أبو يعرب المرزوقيوجها حرب أهلية يغذيهما الاستعمار الأسماء والبيان
وجها حرب أهلية يغذيهما الاستعمار
المحتويات 1 5121823
هل حقا تريد أنظمة العرب محاربة الإرهاب من أجل مصلحة شعوبها؟ سأكتفي بهذا السؤال لأجيب عنه. السؤال الثاني أهمله لأني لا أصدق أن الغرب يحاربه.فالغرب يسمي إرهابا كل حركات التحرر ،ومن ثم فمن العسير أن نعتبر ما يسميه إرهابا، إرهابا .لذلك سأكتفي بما تسميه النخب العربية الحاكمة إرهابا. يعرف الإرهاب عادة بانه طلب الحكم بالعنف بدل السبل السياسية. وإذن فينبغي أن نسمي إرهابا كذلك السعي للبقاء فيه بالعنف بدل السبل السياسية.وحينئذ فنحن أمام حالتين ينطبق عليها هذا الوصف بالنسبة إلى طلب الحكم بالحكم والتشبث به بالعنف .ففي الحالتين الإرهاب يكون ضد إرادة الجماعة. الحالتان: -1تتعلق بالعنف في السياسة الداخلية بين الأنظمة والمعارضات الوطنية. -2العنف بين موقفين من مرجعية الدولة قطرية أو متجاوزة للقطرية.وواضح أن الانظمة الحاكمة تحاول دائما رد الأولى إلى الثانية ،لتيسر على نفسها دعوى تمثيل الدولة الوطنية ضد دولة متجاوزة للأوطان هي دولة الإسلام.فينتج عن ذلك أن المرجعية الإسلامية بمجردها ،كافية لاعتبار أي حركة سياسية غير وطنية ،لأنها تقول بمرجعية متجاوزة للأقطار الموروثة على الاستعمار.وأصحاب هذا الموقف لا يرون تناقضهم ،فمرجعياتهم هي بدورها متجاوزة للأقطار دون أن تعني نفيها لها ،بل هي تصلها بمرجعية عالمية اشتراكية أو رأسمالية.ذلك أنهم حتى لو قال صاحب المرجعية الإسلامية أنه يقصر همه على القطر والدولة الوطنية ،فهم يعتبرونه مخاتلا \"يتمسكن حتى يتمكن\" بخطاب مزدوج. 26 1
حاصل القول إن الحكام يتشبثون بالحكم بالعنف ،فيكونوا بذلك وكأنهم لم يبقوا لمعارضيهم غير انتهاج نهجهم في طلبه .فهم طلبوه بالعنف وحافظوا عليه به.لكن لو بقي الأمر عند هذا الحد ،لقلنا إن ذلك يمكن أن يكون مشروعا إذا كان لصالحبناء الدولة الوطنية ،وهو ما كنت سأفهمه لو ماثل الصين أو ماليزيا ،وكان يمكن كذلك أنأتفهمه لو كان عنفا شبه مشروع ،لأن الحاكمين يمثلون غالبية الشعب وتحقق مصالح الشعب .فقد يبرر ذلك مؤقتا التضحية بالديمقراطية.لكن ماذا وهو استبداد أقلية فاسدة ،لصالح مشروع تغريبي وتابع ،لا يحقق أدنى حد من حقوق الشعب الاقتصادية والاجتماعية ،فضلا عن الروحية والخلقية؟ هل هي دولة؟ وهل هي وطنية؟ وهل المشروع هو بناء دولة قادرة على حماية شعبها ورعايته؟ أليس هو استبداد مافية داخلية في خدمة مافية خارجية؟هل بقيت لذراعي الحكم العنيفين أي \"القضاء والامن\" داخليا ،و\"الدبلوماسية والدفاع\" خارجيا ،حق العنف الشرعي وهما في خدمة الاستبداد والفساد؟ألسنا في هذه الحالة أمام وضع يتقابل فيه استعمالان للعنف ،كلاهما غير شرعي لأن عنف الدولة الشرعي مشروط بشرعية بقاء المجال السياسي السلمي؟فكل قوة سياسية حاكمة تبقى فيه بالعنف بإلغاء التنافس السياسي السلمي عليه ،وهي من ثم لا تختلف عن القوة السياسية التي تطلبه بالعنف :إرهاب.ولا يمكنها أن تدعي أن عنفها هو عنف الدولة الشرعي ،فمن شروط هذا العنف الشرعي شرعية من يمارسه ،ولاشرعية لمن يبقى بالعنف ويلغي التنافس السلمي.والبقاء العنيف في الحكم يكون إما بقوة ذاتية للقوة السياسية الحاكمة ،أي بقوة الدولة، أو بمساعدة أجنبية بدرجتين :حماية قانونية دولية وعسكرية.وبذلك فالوضعية الداخلية ليست صراعا بين شرعية وإرهاب ،بل بين ارهابين لان شرط وصف المعارض العنيف بالإرهاب غاب :المساواة في التنافس السياسي. 26 2
والأدهى أن من يدعي استعمال عنف الدولة الشرعي ،لم يكتف بعدم شرعيته ،بل اضاف الخيانة :لأن من يحميه من القانون الدولي وعسكريا لا يفعل بغير مقابل.فالسيسي مثلا يحميه الأمريكي والإسرائيلي ،فيغطي عنه جرائمه بالإعلام وبمنع تدخل القانون الدولي ،ولا يمكن أن يفعلا ذلك مجانا بل ضد المصلحة الوطنية.وبشار لم تقتصر الحماية على منع تطبيق القانون الدولي (الفيتو الروسي) ،بل وصل إلى التدخل العسكري لإيران وميلشياتها ،والروسي ورعايته لداعش.وبهذا المعنى ،فالأولى بأن يوصف بالإرهاب ليس المقاومة السورية ،بل النظام السوري الذي ليس هو إرهابيا فحسب بمقتضى إرادة البقاء بالعنف ،بل خائن.ولا أعتقد أيا من الانظمة العربية ليس له شيء مما وصفنا ،داعما لبقائه العنيف: استعمال أجهزة الدولة ،ثم تغطية الحامي له ومساعدته العسكرية.وإذا كنا نريد تجاوز هذه المهازل ،فينبغي أن ننطلق من هذا التحليل للوصول إلى علاج يحقق الإصلاح فيخرج شعوبنا من الحرب الاهلية بين ارهابين.وسنكتشف أنهما تابعان لإرهاب دولي ،هدفه جعل الأمة في حرب أهلية دائمة بين حكام ليسوا شرعيين ويريدون البقاء بإرهاب الدولة ومعارضة تحاكيها.ذلك هو التحليل الموضوعي للوضعية .وسأقتصر على هذا المستوى ولن أتجاوزه للإرهاب الدولي الذي يفرض على العالم نفس معادلة الحكم والمعارضة هذه.علينا أن ننظر في المستوى الثاني المتعلق بالتقابل بين المرجعيتين .وهذه القضية ليست الخاصة بالمسلمين :أوروبا أيضا تعيشها.فالمعركة بين المدافعين عن الدولة الوطنية والوحدة الأوروبية ،حامية الوطيس حتى وإن كانت ما تزال سلمية ولم تصل إلى ما وصلت إليه نظيرتها عندنا.ويمكن القول إن محاولات تفكيك الوحدة الأوروبية من جديد ،واستعادة الدولة الوطنية ،قد تؤول إلى ما يشبه ما عندنا من صراع رغم ما يبدو من تضاد.فاليسار الأوروبي سعى لتجاوز الدول القطرية واعتمد الإرهاب الأحمر ،ومثلهم يفعل الجهاديون لتفكيك الدول الوطنية .الوحدة الأوروبية حل وسط. 26 3
فهل يمكن توقع حل وسط ،يجمع بين المستويين الوطني والمتجاوز للوطني ،شرطا في التناسب مع عصر العماليق حتى تتحقق شروط السيادة الفعلية؟لا أعتقد أنه يوجد مخرج مختلف :فالدولة الوطنية حقيقة لا يمكن الاستغناء عنها. لكنها لم تعد كافية لتحقيق شروط السيادة .لا بد من المستويين.حكماء أوروبا فهموا الضرورة واتفقت عليها النخب بأصنافها الخمسة لأنها تلبي الحاجتين إلى حميمية القطرية وشروط السيادة المتجاوزة للقطرية.الجمع بين الحلين في المستوى الوطني وفي المستوى المتجاوز له ،يمكن من التخلص من الإرهابين المحلي بين الحكم والمعارضة والمتجاوز شرطا للسيادة. 26 4
بينت في الفصل الأول أن ما يجري حاليا ليس حربا على الإرهاب ،بل هو حرب أهلية بين إرهابين :ارهاب الحكام وإرهاب معارضة ،في غياب التنافس السلمي.وبينت كذلك أن الأعداء يستفيدون من الإرهابين لأنهم يغذونهما حتى لا يضطروا للتدخل المباشر من أجل الاستحواذ على ما يحتاجون إليه من دار الإسلام.صحيح أن هذه الاستراتيجية تبدو قولا بنظرية المؤامرة ،لذلك سأطمئن المتذاكين مننفاتها بأن العرب مستغنون عمن يدفعهم لذلك بعد نكوصهم للجاهلية .فما يجري بينهماليوم لا يختلف عما كانوا عليه في الجاهلية :قبائل تتناحر لعجزها عن تجاوز الحياة النباتية (الأكل والجنس) والتفاخر بداحس والغبراء.لذلك فأعداء العرب لا يحتاجون للتآمر عليهم ،وذلك هو قولي إن الأعداء يستغلون هذه الحرب الأهلية ويغذونها ،لكن سببها الأول هو نكوص العرب للجاهلية.وإذن فأعداء مجد الإسلام وقيمهم الأُول هم العرب :فما من زعيم في الأنظمة العربية بصنفيها القبلي والعسكري ،لم يعد لما تقدم عليه ليؤسس سلطانه.فلكأنهم جميعا مقتنعون بأن ما تقدم على مجد الإسلام أو ما تأخر عنه ،أولى بأن يستمدوا منه شرعية \"دولهم\" .وهم دون قصد ،حفظوا بذلك كرامة الإسلام.فدولة تستمد شرعيتها من الإسلام ،لا يليق بها أن تكون من محميات أعدائه التاريخيين. لكن كل \"دول\" العرب محميات تعيش خزي التبعية وعار الهمجية. وإذن ،فالظاهرة بنت الانحطاطين: -الأول موروث عن خمول حضارتنا ،بعد الضربات التي تلقتها من المغول والصليبيين وحرب الاسترداد والنكوص إلى الجاهلية. 26 5
-والثاني نتج عن المحاكاة القردية لأفسد ما في الحداثة ،كما ترجمتها سياسة الاستعمار النافي لقيمها ،فصارت النخب التي والاها مثله تعتبرنا انديجانها.وأكبر الأدلة أنها تصورت التحديث حرب تحضير عنيف ،أدى إلى أن صدام الحضارات أصبح ظاهرة داخلية :فرض ما حاكوه من قشور حضارة الغرب على الشعوب.لكن قيم الحداثة وشروطها هي آخر همومهم :وذلك في سلوك النخب بأصنافها الخمسة. فلبنين ذلك حتى نفهم علل الإرهابين ،ثمرة حرب أهلية بين كاريكاتورين: -كاريكاتور تأصيل لا يحاكي مجد الإسلام وقيمه ،بل صورة فرضها عليه نكوصهم إلى الجاهلية. -وكاريكاتور التحديث لا يحاكي الحداثة وقيمها ،بل الاستعمار. فلأجب عن خمسة أسئلة: هل لنخبة الإرادة إرادة؟ وهل لنخبة المعرفة معرفة؟ وهل لنخبة القدرة قدرة؟ وهل لنخبة الحياة ذوق؟ وهل لنخبة الوجود رؤيا؟إذا تبين أن كل واحدة من هذه النخب الخمسة ليس لها من الصفة التي تسمى بها إلا مجرد الاسم ،عندها نكون قد حددنا محل المرض ،نصل إلى مطلب العلة. وأقصد مطلب العلة ،الجواب عن سؤال أعمق:ما الذي يجعل هذه النخب ليس لها من صفتها إلا الاسم ،فتكون منتحلة لصفة وليس متصفة بها؟ هل ذلك بفعل فاعل؟ ما دمنا نعتمد البحث العقلي ،فلا يمكن أن يكون ذلك بغير علة.والجواب لا يكون إلا فرضيا ككل تفسير علمي .والفرضية لا تقتضي حصر العلة في واحدة. 26 6
والافتراض العلمي ليس تحكميا ،بل هو ثمرة سبر وتقسيم ضمني ،يختار من العلل الممكنة ما يرجح بكونه العلة الفاعلة بحق ،دون نفي علل ثانوية مساعدة.وسأبدأ بالقول إن \"المؤامرة\" أو خطط الأعداء للاستفادة من الأوضاع ،ليست هي العلة الرئيسية .بل هي من العلل المساعدة لعلة رئيسية سأحددها لاحقا. أبدأ بنخبة الإرادة.وليكن معيار التصنيف الأرسطي السداسي للنخبة السياسية (لا يختلف كثيرا عنالأفلاطوني) منطلقا لتحديد خصائص نخبتنا السياسية .فهو يقسم أنظمة الحكم بعدد من بيده السلطة السياسية وأخلاقه: -1واحد. أو -2قلة. أو -3كثرة. وكل واحد منهم يكون صاحب فضيلة أو صاحب رذيلة .فتكون ستة.وبين أن لا أحد يمكن أن يدعي أن الكثرة هي التي تحكم ،ويصعب ان يحكم الواحد حتى وإن بدا أن للعرب ملوكا وزعماء ،يبدون وكأنهم أصحاب الامر والنهي. لم يبق إلا صنف واحد هو حكم القلة. هذا من حيث الكم.من حيث الخلق :يصعب أن نقول إنهم من ذوي الفضيلة ،على الاقل بالنسبة لغالبيتهم الساحقة.فتكون الحصيلة نخبة الإرادة أو النخبة السياسية العربية قلة بمعيار العدد ،واصحاب رذيلة بمعيارالأخلاق .إنه ما يسمى \"اوليغارشية\" .وهو عندنا مافيا. لماذا سميت الأوليغارشية العربية مافية؟ 26 7
لأن الأوليغارشية هي حكم الأغنياء إذا كانوا سادة أنفسهم ،أما العربية فيه تابعة لأوليغارشية تحميهم. والحصيلة:لا يمكن لنخبة تدعي أنها ممثلة لإرادتها ولإرادة الأمة ،أن تكون محمية ،ومن ثم فهي عديمة الإرادة ومنتحلة صفة تخالف حقيقتها الفعلية.كلهم طراطير ،ولا سلطان لهم إلا ما يسمح له به أو يؤمرون بعمله بالاستبداد والفساد، لاضطهاد شعوبهم ورهن بلدانهم لخطط قد لا يعون أهدافها البعيدة. دليلان: -فكلهم -بلا استثناء إذا تجاوزنا الخطاب الموجه للاستهلاك المحلي -لهم حماة يأتمرون بأوامرهم ودليله دور السفارات وبنوك التغريق الدولي. -والدليل الثاني دور القواعد والمستشارين الأجانب أو من يمثلهم في لوبيات ما يسمى بالدولة العميقة وفي الإعلام والسياسة في المؤسسات الدولية.ولعل الرمز الجامع ،التصويت في المؤسسات الأممية ،حيث تبرز التبعية بوضوح ،ويقابلها مستويات التغطية على جرائمهم إزاء شعوبهم في المحافل الدولية.ولأنظر في نخبة القدرة متجاوزا نخبة المعرفة التي سأعود إليها لدرسها مع الأخيرة ،أي نخبة الوجود أصحاب الرؤى ،لصلة أصحاب القدرة بأصحاب الإرادة.قلنا إن النخب الحاكمة اوليغارشيا مافيوزية لعلاقتها بالمال والاقتصاد .وهم مافية المال والاقتصاد مباشرة ،أو موظفون لديها داخليا أو/وخارجيا.ولست بحاجة لكثير كلام أو استدلال :فالدليل هو بنوك الغرب ،وحتى بعض البنوك العربية التي تمثل جناب تبييض المال والسرقات من خبز الشعوب الفقيرة. ومثال العراق والجزائر كاف.وهو يصح حتى على أفقر بلاد العرب ،ناهيك عن أغنيائها :فطالح اليمن سرق أربع مرات ميزانية تونس ،ومثله طوالحنا الكثر. 26 8
وفي الحقيقة ،فالسياسة في بلاد العرب هي الطريق السيارة والأسرع للإثراء ،ومن دون ذلك يعسر أن تفهم التكالب ،بدليل عدد الأحزاب لما فتح المجال. لا أصدق أن تونس فيها ما يملأ مائتان واربعين حزبا من المخلصين للشأن العام.الحقيقة هي أن الأحزاب صارت حوانيت تجارة ودعارة ،والتردد من سفارة إلى سفارة.لذلك فأصحاب القدرة لا قدرة لديهم عدا السمسرة وتمثيل مافيات محلية أو دولية- ودون تعميم مخل -فأكثر من تسع وتسعين في المائة لا يكبرون إلا بهذه الطريقة.لذلك ،فهم لا ينتجون ثروة ،بل يبددون ثروات البلاد الطبيعية بما فيها المناخ والطبيعة بخدمات سياحية ،وهي في الحقيقة خضوع لشركاتها المافياوية.في العالم كله ،رجال الأعمال هم رمز الطموح والغزو الاقتصادي للعالم ،إلا عندنا ،فهم بلا طموح ولا يغزون العالم ،بل هم وسطاء يساعدون العالم لغزونا. أوروبا الحديثة صنعها الطموح البرجوازي لرجال الأعمال.بلاد العرب خربها عدم الطموح \"الخواجي\" الذي يقتصر على رهن البلاد للعيش مثل الغرب. بورجوازية الغرب طورت الاقتصاد والعلوم ثم أخذت السلطة.من أخذ السلطة أهماج العسكر والقبائل فاستبدوا بالثروة وأعاقوا الثورة العلمية والصناعية.فقد جمع هذان الصنفان فقدان الإرادة سياسيا والقدرة اقتصاديا ،فأصبحوا طفيليات تمتص دم الشعوب وتحول دونها والتقدم السياسي والعلمي والاقتصادي.وحتى نفهم حقيقة هذه الظاهرة ،فلنقارن تركيا قبل وصول نخبة إرادة وقدرة صالحتين، ثم بعدها .فقد تعافت تركيا بعد وضع مفلس مثل جل بلاد العرب.وتلك هي علة حرب الأنظمة العربية والغربية عليها :لا يريدون أن يحكم بلادنا أصحاب الإرادة وممثليها والقدرة وممثليها ،بل طراطير وسماسرة مافياوية.وعندما يكون السياسيون والاقتصاديون كما وصفنا ،هل تظنهم سيهتمون بشرط كل تقدم وقوة؟ 26 9
ستكون التربية والبحث العلمي آخر همومهم :تكفيهم الإيديولوجيا.لذلك فهم حريصون على نظام تربية لمحو الأمية وبث كاريكاتور الحداثة والأصالة في آن وتخريج نخب غبية تخلط بين التحديث المبدع والتقليد المدقع.لذلك فلا يعجبن أحد من الحالة المزرية التي عليها جامعاتنا التي هي محاضن الإيديولوجيا لتخريج العاطلين الذين همهم الأوحد الحرب على الذات.ذلك أن الحرب على الذات في النخب التي تدعي المعرفة ،من جنس الحرب عليها لدى الساسة والاقتصادين :هي ما يجعلهم نجوما لدى الحامي سيدهم ومعبودهم.فكما أن أسرع طرق للإثراء هو السياسة والسمسرة الاقتصادية ،فكذلك أسرع طريق للنجومية بين النخب دعوى الليبرالية والخواجية والحرب على الإسلام.والنخبتان الأخيرتان علاقتهما مناظرة لعلاقة نخبة الإرادة والقدرة :نخبة الوجود (للرؤى) ونخبة الحياة (للذوق) .تخدمان الأوليين إلا من رحم ربي.فنخبة الرؤى تبرر فلسفيا أو دينيا ،ونخبة الذوق تفسده ليكون من جنس ما تحتاجه أخلاق المستبدين والفاسدين ،أعني أخلاق الخواجة مستعمرنا كأنديجان.تلك هي حال النخب الخمسة التي توجد في كل الجماعات ،والتي هي ما به يقاس طموح الجماعة عندما تعبر عنها .لكنها في حالتنا في حرب دائمة عليها.أطلت البحث ،لذلك فلن اضيف إلا جملتين قصيرتين حول العلة التي وعدت بتحديدها في غاية الكلام :فرضيتي هي التعليل بالانحطاطين الموروثين. الانحطاطان: -1نكبة حضارتنا في التربية والحكم (ابن خلدون :فساد معاني الإنسانية). -2نكبة الحداثة عندما تحولت إلى إيديولوجيا استعمارية.والنكبتان ولدتا الانحطاطين اللذين أنتجا الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي .وهما سر أخلاق النخب التي انتحلت الصفات الخمس :فسدت كل وظائف الدولة.فنحن عالة على الحامي في كل شيء ،لأن منتحلي الصفة في الإرادة والمعرفة والقدرة والحياة والوجود ،فتقضي بذلك على من بقي له شيء من معاني الإنسانية. 26 10
26 11
عرّفت الإرهاب بكونه وجهي حرب أهلية تعيشها الأمة ويستخدمها أعداؤها للسيطرة على كل فعالياتها بالاستبداد والفساد في مرحلة الميتاستاز :سرطان عام.ويتجلى السرطان العام في جسد الأمة في سلوك لا نافذ من النخب الخمس ،أي نخبة السياسة ونخبة المعرفة ونخبة الاقتصاد ونخبة الفنون ونخبة الرؤى. لكن هذا التجلي يمكن أن يرد إلى آليتين بينتين، -إحداهما تحدد علاقات النخب فيما بينها. -والثانية تحدد علاقاتها بمن يحميها فيجعلها أداة لأجندته.وقبل تحليل هاتين الآليتين وكيفية عملهما لتحقيق وضع يشبه ما تعيشه الأمة ،لا بد من شرح دور الأحياز الخمسة في تحديد علاقات البشر بعضهم بالبعض.فهذا الدور واحد في الجماعة الواحدة ،أو بين الجماعات .بل وحتى في الفرد الواحد فما فوق ،أي الأسرة والقبيلة والقطر والوطن وكل دار الإسلام والعالم.ذلك أن البشر بوصفهم مستعمرين في الأرض ومستخلفين فيها ،يتنافسون على ما به يتحقق الاستعمار في الارض والاستخلاف: -1أدوات الأول. -2غايات الثاني. وهذه الأدوات والغايات تتعين في الأحياز: .1المكان .2والزمان .3وأثر الأول في الثاني .4وأثر الثاني في الأول 26 12
.5ثم أصل صورة دورها في تحديد شروط التنافسفالبشر من الفرد إلى كل البشرية ،مشكل حياته الحصة من المكان ومن الزمان ،ومن ثمرة تفاعلهما في الاتجاهين ،ثم الصورة التي تحدد الدلالة بالمنزلة.فالاشتراك في المكان وفي الزمان يعني كذلك الاشتراك في ثمرة تفاعلهما في الاتجاهين، والصورة التي تحدد أصل ذلك كله بالمنزلة ،هي شروط الاشتراك.الاشتراك في المكان يؤدي إلى التزام ،والتمانع ومثله الاشتراك في الزمان .والداعي إلى التزاحم والتمانع ،هو مقدار الحصة منهما وخاصة من ثمرتهما.وهذا بين لمن يتدبر طبيعة التساكن بين الناس من حيث التزاحم على المكان ،والتوالي بين الأجيال من حيث التزاحم على الزمان. وعنهما يتولد التمانع.والتمانع ليس بسبب الحصة من الامتداد(المكان) والمدة(الزمان) فحسب ،بل لأن الحصة من المكان ثروة ،والحصة من الزمان تراث ،وبهما تتحدد منزلة الإنسان.لا أنكر أن هذا التعليل عسير الفهم خاصة ،وهو تعليل كوني يعم الفرد (مكانه بدنه، وزمانه حياته) والجماعة الواحدة والجماعات والإنسانية ،بل هو أشمل.فكل الموجودات تتحيز في المكان وفي الزمان ،ونصيبها منهما كميا للأول ،وكيفيا للثاني، يجعلها فيما يشبه وضعية التزاحم والتمانع مقدمين على التكامل.في العمق ،المقدم هو التكامل لأنه عين اشتراكها في معين وجودها ،لكن الظاهر منه يبدووكأنه صراع دائم ،فجعل الفلسفة تتصور الوجود خاضعا لمنطق الجدل .لكننا بينا خطأمنطق الجدل لأنه جعل الخاصيات العارضة تخفي الأصل الحقيقي :فالمشاركة في الأحياز مكانا وزمانا ،وثمرتين ثم أصلها جميعا ،هي الحقيقة.إذا جعلنا الصراع مبدأ لتحديد الحظ من المكان والزمان والثمرتين ،أفسدنا الأصلفقدمنا العرضي على الجوهري :استثمار الأحياز شرطه التعاون والتعاوض .لذلك كانالتزاحم والتمانع عرضين لفساد شروط التعاون ،أي ظلم التعاوض الذي هو نكوص بالعلاقات البشرية إلى القانون الطبيعي بدل القانون الخلقي. 26 13
فما يجعل الأمة في هذا الوضع ،هو شروط تعاوض تفسد التعاون ،وتستعيض عنه بالاستضعاف والاستتباع داخليا وخارجيا ،المفسدين لمعاني الإنسانية في العالم.وبيان هذه الحقيقة هو الغرض الأول والأهم من الرسالة الخاتمة :كيف يكون البشر أخوة (النساء )1لا تفاضل بينهم إلا بتقوى القانون (الحجرات .)13والتكامل بين القانونين الطبيعي والخلقي ،شرط الحياة الطبيعية والروحية للإنسان فردا وجماعة في تقاسم الأحياز واستثمارها بالتعويض العادل = الدين.لذلك لا يمكن تصور الدين القيم من دون سياسة ودولة :فلا بد من تربية وازع الإنسان الذاتي على التعاون والتعاوض العادل ،ثم الحكم وازعا أجنبيا.حاجة البشر لتقاسم المكان والزمان وثمرتيهما بمبدأ يحقق التوافق بين الضرورة الطبيعية والحرية الخلقية ،يجعلهم سياسيين بالطبع بحاجة للوازعين.الإرهاب أو جهاد حربنا الأهلية علته في الغاية سرطان عام اصاب الوازعين :الذاتي والأجنبي ،وهو يعني فساد التربية والحكم واستبدادهما محليا ودوليا. ولهذه العلة كان القرآن في الجوهر:-1عرضا نقديا لتاريخ التربية والحكم أو التجربة الخلقية والسياسية للإنسانية ، بمفهومي التحريف والجاهلية. مشفوعا بـ:-2استراتيجية خاتمة بمنطق التصديق والهيمنة لبناء الإنسانية بناء لا ينكر ما حصل في الماضي ،بل يستدرك لتحرير البشرية من التحريف والجاهلية.ولهذه العلة سميت محاولة الفهم الفلسفي للقرآن \"استراتيجية التوحيد القرآنية ومنطقالسياسة المحمدية\" .القرآن استراتيجية ،والسنة عينة تطبيقية .وكلاهما يتعلق بالتربيةوالسياسة لبناء الإنسان الذي لا ينكرما فيه من طبيعي ،ولا يخلد إليه ،بل يتعالى عليه ليكون أهلا للاستخلاف :منزلة وجودية.ومن ثم فالسؤال المضاعف الذي وضعناه ،جوابه الخاص بنا يتعلق بـ :كيف فسدت التربية والحكم بآلية علاقة النخب؟ 26 14
وجوابه العام :كيف صار الفساد داء كونيا.الجواب الخاص بنا وبمنطق علاقة النخب بعضها بالبعض في بلادنا .تكلمت سابقا علىالتخلي عن الدستور وفرض حالة الطوارئ منذ الفتنة الكبرى إلى اليوم .فبعد شرعيةالبيعة ،وعلوية الشريعة التي كانت قانون الدولة ،والفصل بين السلطات (القضاء مستقل عن التنفيذ) صار كل شيء بيد المتغلب في الحرب الأهلية.والتشريع كان مستقلا عن القضاء وعن التنفيذ لأنه ينسب إما لله (أحكام القرآن) أو للرسول (السنة) .لكن المتغلب صار يشرع بما يبقي على سلطانه.وما إن أفتى الفقهاء بشرعية المتغلب ،تنازلوا نهائيا على علوية الشريعة إلا بمدلول تبريري مبني على فقهاء السلطة واضطهاد كل مخالف أو اهمال رأيه.انتهى عهد كان فيه أي مواطن يستطيع أن يقول للحاكم الشرعي \"والله لو رأينا فيك اعوجاجا لق ّومانه بحد السيف\" وأصبح سلطان بعض الفقهاء شذوذا يحفظ.وشرعية المتغلب التي ظنوها حلا لتجنب الفوضى -ضرورة تبيح المحظور -جعلت التغلب قاعدة ،أي إنها جعلت الطريقة الوحيدة لتغير الحكام تكون بالتغلب.فبات الذي يحكم يعمل كل ما يستطيع لقطف الرؤوس قبل أن تينع ،وصار كل معارض يعمل ما يستطيع ليصل إلى الحكم بالقوة :حالة الطوارئ = حرب أهلية دائمة.ويخطئ من يتصورها مقصورة على الحكم في مستواه السياسي فحسب .فهؤلاء بحاجة إلىأعوان لا يمكن أن يضمنوا ولاءهم من دون إطلاق أيديهم في الرعية ،وهم مرتزقة لإضفاءالشرعية وللحماية وللقضاء الفاسد والأمن الفاسد والدبلوماسية الفاسدة والدفاع الفاسد واستعلامات الاستبداد والفساد للاضطهاد.وهذه هي العلة الأولى التي يفسر بها ابن خلدون \"فساد معاني الإنسانية\" في الجماعةالتي تصبح عالة على الحامية وعبيدا للحكام .وكلهم من المرتزقة .فيصبح سلطان الظلمبديلا من سلطان العدل .وهو علة علل خراب العمران بلغة ابن خلدون .وخراب العمران ليس مباشرا ،بل بتوسط الوظيفة الثانية للدولة. 26 15
فمرتزقة الشرعية (فقهاء السلطان) ،ومرتزقة القضاء والأمن والدبلوماسية والدفاع والاستعلامات ،لا يمكن ألا يفسدوا الرعاية بعد الحماية .فيفسد تكوين الأجيال: -التربية النظامية (التعليم) -والتربية العامة (المجتمع) -والتموين الرمزي (المعرفة) -والتموين المادي (الاقتصاد) -وينعدم البحث العلمي.فتتحول النخب كلها إلى كائنات متطفلة تمتص القدر الضئيل الذي تنتجه جماعة فيالمستويات البدائية من الرعي والفلح والتجارة والصناعة الأولية .فيجمد كل شيء،وتصبح مرتزقة الحكم والمعرفة والاقتصاد والذوق والرؤى مافيات تتصارع على شروط العيش البدائية ،لاقتسام المكان والزمان وثمرتيهما.طوارئ قانونية أي حرب أهلية ،أي نكوص للجاهلية ،أي حياة بدائية :صراع القبائل على رزق ضيق لا يكاد يتجاوز انتاج الطبيعة ،لعدم وجود العمل المنتج على علم.وهذا هو ما سميته الانحطاط الذاتي الذي انضاف إليه الانحطاط الذي أنهى به الاستعمار حتى هذا المستوى من العمران ،وعوضه بتحويل الجميع إلى عبيد.ولما غادر ،ترك الأمر بيد من اختاره خليفة يحقق ما عجز عنه :فهو استعمر الأرض، واستعبد الناس في أعيان وجودهم ،لكن أذهانهم ظلت متمسكة بالدستور.وبهذا التعلق به ،لما قامت حروب الاستقلال والمقاومة التي كانت كلها إسلامية المرجعية. وقد صاحبتها حركة اصلاح سياسي واجتماعي تعي علل الانحطاط.وأعداء الإسلام في الداخل والخارج يسمون أحفادها والمواصلين لمسعاها الإصلاحي \"الإسلام السياسي\" خاصة بعد أن اختارها الشعب لحكمه بحرية وشفافية.والإرهاب بوجهيه ليس لهؤلاء الأحفاد فيه دور ،بل إن أنظمة الحكم والمعارضة ممثليالكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي هم الذين يتحاربون ويحاربونهم .فنوعا الأنظمةوإيديولوجييهم يحاولون ضمهم واقحامهم في الحرب الأهلية ،بضمهم إلى كاريكاتور تأصيل 26 16
يصنعونهم بمعية حماتهم لإضفاء الشرعية على حربهم ،فتبرز العلاقة بين ارهابالاستبداد والفساد الداخلي ،والاستضعاف والاستتباع الخارجي .فأصحاب الثانيين يحمون اصحاب الأولين في حربهم على الإسلام.ذلك أن التزاحم والتمانع الداخلي على المكان والزمان وثمرتيهما ،يستغله من يتزاحم ويتمانع من قوى الاستعمار على ما في جغرافية الإسلام وتاريخه.ولما كان العرب والمسلمون في حرب أهلية بسبب التزاحم والتمانع على المكان والزمان وثرواتهما داخليا ،فإن الأعداء يكتفون بتغذية أطراف الصراع.والذين يستفيدون من الحرب الأهلية هم الذراعان (إيران وإسرائيل) ومستعملوهما(روسيا وأمريكا) ،أما اوروبا فهي ما تزال مترددة ،وإن أدركت الخطر .وأولى علاماتإدراك أوروبا الخطر ،تمثل في ازمة الهجرة المعلومة للجميع .والثانية هي ما حصل مؤخرا بينها وبين ترامب بدليل تصريح المستشارة ميركل. لا انتظر أن يستفيد أحد من تحليلاتي ،فقيادات العرب لا تعنى بالمصير. همهم حكم محميات بلا سيادة والتآمر المتبادل .تماما كما في حربهم على قطر وتركيا. 26 17
وصلنا الآن إلى زبدة المعركة التي يمكن أن تمثل فرصة تجاوز الصراع التاريخي بين الحضارتين المتجاورتين ،العربية الإسلامية واللاتينية المسيحية.صحيح أن الحضارة اللاتينية المسيحية استأنفت دورها بشكل حديث بعد الحرب العالميةالثانية بفضل مسعى الدول الوطنية إلى تجاوزها نحو وحدة أوروبية ،وهذه الوحدةالأوروبية كما هو معلوم ،عرفت نفسها بكونها حضارة يهودية مسيحية واستثنت من وحدتها العنصر الإسلامي كما يتبين من تعطيل انضمام تركيا.وصحيح أن الحضارة العربية الإسلامية توجد فيما يشبه وضع أوروبا التي كانتمتصارعة على أساس الدولة القومية الحديثة إلى نهاية الحرب الثانية .فالحرب الأهليةالأوروبية بخلاف العربية ،انتهت ولم تكن بينية في أوروبا بعد حروب نابليون ،بل في مستعمراتها لتقاسمنا ،والعالم إلى الحرب الثانية.الحرب الأهلية الأوروبية كانت حرب دول ذات طموح كوني ،بخلاف الحرب الأهلية بين محميات العرب التي هي من جنس حرب قبائل الجاهلية بين عصبيات غبية. الأولى ذات طموح في غزو العالم وحتى السماوات.والثانية همها الوحيد الإطاحة بجارها العربي تنافسا بين أنفس حقيرة بين فاقدي الغيرة على الديرة.لكن الربيع العربي غير الاحوال لأنه على الأقل فرض على الثورة المضادة أن تحققوحدة سلبية هدامة ،تتجاوز الجار المباشر وتشمل الوطن العربي كله .وما كانت لتفعل لولم تشعر هي ومن يحميها أن الثورة تخطت الحدود وبدأت تحرك كل شعوب الإقليم في أول زلزال فعلي يمكن ان يحقق شروط الاستئناف. 26 18
وقبل أن أواصل العلاج ،فلأقدم ملاحظتين ابستيمولوجيتين :تحليل الأوضاع التاريخيةوتوقع مستقبل مجراها ،يغلب عليه تأويل الدلالات بدل تحليل العلل .فهو يجمع بين معطيات طبيعية تحددها الجغرافيا ،ومعطيات تاريخية تحددها حال الحضارة. جغرافيا ،يمتنع فصل أوروبا عن إقليمنا .لكن فصلها ممكن تاريخيا.وإذن ،فكل المشكل متعلق بهذه المفارقة بين التواصل الجغرافي ،والتفاصل التاريخي بين الحضارتين الجارتين :ما دورها في تحديد المستقبل ،مضطره وحره؟ فمضطره لا يخلو من أحد أمرين، -إما مواصلة التفاصل الذي ساد منذ نزول القرآن. -أو تجاوزه إلى ضرورة التواصل. وهنا يأتي حره :كيف نغلب هذا على ذاك؟وهنا يكمن دور التأويل والاستراتيجيا التي تحقق شروط حرية الصفين ،بإرادة حرة ندية تفهم الوضعية بوصفها خطرا على الجميع وقابلة للعلاج بالتواصل. لن أكرر ما قلته في تعليقي على تصريحات المستشارة الألمانية ميركل. فرضيتي هي أن أوروبا إذا واصلت خط التبعية للقطبين وذراعيهما ،فستعاني مثلنا.وكما جاء في ملاحظتي الابستمولوجية ،فكلامي من جنس الفكشن أو العلم الخيالي الذي قد يصبح خيالا علميا إذا عملنا بجد لتجاوز ماضي علاقاتنا الأليم.والمعلوم أن التاريخ سواء تعلق بالماضي أو بالمستقبل ،يكون حديثا حول أحداث لا معنى لها إلا بتأويلات الماضي وتحقيقات المستقبل ،وهو إذن فكشن.الرواية الحقيقية طابعها الأبدوعي (الفكشن) عديم المرجعية الواقعية إلا عند ضعاف الأدباء أصحاب الأدب الواقعي الذي هو حكاية تاريخية تافهة.الماضي الحي ،تأويل لأحداثه بأحاديثه عن ذاته بما يقتضيه الحاضر المبدع لأحاديث المستقبل التي هي استراتيجية تحقيقه :وهو ما فيه من فعل أبدوعي.وعدم الفعل الأبدوعي عند نخبنا-حتى في أدبهم -هو سر ما هم عليه من موت للطموح التاريخي وعدم وعي بطبيعة المعركة :ذراعان بطموح إمبراطوري في ارضهم. 26 19
والدليل القاطع ،هو حربهم الأهلية التي تلهيهم عن أعدائهم الحقيقيين ،فلا يرون عداوة إلا للأخوة من الأقرب إلى الأبعد ،أي من الخليج إلى المحيط.وقد يعجب الكثير مما سأقول :فأنا أشكر لإيران وإسرائيل ما يفعلانه .لأني اعتبرهمامهمازا للجواد السني سيفز إذ يستفز ،وفزته ستغير تاريخ العالم .وهما يعلمان ذلك .لأنالشباب على قلة الحيلة ،استطاع أن يجبرهما على اللجوء للاحتماء بالعملاقين لتحقيق بعض ما يسعيان إليه ،وهو كله قابل للرجع.فالأمر لا يتعلق بقوة ذاتية لإيران وإسرائيل ،بل لضعف مؤقت للأمة بسبب حربها الأهلية التي كانت تحت الرماد ثم أعلنت بعد الربيع ،وسينتصر الشباب.فلنعرض المعطى الطبيعي ،أو ما تفرضه الجغرافيا على أوروبا .ولا بد من البدء بالتمييز الذي أبني عليه الفصل بين شرق وغرب أدنيين ،وشرق وغرب أقصيين.الجغرافيا الطبيعية تفرض الجوار والتماس ،والجغرافيا السياسية هي التي تضفي عليهما الدلالة المفيدة في التحليل الاستراتيجي ،وهي علة هذا التمييز.لم يبق العالم كما كان قبل سقوط السوفيات وقبل تعافي اوروبا وشعور الغرب الأقصى (أمريكا) بضرورة التصدي لبديل السوفيات الصيني أي الشرق الأقصى.وهذه هي الجغرافيا السياسية التي تحدد الجغرافيا الاستراتيجية التي سأعتمدها في \"الفكشن\" أو الابدوعة الفرضية ،التي أأول بمقتضاها مجرى المستقبل.صحيح أن أوروبا تعافت بالقياس إلى حالها بعيد الحرب الثانية ،لكنها لا تستطيع مع ذلك استرداد مستعمراتها وهي من دونها مخنوقة بخصوص شروط قوتها. والسؤال هو :هل ستقبل أوروبا محاولات تمزيقها؟وفي حالة بقائها متحدة ،هل ستقبل الخضوع لذراعي روسيا وأمريكا في الإقليم وحاميهما في العالم؟أوروبا مثلنا بين الشرق والغرب الأقصيين ،وهي قد تصبح ممزقة مثلنا .وحتى لو بقيت واحدة ،فهي بحاجة للطاقة ولما حولها من حزام أمني في عالم مضطرب. 26 20
يصعب أن تدعي أوروبا أنها دول مستقلة وليست محميات مثلنا إذا أصبحت تحت رحمة روسيا وإيران طاقيا ،وتحت إسرائيل وأمريكا أمنيا .ستصبح مستعمرات. لذلك فأي عاقل في أوروبا ،سيجد نفسه أمام إحدى خليتين لا ثالث لهما: -1يبحث عن حليف قريب من وضعه جيوستراتيجيا. -2فيواصل معاداته ليصبح مستعمرا.واليمين الأوروبي يمكن أن يفضل الحل الثاني لما ربي عليه من حقد على الإسلام والمسلمين. وعقلاء أوروبا سيحالفون من يقويهم ولا يهددهم ،أي نحن.وحينئذ ،يكون المشكل لدينا وليس لديهم :ففرقتنا وكاريكاتور التأصيل ،يجعل من سيحول دون ذلك منا شبيها بمن يحول دونه منهم :كل الملتفتين للماضي.الإقليم سيتسع ليجمع الشرق الأدنى(نحن) والغرب الأدنى (أوروبا) ،والأتراك والبلقان جسر بيننا مثل المغرب العربي واسبانيا ،هو المستقبل المتوقع بحق. وهو مستقبل سيقضي على خمسة حروب أهلية: .1حربنا الأهلية .2وحرب أوروبا الأهلية .3وحرب الصفين الأهلية .4وحرب الذراعين .5وحرب حامييهما على المستقبلتلك هي الأبدوعة هي التي أتوقعها مستقبلا لملتقى القارات الثلاث :إفريقيا وآسيا وأوروبا قلبا للعالم وأصلا لحضارته الحديثة ومستقبل نظامه العادل.والتكامل في ملتقى القارات الثلاث وسيطا بين الشرق الأقصى والغرب الأقصى ،هو المعين الذي جمع بين التراثين الديني والفلسفي ،فأنتج الحداثة.وهو الذي سيحفظها ويحفظ قيمها التي تهددها ثقافة الشرق الأقصى والغرب الأقصى: فكلاهما في قطيعة مع متعاليات الروح والعقل ،بالغرق في المحايثات. 26 21
26 22
التمييز بين شرق وغرب أقصيين ،وشرق وغرب أدنيين ،شرط لفهم دور الأحياز في تحديد أهم محركات التاريخ السياسي والاقتصادي لتحديد نظام العالم الجديد.وهو شرط جامع بين المضطر والحر في تاريخ الإنسان ،بوصفه كائنا طبيعيا وخلقيا لا تفهم أفعاله من دون هذه العلاقة بين المحايث والمتعالي في كيانه.رد التاريخ إلى فاعلية الإنسان المادية (كائن طبيعي) أو إلى فاعليته المثالية (كائن ما بعد طبيعي) هو أصل أدلجة هيجل وماركس لفلسفة التاريخ.وقد وضعت نظرية الأحياز ودورها في تحديد مجريات التاريخ الإنسان أحداثه (للتحليل) ،وأحاديثه(للتأويل) ،لتجاوز منطق الجدل إلى منطق التبادل والتواصل.والتبادل والتواصل مشروطان بالتعدد الذي تحيط به وحدة ،لعل أفضل مثال منهما هو الظاهرة الحية التي هي كيان متعدد تحيط به وحدة رمزها الزوجية.والزوجية أهم تعدد بعد الوحدة ،بل هي أهم علامة على منطق وحدة المتعدد بالتكامل الوظيفي ،الذي أبرز رمزيه في التاريخ الإنساني التبادل والتواصل.والتبادل هو جوهر ما في الإنسان من طبيعي ،والتواصل هو جوهر ما في الإنسان من خلقي ،وكلاهما مشروط بالثاني: -الأول شرط وجود. -والثاني شرط كمال.وليكن مثال زوجية الإنسان :فمن دون تبادل بين الذكر والأنثى لا وجود للإنسان ،ومن دون تواصل بينهما لا وجود لكماله .ودورهما في الجماعة مثيل له.وهما ليسا تبادلا وتواصلا عضويا بين الذكر والأنثى ،بل هو تبادل وتواصل ذو بعدين متعامدين :بين الافراد والجماعات ،ثم بينهم وبين مصدر حياتهم أو العالم. 26 23
والتبادل والتواصل يفترضان التعاون والتعاوض ،وقد يتخللهما التزاحم والتمانع في الأحياز ،فيوحي بمنطق الجدل ،ويسميه الإسلامي بسطحية بالتمانع.والقرآن لا يقول بالتدافع بين صفين ،بل بدفع الله لمن يتعالى عليهما بغير الجدل ليستعيد التعاون بالتعاوض العادل ،فيتمكن من تجاوز التزاحم والتمانع.وبذلك نكون أمام أربعة صفوف ،وعامل تحرير من رد منطق الوجود إلى الجدل، لإرجاعه إلى منطق التعاون والتعاوض العادل ،الذي يمكن من التبادل والتواصل.ومن فلسفة التاريخ هذه ،استنتج الجواب عن سؤال ختمت به الفصل الرابع :كيف نحقق وحدة الإقليم المؤلف من الشرق والغرب الأدنيين؟ وبأي استراتيجية؟فالأحياز الخمسة بفضل التاريخين الطبيعي والثقافي للإنسانية ،لم يعد تقاسمها معتمداعلى التزاحم والتمانع بفضل تشابك التبادل والتواصل الكونيين .فالإنسانية وصلت مرحلةتبين لها فيها أن التزاحم والتمانع (كل واحد يستثني الآخر) لم يعد هو المحدد للعلاقات إلا بسبب الجهل والأحكام المسبقة. حصل ذلك مرتين: -فلسفة الإسلام الكونية (النساء 1والحجرات 13في نظرية الأخوة البشرية والتفاضل بالتقوى لا غير). -وعولمة التشابك تبادلا وتواصلا.حصل ما يشبه التحيز في كل المكان وكل الزمان وفي كل التراث وكل الثورة ونفس المرجعية المتعلقة بمصير الإنسانية الواحدة ،مع حاجة حفظ العالم.ومعنى ذلك ،أن كل فرد يمكن أن يكون في كل المعمورة بتواصله وتبادله دون أن يشترطذلك تزاحما أو تمانعا بين الأفراد والجماعات فتتبادل وتتواصل .فالتطور الحضاري أوصلالبشرية إلى حقيقة لا ينفيها إلا جاهل :التزاحم والتمانع بمنطق الجدل يقدم الحرب على السلم ،فينتهي إلى الانتحار الجماعي.تبينت الإنسانية الرشد من الغي ،ففهمت الأخوة البشرية والتفاضل بالتقوى .السلم - الإسلام-هو الحل الوحيد للتخلص من تزاحم وتمانع يهددان المعمورة. 26 24
وهذا هو مضمون الرسالة التي بها يستأنف الإسلام تاريخه لتحقيق الشرط :شرط نظام العالم الجديد هو وحدة صفي الإقليم اللذين أنتجا التاريخ الحديث.فهو سيمكن من كسر الهوة بين الشرق والغرب الأقصيين ،إنه قطب معدل ،قطب قلب العالم ورمز حضارتي الجمع بين المصدرين الديني والفلسفي الحديثين. فكيف نحقق ذلك؟كيف نخرج فرعي هذا القطب من الصدام بينهما حول الأحياز (المكان والزمان وتفاعلهما في الاتجاهين والمرجعية الدينية والفلسفية)؟ لقد خرجا منه سلبا وإيجابا: -فسلبا كلاهما لم يعد قادرا على الهيمنة على الآخر بل يخاف من هيمنة الأقصيين عليه. -وإيجابا ما حصل بينهما من تمازج.ولهذا أشرت إلى الجسرين :تركيا والبلقان شرقا ،والمغرب والأندلس غربا .ذلك رمز تمازج حصل خلال المدين منا إليهم ومنهم إلينا في الوسيط والحديث.والتمازج ليس مقصورا على الجسرين ،بل هو غاص في العمقين :فالاختلاط الديموغرافي والثقافي بين شعوب الصفين حقيقة لا ينكرها إلا هذيان العميان.وكل مسار تطوري تتحدد حقيقته بغايته :ليس منطق الجدل هو الذي يتحكم في حركة التاريخ ،بل منطق التبادل والتواصل ،بالتعاوض العادل في الغاية.فمنذ خرافة أفلاطون عن صراع يوناني مصري قديم إلى نهاية الاستعمار ،يبدو المحرك هو التزاحم والتمانع .لكن الحقيقة بينتها غاية التاريخ الحالي.فصراع قرطاج وروما قديما ،ثم المسلمين والمسيحيين وسيطا ثم حديثا ،كل ذلك انتهى في الغاية إلى ما وصفت :الجسرين والتمازج الديموغرافي والثقافي.ولم يبق إلا فهم هذه الحقيقة والعمل بمقتضاها :التخلص من الصراع الذي هو من اعراض العلاقات البشرية ،بالتزاحم والتمانع على مصادر الرزق المشتركة.والمسار الذي يوصل إلى الغاية من طبيعتها :إذا كانت الغاية الوحدة ،لذلك فجوهر محرك التاريخ الإنساني هو التعاون والتعاوض العادل ،والصراع عرض. 26 25
وتلك هي عقيدة الدين الخاتم والفلسفة الخاتمة .والحمد لله أن الإنسانية وصلت إلى مرحلة إن لم تفهمها وتعمل بها ،فهي ستقضي على المعمورة وتنتحر.ذلك أن الإنسانية وصلت إلى حد جعل أقصى قوتها أنها اكتشفت ضعفها ،وهو معنى الاستخلاف :من دون التحرر من الفساد في الأرض وسفك الدماء ،تنتحر.بعبارة وجيزة ،الإنسانية صارت إسلامية بالفعل حتى وإن بقيت بالقوة غير واعية بذلك: فلكأنها بدأت تدرك دلالة مشهد الاستخلاف ،حكم الملائكة في آدم.الآن تفهم معنى الشرط الذي جعل آدم جديرا بالاستخلاف :التسمية شرط التواصل وحفظ مصدر عيشه بالكلمات التي أتمها آدم ،شرط التبادل والتعاوض العادل. 26 26
02 01 01 02تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي :محمد مراس المرزوقي
Search
Read the Text Version
- 1 - 32
Pages: