Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore مفهومات فلسفية بحاجة إلى مراجعة لفهم القرآن - أبو يعرب المرزوقي

مفهومات فلسفية بحاجة إلى مراجعة لفهم القرآن - أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2019-02-10 10:33:19

Description: مفهومات فلسفية بحاجة إلى مراجعة لفهم القرآن - أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫‪-‬‬ ‫والحمد لله الآن وصلت إلى غاية المحاولة التي تستدرك على مفهومات فلسفية مبهمة‬ ‫تفسد على الفكر فهم الرؤية القرآنية لمعاني الإنسانية ‪-‬وهو مفهوم خلدوني يفهمنا فسادها‬ ‫وصلاحها ويشخص أدواء الإنسانية‪-‬ومنه بيان ما في قراءتي للقرآن لا يستقيم إلا بفرضية‬ ‫تعليل انحطاطنا بانحراف علوم الملة‪.‬‬ ‫والفرضية أصلها بسيط جدا‪ :‬كيف يمكن أن أومن بأن القرآن من الله وأصدق أن علومنا‬ ‫وأعمالنا المبنية عليها فهمته حقا وطبقته ولو جزئيا بحسب هذا الفهم ومع ذلك لم يصدق‬ ‫في إخباره لنا بأن الله يمكن لأمته ويستخلفها في الارض وهي منحطة وتابعة وليس لها عزة‬ ‫الإسلام وجلال القرآن؟‬ ‫ولعل من علامات هذا الفقدان قول البعض من المنبهرين بفترينة الغرب‪ :‬وجدت في‬ ‫الغرب مسلمين بدون إسلام وتركت في الشرق إسلام بدون مسلمين‪ .‬وهي قولة سارية صدرت‬ ‫عمن تصور ما رآه في الغرب مفصولا عما يفعله الغرب في الشرق ما رآه في الشرق مفصولا‬ ‫عما فعله محاكو الغرب في الشرق‪.‬‬ ‫فلو كان الإسلام قال ما قال عن التمكين خاصا بالمسلمين لكان سؤالي فاقدا لكل معنى‬ ‫ولأنطبق عليه‪ :‬لماذا تأخرنا وتقدموا‪ .‬السؤال هو لماذا تفسد معاني الإنسانية في أي جماعة‬ ‫عامة وكيف يمكن إصلاحها لأن هذا هو مضمون الرسالة الخاتمة ومن ثم فالخاتم مبشر‬ ‫بثمرة إصلاحها ومنذر من تبعات إفسادها‪.‬‬ ‫ولهذه العلة سميت قراءتي الفلسفية للقرآن‪-‬وهي ما اعتبرتها بحثا عما يمكن أن يجعل‬ ‫فهمه علما رئيسا أرشيتاكتونيك لعلوم الملة بعد تحريرها من تحريف الرؤية القرآنية التي‬ ‫تشملها كلها‪\"-‬استراتيجية التوحيد القرآنية ومنطق السياسة المحمدية\"‪ :‬تلك هي الرؤية‬ ‫القرآنية لإعادة بناء الإنسانية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪47‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫فـ\"منطق السياسة المحمدية\" هو منطق تكوين العينة من الإنسانية التي يذكر القرآن‬ ‫بمقومات فطرتها وينذر من عدم معرفتها أولا بالنظر والعقد وعدم تطبيقها بها بالعمل‬ ‫والشرع ثانيا بوصفها أربعتها خاضعة إيجابا لفصلت ‪ 53‬وسلبا لآل عمران ‪ 7‬وهو ما عكسته‬ ‫علوم الملة فجعلت الأمر نهيا والنهي أمرا‪.‬‬ ‫وإذا كنت أكثر من استعمال المدرسة النقدية فليس هروبا من مسؤولية فكري في علاجي‬ ‫للأزمة الابستمولوجية والأكسيولوجية في فكرنا وتبعاتهما على عملنا في كل تاريخنا أو‬ ‫مواقفي المترتبة عليه بل لأن الحقيقة التاريخية لدورها سابقة على ما لا أريد أن أباهي‬ ‫باني مبدعه وإن كنت صائغه‪.‬‬ ‫وبذلك كان تشخيصي للأزمة المعرفية والخلقية التي تمر بها الإمة تستمد أساسها من‬ ‫العلم الرئيس أو التفسير الذي عومل بوصفه أحد علوم الملة وليس العلم الرئيس بمعنى‬ ‫المؤسس لها التأسيس الذي حدد هو بنفسه مضمونه وأدواته ومناهجه ككل علم رئيس ليس‬ ‫علما وعملا بل هو ما بعد علم وما بعد عمل‪.‬‬ ‫وهو معنى كونه رؤية وجودية متعينة في المعرفي والخلقي وتطبيقاتهما وليس هو واحدا‬ ‫من العلوم ولا من الأعمال حتى يبحث فيه عن علوم الطبيعة أو علوم التاريخ أو علوم‬ ‫النظر والعقد أو علوم العمل والشرع بل هو معين الرؤية التي تجعل ذلك كله يكون ممكنا‬ ‫في الاتجاه الاستراتيجي للرسالة الخاتمة‪.‬‬ ‫ولنا فيها دليلان قاطعان على أنها كذلك‪ :‬فهي أولا مراجعة نقدية نسقية لتحريف‬ ‫الرسالات السابقة سواء كانت منزلة (مثل اليهودية والمسيحية) أو طبيعية (مثل المجوسية‬ ‫والصابئية) أو حتى شركية مطلقة (والذين أشركوا) بمنهج التصديق والهيمنة من أجل‬ ‫الكشف عن الديني والدخيل عنه فيها‪.‬‬ ‫وهي ثانيا تذكير بمقومات الديني من حيث ديني أي من حيث هو فطرة إنسانية كونية‬ ‫وهي ما حاولت صوغه بما سميته المعادلة الوجودية التي يتقوم بها كيان الإنسان‪ .‬ولأذكر‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪48‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫بها‪ .‬فهذه المعادلة لها قلب نواة يتلازم فيها الحضور المتكامل بين الله والإنسان في علاقة‬ ‫مباشرة لا تخلو منها ذات بشرية‪.‬‬ ‫وهو المعنى الأول لمفهوم الخلافة التي تتضمن بالجوهر مستخلَف ومستخلِف‪ .‬وهذه هي‬ ‫النواة التي لا يستطع الملحد التخلص منها إلا بوضعها في أحد عنصري العلاقة الثانية غير‬ ‫المباشرة والتي هي في مستوى ثان من العلاقة المباشرة الأولى‪ :‬الطبيعة والتاريخ مع تحييث‬ ‫الإلهي في أحدهما أو فيهما معا‪.‬‬ ‫ومن ثم فالملحد يتوهم أن الديني هو الدين الذي يرفضه ولا يرى أنه استبدله بدين‬ ‫آخر لأنه وضع هذا التلازم بينه وبينه في الطبيعة أو في التاريخ أو فيهما معا سواء اعتبرهما‬ ‫ذوي نظام كما فعل سبينوزا للطبيعة وهيجل للتاريخ أو ردهما إلى الصدفة والاتفاق كما‬ ‫يفعل داروين فالأمر سيان فيها جميعا‪.‬‬ ‫وعندما ننطلق من هذه النواة في قلب المعادلة نجد قبلها الطبيعة وما وراءها سواء كان‬ ‫محايثا أو مفارقا وبعدها التاريخ وما وراءه سواء كان محايثا أو مفارقا‪ .‬وقبل الطبيعة فيها‬ ‫أو خارجها الله وبعد التاريخ فيه أو خارجه الإنسان‪ .‬فتكتمل المعادلة المخمسة‪ :‬القلب‬ ‫وحوله جناحان كلاهما مضاعف‪.‬‬ ‫لا يخطئن أحد فيتصور أني أنا أنسبها إلى إرادة الإنسان‪ .‬فالله الذي يحمل الإنسان‬ ‫مسؤولية أعماله اي ما يضيفه إلى الطبيعة ‪-‬التاريخ‪-‬ويحاسبه عليها هو الذي يعتبر‬ ‫الخليفة هو ما وراء التاريخ لأنه استخلفه في الأرض واستعمره فيها‪ :‬والتاريخ هو ثمرة‬ ‫الاستعمار والاستخلاف في الأرض‪.‬‬ ‫المعادلة الوجودية ليست إذن ابتداعا مني كل ما هو مني هو صوغها النسقي لكنها هي‬ ‫مضمون الرسالة الخاتمة بوصفها تذكيرا بالديني من حيث هو فطرة أي بهذه المعادلة التي‬ ‫يكون تحريفها بنفي القلب ليس بإطلاق لأن ذلك مستحيل بل بردها إلى الوسيطين الطبيعي‬ ‫والتاريخي في القول بوحدة الوجود بنوعيها المضاعفين‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪49‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫النوع الأول طبعاني وهو إما وجودي أو شهودي‪ :‬الوحدة في الطبيعة فعليا أو شهوديا‬ ‫بتوسط الطبيعة الطابعة (وهذا غالب على الفلاسفة والكلام)‪.‬‬ ‫والثاني تاريخاني وهو إما وجودي أو شهودي‪ :‬الوحدة حالة في التاريخ فعليا أو شهوديا‬ ‫بتوسط الإنسان الفاعل (وهذا غالب على المتصوفة والفقهاء)‪.‬‬ ‫ووحدة الوجود في الحالتين تجعل المبدأ المبدع حالا في الطبيعة أو في الإنسان‪ .‬ووحدة‬ ‫الشهود تجعله مفارقا لكن شهود الموجودات لهذا المبدأ المبدع هو الذي يحقق وحدة‬ ‫الموجودات بنظام وضعه فيها وهي تتحد بشهوده‪ .‬وذانك هما نوعا الأديان سواء نظر إليها‬ ‫بمعزل عن الفكر الفلسفي أو فيه‪ .‬وهو ما يرد المعادلة الوجودية إلى النواة \"الله‪-‬الإنسان\"‬ ‫في قبله وقبلها الطبيعة وبعدها التاريخ مع إحلال ما وراء الطبيعة في الطبيعة وما وراء‬ ‫التاريخ في التاريخ‪.‬‬ ‫فتصبح المعادلة الوجودية التي وضعتها لشرح هذه البنية التي هي في آن بنية كيان‬ ‫الإنسان وبينة القرآن بل وبنية الوجود كله كما ندركه دون أن ندعي أنه كذلك في ذاته‬ ‫التي هي من الغيب المحجوب كالتالي‪ :‬القلب \"الله‪-‬الإنسان\" (علاقة مباشرة لا تنفصم أبدا‬ ‫حتى عند الملحد الذي تكون فيه بالسلب أي بمحاولة التخلص منها) متلازمان في علاقة‬ ‫مباشرة‪ .‬وقبل القلب الطبيعة وماوراءها ‪-‬اي علة نظامها‪-‬فيها أو خارجها وبعد القلب‬ ‫التاريخ وما وراءه ‪-‬اي علة نظامه‪-‬فيه أو خارجه‪ .‬علة النظام الأول تنسب إلى إرادة الله‬ ‫وعلة النظام الثاني تنسب إلى إرادة الإنسان‪.‬‬ ‫والقرآن استراتيجية توحيد الإنسانية‪-‬وهو موضوعنا لكنه أيضا توحيد الموجودات كلها‪-‬‬ ‫لأن عدم وحدتها هي التي تؤسس لوهم المنطق الجدلي والصراع على الأحياز بوصفها مصدر‬ ‫المدد أي الجغرافيا مصدرا للثروة والتاريخ مصدرا للتراث فتصبح كل جماعة في حرب‬ ‫وجودية على هذه المصادر بداء بالماء والكلاء في البداوة وعلى الثروات الطبيعية في‬ ‫الحضارة‪ .‬وللخروج من ذلك يؤسس القرآن هذه الاستراتيجية على مبدأين‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأخوة البشرية (النساء ‪ 1‬من نفس واحدة)‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪50‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬المساواة القيمية بين البشر (الحجرات ‪ 13‬التفاضل الوحيد بالتقوى)‪.‬‬ ‫والوصل بين المبدأين هو التعارف بمعنى المعرفة وبمعنى المعروف‪ .‬والأول ابستمولوجي‬ ‫(المعرفة) والثاني أكسيولوجي (المعروف)‪.‬‬ ‫فتفهم حينئذ كيف أن سؤال من وجد الإسلام في الغرب بلا مسلمين ومسلمين في الشرق‬ ‫بلا إسلام لم يفهم لا الغرب ولا الشرق‪ .‬فالغرب لا يعتبر البشر اخوة ولا متساوين ولا‬ ‫يؤين بأن التعارف معرفة ومعرفة هي معاني الإنسانية‪ .‬والشرق الذي يمثله هو يريد أن‬ ‫يجعل ذلك مثالا اعلى فيصبح التقدم تقليدا‪.‬‬ ‫وتفهم لماذا بينت أن الإسلاميين وخاصة من يدعون الحداثة منهم ويدعون القول‬ ‫بالديموقراطية ويستعملون المنطق الجدلي الصراعي بغير وعي ويسمونه \"التدافع\" لا‬ ‫يمثلون رؤية القرآن للسياسي من حيث هو تربية وحكم بل يريدون تقليد الغرب دون فهم‬ ‫لمعاني الإنسانية كما يحددها القرآن الكريم‪.‬‬ ‫وهذا لا يعني ان معارضيهم سواء ممن يسمون أنفسهم علمانيين وليبراليين يمثلون الحل‬ ‫المطابق لما يقتضيه الفلسفي من حيث هو فلسفي أو ممن يسمون أنفسهم سلفيين سواء كانوا‬ ‫علميين أو جهاديين يمثلون المطابق لما يقتضيه الديني من حيث هو ديني‪ :‬فالحل لن يصبح‬ ‫متاحا ما لم نؤسس هذا العلم الرئيس‪.‬‬ ‫ومعنى ذلك أن ما يجري حاليا في دار الإسلام رغم آلامه وعثراته يمكن اعتباره مخاض‬ ‫شديد الفائدة لأنه يبشر بان البحث عن شروط الاستئناف هو المشكل الذي تعيشه الأمة‬ ‫معرفيا وخلقيا ويمكن أن يكون فرصة للاجتهاد في النظر والعقد والجهاد في العمل والشرع‬ ‫من أجل الإنسانية كلها‪.‬‬ ‫وختاما للمحاولة آمل أن أكون قد وضحت ما أعنيه برؤية الإسلام لمفهوم الإنسان‬ ‫والإنسانية وعلل اعتباري علوم الملة كلها لم تنطلق من القرآن بوصفه رسالة تذكر بمعنى‬ ‫الفطرة وبما يصيبها من أدواء وبما يمكن يبلسم أدواءها بأدوية هي الرية التي تبين‬ ‫للإنسان معنى الاستعمار والاستخلاف في الأرض‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪51‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫فلنفترض الآن أن هذا التعريف للقرآن ببعديه المدني والمكي \"استراتيجية التوحيد‬ ‫القرآنية ومنطق السياسة المحمدية\" واعتبرنا هذه الاستراتيجية مبنية على التربية دون‬ ‫وساطة والحكم دون وصاية وأن مكانها ليس حصة من الأرض بل كل الأرض وزمانها حصة‬ ‫من الزمان بل كل الزمان فما يترتب على ذلك؟‬ ‫وقبل ذلك ما الذي ترتب على عدم فهم القرآن هذا الفهم في علوم الملة الخمسة (التفسير‬ ‫أصلا للفقه وأصوله وللتصوف وأصوله في العمل والشرع وأصلا للكلام وأصوله وللفلسفة‬ ‫وأصولها في النظر والعقد باعتباره مؤسسا للرؤية الوجودية التي تجعل ذلك محققا‬ ‫للاستعمار والاستخلاف في الأرض‪.‬‬ ‫ولأبدأ فاثبت أني لا أتقول على القرآن‪ :‬فاعتبار الاستعمار في الأرض كلها استعارة على‬ ‫المكان كله واعتبار الاستخلاف في الأرض كلها استعارة على الزمان كله لا يمكن لأي قارئ‬ ‫منصف للقرآن أن ينفي أنه يفترضهما وأن رسائل الرسول لأباطرة عصره وسياسة الفتح‬ ‫دالتان على ذلك فضلا عما هو أهم‪.‬‬ ‫فالقرآن يعتبر الإسلام دين البداية (الفطرة والميثاق الذي تضمن شهادة أبناء آدم كلهم‬ ‫وهم في ظهور آبائهم) ودين الغاية (اعتبار الإسلام الدين الخاتم ودين الله) ودين الوصل‬ ‫بين البداية والغاية بما يشبه جينيالوجيا الإنسانية روحيا (كل الاديان) وسياسيا مصير‬ ‫جماعاتها شخوص حبكته القصصية‪.‬‬ ‫والقرآن يعتبر أن الديني كوني بالتوزيع وبالتعميم‪ :‬فما من أمة إلا ولها نذير بلسانها‬ ‫وكل الأمم نذريها الرسول الخاتم بوصفه ليس وسيطا بل مذكر بالفطرة في التربية وليس‬ ‫وصيا بل مذكر بالفطرة في الحكم ومن ثم فالديني من حيث هو مقوم لكيان الإنسان الروحي‬ ‫متعال على نوعي تجليه توزيعا وتعميما‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪52‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫ولما كان مطلوبنا هو اعتبار قراءة القرآن هادفة إلى اكتشاف العلم الرئيس الذي هو‬ ‫بديل من الميتافيزيقا بمعناه الأرسطي بحثا في ما وراء فلسفات خمس هي التي يمكننا‬ ‫بتحديدها أن نقول قد وجدنا ضالتنا‪:‬‬ ‫‪ .1‬نظرية الواحد \"الديني‪-‬الفلسفي\" الذي تتفرع عنه‬ ‫‪ .2‬نظرية الطبيعة‬ ‫‪ .3‬ونظرية التاريخ‬ ‫‪ .4‬ونظرية النظر والعقد أصل علاقتنا بالطبيعة خاصة‪.‬‬ ‫‪ .5‬ونظرية العمل والشرع أصل علاقتنا بالتاريخ خاصة‪.‬‬ ‫لكن لما كان التاريخ لا يخلو من دور الطبيعي وكان الطبيعي لا يخلو من دور التاريخي في‬ ‫الوجود الإنساني بات التفاعل بين ‪ 4‬و‪ 5‬هو الأساس الحقيقي وذلك في الاتجاهين والأول‬ ‫ينتج الثروة والثاني ينتج التراث وهما الحيزان اللذان يتوسطان بين الأحياز الخارجية‬ ‫والأحياز الداخلية وصلا بين الإنسان والعالم وبين ما بعد الإنسان وما بعد العالم في المعادلة‬ ‫الوجودية التي وضعنا في قلبها العلاقة المباشرة بين الذاتين الآلهة والمألوهة وهي علاقة لا‬ ‫تنفصم ولا يمكن تصور إنسان من دونها مهما زعم الإلحاد‪ .‬وهذا معنى الاستخلاف منزلة‬ ‫وجودية للإنسان‪.‬‬ ‫فقد أصبح بوسعنا أن نصوغ السؤال الذي نريد جوابه‪ :‬هل القرآن استراتيجية رؤيوية‬ ‫تؤسس للرؤى التي تنبني عليها هذه المسائل الخمسة التي ينبغي أن يتحد فيها الديني‬ ‫والفلسفي بعد أن تبين أن ما كانت السذاجة تنفيه عن الفلسفة هو عين ما يجعلها تبدو‬ ‫وكأنها عدوة الدين‪ :‬مبدأ عدم الإحاطة الإنسانية‪.‬‬ ‫تصورت الفلسفة بسذاجة أن الوجود مطلق الشفافية للعقل والإنسان ذو بصر حديد‬ ‫يدرك الوجود على ما هو عليه فنفت وجود الغيب بادعاء الإحاطة وأدعت أن الدين مما‬ ‫ليس من الملة الفلسفية‪-‬الفارابي‪-‬مجرد رؤى عامية وظنت أنها تعلم الحقيقة المطلقة وتؤول‬ ‫الدين برده إلى ما تسمه عقلا‪ :‬القول بالمطابقة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪53‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫لكن الفلسفة تخلصت من هذه الأوهام‪ .‬وكان للمدرسة النقدية في تراثنا في نهاية فكرنا‬ ‫النقدي (من الغزالي إلى ابن خلدون) وللمدرسة النقدية في نهاية فكر الغرب النقدي‬ ‫(من ديكارت إلى كنط) الدور الأساسي في إيقاظ العقل من دغمائيته كما قال كنط والتخلص‬ ‫من هذه الأوهام فصار يسلم بحدود العقل‪.‬‬ ‫ولم يكن الديني يختلف عن الفلسفي إلا بهذه الخاصية أي بالقول إن للعقل حدودا وإن‬ ‫علمه ليس محيطا وكذلك عمله وأنه يوجد ما يمكن للإنسان أن يفكر فيه ولا يستطيع له‬ ‫علما (كنط) فوضع مفهوما حدا بصيغ مختلفة تعد صيغة كنط هي الاخيرة ولكنها ليست‬ ‫الافضل لأن صيغة ابن تيمية وابن خلدون أفضل‪.‬‬ ‫وهي أفضل من وجهين‪ :‬تحد من وهم العقل ولا تعتمد المقابلة ظاهر شيء في ذاته بل‬ ‫تعتبر التناسب بين المدرك والمدرك بحيث يكون ما يعلمه الإنسان ليس مجرد ظاهر بل ما‬ ‫يناسبه من الحقيقة التي هي متناسبة مع المدرك وفيها شيء حقيقي وليس مجرد ظاهر‬ ‫مسلوب العلاقة بالحقيقة في ذاتها‪ :‬حقيقة للإنسان‪.‬‬ ‫يقول ابن خلدون‪\" :‬ولا تثقن بما يزعم لك الفكر من أنه مقتدر على الإحاطة بالكائنات‬ ‫وأسبابها والوقوف على تفصيل الوجود كله وسفه رأيه في ذلك‪ .‬وأعلم أن الوجود عند كل‬ ‫مدرك في بادئ رأيه أنه منحصر في مداركه لا يعدوها‪ .‬والامر في نفسه بخلاف ذلك‬ ‫(‪ ).....‬فإذا علمت هذا فلعل هناك ضربا من غير مدركاتنا لأن إدراكاتنا مخلوقة محدثة‬ ‫وخلق الله أكبر من كل خلق‪ .‬والحصر مجهول والوجود أوسع نطاقا من ذلك والله من ورائهم‬ ‫محيط (‪ )...‬وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه بل العقل ميزان صحيح فأكامه يقينية‬ ‫لا كذب فيها‪ .‬غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والاخرة وحقيقة النبوة وحقائق‬ ‫الصفات الإلهية وكل ما وراء طوره (العقل) فإن ذلك طمع في محال\" (المقدمة الباب ‪6‬‬ ‫الفصل ‪ :10‬علم الكلام)‪ .‬ومعنى ذلك أن المفهوم الحد ينفي الإحاطة دون أن يعتبر ما‬ ‫يعلمه العقل على نسبيته مجرد ظاهر من الأشياء بل هو علم صحيح مناسب للإنسان بما‬ ‫لديه من علم غير محيط‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪54‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫والآن فهذه الفلسفات الخمس ليست علوما بل هي رؤى حول القرآن نفسه من حيث هو‬ ‫رؤية شاملة أو علم رئيس يؤسس رؤاها‪ :‬رؤية للقرآن من حيث هو استراتيجية تربية وحكم‬ ‫لتأسس مجتمع إنساني كوني يوحد الإنسانية بمبدأي الاخوة البشرية (النساء ‪ )1‬والمساواة‬ ‫بين البشر دون تمييز إلا بالتقوى (الحجرات ‪.)13‬‬ ‫وهذه الاستراتيجية لكونية تقدم رؤية في الواحد بين \"الديني الفلسفي\" والفلسفي كما‬ ‫أسلفنا رؤية تحقق هذه الوحدة الإنسانية الكونية بالعلم الرئيس هو \"الديني الفلسفي\"‬ ‫المؤسس على النظام في الطبيعة وفي التاريخ وليس على المعجزات بل كل ما يحدث‪،‬يحدث‬ ‫بالاجتهاد (نظر وعقد) الجهاد (عمل وشرع)‪.‬‬ ‫لذلك لم تكن حجج القرآنية مبنية على غير النظام في الآفاق والأنفس وليس على خرقه‬ ‫ولم تكن تربية الرسول مبنية على غير ملاحظة الآفاق والأنفس لرؤية آيات الله فيها‬ ‫بالبصيرة والاستدلال العقلي وكل ما ليس كذلك هو من المبالغات اللاحقة لعصره بمدح هو‬ ‫في الحقيقة ذم لسذاجة المادحين بمثله‪.‬‬ ‫وأكثر الكذب عليه تمثل في نفي أهم خصائصه ومزاياه‪ :‬فهو كان يجتهد ويجاهد ولا يعتمد‬ ‫على علم لدني ولأعلى عمل إعجازي بل كان يعمل على علم وبصيرة ويطبق حرفيا‬ ‫استراتيجية القرآن في تفسير القرآن وتصور التربية والحكم بالفلسفات الرؤيوية الخمسة‪.‬‬ ‫فما هي وكيف هي؟‬ ‫فما رؤية القرآن لنظرية الطبيعة؟ هي نظام مبني على قوانين رياضية بالجوهر لأن‬ ‫القرآن يقول إن كل شيء خلقه الله بقدر‪ .‬لكنه يؤكد كذلك على ضرورة الملاحظة الحسية‬ ‫التي هي أساس كل تجربة سواء بالحواس مباشرة أو بتوسط الأدوات التي تجعلها أقدر على‬ ‫ما تتطلبه الملاحظة التجريبية وهي أدوات صناعية تعتمد على مقويات للإدراك الحسي‬ ‫(مثل علم المناظر وعلم المسامع خاصة)‪.‬‬ ‫والتاريخ هو بدروه ذو نظام لكنه نظام الامر وليس نظام الخلق ومن ثم فنظامه ليس‬ ‫قوانين طبيعية بل هو سنن تاريخية مبينة على السياسة والأخلاق لأن مجالها هو تربية‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪55‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫الإنسان وحكمه ليكون هو المعمر وهو الخليفة في الأرض وليحقق بما لديه من تجهيز يمكنه‬ ‫من سد حاجاته من الطبيعة بالتعاون والتواصل‪.‬‬ ‫وسد الحاجات المادية والروحية يعتمد على علاقتين عمودية بين الجماعة والطبيعة‬ ‫وأفقية وهي تاريخية في الجماعة الواحدة وبين الجماعات المختلفة في المعمورة بصورة‬ ‫متساوقة أو متوالية في الماضي أو في المستقبل أو فيهما معا‪ .‬والطبيعي في العلاقتين يتبع‬ ‫النظر والعقد‪ .‬والتاريخي فيهما يتبع العمل والشرع‪ .‬والأول يخضع لقوانين الضرورة‪.‬‬ ‫والثاني يخضع لسنن الحرية‪.‬‬ ‫ومن هنا تأتي الرؤية المتعلقة بفلسفة النظر والعقد والرؤية المتعلقة بفلسفة العمل‬ ‫والشرع‪ .‬فالرؤية الأولى هي رؤية ابستمولوجية والرؤية الثانية هي رؤية أكسيولوجية‪.‬‬ ‫الأولـى هدفها علم القوانين وتطبيقاتها وهي أساس الاستعمار في الأرض‪ .‬والثانية هدفها‬ ‫علم السنن وتطبيقاتها وهي أساس الاستخلاف فيها‪.‬‬ ‫وما هو مثير في هذه الرؤى هو أنها تجعل ذلك كونيا وهي كونية لا تتعلق بالتبادل‬ ‫والتواصل في الجماعة وبين الجماعات المتعاصرة فحسب بل بينها وبين من تقدم عليها في‬ ‫الماضي بأحداثه وأحاديثه ومن سيتلوها في المستقل بأحاديثه وأحداثه وإذن فوحدة‬ ‫الإنسانية كونيتها مكانية وزمانية بلاحد فيهما‪.‬‬ ‫فالقرآن يمكن فهمه وكأنه دراما إنسانية تقص كل وجودها من البداية إلى الغاية وتحدد‬ ‫كل معوقات وحدتها‪ :‬وهي متعلقة اساسا بما قد يترتب على الرزق المادي والتمانع في‬ ‫الجغرافيا والرزق الروحي والتمانع في التاريخ والتمانع فيهما هو بسبب الثروة والتراث‪:‬‬ ‫أهمية معنى للتبادل والتواصل في رؤيته‪.‬‬ ‫فالوصل بين الثروة والتراث أو بين علاقات التبادل وعلاقات التواصل يتعين في وصل‬ ‫الملكية بصلة الرحم كما يتبين في رؤية الفرائض التي جعل الجهل والحمق رئيس تونس‬ ‫الذي بلغ أرذل يتصور نفسه سيستمد من تغييرها فخرا بتمثل الحداثة وإنصاف النساء وهو‬ ‫في الحقيقة سكون أكثر ظلما لهن بكل المعاني‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪56‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫وها نحن قد وصلنا إلى غاية البحث وبينا أن القرآن هو فعلا استراتيجية توحيدية إلى‬ ‫حد جعله يعتبر التعدد من آيات الله ويعتبر تعدد الأديان ليس منافيا لوحدة الديني بل‬ ‫هو سلم الارتقاء إليها لأنه شرط التسابق في الخيرات (المائدة ‪ )48‬وشرط حرية المعتقد أو‬ ‫تبين الرشد من الغي (البقرة ‪.)256‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪57‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪-‬‬ ‫‪--‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪58‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook