- - - والحمد لله الآن وصلت إلى غاية المحاولة التي تستدرك على مفهومات فلسفية مبهمة تفسد على الفكر فهم الرؤية القرآنية لمعاني الإنسانية -وهو مفهوم خلدوني يفهمنا فسادها وصلاحها ويشخص أدواء الإنسانية-ومنه بيان ما في قراءتي للقرآن لا يستقيم إلا بفرضية تعليل انحطاطنا بانحراف علوم الملة. والفرضية أصلها بسيط جدا :كيف يمكن أن أومن بأن القرآن من الله وأصدق أن علومنا وأعمالنا المبنية عليها فهمته حقا وطبقته ولو جزئيا بحسب هذا الفهم ومع ذلك لم يصدق في إخباره لنا بأن الله يمكن لأمته ويستخلفها في الارض وهي منحطة وتابعة وليس لها عزة الإسلام وجلال القرآن؟ ولعل من علامات هذا الفقدان قول البعض من المنبهرين بفترينة الغرب :وجدت في الغرب مسلمين بدون إسلام وتركت في الشرق إسلام بدون مسلمين .وهي قولة سارية صدرت عمن تصور ما رآه في الغرب مفصولا عما يفعله الغرب في الشرق ما رآه في الشرق مفصولا عما فعله محاكو الغرب في الشرق. فلو كان الإسلام قال ما قال عن التمكين خاصا بالمسلمين لكان سؤالي فاقدا لكل معنى ولأنطبق عليه :لماذا تأخرنا وتقدموا .السؤال هو لماذا تفسد معاني الإنسانية في أي جماعة عامة وكيف يمكن إصلاحها لأن هذا هو مضمون الرسالة الخاتمة ومن ثم فالخاتم مبشر بثمرة إصلاحها ومنذر من تبعات إفسادها. ولهذه العلة سميت قراءتي الفلسفية للقرآن-وهي ما اعتبرتها بحثا عما يمكن أن يجعل فهمه علما رئيسا أرشيتاكتونيك لعلوم الملة بعد تحريرها من تحريف الرؤية القرآنية التي تشملها كلها\"-استراتيجية التوحيد القرآنية ومنطق السياسة المحمدية\" :تلك هي الرؤية القرآنية لإعادة بناء الإنسانية. أبو يعرب المرزوقي 47 الأسماء والبيان
- -- فـ\"منطق السياسة المحمدية\" هو منطق تكوين العينة من الإنسانية التي يذكر القرآن بمقومات فطرتها وينذر من عدم معرفتها أولا بالنظر والعقد وعدم تطبيقها بها بالعمل والشرع ثانيا بوصفها أربعتها خاضعة إيجابا لفصلت 53وسلبا لآل عمران 7وهو ما عكسته علوم الملة فجعلت الأمر نهيا والنهي أمرا. وإذا كنت أكثر من استعمال المدرسة النقدية فليس هروبا من مسؤولية فكري في علاجي للأزمة الابستمولوجية والأكسيولوجية في فكرنا وتبعاتهما على عملنا في كل تاريخنا أو مواقفي المترتبة عليه بل لأن الحقيقة التاريخية لدورها سابقة على ما لا أريد أن أباهي باني مبدعه وإن كنت صائغه. وبذلك كان تشخيصي للأزمة المعرفية والخلقية التي تمر بها الإمة تستمد أساسها من العلم الرئيس أو التفسير الذي عومل بوصفه أحد علوم الملة وليس العلم الرئيس بمعنى المؤسس لها التأسيس الذي حدد هو بنفسه مضمونه وأدواته ومناهجه ككل علم رئيس ليس علما وعملا بل هو ما بعد علم وما بعد عمل. وهو معنى كونه رؤية وجودية متعينة في المعرفي والخلقي وتطبيقاتهما وليس هو واحدا من العلوم ولا من الأعمال حتى يبحث فيه عن علوم الطبيعة أو علوم التاريخ أو علوم النظر والعقد أو علوم العمل والشرع بل هو معين الرؤية التي تجعل ذلك كله يكون ممكنا في الاتجاه الاستراتيجي للرسالة الخاتمة. ولنا فيها دليلان قاطعان على أنها كذلك :فهي أولا مراجعة نقدية نسقية لتحريف الرسالات السابقة سواء كانت منزلة (مثل اليهودية والمسيحية) أو طبيعية (مثل المجوسية والصابئية) أو حتى شركية مطلقة (والذين أشركوا) بمنهج التصديق والهيمنة من أجل الكشف عن الديني والدخيل عنه فيها. وهي ثانيا تذكير بمقومات الديني من حيث ديني أي من حيث هو فطرة إنسانية كونية وهي ما حاولت صوغه بما سميته المعادلة الوجودية التي يتقوم بها كيان الإنسان .ولأذكر أبو يعرب المرزوقي 48 الأسماء والبيان
- -- بها .فهذه المعادلة لها قلب نواة يتلازم فيها الحضور المتكامل بين الله والإنسان في علاقة مباشرة لا تخلو منها ذات بشرية. وهو المعنى الأول لمفهوم الخلافة التي تتضمن بالجوهر مستخلَف ومستخلِف .وهذه هي النواة التي لا يستطع الملحد التخلص منها إلا بوضعها في أحد عنصري العلاقة الثانية غير المباشرة والتي هي في مستوى ثان من العلاقة المباشرة الأولى :الطبيعة والتاريخ مع تحييث الإلهي في أحدهما أو فيهما معا. ومن ثم فالملحد يتوهم أن الديني هو الدين الذي يرفضه ولا يرى أنه استبدله بدين آخر لأنه وضع هذا التلازم بينه وبينه في الطبيعة أو في التاريخ أو فيهما معا سواء اعتبرهما ذوي نظام كما فعل سبينوزا للطبيعة وهيجل للتاريخ أو ردهما إلى الصدفة والاتفاق كما يفعل داروين فالأمر سيان فيها جميعا. وعندما ننطلق من هذه النواة في قلب المعادلة نجد قبلها الطبيعة وما وراءها سواء كان محايثا أو مفارقا وبعدها التاريخ وما وراءه سواء كان محايثا أو مفارقا .وقبل الطبيعة فيها أو خارجها الله وبعد التاريخ فيه أو خارجه الإنسان .فتكتمل المعادلة المخمسة :القلب وحوله جناحان كلاهما مضاعف. لا يخطئن أحد فيتصور أني أنا أنسبها إلى إرادة الإنسان .فالله الذي يحمل الإنسان مسؤولية أعماله اي ما يضيفه إلى الطبيعة -التاريخ-ويحاسبه عليها هو الذي يعتبر الخليفة هو ما وراء التاريخ لأنه استخلفه في الأرض واستعمره فيها :والتاريخ هو ثمرة الاستعمار والاستخلاف في الأرض. المعادلة الوجودية ليست إذن ابتداعا مني كل ما هو مني هو صوغها النسقي لكنها هي مضمون الرسالة الخاتمة بوصفها تذكيرا بالديني من حيث هو فطرة أي بهذه المعادلة التي يكون تحريفها بنفي القلب ليس بإطلاق لأن ذلك مستحيل بل بردها إلى الوسيطين الطبيعي والتاريخي في القول بوحدة الوجود بنوعيها المضاعفين: أبو يعرب المرزوقي 49 الأسماء والبيان
- -- النوع الأول طبعاني وهو إما وجودي أو شهودي :الوحدة في الطبيعة فعليا أو شهوديا بتوسط الطبيعة الطابعة (وهذا غالب على الفلاسفة والكلام). والثاني تاريخاني وهو إما وجودي أو شهودي :الوحدة حالة في التاريخ فعليا أو شهوديا بتوسط الإنسان الفاعل (وهذا غالب على المتصوفة والفقهاء). ووحدة الوجود في الحالتين تجعل المبدأ المبدع حالا في الطبيعة أو في الإنسان .ووحدة الشهود تجعله مفارقا لكن شهود الموجودات لهذا المبدأ المبدع هو الذي يحقق وحدة الموجودات بنظام وضعه فيها وهي تتحد بشهوده .وذانك هما نوعا الأديان سواء نظر إليها بمعزل عن الفكر الفلسفي أو فيه .وهو ما يرد المعادلة الوجودية إلى النواة \"الله-الإنسان\" في قبله وقبلها الطبيعة وبعدها التاريخ مع إحلال ما وراء الطبيعة في الطبيعة وما وراء التاريخ في التاريخ. فتصبح المعادلة الوجودية التي وضعتها لشرح هذه البنية التي هي في آن بنية كيان الإنسان وبينة القرآن بل وبنية الوجود كله كما ندركه دون أن ندعي أنه كذلك في ذاته التي هي من الغيب المحجوب كالتالي :القلب \"الله-الإنسان\" (علاقة مباشرة لا تنفصم أبدا حتى عند الملحد الذي تكون فيه بالسلب أي بمحاولة التخلص منها) متلازمان في علاقة مباشرة .وقبل القلب الطبيعة وماوراءها -اي علة نظامها-فيها أو خارجها وبعد القلب التاريخ وما وراءه -اي علة نظامه-فيه أو خارجه .علة النظام الأول تنسب إلى إرادة الله وعلة النظام الثاني تنسب إلى إرادة الإنسان. والقرآن استراتيجية توحيد الإنسانية-وهو موضوعنا لكنه أيضا توحيد الموجودات كلها- لأن عدم وحدتها هي التي تؤسس لوهم المنطق الجدلي والصراع على الأحياز بوصفها مصدر المدد أي الجغرافيا مصدرا للثروة والتاريخ مصدرا للتراث فتصبح كل جماعة في حرب وجودية على هذه المصادر بداء بالماء والكلاء في البداوة وعلى الثروات الطبيعية في الحضارة .وللخروج من ذلك يؤسس القرآن هذه الاستراتيجية على مبدأين: .1الأخوة البشرية (النساء 1من نفس واحدة) أبو يعرب المرزوقي 50 الأسماء والبيان
- -- .2المساواة القيمية بين البشر (الحجرات 13التفاضل الوحيد بالتقوى). والوصل بين المبدأين هو التعارف بمعنى المعرفة وبمعنى المعروف .والأول ابستمولوجي (المعرفة) والثاني أكسيولوجي (المعروف). فتفهم حينئذ كيف أن سؤال من وجد الإسلام في الغرب بلا مسلمين ومسلمين في الشرق بلا إسلام لم يفهم لا الغرب ولا الشرق .فالغرب لا يعتبر البشر اخوة ولا متساوين ولا يؤين بأن التعارف معرفة ومعرفة هي معاني الإنسانية .والشرق الذي يمثله هو يريد أن يجعل ذلك مثالا اعلى فيصبح التقدم تقليدا. وتفهم لماذا بينت أن الإسلاميين وخاصة من يدعون الحداثة منهم ويدعون القول بالديموقراطية ويستعملون المنطق الجدلي الصراعي بغير وعي ويسمونه \"التدافع\" لا يمثلون رؤية القرآن للسياسي من حيث هو تربية وحكم بل يريدون تقليد الغرب دون فهم لمعاني الإنسانية كما يحددها القرآن الكريم. وهذا لا يعني ان معارضيهم سواء ممن يسمون أنفسهم علمانيين وليبراليين يمثلون الحل المطابق لما يقتضيه الفلسفي من حيث هو فلسفي أو ممن يسمون أنفسهم سلفيين سواء كانوا علميين أو جهاديين يمثلون المطابق لما يقتضيه الديني من حيث هو ديني :فالحل لن يصبح متاحا ما لم نؤسس هذا العلم الرئيس. ومعنى ذلك أن ما يجري حاليا في دار الإسلام رغم آلامه وعثراته يمكن اعتباره مخاض شديد الفائدة لأنه يبشر بان البحث عن شروط الاستئناف هو المشكل الذي تعيشه الأمة معرفيا وخلقيا ويمكن أن يكون فرصة للاجتهاد في النظر والعقد والجهاد في العمل والشرع من أجل الإنسانية كلها. وختاما للمحاولة آمل أن أكون قد وضحت ما أعنيه برؤية الإسلام لمفهوم الإنسان والإنسانية وعلل اعتباري علوم الملة كلها لم تنطلق من القرآن بوصفه رسالة تذكر بمعنى الفطرة وبما يصيبها من أدواء وبما يمكن يبلسم أدواءها بأدوية هي الرية التي تبين للإنسان معنى الاستعمار والاستخلاف في الأرض. أبو يعرب المرزوقي 51 الأسماء والبيان
- -- فلنفترض الآن أن هذا التعريف للقرآن ببعديه المدني والمكي \"استراتيجية التوحيد القرآنية ومنطق السياسة المحمدية\" واعتبرنا هذه الاستراتيجية مبنية على التربية دون وساطة والحكم دون وصاية وأن مكانها ليس حصة من الأرض بل كل الأرض وزمانها حصة من الزمان بل كل الزمان فما يترتب على ذلك؟ وقبل ذلك ما الذي ترتب على عدم فهم القرآن هذا الفهم في علوم الملة الخمسة (التفسير أصلا للفقه وأصوله وللتصوف وأصوله في العمل والشرع وأصلا للكلام وأصوله وللفلسفة وأصولها في النظر والعقد باعتباره مؤسسا للرؤية الوجودية التي تجعل ذلك محققا للاستعمار والاستخلاف في الأرض. ولأبدأ فاثبت أني لا أتقول على القرآن :فاعتبار الاستعمار في الأرض كلها استعارة على المكان كله واعتبار الاستخلاف في الأرض كلها استعارة على الزمان كله لا يمكن لأي قارئ منصف للقرآن أن ينفي أنه يفترضهما وأن رسائل الرسول لأباطرة عصره وسياسة الفتح دالتان على ذلك فضلا عما هو أهم. فالقرآن يعتبر الإسلام دين البداية (الفطرة والميثاق الذي تضمن شهادة أبناء آدم كلهم وهم في ظهور آبائهم) ودين الغاية (اعتبار الإسلام الدين الخاتم ودين الله) ودين الوصل بين البداية والغاية بما يشبه جينيالوجيا الإنسانية روحيا (كل الاديان) وسياسيا مصير جماعاتها شخوص حبكته القصصية. والقرآن يعتبر أن الديني كوني بالتوزيع وبالتعميم :فما من أمة إلا ولها نذير بلسانها وكل الأمم نذريها الرسول الخاتم بوصفه ليس وسيطا بل مذكر بالفطرة في التربية وليس وصيا بل مذكر بالفطرة في الحكم ومن ثم فالديني من حيث هو مقوم لكيان الإنسان الروحي متعال على نوعي تجليه توزيعا وتعميما. أبو يعرب المرزوقي 52 الأسماء والبيان
- -- ولما كان مطلوبنا هو اعتبار قراءة القرآن هادفة إلى اكتشاف العلم الرئيس الذي هو بديل من الميتافيزيقا بمعناه الأرسطي بحثا في ما وراء فلسفات خمس هي التي يمكننا بتحديدها أن نقول قد وجدنا ضالتنا: .1نظرية الواحد \"الديني-الفلسفي\" الذي تتفرع عنه .2نظرية الطبيعة .3ونظرية التاريخ .4ونظرية النظر والعقد أصل علاقتنا بالطبيعة خاصة. .5ونظرية العمل والشرع أصل علاقتنا بالتاريخ خاصة. لكن لما كان التاريخ لا يخلو من دور الطبيعي وكان الطبيعي لا يخلو من دور التاريخي في الوجود الإنساني بات التفاعل بين 4و 5هو الأساس الحقيقي وذلك في الاتجاهين والأول ينتج الثروة والثاني ينتج التراث وهما الحيزان اللذان يتوسطان بين الأحياز الخارجية والأحياز الداخلية وصلا بين الإنسان والعالم وبين ما بعد الإنسان وما بعد العالم في المعادلة الوجودية التي وضعنا في قلبها العلاقة المباشرة بين الذاتين الآلهة والمألوهة وهي علاقة لا تنفصم ولا يمكن تصور إنسان من دونها مهما زعم الإلحاد .وهذا معنى الاستخلاف منزلة وجودية للإنسان. فقد أصبح بوسعنا أن نصوغ السؤال الذي نريد جوابه :هل القرآن استراتيجية رؤيوية تؤسس للرؤى التي تنبني عليها هذه المسائل الخمسة التي ينبغي أن يتحد فيها الديني والفلسفي بعد أن تبين أن ما كانت السذاجة تنفيه عن الفلسفة هو عين ما يجعلها تبدو وكأنها عدوة الدين :مبدأ عدم الإحاطة الإنسانية. تصورت الفلسفة بسذاجة أن الوجود مطلق الشفافية للعقل والإنسان ذو بصر حديد يدرك الوجود على ما هو عليه فنفت وجود الغيب بادعاء الإحاطة وأدعت أن الدين مما ليس من الملة الفلسفية-الفارابي-مجرد رؤى عامية وظنت أنها تعلم الحقيقة المطلقة وتؤول الدين برده إلى ما تسمه عقلا :القول بالمطابقة. أبو يعرب المرزوقي 53 الأسماء والبيان
- -- لكن الفلسفة تخلصت من هذه الأوهام .وكان للمدرسة النقدية في تراثنا في نهاية فكرنا النقدي (من الغزالي إلى ابن خلدون) وللمدرسة النقدية في نهاية فكر الغرب النقدي (من ديكارت إلى كنط) الدور الأساسي في إيقاظ العقل من دغمائيته كما قال كنط والتخلص من هذه الأوهام فصار يسلم بحدود العقل. ولم يكن الديني يختلف عن الفلسفي إلا بهذه الخاصية أي بالقول إن للعقل حدودا وإن علمه ليس محيطا وكذلك عمله وأنه يوجد ما يمكن للإنسان أن يفكر فيه ولا يستطيع له علما (كنط) فوضع مفهوما حدا بصيغ مختلفة تعد صيغة كنط هي الاخيرة ولكنها ليست الافضل لأن صيغة ابن تيمية وابن خلدون أفضل. وهي أفضل من وجهين :تحد من وهم العقل ولا تعتمد المقابلة ظاهر شيء في ذاته بل تعتبر التناسب بين المدرك والمدرك بحيث يكون ما يعلمه الإنسان ليس مجرد ظاهر بل ما يناسبه من الحقيقة التي هي متناسبة مع المدرك وفيها شيء حقيقي وليس مجرد ظاهر مسلوب العلاقة بالحقيقة في ذاتها :حقيقة للإنسان. يقول ابن خلدون\" :ولا تثقن بما يزعم لك الفكر من أنه مقتدر على الإحاطة بالكائنات وأسبابها والوقوف على تفصيل الوجود كله وسفه رأيه في ذلك .وأعلم أن الوجود عند كل مدرك في بادئ رأيه أنه منحصر في مداركه لا يعدوها .والامر في نفسه بخلاف ذلك ( ).....فإذا علمت هذا فلعل هناك ضربا من غير مدركاتنا لأن إدراكاتنا مخلوقة محدثة وخلق الله أكبر من كل خلق .والحصر مجهول والوجود أوسع نطاقا من ذلك والله من ورائهم محيط ( )...وليس ذلك بقادح في العقل ومداركه بل العقل ميزان صحيح فأكامه يقينية لا كذب فيها .غير أنك لا تطمع أن تزن به أمور التوحيد والاخرة وحقيقة النبوة وحقائق الصفات الإلهية وكل ما وراء طوره (العقل) فإن ذلك طمع في محال\" (المقدمة الباب 6 الفصل :10علم الكلام) .ومعنى ذلك أن المفهوم الحد ينفي الإحاطة دون أن يعتبر ما يعلمه العقل على نسبيته مجرد ظاهر من الأشياء بل هو علم صحيح مناسب للإنسان بما لديه من علم غير محيط. أبو يعرب المرزوقي 54 الأسماء والبيان
- -- والآن فهذه الفلسفات الخمس ليست علوما بل هي رؤى حول القرآن نفسه من حيث هو رؤية شاملة أو علم رئيس يؤسس رؤاها :رؤية للقرآن من حيث هو استراتيجية تربية وحكم لتأسس مجتمع إنساني كوني يوحد الإنسانية بمبدأي الاخوة البشرية (النساء )1والمساواة بين البشر دون تمييز إلا بالتقوى (الحجرات .)13 وهذه الاستراتيجية لكونية تقدم رؤية في الواحد بين \"الديني الفلسفي\" والفلسفي كما أسلفنا رؤية تحقق هذه الوحدة الإنسانية الكونية بالعلم الرئيس هو \"الديني الفلسفي\" المؤسس على النظام في الطبيعة وفي التاريخ وليس على المعجزات بل كل ما يحدث،يحدث بالاجتهاد (نظر وعقد) الجهاد (عمل وشرع). لذلك لم تكن حجج القرآنية مبنية على غير النظام في الآفاق والأنفس وليس على خرقه ولم تكن تربية الرسول مبنية على غير ملاحظة الآفاق والأنفس لرؤية آيات الله فيها بالبصيرة والاستدلال العقلي وكل ما ليس كذلك هو من المبالغات اللاحقة لعصره بمدح هو في الحقيقة ذم لسذاجة المادحين بمثله. وأكثر الكذب عليه تمثل في نفي أهم خصائصه ومزاياه :فهو كان يجتهد ويجاهد ولا يعتمد على علم لدني ولأعلى عمل إعجازي بل كان يعمل على علم وبصيرة ويطبق حرفيا استراتيجية القرآن في تفسير القرآن وتصور التربية والحكم بالفلسفات الرؤيوية الخمسة. فما هي وكيف هي؟ فما رؤية القرآن لنظرية الطبيعة؟ هي نظام مبني على قوانين رياضية بالجوهر لأن القرآن يقول إن كل شيء خلقه الله بقدر .لكنه يؤكد كذلك على ضرورة الملاحظة الحسية التي هي أساس كل تجربة سواء بالحواس مباشرة أو بتوسط الأدوات التي تجعلها أقدر على ما تتطلبه الملاحظة التجريبية وهي أدوات صناعية تعتمد على مقويات للإدراك الحسي (مثل علم المناظر وعلم المسامع خاصة). والتاريخ هو بدروه ذو نظام لكنه نظام الامر وليس نظام الخلق ومن ثم فنظامه ليس قوانين طبيعية بل هو سنن تاريخية مبينة على السياسة والأخلاق لأن مجالها هو تربية أبو يعرب المرزوقي 55 الأسماء والبيان
- -- الإنسان وحكمه ليكون هو المعمر وهو الخليفة في الأرض وليحقق بما لديه من تجهيز يمكنه من سد حاجاته من الطبيعة بالتعاون والتواصل. وسد الحاجات المادية والروحية يعتمد على علاقتين عمودية بين الجماعة والطبيعة وأفقية وهي تاريخية في الجماعة الواحدة وبين الجماعات المختلفة في المعمورة بصورة متساوقة أو متوالية في الماضي أو في المستقبل أو فيهما معا .والطبيعي في العلاقتين يتبع النظر والعقد .والتاريخي فيهما يتبع العمل والشرع .والأول يخضع لقوانين الضرورة. والثاني يخضع لسنن الحرية. ومن هنا تأتي الرؤية المتعلقة بفلسفة النظر والعقد والرؤية المتعلقة بفلسفة العمل والشرع .فالرؤية الأولى هي رؤية ابستمولوجية والرؤية الثانية هي رؤية أكسيولوجية. الأولـى هدفها علم القوانين وتطبيقاتها وهي أساس الاستعمار في الأرض .والثانية هدفها علم السنن وتطبيقاتها وهي أساس الاستخلاف فيها. وما هو مثير في هذه الرؤى هو أنها تجعل ذلك كونيا وهي كونية لا تتعلق بالتبادل والتواصل في الجماعة وبين الجماعات المتعاصرة فحسب بل بينها وبين من تقدم عليها في الماضي بأحداثه وأحاديثه ومن سيتلوها في المستقل بأحاديثه وأحداثه وإذن فوحدة الإنسانية كونيتها مكانية وزمانية بلاحد فيهما. فالقرآن يمكن فهمه وكأنه دراما إنسانية تقص كل وجودها من البداية إلى الغاية وتحدد كل معوقات وحدتها :وهي متعلقة اساسا بما قد يترتب على الرزق المادي والتمانع في الجغرافيا والرزق الروحي والتمانع في التاريخ والتمانع فيهما هو بسبب الثروة والتراث: أهمية معنى للتبادل والتواصل في رؤيته. فالوصل بين الثروة والتراث أو بين علاقات التبادل وعلاقات التواصل يتعين في وصل الملكية بصلة الرحم كما يتبين في رؤية الفرائض التي جعل الجهل والحمق رئيس تونس الذي بلغ أرذل يتصور نفسه سيستمد من تغييرها فخرا بتمثل الحداثة وإنصاف النساء وهو في الحقيقة سكون أكثر ظلما لهن بكل المعاني. أبو يعرب المرزوقي 56 الأسماء والبيان
- -- وها نحن قد وصلنا إلى غاية البحث وبينا أن القرآن هو فعلا استراتيجية توحيدية إلى حد جعله يعتبر التعدد من آيات الله ويعتبر تعدد الأديان ليس منافيا لوحدة الديني بل هو سلم الارتقاء إليها لأنه شرط التسابق في الخيرات (المائدة )48وشرط حرية المعتقد أو تبين الرشد من الغي (البقرة .)256 أبو يعرب المرزوقي 57 الأسماء والبيان
- -- أبو يعرب المرزوقي 58 الأسماء والبيان
Search