واجب لأنها رؤية ليست عقدية بل تعتبر منافية للعقيدة. فالسنة خاضعة لمبدأ الضرورة التي تبيح المحظور بسبب التحول الذي حصل بعد الفتنة الكبرى ما جعلها تربى وتحكم بعكس ما في عقيدتها أي بما يشبه حالة الطواري في الدول الديموقراطية التي تفرض تعطيل الدستور والحكم بالقوانين الاستثنائية فصار المؤقت دائما :ما تزال السنة منذ أربعة عشر قرنا محكومة بحالة الطواري وقانون التغلب. أبو يعرب المرزوقي 28 الأسماء والبيان
-- ولا يمكن أن يجادل أحد قرأ القرآن حتى مرة واحدة في هذا البعد الأول من القرآن بوصفه يؤسس كل الـمضمون الديني والفلسفي على هذه العلاقة بحيث إن القرآن من حيث هو رسالة لاتخلو سورة من هذا الحوار الدائم بين الله والإنسان حول هذين الحريتين جاريا في كيان الإنسان يحييه التذكير بشيرا ونذيرا. وهذا هو اللامتغير الأول الذي ليس تاريخيا فيه إلا مراحل تحققه أو مراحل تذكره في حياة الجماعات الإنسانية الساعية للتحرر من الوسطاء ومن الأوصياء .فيكون ثابته هو عينه بنيته العميقة التي تحكم التغير .فإذا كان القصد النظر في مراحل تحققه أو مراحل تذكر بنيته العميقة فهما في تغير دائم لكن هذا التغير يجري في إطار ثبات لا يتبدل ولا يتحول وهو القصد بالسنن التاريخية في العمل والشرع. وهذا الأصل الأول الذي أثبته بوصفه الأصل الديني في كل دين من حيث هو علاقة بين الإنسان وربه هو عينه الفلسفي في كل فلسفة بمعنى أنه ثابت في كل الفلسفات والمتغير فيه هو مراحل تذكره ثمرة للمعنى السقراطي للتذكير وفيه السعي الدائب لتحرير الإنسان من الوسطاء والأوصياء وهو جوهر التنوير. وليس بالصدفة أن كان جل فلاسفة التنوير مثالين القرآن من روسو إلى لاسنج إلى جوته. وحتى هيجل على تحيزه لم يجد مفرا من اعتبار قيم الإسلام وحتى موقفه القيمي من جنس قيم الثروة الفرنسية رغم اختلاف التأسيس وطبعا هو كان يتصورها مصدرا للتعصب للمجرد ولو عاش الآن لاكتشف فيه غاية الإنسان عامة .ويتفرع عن هذا الأصل المشترك الفلسفات الجزئية الأربع: .1فلسفة الطبيعة إذ من ينكر أن القرآن يعتبر الخلق محكوما بالقدر أي بالمعادلات الرياضية مطبقة على التجربة الطبيعية؟ .2وفلسفة التاريخ إذ من ينكر أن القرآن يعتبر الأمر محكوما بالسنن التي لا تتبدل ولا تتحول أي القيم الخلقية والتجربة السياسية؟ أبو يعرب المرزوقي 29 الأسماء والبيان
-- .3ومن ينكر أن القرآن يتكلم على تجهيز الإنسان بشروط النظر والعقد أي بشروط معرفة الآفاق والأنفس لأن العلم من حيث هو طلب الحقيقة هدفه العقد ليس بالمعنى المقصور على الدينيات بل العقد بمعنى عام هو مطلوب البحث العلمي لمعرفة قوانين الطبيعية من الآفاق والأنفس وليس من شرح النصوص؟ .4ومن ينكر أن القرآن يتكلم على تجهيز الإنسان بشروط العمل والشرع اي بشروط التعامل مع الآفاق والانفس لأن التعامل معهما هو تحقيق الحقيقة التي أوصل إليها النظر والعقد ليس بالمعنى الديني فحسب بل بالمعنى الفلسفي لتحقيق الحقيقة في التاريخ بالعمل والشرع عند الأفراد أو الجماعات؟ وإذا كان كل ذلك يحدث في شكل تذكير بما هو حاصل بعد في كيان الإنسان فمعنى ذلك أن الأمر في صلة بمهمة الإنسان التي جهز لها بالنظر والعقد والعمل والشرع .فما طبيعة الصلة الأولى التي يحتاج فيها الإنسان إلى النظر والعقد؟ أليست صلة الإنسان بالطبيعة من حيث هي مصدر قيامه العضوي؟ وما طبيعة الصلة الثانية التي يحتاج فيها الإنسان إلى العمل والشريعة؟ أليست صلة الإنسان بالتاريخ من حيث هو مصدر قيامه الروحي؟ وهل يمكن تصور الصفة الأولى بالطبيعة من دون تجاوزها إلى مابعدها فتكون هذه الصلة غير المباشرة بما وراءها تذكير بالصلة المباشرة بالله أو علاقة الاستعمار؟ هل يمكن تصور الإنسان مستغنيا في يوم من الأيام من هذه الصلة بمعنى أنه يمكن أن يوجد من دون صلته بالطبيعة مستعمرا فيها في حين أن قيامه العضوي مستحيل من دون استمداد شروط بقائه منها؟ أليس هذا أمرا ثابتا والمتغير هو أعيان ما يستمده من الارض مثلا ليغتذي وأنواع سلوكه إصلاحا وإفسادا؟ أبو يعرب المرزوقي 30 الأسماء والبيان
-- هل يمكن تصور الإنسان في يوم من الأيام مستغنيا عن هذه الصلة بمعنى أنه يمكن أن يوحد دون صلة بالتاريخ مستخلفا فيه في حين أن قيامه الروحي مستحيل من دون استمداد شروط بقائه الروحي منه (كل تراث الإنسانية المتراكم)؟ أليس هذا أمرا ثابتا والمتغير أعيان المتراكم المذكر بعلاقة الاستخلاف؟ فإذا كانت الصلة الأولى بالطبيعة صلة بين الإنسان والطبيعة فهي صلة عمودية وهي الاستعمار الذي بفضله يستمد الإنسان شروط بقائه العضوي .وإذا كانت الصلة الثانية بالتاريخ صلة بين الإنسان والإنسان فهي صلة افقية وهي الاستخلاف الذي بفضله يستمد الإنسان شروط بقائه الروحي .وللأول شرط غير ما للثاني. فشرط العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة هو التبادل بين البشر .وهما متشارطان في الحقيقة .وشرط العلاقة الأفقية بين الإنسان والتاريخ التواصل بين البش .وهما متشارطان في الحقيقة .فيصبح التبادل وشروطه أي التعاوض العادل والتواصل وشرطه أي التفاوض الصادق مقومي الحياة الجماعية في الاستعمار والاستخلاف. من ينكر أن أخلاق القرآن متعقلة بهما؟ ومن يستطيع أن يتصور أن التبادل وشروطه والتواصل وشروطه يمكن أن يتغيرا بأكثر من التغير المضموني مع بقائهما الشكلي الدائم وبقاء شروطهما الخلقية الموجبة في الصلاح والسالبة في الطلاح؟ هل يمكن أن يقبل الإنسان طوعا تبادلا دون تعاوض عادل؟ وهل يمكن أن يقبل طوعا تواصلا دون تفاوض صادق؟ والمعلوم أن رمز التبادل بشرط التعاوض العادل رمزه الميزان وفيه إنذار \"ويل للمطففين\" .وأن رمز التواصل بشرط التفاوض الصادق رمزه \"الكلمة\" وفيه إنذار \"ويل لكل همزة لمزة\" .فالويل تعلق بالمهمتين الاستعمار والاستخلاف وبما وراء الطبيعة وما وراء التاريخ أي بما يذكر بعلاقة الإنسان بربه. أبو يعرب المرزوقي 31 الأسماء والبيان
-- فهل يجد القارئ في القرآن الكلام في ظرفيات معينة في التبادل وشروط التعاوض العادل أم هو يترك ذلك لقدرة الإنسان على تنظيم عمله بتشريعات وضع أنها متعددة بالجوهر (لكل جعلنا شرعة ومنهاجا) ما يعني أنه ميز بالمتغير عن الثابت فادخل التعدد في الأول وحدد الثاني علاجها يكون بالاجتهاد؟ وهل يجد القارئ في القرآن الكلام على ظرفيات معينة في التواصل وشروط التفاوض الصادق أم هو ترك ذلك لقدرة الإنسان على تنظيم علمه بتشريعات وضع أنها كذلك متعددة وهي في القرآن شروط الحوار التي يمكن أن نستخرج منه جل قواعده المنطقية والخلقية وخاصة الانفتاح على المحاور وحسن النوايا؟ فالعلاقات الأربعة ولها أصل مشترك واحد وهي: .1بين الإنسان والطبيعة بالنظر والعقد. .2وبين الإنسان والتاريخ بالعمل والشرع. .3ثم التبادل بالتعاوض العادل لثمرة العلاقة الأولى. .4والتواصل بالتفاوض الصادق لثمرة العلاقة الثانية. .5وأصل ذلك كله بالتلازم بين الخليفة والمستخلف مباشرة وبتوسطهما فتلك شروط الجماعة. وهذا كله يذكر به القرآن ليس بوصفه مضمون الرسالة بل بوصفه ما تشير إليه الرسالة في الآفاق والأنفس توجيها إلى آيات الله التي تتجلى فيها لتحديد لتبين حقيقة القرآن. ولما كان الإنسان نفسه فيه بالإضافة إلى الأنفس مقوم طبيعي هو كيانه العضوي ومقوم تاريخي هو كيانه الروحي فإنه ذو وجودين. فوجوده من حيث هو جزء من الطبيعة وجزء من التاريخ يكون كيانه من الآفاق وهو خاضع لقوانين الطبيعة وسنن التاريخ لكنه من حيث هو متميز عن الطبيعة والتاريخ وهو متعال عليهما بما هو مستعمر في الاول ومستخلف في الثاني يكون في صلة مع المرسل مباشرة ومعه بتوسط شرطي قيامه الطبيعي والتاريخي. أبو يعرب المرزوقي 32 الأسماء والبيان
-- وهو بكيانه العضوي جزء من المكان الطبيعي وهو بكيانه الروحي جزء من الزمان التاريخي .لكن له مكان تاريخي وزمان طبيعي .ولذلك فمكانه مضاعف وزمانه مضاعف. وهو بذلك كائن ذو أبعاد خمسه اثنان زمانيان طبيعي وتاريخي واثنان مكانيان طبيعي وتاريخي .ولهذه العلة هو محدود الحيزين ولا محدودهما. فمن حيث هو محدد التحيز المكاني والزماني هو كائن طبيعي لا يستطيع أن يخرج من المحيط الطبيعي بمكانه وزمانه .لكنه من حيث هو لا محدد التحيز المكاني والزماني هو كائن روحي يخرج من المحيط الطبيعي إلى ما المحيط ما بعد الطبيعي فيسرح في فضاء اللامتناهي وتعدد العوالم فيتحرر من سجن الدنيا. ولما يرتقي إلى هذا الفضاء اللامتناهي ومتعدد العوالم يصبح متحررا من وهم المطابقة بين علمه وعمله المحدودين ووعيه بوجود اللامحدود فيهما وحتى وإن كان من اللامعلوم واللامعلوم إنسانيا .ومن ذلك مفهوم الغيب المعرفي والخلقي .أخبرنا القرآن بوجوده لكنه لم يخبرنا بمضمونه بدليل وما أوتيتم من العلم إلا قليلا وبديل وقد يكون خيرا ما ترونه شرا وشرا ما ترونه خيرا بل أكد أن مضمون علمه وقيمة عمله محجوبـان علينا بمن فينا الرسل والأنبياء. ولا يوجد عاقل يذهب به تضخم الذات إلى حد الزعم بأن علمه محيط إحاطة تجعله يقضي بإطلاق في حقائق الأشياء معرفيا وفي قيمها عمليا .ومن أجل الحد من هذه القصور المعرفي والقيمي وضع الله مبدأين في سورة العصر هما مبدأ التواصي بالحق لمعرفته ومبدأ التواصي بالصبر لقيمته حتى يكونا شرطين للتعاون والتبادل وعدل التعاوض وللتفاهم والتواصل وصدق التفاوض بين البشر. وبذلك فهو قد أمدنا بصلة مباشرة بالله وبصلة غير مباشرة به عن طريق شروط بقائنا الطبيعية (مجال التبادل لسد حاجاتنا العضوية) والتاريخية (مجال التواصل لسد حاجاتنا الروحية) دون أن يطلق هذه الشروط بحيث تصبح هي المحددة كما يزعم من يريدون أبو يعرب المرزوقي 33 الأسماء والبيان
-- أرخنة الوحي والقرآن مدعين أن تطور المعرفة ينفي ثبات موضوعها سواء كان فلسفيا أو دينيا. فمجال التبادل أو الطبيعة لا يمكن أن يكون مستجيبا لما يبقينا من دون ما بعد يجعل بعض ما فيه مسخرا لنا .ومجال التواصل أو التاريخ لا يمكن أن يكون مستجيبا لما يبقي نظام بقائنا من دون ما بعد يجعل بعض ما فيه من قيم شرط تعايشنا السلمي الذي من دون دونه لا يمكن أن يحصل التعاون بين البشر والتعاوض العادل. فيكون كلاهما وسيطا بين الإنسان وربه كما يتبين مما بعدهما المذكر بالعلاقة المباشرة بين الإنسان وربه في كيانه العضوي والروحي وهو ما يعتبر الوحي تذكيرا به .ولذلك فالرسول الخاتم ليس وسيطا ولا وصيا بل إنما هو مذكر وليس مسيطرا .وهذا كله متعال على التاريخ وعلى الظرفيات سواء كانت مرتبطة بذات الرسول أو بلسانه أو بثقافته أو بعصره .وتلك هي الآيات التي في الآفاق والأنفس والتي إذا رأيناها بالبصيرة تبين لنا أن القرآن أو الوحي الخاتم حق وأن ما يبشر به وينذر منه حق وليس علاجات تاريخية متغيرة. انتهى. أبو يعرب المرزوقي 34 الأسماء والبيان
-- أبو يعرب المرزوقي 35 الأسماء والبيان
Search
Read the Text Version
- 1 - 38
Pages: