الأسماء والبيان
1 مقدمة1 : علاقة الانسان بالطبيعة وعلاقته بالإنسان 1 تحرير التواصل والتبادل من الحكم المطلق 2 التبعية وعلاقتها بفساد بعدي العبادة 4 صراع الحق الالاهي والحق الطبيعي 4 عقم الابداع العملي والنظري6 : التبادل والتواصل بمنظور ابن خلدون 6 خاتمة 8
وصلنا الآن إلى الفصل الخامس والأخير في مسألة التواصل والتبادل ببعدي كل منهما في المستويين الدنيوي والمتعالي عليه حول تزييف العمل بعد النظر.ولأذكر أولا ببعدي التواصل وببعدي التبادل في المستوى الدنيوي وفيما يؤسسه من ورائيه بنفس البعدين قبل أن استنتج من تحريف النظر تحريف العمل.فالتبادل بين البشر مستوى ثان من التبادل بينهم وبين الطبيعة والتاريخ :فما تتقوم بهحياة البشر مستمد من الأرض ومما راكمه تاريخ العلاقة بها .ولما كان التبادل بين البشروالأرض مقتضيا تقسيم العمل فإن التبادل يصبح مشروطا بالتبادل بين البشر لتحصيل ثمرة عمل التبادل بينهم وبين الأرض.إنهما البعدان العمليان من علاقة الإنسان بالإنسان بوصفهما مستوى ثانيا من علاقته بالأرض التي يستمد منها مقومات حياته العضوية وشروط بقائه :بضائع وخدمات.وهذا التبادل موضوعه ثمرة الإنتاج المادي أو الاقتصاد .وإذن فهو مؤلف من بعدين متعامدين بين الإنسان والطبيعة ثم بينه وبين الإنسان.والتبادل بهذين المعنيين يتراكم في المستوى الفعلي والعملي مـمارسة غفلة ثم يصبح مادةتوثيق بالذاكرة دون كتابة أولا ثم بالكتابة فينتج التعليم القولي .وتلك هي مستوياتالتواصل ببعدين متعامدين متعلقين بشروط القيام وبقاء الحياة :التواصل بين البشر حول التبادل ببعديه .وحينئذ ينتج مستواهما الثاني. 81
والتبادل والتواصل ببعديهما المتعامدين يتضاعفان بطلب ما ورائها أعني قوانين التبادلبين البشر وبينهم وبين الطبيعة :وتلك هي بداية الإنتاج الرمزي حول الإنتاج المادي أولا ثم حول ذاته ثانيا وتلكي هي بداية التنظير.فأصل الإنتاج الرمزي (الثقافة) هو سد حاجات الإنتاج المادي (الاقتصاد) الذي ينمةبفضل تجاوز تبادل المقايضة للتبادل بوسيط رمزي لتعليم الممارسة وتيسير المبادلة :العملة والكلمة.فالعملة حل يحرر الإنسان من المقايضة في التبادل الذي يصبح ذا وسيط رمزي والكلمةحل يحرر الإنسان من الممارسة في التواصل الذي يصبح ذا وسيط رمزي .والأول هو فعل الرمز أساس الجماعة والثاني رمز الفعل أساس الدولة.ويعد رمز الفعل أساس الدولة لأنه يقتضي سلطة تضمن نفاذ العملة بفضل أدائهالوظيفتي الحكم في التعاون لسد الحاجات .إنها تضمن قيمة العملة وتحمي شروط التعاوض العادل.وضمان قيمة العملة مشروط بمعايير التقويم الذي على أساسه يكون التعاوض في التبادلوتتعين هذه المعايير خاصة في المكاييل والموازين والعقود والالتزامات وكلها لا تقوم من دون سلطة تحميها وتضمن صحتها.وهو ما يعني أن الدولة هي بالأساس منظومة المؤسسات القانونية التي تحمي التبادلبعدالة التعاوض وذلك هو جوهر القانون المدني مع قوانين حرمة الذوات ومنهما ينتجالقانون الجزائي والجنائي بين الأفراد والجماعات ثم بينهم وبين السلط السياسية وأخيرا القانون الدولي.ولئلا يكون المكلف بوظائف الدولة الحكم قاضيا ومتقاضيا في آن فلا بد ألا يكون القانونالمدني والجنائي من وضعه بل لابد من يكون فوق الدولة متعالية عن ارادة البشر وهواهمإما بمدلول ديني (شرائع دينية أساسها العقد الإيماني) أو بمدلول طبيعي (شرائع وضعية أساسها العقد العلمي). 82
وبذلك فالسيادة تكون للجماعة التي تستمد سلطتها التشريعية إما من عقدها أو من وضعها :الحقوق والواجبات الدينية أو الحقوق والواجبات الطبيعية.والمصدران لا يتصادمان إلا بانحراف المفهومين .فالطبيعي ينحرف بإطلاق وهمي لعالمالشهادة ودعوى علمه المطابق له بإطلاق .والديني ينحرف بإطلاق وهمي لعالم الغيب ودعوى علمه.وقد عالجت الرسالة الخاتمة هذه القضية بأن حررت التواصل والتبادل من الحكم المطلقلإخراج السرائر عن حكم البشر واكتفت فيهما بحكم العقل النسبي .فـميز الإسلام بينبعده السياسي وبعده الديني بالمبدأ القائل \"نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر\" وتحريف العمل يتعلق بالخلط بين نوعي الحكم.وكما تركت العلوم الزائفة عالم الشهادة واهتمت بعالم الغيب والأعمال الزائفة تركتالحكم بالظاهر وتولت السرائر :سبب الفتنة والعقم الإبداعي .فالحكم على السرائر علةكل الفتن فمن يحكم يجعل السياسة دينا وطلب الغيب علة العقم الإبداعي لأن من يطلبه يطلق معرفته فيجعل العلم إيديولوجيا.وهذان التحريفان لا يقتصران على المنتسبين إلى الفكر الديني بل إن المنتسبين الىالفكر الفلسفي يقعون فيهما :فتزييف العلم والعمل مشترك بينهما .ذلك أن إطلاق العلموالعمل من عيوب نظرية المعرفة ونظرية العمل اللتين يطابق أصحابهما بين الإدراكوالوجود سواء كان الإدراك عقليا أو دينيا .في هذا المضمار كان الدين متقدما على الفلسفة:فالدين-أو على الأقل الإسلام-جعل الغيب بعدا مقوما للشهادة ومن ثم فالإدراك لايستوعب كل الوجود .ولم تصل الفلسفة إلى هذه الحقيقة إلا مؤخرا عندما شكك بعض الفلاسفة في شفافية الوجود وقدرات العقل ولم يبق إلا القليل منهم قائلها بالمطابقة.وحديثا أصبح هذا الموقف مفروغا منه بفضل كنط لكن ابن تيمية وابن خلدون وقبلهماالغزالي شككوا في نظرية المطابقة نافين رد الوجود إلى الإدراك .العلوم الزائفة علتها 83
قلب فصلت .53فبدلا من البحث العلمي في عالم الشهادة (الآفاق والانفس) اكتفى أصحابها بتأول آيات القرآن رجما بالغيب.والأعمال الزائفة إضافة كونها ثمرة العلوم الزائفة (العقم الإبداعي) فقد أدت إلىالحكم على السرائر (فتن التواصل والتبادل) فزيف بعدا العبادة .بعدا العبادة هما تحقيقشروط الاستعمار في الأرض المحرر من العبودية لغير الله وشروط الاستخلاف فيها المحرر من الوحشية :الفساد فيها وسفك الدماء.والنتيجة أن الأمة عندما تنحط تصبح عابدة لمن حقق الاستعمار في الارض ومتوحشةفيما بينها :فيسيطر عليها الاستبداد والفساد وتخريب البلاد والعباد .ويكون وصفها القرآن نقيض شروط الاستثناء من الخسر في العصر:تفقد الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر فتفسد معانيالإنسانية .وعندئذ يفسد بعدا المتعامدان التبادل وبعدا التواصل المتعامدان بمستواهما الأول في عالم الشهادة والثاني في عالم الغيب :فتسود الوثنية والخرافة.وهذه هي الحال التي نكصت إليها الامة فانحطت :وأصبح القرآن كتاب تبرير الموجود وليس استراتيجية تحقيق المنشود وفقد المسلمون ثورتي الإسلام.لم يعد الإسلام لديهم تحريرا روحيا من سلطة الوسطاء بين المؤمن وربه بل قلدت السنةالشيعة وتجاوزتها فأصبحت ذات كنسية وإن غير صريحة مثلها .فالكنسية الشيعية صريحةوهي واحدة-المرجعية الشيعية-لكن الكنسية السنية غير صريحة وهي مزدوجة للتنافس عليها بين الفقهاء والمتصوفة بتأسيس كلامي.فالمعركة النظرية عند السنة بين المتكلمين والفلاسفة حول الإيمان والعلم والمعركةالعملية عندها بين الفقهاء والمتصوفة حول القانون والأخلاق .وما كانت المعركتان توجدانلولا تحريف علم التفسير الذي لم يبق قراءة للقرآن في ضوء فصلت 53بل في ضوء عكسها أي الرجم بالغيب بدل علم الشاهد. 84
قضوا على الحرية الروحية أو العلاقة المباشرة بين المؤمن وربه بإعادة الكنسيةالبيزنطية والفارسية فأصبح الحكم بالحق الإلهي أو بالحق الطبيعي .ورغم أن القول بالحقالإلهي ليس صريحا عند السنة إلا في الخطاب الصوفي فإن الحكم بالحق الطبيعي (شرعية المتغلب) معلوم عند غالب فقهاء السنة.ففقد المسلمون سنتهم خفية ما فقدته الشيعة صراحة وأصبحت السياسة إسلامية بالاسملكنها كسروية وقيصرية بالفعل في الدولتين الأموية والعباسية .وخرافة الحاكمية الإلهيةبشكليها الباكستاني والاخواني ليست عودة إلى حكم الراشدين بل هي نكوص صريح إلى كنسية صريحة ظنا أن الإمام علي يمثله.وفي الحقيقة فإن الخلاف بين معاوية وعلي لم يكن خلافا بين الراشدين وغير الراشدينبل مدلوله يكمن في ملجئهما :بين مهربين مناذري وغساسني .فلا أحد منهما حائز على شرعية انتخابية.لم تكن شرعية الحكم كما حددها الإسلام (الشورى )38علة الخلاف بل صراع الحقالإلهي والحق الطبيعي .وكلا المبدئين :الحق الإلهي في الحكم (درجة القرابة) أو الحق الطبيعي في الحكم (قوة العصبية) ليسا من الإسلام في شيء وينافيان دلالة الشورى .38لذلك فتصحيح سيد قطب وخرافة الإرشاد في النظرية الاخوانية مما يتنافى مع نظريةالإسلام في علاقة السياسي بالديني لإعادتهما الكنسية المنافية لها .وتلك هي ذروة العملالزائف مثلما أن الكنسية في الكلام والفلسفة والفقه والتصوف وتحريف التفسير أدت إلى الكنسية في النظر :لكل فرقة عقيدة خاصة .فأصبحت الامة تعيش حربين: .1نظرية بين أمراء الكلام الفلسفة. .2وعملية بين أمراء الفقه والتصوف.لم تخمد الفتنة الكبرى بين الحقين الإلهي والطبيعي .واجتمع الزعمان في صنفي الانظمة العربية: فالأنظمة القبلية تحكم ضمنا بالحق الإلهي. والأنظمة العسكرية تحكم صراحة بالحق الطبيعي: 85
كلاهما يحكم بالتغلب الصريح أو الضمني .والحكم بالتغلب سواء ادعى أصحابه الحقالإلهي أو الحق الطبيعي لا يكون إلا حكم استبداد وفساد فينتج عنه بمصطلح ابن خلدون فساد معاني الإنسانية. وتلك علة الأمراض الأربعة أصلها جميعا: اثنان بسبب عقم الإبداع النظري علما وأدبا. واثنان بسبب عقم الإبداع العملي اقتصادا وثقافة.تزييف العلم والعمل .فعقم الإبداع العلمي والادبي يحول دون التبادل بين البشر ثمبينهم وبين الطبيعة في المستوى الدنيوي وما بعد الدنيوي سواء كان روحيا أو عقليا.والتبادل والتواصل المابعدي علميا وأدبيا هما جوهر الدين والفلسفة لانهما فيما دونه يكونان علميين وادبيين لسد الحاجات المادية والروحية.وقد خصص ابن خلدون الباب السادس من مقدمته لهذين الوجهين :التبادل والتواصلبتوسط الإبداع العلمي والأدبي وطرق تنميتهما وتنمية الإنسان بهما .وفي هذا الإطار جاءدرسه للعلوم والأعمال الزائفة التي حالت دون الأمة وتحقيق شروط الاستعمار في الأرض (العمران) والاستخلاف فيها (والاجتماع).أحصى ابن خلدون التبادل المباشر بين البشر والطبيعة فحصرها في الجني والرعيوالزراعة والصناعة وفيما بينهم في التجارة أنماط عيش وأنظمة عمران .ثم وسط بينالتبادل مع الطبيعة والتبادل بين البشر المباشرين التبادل غير المباشر بعلوم الطبيعة وأنظمة التآنس بين البشر وأبرزها الأدب والتاريخ.واعتبر التربية تنمية للوسائط الثقافة والتقنية بين البشر والطبيعة والوسائط القانونيةوالأدبية بينهم والمستوى الأول عمران والثاني اجتماع .لكن ذلك كله وصله بالمحددين اللذين وصفهما في الباب الاول: العامل الطبيعي والمناخي المحدد لشروط العيش. 86
والعمل الثقافي والروحي المحدد لمعانيه.فيكون ابن خلدون مدركا عميق الإدراك للتواصل والتبادل ببعدي كل منهما وبمستوييالبعدين في العقل والدين فتجاوز بذلك العلم والعمل لزائفين .وقد توصل إلى قانونين:حدد اساس كل تبادل أو القيمة بكمية العمل ودور التواصل والتبادل وشرطهما :فعل الرمز وأساسه الأدب ورمز الفعل وأساسه العلم.-1والأدب هو ذروة التواصل بفعل الرمز بين البشر في الوجود الشاهد والدين في الوجود الغائب :وقد جعله ابن خلدون غاية المقدمة وبه أنهى بحث التواصل.-2والعلم هو غاية التواصل برمز الفعل بين البشر في الوجود الشاهد والوجود الغائب وبه شرطا لتحقيق شروط الاستعمار في الارض والاستخلاف فيها.والأدب والعلم غايتين للمقدمة يشترطان تربية وحكما يحرران الإنسان من العبوديةنتيجة العلم والعمل المحرفين فيحولان دون فساد معاني الإنسانية .وهكذا نكون قد وفينابما وعدنا في الكلام على التواصل والتبادل وأثبتنا ثورية المدرسة النقدية بزعمائها الثلاثة-الغزالي وابن تيمية وابن خلدون.والمدرسة النقدية العربية أضافت إلى التواصل ببعديه المتعامدين والتبادل ببعديهالمتعامدين في عالم الشهادة ما يضفي عليهما المعنى بما ورائهما .وهذا الماوراء هو مجالالإيمان أيا كان اسلوب الكلام عليه دينيا أو فلسفيا .ومشكل أشباه الأصوليين والحداثيين توهمهما المقابلة بين الأسلوبين.فمن لم يسلم بوجود الطبائع والشرائع وبقدرة العقل على ابداع نماذج تقربه من فهمهماوالتعامل معهما تواصلا وتبادلا لا يصل إلى علم أو فلسفة .وهذا الموقف المؤسس للفكرالفلسفي والعلمي موقف إيماني حتما ذلك أن ما يتسلمه من جنس الأمر الواقع الذي يتلقاه ولا يمكنه الانطلاق إلا منه.وهو إذن تسليم بنقلي متقدم على العقلي :واقعة الموضوع وواقعة ادراكه لا دليل عقليعليها عدا كونها واقعة معطاة إن لم نتسلمها امتنعت المعرفة .والعكس صحيح :فالمعطى 87
الإيماني وحده عاجز إذ إن ما يبنى على النقلي منه ليس نقليا بل هو ما يستنتج من النقلي بالعقل ثمرة العلم بقوانين المعطى.وتصور المعطى تراكمي وهو مادة التواصل بين البشر شرطا في التبادل مع الطبيعة منخلال العلم بقوانينها لاستثمار ثرواتها لوجود للإنسان في المكان .فالحضارة ثمرة لمدةالزمان في امتداد المكان بالتواصل والتبادل أي بالإنتاج الرمزي (الثقافة) والانتاج المادي (الاقتصاد) ثمرة الكلمة والعملة.ومن ثم فالفاعلية الرمزية التي يتميز بها الإنسان هي اساس الفاعلية المادية التييشترك فيها مع غيره من الحيوان :بوهم يتجاوز عالم الشهادة .وهذا التجاوز يكون دائما دينيا وفلسفيا ولا يمكن الاستغناء عن أي منهما: -1الفلسفي من الشهادة إلى الغيب -2والديني من الغيب إلى الشهادة.لكن كلا الانطلاقين يصدران عن التسليم بواقعتين تسليما إيمانيا لا يمكن الانطلاق من دونه :فواقعة الوجود والإدراك كلتاهما معطاة للعلم والفهم.الفلسفة بعد عناد طويل انتهت إلى أن تفسير العلم يقتضي قبله تأويل الفهم والدينبعد عناد طويل أن تأويل الفهم يقتضي تفسر العلم .هما متلازمان .ولغز هذا التلازم سركل إبداع أدبي :لا معنى له من دون هذا التلازم بين التفسير العلمي والتأويل الروحي لأسرار الوجود الإنساني طلبا للمعاني .فنعود بذلك إلى ما سميناه المعادلة الوجودية:ذلك أن لغز الألغاز في المعاني التي تفهمنا الوجود الإنساني هي علاقة القطبين بفهمآيات الوسيطين .فالقطبان هما الإنسان والله لا يلتقيان مباشرة إلا في المستوى الثاني منالتواصل والتبادل لما يطلب الإنسان ما وراء الطبيعة والتاريخ رياضيا وخلقيا .وهذا اللقاء المباشر على هذا النحو هو جوهر القرآن الكريم وغاية تدبره. 88
02 01 01 02
Search
Read the Text Version
- 1 - 16
Pages: