أبو يعرب المرزوقيتأملات في بعدي حياة الإنسان الوجودي والديني الأسماء والبيان
تأملات في بعدي حياة الإنسان الوجودي والديني
المحتويات1 تمهيد 1 في العلاقة بين عولمة الأذهان وعولمة الأعيان 2 غاية الحداثة (هيجل) وبداية ما بعدها (نيتشه) 2 ذهان المناخ الروحي ما بعد الحداثي 4 الاختناق الوجودي 4 منزلتنا في إبراز حقيقة العولمة :هي عين الخراب 5 في معنى الإلحاد 5 أبعاد الكفر غير الفقهي 7 تعليل بداية الكلام في الاختناق 7 الإسلام وتجاوز خراب العولمة 9
يقول هيجل :قراءة الجرائد صباحا هي صلاة الصبح عند الإنسان الحديث. ويرد نيتشة :إنها من أعراض انحطاطه. فما قصد الرجلين؟ وما حال العربي الحديث؟ ولنبرر قبل الجواب عن السؤالين اختيارنا للرجلين. لماذا هيجل بداية القرن التاسع عشر؟ ونيتشه نهايته؟ صفات القرن تعلل الاختيار وتبرر الصلة.فالتاسع عشر هو قرن كل الثورات ،أو إن صح التعبير هو الذي جنى ثمراتها ليعد لكل ما ولاه من مصائب الإنسانية ،ومنها خاصة نحن إذ خبرناه في لحمنا الحي. ففيه جنت الإنسانية ثمرة الانقلابات الخمسة التي تمثل جوهر الحداثة :الديني والفلسفي والعلمي والتقني والسياسي والاجتماعي. فظن هيجل نهاية التاريخ واكتمال الإنسانية. وظن نيتشه أن الإنسانية بلغت أرذل العمر ولابد من تجاوزها. 91
ما نحياه اليوم من العولمة في الأعيان تحقق في الأذهان إيجابا عند هيجل ،وسلبا عند نيتشه .فانسدت الآفاق أمام الإنسان وأصبح يعتبر \"العالم عين الله\" بلغة ابن عربي. يظن نيتشة أنه قد قلب سلم القيم ،فعكس المنظور الأفلاطوني أو على الأقل صيغته الشعبية التي هي المسيحية ،ما يعني أنه قد قلب الغاية بمنظور هيجل .فرأينا وجهي العملة الحداثية.لكن القلب بمهربي الفن والعود الأبدي ليس تحررا من المحبسين (واقع العالم في الأعيان ولا واقع المخيال في الأذهان) ليس إلا الوجه الثاني من هيجل. وهذا الوجه الثاني الذي يمكن ترجمته في عبارة وجيزة بالاعتقاد أن المثال يمكن أن يتحقق في الأعيان جماعيا (ماركس) أو فرديا (نيتشة) بعنف مقدس. فالموقفان الهيجلي والنيتشوي ترجمة رؤيتي السجن الوجودي من الداخل ومن الخارج.وما ينبغي القيام به تعليلا لدخول السجن (فتصبح قراءة أخباره صلاة) أو لمحاولة رفضه للخروج منه (احتقار أخباره).وهكذا ،فالعولمة في الأعيان سبقتها العولمة في الأذهان :داخل السجن هو دين الإخلاد إلى الأرض ،وفلسفة السلطان عليها ،وعلم أدواته ،وسياسة التدجين ،واجتماع الملاهي. لذلك فعند هيجل ،ليس ما وراء العالم إلا وهما ولا يوجد إلا ما فيه. أما ثورة نيتشة على العولمة في الأذهان ،فتقتضي ما يناظرها عليها في الأعيان :وذلك هو ما يسمى بفكر ما بعد الحداثة ،ما يعني أن هيجل أعد إليها سلبا. 92
ثار هيجل على التنوير ،وخاصة على تأسيسه الكنطي تأسيسه إياه بالفصل بين عالم النظر (الفينومان) وعالم العمل (النومان) ،وقال إن الإمكان المغاير لما كان هذيان إنسان (هيجل). أغلق كل الأبواب فأصبح الهنا-ديسزايت-بلا ما بعد -ينزايت -وأصبح الدين والعقل والدولة والمجتمع والنفس ،سجونا متراكبة لا مخرج منها ولا مفر. انتهى التاريخ العام والتواريخ الجزئية دينا وفلسفة وعلما وسياسة واجتماعا .ومن ثم، نتجت كل الفاشيات اليمينية واليسارية ،فختم القرن العشرين :تلك غاية الحداثة التي انتقلت من الأذهان إلى الأعيان.لم يكن كلام نيتشة قادرا على الحسم ،لأن ما عقد بالأفعال لا يحل بالأقوال .حربا القرنالعشرين ليستا إلا غاية هذا الإيصاد المطلق لأبواب الآفاق .وما أوصد لا يفتح إلا بالخلع أو بالحروب المدمرة. وما اعتبره هيجل صلاة صبح ،ووصفه نيتشة بقيء العصر ،أي أخبار هذه السجون في المتناهي هي عين ما نعيشه من تدفق مجاري الإعلام وخاصة العربي منه.وبعبارة وجيزة ،فقد عرفنا الإنسان الحديث بكونه سجين بركة آسنة اسمها العالم بأحيازه الخمسة: -الأول والثاني ،جغرافيته وثمرتها (الثروة) -الثالث والرابع ،وتاريخه وثمرته (التراث) -الخامس ،بمرجعية تفقده أجنحة الخلاص ،لأن العالم يصبح مرجعية نفسه ليس له ما وراء غير أوهام الإنسان. 93
فـحتى الخيال فإنه قد أصبح مهيض الجناح ،لأن الافتراضي الذي صار واقعا لم يحرره من الإيصاد ،بل زاده تغليقا .فأصبح الوجود كله ثرثرة وهذيانا في فوضى بابل. الكل صار متوحدا وهو يتصور نفسه قد وسع رقعة التواصل .فعوض الإنسان التواصل الحي بما فيه من حميمية الحضور الفعلي ،بالحضور الافتراضي بحميمية كاذبة. فالتواصل بالغياب ،لا يفيد شوقا بل هو ملء للفراغ :الكل يبحث عن فرصة للثرثرة مع تجنب اللقاء المباشر ،لأن الجميع لم يعد يطيق حضور غيره إذ هو قد توحد. ما يظن وجودا فعلي الحضور ،أصبح وعيا مجردا بالوجود الغائب ،ما يعني أن النفس اختنقت بالتلاصق في السجن الذي أوصدت أبوابه :الجسد والمكان والزمان.\"الاسفاكسي = الاختناق\" من انحباس الروح في البدن ،ومن انحباس البدن في المكان ،ومن تفلت الزمان ولا تحدد الإنسان ،وحتى الالحاد لن يحرر الوجدان بل يضاعف الهذيان. تلك هي حال الإنسان في هذا الزمان. غلقه هيجل بتمام نسق العولمة في الأذهان. وحاول نيتشه فتحه بتهديم الأركان. لكن الفتح النيتشوي عودة إلى البداوة التي ما أن تحصل حتى تتخلدن توقا إلى الحضارة. والتخلدن يعني الخضوع لمنطق الرؤية الخلدونية :فـما يعنيه هذا العود الأبديالنيتشوي ،لن يتجاوز النشوئية الخلدونية للعمران بقانون \"حب التأله\" الذي يتعين خاصة في الحرب الدائمة بين البشر .حرب التسلط بقانون التاريخ الطبيعي. 94
هيجل ونيتشه لا يفهمان إلا بمنطق النشوئية التي حاول ابن خلدون وصف مسارها بينالكون والفساد :الإنسان خاضع للتاريخ الطبيعي وللكون والفساد أو العود الأبدي .لكنهمتعال عليه بما يجعله محبا للتأله بمعنيين :ففيه لامتناهي الاشرئباب بين البناء والخراب.لذلك فنحن اليوم عين هذه الثورة على الإيصاد الكوني أو العولمة التي هي عين الخراب.ومن ثم ،فمفهوم أن نكون هدف الكل في حرب السجناء الذين يتلذذون بحياة سجين كهف أفلاطون. العولمة هي كهف أفلاطون في الأذهان ،وقد اكتمل فأصبح حقيقة ماثلة في الأعيان .ولامخرج منه من دون أن يدرك الإنسان أن مجرد وعيه بلا تناهيه تجاوز فعلي وليس توهـما للاتناهي . ما يسميه ابن خلدون حب التأله في سياسة العالم ،تسلط واستبداد وفساد سواء في نفس الجماعة أو في العالم .لكنه يمكن أن يكون بمفهومه القرآني ربانية (آل عمران .)79 والربانية تعليم ودرس .وفيه تواضع المتلقي ونشاط المرسل والوعي بقيمة البقاء الذي يحرر من \"أبسورد\" الفناء ،فيخرج الإنسان من التوحد بالتوحيد. وحينها نفهم معنى الالحاد :إنه احتجاج المتوحد في شكواه من الواحد إذ لا يوحد.ففي مسألة الحرية والعبودية بين الرب والمربوب ،قضية تشبه قضية دليل التمانع في علم الكلام. الملحد يرفض الشرك .لسان حاله\" :إما أنا أو هو .ولما كان هو ليس كاملا كما أتصوره، بدليل وجود الشر حتى في ،فإذا كان هو خالقي فقد خلقني على ما أنا عليه ،فشري دليل عجزه .وإذن فلا فرق بينه وبيني .كلانا عاجز عن منع الشر .ولا حاجة لرب عاجز \". 95
والله نفسه شاهد على ما في الإنسان من عيوب .فهو يصف الإنسان بكل الأوصاف التي تجعله \"صنعة\" فاشلة .فكيف للكامل أن يصنع الناقص؟ إذن الناقص غني عن صانع فشل في صنعه كاملا .ويدور الاستدلال. إذا دخل الإنسان في دوامة هذا الاستدلال ،فالنتيجة هي إما أن يجن فيفقد العقل ويسقط في غيبوبة اللهو ،أو أن يستسلم فيصمت نهائيا أو \"يتهيجل\" أو \"يتنتش\" أو يجمع بينهما فيتخلدن. أين المفر؟ لماذا كان الإنسان حبيسا في وجود عينه وفي وجود ذهنه؟ أول من لام الإنسان على ذلك هو الله ذاته بالنسبة إلينا نحن المسلمين :ظلم نفسه فقبل ما رفضته الجبال. هل هي لعنة أم نعمة؟ لن نتحقق من ذلك إلا يوم الحساب.وغاية القول :الوجود امتحان .فالإنسان بين خيارين بديلاهما أفسد منهما .فإما يؤمن أو ينتحر أو يكفر بمعنى يخفي عن نفسه حقيقة بؤسه أو يطلب غيبوبة التخدير الدائم. والجامع بين هذه المواقف الأربعة هو النوسان بينها جميعا حتى يلقى ربه آمن به أو لم يؤمن ،لأن الموت أكثر يقينا من حياة لا تثبت إلا بنفيها. وما لم يفهم الدعاة ورجال الدين هذه الحقائق ،فإن كلامهم لن يكون مسموعا .الخطاب الوعظي لا يعظ ولا يردع :وهم لا يفهمون ذلك لأنهم لم يقرأوا القرآن بوصفه أعمق تجربة وجودية. 96
لا شك أن القرآن له عدة وظائف ،فضلا عن الوظيفة الرئيسية التي هي خطاب الله لكل ذي عقل .نسيان هذه الوظيفة الوجودية أرضية لهذا الخطاب هو الكفر.الكفر ليس بمعنى عدم الإيمان ،بل بمعنى الغطاء الذي يحول دون رؤية حقيقة الإنسان في وعيه بصلة التناهي واللاتناهي في كيان ما يتحرك فيه ،فيحركه حركة وجهي السجن من داخله وخارجه. عندما نفهم ذلك ،ندرك سر التقابل النظري بين الفلسفي والكلامي ،والتقابل العملي بين الصوفي والفقهي .فهي جميعا كذلك للغفلة عن هذا العمق الوجودي. وشبابنا يمكن أن يستأنف تجارب الإبداع التي هي الذهاب إلى الغايات وعدم الوقوف عند البدايات في كل التجارب التي تعبر عما يتحرك في كيان الإنسان فينبط الوجدان.فتدفق ما ينبجس من الوجدان للتعبير عن الكيان ،يبين معنى حياة الإنسان وهو الفرقان الذي لا نجده في غير القرآن بما هو حرف نداء يوجه الإنسان لمعنى الأعيان. ما الذي جعلني ابدأ بـ \"الاختناق\" الوجودي بهيجل ونيتشه؟ ليس من عادتي توسل الرموز الأجنبية حتى في المسائل الكونية .فعندنا ما يغني عنها.لكن الأزمة التي اردت تشخيصها ،وإن كانت كونية ،فهي تعينت فكانت غربية :الحداثة. ولا يمكن للأمانة الكلام عليها من دون البدء بتعينها ثم تجاوزها لكليها.وكليها هو كونها تبين التناظر بين العولمتين السالفة في الأذهان والخالفة في الأعيان .ومن لم يفهم السالفة لن يفهم الخالفة .ونحن نقاوم الخالفة من دون تجاوز السالفة. 97
لكن جل الأقزام الخالطين بين الحديث والتحديث يتغاضون عن شرور الخالفة للجهل بالسالفة .لذلك حاولت الانطلاق منها لبيان دورنا في الخروج عليها. وأقول الخروج عليها شرطا في الخروج منها :نحن خوارج العولمة لإخراج البشرية من شرورها .فالطبيعة والثقافة أولى ضحاياها لعبادة الإنسانية هواها. وطبعا فوصفنا بالخوارج قد يظن تأييدا لمنطق العولمة التي تعتبرنا ظاهرة شاذة فيها. وهنا لا بد من الكلام على الفقهين: بدأ انحطاطنا الأول لما أفتى الفقهاء بشرعية المتغلب من الداخل. ووجه الفتوى الثاني هو تبرير الخضوع خوفا من الفوضى. ويستأنف انحطاطنا بفتوى ثانية بشرعية المتغلب من الخارج .والفتوى الأولى كانت سياسية ذات أبعاد شاملة لكل الوجود ،ثمرة للعبودية في الداخل .والفتوى الحاليةحضارية أشمل من الأولى لأنها تريد محو ما نتميز به حضاريا حتى تكتمل العولمة ويلغى الشذوذ الذي نمثله. وليست العولمة التي نعتبر شاذين عنها ،هي الإنسانية التي نؤمن بها بل هي نقيضهاالتام .فقد بدأت حضارتنا فاعتبرت الإنسانية كلها أمة واحدة (النساء )1ثم محونا كلالفروق غير الخلقية ،فلم نبق إلا على معيار مفاضلة هو التقوى (الحجرات )13تقديما للباقي. وذلك ما يعيبه هيجل في فلسفة التاريخ على الإسلام ويعتبره منافيا لشروط السلطانالدنيوي -الدولة المستقرة-التي تمثل تعين العقل في التاريخ ،أعني سجن عولمة الأذهان تأسيسا لعولمة الأعيان (فلسفة التاريخ الباب الرابع الخاص بالعالم الجرماني الفصل الثاني منه الخاص بالمحمدية أي الإسلام). 98
لكن ما وضعه القرآن ليس عولمة في الأذهان ولا في الأعيان بل هو شروط تحريرالإنسانية من التنافس والتقاتل على الفاني ،برفعها إلى مستوى الإنساني الذي يتجاوز مجرد استعماره في الأرض إلى استخلافه عليها مكرما فيها. فيكون الوصل بين التناهي واللاتناهي خروجا من وضع الساهي إلى عين اليقظة الوجودية التي تحول \"تفوين\" الدين (من الأفيون) وتدنيس السياسة فتكون اجتهادا وجهادا.فلا يكون الوجود للتدمير بل للتعمير ،ولا يكون التعمير بقتل الضمير ،فيكون الإنسان دائما ثورة على الاستبداد والفساد فلا يطغى على العباد عباد. ذلك هو الإسلام: ليس إيمان عجائز. ليس أفيون شعوب. ليس تخريف مراجع. ليس تدليس حقيقة. ليس تبرير مافيا. إنه دائم الاجتهاد والجهاد لتحرير العباد. فلا يحررنا من الاختناق إلا جهاد الفرسان ضد الطغيان في كل مكان ،لأن المعمورة كلها يعتبرها الإسلام معبد الإنسان مليء الكيان ،ثري الوجدان.لذلك كانت الهجرة رمز الجهاد ،والرحلة رمز الاجتهاد ،لأن الكيان في سيلان أبدي ولا يضفي عليه المعنى إلا إذا كان سياحة تحقيق الوجود بحب المعبود. 99
02 01 01 02تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي :محمد مراس المرزوقي
Search
Read the Text Version
- 1 - 16
Pages: