Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore الإصلاح الديني، ماذا يعني بالنسبة إلى الإسلام؟ – أبو يعرب المرزوقي

الإصلاح الديني، ماذا يعني بالنسبة إلى الإسلام؟ – أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2017-08-29 14:21:22

Description: الإصلاح الديني، ماذا يعني بالنسبة إلى الإسلام؟ – أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫الأسماء والبيان‬



‫المحتويات‬ ‫‪1‬‬ ‫‪6‬‬‫‪12‬‬‫‪17‬‬‫‪22‬‬

‫كلما سمعت متحدثا يدعو إلى \"الإصلاح الديني\" قاصدا بالدين الإسلام أتأكد من أن‬ ‫المتحدث أمي في الإسلام وفي اصلاح المسيحية الذي يريد الاقتداء به‪.‬‬‫قد أطمئن لمن يريد إصلاح علوم الملة وأعمالها التي ابتعدت عن الإسلام كما تحدده‬ ‫مرجعيته القرآنية وتشرحه مرجعيته السنية‪ .‬فقد أصبح ضرورة دون شك‪.‬‬‫لكن الكثير من اصحاب التقية يقصدون بهذه تلك‪ :‬يتكلمون على إصلاح علوم الملة‬ ‫وممارساتها ويقصدون إصلاح القرآن والسنة نفسيهما بدعوى تحيزهما الزماني‪.‬‬‫وأطمئن لمن يتكلم على التجديد بمعنى المجدد على رأس كل قرن‪ .‬وقد يكون هذا تقية‬ ‫وخاصة عندما يزعم أن التجديد هو الخضوع لمنطق لما يسميه \"الواقع\"‪.‬‬‫ذلك أن ما يسمونه \"الواقع\" ليس ما له وقع بذاته وضمن بعدي التطور الذاتي للنظر‬ ‫والعمل بل ما وقته متأت من تقليد المستورد الذي صار يعتبر كونيا‬‫ذلك أن هذا التجديد باسم \"الواقع\" هو تقليد باسم التكيف مع ما يفرضه الأقوى لحين‬ ‫على الأضعف لحين لأن لم يعد يرى ما فيه من سر قوته الذاتية‪.‬‬‫أخرج هذه الحلول الثلاثة بإضافتها إلى الموقف الصريح لدعاة الإصلاح الديني المحاكي‬ ‫لما يسمونه الإصلاح الديني المسيحي في القرن السادس‪.‬‬‫وأدعي أن هؤلاء يجهلون خصائص الإسلام وطبيعة الإصلاح الديني المسيحي الذي ما‬ ‫يزال الإسلام متقدما عليه في كل ما حاول إصلاحه فأسس لعكسه النيتشوي‪.‬‬‫اتهام من نريد دحض رايه بالجهل قد يعتبر دعوى العلم المطلق‪ .‬لكن القصد هو‬ ‫الاحتكام إلى الأمر الذي يتعلق به الأمر‪ :‬الإسلام والإصلاح المسيحي‪.‬‬ ‫وسأبدأ من الثاني‪ :‬ما الإصلاح المسيحي وما مآله؟‬‫ولن أتكلم في الأمر برأيي قبل راي أحد كبار فلاسفة الدين ومفسري حاجة المسيحية‬ ‫للإسلام‪ :‬هيجل‪.‬‬ ‫‪27 1‬‬

‫وينبغي القول أني أدعو للإصلاح الديني بمعنى إصلاح العلوم والأعمال أو السلوك‬ ‫النظري والعملي على علم الذين حرفا وصايا القرآن بقصد أو بغير قصد‪.‬‬‫وقد كتبت في هذا التحريف بقصد (عند الباطنية) وبغير قصد (عند السنة) في النظر‬ ‫وفي العمل ومن يريد أن يطلع على ذلك فهو منشور في الموقع والمدونة‪.‬‬‫وإذن فقبولي للإصلاح لا يتجاوز ذلك لأن ما عداهما هو عين الإصلاح الدائم وذلك هو‬ ‫سر حيوية القرآن‪ .‬فدعوى إصلاح نكوص إلى التحريف باسم الإصلاح‪.‬‬‫أبدأ إذن بنص هيجل حتى نعلم أن الإصلاح لم يمس الدين من الدين المسيحي ما يعتبره‬ ‫القرآن تحريفا بل تعلق بفساد المؤسسة الروحية والزمانية‪.‬‬‫في الفصل الأول من القسم الثالث من الباب الرابع بعنوان الإصلاح ‪Die Reformation‬‬ ‫‪ .ist aus dem Verderben der Kirche herorgegangen‬ولنكتف بهذا‪.‬‬‫سيفصل هيجل ما يقصده بكلمة الفساد في قوله \"إن الإصلاح قد خرج من فساد الكنيسة\"‬ ‫(خرج بمعنى مآلها كما في قول يخرج الميت من الحي والحي من الميت)‪.‬‬‫والقصد أن هذا الخروج من فساد الكنيسة تطور ذاتي للكنيسة من حيث هي سلطان‬ ‫روحي ذي علاقة بالسلطان الزماني اي التواطؤ بين الديني والسياسي‪.‬‬‫ويضيف هيجل ان الفساد لا يتعلق بأمر عرض كما يحصل للافراد بل هو \" ‪Das‬‬ ‫‪Verderben der Kirche hat sich aus ihr selbst entwillkelt, es hat eben‬‬‫‪sein Princip darin, dass das Dieses als ein Sinnliches in ihr,dass das‬‬ ‫‪\"Äusserliche, als ein soches, innerhalb ihrer selbst sich bebindet‬‬‫\"إن فساد الكنيسة نما فتطور منها نفسها ويتمثل مبدؤه في كون الـ\"هذا\" (اي العيني المشار‬ ‫إليه) يوجد فيها هي نفسها بما هو محسوس فيها هي ذاتها\"‪.‬‬‫ويضيف أن ذلك قد آل إلى \"ظاهرية\" التدين فيصبح التدين والاعتقاد في الخرافة‬‫خاصة مرتبطين بأمر حسي تافه في أشكال متعددة‪ :‬عبودية السلطة فالروح بوصفه قد‬‫أصبح خارج ذاته وغير حر ومثبت لنفسه خارج ذاته‪ :‬فيتنامى حب السلطة والفساد الخلقي‬ ‫وكل فساد الجلافة والدناءة والنفاق والخداع‪.‬‬ ‫‪27 2‬‬

‫اكتفيت بالتخليص والترجمة لأن ما يعنيني هو إحالة القارئ للنص أما يعنيني فهو بيان‬ ‫فيم يتكلم هيجل‪ :‬فلكأنه يصف جال الدعاة ورجال الدين عندنا‪.‬‬‫هو إذن يتكلم على تطور ذاتي للمؤسسة الدينية وكيف فسدت ذاتيا والإسلام لا يحتاج‬ ‫للإصلاح في هذا لأنه يعلم ذلك ونبه إلى أن اكثرهم من الفاسقين‪.‬‬‫الإصلاح ليس إصلاحا للدين المسيحي بل هو إصلاح للسلطة الروحية‪ .‬فمآلها هو عين ما‬ ‫يصفه القرآن الكريم في آل عمران تعليلا وفي الحديد ‪ 27‬تحليلا‪.‬‬‫الإصلاح الديني في القرن السادس والتصاقه بالمسيحية لا يتعلق بالحاجة إلى سلطة‬ ‫روحية بل هو ينسب فسادها إلى اختلاطها بما ينافي مبدأها الروحي‪.‬‬ ‫والإسلام يرفضهما‪:‬‬ ‫‪-1‬لا حاجة لسلطان روحي (كنسية)‪.‬‬‫‪-2‬ولا يمكن فصل الديني عن الدنيوي لأن هذا شرط العمل الذي هو موضوع التقييم‬ ‫الديني الخلقي‪.‬‬‫وقصدي بأن الإصلاح المسيحي بهذا المعنى لم يحل المشكل ولم ينقذ المسيحية ذلك كان‬ ‫مآله إلى القلب النيتشوي‪ :‬لا وجود إلا للدنيوي العضوي والرمزي‪.‬‬‫التحرر من الكنسية ‪-‬لأن أكثر أهلها من الفاسقين بعبادة ابتدعوها من أجل السلطة‪-‬آلت‬ ‫إلى تأليه عيسى كما هو بين من آل عمران ‪ 79‬وعبادة الوسطاء‪.‬‬‫وصلح الإسلام مع الدنيا له دليلان في البداية وفي الغاية‪ :‬فالبداية تتمثل في أن آدم عفا‬ ‫عنه ربه واجتباه ولم يترك لنا خطيئة موروثة تحتاج لشفيع‪.‬‬‫ومن باب أولى ألا يحتاج المؤمن لنائب الشفيع (الكنيسة نائبة المسيح) فالله يعلم أن هذه‬ ‫المؤسسة بالجوهر لا تكون إلا فاسدة‪ .‬لكن النكوص أعادها‪.‬‬ ‫وقد عادت بشكلين مضاعفين‪:‬‬ ‫‪ -‬في التشيع العودة صريحة وهي للفقهاء ومتصوفة الباطنية‪.‬‬ ‫‪ -‬وفي التسنن العودة مراوغة هي لفقهاء السلطان والاختراق الصوفي‪.‬‬ ‫‪27 3‬‬

‫لكن المشكل عندنا أخذ شكلا آخر أخطر‪ :‬ذلك أن النظر والعمل كلاهما اصابهما فسادا‬ ‫من جنس آخر‪ .‬فالنظر قلب آل عمران ‪ 7‬وفصلت ‪ 53‬ليؤسس لزائف العلوم‪.‬‬‫والتأسيس لزائف العلوم هدفه التأسيس لزائف العمل الذي تقوم به الكنيسة التي أعادها‬ ‫التشيع علنا والسنة خفية‪ :‬فسلطانها مستمد من الرجم بالغيب‪.‬‬‫فيتحيلون على آل عمران ‪ 7‬فيدعون رسوخا في العلم يسمح لهم بعمل ما حرمته الآية‬ ‫وفسرته بمرض القلب وابتغاء الفتنة‪ :‬دواعش قلم ينتجون دواعش سيف‪.‬‬‫ويقلبون فصلت ‪ 53‬وبدلا من البحث عن حقيقة القرآن في الآفاق (الطبيعة والتاريخ)‬ ‫والأنفس (النفس وصلتها بهما) صار العلم تخريفا حول الغيبيات‪.‬‬‫فأهملوا تحقيق شروط مقومي الإنسان‪ :‬الاستعمار في الأرض والاستخلاف‪ .‬فكانوا سبب‬ ‫الانحطاط وجعل الأمة قابلة للاستعمار لأنها فاقدة لشروط القوة‪.‬‬‫وبذلك يتبين أن هيجل لا يصلح المسيحية لأنه يبقي على المؤسسة فيبقي على الشفيع‬ ‫(تأليه المسيح) والوسيط (الكنيسة التي تنوبه) فيبقى على التحريف‪.‬‬‫فكل مسلم يطالب بنفس الإصلاح هو في الحقيقة يطلب تمسيح الإسلام لأنه سيجعل الدين‬ ‫وظيفة لوسطاء ينوبون الوسيط وليس فرض عين كما في الإسلام‪.‬‬‫وبمجرد تحقيق هذا الفصل يحصل ما نراه اليوم‪ :‬كنسية علنية عند الشيعة تكذب على‬ ‫الشعب فتدعي أنها تحكم بشرع الله وهي تحكم بسب الحرس الثوري‪.‬‬‫وكنسية سنية تبرر باسم شرع الله كل العدوان عليه باستثناء الحكام من الخضوع لشرع‬ ‫الله استبدادا وفسادا طمعا أو خوفا والأول أكثر من الثاني‪.‬‬‫الإصلاح لا يتعلق بالإسلام ولا خاصة بما حرر منه البشرية من تحريف أسس الكنسية‬ ‫والحق الإلهي في الحكم بل بالنكوص عنه إلى التحريفات التي بينها‪.‬‬‫فهو ما اعتبر من واجبي بيانه وبيان أهم تحريف حصل لتحقيق ما يشبه التمسيح عند‬ ‫المسلمين‪ :‬تضخم العبادات وتبرير المستبدين والفاسدين (ما لقيصر)‪.‬‬‫التضخم في العبادات واهمال المعاملات يناظران القسمة‪ :‬ما لله وما لقيصر‪ .‬وهذا‬ ‫تمسيح‪ .‬وهو ما يقصده دعاة الإصلاح من العلمانيين‪ :‬نفي تام للإسلام‪.‬‬ ‫‪27 4‬‬

‫فمن كان يتكلم على إصلاح الإسلام بحسن نية ويقصد ما بينا فكلامه مقبول‪.‬‬‫لكني أعتقد أن غالبية المتكلمين على اصلاح الإسلام يقصدون هذا التمسيح‪.‬‬ ‫‪27 5‬‬

‫الإصلاح الديني بالنسبة إلى الإسلام مختلف تماما عنه بالنسبة إلى المسيحية لاختلاف‬ ‫الداءين اللذين اصابا الدينين كان بقدر اختلاف الدينين‪.‬‬‫واختلاف الدينين هو الذي يريد محوه من يدعي حاجة الإسلام للإصلاح قياسا على‬ ‫إصلاح المسيحية بمعنى العودة إلى قسمة حياة الإنسان بين الله وقيصر‪.‬‬‫واعتمدت على هيجل لفهم الإصلاح المسيحي بوصفه علاجا لما حل بالمؤسسة الكنسية من‬ ‫فساد ذاتي جعلها وساطة تتصف بما وصفها به الإسلام والغاها بسببه‪.‬‬‫وقد أجملت معنى النص فترجمت \"فرمشكايت\" بالتعبد والحقيقة أي أنها تعني التعبد‬ ‫الذي يبالغ في مظاهر التقوى بصفات قبيحة ذكرها هيجل‪ :‬مثل تظاهر الدعاة‪.‬‬‫وقد رأينا بوضوح أن أغلبهم تقواهم نفاق بالأساس كما تبين من مواقفهم ضد محاولة‬ ‫الشعوب المسلمة التحرر من الاستبداد والفساد عدوي الإسلام بالجوهر‪.‬‬‫هيجل لم يعتبر الوساطة الكنسية والحاجة إلى الشفيع (ابن الله) أمرين منافيين للدين‬ ‫المسيحي بل هما جوهره‪ .‬وذلك هو الفرق النوعي بينه وبين الإسلام‪.‬‬‫بل أكثر من ذلك فنظرية الحكم التي يقول بها تقتضي أن يكون الملك الحاكم أشبه‬ ‫بصاحب الحق الإلهي في الحكم وهو يعتبر الوراثة أفضل من الانتخاب‪.‬‬‫وهو لم يقل شيئا من عنده بل وصف ما حدث فعلا في تطور الحالة الروحية الغربية‬ ‫بوضع فلسفة تاريخ مستندة إلى فلسفة دين إذ لا وجود لما بعد الدنيا‪.‬‬‫والروحي هو ما في الأذهان‪ ،‬والمادي ما في الأعيان‪ ،‬والوجود الدنيوي يجمع بينهما‬ ‫والتاريخ تدرج الوعي الإنساني في المصالحة بينهما والإصلاح يحققها‪.‬‬‫الإسلام إصلاح التحريفات الناتجة عن الوساطة والحاجة إلى شفيع بين الله والإنسان‬ ‫لأن الدين المسيحي مبني على الخطيئة الموروثة‪Die Erbsünde :‬‬ ‫‪27 6‬‬

‫وكل المنادين بإصلاح الدين الإسلامي يقصدون تمسيحه حتى بعد \"الريفورم\" سلطة‬ ‫روحية وسيطة بين الله والإنسان مقصورة على الأذهان والأعيان لقيصر‪.‬‬‫وهو ما أريد علاجه لأني بينت أن النكوص إلى هذين الحاجتين حصل فعلا في الإسلام‪:‬‬ ‫الوساطة الروحية والقسمة بين الله(العبادات) وقيصر(المعاملات)‪.‬‬ ‫وهو حصل بشكلين متقابلين‪:‬‬‫‪ -‬الشيعي يقول بهما صراحة ويدعي أن قيصر تابع لله مدعيا أن الإمام يجمع بين‬ ‫السطلتين الروحية والدنيوية حقا إلهيا‪.‬‬‫‪ -‬والسني يرفض السلطة الروحية والحق الإلهي في الحكم بالأقوال لكنه تحول إلى‬ ‫سلطة روحية تابعة للمتغلب فيجعل السياسي فوق الديني بالأفعال‪.‬‬‫فيكون ممثل الدين في الحالتين كاذبا‪ :‬لأن دعوى غياب الوساطة في السنة كذبة لأنها‬ ‫وساطة مضاعفة إذ المتغلب يستعمله وسيطا روحيا مع الشعب‪.‬‬‫ودعوى جمع الإمام بين السلطتين تأسيسا للسياسية على الدينية كذبة‪ :‬ظاهريا الخميني‬ ‫يمثل العلاقة نائبا عن الإمام بفضل الحرس الثوري‪ :‬التغلب‪.‬‬‫والقرآن يبين في آل عمران أن التحريف الديني علته الحلف بين سلطتين فاسدتين‪:‬‬ ‫تقلبان العلاقة بين بعدي الوجود بالأفعال وتغطيان عنها بالأقوال‪.‬‬ ‫وهذا هو النفاق الأكبر‪ :‬الدين والأخلاق يصبحان أداتي تبرير وليسا أداتي تنوير‪.‬‬ ‫يغطيان عن الاستبداد والفساد ولا يقاومانهما كما هو واجب وظيفتهما‪.‬‬‫إنها الظاهرة التي أريد فهم علاجها بالقرآن‪ :‬فهو لم يكتف بكونه الاصلاح الديني في‬ ‫كل دين فهو عين هذا الإصلاح الدائم بفلسفة دين وفلسفة تاريخ‪.‬‬‫ويوحد الفلسفتين لعلاقة بين بعدي الوجود الإنساني (مستعمر في الأرض ومستخلف‬ ‫فيها) وصلتهما بتجلي حقيقة القرآن في الآفاق والأنفس استراتيجية لتحقيقها‪.‬‬‫وبهذا المعنى فيمكن رد العلاج إلى آيتين هما الحرز الذي يحول دون التحريف عندما لا‬ ‫يحرفان وهما علة التحريف عندما يغيب دورهما الحارز لدور الإنسان‪.‬‬ ‫‪27 7‬‬

‫واقصد بالحرز هنا ما يحول دون وجود السلطتين المتوسطتين بين المؤمن وربه في رزقه‬ ‫الروحي (الدين) وفي رزقه المادي (السياسة)‪ :‬تبعية لسلطة فوقه‪.‬‬‫فالفرد الإنسان يحاسب فرديا ‪-‬يأتي ربه فردا‪-‬وإذن فلا بد من أن يكون المسؤول المباشر‬ ‫عن رزقه الروحي وعن رزقه المادي دون وساطة روحية وسياسية‪.‬‬‫وبهذا المعنى فالإمام السياسي مثل إمام الصلاة في السنة‪ :‬أي مسلم إمام ممكن إذا رضي‬ ‫به المصلون حقا للجميع ولا يعين فيه فرد إلا بإرادة الجماعة‪.‬‬‫والأهلية المعرفية والخلقية مشروطة في الإمام للصلاة وللحكم شرطين لأداء الوظيفة‬ ‫وشرطين للإيمان مؤيدين بشرطين في الجماعة تشاركيا (العصر)‪.‬‬‫فالمؤمن الغني عن الوساطتين لا بد فيه من خمسة شروط حددتها سورة العصر‪ :‬أن يعي‬ ‫وضع الخسر وأن يتحرر منه بأربعة أفعال‪ :‬اثنان خاصين واثنان مشتركين للجماعة‪.‬‬ ‫فلا بد أن‪:‬‬ ‫‪ .1‬يؤمن‬‫‪ .2‬ويعمل صالحا (وهذان فعلان خاصان لا يمكن أن يشاركه فيهما أحد) وأن ينتسب‬ ‫إلى جماعة‬ ‫‪ .3‬فيتواصى بالحق‬ ‫‪ .4‬ويتواصى بالصبر معهم‪.‬‬‫فالإيمان والتواصي بالحق شرطان معرفيان للنظر خاصة والعمل الصالح والتواصي‬ ‫بالصبر شرطان خلقيان للعمل خاصة‪ .‬وكل منهما يتضمن شيئا من الثاني‪.‬‬‫بهذا استغنى الإسلام عن علل التحريف في الأديان‪ :‬سلطة الوساطة الروحية وسلطة‬ ‫الوساطة السياسية وتحالفهما المولد للاستبداد والفساد في التاريخ‪.‬‬‫والتحريف وعلله هو الخسر الذي لا يخرج منه الإنسان إ ّلا بالأفعال الخمسة‪ :‬الوعي‬ ‫بالخسر ثم الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر‪.‬‬‫واستعادة هذين السلطتين تأسس على استعادة التحريف من جديد وذلك بغصب دلالة‬ ‫آل عمران‪(7‬التأويل) وفصلت‪( 53‬النصوص) أصلا للعلوم والأعمال الزائفة‪.‬‬ ‫‪27 8‬‬

‫وسأبدأ بتحريف الآية السابعة من آل عمران‪ :‬وقع بين يدي كتاب مؤخرا أهدانيه محققه‬ ‫ا‪.‬د‪ .‬رجب شنتورك لمنتخبات الميراني من أعمال الإمام السرهندي‪.‬‬‫وفيه سر كل العلوم والأعمال الزائفة الناتجة عن تجاوز ما نبهت إليه الآية باسم الرسوخ‬ ‫في العلم العقلي كلاما وفلسفة والعلم اللدني تصوفا وولاية‪.‬‬‫يقول‪\" :‬أيها الأخ إن الله سبحانه قسم كتابه المجيد على قسمين‪ :‬محكمات ومتشابهات‪.‬‬‫فالقسم الأول منشأ لعلم الشرائع والاحكام والقسم الثاني مخزن علم الحقائق والأسرار‪.‬‬‫وما ورد في القرآن أوفي الحديث من اليد والوجه والقدم والأصابع والأنامل كلها من‬‫المتشابهات وكذا مقطعات الحروف الواردة في أوائل السور القرآنية أيضا من المتشابهات‬‫التي لم يطلع عليها إلا العلماء الراسخون\" (ص‪ 250.‬المختارات ط‪ 3.‬في ‪)2016‬‬ ‫والسرهندي من المعتدلين‪.‬‬‫حدد المتشابه وحدد الرسوخ في العلم‪ .‬واعتبر الأول موضوع الثاني‪ .‬وذلك مخالف لنص‬ ‫الآية تمام المخالفة مهما تفنن فقهاء اللسان في قراءتها لغويا‪.‬‬‫فهنا عطفنا الراسخون في العلم على الله في تأويل المتشابه تسليما جدليا منافيا للنحو‬ ‫العربي فإن بداية الآية تجعل هذا الفهم مستحيلا‪ :‬مرض وفتنة‪.‬‬‫ضم الراسخين إلى الله في التأويل يعني استثناءهم من مرض القلوب وابتغاء الفتنة‪.‬‬ ‫فهل رفعهم فوق البشر الآخرين خاصية غير الرسوخ المكتسب في العلم؟‬‫إذا كان الرسوخ غير المكتسب فهذا يستغني العلم العادي (الكلام والفلسفة والفقه‬ ‫إلخ‪ )..‬فلا يبقى إلّا الكشف أو العلم اللدني‪ .‬وذلك هو قصده‪.‬‬‫إذا كان أصحاب الكشف منزهين عن مرض القلوب وابتغاء الفتنة بالرياضة فهل هذا‬ ‫يمكنهم من علم الغيب؟‬ ‫فقد عرف المتشابه بالصفات والحروف المقطعة‪.‬‬‫الرسوخ في العلم هو اللدنية الصوفية وهو بهذا المعنى فوق علم النبي الذي لم يدع علم‬ ‫الغيب‪ .‬تعريف المتشابه وقابليته للتأويل هو مصدر التحريف‪.‬‬ ‫‪27 9‬‬

‫وهنا يأتي دور الآية الثانية‪ :‬فصلت ‪ .53‬فلا يمكن الجرأة على الآية ‪ 7‬من آل عمران‬ ‫من دون قلب للآية ‪ 53‬من فصلت‪ .‬فقلبها أنتج كل العلوم الزائفة‪.‬‬‫وقراءتها دون قلب وجهة البحث العلمي الذي تنصح به هو الذي يجعل موضوع المعرفة‬ ‫المتشابه وحصر المحكم في الشرعيات والأحكام كما يزعم السرهندي‪.‬‬‫فهذه الآية تميز بين المحكم والمتشابه بما توجه إليه البحث لمعرفة حقيقة القرآن‪:‬‬ ‫{سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق}‪.‬‬‫فيكون المحكم ما يتعلق بآيات الله في الآفاق وفي الأنفس ويكون المتشابه ما عداه أي‬ ‫موضوع العلوم الزائفة التي يدعي أصحابها الرسوخ في العلم‪.‬‬‫والآفاق والأنفس هي عالم الشهادة أي الطبيعة والتاريخ في الأعيان وفي الأذهان‬ ‫(الأنفس) أما الغيب فهو ما وراء الشاهد وهو المتشابه القرآني‪.‬‬‫الآية ‪ 53‬فصلت تميز بين عالم الشهادة موضوعا للعلم الذي يعلم حقيقة القرآن برؤية‬ ‫آيات الله في العالم طبيعيه وتاريخيه في الأعيان وفي الأذهان‪.‬‬‫أما تفسير نص القرآن بقيس الغيب على الشهادة اساسا للتأويل ظنا أن نسبة الغيب إلى‬ ‫الشهادة هي نسبة الغائب إلى الشاهد فهو مصدر العلوم الزائفة‪.‬‬‫وهذا هو ما أعنيه بقلب وجهة الآية فصلت ‪ 53‬أساسا للجرأة على الآية آل عمران ‪7‬بالعلم‬ ‫اللدني الذي يتجاوز الأنبياء مع دعوى وراثة هذا العلم عنهم‪.‬‬‫فصار الوارث يدعي وراثة ما لم يدعه الموروث‪ :‬الراسخ في العلم يرث من النبي علما لم‬ ‫يدعه‪ :‬علم الغيب‪ .‬فما يتجاوز الشاهد بالقياس عليه نفي للتجاوز‪.‬‬‫وهذا العلم الزائف هو الذي يؤسس للوساطة‪ :‬إذا كان بعض البشر يتميز بصفات لم‬ ‫يدعها حتى الأنبياء فهم سيكون وسطاء بين المؤمن وربه أكثر من الرسول‪.‬‬‫فالرسول لم يدع وساطة بل هو مجرد مبلغ ومذكر ولا يستطيع شيئا لاحد بدليل ما قاله‬ ‫عن عمه‪ .‬أما الأولياء فصاروا شفعاء كنسي بالكذب على الرسول‪.‬‬‫يدعون أنهم ورثة الأنبياء‪ .‬وليس للأنبياء غير التبليغ والتذكير بما ينسى مما هو مكتوب‬ ‫في الفطرة‪ .‬وكل ما عدا ذلك كذب على النبي بادعاء ما لم يدعه‪.‬‬ ‫‪27 10‬‬

‫وحتى في التبليغ والتذكير يستدل الرسول بمعنى أنه يجعل المخاطب حكما على مضمون‬ ‫الرسالة فلا يصدق إلا بالمشاركة في البحث عن الحقيقة بنفسه‪.‬‬‫واستدلال الرسول مبني على أدلة مستمدة من نظام الآفاق والأنفس ويوجه المخاطبين‬ ‫لطلب حقيقة القرآن في آيات الله في الآفاق والأنفس لا في خطابه‪.‬‬‫ولهذه العلة كان القرآن غنيا عن المعجزات لأن من يستدل بالنظام لا يمكن أن يعتمد‬ ‫على الاقناع بما يخرقه‪ .‬فالمعجزات للتخويف وليست للاقتناع الحر‪.‬‬‫وزبدة القول إن تعريف المتشابه ودعوى قابليته للتأويل من الراسخين في العلم هو‬ ‫الأساس النظري الذي يبني عليه أصحاب العلوم الزائفة الوساطتين‪.‬‬‫فالراسخون في العلم وسطاء بين المؤمن وربه في رزقه الروحي سلطة تحتاج إليها الوساطة‬ ‫السياسية بين المؤمن ورزقه المادي‪ :‬سلطانان مستبدان وفاسدان‪.‬‬‫والسلطانان الفاسدان يتحالفان فيجعلان الدين خادما للدنيا ليس برفعها قيميا عن‬ ‫الإخلاد إليها بل بالتغطية عنه وإلغاء وظيفة التحرير والتنوير‪.‬‬ ‫‪27 11‬‬

‫ما المقصود بالعلوم الزائفة التي تحرف الدين فتزيل دوره التحريري والتنويري وتعوضه‬ ‫بالوساطة التي تحول التربية إلى مرض القلوب وابتغاء الفتن؟‬‫نحتاج لإصلاح التربية وليس الإسلام‪ .‬فهو إصلاح بالجوهر لأنه أزال علل التحريف‬ ‫المؤسس لسلطتي الوساطة في الرزق الروحي والمادي (الدين والسياسة)‪.‬‬ ‫والتربية لها حدان‪:‬‬ ‫‪ -‬نظري (ويتعلق بشروط المعرفة)‬ ‫‪ -‬وعملي (ويتعلق بشروط الأخلاق)‬ ‫‪ -‬وبينهما حد اوسط (حرية الفرد ومسؤوليته)‬ ‫‪ -‬ووصلتين‪ :‬الحق والخير‪.‬‬‫والحق يصل النظر بحرية الفرد ومسؤوليته والخير يصل العمل بهما ليكون قادرا على‬ ‫تعمير الأرض بوصفه مستعمرا فيها خليفة مقومين لذاته الحرة والمسؤولة‪.‬‬‫فتكون استراتيجية التربية التي يحددها القرآن لتجنب ما يترتب على الوساطة الروحية‬ ‫والسياسية من أدواء هي توجيه فصلت ‪ 53‬وشروط العصر لتجنب الخسر‪.‬‬‫وتحقيق هذه الاستراتيجية يجعل كل القيم مردودة إلى الجميل وصفا لسلوك الإنسان‬ ‫(صبر جميل مثلا) والجليل وصفا \"لسلوك\" الله‪ :‬فتكتمل منظومة القيم‪.‬‬ ‫منظومة القيم القرآنية خمسة وليست ثلاثا‪:‬‬ ‫‪ .1‬الحق(للنظر)‬ ‫‪ .2‬والخير(للعمل)‬ ‫‪ .3‬والحرية (تشوفا لما بعدها وشرطا لما قبلها)‬ ‫‪ .4‬والجمال (كمال المعنى)‬ ‫‪ .5‬والجلال (سر الوجود)‬ ‫‪27 12‬‬

‫ومن دون معادلة هذه القيم لا يمكن فهم تعريف الإنسان بكونه مكرما باستعماره في‬ ‫الأرض وبالاستخلاف فيها رغم العلم بأنه قد يفسد فيها ويسفك الدماء‪.‬‬‫والحرية في المنظومة القيمية هي شرط العلم والعمل المختار لا المضطر لتجنب الفساد في‬ ‫الأرض وسفك الدماء‪ .‬لكنها مشروطة بالاشرئباب للجمال والجلال‪.‬‬‫لا شيء أبشع من العالم لولا التشوف الإنساني للجمال والجلال فهما جوهر ما يترتب على‬ ‫الإيمان بذات هذه صفاتها مع الاطلاق في قيوميته‪ :‬الله‪.‬‬‫فالإسلام يعتبر الوجود الإنساني استعمارا في العالم بالعلم والعمل أداتين لتعميره أو‬ ‫لتدميره‪ .‬والتعمير يكون بالاشرئباب للجمال والجلال المطلقين‪.‬‬‫وهما مطلقان في ذات الله ومنها يشعان على العالم فيخرج من البشاعة ويتصف بالجمال‬ ‫والجلال والعلم والعمل ويكتشفان أثرهما في آيات الآفاق والأنفس‪.‬‬‫آيات الله في الآفاق والأنفس يطلبها العلم والعمل بالعلم والأخلاق في قوانين النظام‬ ‫الطبيعي (رياضي) والتاريخي (خلقي) في الأعيان وفي الأذهان‪.‬‬‫لا شيء أبشع من العالم إذا خلا من هذا الاشرئباب إلى الجمال والجلال ومحاولة الإنسان‬ ‫المكرم والحر اضفاءهما بطلب النظام وراء هذه البشاعة‪.‬‬‫والنظام الذي يمثل الجمال وراء العالم ويضفي عليه المعنى رياضي بالجوهر والنظام‬ ‫الذي يمثل الجلال وراءه خلقي بالجوهر‪ :‬الإسلام أو تمام الدين‪.‬‬‫فلنقل للتيسير إن الطبيعة ذات نظام رياضي (كل شيء خلقناه بقدر) والتاريخ ذو نظام‬ ‫خلقي (سنن لا تتبدل ولا تتحول)‪ :‬فلسفة القرآن الطبيعية والتاريخية‪.‬‬‫ورغم قولي بفلسفة القرآن الطبيعية والتاريخية فإني لا أقول بالإعجاز العلمي‪ :‬حدد‬ ‫طبيعة النظامين وترك لنا البحث عن قوانينهما الجزئية والعمل بها‪.‬‬‫فالقول بالإعجاز العلمي هو من صنف العلوم الزائفة‪ :‬لن نجد في القرآن ما يقول لنا إنه‬ ‫موجود خارجه في الآفاق والأنفس وعلينا طلبه لمعرفة حقيقته‪.‬‬‫أصحاب القول بالإعجاز العلمي قلبوا فصلت ‪ :53‬هي تقول إن حقيقة القرآن فيما يرينه‬ ‫الله من آيات الآفاق والأنفس وهم يطلبونها من ألفاظ القرآن‪.‬‬ ‫‪27 13‬‬

‫يكذبون على القرآن وعلى العلم‪ :‬فهذا تاريخي بالجوهر لتغيره بحسب ما نحققه من‬ ‫فرضيات تؤيدها التجربة‪ .‬والقرآن مطلق الحقيقة‪ .‬التأويلات رجم بالغيب‪.‬‬‫خصصت لعلوم الملة الأربعة وأساسها مجموعة من المقالات بينت أنها جميعا علوم زائفة‬ ‫لأنها عكست الآية ‪ 53‬من فصلت وتجرأت على الآية ‪7‬من آل عمران‪.‬‬‫لكني لا أقتصر على هذا التعليل الذي قد يظن دينيا لأنه يحتج بآيتين‪ .‬تعليلي الفلسفي‬ ‫هو أن هذه العلوم الزائفة حالت دون تحقيق شرطي قيام الإنسان‪.‬‬‫فهي لا تحقق شروط الاستعمار في الأرض وهي لا تحققها لتجعله أهلا للاستخلاف بمعنى‬ ‫تحقيق غاية الاشرئباب للجمال والجلال في حياة الفرد والجماعة‪.‬‬ ‫والعلوم صنفان‪:‬‬ ‫‪ -‬النظرية أي الكلام والفلسفة (الميتافيزيقا)‬ ‫‪ -‬والعملية أي الفقه والتصوف‪.‬‬ ‫‪ -‬والأصل هو التفسير الذي هو علم أصولها جميعا إيجابا وسلبا‪.‬‬‫وما أقصده بالأصل الإيجابي أي جعله بنصه دون فصل بين ظاهره وباطنه مرجعية الكلام‬ ‫والفقه‪ .‬وأقصد بالأصل السلبي جعله ظاهر من مرجعية باطنية وراءه‪.‬‬‫وهذا يعني أن المقابلة بين الفقه والتصوف أو بين الشريعة والحقيقة هي بين مرجعية‬ ‫قرآنية فعلية وبين تقية باطنية تخفي مرجعية يعتبر القرآن ظاهرها‪.‬‬‫وكلاهما يضطر لذلك بسبب قلب دلالة فصلت ‪ 53‬والجرأة على آل عمران ‪ .7‬والعلة‬ ‫عدم تحررهم من القول بالمطابقة وإطلاق علمهم بقيس الغيب على الشهادة‪.‬‬‫الكلام على قلب فصلت ‪ 53‬والجرأة على آل عمران ‪ 7‬تعليل ديني نحتاج إليه لأننا نتكلم‬ ‫على علوم الملة‪ .‬لكن التعليل الفلسفي هو فساد نظرية المعرفة‪.‬‬‫والواصل بين التعليلين الديني والفلسفي هو الوهم المضاعف الناتج عن القول بنظرية‬ ‫معرفة يتطابق فيها العلم والوجود‪ :‬علم الشيء على ما هو عليه حقا‪.‬‬‫فعلم الشيء على ما هو عليه حقا ممتنع على أي علم غير علم الله‪ :‬فعلم الشيء على ما‬ ‫هو عليه يعني علم الوجود كله لأن كل شيء حصيلة لكل الأشياء فيه‪.‬‬ ‫‪27 14‬‬

‫ولذلك فالقول بنظرية المطابقة بين علمنا والوجود تفترض وهمين‪:‬‬ ‫‪ .1‬أن الوجود شفاف بإطلاق ومن ثم فلا يوجد غيب فيه‬ ‫‪ .2‬أن علقنا مطلق يحيط به تماما‬‫وإدراك حقيقة هذين الوهمين هو ما تتميز به فلسفة من سميتهم فلاسفة المدرسة‬ ‫النقدية (الغزالي قبل الانتكاسة) وابن تيمية وابن خلدون الأصرح فالأصرح‪.‬‬‫ولأورد نص ابن خلدون‪\" :‬وأما قولهم إن السعادة في إدراك هذه الموجودات على ما هي‬‫عليه فقول باطل مبني على ما كنا قدمناه في أصل التوحيد من الأوهام والأغلاط في أن‬‫الوجود عند كل مدرك منحصر في مداركه وبينا فساد ذلك وأن الوجود أوسع من أن يحاط‬‫به أو يستوفي إدراكه بجملته روحانيا أو جسمانيا\" (المقدمة الباب ‪ 6‬الفصل ‪ 31‬في إبطال‬‫الفلسفة‪-‬الميتافيزيقا‪ -‬وفساد منتحلها)‪.‬والتفاضل بين العلم والوجود رآه ابن تيمية بعين‬‫أخرى‪ ،‬فعنده أن كل تصور يمكن أن يليه ما لا يتناهى من التصورات المتفاضلة في إدراك‬ ‫الموجود بغير غاية وكل دعوى المطابقة يجعل الإنسان مقياس كل شيء‪.‬‬‫فتكون نظرية الحقيقة المطابقة مجرد قول بأساس السفسطائية‪ :‬الإنسان مقياس كل‬ ‫شيء‪ .‬لكنه بصورة ساذجة لأن السفسطة لا تقول بالمطابقة بل تنفيها‪.‬‬‫القول بالمطابقة سفسطائية ساذجة تعتبر العقل مرآة تعكس الوجود كما هو عليه وكل‬ ‫العلوم الزائفة تدعي المطابقة المطلقة الممتنعة على الإنسان‪.‬‬‫وقد يستغرب الكثير من اعتبار الفلسفة من علوم الملة‪ :‬لكني لا أتكلم على الفلسفة عامة‬ ‫بل على فلسفة حضارة الإسلام والمسيحية في القرون الوسطى‪.‬‬‫فكلتاهما تعتبران النص الديني ظاهر النص الفلسفي (في الغالب علم أرسطو أو‬ ‫أفلاطون)‪ .‬ففلسفتهم تقية أو حقيقة اعتبار الأول ظاهر باطنه الثاني‪.‬‬‫هي إذن مواجهة بين نصين مع مضمون طبيعي وتاريخي غفل لأنه مبني على ملاحظات‬ ‫مما يسمى واقع بإدراك شبه عامي لعموميات تتعلق بها وتعمم بلا نقد‪.‬‬‫فكلها أو ينحصر تفسيره الظاهرات بتأثير مجهول الطبيعة شبه سحري لنفوس وعقول‬ ‫سماوية باستعارة من علاقات البشر وممارساتهم الصناعية‪ :‬الهيلومورفية‬ ‫‪27 15‬‬

‫فيتبين أني لم أظلم الفلسفة عندما ضممتها إلى علوم الملة (عندنا وعند المسيحيين‬ ‫واليهود في القرون الوسطى)‪ :‬تناظر نصين بعلم لا يتجاوز الكلام‪.‬‬‫ولذلك فهي قد كانت معيقة للعلم مثلها مثل الكلام بل أكثر لأن الكلام استمد منها نفس‬ ‫النموذج المعرفي وبالغ في التقية مدعيا عن الدين بالعقل‪.‬‬‫وما جعلني أصبح عدوا لكل من يزعم العقلانية من نخبنا هو ظنهم أن تهافت الفلاسفة‬ ‫الذي هو بداية التفلسف الحقيقي ليس فلسفيا بل هو قتل للفلسفة‪.‬‬‫لما كتبت رسالة الإجازة في الفلسفة حول مفهوم السببية عند الغزالي (بالفرنسية) في‬ ‫السوربون أخرجت من ملة الفلاسفة‪ :‬كيف أفضل الغزالي على ابن رشد‪.‬‬‫ولما كتبت عن ابن تيمية وثورته الفلسفية التي تجاوزت الفلسفة القديمة والوسيطة‬ ‫اعتبرت رجعيا لأن أنسب ثورة لرجل صار رمزها لدى اميي الحداثة‪.‬‬‫واعترف أني إلى الآن لا أفهم كيف يمكن لمن يفهم في الفلسفة الحديثة أن ينسب‬ ‫العقلانية للمعتزلة أو لابن رشد؟‬ ‫سذاجة مدح العقل ليست عقلانية‪.‬‬‫العقل النقدي (الغزالي في بداياته قبل أن ينكص إلى ميتافيزيقا الافلاطونية المحدثة‬ ‫وابن تيمية وابن خلدون) لا يفهمه قروسطيون حداثتهم شعارية‪.‬‬‫وليعلم أي حداثي أن خرافة اليسار الأرسطي قياسا على اليسار الهيجلي (قراءة ماركسية‬ ‫للعلاقة بين الغزالي وابن رشد) إيديولوجيا وليست علما موثوقا‪.‬‬ ‫‪27 16‬‬

‫وهكذا فبقلب دلالة فصلت ‪ 53‬والجرأة على آل عمران ‪7‬نشأت كل العلوم الزائفة‬ ‫النظرية (الفلسفة والكلام) والعملية (التصوف والفقه) بتأصيل قرآني وسني‪.‬‬‫والتأصيل يضاعف هذه العلوم لأنها تلتفت إلى المرجعية وإلى الموضوع إيجابا وسلبا غالبا‬ ‫من خلال تناظر بين نصين أحدهما يعتبر ظاهرا والثاني باطنا‪.‬‬‫وحتى الكلام السني فإنه برد المنقول إلى المعقول لكأنه يعتبر الأول ظاهرا والثاني باطنا‬ ‫بمنهج التأويل وبقيس الغائب على الشاهد سذاجة معرفية‪.‬‬‫والمعقول المزعوم لاستناده إلى القول بنظرية المعرفة المطابقة (على ما هو عليه) فهم‬ ‫يزعمونه مطابقا لما يسمونه الواقع أو الوجود الخارجي‪.‬‬‫فالمعقول هو توهم المعرفة التي يسمونها عقلية انعكاسا للوجود على العقل كأنه مرآة‬ ‫فيعمم أحكامه بقياس الغائب على الشاهد تحريفا لوظيفة المنطق‪.‬‬‫فيقع الخلط الاستدلالي الصوري بمتغيرات هي خانات خالية إلى الاستدلال المضمون‬ ‫الذي يملأ هذه الخانات دون تأسيس لما يمكن تسميته بالمنطق المتعالي‪.‬‬ ‫فما بين التحليلات الأوائل والتحليلات الأواخر يوجد أمران‪:‬‬ ‫‪ .1‬تأسيس تعويض المتغيرات بقيم لملئها بمضمون وجودي‬ ‫‪ .2‬البلوغ إلى هذه القيم الموضوعية‬‫والأول يفترض أن قوانين المنطق مطابقة لقوانين الموجود والثاني يفترض أن للعقل‬ ‫نفاذا إلى المعطيات المضمونية من طبيعة مختلفة عن العلاج المنطقي‪.‬‬‫واضطر كنط لوضع المنطق المتعالي لعلاجهما واضطر أرسطو لاعتبار مبادئ المنطق مبادي‬ ‫وجودية في الميتافيزيقا وإلى أمرين آخرين في التحليلات الثواني‪.‬‬‫وما اضطر إليه في التحليلات الثواني هو ضرورة قطع التسلسل والدور بداية لتحديد‬ ‫نظام(البرهان) وإلى الحدس الماهوي غاية لتحديد حدوده (الحد)‪.‬‬ ‫‪27 17‬‬

‫وهذه الأمور الأربعة تؤسس لنظرية المعرفة المطابقة وتتأسس عليها وهي تساعد على‬ ‫تنظيم الخطاب حول حقائق المعرفة العلمية ولا تسهم في اكتشافها‪.‬‬‫فاكتشاف المعرفة العلمية مشروط بإبداعين مختلفين تماما عن المنطق الذي هو مجرد أداة‬ ‫للمحافظة على وحدة المضمون المنقول من المقدمة إلى النتيجة‪.‬‬‫والمنطق ينقل النقيض من النتيجة إلى المقدمة إذا اعتبرنا المقدمة مقدما والنتيجة تاليا‬ ‫لأن نقيض التالي ينتج نتيجة المقدم‪ .‬لا دخل له في المضمون‪.‬‬‫والأمران إبداعان خالصان افتراضيان يبدع شكلا متخيلا تقاس عليه بنية متخيلة‬ ‫للموضوع مضمونا بمبدأ التشاكل بينهما فيعد علما إذا أيدته التجربة‪.‬‬‫إبداع شكل مجرد بلا مضمون وجودي هو ما يسميه ابن تيمية \"المقدر الذهني\" وفيه دون‬ ‫سواه يمكن للعقل أن يدعي الضرورة المنطقية والمعرفة البرهانية‪.‬‬‫والبحث عن بنية الموضوع المتخيلة التي تشاكل هذه المقدرة الذهنية يمكن من الاستدلال‬ ‫في الشكل وكأنه استدلال في المضمون المعوض لمتغيرات المقدر‪.‬‬‫لكن لا وجود لمطابقة تامة بين الشكل المبدع والمضمون المبدع حتى لو أيدته التجربة لأنها‬ ‫لا تؤيده بصورة ضرورية وبرهانية‪ :‬تلك هي ثورة ابن تيمية‪.‬‬‫ذلك ما يهمله المتكلمون والفلاسفة في عصره‪ :‬عقلانية غفلة تخلط بين شكل الكلام على‬ ‫المعرفة والمعرفة العلمية التي تحاول الامساك بمضمون الموضوع‪.‬‬‫وبهذه الغفلة عن نقد مفروضاتهم يبني المتكلمون والفلاسفة معرفة أساسها المواجهة بين‬ ‫نصين يزعمون أحدهما نقلا بلا عقل والثاني عقلا بلا نقل‪.‬‬‫لذلك تكلم ابن تيمية عن \"صريح المعقول\" بمعنى خالصه وليس بمعنى غير الضمني وهو‬ ‫ليس بعد علما بل يصبح علما إذا كان فيه منقول تجريبي هو مضمونه‪.‬‬‫ذلك أن العلم العقلي له مضمون نقلي حتما (معطيات الموضوع سواء كان تجريبيا حسيا‬ ‫أو فرضيا عقليا) والعلم النقلي له شكل عقلي حتما (شكل المعطيات)‪.‬‬‫وكلاهما إبداع أولهما لمقدرات ذهنية والثاني لبنية متخيلة للموضوع والعلم هو التشاكل‬ ‫النسبي دائما بينهما بسبب الاحتكام إلى معطيات التجربة‪.‬‬ ‫‪27 18‬‬

‫لكن عملية قلب فصلت ‪ 53‬تلغي كل إمكانية للاحتكام إلى معطيات التجربة ومنهج‬ ‫التشاكل بين المقدرات الذهنية والمعطيات الخارجية فيكون العلم زائفا‪.‬‬‫وهم يقدمون على ذلك لأنهم بدعوى الرسوخ في العلم يجعلون المتشابه موضوع معرفة‬ ‫نفيا للغيب وطردا لمبدأ قياس الغائب على الشاهد رغم عدم شهوده‪.‬‬‫وأنا شبه متأكد من أن نسبة هذه الثورة لابن تيمية وابن خلدون من بعده لن يصدقها‬ ‫أحد من ادعياء الحداثة فهم ما يزالون في مستوى \"عقلانية\" ابن رشد‪.‬‬‫واقصى ما يمكن أن يفهموه هو المناظرة الخارجية بين نصين ظنا أن الديني مجرد‬ ‫إيديولوجي للعامة وأن العلم انعكاس للواقع على مرآة العقل المزعوم‪.‬‬‫وتلك هي السذاجة التي تحرر منها ابن تيمية وابن خلدون وحاول قبلهما الغزالي فلم‬ ‫يفلح رغم أنه مهد الطريق ووضع المفهوم الحد \"طور ما وراء العقل\"‪.‬‬‫وعلى هذا الأساس الواهي قلبا لفصلت ‪ 53‬وجرأة على آل عمران ‪ 7‬بنيت العلوم العملية‬ ‫(الفقه والتصوف) ومرجعيتهما التفسيرية للقرآن والسنة إيجابا وسلبا‪.‬‬‫فالفقه يدعي البناء الإيجابي على القرآن والسنة والتصوف سلبا بمقتضى المقابلة بين‬ ‫الرسوم والحقائق وبين الظاهر والباطن‪ :‬بالجرأة على آل عمران ‪.7‬‬ ‫كيف كان الفقه والتصوف يكونان لو طبقا فصلت ‪ 53‬ولم يجرآ على آل عمران ‪7‬؟‬ ‫فكلاهما يتعلقان بسلوك الإنسان فردا وجماعة مستعمرا ومستخلفا في الأرض‪.‬‬‫فالإنسان الفرد والجماعة كلاهما ذو كيان مضاعف‪ :‬طبيعي وخلقي إذ هو ذو قيام عضوي‬ ‫وروحي‪ .‬وكل فصل بين هذين البعدين من قيامه مناف لفصلت وآل عمران‪.‬‬‫ففصلت تجعل مناط الفقهي والصوفي وصورتهما القرآنية لا يعلمان من النص بل من كيانه‬ ‫العضوي‪-‬الروحي والاجتماعي السياسي معلومهما الشاهد دون غيبهما‪.‬‬‫واستنادا إلى ذلك اكتشف ابن خلدون علمه الجديد فسماه باعتبار هذين الوجهين‪:‬‬ ‫العمران البشري للحاجات المادية والاجتماع الإنساني للحاجات الروحية‪.‬‬‫ولهذه العلة كان علمه في آن مؤلفا من وجهين من الجماعة بحسب وجهين من الفرد‬ ‫والجماعة‪ :‬فهي مستعمرة في الأرض (عمران) ومستخلفة فيها (اجتماع)‪.‬‬ ‫‪27 19‬‬

‫فقابل بين العمران والاجتماع رتبتين في قيام الإنسان ووازاهما بالبشري والإنساني‪.‬‬ ‫ويغلب على الأول القانون الطبيعي وعلى الثاني القانون الخلقي‪.‬‬‫والأول يفهم بالآفاق (الطبيعة والتاريخ في الأعيان) والثاني بالأنفس (الطبيعة‬ ‫والتاريخ في الأذهان)‪ :‬انثروبولوجيا مشدودة إلى ما دونها وما فوقها‪.‬‬‫وما دونها القانون الطبيعي وما فوقها القانون الخلقي‪ :‬نظام العالم وشرع الله‪ .‬والفرد‬ ‫والجماعة في صلة كونية بهما دون وساطة سلطة روحية وسياسية‪.‬‬‫فالفرد يؤمن ويعمل صالحا والجماعة تتواصى بالحق وتتواصى بالصبر وكل الأنظمة‬ ‫الضرورية لذلك تنبع من الفرد والجماعة وجودا وعدما لأن الأمر أمرهما‪.‬‬‫وذلك هو مضمون الشورى ‪ :38‬فالأمر أمر الجماعة وهي تديره بالشورى‪ .‬والجماعة هي‬ ‫المستجيبة للرب والأمر حكم ذو وظيفة اجتماعية‪ :‬الإنفاق من الرزق‪.‬‬‫ووجوه الإنفاق تحدده الآية ‪ 177‬من البقرة ضمن الصوغ الاتم للعقيدة وتحديد منزلة‬ ‫الفروض الدينية العقدية والشرعية‪ :‬ليس البر‪ ...‬بل البر ‪...‬‬‫لكن ما حصل بسبب قلب فصلت والجرأة على آل عمران هو العكس تماما‪ :‬ضخمت‬ ‫العبادات وأهملت المعاملات وخاصة أصلها‪ :‬التحرير والتنوير بالتربية والحكم‪.‬‬‫وهذا هو أهم مشغل في المقدمة‪ :‬فالتربية والحكم المستبدين والفاسدين يفسدان معاني‬ ‫الإنسانية في الفرد والجماعة فتزول فائدة الفقه والتصوف أصلا‪.‬‬‫لن أطيل الكلام على العمل (الفقه والتصوف) فقد خصصت للفقه عدة محاولات لعل‬ ‫أهمها حواري مع الشيخ البوطي حول أزمة أصول الفقه وتعليقات لاحقة‪.‬‬‫كما لا أريد قول المزيد أكثر مما قلت في التصوف‪ .‬لكني اعتقد أنهما يحولان دون شروط‬ ‫الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها بعلم زائف يفسدهما‪.‬‬‫والمقدمة وشفاء السائل محاولتان خلدونيتان لعلاج ما حل بهما من فساد‪ .‬كما أن الغزالي‬ ‫بالإحياء حاول نقد الفقهاء بالتصوف فجمع بين المرضين‪.‬‬‫ذلك أن الكلام على إحياء علوم الدين عديم الفائدة إذا لم يقدم عليه علوم شرط‬ ‫الدين أي علوم الدنيا‪ :‬فهذه للاستعمار في الأرض وتلك للاستخلاف‪.‬‬ ‫‪27 20‬‬

‫والاستخلاف هو أن يكون الاستعمار مؤهلا للإنسان حتى يكون جديرا بأن يكون خليفة‬ ‫الله في الارض محققا لما كلف به بأخلاق القرآن‪ :‬فأين نحن من ذلك‪.‬‬‫فما غلب على الفقه هو ما جعله قابلا لتوظيف الدين خدمة لحاكم الأرض وتجاهلا لحاكم‬ ‫السماء بتحريف شرعه والتصوف بالتخدير الخرافي والخضوع للوسيط‪.‬‬ ‫‪27 21‬‬

‫بينا أن علوم الملة الأربعة زيفت بسبب تأصيلها المقلوب موجبا كان أو سالبا في القرآن‬ ‫والسنة‪ :‬أصول الفقه وأصول التصوف وأصول الكلام واصول الفلسفة‪.‬‬‫والتأصيل الموجب على الأقل في الأقوال هو ما يميز الفقه والكلام‪ .‬والتأسيس السالب في‬ ‫الأفعال هو ما يميز التصوف والفلسفة مقابلة بين ظاهر وباطن‪.‬‬‫أطنبت في شرح القصد بقلب دلالة فصلت ‪ 53‬والجرأة على آل عمران ‪ 7‬وبينت أن القلب‬ ‫تمثل في طلب حقيقة القرآن في نصه وليس في الآفاق والأنفس موضوعه‪.‬‬‫لذلك فبدلا من البحث في عالم الشهادة تجرأوا على آل عمران ‪ 7‬ليبحثوا في عالم الغيب‬ ‫المحجوب بدعوى الرسوخ في العلم مضاهاة للرب القادر في التأويل‪.‬‬‫ولا زلت عاجزا عن فهم هذه الجرأة ولم أجد لها تفسيرا غير العامل الابستيمولوجي‬ ‫المتمثل في نظرية المعرفة القائلة بالمطابقة وحصر الوجود في الإدراك‪.‬‬‫فأي عالم بالعربية يفهم أن الواو للاستئناف وليست للعطف‪ .‬وهبه تعسف فكيف يفهم‬ ‫حينها {يقُو ُلو َن آ َمنَّا ِب ِه ُك ّل ِمّنْ عِن ِد َربِّ َنا}؟‬‫أليس ذلك دليلا قاطعا على التسليم بالعجز عن التأويل الذي هو مقصور على الله دون‬ ‫سواه؟‬ ‫وكل محاولة لتأويل المتشابه دليل مرض قلب وابتغاء فتنة؟‬‫ولا يكفي أن أدعي ذلك بل فلأثبته بطبيعة علاقة هذه العلوم الزائفة بعضها بالبعض‬ ‫ثم بما نتج عنها من آثار مدمرة على الحضارة الإسلامية وما تزال‪.‬‬‫فبين الفقه والتصوف نشأت مقابلة بين الشريعة والحقيقة وبين القانون والأخلاق‪ .‬فصل‬ ‫الفقه عن الأخلاق والحقيقة‪ ،‬وفصل التصوف عن القانون والشريعة‪.‬‬‫والنتيجة الفساد المطلق في فلسفة العمل وبات الفقه للتحيل السياسي والتصوف للتحيل‬ ‫الروحي‪ :‬ونشأت كنسية برأسين لخدمة سلطان الاخلاد إلى الأرض‪.‬‬ ‫‪27 22‬‬

‫أصبحت السياسة خاضعة للقوى الطبيعية بإطلاق وأصبحت الأخلاق خاضعة للنفاق‬ ‫الصوفي الذي يستعبد الأرواح بدل تحريرها الذي من أجله جاء التذكير‪.‬‬‫يعلم الله أن قلبي يعتصر لكني لم أعد أستطيع السكوت عما توصلت إليه خلال شروعي‬ ‫في تفسير القرآن الكريم‪ :‬فهذا التحريف هو سلاح الثورة المضادة‪.‬‬‫فالفقه الذي يريده القرآن أساسه فلسفة سياسية لتحرير البشر في تعاملاتهم التي‬ ‫ينظمها قانون أساسه خلقي وعادل في نظام سياسي السلطان فيه للأمة‪.‬‬‫والزهد الذي يريده القرآن أساسه سياسة الذات بنفس هذه القيم في جماعة العناية‬ ‫بالشأن العام فيها فرض عين فيتطابق مع الفقه الذي يريده القرآن‪.‬‬‫وبدلا من أن يكون الفقه كما يريده القرآن تحول إلى منظومة الحيل التي تبرر الموجود‬ ‫وتغطي عن تناقضه مع المنشود القرآني حتى أصبح مشرعا للتغلب‪.‬‬‫والزهد بدلا من التحرر مما يستعبد الإنسان لئلا يخلد إلى الأرض صار تغييبا لفرض‬ ‫العين في رعاية الشأن العام وعبودية مطلقة لكنيسة الصوفية‪.‬‬‫ولم يكن ذلك في الحالتين مسألة إرادة أفراد أو سوء قصد منهم‪ -‬باستثناء الباطنية‪ -‬بل‬ ‫هو نتيجة حتمية وغير واعية بسبب القلب والجرأة المشار إليهما‪.‬‬‫فهذا التحريف مقصود في فكر الباطنية وهو لدى غيرهم من علماء الإسلام ثمرة عدوى‬ ‫الباطنية‪ :‬ولهذه العلة قاومت المدرسة النقدية بشدة هذا التحريف‪.‬‬‫يخطئ من يتصور مقاومة المدرسة النقدية للكلام والفلسفة والتصوف رفضا للعقل كما‬ ‫يزعم ادعياء الحداثة‪ :‬فهم يقاومون علوم الباطنية المزيفة للعلوم‪.‬‬‫وكلما اردت أن أشاهد مسرحيات هزلية قرأت لعلماني أو حداثي يتكلم على عقلانية‬ ‫الاعتزال والرشدية وعلى عمق التصوف وخاصة لدى أدعياء الشعر الحديث‪.‬‬‫فمن علل كتابتي للشعر المطلق والأعجاز القرآني‪ .‬فلا أحد من النظامين الجدد يفهم‬ ‫معنى الشعر الذي لم يعد قانون‪ :‬أجمل الشعر أكذبه بل أسماه أصدقه‪.‬‬‫ونفس ما وصفت في العلاقة التقابلية بين الفقه والتصوف ونتيجتها يصح على العلاقة‬ ‫التقابلية بين الكلام والفلسفة ونتيجتها لكن بين الإيمان والعلم‪.‬‬ ‫‪27 23‬‬

‫ما حصل بين القانون والأخلاق وبين الشريعة والحقيقة فأفسد الفلسفة العملية في‬ ‫حضارتنا‪ ،‬حصل بين العلم والإيمان فأفسد الفلسفة النظرية فيها كذلك‪.‬‬‫لم يبق الإيمان تجاوزا للعلم دون نفيه بل صار معارضا له ولم يبق العلم وعيا بحدوده لا‬ ‫يستقر إلا بالإيمان بسبب صراع المتكلم والفيلسوف في النظر‪.‬‬ ‫فتناظر الصراعان‪:‬‬ ‫‪ .1‬بين الفقيه والمتصوف فأفسد فلسفة العمل‪.‬‬‫‪ .2‬بين المتكلم والفيلسوف فأفسد فلسفة النظر والنتيجة فقدنا شروط القيام‬ ‫المستقل‪.‬‬‫ومن فقد شروط القيام المستقل لا يمكن أن يكون عابدا لربه بل هو يصبح عابدا للمتكم‬ ‫في شروط قيامه فيصير عبدا لعبد‪ :‬وهذا هو جوهر التحريف الديني‪.‬‬‫كل المسلمين اليوم أفرادا وجماعات عبيد لعباد وليسوا عبدة لله‪ :‬فمن تكون جماعته‬ ‫عاجزة عن حماية ذاتها ورعايتها يصبح عبدا لمن يحميه ويرعاه‪.‬‬‫والعلة أن الأمة بسبب هذه العلوم الزائفة أصبحت عديمة الفاعلية المشروطة في‬ ‫استعمارها في الأرض وأهلية الاستخلاف فيها‪ :‬دولها محميات بلا سيادة‪.‬‬‫فالسيادة نتيجة لفلسفة العمل وفلسفة النظر شرطين للفرد والجماعة القادرين على‬ ‫تعمير الأرض بقيم تؤهلها للاستخلاف الذي لا يستأهله إلا الأحرار‪.‬‬‫ولينظر القارئ من حوله وسيجد أن جل الفقهاء وكل المتصوفة وجل المتكلمين وكل‬ ‫الفلاسفة في لحظتنا هم مع الاستبداد والفساد بسبب علومهم الزائفة‪.‬‬‫لكن الأخطر هو أن هذه الظاهرة لا تقتصر على الحكام فحتى المعارضات يحكمها نفس‬ ‫الخاصية‪ :‬فأمراء الحرب كمعارضة باسم الإسلام يحكمهم الفقه الفاسد‪.‬‬‫والأنظمة والاستعمار يستعين بتصوف الزهد الفاسد‪ .‬والحداثيون باسم الفلسفة الفاسدة‬ ‫يحالفون الانظمة الفاسدة ومن يعارض منهم مثل أمراء الحرب‪.‬‬‫وإذن فالأمراض التي أصفها لا تتعلق بما مضى فحسب بل هي ماتزال سيدة الوضعية‬ ‫القانونية والخلقية والإيمانية والعلمية في مناخنا الروحي والثقافي‪.‬‬ ‫‪27 24‬‬

‫لذلك فما أكتبه ليس تاريخا للماضي فحسب بل هو تفسير لما يجري في الحاضر وخاصة في‬ ‫معركة التحرير والتحرر التي تخوضها الأمة دون تأسيس نظري واضح‪.‬‬‫هدفي مما أكتب في مسألة الإصلاح الديني هو التأسيس النظري لشروط الاستئناف الذي‬ ‫تستعيد فيه الأمة دورها الكوني طلبا للتحرير بعبادة رب العباد‪.‬‬‫والآن وصلت إلى غاية البحث‪ :‬ينبغي أن أشرح قصدي من تحديد طبيعة المشروع‬ ‫القرآني بكونه \"استراتيجية التوحيد\" ودور الرسول فيه \"بمنطق السياسة\"‪.‬‬‫فالتفسير (منذ ‪ 2002‬في ماليزيا) عنوانه \"استراتيجية القرآن التوحيدية ومنطق‬ ‫السياسة المحمدية\" واعتبرته فلسفيا لأنه بحث في نظام وليس شرحا لألفاظ‪.‬‬‫وما أقصده بمنطق السياسة المحمدية هو تحديد جامع مانع لمفهوم السنة النبوية‪ .‬لكني‬ ‫لن أستطيع شرح ذلك من دون بيان الحاجة لدراسة القانون لفهمه‪.‬‬‫كل خلاف حول دور السنة علته الجهل بفلسفة القانون‪ :‬فالسياسة هي التربية والحكم أو‬ ‫دور الوازعين الذاتي والاجنبي بلغة ابن خلدون وتلك هي السنة‪.‬‬‫وقد اضطررت لدراسة القانون سنتين كاملتين في باريس لفهم هذا الأمر‪ :‬منطق السياسة‬ ‫المحمدية هو العلاقة بين التربية والحكم في بناء دولة الأحرار‪.‬‬‫إنها عكس ما اعتبره ابن خلدون علة لفساد معاني الإنسانية‪ .‬منطق السياسة المحمدية‬ ‫هو إصلاح معاني الإنسانية في كل فرد وجماعة بشرية في العالم كله‪.‬‬‫فمحمد لم يكن مكلفا بتبليغ الرسالة الكونية فحسب (استراتيجية توحيد الإنسانية‬ ‫بمبدأي النساء‪ 1‬والحجرات‪ )13‬بل تكوين دولة عينة تطبقها‪ :‬مشروع الإسلام‪.‬‬‫فأولا لا يمكن أن يوجد تشريع مضاعف واحد لله والثاني للنبي بل يوجد درجات في نفس‬ ‫التشريع كما في القانون الوضعي في السياسة أي التربية والحكم‬‫فكل تشريع بعضه دستوري وبعضه قانوني والثاني تطبيقي للأول‪ .‬وهو بدروه يحتاج‬ ‫إلى أحكام تطبيقية وإلى إجراءات تنفيذية‪ .‬والأولان للقرآن دون سواه‪.‬‬‫والسنة للثانيين‪ :‬أحكام تطبيقية للقوانين التي تطبق الدستور القرآني وذلك في مستوى‬ ‫قوانين التطبيق وإجراءات التنفيذ وذلك في التربية والحكم‪.‬‬ ‫‪27 25‬‬

‫صحيح أن القانون الوضعي لا ينشغل بمسألة التربية ويكاد يقتصر على الحكم وهو‬ ‫يضمها إلى الحكم غافلا عن تجاوزها الوازع الأجنبي إلى الذاتي‪.‬‬‫وذلك من نتائج الفصل بين السياسي والروحي في الممارسة السياسية ورد ذلك إلى‬ ‫الممارسة الاجتماعية لجعلها من قضايا المجتمع المدني وجدلياته‪.‬‬‫المهم هو تحديد دور السنة‪ :‬هي سياسة تفصل أحكام الدستور القرآني والقوانين التي‬ ‫اشتقت منه في مجاليها المتعلق بالوازع الذاتي وبالوازع الأجنبي‪.‬‬‫وما يتعلق بالوازع الذاتي هو التربية وما يتعلق بالوازع الأجنبي هو الحكم وابن خلدون‬ ‫يسمي الثاني الأحكام السلطانية والأول الأحكام الشرعية‪.‬‬‫والمشكل المعرفي العقدي هو هذا السؤال‪ :‬هل الأحكام التطبيقية التي يسنها الرسول هي‬ ‫من الوحي الذي تلقاه الرسول أم من اجتهاده كمرب وحاكم؟‬‫والاشكال على أهميته لا يقلل من دور السنة‪ :‬فلا يمكن لأي عاقل مهما تجبر وتكبر أن‬ ‫يدعي أنه حتى في الاجتهاد السياسي تربية وحكما أفهم من الرسول‪.‬‬‫فمجرد القدرة على جمع عرب الجاهلية ‪-‬كما هم الآن‪-‬معجزة سياسية تربية وحكما‪.‬‬ ‫وبناء دولة كونية معجزة كونية ومن ثم فكل من يقلل من شأن السنة غبي‪.‬‬‫فالاجتهادات النبوية‪-‬تسليما جدليا بأنها ليست وحيا‪-‬لا ينبغي النظر إليها مضمونيا وفي‬ ‫أعيانها بل في نسبتها إلى ما عالجته من قضايا مطلقة الصلوحية‪.‬‬ ‫وأقصد الجواب عن السؤال التالي‪ :‬صفة سياسة الرسول كيف ربى وكيف حكم؟‬ ‫هل كانت تربيته وحكمه يستندان إلى الاستبداد والفساد على الفرد والجماعة؟‬‫وهذه السياسة هل صاغت الدستور بما يتفق مع قيم القرآن وأحكامه أم بخلاف ذلك‬ ‫(الصحيفة) وهل كان صحابته من عرق واحد أم ممثلين للإنسانية كلها؟‬‫بهذا ينحل مشكل الحديث‪ :‬القرآن هو الأصل والسنة هي تطبيقه في التربية والحكم‬ ‫وكل ما لا علاقة له بالأصل أو ما يعارضه ليس منه أو يؤول ليكون منه‪.‬‬‫عالجنا قضية القلب والجرأة‪ .‬ويبقى علينا تأصيل الفقه والزهد والكلام والفلسفة‬ ‫للوصل بين القانون والاخلاق والعلم والإيمان باستراتيجية القرآن‪.‬‬ ‫‪27 26‬‬

‫سنخصص له سلسلة أخرى من البحوث تحدد طبيعة قراءة القرآن بوصفه استراتيجية‬ ‫توحيد البشرية بالتوحيد الديني المطبق في التاريخ‪ :‬النساء ‪1‬والحجرات ‪.13‬‬‫إنه القصد بالشهادة على العالمين وشهادة الرسول علينا في تحقيقنا لهذه الاستراتيجية‬ ‫التوحيدية التي تحرر البشرية من الاستعمار المدمر بالمعمر‪.‬‬‫أنهيت الكلام على الإصلاح الديني الذي لا يحتاج إليه الإسلام بخلاف الأديان الأخرى‬ ‫لأنه هو إصلاحها وإن لم تدركه إلى الآن وبينت أدواءنا وعلاجها‪.‬‬ ‫‪27 27‬‬





‫‪02 01‬‬ ‫‪01‬‬ ‫‪02‬‬‫تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي‪ :‬محمد مراس المرزوقي‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook