Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore فلسفة الدين بين جدل المتكلمين ووجدان المؤمنين – أبو يعرب المرزوقي

فلسفة الدين بين جدل المتكلمين ووجدان المؤمنين – أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2018-06-14 09:58:33

Description: فلسفة الدين بين جدل المتكلمين ووجدان المؤمنين – أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫الأسماء والبيان‬





‫المحتويات ‪2‬‬‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثاني ‪6 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثالث ‪11 -‬‬‫‪ -‬الفصل الرابع ‪16 -‬‬‫‪ -‬الفصل الخامس ‪21 -‬‬

‫‪--‬‬‫علق أحد الأصدقاء على ما أكتبه في الدين عامة والإسلام خاصة والقرآن بصورة أخص‬‫متسائلا‪ :‬كيف توفق بين موقفك السلبي من علم الكلام وما تكتبه حسب رأيي منه دون‬‫شك‪ .‬فأمدني بفرصة بيان الفرق بين ما اكتبه وعلم الكلام الذي اعترف بأني اعتبر ما‬ ‫عرفنا منه ضرره أكثر من نفعه‪.‬‬‫ولأبدأ بما يجعلني أقف هذا الموقف السلبي من علم الكلام‪ .‬ولست الوحيد‪ :‬لم أعرف‬‫فيلسوفا واحدا من فلاسفتنا كان موقفه منه إيجابيا إذ حتى استثناء الفارابي في كلامه على‬‫وظيفتيه المكملة للعقائد والشرائع بعد غياب واضعهما والمدافعة عن وضعه فهي تحطه إلى‬ ‫منزلة الإيديولوجيا بلغتنا الحديثة‪.‬‬‫وهذا الدفاع الوحيد عن علم الكلام بين فلاسفة الإسلام هو بالذات أول دوافعي‬‫لرفضه‪ .‬فبخلاف جل من يتكلم في الدين لا اعتقد أن العقل هو الذي يؤسس الدين بل‬‫الدين هو الذي يؤسس العقل‪ :‬فأول أساس للعقل هو الإيمان بأن الإنسان عاقل وبأنه مقوم‬ ‫كلي للإنسان وهذا دليل على أن العقل لا يؤسس ذاته‪.‬‬‫فلو اعتمدنا على ما نراه من الإنسان في واقع أمره لنثبت أنه عاقل وأن العقل مقوم كلي‬‫للإنسان من حيث أنه إنسان لكنا من أسخف العقول‪ :‬فما يعم الإنسانية في واقع أمرها أنها‬‫غير عاقلة بل مجنونة تعمل كل ما تستطيع لتفسد وتسفك الدماء وتخرب العالم من أجل‬ ‫نزوات جنونية‪.‬‬‫وبهذا المعنى فالعقل ببعديه المعرفي والخلقي مثال أعلى ديني وليس حقيقة علمية يمكن‬‫الانطلاق منها لإثبات الإيمان بهذا المثال الاعلى‪ .‬وهو في واقع الحاصل منه يمكن أن ينقلب‬‫على ذاته فيكون أداة تهديم بمجرد ان يتصور ذاته قادرة على المعرفة بإطلاق بأخلاق تحد‬ ‫من إخلاد المعتمد عليه إلى الارض‪.‬‬‫والقرآن لا يستعمل كلمة العقل حتى بالصيغة المصدرية فضلا عن الجوهر الذي يشار‬‫إليه بالاسم عقل بل يكتفي بالمشتقات الفعلية ويعتبره قدرة فهم ما يتلقى عن طريق اللسان‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ولذلك يربط بين الرسالات وألسنة الاقوام المخاطبة بها وهو إذن مفهوم أعم ومعناه‬ ‫\"البيان\" بثا وتلقيا‪.‬‬‫العقلانية بمعناها الساذج هي القائل أصحابها بنظرية المعرفة المطابقة والتي سخر منها‬‫ابن خلدون وقبله ابن تيمية وقبلهما الغزالي‪ .‬فالغزالي وضع حدا لهذا الوهم بنظرية‬‫طور ما وراء العقل وابن تيمية وضع حدا له بنظرية لا تناهي تجويد التصورات وابن‬ ‫خلدون صاغه متهكما بوهم رد الوجود إلى الإدراك‪.‬‬‫وهبنا سلمنا أن العقل يدرك الحقائق بصورة تغنيه عما يتجاوزه فهو في هذه الحالة توق‬‫لا يتناهى نحو تجاوز ما يسمونه حقائق أعني العالم الطبيعي والعالم التاريخي‪ :‬فما في‬‫الإنسان من اشرئباب يعبر عن وعي \"مقدس\" يعتبر العالم كله غير كاف لطموحه الوجودي‬ ‫نحو كمال ليس له وجود في العالم‪.‬‬‫ولهذه العلة فأي إنسان حي الوجدان لا يمكن أن يخلد إلى الارض حتى لو حاز كل ثروات‬‫العالم وأمجاده بل هو دائما مشدود إلى عدم الاكتفاء بسجنيه‪ :‬بدنه والعالم‪ .‬ولولا‬‫التكليف بمهمة التعمير والاستخلاف لكانت الدنيا بحق أقل من جناح بعوضة‪ :‬فقيمة الدنيا‬ ‫ومعناها مستمدة مما يتعالى عليها فيها‪.‬‬‫وما يتعالى عليها فيها هو بالذات الإنسان في التصور القرآني على الأقل إذ هو عين ما‬‫وراء الدنيا في الدنيا أو الجسر الواصل بينها وبين كل ما يتعالى عليها وهو معنى الاستخلاف‬‫قرآنيا‪ .‬وبهذه الصفة اعتبر أهلا للخلافة لأنه مسم ومبين‪ .‬وهما إن تسامحنا مع الفلسفة‬ ‫وظيفات العقل وليس له غيرهما‪.‬‬‫قد صدق مخيال التسمية الألماني عندما اعتبر العقلانية ‪ Rationalisme‬بالاصطلاح‬‫الفرنسي عقيدة العقل ‪ Der vernunftglaube‬بالاصطلاح الالماني‪ .‬والمحاسبي قدم‬‫الوظيفة الخلقية فعلا على الوظيفة المعرفية انفعالا‪ :‬تنظيم الإنسان لسلوكه وفهم الإنسان‬ ‫لنظام التاريخ والطبيعة هما معنى العقل دينيا‪.‬‬‫وفهم نظام الطبيعة والتاريخ لا يمكن أن يستمد من الاستقراء لأن ما يغلب عما ندركه‬‫منهما ليس النظام والعقل بل الفوضى واللاعقل‪ :‬ومن ثم فما نطلبه من نظام وعقل من‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الطبيعة والتاريخ أساسه إيمان بما وراء ما يغلب على الظاهر منهما ومن ثم فهو من ثمرات‬ ‫الاشرئباب للتعالي عليهما شرطا لعلمهما‪.‬‬‫وهذا هو التعليل الفلسفي الذي يجعلني أرفض علم الكلام‪ :‬الدين غني عن التعليل‬‫العقلي لان في ذلك قلبا للعلاقة بينهما‪ .‬الدين يؤسس العقل عند الجميع المتعلم وغير المتعلم‬‫‪-‬الشعور بالنظام والغائية والحكمة شعور ديني متقدم على العقل الصناعي وتنظيم تقدم‬ ‫اللغة الطبيعية على اللغة الصناعية‪.‬‬‫وهو أمر يبدو لي طبيعيا‪ :‬فلو كانت الإنسانية محتاجة إلى ظهور المنطق حتى تنظم حياتها‬‫وتؤسس حضاراتها لاستحال على البشرية أن تبدأ وجودها التاريخي‪ .‬وإذن فما يقوم به‬‫المتكلم يجعل الشعور الديني بواجب التنظيم والوعي بالنظام مصنوعا وليس مطبوعا‪.‬‬ ‫العقل المصنوع أداة تالية عن العقل المطبوع‪.‬‬‫والعقل المصنوع من جنس أدوات الإدراك الحسي التي تقوي قدرتها على الرؤية والسمع‬‫مثل المجاهر وأدوات الرصد في الفلك‪ .‬المنطق والرياضيات مثلا مبدعات صناعية لا تختلف‬‫عن الأدوات التي هي ترجمتها كالحال في أدوات الرؤية في علاقتها بالبصريات والتنصت‬ ‫بالسمعيات إلخ‪..‬‬‫وبهذا المعنى فالدين يمكن أن يدرس بالعقل الصناعي من حيث ظاهرة في العالم الشاهد‬‫وليس من حيث ما يتسلمه من عالم غيبي لأن ما يستلمه أو يأمر بتسلمه ليس مما يقبل‬‫الإدراك الحسي ولا العقلي الصناعي إذ هو أساسهما‪ :‬كون الإنسان مبين ومتبين لا تفسير‬ ‫له عدا تفسير دورما فيه بدنه من وظائف عضوية‪.‬‬‫لا أحد يستطيع أن يفسر معنى \"أنا الآن واع بشيء وبوعيي بذاتي من حيث مدركة لذلك‬‫الشيء\"‪ :‬هذه واقعة أعيشها وقد أصلها ببعض خلايا المخ كما أصل وظائف الحاسوب بخلايا‬‫ذاكرته لكني لا أستطيع تجاوز هذه المقارنة البائسة بيني وبين الحاسوب بل أزدادا يقينا‬ ‫باستحالة تفسير واقعتي‪.‬‬‫ولا يعني ذلك أني أرفض مثل هذه المقارنات بين عمل الإدراك الإنساني تبيينا وتبينا‬‫وعمل الحاسوب فهذا يساعد التقدم التقني في تجويد وظائف الحاسوب لكني لا أخاف من‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫يوم يصبح فيه الحاسوب مثل الإنسان مبدعا للحواسيب التي لم يتوقعها الإنسان قبله‬ ‫ويكلفه بها‪ .‬وتوهمه كتوهم الإنسان خالقا لنفسه‪.‬‬‫لكن الحجج الأهم التي تجعلني أرفض الكلام هو ما يستند إليه دعواه الدفاع عن الدين‬‫بالحجج العقلية والوصول إلى تحديد العقائد الصحيحة‪ .‬فهذا نفاق مطلق‪ .‬ذلك أن من‬‫يؤمن بأن القرآن كلام الله لا يمكن أن يدعي أنه أقدر على صوغ العقائد أفضل من‬ ‫القرآن‪ .‬وحتى لو اقتصر على تعليهما بأوضح منها‪.‬‬‫ففي ذلك دعوتان تثبتان النفاق‪ :‬فأن يحاول ذلك من ليس بمؤمن بالإسلام قد أفهم‪.‬‬‫لكن من يدعي أنه مؤمن به ويريد أن يقدم ما هو أبلغ من القرآن صوغا وأوضح من تعليم‬‫الرسول (السنة) تعليما لا يمكن ألا يكون غير صادق في أحد وجهي دعواه‪ :‬الانطلاق من‬ ‫الإيمان والدفاع بالعقل‪ .‬لا يمكن الجمع بينهما‪.‬‬‫والجمع بينهما لا يتجاوز فنون الدعوة والتبشير بالنسبة إلى من أتصوره حسن النية في‬‫استعمال الحجاج للإقناع وليس للعلم‪ .‬وهذا هو الفرق بين الكلام وبين ما أحاول القيام به‪:‬‬‫فتعاملي مع القرآن من جنس تعاملي مع أي موجود في الأعيان أبحث عن نظامه وقوانينه‬ ‫كما تتجلى فيه ولا اغيره ببديل منه‪.‬‬‫نسبة العقائد الكلامية بالقياس إلى العقائد الواردة في القرآن لو تصرف الفيزيائي مع‬‫الطبيعة تصرفه مع القرآن لكان الفيزيائي يحاول اعتبار نظرياته بدائل من مجرى‬‫الطبيعة نفسه وليس علما بها ولصرنا الطبيعة التي صنعها الفيزيائي لا الطبيعة التي‬ ‫درسها‪ .‬عقائد الكلام بدائل من عقائد القرآن‪.‬‬‫ومن ثم فالكلام فلسفة منافقة‪ .‬فالقول بعلمية الكلام ضميره الاستغناء عن الحاجة إلى‬‫الوحي‪ .‬فإذا كان الغيب قابلا للقيس على الشهادة ‪-‬حتى لو تحايلوا فسموه غائبا لا غيبا‬‫والفرق بين لان الغيب يمكن يصيح شاهدا لكن الغيب بمقتضى حده لا يكون من الشاهد في‬ ‫الدنيا‪-‬لم نعد بحاجة إلى الأنبياء‪.‬‬‫وما يعجب له المرء هو سخافات القائلين بالاعتزال الجديدة وبالرشدية الجديدة بدعوى‬‫العقلانية والحداثة‪ :‬فلا ابن رشد حديث ولا المعتزلة عقلانية‪ .‬كلاهما متخلف حتى على‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫أرسطو فضلا عن الإسلام والفكر الحديث‪ .‬فأرسطو لم يقل أبدا إن الميتافيزيقا علم‪.‬‬ ‫وعقلانية المطابقة الساذجة لا تتطابق مع الإسلام‪.‬‬‫فالعقلانية الساذجة تقول بالمطابقة ما يعني أن الإنسان يعلم الأشياء على ما هي عليه‬‫علما محيطا وهو مستحيل التصور إسلاميا وحتى فلسفيا‪ .‬فالفلسفة تقدمت لما تحررت من‬‫هذا الوهم وأدركت أن علمنا نسبي إلى أبعد الحدود وأن ما للفكر الإنساني من فاعلية‬ ‫سرها الوعي بهذه النسبية شرطا في تقدمه‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ما معنى \"بين جدل المتكلمين ووجدان المؤمنين\"؟‬ ‫هل هذا يعني أني أنفي إيمان المتكلمين؟‬‫أبدا‪ :‬لست فقيها لكي أتكلم في عقائد الناس وأقاضيهم‪ .‬أحاول فهم الفرق بين موقفين‬‫من الدين‪ :‬كتجربة وجدانية كونية كل تجارب الإنسان الأخرى فروع منها واعتباره مجرد‬ ‫فرع من تجربة معرفية تعلو عليه‪.‬‬‫والقصد من التجربة الوجدانية الكونية أصلا لكل تجارب الإنسان الاخرى يجعل المعرفة‬‫نفسها فرعا منها وليست أساسا لها‪ :‬إنها من التجربة الوجدانية الكونية التي هي جوهر‬‫العلاقة المباشرة بين الإنسان ومثاله الأعلى أو الله في ما سماه القرآن الميثاق ليكون الإنسان‬ ‫صلة المتناهي باللامتناهي‪.‬‬‫والكلام بدلا من أن ينير هذه العلاقة عمى عليها فحال دون الإنسان وفهم الدين ليعيش‬‫التجربة الوجدانية ليدرك وظيفة الجسر بين العالمين‪ .‬وهذه التعمية هي جوهر مآل الكلام‬‫إلى تصوف وحدة الوجود كما في فلسفة هيجل ودراسته أدلة وجود الله بوصفها اثبات الروح‬ ‫لذاته مردودا إلى المسيح رمز الإنسان‪.‬‬‫والنتيجة التي تتراءى في كل محاولات الكلام هي دهرية الميتافيزيقا الفلسفية مسقطة‬‫بوعي أو بغير وعي على روحانية ما بعد الاخلاق الدينية‪ .‬وأهمية فلسفة هيجل وماركس‬‫وصلتهما بوحدة الوجود المسيحية سواء كانت صريحة كما عند هيجل أو ضمنية كما عند‬ ‫ماركس تتمثل في تنكر الدهرية في الإنسانوية‪.‬‬‫فهيجل في خاتمة دروسه في فلسفة الدين يختم فلسفته كما بدأها في فينومينولوجيا الروح‬‫بدهرنة الروحي واعتباره متعينا في أرواح الشعوب التي هي مراحل توعي الروح الإنساني‬‫بذاته جمعا بين كيانه الموضوعي في الاعيان وكيانه الذاتي في الأذهان ليتطابق الذهني‬ ‫والعيني تطابقا بين العقل والواقع‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وذلك هو جوهر وحدة الوجود التي نقلها هيجل من كونها وحدة متجوهرة الذاتية من‬‫أعراضها أو من أحوالها بلغة سبينوزا إلى كونها متذوتة الموضوعي منها هو عينا الذاتي‬‫والذاتي هو عين الموضوعي في ما يسميه التجاوز الجدلي للمقابلة بين الذاتي والموضوعي‬ ‫ومن ثم يزول الفرق بين العالم وما ورائه‪.‬‬‫ولا يختلف هذا الموقف في شيء عن موقف ابن عربي الذي يعبر عنه بلغة رمزية في إحدى‬‫رسائله بالقول إن العالم هو عين الله‪ .‬وطبعا فهو لا يقصد عضو البصر بل كونه عينا بمعنى‬‫أن الله متعين وحال في العام وليس ليه وجود مفارق للعالم وأن ما يجري في الطبيعة‬ ‫والتاريخ لا فرق فيه بين موجود ومنشود‪.‬‬‫ذلك هو معنى وحدة الوجود التي تنتهي إلى أن ما في الإنسان من اشرئباب لما يتعالى على‬‫العالم من خيالات الإنسان وأن \"الواقع\" ‪-‬وثن الحداثيين العرب خاصة‪-‬مجانس للضرورة‬‫الطبيعية وليس فيه إلا صراع القوى التي تصبح من ثم عين إرادة الله ولا مفر من العمل‬ ‫بمقتضاها فيتساوى الكل وتزول القيم أصلا‪.‬‬‫وطبعا فهذا أيضا دين لكنه دين العجل الذهبي ذي الخوار‪ :‬سلطان المال وسلطان‬‫إيديولوجيا القوة‪ .‬وقد بينت في سابق البحوث أن سلطان المال يتعين في رمز الفعل أو العملة‬‫وسلطان الإيديولوجيا يتعين في فعل الرمز أو الكلمة‪ .‬الدهرية هي دين العجل الذهبي‬ ‫ذي الخوار الذي يستعبد البشر بالعملة والكلمة‪.‬‬‫وسلطان العملة يمثل سلطان القوة الاقتصادية (سيطرة على شروط سد حاجات الإنسانية‬‫المادية غذاء وعلاجا ورفاهية مادية) وسلطان الكلمة يمثل سلطان القوة الثقافية (سيطرة‬‫على شروط سد حاجات الإنسان الروحية علوما وفنونا وإعلاما)‪ :‬وهذا كاف لمن يقتصر على‬ ‫وجود لا يتجاوز الإخلاد إلى الارض‪.‬‬‫ولذلك كان تأويل المدرستين اللتين ورثتا فلسفة هيجل متمثلا في اعتبار الأديان من إنتاج‬‫الإنسان المستكمل لما يشعر به من نقص في ذاته بما يبدعه من أوهام وأولها الله نفسه‬‫باعتباره صورة كاملة عما \"يتمنى\" الإنسان أن يكون روحيا (في اليمين) وماديا (في اليسار)‬ ‫الهيجليين‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وفي الحقيقة فما يسيمه بعضهم بعلم الكلام الجديد ليس إلا نسخة باهتة من هذين‬‫الموقفين الوارثين لفلسفة هيجل مقصورا على سطحيات ترجماتها في علم الكلام المسيحي‬‫الموجب (الوجودية المؤمنة) والسالب (الوجودية الملحدة)‪ .‬وهنا أيضا الكلام جديده‬ ‫كقديمه نسخة منحطة من فلسفة عصره‪.‬‬‫لذلك فالأفضل الاكتفاء بالفلسفة وبنظرياتها في الربوبية سواء المستدلة على وجود الرب‬‫بالحاجة إلى محرك العالم الطبيعي والمنظم له(الفلسفة الوسيطة ما قبلها)أو الفلسفة‬‫الحديثة المستدلة على وجوده بالحاجة إلى مشرع العالم التاريخي والمنظم له(الفلسفة‬ ‫الحديثة وما بعدها) بدل التجربة الروحية‪.‬‬‫وهذه المقابلة ينطلق منها القرآن ليعتبر الدهرية نفسها بحاجة إلى تجاوز العالم الطبيعي‬‫والتاريخي إلى ما يتعالى عليه حتى وإن توهمته من جنسه وحالا فيه سواء كان النفس‬‫الكلية أو العقل الكلي أو أي مبدأ نظام لكأنه مقصور على الامر دون الخلق‪ :‬الفرق‬ ‫الجوهري بين ما بعد الطبيعة ومابعد الأخلاق‪.‬‬‫وهذا الفرق جوهري‪ :‬لأن الإيمان بأن الله خالق وآمر يعني أن ما بعد الطبيعة ومابعد‬‫التاريخ لا يمكن أن يفسرا بقوانينهما وسننهما وكأنهما غير مخلوقين لإرادة وعلم وقدرة‬‫وحياة ووجود كلها معبرة عن خيارات حرة تجعلها على ما هي عليه وليست سابقة الوجود‬ ‫عن تدخل محرك يحركها أو مشروع ينظمها‪.‬‬‫فمدار الأمر كله ثنائية المادة والصورة التي فرضت على الفكر الإنساني بمنطق‬‫الهيلومورفية إما للتشكيل الوجودي بالمحرك الغاية (أرسطو) أو بالإله الصانع (أفلاطون)‬‫أو بالعقل الكلي أو بالنفس الكلية أو بالإله الشارع (ديكارت) أو بالإله المحايث غائية‬ ‫روحية (يمين هيجل) أو مادية (يسار هيجل)‪.‬‬‫وبذلك يتبين أن ما يسمى بأدلة وجود الله هي في الحقيقة أدلة نفي وجوده‪ :‬فإذا قسنا‬‫دور الله في الوجود بدور القوى الطبيعية أو التاريخية فلكأننا قلنا إننا لا حاجة لما يتجاوز‬‫نوعي التعليل الناتجين عن قياس الله على الإنسان أو على الطبيعة‪ .‬ولا معنى لما لا تتميز‬ ‫فاعليته عن فاعلية نعلمها‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫فبمجرد قيس فاعليته على فاعلية الطبيعة أو الإنسان استغنينا عنه أو كان اللجوء إليه‬‫أمرا نافلا يمكن الاستغناء عنه‪ .‬لو كنا قادرين على تفسير الوجود بفاعلية الطبيعة أو‬‫بفاعلية الإنسان لكان الكلام على فاعلية متعالية عليهما من لغو الكلام‪ .‬الخلق والامر لغزان‬ ‫وجوديان كالحياة والموت‪.‬‬‫وبهذا المعنى فهيجل محق‪ :‬أدلة وجود الله تثبت سعي الروح الإنساني إلى اثبات ذاته‪.‬‬‫لكنه غير محق في تمجيد أدلة وجود الله‪ .‬فهذا السعي ينتهي إلى أن الله كروح لا قيام له‬‫إلا في روح الإنسان‪ .‬فيكون الإنسان هو علة القيام الإلهي وليس العكس‪ .‬تلك هي علة‬ ‫رفضي للأدلة فقصاراها ما قاله هيجل‪.‬‬‫كل الفلسفة الغربية بعد هيجل علم كلام مسيحي متنكر وخاصة ما بعد الحداثي منها‪:‬‬‫لذلك فالفلسفة تحولت إلى مدارس كلامية أبعد ما تكون عن العلم والإيمان بل هي صارت‬‫‪-‬على مثال نيتشة‪-‬لا تؤمن بغير الكذب النافع معتبرة الحقيقة من أوهام الإنسان ولا وجود‬ ‫إلا للرؤى المناظيرية‪Perspectivisme:‬‬‫صحيح أني أقول بالبرسباكتيفيسم في المعرفة لكني أعدلها بالإيمان‪ :‬أومن بوجود الحقيقة‬‫والخير والجمال والجلال والمتعال بوصفها مثل عليا ذات وجود حقيقي لكن الإنسان لا يحيط‬‫بها علما وإن كان وجوده مشروطا بالإيمان بها وذلك هو القصد بالتجربة الوجدانية جوهرا‬ ‫للدين في القرآن على الاقل‪.‬‬‫والقرآن نفسه يقول بالمناظرية التي بهذا المعنى ويعتبرها شرط التسابق في الخيرات‪:‬‬‫المثل في التجربة الوجدانية حقائق إيمانية وليست معرفية وهي غاية التسابق المناظيري‬‫بين مدارك البشر‪ .‬ولذلك فكل نفس لها طريق في هذا الاشرئباب للسعي نحو المثال وهو‬ ‫مجال الاجتهاد والجهاد‪.‬‬‫فالعلم المطابق الوحيد هو علم الله المحيط‪ .‬وكل علم إنساني مناظيري بالطبع بمعنى أنه‬‫نوع من حظ في ذوق الوجود يحدد درجات التجربة الوجدانية التي تكلمت عليها والتي هي‬‫في آن لطف إلهي واجتهاد وجهاد إنساني بهما يقدر إيمانه وتحقيقه للأمانة تعميرا للأرض‬ ‫اختبارا لأهليته الاستخلافية‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وهذا هو معنى السرائر التي لا يعلمها إلا الله والقول بها هو الذي يحد من طغيان‬‫الوسطاء على حرية الإنسان الروحية وطغيان الاوصياء على حريته السياسية‪ :‬وتلك هي‬‫علة الارجاء القرآن للفصل بين أهل الملل والنحل في ما يختلفون فيه ما جعل دولة الإسلام‬ ‫توجب على المسلمين حماية كل الأديان‪.‬‬‫فلا توجد إلا آيتان في القرآن تحلان الجهاد الهجومي (الطلب) هما دفع الناس بعضهم‬‫ببعض لمنع العدوان على المستضعفين ودفعهم لمنع العدوان على الأديان‪ .‬أما باقي الدعوات‬‫للجهاد فهي للدفع وليس للطلب‪ .‬فتكون حماية المستضعفين والأديان من جهاد الدفع الكوني‬ ‫بكونية الإسلام وليس الطلب‪.‬‬‫وجهاد الدفع الكوني جنيس حق التدخل في القانون الدولي الحديث‪ :‬يجب على دولة‬‫الإسلام أن تحول دون اضطهاد المستضعفين ودون منع حرية العبادة (رمزا إليها بصوامع‬‫وبيع ومساجد) حتى خارج حدودها لأن ذلك من مقومات عبادة الله وتحرير البشر من‬ ‫عبادة العباد والله أعلم‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وطبعا عندما أقول كل الفلسفة الغربية بعد هيجل علم كلام مسيحي متنكر فليس القصد‬‫بـ\"مسيحي\" دين المسيح عليه السلام‪ .‬فالقرآن صريح في تبرئته من تأليهه {مَا َكا َن لِ َبشَ ٍر‬‫َأنْ يُؤْتِيَ ُه اللَّ ُه الْكِ َتا َب وَالْ ُح ْك َم وَال ُنَّ ُب َّو َة ثُمَّ َي ُقو َل لِلنَّاسِ ُكو ُنوا عِبَا ًدا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ َو ٰلَكِ ْن‬ ‫ُكو ُنوا رَبَّانِ َِّيي َن بِ َما كُ ْنتُمْ تُعَ َِّلمُونَ الْ ِك َتا َب َو ِب َما كُ ْن ُتمْ َت ْدرُ ُسو َن}‪.‬‬‫وإذن فالقصد علم كلام الذي حرف المسيحية ليؤسس الوساطة روحيا والوصاية سياسيا‬‫وهو لا يختلف كثيرا عن علم الكلام الإسلامي في ذلك وفي المآل الصريح أو الضمني لتصوف‬‫وحدة الوجود كما بينت في الكلام على علوم الملة‪ .‬وهذا التنكر لا يستثنى منه حتى رافضو‬ ‫الهيجلية مثل كيركجراد وماركس ونيتشة وهيدجر‪.‬‬‫وليس بالصدفة أن عرف هيدجر الحداثة بعناصر خمسة كان أهمها ما سماه \"تمسيح‬‫العالم\" في بحثه العالم من حيث هو صورة ‪ Die Welt als Bild‬بمعنى يجعل الإنسان‬‫ترجمان الوجود والناطق باسمه تعينا مناسبا لدلالة ‪ Dasein‬ليس بمعناها العام‬ ‫‪ Existence‬مقابل ‪ Essence‬بل بما يناظر \"المسيح\" في الهيجلية‪.‬‬‫فيكون مدار الكلام في هذه الحالة هو منزلة الإنسان وعلاقته بالله أو بالمطلق الذي‬‫يتعالى بمفارقة العالم ولا يتصور حالا فيه ولا في الإنسان وكلا الحلولين تابع لرؤية وحدة‬‫الوجود ولإطلاق نظرية المعرفة المطابقة فلا يوجد ما هناك وراء ما هنا بلغة هيجل‪ :‬محايثة‬ ‫المثال لـ\"الواقع\"‪.‬‬‫ولن اعجب إذا عجب بعض الفلاسفة العرب من قراءة الفلسفة دينيا بدلا من قراءة‬‫الدين فلسفيا‪ .‬في الحقيقة كلاهما مدخل للثاني‪ .‬وعندي أن الأعم ‪-‬الدين‪-‬أولى بأن‬‫يكون مدخلا لقراءة الاخص ‪-‬الفلسفة‪-‬خاصة وهي بتطورها الذاتي آلت إلى هذا المنظور‬ ‫الذي صار صريحا عند هيجل خاصة‪.‬‬‫وليس صحيحا أن نيتشه هو قائل إن \"الله قد مات\" بل اول القائلين بها هو هيجل في فلسفة‬‫التاريخ وفي فلسفة الدين‪ .‬قالها تعبيرا عن يأس الصليبيين بعد هزيمتهم والتسليم بأن‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫المسيح قد مات لما عادوا خائبين ليخلدوا إلى الارض‪ .‬وقالها بدلالة نفي ما وراء العالم‪:‬‬ ‫هذا ‪ Diesseit‬ليس له ‪.Jenseit‬‬‫وكل عالم نيتشة الذي لا فرق فيه بين واقع وخيال والذي هو مجال الإنسان المتأله المبدع‬‫مثل دودة القز لنسيج خياله وأكاذيبه النافعة معتبرا ذلك فلسفة ضديد المسيح لم يخرج‬‫من الفهم الهيجلي \"للواقع\" الذي فقد وجهه الثاني ولم يبق منه إلا الهنا بعد فقده الهناك‬ ‫سجنا تحيث فيه كل المتعاليات‪.‬‬‫وحينئذ لن يوجد فرق بين التعمير والتهديم فكلاهما يولد نفس المتعة متعة الإرادة التي‬‫تريد نفسها في لعبة الشعوب باللامعنى في الوجود‪ .‬وكل ما اعتبر ثورة على الكنيسة‬‫(الوساطة) وعلى الدولة (الوصاية) وطد لسلطانهما المافياوي دين عجل حديث بمعدنه‬ ‫وخواره‪ :‬ايديولوجيا الإخلاد إلى الأرض كدودها‪.‬‬‫ما يمدحه هيجل يقدح فيه نيتشة لكن الموقفين وجهان لعلمة واحدة‪ :‬سجن الإنسان في‬‫الهنا مجال المعقول متلازم مع الهروب منه إلى ميثولوجيا اللامعقول بل وإلى وصف معقول‬‫الأول عين هامش لامعقول الثاني فيكون المعقول اليائس من الهناك اللامكان الخيالي‬ ‫ليتوبيا الابسورد في الوجوديات الملحدة‪.‬‬‫وهو \"النيجاتيف\" من الدين الذي يبدو ثورة عليه وهو في الحقيقة ما لا علاج له غير‬‫الدين بمجرد أن يتخلى الإنسان عن تأليه ذاته وادعاء أن الله مجرد \"مخلوق\" لخيال‬‫الإنسان الذي هو الروح الوحيد وما عداه من خياله تماما كما يقول تصوف الوحدة المطلقة‬ ‫كما عرفه ابن خلدون في المقدمة وشفاء السائل‪.‬‬‫وما كان ذلك يكون كذلك لولا إطلاق نظرية المعرفة المطابقة التي توهم الإنسان بأن له‬‫علما محيطا يجعله يرد الوجود إلى الإدراك فلا يشك في شكه ما يعتبره تصورات عامية‬‫(الدين) في حين أنه أصل كل ما يمكن أن يدور في خلد الإنسان بما في ذلك نفي الدين‬ ‫بإطلاق ما يسميه واقعا حصرا في الدنيوي‪.‬‬‫ومن قارن شرح ابن القيم لمنازل السائرين للهروي ردا على شرح التلمساني يدرك الفرق‬‫بين الرؤيتين للعلاقة بين الربوبي والإنساني والمناوسة بين الردين اللذين يرفضهما‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الإسلام‪ :‬فالتلمساني قولا بالوحدة المطلقة يجعل الهروي قائلا بها وابن القيم يثبت العكس‬ ‫تمييزا بين الذاتين الآلهة والمألوهة‪.‬‬‫وقد أبدع ابن تيمية في الرد على ابن عربي وخاصة في شرح \"وما رميت إذ رميت ولكن‬‫الله رمى\" ليحرر الفرق بين الوحدتين الشهودية والوجودية ومن ثم ليبين حقيقة المنزلة‬‫التي يوليها الإسلام للإنسان والتي مهما كانت رفيعة لا تصل إلى ما وصل إليه تحريف‬ ‫المسيحية الذي آل إلى النقيض‪.‬‬‫فالعولمة تبدو وكأنها قد كرمت الإنسان بأن جعلته سيدا مطلقا ليس له ‪-‬كما يقول هيجل‪-‬‬‫ماهناك ومكتفيا بما هنا لكنها في الحقيقة هي سحقه وجعله عبدا لآليات عمياء فاقدة كل‬‫معنى إذ صار مثله مثل أي حيوان آخر خاضعا لمنطق الانتخاب الطبيعي والصراع فصار أداة‬ ‫وأصبح غاية ما كان ينبغي أن يكونها‪.‬‬‫العولمة هي دين العجل الذهبي الذي يحكم العالم بتوسط الولايات المتحدة وإسرائيل ‪:‬‬‫كنيسته هي شركات الإنتاج التخديري أو ثقافة اللهو بمعنى باسكال في خدمة ميثولوجيا‬‫التوراة ودولته هي مافيات البنوك التي تمتص دماء الجوهيم لخدمة أجندات خفية هي عين‬ ‫إيديولوجيا الشعب المختار‪.‬‬‫ولذلك فليس من الصدفة أن يصبح رهانها لاستكمال سلطانها هو تغيير كل الرؤى‬‫الإسلامية التي باتوا يرونها ضديدا لهم وشرطا في تحقيق حلم حكم العالم كله شرقه‬‫وغربه ليس بالحرب على الإسلام وحدها بل وكذلك بالسيطرة على داره محلا لشروط هذه‬ ‫السيطرة المادية ثروة ومكانا والروحية تراثا وزمانا‪.‬‬‫وكل المشكل بالنسبة إلي هو هل المسلمون قادرون على رفع التحدي ليكونوا بحق شاهدين‬‫على العالمين ليس بمجرد الرفض ورد الفعل بل بتقديم البديل السليم الذي أساسه النساء‬‫‪( 1‬الأخوة البشرة) والمساواة بين البشر حصرا للمفاضلة في التقوى (الحجرات ‪ )13‬بديلا‬ ‫من الإنسوية الكاذبة؟‬‫أم إن كاريكاتور التحديث الذي بغفلة أو بخبث يروح للإنسوية الكاذبة وكاريكاتور‬‫التأصيل الذي لا يمثل الإسلام كما يحدد نفسه في مرجعياته بل انقلابين حصلا عليه جعل‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الامة تعاني من الاستبداد والفساد اللذين أفسدا معاني الإنسانية بسلب حريتي الإنسان‬ ‫الروحية والسياسية‪.‬‬‫دافعي الأساسي في هذه المحاولة هو فهم الشروط الضرورية والكافية لتمكين شباب الأمة‬‫الثائر بجنسيه من تجاوز الحرب النفسية عليه لئلا ينجر وراء كاريكاتور التحديث‬‫ومليشيات القلم الحداثي المزعوم أو وراء كاريكاتور التأصيل ومليشيات أمراء الحرب‬ ‫ويشرع في استئناف ثورتي الإسلام بحق‪.‬‬‫فلسنا وحدنا من يحتاج إلى الاستئناف الإسلامي‪ .‬إنه فرصة الإنسانية كلها حتى تتحرر‬‫من دين العجل وإيديولوجية الشعب المختار وتأسيس شروط الاخوة البشرية (النساء ‪)1‬‬‫والمساواة التي لا تعترف بفروق العرق والطبقة والجنس للتعارف بدل التناكر ولا تفاضل‬ ‫فيها إلا بالتقوى‪.‬‬‫ولست غافلا على أن هذه المعاني تستعمل في شكل شعارات لنقائضها بإطلاق‪ :‬ذلك أن‬‫ايديولوجية العولمة والحداثة تبدو قائلة بنفس هذه القيم‪ .‬لكن سادة العولمة بكنائسهم‬‫الجديدة (الإنتاج الثقافي التبليهي) وبقوة مافياتها وارهابها يستعملونها براقع لجبروت‬ ‫أسلحة الدمار الشامل لفرض إرادتهم‪.‬‬‫وما يسمونه قانونا دوليا هو في الحقيقة قناع يخفي ما تفرضه الدول التي لا تحتكم إلا‬‫إلى القوة في إدارة العالم كله بما يتنافى تماما مع العدل والحق‪ .‬ولسنا وحدنا الذين نعيش‬‫هذه التحريفات التي مسماها مناقض لاسمها كلما تعلق الامر بتطبيق القانون لغير صالح‬ ‫هذه القوى في تقاسمها للعالم‪.‬‬‫ونحن امة الإسلام أكثر شعوب العالم معاناة لعلتين‪ :‬أولا لأننا بأحيازنا الخمسة نمثل قلب‬‫العالم مكانا وزمانا وشرطا ماديا وشرطا روحيا يجعل سادة العالم يعتبرون استئنافنا لدورنا‬‫عائقا لبقائهم سادة العالم ولذلك فتفتيت مكاننا وتشتيت زماننا يضعفنا ماديا وروحيا فييسر‬ ‫سيطرتهم على العالم‪.‬‬‫والعلة الثانية هي أن الإسلام دين عزة وكرامة للمسلمين وللإنسانية عامة ما يجعل‬‫أصحاب العجل يعتبرونه مسفها لرؤاهم ومحررا للإنسان من الوسطاء روحيا بشكليهما‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الكنسيين القديم والحديث ومن الأوصياء سياسيا بشكليهما القديم (الحق الإلهي في الحكم‬ ‫بالدين) والحديث (الحق الطبيعي في الحكم بالقوة)‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لو كنت من القائلين بفلسفة الخصوصيات لكان كلامي على مآل الفلسفة الغربية بعد هيجل‬‫منتسبا إلى المواقف الدفاعية التي تحاول أن تنفي الفضل عن غيرنا وتعيده إلينا بالأقوال‬‫وهي ابلغ طريقة لإثبات أننا لسنا كذلك بالأفعال‪ .‬فعندي أن الفكر الفلسفي إذا كان بحق‬ ‫فكرا فهو كوني مثل الدين في الواجب‪.‬‬‫وأقول في الواجب لأن الأمر الواقع تغلب عليه الخصوصيات الثقافية التي لم يع أصحابها‬‫أنها بالنسبة إلى الفكر مجرد أساليب تعين الكلي في الجزئي‪ .‬لذلك فلا يوجد بين الجماعات‬‫البشرية فروق كيفية إلا في الأساليب عبارة غفلة عن ذوق الوجود لكن الحقائق التي يطلبها‬ ‫الفكر واحدة واختلاف إدراكها كمي‪.‬‬‫تمايز الحضارات لا يختلف عن تمايز مراحل الحضارة الواحدة في مسار نضوجها لأن كل‬‫حضارة في الحقيقة متفاعلة مع مساوقاتها ووارثة لما تقدم عليها وموروثة مما يليها وذلك‬‫في علاجها للعلاقتين الأفقية (علاقة البشر بعضهم بالبعض) والعمودية (علاقة البشر‬ ‫بأحياز وجودهم وخاصة الطبيعة)‪.‬‬‫وعلى كل فهذه رؤية الإسلام كما يتحدد في مرجعيتيه القرآن والسنة بوجهي قولهما في‬‫تاريخ البشرية الروحي والسياسي نقدا للتجارب السابقة وبدائل للتجارب المقبلة‪ .‬ولهذه‬‫العلة فالقرآن لا يتكلم على الخصوصيات إلا بهذا لامعنى التاريخي لا البينوي‪ :‬بمعنى أن‬ ‫تعدد الإنسانية هو مراحل تاريخ نضوجها‪.‬‬‫وعندي إذن أن نسبة هيجل إلى بداية غروب المرحلة الحديثة (التي هي مرحلة سلطان‬‫أوروبا على العالم) لا تختلف كثيرا عن نسبة ابن خلدون إلى بداية غروب المرحلة‬‫الوسيطة (التي هي مرحلة سلطان المسلمين على العالم) وصوغ رؤية جديدة للعالم تجاوزت‬ ‫مرحلة الرؤية الثيولوجية إلى الرؤية الانثروبولوجية‪.‬‬‫فالرجلان جعلا بؤرة عملها تحديد طبيعة العلاقة بين الله والإنسان في الرؤى الذهنية‬‫وفي الوقائع العينية جمعا بين فلسفة الدين وفلسفة التاريخ وقراءة لمرجعيات الإنسانية‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الروحية‪ .‬كلاهما نقل الكلام والفلسفة من ما بعد الطبيعة وما بعد التاريخ إليهما وخاصة‬ ‫إلى ما دونهما في أحداثهما الفعلية‪.‬‬‫لكن لا أحد منهما ينطلق من الخصوصية بدليل اسم المقدمة عند ابن خلدون \"علم‬‫العمران البشري والاجتماع الإنساني\" الكونية ذكرت مرتين‪ :‬بشري وإنساني برؤية مبنية‬‫على علاقة الإنسان بالطبيعة لسد الحاجات المادية وبالتاريخ لسد الحاجات الروحية وبما‬ ‫بعدهما النظري والعملي والأصل هوما بعد الأخلاق‪.‬‬‫ونفس الامر يقال عن هيجل‪ :‬ففلسفة الدين كونية وفلسفة التاريخ كونية وكلتاهما مبنية‬‫على النظر وفلسفة الطبيعة والعلم وفلسفة الحضارة والأصل عنده يجمع بين ما بعد‬‫الطبيعة وما بعد الأخلاق ويمكن أن نسميه مابعد المنطق (الجدل)‪.‬وهو ما يعلل انطلاقي‬ ‫من هيجل للكلام على الإنسانية ونحن منها في ما ولاه‪.‬‬‫وقصدي أن رؤية هيجل أكمل واكثر جدوى تفسيرية لوضعنا الراهن رغم أنه لا ينتسب‬‫مباشرة لحضارتنا مثل ابن خلدون‪ .‬فرؤيته ثمرة مرحلة من تاريخ الإنسانية لم نسهم فيها‬‫لا في مستوى الأذهان ولا في مستوى الأعيان إلَّا منفعلين بعد محاولة ابن خلدون تجاوز ثقافة‬ ‫الكلام التي جعلتنا منفعلين بالانقلابين‪.‬‬‫درست الانقلابين بما يكفي فتكلمت على ما نتج عنهما من فساد نظام التربية ونظام الحكم‬‫(الانقلاب السياسي على الدستور القرآني) وخاصة من فساد النظر والعمل (الانقلاب‬‫المعرفي على الدستور القرآني) وآن أوان الكلام في منزلتنا ومنزلة أوروبا منطلق كلا‬ ‫المفكرين من بداية فلسفة دورهما الكوني‪.‬‬‫وهذا لا يعني أن اميل إلى رؤية هيجل وأفضلها على رؤية ابن خلدون لذواتنا‪ .‬لكن‬‫هيجل يدرجنا في فلسفته بمحاولة قراءة رؤيتنا للدين والتاريخ وهو الامر المعدوم في فكر‬‫ابن خلدون إذا ما استثنينا إشارة واحدة لشروع أوروبا في النهضة العلمية وتردي وضع‬ ‫العلوم في الحضارة الإسلامية في عصره‪.‬‬‫ولست غافلا عن كون كاريكاتور التأصيل سيعجب من الجمع بيننا وبين أوروبا بسبب‬‫تخريف أصحابه حول الحروب الصليبية التي يفهمون بها لحظتنا الراهنة عجب كاريكاتور‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫التأصيل منه بسبب تخريف أصحابه حول القطيعة بين الحداثة (الغرب عامة) والعصور‬ ‫الوسطى (المسلمون عامة)‪.‬‬‫لكن اللحظة الراهنة واحدة بالنسبة إلينا وإلى أوروبا‪ :‬كلانا تابع فقد دوره الكوني‪.‬‬‫فما سميته محميات عربية ‪-‬وأهله يتصورونه دولا‪-‬لا تبعد عنه دول أوروبا وخاصة بعد‬‫الحرب العالمية الثانية‪ :‬أوروبا فقدت امبراطورياتها وصارت محميات فيها مثلنا قواعد‬ ‫للعملاقين بدعوى كل منهما حمايتها من الثاني‪.‬‬‫فمن يصدق أن اسبانيا والبرتغال وبلجيكا وهولاندا يمكن أن تصبحا من جديد‬ ‫امبراطوريات؟‬‫وهل يوجد من يحمل محمل الجد محاولات فرنسا استعادة مستعمراتها الافريقية بأكاذيب‬ ‫التعاون من طراطير تنصبهم لحماية ما بقي لها من مصالح في خاماتها؟‬ ‫أمريكا والصين سيفقدان أوروبا دورها العالمي نهائيا‪.‬‬‫تبعية أوروبا الفعلية ‪-‬السياسية والعسكرية وخاصة شروط القوة المادية‬‫والاستراتيجية‪-‬لا تختلف إلا بالكم عن تبعيتنا ولعلنا أقل تبعية في مستويات جوهرية هي‬‫ما به نختلف عن أوروبا ديموغرافيا وإمكانات الأرض والموقع الجغرافي (الطاقة والممرات‬ ‫والنمو الديموغرافي وتسارع التدارك العلمي والتقني)‪.‬‬‫وعدم أخذ هذه الحقائق في الاعتبار هو السر في غباء أصحاب كاريكاتور التحديث‪:‬‬‫يتكلمون على عدو لم يعد موجودا خدمة للعدو الموجود الذي يريد أن يقنع أوروبا أن‬‫الخطر عليهم منا وليس منه‪ .‬ما يهدد أوروبا هو ما يهددنا نحن كذلك‪ :‬امريكا وإسرائيل‬ ‫أو المسيحية الصهيونية استراتيجيا وروسيا تكتيكيا‪.‬‬‫ومن يبالغ في التركيز على العداوة بين الإسلام وأوروبا هو اليمين الأوروبي وأغبياؤنا‬‫الذين أفسدوا شروط المستقبل بطرق العلاج الماضية دون فهم للحظة التاريخية الكونية‬‫والمصير المشترك لما يحيط بالأبيض المتوسط الذي هو قلب حضارتي العالم منذ ثلاثة آلاف‬ ‫سنة فقد تنقرضان بانقراض المشترك بينهما‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫عدو هذه الحضارة المشترك أخطر مما بينهما من عداوة ماضية‪ :‬وهذا العدو لا علاقة‬‫له لا بالمسيحية ولا بالإسلام ولا يمكن أن يسمى عدوانه حربا صليبية فهو مغول الغرب الذي‬‫يستعد لمنافسة امريكا ومغول الشرق الذي يستعد لمقاومته وأدواتهما إيران وإسرائيل‪:‬‬ ‫والرهان تبعيتنا نحن وأوروبا‪.‬‬‫ويوجد سؤال تكاد كل الشفاه أن تنبس به‪ :‬ما علاقة هذا بالكلام على \"فلسفة الدين بين‬ ‫جدل المتكلمين ووجدان المؤمنين\"؟‬‫العلاقة هي عين العلاقة بين ما انطلق منه ابن خلدون وما انطلق منه هيجل‪ :‬فما انطلق‬ ‫منه ابن خلدون إخراج للفكر من الانقلابين اللذين أفقدا المسلمين دورهم الكوني‪.‬‬‫فكانت محاولته استعادة شروط الدور‪ :‬أعاد فكر الامة ‪-‬على الاقل كمشروع لم ينجز من‬‫بعده‪-‬إلى أمر فصلت ‪ 53‬وحررها بنهي آل عمران ‪ 7‬ليعيد للتربية والحكم بعدي السياسة‬‫دورهما المصلح لما وصفه بـ\"فساد معاني الإنسانية\" الذي اصاب نظر الامة وعملها في علاقتيها‬ ‫العمودية والافقية‪.‬‬‫وما انطلق منه هيجل أصاب فكر الغرب بالانقلابين المقابلين‪ :‬فحصره ما يتعالى على‬‫الدنيا في الوهم ظنا ان العقل هو الواقع وأن الواقع هو العقل أدى إلى ضياع دور أوروبا‬‫الكوني فترجمت ثروتها الدينية والفلسفية والعلمية والسياسية إلى التاريخ الطبيعي في‬ ‫الرؤيتين الرأسمالية والاشتراكية‪.‬‬‫ابن خلدون اكتشف سر انحطاط الأمة واقترح حلا لاستئناف دورها‪ :‬والسر هو الانقلابان‬‫على الدستور المعرفي نظريا وعمليا والدستور السياسي تربية وحكما ففقدت الأمة سلطانها‬‫على التعمير وتوهمت أنه يمكن أن يكون الإنسان أهلا للاستخلاف بالعبادات دون معاملات‬ ‫العلاقتين الأفقية والعمودية‪.‬‬‫وكان حل ابن خلدون اعادة تحديد منزلة الإنسان الوجودية فركز على مفهوم‬‫الاستخلاف في النظر والعمل والتربية والحكم وفي العلاقة العمودية لتسخير الطبيعة‬‫والأفقية لتحقيق الثورتين الروحية والسياسية بمعنى أنه في الحقيقة استمد فلسفة التاريخ‬ ‫من فلسفة الدين قراءة ثورية لمرجعيات الإسلام‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وهيجل عمل العكس تماما‪ :‬أي إنه توهم أن الإسلام خرج من التاريخ (فلسفة التاريخ‬‫الجزء الرابع العالم الجرماني)وأن المسيحية التي هي حضارة أوروبا الإنسانوية ستسيطر‬‫على العالم‪ .‬لكن بعدي فلسته أنهيا سلطان الحداثة والمسيحية بتحريف فكرها‪ :‬الديني‬ ‫صار مسيحية صهيونية والفلسفي مشاعية بدائية‪.‬‬‫فكان مآل الإصلاح الديني والروحي الأوروبي إلى رد الدين إلى خرافات التوراة وآل‬‫الإصلاح الفلسفي العلمي الأوروبي إلى رد العلم إلى خرافات صراع الآلهة الميثولوجي‬‫ولكن في التاريخ الفعلي للإنسانية‪ .‬وهذا الردان هما جوهر فكر مغول الغرب‪ :‬أمريكا‬ ‫وإسرائيل وفكر ما بعد الحداثة‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وسأختم هذه المحاولة بفصل أخير يبين أن وحدة الإنسانية (النساء ‪)1‬والمساواة بين‬‫البشر (الحجرات ‪ )13‬هما المستقبل وجوهر ثورة الإسلام في نقده للتجربة الروحية‬‫والسياسية الإنسانية أو فلسفة الدين (مسارها الروحي) وفلسفة التاريخ (مسارها‬ ‫السياسي) وتجاوزا للمقابلة بين الديني والفلسفي‪.‬‬‫لم يعد أدنى معنى لحروب الملل والنحل التي هي جوهر الكلام وعلة رفضي له لتعارضها‬‫مع القرآن الذي أرجأ الحكم في العقائد إلى يوم الدين في ثلاث آيات شهيرات (البقرة ‪62‬‬‫والحج ‪ 17‬والمائدة ‪ )69‬على اساس المائدة ‪ 48‬التي تعتبر التعدد الديني مقصودا من الله‬ ‫لأنه شرط التسابق في الخيرات‪.‬‬‫وبهذا المعنى فأفضل استراتيجية لاستعادة الإسلام دوره الكوني بدءا بالمصالحة بين‬‫ضفتي المتوسط هي التركيز على التماثل بين وضعيتي الحضارتين العربية الاسلامية‬‫والاوروبية المسيحية لأنهما تشتركان في المصدرين الديني (الابراهيمية)والفلسفي‬ ‫(السقراطية) وضرورة تجاوز مآسي التاريخ الوسيط والحديث‪.‬‬‫وفي هذا المضمار فالنخب متخلفة جدا على الشعوب‪ :‬فذهنيتها ذهنية متكلمين وإن تعلمنت‬‫خلافاتها والشعوب تجاوزتهم في ذلك إلى سلوك عفوي لا ينافي أخلاق المؤمنين‪ .‬فالاختلاط‬‫بين الشعوب لا ينكره إلا عديم البصيرة‪ .‬لا تكاد توجد أسرة ليست مشتركة في جيل أو‬ ‫جيلين نتجا عما بينهما علاقات السلم والحرب‪.‬‬‫ومن عاش في اوروبا منا ومن عاش بيننا منهم تقاربت ثقافتهما وتشاركوا في تراث الحياة‬‫اليومية كأدوات المائدة وآداب السرير والأعياد والأفراح والاتراح ما يجعل نحو الثقافتين‬‫إلى تقارب متزايد وخاصة أن التواصل الثقافي والتبادل الاقتصادي صارا فارضين لتحيد‬ ‫اللسان والوجدان والمخيال في الأجيال‪.‬‬‫وإذا ما استثنينا بعض الاحزاب الهامشية من اليمين واليسار الأقصيين في كلتا الضفتين‬‫فإن التيار الغالب أميل إلى المصالحة حتى بدون وعي بضرورتها الاستراتيجية في عالم‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫يتقاسمه المغولان الشرقي(أمريكا وأذيالها) والغربي(الصين وأذيالها) ونحن وأوروبا لسنا‬ ‫إلا محميات بالفعل لأمريكا وبالقوة للصين‪.‬‬‫ومن معاني التاريخ البارزة أن حكم هيجل على مستقبل الإسلام كذبه التاريخ وأن ما‬‫نتج عن فكره من حرب أرواح الشعوب (صار يسمى صدام الحضارات) ونهاية التاريخ‬‫ونسخة فكره الماركسية من حرب الطبقات كذبها تطور الاقتصاد الحديث وأصبحت نظرية‬ ‫النساء ‪ 1‬والحجرات ‪ 13‬الحل الوحيد للتحرر من دين العجل‪.‬‬‫تحرير الفلسفة من \"كلمنتها\" الهيجلية في حضارة أوروبا وتحرير الديني من \"كلمنته\" في‬‫حضارتنا هما الطريق إلى تحرير الإنسانية من حروب الملل والنحل سواء كانت دينية‬‫خالصة أو دينية معلمنة كما في الهجيلية والماركسية (الحزب الشيوعي كنسية معلمنة)‬ ‫لتخليص الإنسانية من دين العجل معدنه وخواره‪.‬‬‫ما يسمونه ما بعد الحداثة ليس هو إلا الجمع بين كاليكلاس سياسيا والعجل الذهبي دينيا‬‫والعبارة التي تظن فلسفة وعي في الحقيقة خرافية تعتبر الثقافات جزرا لا يصل بينها‬‫كونية إنسانية متعالية على مقوماته البايولوجية مثله مثل أي حيوان لا يخضع إلا للتاريخ‬ ‫الطبيعي بالصراع على الحاجات المادية‪.‬‬‫وكل ما كتبته في كلامي على علوم الملة وعلى الكلام وعلى الشكوك في المقاصد وعلى‬‫الدولة وعلى دستور الإسلام السياسي والمعرفي كل ذلك هدفه تغيير استراتيجية المسلمين‬‫لتحقيق شروط الاستئناف بما يقتضيه الظرف الكوني الذي تناسبه رؤى الإسلام بصورة لا‬ ‫تكاد تصدق إذا حررنا من الانقلابين‪.‬‬‫والانقلابان هما علة حرب الأمة الأهلية الدائمة من الفتنة الكبرى بداية إلى الصغرى‬‫غاية وكلتاهما تتعلق بنظرية التربية والحكم في الإسلام‪ :‬فمن فتنة الوساطة والوصاية‬‫بالمعنى الشيعي إلى فتنة الإخلاد إلى الارض بالمعنى العلماني‪ :‬إما نفي الحريتين في الاولى‬ ‫أو نف المتعاليين في الثانية‪.‬‬‫والفتنتان الكبرى بداية والصغرى غاية هما ما جعل الامة تفقد دورها الكوني على أساس‬‫ثورتي الإسلام أو الحرية الروحية والحرية السياسية رغم تكون امبراطورية إسلامية على‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫اساس لم يتغير فيه ما اراد الإسلام تغييره للانتقال من حروب الملل والنحل وما وراءها من‬ ‫عداوات إلى النساء ‪1‬والحجرات ‪.13‬‬‫وآن الآن أوان الاستئناف بمعايير الدستور القرآني في المعرفة والسياسة تربية وحكما‬‫وتجاوز حالة الطوارئ التي فرضت على الأمة طيلة ‪ 14‬قرنا اصبحت فيها القوانين‬‫الاستثنائية صاحبة الفصل في النظر والعمل وعطل الدستورين السياسي والمعرفي في التربية‬ ‫والحكم‪.‬‬‫لما قلت إن جهاد الطلب مشروع في حالتي الدفاع عن المستضعفين والحرية الدينية فحسب‬‫تعجب أحد القراء وسألني عن هذه الآية { قَاتِلُوا ا َّل ِذينَ َلا يُ ْؤ ِمنُو َن ِبال ّلَهِ َو َلا بِا ْليَوْ ِم الْآ ِخرِ‬‫َولَا يُحَرِّ ُمو َن مَا حَرَّ َم اللَّهُ وَ َر ُسو ُل ُه وَلَا يَدِي ُنو َن دِينَ ا ْلحَ ِّق ِم َن الَّذِينَ ُأو ُتوا ا ْلكِتَابَ َح ّتَ َٰى يُعْ ُطوا‬ ‫الْجِزْيَةَ عَن يَ ٍد َوهُمْ َصا ِغرُونَ }‪.‬‬‫وهو محق لأن فهم الآية بمنطق الانقلابين يجعل أوصاف من تطالب الآية بمحاربتهم علة‬‫الحرب‪ .‬فيكون الإسلام بهذا المعنى يحارب غير المسلمين لأنهم غير مسلمين وليس للعلتين‬‫اللتين ذكرت في الكلام على جهاد الطلب بمنطق حق التدخل في القانون الدولي الحديث‪.‬‬‫طبعا لم يكن بالوسع أن أجادل في التفسير التقليدي للآية ولا أن اجيبه بما تجيب به‬‫الآية في نهايتها \"حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون\"‪ .‬فحتى تعني أن دفع الجزية‬ ‫هو علة الحرب وليس وصفهم غير المسلمين في الآية (التوبة ‪.)29‬‬‫لا حاجة للاستطراد في التعالم اللغوي‪ .‬فالجواب الكافي في الآية يبين أن رفض دفع‬‫الجزية بالنسبة لغير المسلم هي مساهمته في ميزانية الدولة مثل الزكاة بالنسبة إلى‬‫المسلمين‪ .‬ولا علاقة للأمر بكونهم غير مسلمين بل بمساهمتهم في ميزانية الدولة وتسمى‬ ‫جزية وليست زكاة‪ .‬فالإسلام لا يكرههم في الدين‪.‬‬‫والفتوحات كانت تهدف لتحرير العباد من عبادة العباد وغالب البلاد المسيحية لم تفتح‬‫بالحرب بل بالصلح ولم يفرض عليهم الإسلام بل أسلم بعضهم بمنطق المائدة ‪( 48‬التسابق‬‫في الخيرات) إما عن اعتقاد أو لتجنب الجزية وقد تكون هذه الحالة من جنس حالة أصحاب‬ ‫الردة في عهد الصديق‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وحاضر التاريخ يكفيني مؤونة الإطالة‪ :‬فالأديان المذكورة في الحج ‪ 17‬بكل فرقها‬‫ومذاهبها لم يبق لها وجود إلا في دار الإسلام‪ .‬ونلاحظ اليوم أن من يحاول إفناءها ليس‬‫المسلمون بل الغزو الغربي كما رأينا ذلك في العراق ونراه في سوريا حاليا بالتبشير والتهجير‬ ‫والدس عليهم باختراق داعش وأمثالها‪.‬‬‫ويمكن الاستدلال بالتاريخ الغربي‪ :‬هل أبقت حروب الاسترداد في أوروبا على مسلم‬‫واحد وحتى على يهودي واحد بعد استرداد الاندلس أم إن هؤلاء جميعا مسحوا كرها أو‬ ‫هجروا إلى دار الإسلام؟‬ ‫ويهود الأندلس من حماهم؟‬ ‫ألم يهجروا لبلاد المسلمين مع المسلمين فعوملوا مثلهم إلى يومنا هذا؟‬‫وطبعا لا أنوي الدخول في الكلام بمنطق الدفاع‪ .‬القرآن موجود والتاريخ موجود وعلى‬‫أي باحث نزيه أن يقضي بنفسه في الامر‪ .‬ما يعنيني أساسا هو أن ما يتهم به المسلمون من‬‫عدوانية باسم الدين ليس كله كذب لكنه حدوثه لم يكن بمقتضى الإسلام بل بتجاوزه‬ ‫أحكامه لأن الفتح يمكن أن يتحول إلى استعمار‪.‬‬‫وقد حدث فعلا عندما تحولت الدول إلى تقديم طلب المال (أصل الاستعمار) على تحرير‬‫الناس من عبادة العباد (أصل الفتح) وهو تحريف وقع فعلا والدليل موقف الراشد الخامس‬‫الذي رفض مثل هذا السلوك ما يعني أنه قد وجد‪ .‬لكن ذلك كان خروجا عن رؤية الإسلام‬ ‫وليس تطبيقا لها كما يدعي نفاة الحقيقة‪.‬‬‫ثم إن المسلمين اليوم حتى لو أرادوا أن يخرجوا على أحكام الإسلام فهم أعجز من أن‬‫يقدموا على استعمار غيرهم‪ :‬هم مستعمرون بالفعل من اندونيسيا إلى المغرب وما‬‫استقلالهم إلا ظاهر من الأمر لأن كل بلاد المسلمين اليوم محميات لأمريكا بدليل الارتهان‬ ‫في الحماية والرعاية لسلطانها المطلق‪.‬‬‫وما يقتل بالضحك سخافة داعش التي تريد غزو روما وأوروبا ظنا أن ما كان ممكنا‬‫للرسالة عندما كانت بحق رسالة تحرير للبشرية يمكن أن يحققه من جعلها رسالة استعباد‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫للمسلمين أنفسهم فضلا عن غيرهم من البشر‪ .‬فلا يمكن للأميين والبدائيين من جنس أمراء‬ ‫الحرب‪ :‬ليسوا دعاة للإسلام بل مخربيه ومشوهيه‪.‬‬‫وأخيرا فإن الإسلام يمكن أن يستعيد دوره الكوني محررا روحيا وسياسيا للمؤمنين به‬‫أولا ليكون بأخلاقهم الإسلامية المتحرر من الانقلابين قدوة لغيرهم ممن يعانون من‬‫الاستعباد الذي هو جوهر العولمة بوصفها تحقيقا فعليا لما وصفت به الملائكة آدم‪ :‬فساد في‬ ‫الارض وسفك للدماء‪.‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫أبو يعربالمرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook