Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore الدولة الحاضنة - علة الاستبداد والتخلف البنيويين - أبو يعرب المرزوقي

الدولة الحاضنة - علة الاستبداد والتخلف البنيويين - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2019-10-24 18:13:45

Description: الدولة الحاضنة - علة الاستبداد والتخلف البنيويين - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫‪--‬‬ ‫لكن إذا فصلنا بين العالمين أمكن أن نفهم أن الخير المطلق والشر المطلق لا يوجدان إلا‬ ‫بالنسبة إلى صاحب الإحاطة أي الله الذي هو الخير المطلق‪ .‬أما العدم المطلق فهو ابليس‬ ‫التي هي نحت لكلمتين هما \"أوب\" و\"ليس\" \"أبو ليس\" كما بين ذلك الكندي أول فيلسوف‬ ‫عربي عندما استعمل الأيس والليس في كلامه على الوجود والعدم‪\" .‬أبو ليس\" هو العدم‬ ‫والشر المطلقين ولا وجود لهما بل هما عين العدم في كيان الإنسان ووعيه بما ينقصه أي‬ ‫كونه لا يدرك من الوجود إلى الشاهد منه ويدرك انه لا ينحصر فيه بل وراءه غيب لا‬ ‫يدركه‪.‬‬ ‫فيصبح عالم الشهادة المنفصل عن عالم الغيب هو عالم الشر الحاصل للإنسان وعالم‬ ‫الشهادة المشدود إليه هو الخير الحاصل للإنسان‪ .‬وذلك هو مضمون القرآن الكريم‬ ‫والقسمة بين الحزبين علتها توهم البعض ممثلين للخير لكأنهم ناطقون باسم الله فيعتبرون‬ ‫خصيمهم ناطقا باسم الشيطان‪ .‬ولما كان كل صف يعتبر نفسه حزب الله والصف المقابل‬ ‫حزب الشيطان فإن الوجود الإنسان نفسه يتحول إلى حرب التعادم بين البشر لان كل واحد‬ ‫منها يتأله فيتصور نفسه الوجود المطلق وكل من سواه عدما‪.‬‬ ‫لكن إذا جمعنا بين العالمين عالم الشهادة وعالم الغيب أمكن أن نستخرج البنية التالية‬ ‫التي هي بنية القرآن في كلامه على الحزبين ليس وصفا للموجود في عالم الشهادة بل لما‬ ‫يمثل العلاقة بين الوجود والعدم في المطلق إذا كان الحاكم محيطا فيكون هو الوجود كله‬ ‫وما عداه عدما ويكون ممثلا للخير كله وما عداه هو الشر‪ .‬وبهذا المعنى يمكن أن نعود‬ ‫إلى علوم الملة فنحررها مما ترتب على تبنيها النظرية الفلسفية القائلة بالمطابقتين بين‬ ‫عقل الإنسان والوجود في ذاته وبين إرادة الإنسان والمنشود في ذاته‪ .‬فيكون الأمر علاقة‬ ‫بين الله والإنسان والعلاقة بين دولتين دولة الله التي لا توجد إلا في عالم الغيب ودولة‬ ‫الإنسان التي تقتصر على عالم الشهادة وهما عالمان مختلفان اختلاف الله عن الإنسان‬ ‫اختلافا مطلقا على النحو التالي‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪48‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬العلاقة بين الله والإنسان‪ :‬عينة من الكلام على الفاعليتين بآلية الاستعارة‬ ‫والكناية‪ .‬والأول الله نموذج مثالي للثاني الإنسان‪.‬‬ ‫‪ .2‬العلاقة بين دولة السماء في عالم الغيب (وهي دولة الله) ودولة الأرض في عالم‬ ‫الشهادة (دولة الإنسان)‪ :‬المشترك هو القيم وليس الحقائق التي تعمل بها‪ .‬والأولى دولة‬ ‫الله في عالم الغيب نموذج مثالي للثانية دولة الإنسان في عالم الشهادة‪.‬‬ ‫‪ .3‬أثر ‪ 1‬في ‪ :2‬نموذج حكم الإنسان الرسولي ومعياره لست عليهم بمسيطر بمعنى‬ ‫أنك لا تفرض عليهم إرادتك باسم الله لان حكم الله متعين في كيانهم نفسه ووظيفتك‬ ‫التذكير ولا شيء غير التذكير‪ :‬الغاشية ‪.22-21‬‬ ‫‪ .4‬أثر ‪ 2‬في ‪ :1‬نموذج تربية الإنسان الرسولي ومعياره إنما أنت مذكر أي إنك لا‬ ‫تقدم لهم شيئا لا يعلمونه لأنه مرسوم في كيانهم ولا ينبغي لك أن تتجاوز مهمة التذكير إذ‬ ‫المشكل هو نسيان ما في ما فطروا عليه‪ :‬الغاشية ‪.22-21‬‬ ‫‪ .5‬وتلك هي حبكة القرآن وهي حبكة سياسية بهذين المعنيين من السياسة مطلقة‬ ‫التحرر بصورة جعلت ابن خلدون يعتبر عدم المحافظة على هذا التحرر علة لفساد معاني‬ ‫الإنسانية فاعتبر الحكم والتربية العنيفين علة انحطاط الإنسان أسفل سافلين‪ .‬ومن ثم‬ ‫فالغاشية ‪ 22-21‬هما الأساس الذي يحدد العلاقة بين الديني والسياسي في القرآن بين‬ ‫المرجعية الإسلامية وبعدي السياسة أي حكم الإنسان وتربيته‪ .‬لكن هذه الحبكة القرآن‬ ‫جاءت بأسلوبين‪:‬‬ ‫• أسلوب نقدي لما حصل في الماضي من عدم العمل بها والتحذير منه تكراره في الرسالة‬ ‫الخاتمة وهو معنى تحريف المثالين الأعليين كما يتبين في الممثولين أي في الحكم بإعادة‬ ‫الوصاية وفي التربية بإعادة الوساطة‪.‬‬ ‫• أسلوب بنائي لما ينبغي أن يحصل إذا وقع تجنب ما حدث في الماضي والعمل بما جاء في‬ ‫الرسالة الخاتمة لتحقيق مهمتي الإنسان‪ :‬تعمير الأرض بقيم الاستخلاف‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪49‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وبهذه المحاولة أبين أن كل ما يجري في فكر الحركات الإسلامية مطلق التخلف عما حدده‬ ‫القرآن في طبيعة العلاقة بين الديني والسياسي بحيث إن كل محاولة لتأسيس حكم‬ ‫ثيوقراطي أو انثروبوقراطي أو جامع بينهما ليس هو في الحقيقة إلى حكما أبيسيوقراطيا‬ ‫بمعنى أنه حكم بدين العجل يتخفى إما بالله المؤنس في الثيوقراطيا أو بالإنسان المؤله في‬ ‫الديموقراطيا ليخفي الحكم باسم معدن العجل وباسم خواره‪ .‬لكن من يقرأ الغاشية ‪-21‬‬ ‫‪ 22‬يعلم أن الإنسان من حيث هو إنسان وبمقتضى بنيته المؤلفة من‪:‬‬ ‫بدن هو ما نشهده من كياننا الواعي بروحه التي هي من أمر ربي الذي هو مثالنا الأعلى‬ ‫من حيث الاشرئباب إلى الوجود المطلق المبرأ من العدم‪.‬‬ ‫ووعي به هو ما نجهله من غيب بدننا هو ما لا نشهده بل ما نشهد به ما نشهده وما نشهد‬ ‫فيه ما يغيب عنا‪.‬‬ ‫يجعلنا نتضمن في أنفسنا طبيعة الإنجاز السياسي في عالم الشهادة بوصفه عالم الحرية‬ ‫والتكليف المشدود إلى عالم الغيب سعيا إلى العمل بما حددته الآية ‪ 38‬من الشورى‪.‬‬ ‫وبذلك فقد وصلنا إلى شروط تحديد الدولة في الرؤية القرآنية بوصفها الأداة التي تحقق‬ ‫السياسي من حيث هو سياسي واصل بين عالمين عالم الشهادة ممثولا وعالم الغيب مثالا‬ ‫أولهما هو مجال تحقق الإنسان من حيث هو مستعمر في الأرض بقيم الاستخلاف والثاني هو‬ ‫مجال ما يشرئب إليها في هذا المسعى الذي يحرره من الضرورة ويرفعه إلى الحرية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪50‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وصلت الآن إلى اختبار الكلام الذي قدمناه في الفصل السابع تمهيدا لدراسة دولة الإسلام‬ ‫كما يحددها القرآن الكريم باختبار التمييز بين الدولتين والسياستين‪:‬‬ ‫‪ .1‬سياسة الله للمخلوقات كلها باعتبار نظامها يمثل دولة عالم الغيب الذي يشمل دولة‬ ‫الإنسان أو عالم الشهادة الذي هو ما يظهر منها له وما هو مستعمر ومستخلف فيه‪ .‬وموضوع‬ ‫الرسالة الخاتمة الموجهة إلى الإنسانية كلها هو إشارات إلى دولة عالم الغيب وتذكير‬ ‫للإنسان بتكليفه وبتجهيزه لتحقيق مهمتيه باعتماد ما يريه الله من آيات الأفاق والأنفس‬ ‫أي الطبيعة والتاريخ والإنسان (فصلت ‪.)53‬‬ ‫‪ .2‬سياسة الإنسان لـدولة عالم الشهادة مع العلم بوجود الغيب دون العلم بمضمونه‪.‬‬ ‫وهو مأمور بالإيمان به لأنه جزء من العقيدة‪ .‬ومن ثم فعلمه بالشاهد وعمله فيه ليس علما‬ ‫ولا عملا محيطين بل هما نسبيان‪ .‬وكل إطلاق لهما طغيان يفسد سياسة عالم الشهادة‬ ‫بتجاهل عالم الغيب‪ .‬وعلامة هذا التجاهل أو الجهل هي القول بالمطابقة في المعرفة وفي‬ ‫القيمة‪ .‬فلا يبقى فكر الإنسان اجتهادا وعمله جهادا بل يصبحان طغيانا معرفيا وطغيانا‬ ‫قيميا يصفهما ابن خلدون بحب التأله مصدر كل الشرور في تاريخ الإنسانية أي مصدر‬ ‫الاستبداد في التربية أو القول بالوساطة بين المؤمن وربه والاستبداد في الحكم أو القول‬ ‫بالوصاية على المؤمن في أمره‪.‬‬ ‫لذلك فقبل هذا التمييز بين السياستين والعالمين يتقدم أصله في التمييز بين المستخلف‬ ‫والخليفة أي بين الله والإنسان‪ :‬وذلك هو معنى الرسالة المذكرة بهذين العلاقتين‪ .‬فالقرآن‬ ‫من حيث هو رسالة يعتبر أصلا لشرح هذه الفروع الأربعة‪:‬‬ ‫‪ .1‬دولة عالم الغيب وسياستها الإلهية تشمل عالم الشهادة‪.‬‬ ‫‪ .2‬دولة عالم الشهادة وسياستها الإنسانية لا تتجاوزه‪.‬‬ ‫‪ .3‬والله المستخلف للإنسان في عالم الشهادة‪.‬‬ ‫‪ .4‬والإنسان خليفة الله في عالم الشهادة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪51‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهي رسالة من الله إلى الإنسان حول علاقة العالمين والسياستين وعلاقة الرب والمربوب‬ ‫بوصفها علاقة بين ذاتين المستخلفة والخليفة‪ .‬وهي علاقة مرتسمة في كيان الإنسان إذ إن‬ ‫الرسل لا يأتون بها بل يذكرون بها ‪ :‬كيان الإنسان نفسه شهادة بحقيقة هذه العلاقة لما بين‬ ‫قيامه وشروطه من علاقة لا يمكن أن يتجاهلها أعني الطبيعة والتاريخ من حوله وما لديه‬ ‫من قدرة على التعامل معهما علما وعملا‪.‬‬ ‫والقرآن يصف هذه العلاقة بكونها علاقة بين حريتين رغم أنها بينه رب ومربوب وبين‬ ‫مألوه وآله‪ .‬إنها علاقة بين حريتين مطلقة ونسبية‪ .‬ولولا ذلك لما كان للتكليف بالتعمير‬ ‫والاستخلاف معنى‪ .‬فشرط تكليف الإنسان هو الحرية التي لا يقرها كل الذين يسيئون‬ ‫فهم القضاء والقدر من المكذبين بالحرية‪ .‬لكن الإنسان مكلف حقا وله سلطة الخليفة الحر‬ ‫الذي يمكن أن يعصي أمر المستخلف وأن يعصيه وبالعصيان بدأ انتقاله من عالم الغيب إلى‬ ‫عالم الشهادة الذي استخلف فيه‪.‬‬ ‫ومنذئذ يبدأ تعييره بمدى احترامه لشروط التكليف دون أن يكون مقيدة آليا بها شرطا‬ ‫في تقدير الأهلية لها وفي تحمل مسؤولية حريته إيجابا وسلبا وتلك هي الأمانة التي عرضت‬ ‫على المخلوقات فلم يقبل تحملها إلا الإنسان‪ .‬أما النقلة من عالم الغيب إلى عالم الشهادة‬ ‫أو الإخراج من الجنة فليس بسبب العصيان الأول بل كان مفروض قبله ما يعني أن كان‬ ‫متوقعا عند الاخبار بجعله خليفة‪ .‬وإذن فهو ليس عقابا بل اختبار لأهليته في فرصة ثانية‬ ‫هي سياسة عالم الشهادة‪ .‬وقد أعطيت له هذه الفرصة في شكل استجابة عل لتحد شيطاني‬ ‫هو عين هذه القدرة على حرية الاختيار بين الطاعة والعصيان بالاجتهاد المعرفي والجهاد‬ ‫القيمي‪.‬‬ ‫وهذه الفرصة الثانية تنفي قضية الخطيئة الموروثة التي هي جوهر الفرق بين الإسلام‬ ‫والمسيحية‪ .‬وهي تغني عن الحاجة إلى الشفيع لأن الإنسان سيحاسب بمقتضى عمله وليس‬ ‫بتحكم أو بلطف إلهيين‪ .‬وقد كانت المسيحية وخاصة البروتسنتينية تعتبر ذلك دليل على‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪52‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أن الإسلام دين عقل طبيعي وليس دينا سماويا منزلا‪ .‬فأهم شيء يرفضه لوثر من الإسلام‬ ‫ويستشنعه هو حكم الله للإنسان أو عليه بميزان اعماله‪.‬‬ ‫وسياسة الدولتين أو العالمين متفاعلتان تفاعل المستخلف والخليفة‪ .‬القرآن يدرس‬ ‫التفاعلين بمنظارين‪:‬‬ ‫‪ .1‬منظار أول هو تقييم ما تقدم من تاريخ الإنسانية بمنطق التصديق والهيمنة‬ ‫لمراجعة العلاقة بين تاريخ الدين وتاريخ سياسة عالم الشهادة وهي إذن مراجعة بميعار‬ ‫فلسفة التاريخ الإنسانية في ضوء في فلسفة الدين الإنسانية‪ .‬والعلاقة بين الفلسفتين هي‬ ‫إذن علاقة بين الديني (علاقة الرب والمربوب) والتاريخي (علاقة السياستين)‪ .‬والنقد‬ ‫القرآني لتاريخ الإنسانية في ضوء ما طرأ على هذه العلاقة من تحريف هو في آن نقد لعلاقة‬ ‫الخليفة بالمستخلف وعلاقة سياسة عالم الشهادة بسياسة عالم الغيب‪ .‬وكل من ينفي مفهوم‬ ‫الدولة في الإسلام سواء تعلق الأمر بالسياسة بمعناها الدنيوي أو بمعناها المتعالي على الدنيا‬ ‫لا يمكن أن يكون درس القرآن بعين من يهمل العلاقة بين بعدي تعريف الله لنفسه بوصفه‬ ‫خالقا وآمرا (له الخلق والأمر) وتعريفه للخليفة بوصفه له من هذين الوصفين نصيب‪.‬‬ ‫‪ .2‬ومنظار ثان هو الاستراتيجية القرآنية التي تحرر من التحريف وتعيد بناء‬ ‫الإنسانية لتوحيدها بمعيار الأخوة الإنسانية (النساء ‪ )1‬والتعارف والمساواة بين البشر‬ ‫(الحجرات ‪ )13‬وتأجيل الحسم بين الاجتهادات الدينية إلى يوم الدين واعتبار تعددها‬ ‫شرط التسابق في الخيرات (المائدة ‪ )48‬لتبين الرشد من الغي شرطا في حرية المعتقد‬ ‫(البقرة ‪ .)256‬ومعنى ذلك أن توحيد الإنسانية بمفهوم الخليفة ودولته الكونية في عالم‬ ‫الشهادة الذي لا يحيط بعالم الغيب يحاكي مفهوم الرب بمفهوم المستخلف ودولته الكونية‬ ‫في عالم الغيب الذي يشمل عالم الشهادة‪.‬‬ ‫فعلاقة العالمين وسياستهما عامل الغيب وعالم الشهادة وسياستهما مناظرة لعلاقة المستخلف‬ ‫والخليفة أي الله والإنسان وأفعالهما مع فارق جوهري يجعل الأول في الحالتين مجهول‬ ‫الطبيعة لكنه معتبر عنه بما يناسب الثاني لأن الرسالة تفقد معناها إذا لم تكن قابلة للفهم‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪53‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫من الثاني دون أن يكون ما تخبر به محيطا بالغيب بل هو محيط بآثاره في الشاهد وهو ما‬ ‫يطلبه المستخلف من الخليفة الذي جهز لتحقيقه ووضع في عالم يمكن التعامل معه بما جهز‬ ‫به‪.‬‬ ‫وهذا هو معنى الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها‪ .‬ومعنى ذلك أن الدولة الألهية‬ ‫أي الوجود كله عامة وما منه ذو صلة بالإنسان وشروط حياته وأفعاله التي هي عين كيانه‬ ‫تمدنا الرسالة منه بصورة رمزية لما له صلة بالإنسان بوصف الدولة الإلهية وسياستها مثالا‬ ‫أعلى تحاكيه الدولة الإنسانية وسياستها دون أن تكون مثلها إذ الله وعالم الغيب وسياستها‬ ‫كلها ليس كمثلها شيء‪.‬‬ ‫فتعمير الأرض بقيم الاستخلاف اعتمادا على أدوات وقيم مذكورة في القرآن ويسميها‬ ‫الآيات التي يريها الله للإنسان في الآفاق وفي الأنفس ليس خلقا ولا أمرا مطلقين بل هما‬ ‫استعمال لموجود في ضوء وعي بمنشود هو معنى علاقة الممثول بالمثال‪ .‬ولما كانت الآفاق في‬ ‫العالم هي الطبيعة والتاريخ وكانت الأنفس هي الإنسان فردا وجماعا وهما ثمرة التفاعل‬ ‫بين الطبيعة والتاريخ وكانت الآيات هي قوانينهما وسننهما بات واضحا أن الأمر كله يتعلق‬ ‫بأمرين‪:‬‬ ‫• بما في الطبيعة والتاريخ من قوانين وسنن تتضمن شروط بقاء الإنسان وتحقيق‬ ‫مهمتيه‪ .‬وهذان النوعان من القوانين والسنن هي آيات الله في الآفاق‪.‬‬ ‫• وبما جهز به الإنسان ليكون قادرا على التعمير والاستخلاف أعني بالقدرة على العلم‬ ‫وتطبيقه وعلى العمل وتطبيقه أي النظر والعقد للعلم والعمل والشرع لإنجاز المهمتين‪.‬‬ ‫وتلك هي آيات الله في الأنفس‬ ‫ذلك أن تجهيز الإنسان النظري لا يمكن أن يحقق مهمتيه إذا لم يكن متعلقا بعلاج علاقته‬ ‫بموضوع العلوم وتطبيقاتها المناسب لما في الطبيعة من نظام قابل للعلم وتطبيقه (كل شيء‬ ‫خلقناه بقدر) كما أن تجهيز الإنسان العملي لا يمكن أن يحقق مهمتيه إذا لم يكن متعلقا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪54‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بعلاج علاقته بموضوع الأعمال وتطبيقاتها من نظام قابل للعمل وتطبيقاته (لن تجد لسنة‬ ‫الله تبديلا ولا تحويلا)‪.‬‬ ‫وحينئذ يصبح بوسعنا أن نسأل السؤال الذي يوصلنا إلى مرحلة فهم نظرية الدولة التي‬ ‫تترتب على ذلك والتي وضعها الإسلام للإنسان من حيث هو مستعمر في الأرض (علاقة‬ ‫بالطبيعة خاصة) ومستخلف فيها (علاقة بالتاريخ من حيث يكون مداره العلاقة بالاستعمار‬ ‫في الأرض وبالاستخلاف فيها)‪ .‬وكلتا العلاقتين توصلانه إلى ما وراء الطبيعة والتاريخ أي‬ ‫خالقهما وآمرهما وخالقه ومكلفه‪:‬‬ ‫‪ .1‬فماذا يميز سياسة الله للوجود الذي نشهده وعلم بالغيب وراء الشهادة سواء كان‬ ‫ذلك إيمانا موجبا أو على الأقل تسليما سالبا بما يتجاوز عالم الشهادة‪.‬‬ ‫‪ .2‬وسياسة الإنسان للوجود الذي نشهده دون علم بالغيب الذي وراءه سواء كان مؤمنا‬ ‫فيعتبره عناية ربانية أو ملحدا فيعتبره صدفة طبيعية لأنه لا يوجد عاقل يزعم أن ما‬ ‫يعمله من الوجود كاف ليكون نظره أو عمله تام الشروط ليكون مطابقا للوجود‪.‬‬ ‫وحتى من زعم أن علمنا وعملنا مطابقان للوجود فإنه وقع في تناقضات لا يقبلها عاقل‪:‬‬ ‫فإذا أخذنا خرافة هيجل في المصالحة بين العالم الروحي والعالم الطبيعي في العلم المطلق‬ ‫والدين المطلق صار تفسر عدمها في البداية وحصولها في الغاية من الالغاز التي لا تعالج‬ ‫شيئا لأنها مصادرة على المطلوب‪.‬‬ ‫ونفس الشيء إذا أخذنا خرافة ماركس الذي ينتهي في الغاية إلى نهاية فاعلية ما اعتبره‬ ‫مبدأ الوجود المطلق أي الصراع الجدلي لأن الغاية هي توقف فاعلية هذا القانون إذا لم‬ ‫نقل بالعود الأبدي‪.‬‬ ‫لذلك فالحل الوحيد الذي يبقى مقبولا عقلا يمكن أن يفسر طبيعة السياسة ومفهوم‬ ‫الدولة وما يحوج الإنسان إليها ولم هي كما وصفت في الفصل السابق شرطا في الوصول إلى‬ ‫تعريف الدولة في الرؤية الاسلامية إذا حررناها من التحريف الذي حصل في علوم الملة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪55‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫واختبار هذه الفرضية هو محاولة الجواب عن السؤال التالي‪ :‬هل ينطبق ما شرحناه على‬ ‫الصورة التي يمدنا بها القرآن عن يوم الدين؟ هل يحاسب الإنسان بمعيار علم السرائر‬ ‫وبالحساب الموضوعي لعلم الظواهر في السلوك الإنساني إذا كان عاملا بما وضع من علاقة‬ ‫بين العالمين في سياسة عالم الشهادة حكما وتربية؟ إذا فصحنا القضاء الإلهي يوم الدين‬ ‫والجزاء الذي ينتج عنه أمكن أن نجد المؤيدات القاطعة على صحة التأويل‪ .‬فالحساب‬ ‫مضاعف‪:‬‬ ‫‪ .1‬فيه مقياس أول نجهله وهو علم الله بـالسرائر الذي كان من الغيب في عالم‬ ‫الشهادة لكنه يصبح شاهدا بعد البعث لأن البصر يصبح حديدا‪.‬‬ ‫‪ .2‬وفي شهادة الظواهر الذي يمثله كل كيان الإنسان الذي يصبح ناطقا فتشهد كل‬ ‫جوارح الإنسان عليه أو له لكأن كيانه كان آلة تسجيل دائمة وهو ما يعني أن شهادة‬ ‫المراقبين للإنسان في حياته الكاتبين لحسناته وسيئاته لا يمكن تكذيبهما‪.‬‬ ‫وإذن فالحكم النهائي بالخلود في الجنة أو في النار يكون بمقتضى ما به يتفاضل الناس‬ ‫(الحجرات ‪ )13‬أي التقوى التي تعني تطبيق الجهاد (المعرفي) والجهاد (القيمي) بصدق‬ ‫هو من غيب السرائر‪ .‬وكلا الخلودين من عالم السرمدية إما في الوجود الذي يعتبره‬ ‫الإنسان في عالم الشهادة السعادة المطلقة في دنياه أو في العدم الذي يعتبره الإنسان في‬ ‫عالم الشهادة الشقاء المطلق في دنياه‪.‬‬ ‫وإذا كان ذلك كذلك فإنه لا يمكن تصور دولة الشهادة وسياستها الإنسانية محتويتين على‬ ‫ما يتجاوز علم الإنسان وعمله النسبيين‪ .‬وذلك ما يعنيه ابن خلدون بالتمييز بين الرؤيتين‬ ‫السنية والشيعية للإمامة‪« :‬وألحق (الأشعري) بذلك الكلام في الإمامة لما ظهر حينئذ من‬ ‫بدعة الإمامية في قولهم إنها من عقائد الإيمان وإنها يجب على النبي تعيينها والخروج عن‬ ‫العهدة فيها لمن هي له وكذلك على الأمة‪ .‬وقصارى أمر الإمامة أنها قضية مصلحية‬ ‫إجماعيه ولا تلحق بالعقائد‪ .‬فلذلك ألحقوها بمسائل هذا الفن وسموا مجموعة علم الكلام‬ ‫إما لما فيه من المناظرة على البدع وهي كلام صرف وليس براجعة إلى عمل وإما لأن سبب‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪56‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وضعه والخوض فيه هو تنازعهم في إثبات الكلام النفسي\"(المقدمة الباب السادس الفل‬ ‫العاشر فصل الكلام)‪.‬‬ ‫وفي هذه الرؤية نفي قطعي للوصاية بين المؤمن وأمره في سياسة عالم الشهادة الذي هو‬ ‫فرض عين على المؤمنين وهو الحسم في الوجه الثاني من السياسة أي الحكم حسما أساسه‬ ‫الحسم في الوجه الأول منها أعني النفي القطعي للوساطة بين الله والمؤمن في التربية‪ .‬وإذن‬ ‫فنظرية الدولة الإنسانية هي نظرية سياسة عالم الشهادة فرض عين على كل إنسان‬ ‫بوصفه مستعمرا في الأرض ومستخلفا فيها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪57‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ختمت الفصل الثامن بنص ابن خلدون الذي نزل مسألة الحكم السياسية خارج العقيدة‬ ‫مقابلا بين الموقفين السني والشيعي‪ .‬وهي مقابلة تلغي النكوص الباطني الذي استعاد ما‬ ‫حرر الإسلام منه الإنسانية أعني‪:‬‬ ‫• الوساطة في التربية ومؤسستها هي الكنسية‪.‬‬ ‫• الوصاية في الحكم ومؤسساتها هي الحكم بالحق الإلهي‪.‬‬ ‫وتجعل سياسة عالم الشهادة مسؤولية الإنسان من حيث هو إنسان وفرض عين فيعوض‬ ‫الاختيار الوصية (الغزالي فضائح الباطنية) وتعوض الشورى المبنية على الاجتهاد الذي‬ ‫هو علم نسبي وهم العصمة المبنية على العلم المطلق‪ .‬ولهذه العلة وضع ابن خلدون المبدأ‬ ‫الأول في التاريخ لتأسيس التعددية السياسية فلسفيا ولعلاج أزمة الصراع الذي آل إلى‬ ‫الحروب بين الصحابة‪.‬‬ ‫لا بد إذن من إيراد نصه في الموضوع حتى نشرع في تعريف طبيعة الموقف السياسي الذي‬ ‫يحدده الإسلام والذي يمكن تعريفه بالمصطلح الحديث في تصنيف القوى السياسية بالسلم‬ ‫الذي وضع تحكميا انطلاقا من جلوس نواب المجلس في الثورة الفرنسية أعني قوى اليسار‬ ‫وقوى اليمين والذي ادخلت عليه ما يخرجه من المنطق الجدلي الصراعي بين النقيضين‬ ‫الذي لا يؤيده التاريخ ولا المنطق فأضفت إليهما عاملين آخرين عما ما يترتب على فعل‬ ‫اليسار في اليمين وفعل اليمين في اليسار الذي لا يترتب عليه توليفا ثالثا كما يزعم اصحاب‬ ‫المنطق الجدلي بل موقفان آخران ينتجان عن تفاعلهما في الاتجاهين‪:‬‬ ‫• يمين اليسار الذي يجمع بين القيم الاجتماعية والقيم الاقتصادية مع تقدم تلك على‬ ‫هذه‪.‬‬ ‫• ويسار اليمين الذي يجمع بين القيم الاقتصادية والقيم الاجتماعية مع تقديم تلك‬ ‫على هذه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪58‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وتبقى فضالة مترددة بين الأبعاد الأربعة وهي قوة الوسط الذي يميل حيث تميل الغلبة‬ ‫في التنافس السياسي بين الحكم والمعارض في الديموقراطيات الحديثة‪ .‬وغالبا ما يصبح‬ ‫اليمين الخالص واليسار الخالص هامشيين لأن العقلاء منهم يبقون في يمين اليسار ويسار‬ ‫اليمين بحيث تكون كل قوة سياسية مؤلفة من قطبين كلاهما يعمل مع الثاني بما يجمع بيهما‬ ‫من منظورين مختلفين وتبقى البنية المخمسة هي المحددة لكل كيان مؤلف‪.‬‬ ‫ونص ابن خلدون مبني على المقابلة بين المنزلة المعرفية والمنزلة المعرفية في المقابلة بين‬ ‫النظر والعقد باعتبارهما يتعلقان بما يقربن من اليقين النظري والعقدي والعمل والشرع‬ ‫باعتبارهما يتعلقان ما دون ذلك من الاجتهاد الإنساني وهي مقابلة فيها ما يذكر بالمقابلة‬ ‫بين الفلسفة النظرية والفلسفة العملية القديمة لولا فرق جوهري اضافته المدرسة النقدية‬ ‫وهو نفي أن يكون النظر والعقد قابلا لأن يكون يقينيا بإطلاق بل هو يبقى اجتهادا وإن‬ ‫كان من جنس مختلف عن الاجتهاد في مجال العمل والشرع لما سنبينه من علل‪.‬‬ ‫وقبل أن أورد نص ابن خلدون في تأسيس التعددية السياسية لا بد أن أورد نصه في نفي‬ ‫وجود الوصية بعد أن تكلمنا في الفصل السابق عن مقابلته بين الموقفين السني والشيعي من‬ ‫منزلة الإمامة في منظور الإسلام‪ .‬ففي نفس الفصل الذي وضع فيه نظرية التعددية‬ ‫السياسة بمقتضى هذه المنزلة وضع مسألة الحرب الأهلية بين يزيد والحسين وثناها بمسألة‬ ‫الوصية لينتهي إلى الحكم في الحروب التي حدثت بمقتضاها وكل ذلك في فصل ولاية العهد‬ ‫من الباب الثاني من المقدمة (فصل ‪ )30‬فقال ابن خلدون‪\" :‬والأمر الثاني هو شأن العهد‬ ‫من النبي (صلعم) وما تدعيه الشيعة من وصية رضي الله عنه وهو أمر لم يصح ولا نقله‬ ‫أحد من أيمة النقل ‪:‬‬ ‫‪ .1‬والذي وقع في الصحيح من طلب الدواة والقرطاس ليكتب الوصية وأن عمر منع‬ ‫ذلك فدليل واضح على أنه لم يقع‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪59‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬وكذا قول عمر رضي الله عنه حين طعن وسئل في العهد فقال إن أعهد لقد عهد‬ ‫من هو خير مني يعني أبا بكر وأن اترك فقد ترك من هو خير مني يعني النبي (صلعم)‬ ‫لم يعهد‪.‬‬ ‫‪ .3‬وكذلك قول علي للعباس رضي الله عنهما حين دعاء للدخول إلى النبي (صلعم)‬ ‫يسألانه عن شأنهما في العهد فأبى علي من ذلك وقال‪ :‬إنه إن منعنا منها فلا نطمع فيها أخر‬ ‫الدهر‪.‬‬ ‫‪ .4‬وهذا دليل على أن عليا علم أنه لم يوص ولا عهد إلى أحد‪ .‬وشبهة الإمامية في‬ ‫ذلك إنما هي كون الإمامة من أركان الدين كما يزعمون‪ .‬وليس كذلك‪.‬‬ ‫‪ .5‬وإنما هي من المصالح العامة المفوضة إلى نظر الخلق‪ .‬ولو كانت من أركان الدين‬ ‫لكان شأنها شأن الصلاة ولكان يستخلف فيها كما استخلف أبا بكر في الصلاة ولكان يشتهر‬ ‫كما اشتهر أمر الصلاة\" (المقدمة الباب الثاني فصل ولاية العهد الفصل ‪.)17‬‬ ‫تصل الآن إلى النص الذي وضع فيه ابن خلدون مفهوم عدم التأثيم في الاجتهاد السياسي‬ ‫لتأسيسا للتعددية بنظرية المعرفة ونظرية الاجتهاد‪ .‬قال ابن خلدون\" والأمر الثالث شأن‬ ‫الحروب الواقعة في الإسلام بين الصحابة والتابعين‪ .‬فاعلم أن اختلافهم إنما يقع في الأمور‬ ‫الدينية وينشأ عن الاجتهاد في الأدلة الصحيحة والمدارك المعتبرة‪ .‬والمجتهدون إذا‬ ‫اختلفوا‪:‬‬ ‫‪ .1‬فإن قلنا إن الحق في المسائل الاجتهادية واحد من الطرفين ومن لم يصادفه فهو‬ ‫مخطئ فإن جهته لا تتعين بإجماع فيبقى الكل على احتمال الإصابة ولا يتعين المخطئ منها‪.‬‬ ‫والتأثيم مدفوع عن الكل بإجماع‪.‬‬ ‫‪ .2‬وإن قلنا إن الكل على حق وإن كل مجتهد مصيب فأحرى بنفي الخطأ والتأثيم‪.‬‬ ‫وغاية الخلاف الذي بين الصحابة والتابعين أنه خلاف اجتهادي في مسائل دينية ظنية‬ ‫وهذا حكمه\" (المقدمة الباب السادس الفصل ‪.)17‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪60‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫من العسير أن يدرك القارئ عمق الحل الخلدوني لتعدد الآراء في الفكر السياسي ما لم‬ ‫يقارن بين الفرضيتين وما تعنيانه‪ .‬فهو يطرح المشكل في التصويب والتخطئة في فرضتين‪:‬‬ ‫الأولى القول بالقطعيات في المسائل الاجتهادية لكن حينها لا ندري من هو صاحبها‪.‬‬ ‫الثانية القول بعدم وجود قطيات في المسائل الاجتهادية فيكون الجميع حينها مصيب لأن‬ ‫كل اجتهاد في الظنيات مقبول‪.‬‬ ‫وهو ما يعني أن السياسة لا تقول بالثالث المرفوع وبعدم التناقض لأنها ليست خاضعة‬ ‫للمنطق ثنائي القيمة الذي يتردد بين الحقيقة والباطل بل هو متعدد القيم‪ .‬وفي الحقيقة‬ ‫هو يخضع لقيم الأفعال الإنسانية التي هي خمسة‪ :‬قلبها المباح وعلى يمينه المندوب إليه‬ ‫والواجب وعلى يساره المكروه والمحظور‪ .‬ولا يمكن الاقتصار على الواجب والمحظور خاصة‬ ‫والإسلام يتضمن ما يحرر منهما في حالات الضرورة التي تبيح المحظور (مثل أكيل الميتة‬ ‫عند الضرورة) وتحظر الواجب (مثل الصوم عند المرض)‪ .‬والسياسة أكثر الأفعال حاجة‬ ‫إلى هذه التعددية لأنها تشمل كل الافعال البشرية‪.‬‬ ‫ولكن هذا التعدد ليس مرسلا بل لا بد له من قانون يحدده يجعل حصره جامعا مانعا‬ ‫وسأورد هذا الحصر بتحليل الفعل السياسي نفسه ثم باستعمال التصنيف السائد والذي هو‬ ‫تحكمي لأنه يعتمد على صدفة جلوس الرأيين المتقابلين في مجلس نواب الثورة الفرنسية‬ ‫فصار أحدهم يسمى حزب اليمين والثاني حزب اليسار ثم صارت هذه التسمية دالة على‬ ‫الخيارات التي على أساسها تقابل الجالسون في اليمن وفي اليسار‪.‬‬ ‫وأبدأ بالمبدأ الذي يمكن من التصنيف الحصري‪ .‬فإذا كانت سياسة عالم الشهادة متعلقة‬ ‫بمهمتي الإنسان من حيث هو مستعمر في الارض ومن حيث هو مستخلف فيها فإن المبدأين‬ ‫الممثلين لحدي المعادلة هما‪:‬‬ ‫‪ .1‬سد الحاجات التي تنتسب إلى تعمير الأرض أي الحاجات المادية أي الانتاج‬ ‫الاقتصادي بالتعاون والتبادل والتعاوض العادل‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪61‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬وسد الحاجات التي تنتسب إلى الاستخلاف فيها أي الحاجات الروحية أي العدل‬ ‫الاجتماعي بالتعارف والتواصل والمساواة في الحظوظ والفرص‪.‬‬ ‫فتصبح القوى السياسية منقسمة أولا إلى‪:‬‬ ‫‪ .1‬التي تعتبر مهمتها العناية حصرا بالإنتاج المادي والقيم الاقتصادية وهذا هو‬ ‫الخيار الذي ينسب عادة إلى ما يسمى بالاصطلاح التحكمي حزب اليمين‪.‬‬ ‫‪ .2‬والتي تعتبر مهمتها العناية حصرا بالإنتاج الرمزي والقيم الاجتماعية وهذا هو‬ ‫الخيار الذي ينسب عادة إلى ما يسمى بالاصطلاح التحكمي حزب اليسار‪.‬‬ ‫‪ .3‬لكن تبين أن الأول لعلة اقتصادية ولعلة سياسية يحتاج إلى توسيع السوق بتوزيع‬ ‫الثروة وتوسيع قاعدته السياسية فيأخذ من الثاني بعضا من سياسته قدرا من عدل‬ ‫التوزيع‪.‬‬ ‫‪ .4‬وتبين أن الثاني لعلة اقتصادية ولعلة سياسية يحتاج إلى ثروة يحقق بها العدل‬ ‫الاجتماعي ومن ثم فلا بد أن يأخذ من الأول بعضا من سياسته لتشجيع دوافع الانتاج‬ ‫الاقتصادي (الملكية والحرية)‪.‬‬ ‫‪ .5‬وتبقى قوة سياسية مترددة بين الصفين وهي الوسط الذي يميل مع الغالب في‬ ‫الانتخابات إما بعدها أو قبلها بحسب توقعه‪ .‬وبذلك تكون القوى السياسية خمس قوى‪.‬‬ ‫لكن القوتين الأوليين يتضاءل دورهما في الديموقراطية ولا يعودان في الغالب إلا في حالة‬ ‫الأزمات الاقتصادية أو في أزمات الهوية وهما الأصلان لكل نكوص إلى التطرفين اليميني‬ ‫أو اليساري‪.‬‬ ‫وهكذا فباصطلاح يمكن تعريف القصد بتصنيف القوى السياسية ومناط تحديدها الذي‬ ‫في ضوئه يقع التصنيف التحكمي بالأسماء الاصطلاحية والغاية هي بيان المعنى وبعدها لا‬ ‫مشاحة في الاصطلاح‪ .‬فإذا اعتبرنا القوى السياسية التي صار آخر أشكالها هو الأحزاب‬ ‫تعرف بدورها السياسي وتوصيف تحكمي علته صدفة الجلوس في مجلس نواب الثورة‬ ‫الفرنسية بحيث صار الجلوس على يسار رئيس الجلسة والجلوس على يمينه معيارا للتسمية‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪62‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وطبعا ما كان ذلك يكون لو كان الجالسون مختلطين بصورة تحول دون اعتبار من اختار هذه‬ ‫الجهة أو تلك وليسوا من لون سياسي واحد بمقتضى الافكار والمصالح التي يدافعون عنها‪.‬‬ ‫وقد ظن الكثير أني وصفت شرط الانتساب الأحزاب إلى مرجعية إسلامية بأنه ينبغي‬ ‫أن يكون تعريفه بمقتضى التصنيف الحديث للأحزاب منتسبا إلى \"يمين اليسار\" مقابل‬ ‫\"يسار اليمين\" بمعنى أنه يقدم البعد الاجتماعي على الاقتصادي تقديم هذا للبعد‬ ‫الاقتصادي على الاجتماعي‪ .‬وفي الحالتين يقع التحرر من التوحش الاجتماعوي‬ ‫والاقتصادوي فيقع الحد من استفراد الدولة أو الخاص بجعل السياسي مؤثر إما بإطلاق‬ ‫التدخل أو بإطلاق عدم التدخل من الدولة في تعديل عمل الجماعة في تحقيق شروط سد‬ ‫حاجاتها بصنفيها‪:‬‬ ‫• فأقصى اليمين يلغي اقيم الاجتماعية لا يمكن أن يعمر في النظام الديموقراطي‪.‬‬ ‫• أقصى اليسار يلغي القيم الاقتصادية لا يمكن أن يعمر في النظام الديموقراطي‪.‬‬ ‫لذلك فهما ينقرضان بتقدم النهج الديموقراطي ويبقى البعض منهم مندسين في الحزبين‬ ‫الممثلين ليمين اليسار (الرؤية الاسلامية) وليسار اليمين (وهي مناظرة لها ويمكن أن‬ ‫تتداول معها) وقد يسيطر اليمين واليسار المتطرفان ظرفيا في حالة الأزمات الاقتصادية‬ ‫أو الثقافية‪ .‬اما حزب الوسط فهو حزب الانتهاز وهو أقلية تميل حيث تميل ريح النصر في‬ ‫الانتخابات‪ .‬ولم يبق إذن إلا أن أثبت الأمرين اللذين توصلنا إليهما في الفصل العاشر‬ ‫والأخير‪:‬‬ ‫طبيعة النظام السياسي وطبيعة أسلوب الحكم وهو ما أعرفه من الآن بمقتضى الشورى‬ ‫‪ 38‬بأنه نظام جمهوري (أمر الجماعة) ذو أسلوب حكم ديموقراطي (شورى بين الجماعة)‪.‬‬ ‫وهو نظام لا علاقة له بالعقائد إلا من حيث هي مرجعية القيم التي يعتمدها لكنها لا تفرض‬ ‫عليه وساطة روحية ولا وصاية سياسية ومن ثم فهو أقرب الأنظمة إلى العلمانية غير‬ ‫الملحدة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪63‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫طبيعة الخيار الذي يصنف القوة السياسية ذات المرجعية الإسلامية تصنيفا حديثا يجعلها‬ ‫كما وصفتها يمين اليسار لإنها تقدم القيم الاجتماعية على القيم الاقتصادية وترفض‬ ‫تدخل الدولة في الاقتصاد حصرا إياه في تعديل التوزيع‪ .‬وهو خيار لا يجعل وظيفة‬ ‫السياسة متجاوزة للوظيفتين هذين فتصبح ذات وساطة بين المؤمن وربه أو وصاية بينه وبين‬ ‫أمره‪ :‬كلاهما فرض عين ولا يمكن فيهما أن يفوض أمره لغيره ليجعلهما فرض كفاية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪64‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ختمت الفصل التاسع بهذه العبارة‪ :‬لم يبق إذن إلا أن أثبت قضيتين صغتها بما توصلت إليه حينها‬ ‫وعلي الآن أن أراجع تلك الصياغة لتكون مناسبة للفصل الحالي المتعلق بطبيعة سياسة عالم‬ ‫الشهادة الكونية لتكون صالحة للإنسان من حيث هو إنسان مربوب وليس للإنسان من حيث هو ذو‬ ‫دين لم يبلغ الكونية فتتطابق فيه المربوبية والآلهية‪:‬‬ ‫فالآية ‪ 38‬من الشورى تحدد طبيعة النظام السياسي وطبيعة أسلوب الحكم فيه بصورة تجعل‬ ‫الإنسان من حيث هو إنسان مشاركا فيها فرض عين وليس فرض كفاية‪ .‬وبمقتضى الشورى ‪38‬‬ ‫يمكن أن نستنتج أنه‪:‬‬ ‫‪ .1‬نظام جمهوري (أمر الجماعة)‪.‬‬ ‫‪ .2‬ذو أسلوب حكم ديموقراطي (شورى بين الجماعة)‪.‬‬ ‫‪ .3‬بمرجعية دينية كونية (الاستجابة للرب)‬ ‫‪ .4‬علامتها ذروة العبادات (أقاموا الصلاة)‪.‬‬ ‫‪ .5‬لعلاج لقوامة نوعي القيم الاقتصادية والاجتماعية (الإنفاق من الرزق)‪.‬‬ ‫وإذن فهو نظام كوني لا يتغير إذ هو بمقتضى أشكال المربوبية التي تمثل الديني في الأديان‬ ‫المختلفة والعقائد الاختيارية (الله بدل الرب) يتبع مرجعية كونية واحدة بخلاف الألوهية‪ .‬إنها‬ ‫ما يترتب على التكليف بسياسة عالم الشهادة بمنطق التعمير والاستخلاف إذ جهز للتعامل معه‬ ‫بالعلم وتطبيقاته في العلاقة مع الطبائع وبالعمل وتطبيقاته في العلاقة بالشرائع‪.‬‬ ‫إنها مرجعية المعرفة والقيمة في التعامل مع قوانين الطبيعة وسنن التاريخ كما يجتهد لاكتشافها‬ ‫والعمل بها بصورة تحرره من مرضي الإنسانية الذين يفسدان معاني الإنسانية بلغة ابن خلدون‬ ‫أعني ما يجعل الإنسان \"رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" (الغاشية ‪:)22-21‬‬ ‫‪ .1‬من الوساطة الروحية في التربية التي هي تذكير بما لديه بالفطرة وبما يكتسبه بالمجاهدة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪65‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬من الوصاية السياسية في الحكم الذي هو أمره يشارك في إدارته بالمشاركة في الشورى التي‬ ‫بين المؤمنين‪.‬‬ ‫ومن ثم فهو أقرب الأنظمة إلى العلمانية غير الملحدة‪ .‬وبذلك فإنه يمكننا أن نصنف القوى‬ ‫السياسية ذات المرجعية الإسلامية تصنيفا حديثا هو الذي قدمناه وشرحناه في الفصل السابق‬ ‫تصنيفا يجعل فكر هذه القوى السياسية متعددة بحسب تأويل المرجعية تأويلا مترددا بين الأشكال‬ ‫الخمسة التي ذكرناها مع تفضيل ما أعتبره أكثرها تمثيلا للمرجعية الإسلامية دون أن تكون‬ ‫الباقية متنافية معها عملا بتعدد أحكام الأفعال وهي خمسة كما أسلفت‪.‬‬ ‫وما اعتبره أكثر تمثيلا للمرجعية الإسلامية هو \"يمين اليسار\" لإنه يقدم القيم الاجتماعية على‬ ‫القيم الاقتصادية ويرفض تدخل الدولة في الاقتصاد كما أكد على ذلك ابن خلدون حصرا إياه في‬ ‫تعديل التوزيع‪ .‬وهو خيار لا يجعل وظيفة القوى السياسية متجاوزة للوظيفتين هذين أعني قوامة‬ ‫التربية والحكم وليس التربية والحكم اللذين هما من خدمات الدولة التي تتداول عليها القوى‬ ‫السياسية التي وصفت‪.‬‬ ‫وهو ما يعني أن كل الجماعة مسهمة فيها على الأقل في انتخاب من يحكم ومن يعارض ومراقبتهما‪.‬‬ ‫وتلك هي وظيفة الجماعة‪ .‬وإذن ففرعي ال السياسة غنيان عن الوساطة بين المؤمن وربه وعن‬ ‫الوصاية بينه وبين أمره ‪ :‬كلاهما فرض عين ولا يمكن فيهما أن يفوض أمره لغيره ليجعلهما فرض‬ ‫كفاية‪.‬‬ ‫والآن كيف يمكن أن أعلل هذا التصنيف أولا ثم كيف أحدد طبيعة النظام ثانيا وطبيعة أسلوبه في‬ ‫التربية والحكم والمعارضة ثالثا وكيف يكون ذلك بصورة تخول ما استنتجته من القول بأن‬ ‫التأويلات الممكنة للمرجعية الإسلامية هي عين أحكام الفعل المعلومة رابعا ليكون التناظر بين‬ ‫أحكام الفعل عامة واحكام الفعل السياسي على وجهة الخصوص خاضعة لمنطق التعددية السياسية‬ ‫التي اسسها ابن خلدون بوضع مبدأ عدم التأثيم في الاجتهاد السياسي الذي هو رعاية المصالح‬ ‫العامة باجتهاد الجماعة اخيرا‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪66‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .1‬فالوسط هو الذي ينطبق عليه حكم المباح بمعنى أن الإنسان مباح له ألا ينحاز لأي من‬ ‫الأحكام الأربعة الباقية شرطا في حريته لا يختار أيا منها‪.‬‬ ‫‪ .2‬المحظور هو الذي يرد بقية الأحكام إلى القيم الاقتصادية وهو اليمين المتوحش لأنه ينتهي‬ ‫إلى الحرب الدائمة بين البشر ويتناقض مع مبدأ الانفاق من الرزق في الشورى ‪.38‬‬ ‫‪ .3‬فيظن الواجب هو نقيضه وهو رد بقية الاحكام على القيم الروحية وينسى أن الإنسان ليس‬ ‫مؤلفا من كيان بدني روحي قد يكون الأول هو ظاهر الثاني والثاني هو باطن الأول‪ .‬وهذا‬ ‫هو منطق الجدل والصراع الدائم الذي بينا خطأه لكونه لا يطابق البنية العميقة للأشياء‬ ‫ولنظامها‪.‬‬ ‫‪ .4‬المكروه هو تقديم الاقتصادي على الروحي وفيه يتنكر المحظور في الغالب ليصبح مقبولا‬ ‫لكنه يكاد يكون الوحيد الممكن في الأزمات الاقتصادية أو الثقافية وخاصة في الحروب حيث‬ ‫ينحط الإنسان إلى أدنى كيانه فيتحول إلى حيوان كاسر‪.‬‬ ‫‪ .5‬المندوب إليه هو تقديم الروحي على الاقتصادي وفيه يتنكر الواجب وذلك في السير العادي‬ ‫للحياة الاقتصادية والثقافية التي تبقى دائما دون الواجب فتكتفي بالمندوب إليه‪.‬‬ ‫وطبعا فهذه الأحكام ليست صفات للأشياء ولا حتى للأفعال في حقيقتها الذاتية بل هي صفات‬ ‫لأحكام الناس عليها أحكامهم التي يقدمونها على أنها ناتجة عما يسمونه بالإكراهات السياسية‬ ‫التي تحدد القوى السياسية مواقها منها‪ .‬مثال ذلك أن ما يعتبره من هو مباشر لوجه الحكم من‬ ‫السياسة واجبا قد يعتبره من هو مباشر لوجه المعارضة منها محظورا‪.‬‬ ‫وغالبا ما يكون الاختيار السياسي شبه محصور المندوب والمكروه في إطار يرد إلى المباح‪ .‬ومن ثم‬ ‫فالمحظور يتنكر في المكروه والواجب في المندوب إليه‪ .‬وإذن فالأحكام تنطبق على أفعال القوى‬ ‫السياسية التي يبالغ المعارض خلالها في استعمال الواجب والمحظور والحاكم يبالغ في استعمال‬ ‫المندوب والمكروه‪ .‬ولهذه العلة كانت القوى مردودة إلى الخمسة التي ذكرتها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪67‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولنبدأ الآن التعليل المعتمد على تحليل النص الذي يثبت أن تصنيف القوى السياسية التي تنضوي‬ ‫تحت المرجعية الإسلامية وتفضيل شكل يمين اليسار وصفها لها لنختم بتحديد وظائف الدولة عندما‬ ‫نحددها بمنظور قرآني‪ .‬والنص هو الشورى ‪ 38‬الذي حللناه في محاولات كثيرة سابقة‪.‬‬ ‫تحليل الشورى ‪38‬‬ ‫ذكرت أن الشورى تحدد طبيعة النظام السياسي الذي اختاره القرآن للدولة ذات المرجعية‬ ‫الإسلامية الكونية لتي يتطابق فيها الألهي مع الربوبي والتي يرمز إليها الكلام على الاستجابة إلى‬ ‫الرب بمعنى التي تنبني على القوانين الكلية وليس التي تنبني على عقيدة من العقائد الجزئية‬ ‫قبل أن تبلغ الكونية التي لا تتضاد فيها الطبائع والشرائع في نظام الوجود الإنساني المعتمد على‬ ‫ما جهز به الإنسان لرؤية آيات الله في الآفاق وفي الأنفس (فصلت ‪.)53‬‬ ‫فكلنا يدرك الفرق بين الربوبية والألوهية لأن الأولى تتعلق بما هو كوني والثانية بما هو خاص‬ ‫بدين دون دين بخلاف ما عليه الدين الخاتم المطابق للدين الفاتح أو الإسلام‪ .‬ففيه تتطابق في‬ ‫الكلية والخصوصية لأنه مبني على تبين الرشد من الغي غاية للتطور الديني الذي يكفر‬ ‫بالطاغوت ويؤمن بالله وهو معنى الديني في كل دين المطابق لفطرة الإنسان‪.‬‬ ‫ولهذه العلة فعندما عرف ابن خلدون الإنسان قال‪ « :‬رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق‬ ‫له\"‪ .‬فالتطابق بين الاقتضاءين الطبع والاستخلاف يعني أن آلهية من يؤمن بالاستخلاف كما حدده‬ ‫القرآن تتطابق مع مربوبيته التي هي كونه كذلك بالطبع وليس بالاكتساب وهو معنى الفطرة‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن الإنسان مفطور على أن يكون رئيسا أي كائنا حرا لا يقبل العبودية والخضوع لغير‬ ‫الله‪.‬‬ ‫وذلك هو معنى \"والذين استجابوا لربهم\" التي تبدأ بها آية تحديد النظام السياسي في الرؤية‬ ‫الإسلامية للدولة‪ .‬والنظام السياسي هو نظام ملء خانات الجهاز الذي تمثله الدولة بوصفها شكلا‬ ‫مجردا يتعين بمن يملئ خاناته من القيمين على جعلها تؤدي وظائفها المؤسسية في تنظيم حياة‬ ‫الجماعة ما يجعل الدولة صورة للعمران كما عرفها ابن خلدون‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪68‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والعلامة الأساسية لهذه الاستجابة ‪-‬وهي علامة وليست كافية لتحقق الاستجابة‪-‬هي اقامة‬ ‫الصلاة‪ .‬وذلك هو المعنى الثاني الوارد في الآية ‪ 38‬من الشورى‪ .‬فإذا وضع المبدأ وهو الاستجابة‬ ‫إلى الرب وحضرت العلاقة وهي إقامة الصلاة أمكن المرور إلى تعريف طبيعة نظام الحكم فأسلوب‬ ‫الحكم فطبيعة العلاقة بين بعدي ما تكون الدولة قيمة عليه في الجماعة أي علاقة الاقتصادي‬ ‫بالاجتماعي في شروط حياة الجماعة من حيث هي معمرة للأرض ومستخلفة فيها‪.‬‬ ‫طبيعة النظام‪« :‬أمرهم\"‪ .‬فمن هم؟ إنهم الجماعة التي استجابت لربها أي قبلت بأن يكون النظام‬ ‫خاضعا لقوانين السياسة والاجتماع وسننهما في وجود الإنسان من حيث هو مستعمر في الأرض‬ ‫ومستخلف فيها‪ .‬إذن يمكن أن نكتب \"أمر الجماعة\"‪.‬‬ ‫فإذا ترجمنا هذه العبارة إلى اللاتينية حصلنا على شكل من أشكال النظم السياسية التي كانت‬ ‫معلومة في زمن نزول القرآن‪ .‬فأمر الجماعة لو ترجمناها إلى اللاتينية لكانت \"أمر=راس\"‬ ‫و\"جماعة=بوبليكا\" فيكون أمر الجماعية يعني ريبوبليك أي جمهورية‪.‬‬ ‫أسلوب النظام‪« :‬شورى بينهم\" من هم؟ إنهم الجماعة التي استجابت لربها وأنجزت العلاقة‬ ‫واختارت الجمهورية وحددت نظام تسييرها أي الشورى بينها‪ .‬إنها إذن شورى بين الجماعة وليست‬ ‫شورى أهل الحل والعقد ولا مشورة المختصين تسدى إلى الحكام تحت جنح الظلام‪ .‬إذن يمكن أن‬ ‫نكتب شورى الجماعة فيما بينها‪.‬‬ ‫فإذا ترجمنا هذه العبارة إلى اليونانية في ما كان معلوما في زمن نزول القرآن حصلنا على‬ ‫\"شورى=كراسيا\" وعلى \"جماعة=ديموس\" فيكون الحاصل ديموقراطية مباشرة لأن الجماعة هي التي‬ ‫تتشاور وليس أهل الحل والعقد‪ .‬وهي تتشاور في تعيين من تنوبهم عندما تكون الجماعة كبرى‬ ‫ولا يمكن أن تدار الدولة بالديموقراطية المباشرة التي تصبح المستوى الأول في المحلي الذي يعين‬ ‫نواب الجماعة لتؤدي وظيفة الشورى في المستوى العام مع انتخاب من يرأس باسم الجماعة ككل‬ ‫هؤلاء الممثلين للمحليات في الشورى المباشرة‪.‬‬ ‫وبذلك يمكن تعريف النظام الذي يطابق قوانين السياسة والاجتماع في الرؤية القرآنية الكونية‬ ‫\"جمهورية ديموقراطية\" مباشرة في المحلي وتمثيلي في المركزي مع بقاء فرض العين السياسي أو‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪69‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حاضرا دائما في المحلي والمركزي مرتين‪ :‬في التعيين والعزل‬ ‫بالانتخابات وفي المراقبة الدائمة بالمعارضة التي تيسر التداول على الحكم لأن الدورية الانتخابية‬ ‫هي للمجازاة إيجابا بالإبقاء وسلبا بالعزل‪.‬‬ ‫ماذا أعني بيمين اليسار‬ ‫ويبقى الرهان الذي جعلني اختار تسمية القوة السياسية التي هذه مرجعيتها بكونها يمين اليسار‪.‬‬ ‫فالآية تنتهي بـ\"ومما رزقناهم ينفقون\"‪ .‬فالإنفاق من الرزق فيه معنيان ومع تأسيس يحرر الإنسان‬ ‫من عبادة الملكية دون نفيها وهي نسبة الرزق إلى الله المتكلم في الآية‪ :‬وفيه دلالة على أن الإنسان‬ ‫الذي يريده الله هو الإنسان الذي لا يصبح عبدا للملكية بل يبقى سيدا عليها فينفق منها على من‬ ‫يستحق وهو تقديم الاجتماعي على الاقتصادي في العلاقة بين الناس وبين الدولة والمواطنين دون‬ ‫أن يؤدي ذلك إلى تأميم الملكية القاتل لدوافع الإنتاج الاقتصادي‪ .‬وتلك هي خاصية تقديم‬ ‫الدافع الاجتماعي (الإنفاق) والمحافظة على الاقتصادي (مخاطبة المالكين للرزق وتذكيرهم بأنه‬ ‫من الله)‪ .‬فتكون القوة السياسية التي تعمل بهذه الرؤية يمين اليسار‪.‬‬ ‫أبعاد السياسي عامة‬ ‫ولنختم الفصل بذكر كل الأبعاد التي يتألف منه جهاز الدولة سواء أخذناه في شكله المجرد بمعنى‬ ‫الجهاز الذي يتألف من منظومة خانات خالية ويتحدد مضمونها عندما يتحدد النظام السياسي الذي‬ ‫يعين ما يملأ الخانات لتنتقل الدولة من كونها جهازا مجردا إلى كونها شبه كائن حي بما في خاناته‬ ‫من أعيان على النحو التالي‪:‬‬ ‫• أولا خانة المرجعية‪ :‬وهي تتعين في حالتنا بكونها الإسلام‪.‬‬ ‫• ثانيا خانة القوى السياسية‪ :‬وهي تتعين في حالتنا بكونها يمين اليسار‪.‬‬ ‫• ثالثا خانة الدستور السياسي‪ :‬وهو يتعين في حالتنا بكونه الجمهورية الديموقراطية بالشكل‬ ‫الذي وصفت‪.‬‬ ‫• رابعا الهيئة الحاكمة والمعارضة وهي تتعين بالصورة التي وصفت أو الطريقة التي تعين بها‬ ‫الجماعة من يحكم ومن يعارض بالتداول تعيينا وعزلا في شكل محاسبة دورية تجاوزي‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪70‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وتعاقب بالانتخابات مع المراقبة الدائمة في مابين الدورات وذلك هو الأمر بالمعروف والنهي‬ ‫عن المنكر الذي هو فرض عين (آل عمران ‪.)110-104‬‬ ‫• خامسا وظائف الدولة التي يرعاها من اختارتهم الجماعة لقوامتها وهي عشر وظائف‪:‬‬ ‫‪ .1‬خمس للرعاية التكوينية والتموينية‪.‬‬ ‫‪ .2‬وخمس للحماية الداخلية والخارجية‪.‬‬ ‫• فأما الرعاية التكوينية فهي‪ :‬تكوين الأجيال بالتربية النظامية وبالتربية في تقسيم العمل‬ ‫في المجتمع لإنتاج ما يسد الحاجات المادية (الاقتصاد) والروحية (الثقافة) وفيها يستكمل‬ ‫تكوين الإنسان بعد مرحلة التعليم أو خلالها‪.‬‬ ‫• وأما الرعاية التموينية فهي‪ :‬الانتاج الاقتصادي والانتاج الثقافي الذي يجعل الجماعة قادرة‬ ‫على سد حاجاتها من تعمير الارض ومن الاستخلاف الذي هو بقاء الجماعة سيدة على نفسها‬ ‫لأنها ترعى ذاتها وليست متسولة كحالنا الآن‪.‬‬ ‫والرعاية بهذين المعنيين تكوينا وتموينا شرطها هو البحث العلمي وتطبيقاته شرط الاقتصاد‬ ‫والثقافة للتموين وشرط التربية والعمل للتكوين‪.‬‬ ‫وأما الحماية الداخلية فهي القضاء والأمن‪ .‬والأول يفصل في النزاعات بين المواطنين أو بينهم‬ ‫وبين القيمين على الدولة والثاني ينفذ حكم القضاء‪ .‬وتلك هي شرط قيام الجماعة بأدوارها مع‬ ‫الشعور بأن حقوقها محفوظة فلا تضطر لأخذها بيدها بل تعتبر الدولة حكما بينهم‪.‬؟‬ ‫وأما الحماية الخارجية فهي الدبلوماسية والدفاع‪ .‬والأولى تفصل في النزاعات بين الدول أو بينهم‬ ‫وبين القيمين على النظام الدولي (الأمم المتحدة في عصرنا وهي بنحو ما دولة كونية لكنها عديمة‬ ‫القدرة على التنفيذ لأن ذلك رهن القوى العظمى التي لها حق الفيتو)‪ .‬والثاني ينفذ حكم‬ ‫القانون الدولي‪ .‬لكنه في الحقيقة مثل القانون الوطني هو إرادة الأقوياء ولا يوجد قانون عادل‬ ‫غير قانون السماء‪ .‬ولا أحد يعمل به‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪71‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ومثلما أن للرعاية أصل هو البحث العلمي فإن للحماية أل هو البحث الاستعلامي أو المخابرات لأن‬ ‫الجماعات الإنسانية تشبه الفرد لا بد لها من وحي بما يجري فيها وحولها حتى يكون عملها على‬ ‫علم وليس خبط عشواء‪.‬‬ ‫ويمكن اعتبار الاستعلام والاعلام السياسيين جزءا من البحث والإعلام العلميين عامة لأنه في‬ ‫عمومه شرط العمل على علم سواء تعلق بما بين البشر والطبيعة من علاقات أو بما بين البشر من‬ ‫علاقات‪.‬‬ ‫انتهى البحث في مسالة الدولة الحاضنة في فصول عشرة اليوم فجر اليوم الخميس ‪ 24‬من اكتوبر‬ ‫‪.2019‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪72‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪73‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook