Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore في الدين، بين استخدامه وخدمته في السياسة - أبو يعرب المرزوقي

في الدين، بين استخدامه وخدمته في السياسة - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2019-11-01 16:46:37

Description: في الدين، بين استخدامه وخدمته في السياسة - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪re nils frahm‬‬ ‫في الدين‬ ‫بين استخدامه وخدمته في السياسة‬ ‫الأسماء والبيان‬



‫المحتويات ‪1‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪5 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪10 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪15 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪19 -‬‬

‫‪--‬‬ ‫لن أعرض بأحد‪ .‬ولن أتعرض لأحد‪ .‬سأكتفي بعرض موقف ابن خلدون من رأيه في مسألة‬ ‫استخدام الدين في السياسة وخدمته بها‪ .‬ذلك أن هذه القضية صارت من الظاهرات الحارقة في‬ ‫مناخ تتصادم فيه رؤيتان لهذه العلاقة كانتا ولا تزالان محركتين لتاريخ الأمة منذ الفتنة الكبرى‬ ‫وما ترتب عليها من حروب أهلية لم تتوقف طيلة القرون الأربعة عشر التي هي قرون تاريخ‬ ‫السياسة في دار الإسلام بمرجعية إسلامية لها أو عليها‪.‬‬ ‫لو كنت أنوي التعريض بأحد لسألت الرئيس الذي يصلي هل كان يصلي لما كان في خدمة نظام ابن‬ ‫علي؟ لكن حتى في حالة الجواب بالنفي وهو المنتظر لأن نظام ابن علي كان يسجن أو يسحل من‬ ‫كان يصلي وخاصة إذا صلى الفجر فإن التوبة ممكنة في أي لحظة من العمر فيصبح الإنسان مصليا‬ ‫بعد أن لم يكن‪.‬‬ ‫ولو كنت أريد أن أعترض لقلت إن التمييز بين خدمة الدين واستخدامه حتى وإن كانت من خبايا‬ ‫السرائر فإن لها علامات لا تغيب عن ذوي الفطنة وكم رأيت منها في \"معابد\" السياسة ممن ليس من‬ ‫العسير فهم أنهم يستخدمون الدين ولا يخدمونه‪ .‬لكني اعترف بأن حكم السرائر لا يعلمه إلا‬ ‫علام الغيوب وسأقبل بالحكم بالظاهر لأن الله هو الذي يتولى السرائر‪.‬‬ ‫سأكتفي إذن بالكلام في نظرية ابن خلدون النسقية في المسألة وأبدأ بالإشارة إلى فهم بعض‬ ‫الحمقى لنظريته‪ .‬فكلامه موهم خلال رده على ابن سينا في مسألة الحاجة إلى الرسل والانبياء‬ ‫للتشريع لدحضه تأسيس الحكم السياسي في المجتمعات البشرية‪ .‬فالحمقى خلطوا بين كلامه على‬ ‫استغناء السياسة عن الأديان المنزلة واستغنائها عن الأديان عامة لكأن الأديان النبوية والرسولية‬ ‫هي النوع الوحيد من الأديان ويهملون أن الأديان الطبيعية أكثر انتشارا حتى الآن‪.‬‬ ‫فابن خلدون أشار إلى وجود السياسة والدول والتشريع عند الأمم التي لم تعرف الأديان المنزلة‬ ‫وهي خاصية سامية متلازمة مع فكرة الأنبياء والرسل وقد انتشرت لاحقا لكنها تبقى مع ذلك‬ ‫متعايشة مع أمم ليس لها علاقة بها ولها مع ذلك أديان من جنس آخر مثل الصين والهند وبعض‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫القبائل البدائية التي ما تزال وثنية وهي أديان طبيعية ولعل العلمانية واحدة منها لأن ما تنفيه‬ ‫هو الأديان المنزلة وليس الاعتقادي عامة‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى الذي يتعلق بالدين عامة وليس بمعناه الحصري الذي فكر فيه ابن سينا ورفضه ابن‬ ‫خلدون يمكن القول إن ابن خلدون وضع مبدأين ثوريين يحددان علاقة الديني بالسياسي‪:‬‬ ‫‪ .1‬الديني لا يؤسس السياسي بل القوة والعصبية هي التي تؤسسه وتؤسس الدول وفي مضمار‬ ‫هذه الرؤية نفهم كل ما كتبه للسخرية من كل من يريد الثورة باسم الدين من دون أن‬ ‫تكون له عصبية‪( .‬المقدمة الباب الثالث الفصل السادس‪ :‬في أن الدعوة الدينية من غير‬ ‫عصبية لا تتم)‬ ‫‪ .2‬لكن الديني يزيد السياسي والدول قوة على قوتها لأنه يضيف شرعية القناعة الداخلية أو‬ ‫الوازع الذاتي كما يسميه إلى شرعية القوة الخارجية التي تفرض القانون أو الوازع‬ ‫الأجنبي كما يسميه‪( .‬المقدمة الباب الثالث الفصل الخامس‪ :‬في أن الدعوة الدينية تزيد‬ ‫الدولة في أصلها قوة على قوة العصبية التي كانت لها من عددها)‬ ‫ولا يمكن أن يكون هذا الكلام كافيا‪ .‬فالعصبية هي بدورها بحاجة إلى منا يجعلها قادرة على الفعل‬ ‫السياسي إذ إن مفهوم العصبية بحد ذاته يتعلق بنظام التحكم في أفعال الإنسان – الجهاز العصبي‬ ‫‪ -‬وهي من ثمة تحدد طبيعة القوة التي تمثلها بوصفها قوة تحكم أو سياسة‪.‬‬ ‫ولما كانت عنده ليست مقصورة على العصبية العضوية أو عصبية الدم فإنها تصبح رابطة منظمة‬ ‫للجماعة حتى تكون قوة قادرة على الفعل السياسي‪ .‬فيكون لها مبدأ ما لا يقتصر على العضوي‬ ‫منها‪ .‬وبذلك تصبح الرابطة الناظمة لفعل التحكم السياسي في مفهوم العصبية أعم منها وهي‬ ‫بذلك قد تجعل الديني عامة ليس شرطا تاليا بل قد يكون شرطا متقدما بمعنى أن الرابطة‬ ‫الروحية مقدمة على الرابطة العضوية‪.‬‬ ‫لكن ذلك ليس مهما بل المهم هو هذا التلازم بين نوعي السلطان السياسي وكلاهما يستخدم الثاني‬ ‫ويخدمه‪ .‬فنكون أمام خمسة عناصر أصل له أربعة فروع‪:‬‬ ‫‪ .1‬السياسي الخالص‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬الديني الخالص‬ ‫‪ .3‬استخدام الديني للسياسي‬ ‫‪ .4‬استخدام السياسي للديني‬ ‫‪ .5‬الأصل وهو السلطان الإنساني مادي وروحي وهما في آن سلطان سياسي ذو أداة روحية وذو‬ ‫أداة مادية والأولى أرجعها ابن خلدون إلى الوازع الذاتي والثانية أرجعها إلى الوازع‬ ‫الأجنبي‪ .‬ويمكن أن نسمي الأول الوازع الخلقي أو سلطان إرادة الذات على ذاتها والثاني‬ ‫الوازع القانوني المعبر على سلطان إرادة الأقوى على سلطان إرادة الأضعف‪.‬‬ ‫وما سأحاول درسه في هذا البحث هو العلاقة بين البعدين من السلطان السياسي بعد قوة الشرعية‬ ‫أو السلطان النابع من الذات وشرعية القوة أو السلطان النابع من غير الذات في كل الأنظمة‬ ‫الإنسانية ليس السياسية فحسب بل الاقتصادية والثقافية أعني مجالي السياسي عامة لأن السياسي‬ ‫هو بالأساس سلوك الإنسان فردا وجماعة لسد حاجاته البدنية وحاجاته الروحية‪ .‬والأولى هي‬ ‫مادة القيم الاقتصادية والثانية هي مادة القيم الثقافية‪.‬‬ ‫والسياسة هي الاستراتيجيا الفردية والجماعية لتحقيق شروط الوجود والبقاء للإنسان فردا‬ ‫وجماعة من خلال إيجادهما أولا وحمايتهما ثانيا من العدوان الداخلي بين المشاركين في تحقيقهما‬ ‫ومن العدوان الخارجي من الطامعين فيهما‪.‬‬ ‫وإذن فما ينطبق على السياسة الداخلية هو عينه ما ينطبق على السياسة الخارجية لأن الصراع بين‬ ‫البشر علته سد الحاجات المادية والروحية التي هي شروط بقاء الإنسان فردا وجماعة‪ .‬وبهما‬ ‫يعلل ابن خلدون وجود السياسة والدول ويسخر من الرؤى المثالية التي تعتقد أنه يمكن تخيل‬ ‫مجتمع فاضل يستغني عن الدولة او ما يسميه الوازع الأجنبي لجعل العيش المشترك يكون سلميا‪.‬‬ ‫ولذلك فكل من يتصور الوجود البشري مبنيا على المثاليات ويتكلم على مجتمع القانون ودولة‬ ‫القانون ينسى أن ما يسمى مجتمع القانون هو ما يسميه ابن خلدون بالوازع الذاتي ودولة القانون‬ ‫هو ما يسميه ابن خلدون بالوازع الأجنبي‪ .‬وللأول علاقة بالدين وللثاني علاقة بالسياسية عند‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الفصل بينهما وهو أمر مستحيل عند ابن خلدون لأن أيا منهما غير كاف للعيش المشترك بين‬ ‫الأفراد في الجماعة وبين الجماعات في العالم‪.‬‬ ‫والمشكل هو ما الشيء الذي يعتبر أداة والشيء الذي يعتبر غاية؟‬ ‫فإذا صار الوزع الذاتي في خدمة السياسة صار هندسة الوعي المستبدة وليس وعيا حرا وهو‬ ‫استخدام الدين الذي يصبح أداة للسياسة‪ .‬وحينها تصبح السياسة استبدادية وهو ما نفاه القرآن‬ ‫نفيا قاطعا في الغاشية ‪ 22-21‬منعا للرسول من تجاوز دور المذكر والتحول إلى وسيط بين المؤمن‬ ‫وربه ومن تجاوز دور الحكم والتحول إلى وصي على المحتكمين إليه‪.‬‬ ‫وهو نهي عن استعمال الدين أداة سياسية بدلا من استعمال السياسة تربية وحكما أداة لتكوين‬ ‫الإنسان الحر والكريم كما عرفه ابن خلدونه \"رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"‪.‬‬ ‫فيكون الوازع الذاتي نابعا من الذات وليس مفروضا بهندسة الوعي كما هي الحال في الرؤية التي‬ ‫تجعل السلطة الروحية وسيطة بين المؤمن وربه (الكنسية) والوازع الأجنبي نابعا من الجماعة‬ ‫وليس مفروضا بهندسة السلطة كما هي الحال التي تجعل السلطة السياسية وصية على الجماعة‬ ‫(الحكم بالاستبداد الروحي بالحق الإلهي أو بالاستبداد المادي)‪.‬‬ ‫وهذا هو الفرق بين الرؤيتين القرآنية التي ألغت الوساطة والوصاية والرؤية التي تخربها والتي‬ ‫نكصت فاستعادتهما وهو النظام الثيوقراطي أو النظام العلماني وكلاهما يعتمد على النظام‬ ‫الأبيسيوقراطي أو نظام العجل ببعديه أي معدنه وخواره‪.‬‬ ‫وقد سبق فشرحت دلالة البعدين في التنظيم السياسي المسيطر على العالم سواء كان يدعي‬ ‫الثيوقراطية أو الديموقراطية‪ .‬وهما يجمعان على التأسيس الديني العنصري‪:‬‬ ‫• إما بشكل شعب الله المختار (إسرائيل)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫استخدام الدين في السياسة يتردد بين موقفين معلومين للجميع‪:‬‬ ‫‪ .1‬حصره في العبادات التي تصل إلى حد تحولها إلى الغاية الوحيدة منه كالحال في‬ ‫توظيفه الصوفي والجامي في الأنظمة المستبدة‪.‬‬ ‫‪ .2‬أو حصره في المستوى الأدنى من الوظيفة الاجتماعية التي تتمثل في تحول ما هو‬ ‫من واجبات الجماعة إلى رشوة الناخب مقابل ولائه السياسي‪.‬‬ ‫لكن التوظيفين يجتمعان عادة حتى يطابق المظهر ما يضفي عليه قابلية التصديق في‬ ‫اخفاء الباطن‪ .‬فتصبح العبادات التي هي التوظيف الأول أداة التوظيف الثاني الذي هو‬ ‫الغاية الحقيقية من توظيف الدين‪:‬‬ ‫• والتوظيف الأول يهدف إلى تأسيس الوساطة بين المؤمن وربه‪ :‬التصوف نموذجا بزعم‬ ‫الولاية والتصرف في الأكوان وبزعم علم الغيب وهو غاية الكذب على الله الذي يدعون‬ ‫حاجة إلى وسيط بينه وبين المؤمنين الذين يستغفلونهم وهو يقول إنه أقرب إلينا من حبل‬ ‫الوريد‪.‬‬ ‫• والتوظيف الثاني هو يهدف إلى تأسيس الوصاية بين المؤمن وشأنه‪ :‬شعب الله المختار‬ ‫في الصهيونية والأسرة المختارة في الصفوية هما غاية الخداع الذي يستعملونه لفرض‬ ‫العبودية الطوعية بتأييد من الكذبة الأولى‪.‬‬ ‫ولهذه العلة فلن استغرب إذا سمعنا قريبا أن رئيس تونس سيستعمل التوظيف الثاني وأن‬ ‫طباليه سيدعون التوظيف الأول ليضفوا الشرعية على الكذبتين‪.‬‬ ‫فما يجري لا يمكن فهمه من دون رده إلى سياسة باطنية استطاع بها ملالي إيران احتلال‬ ‫العراق وسوريا انطلاقا من قاعدة لبنان التي كانت هي بدورها قاعدة تشييع إيران نفسها‬ ‫في مرحلة تأسيس الصفوية في القرن السادس عشر‪.‬‬ ‫وذلك هو أصل تحريف الدين عامة وفي حالتنا تحريف الإسلام بإلغاء ثورتيه على‬ ‫التحريف المبني على التمييز العنصري بين البشر سواء بخرافة شعب الله المختار أو بخرافة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أسرة الله المختارة‪ .‬وقد خصص القرآن جل آيات آل عمران لمسألة الحلف بين العلماء‬ ‫والأمراء التي كان مآلها إلى تأليه عيسى عليه السلام حتى يؤسسوا سلطان الكهنوت‬ ‫الروحي المؤيد لسلطان الطاغوت السياسي وذلك هو جوهر الفرعونية‪.‬‬ ‫لكن السورة تبرئ عيسى عليه السلام من هذا التزييف بقوله تعالى‪َ \" :‬ما كَانَ ِلبَشَ ٍر َأن‬ ‫يُ ْؤتِيَ ُه ال َّلهُ الْ ِك َتابَ َوا ْلحُكْ َم َوال ُنّبُوَّةَ ُثمَّ يَ ُقو َل ِللنَّاسِ ُكونُوا ِعبَادًا ّلِي مِن دُو ِن ال َّلهِ َو ٰلَ ِكن ُكو ُنوا‬ ‫َربَّا ِن ِّيي َن ِب َما كُنتُمْ تُعَ ِّلمُونَ الْكِ َتا َب َوبِ َما ُكن ُتمْ َت ْدرُسُونَ (‪\".)79‬‬ ‫ولهذه العلة فإني أريد أن أشرح بكامل الدقة هذه العملية التي يؤسس عليها القرآن‬ ‫نقده للأديان التي تعتمد على هذين الآليتين في إلغاء حقيقة الدين الذي جعل لتحرير‬ ‫الإنسان بشعار‪ :‬تحرير الإنسانية من عبادة العباد بعبادة رب العباد‪.‬‬ ‫لكن قبل ذلك فلأحسم القول في علة كتابتي هذه المحاولة بوصفي قد غادرت العمل‬ ‫السياسي المباشر ولست منتسبا لحزب النهضة بل أنا من المؤمنين بالنهضة التي هي حركة‬ ‫النهوض بالأمة وهي بهذا المعنى متقدمة على \"النهضة\" بالمعنى الحزبي وحتى على الإخوان‬ ‫المسلمين عامة‪.‬‬ ‫وأعلم أنه لا توجد قوة سياسية ذات مرجعية دينية ‪ -‬سواء كانت حزبا أو فرقة دينية ‪-‬‬ ‫أو حتى بمرجعية تدعي فصل السياسي عن الديني تخلو من توظيف الدين بهذين المعنيين‬ ‫إلى حد معين فإن الشهادة لله تفرض علي أن أقول إن المخلصين ممن ضحوا بشبابهم‬ ‫وبمستقبل أسرهم في كامل القرن الماضي وبدايات القرن الحالي من الإسلاميين وخاصة من‬ ‫لم يصل منهم إلى الحكم لا يمكن أن يتهمهم أحد بأنهم يوظفون الدين بل كانوا في خدمته‬ ‫ضد من أرادوا أن يزيحوه لأن الحرب على الإسلام هي التي كانت ولا تزال مسيطرة على‬ ‫الإقليم‪.‬‬ ‫كما أني لا أنكر أني شاهدت الكثير ممن صار يدعي الانتساب إليهم بعد الثورة سواء في‬ ‫مصر أو في تونس أو في ليبيا أو حتى في العراق وفي الجزائر لا يمكن أن ينزههم أحد عن‬ ‫استخدام الدين لمغالطة المناضلين الشجعان الذين لم يفنهم العدوان عليهم خلال العهود‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫السابقة‪ .‬وهو أمر طبيعي لأن كل قوة سياسية قربت من الحكم يكثر من حولها الانتفاعيون‪.‬‬ ‫وما كنت لأشهد لو انتسبت إلى النهضة مثلا لأن ذلك يجعلني وكأني ابرئ نفسي من هذا‬ ‫السلوك‪.‬‬ ‫لم أشأ الانضمام إلى حزب النهضة لأني لم أشارك فيها لما كانت تعاني من الظلم كله‬ ‫والحيف كله‪ .‬وهي لا تزال تعاني من نفس العداء‪ .‬فمن صاروا اليوم يعتبرونها خطرا‬ ‫على \"حظهم\" في الوصول إلى الحكم لعلمهم أن الشعب يعلم من هم وخاصة الآن وقد صار‬ ‫يختار بحرية من يراه أهلا لحكمه ما يزالون على مذهب ابن علي‪ :‬استئصال الإسلاميين‪.‬‬ ‫وبعد أن أقصى الشعب كل من يعتبرهم أعداء قيمه ودينيه وحتى شروط حياته الكريمة‬ ‫لتحالفه مع المافيات التي حكمت منذ بداية عهد ابن علي ازداد العداء والضغينة‪ .‬فقد‬ ‫غزوا حزب بورقيبة منذ انقلاب ابن علي أعني الذين يسمون أنفسهم قوميين ويساريين ‪-‬‬ ‫وقد كانوا خصوم بورقيبة والمنتسبين إلى حزبه ‪ -‬لأنه لم يكن مثلهم خصيما للهوية بل كان‬ ‫مجددا بقدر الاجتهاد في الظرف المعلوم‪.‬‬ ‫وأقول يسمون أنفسهم قوميين لأنهم كانوا يناصبون بورقيبة العداء ثم صاروا أزلام ابن‬ ‫علي وعملاء المافيات التي خربت التربية والأخلاق والاقتصاد والثقافة في تونس بصورة‬ ‫تكاد تكون بلا رجعة‪.‬‬ ‫ولا يمكن أن أصدق من يدعي القومية وهو مؤيد للسيسي أو لبشار أو لحفتر وحتى قبلهم‬ ‫لمن كانوا يسمونهم زعماء القومية لأن أدنى حد للفهم يجعلهم هم سر تهديم العروبة وجعلها‬ ‫اضحوكة التاريخ حتى انقسمت إلى نوعين من العبيد لذيلي الاستعمار إيران وإسرائيل‪:‬‬ ‫فأي قومية تسمح لهم بأن يصفقوا لبشار الذي ساهم في احتلال إيران للهلال كله؟‬ ‫وأي قومية تسمح لهم بأن يصفقوا للسيسي الذي يسهم في احتلال إسرائيل لمصر والخليج‬ ‫الذي صدق مسافة السكة؟‬ ‫أما من يسمون أنفسهم يسارا فالكل يعلم أنهم كانوا يناصبون بورقيبة العداء مثل‬ ‫القوميين مع تحولهم إلى أداة ابن علي الإيديولوجية والبوليسية فأسسوا ما يسمونه سياسة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫تجفيف المنابع وسياسة التصفية البدنية لكل إسلامي ومن لم يقدروا عليه يحاولون حصاره‬ ‫جاعلين من الغباء والبهامة أداة للسيطرة على الثقافة والجامعة والفضاء العام بمساعدة‬ ‫من أمهم فرنسا وعملائها في البلاد‪.‬‬ ‫ثم جاء السبسي فتصور نفسه ممثلا للبورقيبية وهو في الحقيقة تبنى سياسة ابن علي‬ ‫فكان أن أسس لكوكتال مولوتوف هو الحزب الذي سماه النداء فصار نداء الشؤم عليه إذ‬ ‫أنهى عهده بما يمحو أثره من تاريخ تونس الذي أراد أن يعتبر من رموزه بالالتصاق‬ ‫ببورقيبة‪.‬‬ ‫ولا أنكر أني عملت بما أستطيع للإسهام في وصوله إلى هذه النتيجة واستبعاد المرزوقي‬ ‫الذي اعتبره كان سينهي الثورة بعجلته‪ .‬فقد كنت من الداعين لترك الخليط الذي كونه‬ ‫السبسي ‪ -‬خليط جماعة ابن علي والقوميين واليساريين ‪ -‬يعود بسرعة حتى يذهب‬ ‫بسرعة‪ .‬وهو قد انقرض لأن حجمهم حددته الانتخابات الأخيرة‪ :‬فهم لا يتجاوزون أربعة‬ ‫نواب واحد للجبهة وواحد للقوميين واثنان لصاحب البسكلات لأن البقية هي بالبقايا وهذا‬ ‫لن يدوم إذ سيتغير القانون الانتخابي فينقرضون كما انقرضت الجبهة وغيرها من عملاء‬ ‫الاستبداد والفساد‪.‬‬ ‫ذهب السبسي رحمه الله‪ .‬لكنه ترك لنا نكبة علينا علاجها قبل فوات الفوت‪ .‬ففي غفلة‬ ‫من حراس الدولة من الدفاع الاستعلامي سيطر موظفو الدين بالجوهر من القائلين‬ ‫بالوساطة (كنسية المراجع الباطنية) والوصاية (حكم الأسرة المختارة)‪ .‬وهما الكذبتان‬ ‫اللتان تستعملها الباطنية لتخريب ثورة الإسلام الكونية التي نهت عن هذين التحريفين في‬ ‫الغاشية ‪\" :22-21‬فذكر إنما أنت مذكر\" أي ليست وسيطا بين المؤمن وربه‪\" .‬لست عليهم‬ ‫بمسيطر\" أي لست وصيا على المؤمن في أمره‪.‬‬ ‫وإذا كان دور الرسول للتذكير حصرا ونفي السيطرة فذلك يعني أن الدين لا ينبغي أن‬ ‫يصبح أداة لجعل المؤمن خاضعا لسلطة روحية أو سياسية بل هو مكلف فرض عين بأن يكون‬ ‫سيد نفسه كما حددت ذلك سورة العصر‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬فالفرد يحقق الإيمان‬ ‫‪ .2‬والفرد يثبته بالعمل الصالح‪.‬‬ ‫‪ .3‬والجماعة تحققه بالتواصي بالحق في الاجتهاد‬ ‫‪ .4‬وتثبته بالتواصي بالصبر في الجهاد‪.‬‬ ‫‪ .5‬والاجتهاد والجهاد كلاهما فرض عين وهو في السياسة الأمر بالمعروف والنهي عن‬ ‫المنكر الذي يجعل التربية والحكم للجماعة وليس لسلطة روحية أو لوصاية سياسة من أكبر‬ ‫الدجالين باسم الدين أعني باطنية التصوف ودجالة الحكم المتظاهرين بالإيمان في شكل‬ ‫عبادات هي من علامات التقية وليست من علامات التقوى‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫خصصت الفصل الأول لتنزيل مسألة استخدام الدين أو خدمته في العلاقة بين الدين‬ ‫والسياسة وفي حيزهما ووجودهما في الأعيان انطلاقا من الموقفين المتقابلين لدى السنة (لا‬ ‫وساطة ولا وصاية) والشيعة (وساطة ووصاية)‪.‬‬ ‫وبينت فيه أن الموقف الثاني في تقابله مع الموقف الأول يعتبر نكوصا عن الرؤية القرآنية‬ ‫التي تتعلق بالبعدين المشتركين بين الديني والسياسي أعني‪:‬‬ ‫‪ .1‬التربية في الدولة عامة‪ :‬هل المربي وسيط بين المؤمن وربه أم هو مذكر بما يوجد في ما‬ ‫فطر عليه ونسي؟ الغاشية ‪22 – 21‬‬ ‫‪ .2‬والحكم في الدولة عامة‪ :‬هل الحاكم وسيط بين المؤمن وشأنه أم هو ينوب الجماعة في‬ ‫ما لابد فيه مما يحتاج لفرض الكفاية مع فرض العين؟‬ ‫ولم يكن القصد بالمقابلة بين الموقفين السني والشيعي أن توظيف الدين خاص بهؤلاء دون‬ ‫أولئك‪ .‬إذ الفرق بينهما هو أن التوظيف ظرفي عند السني ويعتبر غير شرعي وهو جوهر‬ ‫النفاق في حين أنه بنيوي ويعتبر مقوما من العقيدة وهو جوهر التقية‪.‬‬ ‫لكن حتى الملحدون يوظفون الدين بمنطق فولتار لأن من شروط الوجاهة في الجماعة‬ ‫ترضية العامة التي هي في الغالب مؤمنة حتى بالخرافات‪ .‬وهذا الأمر صار من شروط‬ ‫المشاركة في السياسة حكما أو معارضة بعد أن أصبحت أصوات الناخبين ضرورية لذلك ولا‬ ‫يمكن نيل الاغلبية للحكم أو حتى الأقلية للمعارضة من دون رضا العامة وتلك هي علة‬ ‫رفض أفلاطون للديموقراطية التي يعتبرها حكم النزوات والغرائز لا العقل‪.‬‬ ‫ولذلك فالأمر لا يتعلق باستعمال الدين والله أساسا للحكم في نظام ثيوقراطي بل حتى في‬ ‫الحكم الذي يستعمل العلمانية والإنسان أساسا للحكم في نظام انثروبوقراطي سواء كان‬ ‫علمانيا في جماعة ملحدة قسرا مثل الماركسية أو حتى علمانيا في جماعة لا يفرض عليها‬ ‫الإلحاد بل لها حرية المعتقد مثل الرأسمالية ويبقى التظاهر باتباع نظام القيم العام من‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫شروط المشاركة في السياسة أعني من شروط الوجاهة أو إن صح التعبير عدم مصادمة‬ ‫الرأي العام الشعبي‪.‬‬ ‫ولم يشذ عن هذه البدهيات إلا الحمقى من العلمانيين العرب‪ .‬وتلك علة حاجتهم للحلف‬ ‫مع الاستبداد والفساد في الأفعال حتى وإن كانوا من المبالغين في التغني بالديموقراطية‬ ‫وحقوق الإنسان بالأقوال‪.‬‬ ‫ذلك أنهم لا يمكن أن يكونوا وجهاء في الجماعة وهم أكثر الناس احتقارا لشعوبهم بعد‬ ‫أن استعمروا ذهنيا وصاروا يتصورون أنفسهم من علية القوم لأن أحد المستعمرين ربت‬ ‫على أكتفاهم وجعلهم يتوهمون أنهم بديل عنه في التعامل مع الأمة بوصفها \"انديجان\" وهم‬ ‫مكلفون بتحضير الشعوب رغم أنوفهم‪.‬‬ ‫ولما كان هذا الشذوذ المرضي عند نخب العرب الذين يدعون العلمانية سواء كانوا‬ ‫ماركسيين أو ليبراليين تفسيره من أيسر الأمور لأن أصحابه ممن يريدون ممارسة السياسة‬ ‫سيزولون بمجرد انتصار الشعوب على الاستبداد والفساد السياسي فيذهبون معه لأنهم‬ ‫يمثلون إحدى تجلياته الثقافية فلن أطيل الكلام فيه أو عليه‪ .‬وقد يصبحون أكثر الناس‬ ‫تظاهرا باحترام تقاليد الشعوب وقيمها حتى إنهم يصبحون من ممارسي الخرافة وعباد‬ ‫الأولياء ودجالي التصوف‪.‬‬ ‫لن أطيل الكلام في هذه الظاهرة التي هي من المفاعيل الثانوية للاستبداد والفساد‬ ‫السياسي في المجال الثقافي والفكري‪ .‬وسأمر مباشرة إلى البحث في علل هذه الحاجة لتوظيف‬ ‫القيم الروحية والمنازل الخلقية التي هي من شروط العمل السياسي في الشعوب الحرة أي‬ ‫التي لرؤيتها دور في اختيار من يمثل إرادتها سواء كانت هذه القيم ذات مرجعية دينية أو‬ ‫غير دينية في السياسة‪.‬‬ ‫والسؤال هو كيف نفهم تجاوز الاقتصار على القيم المادية والمنازل الاقتصادية لنحدد علل‬ ‫استخدام هذه القيم الروحية والخلقية أو خدمتها؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بمعنى‪ :‬ما شروط استعمالها المنافق لمخادعة الناخبين واستعمالها الصادق لترقية أخلاق‬ ‫الجماعة في التربية والحكم؟‬ ‫وطبعا لو لم تكن شرطا ضروريا دون أن يكون كافيا لما وجد النفاق‪.‬‬ ‫فالنفاق من علامات الحاجة إليها بمعنى أنه حتى من لا يؤمن بها يجد نفسه مضطرا‬ ‫للتظاهر بها حتى ينال الوجاهة الضرورية ليكون مقبولا عند الرأي العام الذي تتحدد‬ ‫منزلة من يريد ممارسة العمل السياسي بمقدار حصوله على مقدار الوجاهة والسمعة التي‬ ‫تنقله من مجرد إنسان عادي إلى إنسان يمكن أن يثق فيه الناس فيرشحونه لتمثيل‬ ‫إرادتهم‪ :‬وأتكلم في حالة جماعة الأحرار لأن الجماعة المستعبدة لا أحد يستمد منها‬ ‫شرعيته بل هو يستمدها ممن يستبعدهم‪ .‬والمشكل في النخب العربية الحالية هو أنها تعتبر‬ ‫شعوبها عبيدا مرتين‪:‬‬ ‫• فهي عبيد لمن اختاره حاميه من يحتمون به لفرض فكرهم المريض الذي يتصور نفسه‬ ‫وصيا على الجماعة ومطالب بتحضيرهم رغم أنفهم بالحرب على ثقافتهم وتعويضها بالثقافة‬ ‫التي صار يعتبرها عين الحقيقة التي تلغي ما سواها‪.‬‬ ‫• وهي عبيد لمن يستعبد من يحتمون به بمعنى أن من يحتمون به قد يستبدلهم بغيرهم‬ ‫إذا عن له ذلك فيحتمون بمن يحميه فيفرضهم عليه ويصبح هو من يختار بطانة الحاكم‬ ‫العربي من \"مثقفي\" بلاده وإعلامييه وحقوقييه والمتكلمين باسمه وباسم عهده‪ .‬والكثير‬ ‫منهم ليسوا بالضرورة من ابناء البلاد بل هم \"خبراء\" مستوردون خبراء في الدجل‬ ‫والكذب‪.‬‬ ‫لذلك فليس هؤلاء هم من سأهتم بهم في بحثي عن علل استخدام القيم الروحية والخلقية‬ ‫سواء كانت ذات مرجعية دينية أو لا دينية حتى أحدد علل الحاجة السياسية لتجاوز القيم‬ ‫المادية والمصلحية المباشرة ما يعني أن السياسة لا يمكن أن تنحط إلى هذين وحدهما من‬ ‫دون أن تفقد صفتها السياسية وأكبر الأدلة على هذه الحاجة هي النفاق والكذب‪:‬‬ ‫فلو لم يكن وجودها ضروريا ضرورة الماكياج للمرأة لاستغنى عنها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فمثلما أن المرأة القبيحة لا يمكن أن تستغني عن الماكياج ما يجعل المرأة الجميلة هي‬ ‫بدورها بحاجة إليه على الأقل بحكم التنافس مع القبيحة على استخدام الجمال أو خدمته‬ ‫فكذلك السياسي الفاسد لا يمكن أن يستغني عن النفاق ما يجعل السياسي الصالح هو بدروه‬ ‫بحاجة إلى شيء منه على الأقل بحكم التنافس على استخدام الخير أو خدمته‪.‬‬ ‫ولعل من علامات ذلك الحاجة أحيانا للقبول بشيء من الخرافة والوثنية في سياسة المسلم‬ ‫لئلا يصادم العامة التي تؤمن بالأولياء وتظنهم صالحين وبزيارة القبور‪.‬‬ ‫ولعل النفور الذي يلقاه ابن تيمية علته مبالغته في جعل الدين مطلق التجريد بصورة‬ ‫تفقده مفعوله على الوعي الشعبي لكأن كل البشر على قدر من الوعي بالمعاني المجردة التي‬ ‫يرجع إليها الإيمان الصادق والصافي‪.‬‬ ‫وما أصفه هنا ليس نفاقا بل هو مداراة مجانسة للمداراة التي يحتاج إليها المربي في تدريج‬ ‫المتعلم من الأمثلة التي يستعملها لإفهامه المعاني المجردة إلى ان يوصله إلى التمييز بين‬ ‫المثال الذي يضرب لتجسيم المعنى والمعنى الذي لا يتجسم في الاعيان بل هو معنى لا تدركه‬ ‫إلا الـأذهان‪.‬‬ ‫ولولا ذلك لاعتبرنا المسلمين يعبدون الحجر الأسود والأوثان في الحج‪.‬‬ ‫بقاء شعائر الحج لها هذه الدلالة ومن الحمق ظن بعض المسلمين أن الهنود يعبدون البقر‬ ‫بل هم يعبدون رؤية معينة للإلهي حتى وإن كانت هذه الرؤية هي بدورها وثنية لأنها‬ ‫ترده إلى سيلان الحياة الأبدي والتناسخ‪.‬‬ ‫وإذن فاستخدام الدين في السياسة أو خدمته بالسياسة لا ينتجان عن السياسي من حيث‬ ‫هو سياسي فحسب بل ينتجان كذلك عن كون المعاني المجردة لا يمكن تلقيها من دون تعينها‬ ‫في صور محددة في الأعيان بحسب الثقافات المختلفة وبحسب المستويات المختلفة للأذهان‬ ‫المتلقية في نفس الثقافة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ذلك أن الإنسان لا يرى المعاني إلى متعينة في صور يعتبرها دالة عليها سواء كانت هذه‬ ‫الصور من جنس ما يتجسم في الأقوال أو في الافعال أو المقولات أو في المفعولات وكلها أشياء‬ ‫ذات وجود مادي فعلي تدركها الحواس وتؤولها العقول‪.‬‬ ‫وبمعنى ما فلا يوجد انسان ليس فيه بعض من الوثنية لأن المعنى المجرد لا يتلقى إلى‬ ‫بوصفه متعينا في تمدد ما (المكان) لمدة ما (الزمان) بمدد ذاتي له أو مستمد من غيره فيكون‬ ‫كل أمر ندركه فيه إحالة إلى معنى لكونه من حيث قيامه في ساحة وعينا يعتبر رمزا لذاته‬ ‫ولما وراءها‪ .‬فما من شيء نراه حيا كان او جامدا إلا وهو في آن رامز لذاته ولما وراءها إليه‬ ‫يرد وجوده ومعناه‪.‬‬ ‫وبهذا المعنى فكل البشر من حيث هم بشر يستخدمون الدين والمعاني القيمية ويخدمونها‬ ‫طوعا أو كرها‪.‬‬ ‫والظاهرة ليست من جنس الأدوات التي يمكن أن نختار استعمالها أو عدم استعمالها بل‬ ‫هي ملازمة لكيان الإنسان وخياره الوحيد ليس بين استعمالها وعدمه بل بين استعمالها‬ ‫الخير واستعمالها الشرير أي بين الصدق في استعمالها لما أهلت له أو استعمالها للخداع من‬ ‫أجل وجاهة كاذبة وهذا هو الغالب على الساسة المتحيلين‪ .‬وغالبهم كذلك‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بعد ان بينا أن السياسي من حيث هو سياسي لا يمكن أن ينفصل على نوعي القيم المادية‬ ‫الاقتصادية والروحية الخلقية سواء كانت من طبيعة دينية أو من طبيعة لا دينية فلا وجود‬ ‫لسياسة حتى في الانظمة الاستبدادية تخلو من التلازم بين النوعين من القيم‪.‬‬ ‫لكن السؤال المضاعف هو تحديد طبيعة النوعين ودلالة توظيف أحدهما ليكون خادما‬ ‫والثاني مخدوما لأن السياسي من حيث هو سياسي يتحدد توجهه ورؤيته التي تجعله محققا‬ ‫لطبيعته الغالبة ولوظيفته المميزة له أو منافيا لهما بهذا المعيار الذي يبين‪:‬‬ ‫‪ .1‬تقديم الروحي والخلقي على المادي والاقتصادي أو العكس‪.‬‬ ‫‪ .2‬استخدام الأول أداة للثاني أو العكس‪.‬‬ ‫فيكون هذا المعيار صادقا في حالة الطرد ومنافقا في حالة العكس‪.‬‬ ‫ويكون في الحالة الأولى معيارا ذا دلالة فعلية على ما وصفنا في ‪ 1‬و‪ 2‬وفي الحالة الثانية‬ ‫على عكسهما بمعنى أنه‪:‬‬ ‫‪ .1‬يوظف الروحي والخلقي للتغطية بالأقوال على ما ينافيهما في الأفعال‪.‬‬ ‫‪ .2‬وإذن فالروحي والخلقي يستخدم من أجل المادي والاقتصادي‪.‬‬ ‫وخلال البحث عن هذه الحالة وهي الغالبة على السياسي تبين أن بنية النظامين‬ ‫السياسيين الذي يدعي التربية بالوساطة الروحية والحكم بالحق الإلهي او النظام‬ ‫الثيوقراطي والذي يدعي التربية باسم بالوساطة باسم الإنسان والحكم بالحق الإنساني أو‬ ‫النظام العلماني (وخاصة الملحد) كلاهما يعتمد بنية عميقة واحدة هي النظام الذي يحكم‬ ‫بقوة معدن العجل ويربي بقوة خواره‪.‬‬ ‫وهذا هو النظام الأبيسيوقراطي (نظام العجل)‪.‬‬ ‫ويمكن أن نسمي النظامين بنظامي العبودية إما باسم السماء أو باسم الأرض‪ .‬ومن هنا‬ ‫لا بد أن نحدد المقصود بالمرجعية التي تتجنب هذين الأساسين الديني واللاديني في آن‬ ‫بمعنى أنها تعتمدهما مرجعية لكنها لا تستمد منهما قيما ليست في كيان الإنسان نفسه بل‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫تستمد منهما ما يتحدد بما سميته المعادلة الوجودية التي هي في كيان الإنسان وفي كيان‬ ‫عالمه الذي يتحيز فيه طبيعيا وتاريخيا‪:‬‬ ‫‪ .1‬ففي كيان الإنسان يوجد العامل الطبيعي والعامل التاريخي‪ .‬ويمكن اعتبار كيانه‬ ‫العضوي ممثلا للعامل الطبيعي وكيانه اللاعضوي ممثلا للعامل التاريخي أي لما يدرك كيانه‬ ‫العضوي دون أن يدركه لأنه هو ما يدرك به ويدرك أنه يدرك به ولا يحسه بأي من‬ ‫حواسه متجسما فيه أو خارجه مثل بدنه‪ .‬ويمكن أن نعتبره ما لا ندركه من كياننا العضوي‬ ‫ويمكن أن نعتبر كياننا العضوي هو ما نعلمه من كياننا الروحي‪.‬‬ ‫‪ .2‬وهذا الكيان العضوي والروحي هو دائما في علاقة ما يتعالى عليه بصوفه مثالا‬ ‫أعلى من ذاته أو باعتباره الكائن الكامل والمطلق الذي ننسب إليه كل كمال فينا وننزهه‬ ‫من كل نقص فينا ونعتبره مطلقا من حيث الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود‪ .‬ولنسم‬ ‫هذا المثال الله أو الرب أو أي كائن مطلق لا نستطيع عنه فكاكا لأن نفيه هو بنفسه إحالة‬ ‫عليه‪.‬‬ ‫‪ .3‬وعلى يمين هذا التلازم بين الإنسان وربه نجد علاقة الإنسان بالطبيعة التي‬ ‫يستمد منها ما يسد حاجته العضوية‪.‬‬ ‫‪ .4‬وعلى يسار هذا التلازم بين الإنسان وربه نجد علاقة الإنسان بالتاريخ الذي‬ ‫يستمد منه ما يسد حاجته الروحية‪.‬‬ ‫‪ .5‬وهذان الاستمدادان يصلانه بصورة غير مباشرة بما وراء لهما يجعلهما موصولين‬ ‫بما تتصل به نفسه مباشرة لأنه لا يستطيع أن يرد ما يستمده منهما إلى نفسه أو إلى‬ ‫الإنسانية فلا يستطيع الاستغناء عن المارواء المباشر واللامباشر وكل حياته هي محاولة فهم‬ ‫هذين الماورائين المباشر بينه وبين ربه واللامباشر بينه وبين عالميه الطبيعي و التاريخي‬ ‫على الأقل بما فيهما مما لا يمكنه إلا كذبا نسبته إلى نفسه‪ .‬وحتى مهرب الصدفة فهو لا‬ ‫يخلصه منهما لأنها تبقى كذلك ما وراء لا سلطان له عليه ويشعر أن تابع له مهما فعل للتحرر‬ ‫منه حتى لو بلغ سخافات التصوف أو الوجودية التي تدعي التعين الوجودي متقدما على‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الكيان الماهوي (المقابلة السارترية السخيفة بين الوجود الماهوي – الأسنس أو الزاين ‪ -‬أو‬ ‫الوجود المتعين ‪ -‬الاكزيستن أو الدزاين ‪.)-‬‬ ‫وحتى أشرح نظرية العجل الذهبي ودورها من حيث هي بنية عميقة للنظامين‬ ‫الثيوقراطي (الحكم باسم الله) والأنثروبوقراطي (الحكم باسم الإنسان) أي بينة النظام‬ ‫الأبيسيوقراطي (الحكم باسم العجل) واعتبارا للسياسي مؤلفا دائما من بعدين هما بعد‬ ‫التربية وبعد الحكم شرطين لسد الحاجات الروحية الخلقية والمادية الاقتصادية وضعت‬ ‫نظرية الرمزين بوصفهما أداتي كل سياسي من حيث هو سياسي‪:‬‬ ‫‪ .1‬رمز الفعل أو العملة وهي رمز التبادل بين الناس في القيم المادية والاقتصادية في‬ ‫كل جماعة لان الرمز هو ما من دونه يستحيل التبادل الناجع‪ .‬فالمقايضة لا تكون إلا مباشرة‬ ‫ولا تمكن من التبادل إلا في الحالات البسيطة ولا تحل مشكل التبادل غير المباشر‪ .‬ومن ثم‬ ‫فهي تحول دون تطوره ونجاعته لرهن التبادل على العين بدل النقد‪ .‬فتحول من ثم دون‬ ‫تراكم الثروة في شكلها الرمزي الذي يحرر الإنسان من سلطان المكان والارتباط الدائم‬ ‫بالعيني‪.‬‬ ‫‪ .2‬فعل الرمز أو الكلمة وهي التواصل بين الناس في القيم الروحية والخلقية في كل‬ ‫جماعة إما في ذاتها أو حول التبادل ومن ثم فهي الشرط الأول لأن هذا الرمز هو ما من‬ ‫دونه يستحيل التواصل الناجع‪ .‬فالإشارة التي هي من جنس المقايضة لا تكون إلا مباشرة‬ ‫ولا تمكن من التواصل إلا في الحالات البسيطة ولا تحل مشكل التواصل غير المباشر في المكان‬ ‫وفي الزمان‪ .‬ومن ثمة فهي تحول دون تطوره ونجاعته‪ .‬ولا تحل مشكل التواصل غير‬ ‫المباشر‪ .‬فهي لا تصلح إلا للتواصل العيني والحيني فتحول من ثم دون تراكم التراث في‬ ‫شكله الرمزي الذي يحرر الإنسان من سلطان الزمان والارتباط الدائم بالحاضر‪.‬‬ ‫وليس بالصدفة أن كان هذان الرمزان هما عينهما بعدا العجل‪:‬‬ ‫‪ .1‬فمعدنه كان دائما رمز العملة على الأقل إلى حدود اتفاقية بروتن وودس‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬وخوراه كان دائما ولا يزال رمز الكلمة المغشوشة التي تجعلها لا تجلي الحقيقة بل‬ ‫تخفيها وهو معنى الخوار الإيديولوجي والإعلامي والملاهي في الفنون الأكثر تمثيلا لسلوك‬ ‫الإنسان‪.‬‬ ‫وبذلك انتقلنا من أشكال سياسية للتربية والحكم ‪ -‬وهما بعدا السياسي في كل حضارة‪:‬‬ ‫‪ .1‬والتربية وظيفتها علاج العلاقة العمودية بين الإنسان والطبيعة وما يترتب عليها‬ ‫من علاقات بين البشر بتطوير ما يسميه ابن خلدون بالوازع الذاتي أي سلطان الإنسان‬ ‫على نفسه بنفسه ‪ -‬جوهر الأخلاق الفردية للتعايش ‪ -‬شرطا في قيام الجماعة وتواصلها‬ ‫بما تنتجه من تراث لذاته وبوصفه شرط قدرة الإنسان على إنتاج أدوات علاقة بالطبيعة‪.‬‬ ‫‪ .2‬والحكم وظيفته علاج العلاقة الأفقية بين الإنسان والإنسان وما يترتب عليها من‬ ‫علاقات بينهم وبين الطبيعة بتطوير ما يسميه ابن خلدون بالوازع الاجنبي أو سلطة القانون‬ ‫‪ -‬جوهر الاخلاق الجماعية لإخضاع التعايش للقانون ‪ -‬حماية الجماعة بعضها من البعض‬ ‫ومن الحكم بسلطة القانون وقدرة تنفيذه ومن العدوان الخارجي عليها‪.‬‬ ‫وبذلك فالدولة من حيث هي جهاز عام لا تصبح فاعلة إلا بما يؤدي وظائف الجهاز ممن‬ ‫يملأ مؤسساته ملأ يكون فيه القيمون على المؤسسات نوابا للجماعة في إدارة شأنها إذا كانت‬ ‫جماعة حرة روحيا ليس بينها وبين ربها وسيط وحرة سياسيا ليس بينها وبين شأنها أو أمرها‬ ‫وصي‪.‬‬ ‫تلك هي الإشكالية التي علينا حسمها في الفصل الاخير من المحاولة لبيان كيف تتحول‬ ‫هذه الوظائف إلى نقائضها ما يجعل الدولة تفقد ما لأجله أنشئت أعني الحماية والرعاية‬ ‫شرطي كل سيادة فعلية لجماعة الأحرار‪.‬‬ ‫والجماعة التي تفقد هذه الشروط يسميها ابن خلدون بالعالة وأفرادها عيالا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وصلنا الآن إلى غاية المحاولة‪ .‬وفيها سأبين الخفي وراء هذا التلازم بين جنسي القيم‬ ‫المادية والاقتصادية والقيم الروحية والثقافية سواء كانت ذات مرجعية دينية أو لا دينية‪.‬‬ ‫وبيان تعين الجنسين في أداتي التبادل (للاقتصاد أو العملة) والتواصل (للثقافة أو‬ ‫الكلمة)‪ .‬وقد حاولت في الفصول السابقة ربط ذلك بكيان الإنسان ذاته‪:‬‬ ‫‪ .1‬من حيث هو كائن عضوي لا بد له من سد الحاجة العضوية وذلك هو مصدر حاجته إلى‬ ‫القيم المادية والاقتصادية‪.‬‬ ‫‪ .2‬ومن حيث هو كائن لاعضوي لا بد له من سد الحاجة اللاعضوية وذلك هو مصدر‬ ‫حاجته إلى القيم الروحية والثقافية‪.‬‬ ‫وسبق أن بينت أننا لا نعلم طبيعة العلاقة بين مكوني كيان الإنسان العضوي والروحي‪.‬‬ ‫وكل ما يمكن افتراضه هو أن البدني هو المرئي من الروحي وأن الروحي هو اللامرئي من‬ ‫البدني إذا قبلنا بأن حقيقة كيان الإنسان من الغيب المجهول‪ .‬وهي ما وراء هذين الوجهين‬ ‫المرئي واللامرئي من الكيان‪.‬‬ ‫كما بينت أن سد الحاجتين لا يمكن أن يحصل من دون تعاون وتبادل من شرطه التعاوض‬ ‫العادل بين المتبادلين‪ .‬وتلك هي علة الحاجة إلى نظام قانوني يجعل ذلك ممكنا باعتباره‬ ‫وازعا أجنبيا هو سلطة القانون بشرط أن تؤيده سلطة قادرة على تنفيذه وذلك هو معنى‬ ‫كونها اجنبية أي من خارج طرفي النزاع إن حصل‪.‬‬ ‫لكن هذا النظام لا بد أن يكون له سند من نظام خلقي في ضمير كلا الطرفين يجعله قناعة‬ ‫ذاتية باعتباره وازعا ذاتيا هو سلطة الأخلاق‪ .‬وقد يغيب هذا الوازع إذا كان الإنسان هو‬ ‫المعتدي لكنه سرعان ما يرجع عندما يكون هو المعتدى عليه‪.‬‬ ‫وبذلك يتبين أن السياسة تحتاج إلى هذين الوزعين كما عرف ذلك أبن خلدون مفضلا‬ ‫الأول على الثاني‪ .‬لكنه يعتبره غير كاف‪ .‬ويعتبر الثاني في غياب الأول هو جوهر‬ ‫الاستبداد‪ .‬والذاتي منهما هو مهمة التربية خاصة‪ .‬والأجنبي منهما هو مهمة الحكم خاصة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وكلاهما يشترط فيه ابن خلدون ألا يكون عنيفا‪ .‬ومن ثم فلا سياسة من دون التلازم بين‬ ‫نوعي القيم في الجماعة ونظامي تحقيقهما في كيان الإنسان وفي شروط الاستجابة إليهما أي‬ ‫إلى حاجاته الفردية والجماعية‪.‬‬ ‫والحاجات الفردية والجماعية هي المحرك الفعلي لكل نشاط إنساني‪ .‬والسياسي هو‬ ‫الجامع بين كل الأنشطة الإنسانية‪ .‬ومنهما يستمد الرمزان رمز الفعل (العملة) وفعل‬ ‫الرمز (الكلمة) فاعليتهما في سلوك البشر سواء كان سلوك الفاعل أو سلوك المنفعل في‬ ‫المعاملات‪.‬‬ ‫وحتى أبين هذا السر الخفي في الفاعلية السياسية ودور نوعي القيم فيها إما بهما مباشرة‬ ‫أو بما يرمز إليهما أي العملة والكلمة بصورة غير مباشرة لا بد من دراسة أمرين أحدهما‬ ‫يحدد طبيعة دورهما العادل والظالم والثاني يضرب مثالا من تأثير الدورين‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأول هو كيف تتحول العملة من مجرد أداة تبادل إلى أداة سلطان على المتبادلين؟‬ ‫وكيف تتحول الكلمة من مجرد أداة تواصل إلى أداة سلطان على المتواصلين؟ والمطلوب هو‬ ‫فهم كيف أصبح احتكار الثروة في شكل رمز الفعل ‪ -‬أو العملة ‪ -‬واحتكار التراث في شكل‬ ‫فعل الرمز ‪ -‬أو الكلمة ‪ -‬وكيف أصبحا أهم أدوات الحكم والتربية للسيطرة على سد‬ ‫الحاجتين العضوية والروحية في حياة البشر‪ .‬فهما تمثلان كل ما يسدها تمثيلا مجردا وكليا‬ ‫دون تعين ما يجعل صاحبها متحررا من تعين الثروة والتراث والتحكم في الأسواق‬ ‫الاقتصادية والثقافية‪.‬‬ ‫‪ .2‬والثاني هو بيان ذلك في الفعل من خلال مثال تاريخي حقيقي حصلت بمقتضاه هذه‬ ‫النقلة بصورة علنية لأنها حاصلة في النظامين السابقين عليه بصورة خفية كما سأبين‪ .‬وهذه‬ ‫هي اللحظة التي تسمى بالثورة البرجوازية خلال‪:‬‬ ‫• الانتقال من تقدم دور القيم الاقتصادية القارة إلى تقدم القيم المنقولة بفضل دخول‬ ‫ربا الأموال والانتقال من تقدم العملة الذهبية في الثقافة المسيحية إلى العملة الورقية بعد‬ ‫الإصلاح (الثروة السائلة)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫• والانتقال من تقدم دور القيم الروحية القارة لأنها تعتبر سماوية وأخروية إلى تقدم‬ ‫القيم الروحية المنقولة لأنها تعتبر أرضية ودنيوية فنشأ ربا الأموال بتعميم العملة الورقية‬ ‫في اقتصاد البلاد المسيحية وربا الأقوال والكلمة الورقية في ثقافة البلاد المسيحية بتعميم‬ ‫الكتاب (المطبعة)‪.‬‬ ‫ولا بد إذن من بيان علاقة العملة والكلمة بحاجتي الإنسان المادية والروحية بوصفهما‬ ‫يمثلان المعنى الكلي الذي يجعل التعامل سواء كان تبادلا أو تواصلا لا يلزم صاحبهما بملكية‬ ‫ثروة أو تراث عينيين قائمين بذاتهما من حيث هما بل يكفي بما للعملة من قدرة على تمثيل‬ ‫الثروة عامة دون تعيين والكلمة على تمثيل التراث عامة دون تعيين حتى يكون صاحبهما‬ ‫ذا سلطان على من يملك منهما شيئا معينا لا يستطيع استعماله إلا إذا وجد من يحتاج إليه‬ ‫حين حاجته هو إلى ما عنده في المقابل‪.‬‬ ‫وهذا التحرر من التعين هو جوهر التجريد والكلية وهو أقوى سلاح في الانتقال من‬ ‫الخصوصية إلى الكلية ومن التعدد إلى الوحدة ومن العوالم الحضارية المتعددة إلى عالم‬ ‫ذي نمط حضاري واحد يفرض نفسه على البقية ويلغي التعدد الحضاري والثقافي إلغاءه‬ ‫للتعدد الاقتصادي‪.‬‬ ‫وذلك هو جوهر العولمة التي لم يعد فيها دين العجل خفيا بل صار بعداه علنيين في العالم‬ ‫كله‪ :‬سلطان معدن العجل (العملة الورقية ورمزها الدولار) وخواره (ورمزه الإعلام‬ ‫والملاهي الأمريكية)‪.‬‬ ‫فيكون الانتقال من الاقتصار على دور الأداة في التبادل بالنسبة إلى العملة وعلى دور‬ ‫التواصل بالنسبة إلى الكلمة ليس قرارا تحكميا بل هو ناتج ضرورة عن الطابع المجرد الذي‬ ‫يضفي حرية شبه مطلقة على فاعلية صاحب العملة في التبادل‪ .‬فهو متحرر من تعين الحاجة‬ ‫المادية‪ .‬وتحرر فاعلية صاحب الكلمة في التواصل‪ .‬فهو متحرر من تعين الحاجة الروحية‪.‬‬ ‫ويقاس التحرر التبادلي بالمقارنة بين تبادل المقايضة وتبادل العملة في التجارة كما يقاس‬ ‫التحرر التواصلي بالمقارنة بين تواصل الإشارة وتواصل الكلمة في العبارة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وما كان ذلك ليكون ذا فائدة لو لم تكن الحاجة العضوية والحاجة الروحية من جوهرهما‬ ‫أن تكونا مباشرتين ولا تقبلان الانتظار أو التأجيل وخاصة عند المحتاج إليهما ممن ليس له‬ ‫القدرة على ادخار ما يغنيه عن العجلة‪ .‬وحتى من له القدرة على ادخارهما فهو لا يختلف‬ ‫كثيرا عن العاجز دون ذلك لأن إلحاح الحاجة ليس أمرا موضوعيا بل هو أمر ذاتي وفيه‬ ‫شبه إدمان على المزيد الذي لا يتوقف وهو من جنس اللامتناهي الزائف‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن الإنسان مهما ملك يبقى دائما متشوقا للمزيد فيكون إلحاح الحاجة ملازما‬ ‫له حتى لو كان أغنى الأغنياء في الثروة وفي التراث‪ .‬فالإنسان لا يتوقف أبدا عن طلب‬ ‫المزيد منهما ولا يريد أن يفوت الفرصة خاصة إذا كان تاجرا في القيم المادية أو في القيم‬ ‫الروحية فيريد التبادل أو التواصل الحيني لئلا تفوت عليه فرصة الصفقة‪ :‬وذلك مستحيل‬ ‫في المقايضة تبادليا وفي الإشارة تواصليا‪.‬‬ ‫والآن فما مصدر الحاجتين؟‬ ‫إنه ما رمزت إليه رمزا جامعا بين الاستعارة والكناية في آن أعني بسلطان المائدة (الغذاء‬ ‫وما يتبعه) وبسلطان السرير (الجنس وما يتبعه) في مستوى أول‪.‬‬ ‫وأما المستوى الثاني فدوره أقوى من دور المستوى الأول‪.‬‬ ‫إنه ما رمزت إليه بفن المائدة وبفن السرير‪ .‬فالفقراء غالبا ما يكون همهم سد حاجة‬ ‫المائدة وحاجة السرير بالقدر الموجود دون تفنن في الاختيار الذي ليس في متناولهم‪.‬‬ ‫لكن سد الحاجات الأولية أمر عسير وعسير جدا بالنسبة إلى غالبية البشر لأن الثروة‬ ‫والتراث تتراكم عند الأقلية دائما وهي لو وزعت بالعدل لاستحال تراكمها‪ .‬لكن ما يعني‬ ‫الأغنياء ليس المائدة و لا السرير لأنهما متوفران بل التنافس بينهم هو في فن المائدة وفن‬ ‫السرير‪ .‬وليس لهما حد ولا معيار‪ .‬فهو في الأخير غاية الترف والمجون في كل المجتمعات‬ ‫ويصحبه التبذير في المائدة‪ .‬لكن التبذير في السرير ممكن للمرأة وغير ممكن للرجل لعلل‬ ‫عضوية معلومة‪ .‬ولهذه العلة فالمرأة أقوى من الرجل دائما مهما توهم الرجل‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وينبغي هنا أن نعلم أن علاقة الرجل بالمرأة هذه هي العلة الفاعلة في كل ما تقدم بمعنى‬ ‫أن ضعف الرجل وقوة المرأة هي العلة الغائية الأساسية في الانتاجين وهو أمر قلما يعترف‬ ‫به الرجال‪.‬‬ ‫ففن المائدة وفن السرير هما المحددان الأساسيان لكل ما يتعلق بالذوقين العضويين‬ ‫واللاعضويين أو بالذوق في الغذاء والجنس وفي الفنون الجميلة كلها معمارية كانت أو‬ ‫هندامية‪ .‬ويجمع بين الامرين ما يتعلق بالجماليات الطبيعية أو الاستكمالية لما هو طبيعي‬ ‫مثل كل أدوات الزينة وهي بالاساس انثوية حتى عندما يتبناها الرجال‪.‬‬ ‫وهذه الظاهرة المتنوعة هي العلة الغائية للاقتصاد والثقافة مباشرة بما قدمت وبصورة‬ ‫غير مباشرة بما لهما من تأثير في العلة الفاعلة لأن العلة الغائية تعود على العلة الفاعلة‬ ‫فتكون فاعلة فيها‪ .‬وهذه العلاقة المعقدة هي التي تجعل أدوات الاولى غاية الثانية‪.‬‬ ‫فالمدرسة والمعبد أي مؤسستا البحث العلمي الطبيعي والإنساني وفي ما بعدهما المتعالي عليهما‬ ‫كلاهما يمثل الشرط الضروري والكافي لإنتاج أدوات ما يسد الحاجات ومناهجه لأنه‬ ‫اكتشاف لقوانين الطبيعة وسنن التاريخ وعلاقتهما بالديني والفلسفي عند كل الجماعات‬ ‫البشرية‪.‬‬ ‫والاقتصاد والثقافة ليس لهما من هم ومن محرك غير هذه العناصر الأربعة التي هي‬ ‫العلة الغائية لكل إنتاج إنساني‪ .‬ومن ثم فهو أيضا علة العلة الفاعلة بمعنى أن سد الحاجات‬ ‫للاستجابة إليها غاية‪ .‬لكنه في آن علة فاعلة للعلة الفاعلة التي هي أداة أدواتها كما في‬ ‫مثال الدافع إلى الترحال في القبائل البدائية من أجل البحث عن الماء والكلاء‪ .‬ولا يزال‬ ‫الأمر على ما هو عليه حتى عند الشعوب المتحضرة الحالية مثل البحث عن اكتشاف المواد‬ ‫والطاقة‪.‬‬ ‫وتلك هي أسرار الحياة الجمعية ومحرك الحياة السياسية‪ .‬وكل ما عدا ذلك يمكن أن‬ ‫نعتبره من التبرير الإنساني للتبرؤ الإنساني مما في الإنسان من حيواني‪ .‬وليس معنى ذلك‬ ‫أني لا أصدق بوجود ما يتعالى على الحيواني في الإنساني بل معناه أن الحط من الحيواني‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫في الإنساني ليس إلا نتيجة للتحريف الذي يخرجه من التعالي وهو أصل التحريف الإنساني‬ ‫للمتعاليات‪.‬‬ ‫فعندما يعتبر أفلاطون المادة مصدر الشر فالنتيجة التي تترتب على ذلك هي اعتبار البدن‬ ‫مصدرا للشر في حياة الإنسان‪ .‬ثم بالتدريج يصبح الجنس مدنسا‪ .‬ويترتب عليه احتقار‬ ‫المرأة‪ .‬لذلك فقلما تجد فيلسوفا يعتبر المرأة كائنا جديرا بالاحترام‪ .‬وبخلاف خرافات‬ ‫الحداثيين العرب فإن منزلة المرأة معدومة أو تكاد في الفلسفة وهي لم تصبح ذات معنى‬ ‫إلا في الإسلام رغم أن أغبياء الفقهاء ومفسري القرآن صدقوا الإسرائيليات التي تعتبرها‬ ‫عاهرة بالجوهر ومن ضلع أعوج إلخ‪ ..‬وكل ذلك يتنافى تماما مع أول نص لا يخاطب الرجال‬ ‫وحدهم بل لا بد من مخاطبة النساء معهم وأول رسول وضعها في منزلة الصلاة والطيب‬ ‫قربا إلى قلبه‪.‬‬ ‫وهذا العامل هو أساس الدافع الذوقي لكل حياة اقتصادية وثقافية في أي جماعة‪ .‬ومن‬ ‫يتجاهل ذلك لا يمكن أن يفهم دور المرأة في السياسة مباشرة تربية وحكما وبتوسط دوريها‬ ‫في الاقتصاد والثقافة دفعا للذائقة المادية والفنية‪ .‬لكن التصور المحرف للديني في المسألة‬ ‫هو الذي أنتج ما يسمى بالخطيئة الموروثة ‪ Die Erbsünde‬في التراث اليهودي المسيحي‬ ‫الذي تبناه المفسرون والفقهاء والمتكلمون والمتصوفة مع تبني الرؤية التي تعتبر المادة‬ ‫مدنسة في حين أن القرآن يعتبر آدم الذي هو من تراب أسمى منزلة وجودية من الملائكة‬ ‫وبرأ آدم وحواء ولم يعتبر اخراجهم من الجنة عقابا بل فرصة ثانية لإثبات جدارتهما‬ ‫بالاستخلاف‪.‬‬ ‫وبمجرد تحول العملة والكلمة أداتي سلطان على المتبادلين والمتواصلين يزول كل تبادل‬ ‫وتواصل غيرهما فتفقد المرأة دورها المتجاوز للأداة الاقتصادية والثقافية فلا يبقى لها‬ ‫دور ذاتي لها تكون فيه غاية بدلا من أن تكون أداة‪ .‬وأولى ضحايا هذه النقلة تهديم‬ ‫الأسرة لأن معنى التبادل والتواصل المتعاليين على التقدير بالقيم المادية يزولان فلا يبقى‬ ‫التقدير بالقيم الروحية وتصبح الأسرة وكأنها شركة اقتصادية ومن ثم فهي في حرب دائمة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بين الجنسين‪ .‬ويصبح المعنى المجرد للقيم المادية وللقيم الروحية معاني عديمة المضمون‬ ‫العيني فيزول معنى الأبوة والأمومة والطفولة والبنوة‪ .‬ويصبح الجميع في أشبه ما يكون‬ ‫من علاقة الأجير والمؤجر‪ .‬وكل ذلك علته القيم البرجوازية‪.‬‬ ‫وفي هذه القيم تصبح المرأة مجرد بضاعة أو زينة للوجاهة عند رجال الأعمال والسياسيين‬ ‫أو واسطة للإغراء والخداع‪ .‬فهي عند الأولين وسيلة تسويق ووساطة تجارية وعند الثانين‬ ‫وسيلة استعلامات ووساطة علاقات‪ .‬ويتحول التجار والحكام إلى مجرد قوادة يستعملون‬ ‫القيم الحقيقية طمعا في القيم المزيفة‪ .‬وأولى القيم الحقيقية الحب الذي يتحول إلى‬ ‫اغراء خداعي إما للوساطة أو للاستعلام‪ .‬والسعي لتحرير البشرية من هذه الأدواء كما‬ ‫حددها الإسلام هي التي يعسر فهمها حاليا ما ظلت النخب السطحية تعتبر محاكاة الانحطاط‬ ‫الروحي والخلقي تقدما‪.‬‬ ‫والحلول التي يقدمها الإسلام وما تعتمد عليه من تبرئة الجنس الذي هو جوهر النصيب‬ ‫من الدنيا لتحقيق التوازن النفسي للإنسان هي علة عدم فهم علماء الكلام المسيحي رؤية‬ ‫الإسلام الوجودية‪ .‬لذلك فهم قد اعتبروا الرسول أبيقوريا لأنه برأ الجنس واعتبر من‬ ‫حق الإنسان ألا ينسى نصيبه من الدنيا وبرر التعدد المتساوق للرجال والمتوالي للنساء‬ ‫(بتحليل الطلاق وحفظا للأنساب)‪ .‬فقد كانوا بمنطق الكنسية يعللون \"العزوبية\" باعتبارها‬ ‫من شروط التمحض لعبادة الرب ولا يرون أنها \"ضد الطبيعة = كونترو ناتور\"‪ .‬ومن ثم‬ ‫فقد اعتبر القرآن عزوبية الكهنوت من أدلة أن أكثرهم من الفاسقين إذ هم يجعلون المثلية‬ ‫الذي لا يخلو منها عمران الحل الوحيد لإشباع الحاجة الجنسية الطبيعية فضلا عن التحنف‬ ‫الكاذب والزائف‪.‬‬ ‫ولذلك فالعملة والكلمة هما أداتا الحكم والتربية بعدي السياسة في جميع المجتمعات وأداتا‬ ‫التسلط الذي يفسد القيم الروحية المتعالية على القيم المادية‪ .‬وبهذه الصفة فهما يمكن‬ ‫أن تكونا أداتين للتبادل والتواصل الضروريين للحكم‪ .‬ويمكن أن تصبحا أداتي سلطان على‬ ‫المتبادلين والمتواصلين‪ .‬لذلك اختم هذا القسم الأول من سر التلازم بين نوعي القيم في‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫السياسي لأنهما مرتبطان بكيان الإنسان وبشرطي وجوده في الطبيعة (مصدر الرزق المادي)‬ ‫وفي التاريخ (مصدر الرزق الروحي) واستحالة سد هذين النوعين من الحاجة من دون‬ ‫التعاون الذي يترتب عليه التبادل بسبب قسمة العمل‪.‬‬ ‫والتبادل يقتضي التعاوض والتعاوض لا يكون مقبولا إلا إذا كان عادلا‪ .‬ومن ثم فلا بد‬ ‫من وجود الوازعين الذاتي وهو غاية التربية والأجنبي وهو غاية الحكم‪ .‬والوازعان هما‬ ‫شرط العيش المشترك لأنهما يحميان الناس بعضهم من البعض ويؤسسان للثقة المتبادلة كما‬ ‫يحمياهم من الحكام ومن العدوان الخارجي وتلك هي سلطة القانون وسلطة ما ينسب إليه‬ ‫من شرعية وعدل‪:‬‬ ‫‪-1‬فلا يمكن تصور التبادل من دون عملة لعجز التقايض خارج البضائع والخدمات العينية‬ ‫في محدود المكان‪.‬‬ ‫‪-2‬ولا يمكن تصور التواصل من دون كلمة لعجز التشاور خارج اللقاءات الحية في حاضر‬ ‫الزمان‪.‬‬ ‫وتلك هي القوة التي تجعل العملة والكلمة تصبحان قابلتين للانتقال من كونهما أداتي‬ ‫تبادل وتواصل إلى أداتي سلطان على المتبادلين والمتواصلين وهما ثمرة ربا الأموال وربا‬ ‫الأقوال‪ .‬وسلطان ربا الأموال في التبادل وسلطان ربا الأقوال في التواصل هما أداتا دين‬ ‫العجل اللذان يمثلان أداتي نوعي الأنظمة السياسية الأشهرين‪:‬‬ ‫‪ .1‬الثيوقراطيا أو التربية بالوساطة والحكم بالوصاية نيابة عن الآلهة‪.‬‬ ‫‪ .2‬الانثروبوقراطيا أو التربية بالوساطة والحكم بالوصاية نيابة عن البشر‪.‬‬ ‫أما البديل منهما ‪ -‬وهو ما يقترحه الإسلام ‪ -‬فليس هو موضوعي هنا لأني خصصت له‬ ‫دراسات سابقة فهو متعلق بهذين الانتقالين وكيفية التصدي لهما بالتربية والحكم بمعنى أن‬ ‫التربية والحكم يعتمدان على علاج هذا الانتقال من اداة التبادل إلى أداة السلطان على‬ ‫التبادلين أو ربا الأموال ومن أداة التواصل إلى أداة السلطان على المتواصلين أو ربا‬ ‫الأقوال‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وأمر الآن إلى المثال الذي يمكن أن يوضح المسألة في مجراها التاريخي‪.‬‬ ‫فما حصل في الانتقال من النظام الذي يحقر منه عادة ويسمى النظام الفيودالي إلى‬ ‫النظام الذي يكثر الناس من مدحه ويسمى النظام البرجوازي يعطينا مثالا حيا من هذا‬ ‫التحول في دور العملة والكلمة وسر العلمانية‪ .‬وطبعا لست من مادحي النظام الفيودالي‬ ‫لأنه هو النظام الثيوقراطي ولا من مادحي النظام البرجوازي لانه هو النظام‬ ‫الانثروبوقراطي‪ :‬فكلاهما في عمقه ليس إلا دين العجل‪.‬‬ ‫وقد بينت أن لهما نفس البنية وهي بنية دين العجل رغم أن الأول يبدو متحررا من‬ ‫سلطان العملة والكلمة‪ .‬ولا بد هنا من بيان أن سلطانهما يمكن أن يتخذ شكلين‪:‬‬ ‫‪ .1‬الشكل الذي يكذب على السماء وهو ربا الجزاء على الأفعال وعلى الاقوال في الغيب‪.‬‬ ‫وهو الذي كان سائدا في العصر الفيودالي والثيوقراطي وهو يشبه الجزاء الورقي بمعنى‬ ‫أنه جزاء كاذب‪.‬‬ ‫‪ .2‬والشكل الذي يكذب على الأرض وهو ربا الفائدة على الأفعال والأقوال في الشاهد‪.‬‬ ‫وهو الذي يسود في العصر البرجوازي بالعملة والكلمة الورقيتين بمعنى أنه ثروة كاذبة‪.‬‬ ‫ولما كانت هذه الثروة لم تصبح مؤثرة فعلا إلا بعد أن أصبح الربا حلالا في المجتمع‬ ‫الأوروبي وخاصة بعد الإصلاح في الرأسمالية الدنيوية صارت ممكنة وبديلا حاضرا في الآن‬ ‫والهنا بدلا من الرأسمالية الاخروية في يوم الدين رأسمالية الجزاء فإن الأشراف ‪-‬‬ ‫اشراف الجبة واشراف السيف ‪ -‬لم يعد لهم القدرة على منافسة أصحاب العملة والكلمة‬ ‫الورقية في عالم الشاهد‪.‬‬ ‫فصار الأشراف يبيعون ثروتهم القارة مقابل الثورة المتنقلة ويزوجون بناتهم للبرجوازية‬ ‫التي تشتري الأملاك القارة بالأملاك المتنقلة ويشترون الالقاب وأصبح السلطان الفعلي‬ ‫على سد الحاجتين بيدهم وتلك هي النقلة من دين العجل الخفي إلى دين العجل العلني في‬ ‫النظام البرجوازي الذي هو نظام مافية معدن العجل ومافية خواره بفضل السيطرة على‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫حاجة المائدة وحاجة السرير وخاصة على حاجة فنيهما فصارت البشرية كلها عبيد دين‬ ‫الأرض أو العجل بعدما كانوا عبيد الله أو دين السماء‪.‬‬ ‫انتهى البحث‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook