Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore سلسلة الارهاب وجها حرب اهلية يغذيهما الاستعمار - ابو يعرب المرزوقي

سلسلة الارهاب وجها حرب اهلية يغذيهما الاستعمار - ابو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2017-06-03 06:53:13

Description: سلسلة الارهاب وجها حرب اهلية يغذيهما الاستعمار - ابو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬‫وجها حرب أهلية يغذيهما الاستعمار‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وجها حرب أهلية يغذيهما الاستعمار‬

‫المحتويات‬ ‫‪1‬‬ ‫‪5‬‬‫‪12‬‬‫‪18‬‬‫‪23‬‬

‫هل حقا تريد أنظمة العرب محاربة الإرهاب من أجل مصلحة شعوبها؟‬ ‫سأكتفي بهذا السؤال لأجيب عنه‪.‬‬ ‫السؤال الثاني أهمله لأني لا أصدق أن الغرب يحاربه‪.‬‬‫فالغرب يسمي إرهابا كل حركات التحرر‪ ،‬ومن ثم فمن العسير أن نعتبر ما يسميه إرهابا‪،‬‬ ‫إرهابا‪ .‬لذلك سأكتفي بما تسميه النخب العربية الحاكمة إرهابا‪.‬‬ ‫يعرف الإرهاب عادة بانه طلب الحكم بالعنف بدل السبل السياسية‪.‬‬ ‫وإذن فينبغي أن نسمي إرهابا كذلك السعي للبقاء فيه بالعنف بدل السبل السياسية‪.‬‬‫وحينئذ فنحن أمام حالتين ينطبق عليها هذا الوصف بالنسبة إلى طلب الحكم بالحكم‬ ‫والتشبث به بالعنف‪ .‬ففي الحالتين الإرهاب يكون ضد إرادة الجماعة‪.‬‬ ‫الحالتان‪:‬‬ ‫‪ -1‬تتعلق بالعنف في السياسة الداخلية بين الأنظمة والمعارضات الوطنية‪.‬‬ ‫‪ -2‬العنف بين موقفين من مرجعية الدولة قطرية أو متجاوزة للقطرية‪.‬‬‫وواضح أن الانظمة الحاكمة تحاول دائما رد الأولى إلى الثانية‪ ،‬لتيسر على نفسها دعوى‬ ‫تمثيل الدولة الوطنية ضد دولة متجاوزة للأوطان هي دولة الإسلام‪.‬‬‫فينتج عن ذلك أن المرجعية الإسلامية بمجردها‪ ،‬كافية لاعتبار أي حركة سياسية غير‬ ‫وطنية‪ ،‬لأنها تقول بمرجعية متجاوزة للأقطار الموروثة على الاستعمار‪.‬‬‫وأصحاب هذا الموقف لا يرون تناقضهم‪ ،‬فمرجعياتهم هي بدورها متجاوزة للأقطار دون‬ ‫أن تعني نفيها لها‪ ،‬بل هي تصلها بمرجعية عالمية اشتراكية أو رأسمالية‪.‬‬‫ذلك أنهم حتى لو قال صاحب المرجعية الإسلامية أنه يقصر همه على القطر والدولة‬ ‫الوطنية‪ ،‬فهم يعتبرونه مخاتلا \"يتمسكن حتى يتمكن\" بخطاب مزدوج‪.‬‬ ‫‪26 1‬‬

‫حاصل القول إن الحكام يتشبثون بالحكم بالعنف‪ ،‬فيكونوا بذلك وكأنهم لم يبقوا‬ ‫لمعارضيهم غير انتهاج نهجهم في طلبه‪ .‬فهم طلبوه بالعنف وحافظوا عليه به‪.‬‬‫لكن لو بقي الأمر عند هذا الحد‪ ،‬لقلنا إن ذلك يمكن أن يكون مشروعا إذا كان لصالح‬‫بناء الدولة الوطنية‪ ،‬وهو ما كنت سأفهمه لو ماثل الصين أو ماليزيا‪ ،‬وكان يمكن كذلك أن‬‫أتفهمه لو كان عنفا شبه مشروع‪ ،‬لأن الحاكمين يمثلون غالبية الشعب وتحقق مصالح‬ ‫الشعب‪ .‬فقد يبرر ذلك مؤقتا التضحية بالديمقراطية‪.‬‬‫لكن ماذا وهو استبداد أقلية فاسدة‪ ،‬لصالح مشروع تغريبي وتابع‪ ،‬لا يحقق أدنى حد‬ ‫من حقوق الشعب الاقتصادية والاجتماعية‪ ،‬فضلا عن الروحية والخلقية؟‬ ‫هل هي دولة؟‬ ‫وهل هي وطنية؟‬ ‫وهل المشروع هو بناء دولة قادرة على حماية شعبها ورعايته؟‬ ‫أليس هو استبداد مافية داخلية في خدمة مافية خارجية؟‬‫هل بقيت لذراعي الحكم العنيفين أي \"القضاء والامن\" داخليا‪ ،‬و\"الدبلوماسية والدفاع\"‬ ‫خارجيا‪ ،‬حق العنف الشرعي وهما في خدمة الاستبداد والفساد؟‬‫ألسنا في هذه الحالة أمام وضع يتقابل فيه استعمالان للعنف‪ ،‬كلاهما غير شرعي لأن‬ ‫عنف الدولة الشرعي مشروط بشرعية بقاء المجال السياسي السلمي؟‬‫فكل قوة سياسية حاكمة تبقى فيه بالعنف بإلغاء التنافس السياسي السلمي عليه‪ ،‬وهي‬ ‫من ثم لا تختلف عن القوة السياسية التي تطلبه بالعنف‪ :‬إرهاب‪.‬‬‫ولا يمكنها أن تدعي أن عنفها هو عنف الدولة الشرعي‪ ،‬فمن شروط هذا العنف الشرعي‬ ‫شرعية من يمارسه‪ ،‬ولاشرعية لمن يبقى بالعنف ويلغي التنافس السلمي‪.‬‬‫والبقاء العنيف في الحكم يكون إما بقوة ذاتية للقوة السياسية الحاكمة‪ ،‬أي بقوة الدولة‪،‬‬ ‫أو بمساعدة أجنبية بدرجتين‪ :‬حماية قانونية دولية وعسكرية‪.‬‬‫وبذلك فالوضعية الداخلية ليست صراعا بين شرعية وإرهاب‪ ،‬بل بين ارهابين لان شرط‬ ‫وصف المعارض العنيف بالإرهاب غاب‪ :‬المساواة في التنافس السياسي‪.‬‬ ‫‪26 2‬‬

‫والأدهى أن من يدعي استعمال عنف الدولة الشرعي‪ ،‬لم يكتف بعدم شرعيته‪ ،‬بل‬ ‫اضاف الخيانة‪ :‬لأن من يحميه من القانون الدولي وعسكريا لا يفعل بغير مقابل‪.‬‬‫فالسيسي مثلا يحميه الأمريكي والإسرائيلي‪ ،‬فيغطي عنه جرائمه بالإعلام وبمنع تدخل‬ ‫القانون الدولي‪ ،‬ولا يمكن أن يفعلا ذلك مجانا بل ضد المصلحة الوطنية‪.‬‬‫وبشار لم تقتصر الحماية على منع تطبيق القانون الدولي (الفيتو الروسي)‪ ،‬بل وصل‬ ‫إلى التدخل العسكري لإيران وميلشياتها‪ ،‬والروسي ورعايته لداعش‪.‬‬‫وبهذا المعنى‪ ،‬فالأولى بأن يوصف بالإرهاب ليس المقاومة السورية‪ ،‬بل النظام السوري‬ ‫الذي ليس هو إرهابيا فحسب بمقتضى إرادة البقاء بالعنف‪ ،‬بل خائن‪.‬‬‫ولا أعتقد أيا من الانظمة العربية ليس له شيء مما وصفنا‪ ،‬داعما لبقائه العنيف‪:‬‬ ‫استعمال أجهزة الدولة‪ ،‬ثم تغطية الحامي له ومساعدته العسكرية‪.‬‬‫وإذا كنا نريد تجاوز هذه المهازل‪ ،‬فينبغي أن ننطلق من هذا التحليل للوصول إلى علاج‬ ‫يحقق الإصلاح فيخرج شعوبنا من الحرب الاهلية بين ارهابين‪.‬‬‫وسنكتشف أنهما تابعان لإرهاب دولي‪ ،‬هدفه جعل الأمة في حرب أهلية دائمة بين حكام‬ ‫ليسوا شرعيين ويريدون البقاء بإرهاب الدولة ومعارضة تحاكيها‪.‬‬‫ذلك هو التحليل الموضوعي للوضعية‪ .‬وسأقتصر على هذا المستوى ولن أتجاوزه للإرهاب‬ ‫الدولي الذي يفرض على العالم نفس معادلة الحكم والمعارضة هذه‪.‬‬‫علينا أن ننظر في المستوى الثاني المتعلق بالتقابل بين المرجعيتين‪ .‬وهذه القضية ليست‬ ‫الخاصة بالمسلمين‪ :‬أوروبا أيضا تعيشها‪.‬‬‫فالمعركة بين المدافعين عن الدولة الوطنية والوحدة الأوروبية‪ ،‬حامية الوطيس حتى‬ ‫وإن كانت ما تزال سلمية ولم تصل إلى ما وصلت إليه نظيرتها عندنا‪.‬‬‫ويمكن القول إن محاولات تفكيك الوحدة الأوروبية من جديد‪ ،‬واستعادة الدولة‬ ‫الوطنية‪ ،‬قد تؤول إلى ما يشبه ما عندنا من صراع رغم ما يبدو من تضاد‪.‬‬‫فاليسار الأوروبي سعى لتجاوز الدول القطرية واعتمد الإرهاب الأحمر‪ ،‬ومثلهم يفعل‬ ‫الجهاديون لتفكيك الدول الوطنية‪ .‬الوحدة الأوروبية حل وسط‪.‬‬ ‫‪26 3‬‬

‫فهل يمكن توقع حل وسط‪ ،‬يجمع بين المستويين الوطني والمتجاوز للوطني‪ ،‬شرطا في‬ ‫التناسب مع عصر العماليق حتى تتحقق شروط السيادة الفعلية؟‬‫لا أعتقد أنه يوجد مخرج مختلف‪ :‬فالدولة الوطنية حقيقة لا يمكن الاستغناء عنها‪.‬‬ ‫لكنها لم تعد كافية لتحقيق شروط السيادة‪ .‬لا بد من المستويين‪.‬‬‫حكماء أوروبا فهموا الضرورة واتفقت عليها النخب بأصنافها الخمسة لأنها تلبي الحاجتين‬ ‫إلى حميمية القطرية وشروط السيادة المتجاوزة للقطرية‪.‬‬‫الجمع بين الحلين في المستوى الوطني وفي المستوى المتجاوز له‪ ،‬يمكن من التخلص من‬ ‫الإرهابين المحلي بين الحكم والمعارضة والمتجاوز شرطا للسيادة‪.‬‬ ‫‪26 4‬‬

‫بينت في الفصل الأول أن ما يجري حاليا ليس حربا على الإرهاب‪ ،‬بل هو حرب أهلية بين‬ ‫إرهابين‪ :‬ارهاب الحكام وإرهاب معارضة‪ ،‬في غياب التنافس السلمي‪.‬‬‫وبينت كذلك أن الأعداء يستفيدون من الإرهابين لأنهم يغذونهما حتى لا يضطروا‬ ‫للتدخل المباشر من أجل الاستحواذ على ما يحتاجون إليه من دار الإسلام‪.‬‬‫صحيح أن هذه الاستراتيجية تبدو قولا بنظرية المؤامرة‪ ،‬لذلك سأطمئن المتذاكين من‬‫نفاتها بأن العرب مستغنون عمن يدفعهم لذلك بعد نكوصهم للجاهلية‪ .‬فما يجري بينهم‬‫اليوم لا يختلف عما كانوا عليه في الجاهلية‪ :‬قبائل تتناحر لعجزها عن تجاوز الحياة النباتية‬ ‫(الأكل والجنس) والتفاخر بداحس والغبراء‪.‬‬‫لذلك فأعداء العرب لا يحتاجون للتآمر عليهم‪ ،‬وذلك هو قولي إن الأعداء يستغلون هذه‬ ‫الحرب الأهلية ويغذونها‪ ،‬لكن سببها الأول هو نكوص العرب للجاهلية‪.‬‬‫وإذن فأعداء مجد الإسلام وقيمهم الأُول هم العرب‪ :‬فما من زعيم في الأنظمة العربية‬ ‫بصنفيها القبلي والعسكري‪ ،‬لم يعد لما تقدم عليه ليؤسس سلطانه‪.‬‬‫فلكأنهم جميعا مقتنعون بأن ما تقدم على مجد الإسلام أو ما تأخر عنه‪ ،‬أولى بأن‬ ‫يستمدوا منه شرعية \"دولهم\"‪ .‬وهم دون قصد‪ ،‬حفظوا بذلك كرامة الإسلام‪.‬‬‫فدولة تستمد شرعيتها من الإسلام‪ ،‬لا يليق بها أن تكون من محميات أعدائه التاريخيين‪.‬‬ ‫لكن كل \"دول\" العرب محميات تعيش خزي التبعية وعار الهمجية‪.‬‬ ‫وإذن‪ ،‬فالظاهرة بنت الانحطاطين‪:‬‬‫‪ -‬الأول موروث عن خمول حضارتنا‪ ،‬بعد الضربات التي تلقتها من المغول والصليبيين‬ ‫وحرب الاسترداد والنكوص إلى الجاهلية‪.‬‬ ‫‪26 5‬‬

‫‪ -‬والثاني نتج عن المحاكاة القردية لأفسد ما في الحداثة‪ ،‬كما ترجمتها سياسة الاستعمار‬ ‫النافي لقيمها‪ ،‬فصارت النخب التي والاها مثله تعتبرنا انديجانها‪.‬‬‫وأكبر الأدلة أنها تصورت التحديث حرب تحضير عنيف‪ ،‬أدى إلى أن صدام الحضارات‬ ‫أصبح ظاهرة داخلية‪ :‬فرض ما حاكوه من قشور حضارة الغرب على الشعوب‪.‬‬‫لكن قيم الحداثة وشروطها هي آخر همومهم‪ :‬وذلك في سلوك النخب بأصنافها الخمسة‪.‬‬ ‫فلبنين ذلك حتى نفهم علل الإرهابين‪ ،‬ثمرة حرب أهلية بين كاريكاتورين‪:‬‬‫‪ -‬كاريكاتور تأصيل لا يحاكي مجد الإسلام وقيمه‪ ،‬بل صورة فرضها عليه نكوصهم إلى‬ ‫الجاهلية‪.‬‬ ‫‪ -‬وكاريكاتور التحديث لا يحاكي الحداثة وقيمها‪ ،‬بل الاستعمار‪.‬‬ ‫فلأجب عن خمسة أسئلة‪:‬‬ ‫هل لنخبة الإرادة إرادة؟‬ ‫وهل لنخبة المعرفة معرفة؟‬ ‫وهل لنخبة القدرة قدرة؟‬ ‫وهل لنخبة الحياة ذوق؟‬ ‫وهل لنخبة الوجود رؤيا؟‬‫إذا تبين أن كل واحدة من هذه النخب الخمسة ليس لها من الصفة التي تسمى بها إلا‬ ‫مجرد الاسم‪ ،‬عندها نكون قد حددنا محل المرض‪ ،‬نصل إلى مطلب العلة‪.‬‬ ‫وأقصد مطلب العلة‪ ،‬الجواب عن سؤال أعمق‪:‬‬‫ما الذي يجعل هذه النخب ليس لها من صفتها إلا الاسم‪ ،‬فتكون منتحلة لصفة وليس‬ ‫متصفة بها؟‬ ‫هل ذلك بفعل فاعل؟‬ ‫ما دمنا نعتمد البحث العقلي‪ ،‬فلا يمكن أن يكون ذلك بغير علة‪.‬‬‫والجواب لا يكون إلا فرضيا ككل تفسير علمي‪ .‬والفرضية لا تقتضي حصر العلة في‬ ‫واحدة‪.‬‬ ‫‪26 6‬‬

‫والافتراض العلمي ليس تحكميا‪ ،‬بل هو ثمرة سبر وتقسيم ضمني‪ ،‬يختار من العلل الممكنة‬ ‫ما يرجح بكونه العلة الفاعلة بحق‪ ،‬دون نفي علل ثانوية مساعدة‪.‬‬‫وسأبدأ بالقول إن \"المؤامرة\" أو خطط الأعداء للاستفادة من الأوضاع‪ ،‬ليست هي العلة‬ ‫الرئيسية‪ .‬بل هي من العلل المساعدة لعلة رئيسية سأحددها لاحقا‪.‬‬ ‫أبدأ بنخبة الإرادة‪.‬‬‫وليكن معيار التصنيف الأرسطي السداسي للنخبة السياسية (لا يختلف كثيرا عن‬‫الأفلاطوني) منطلقا لتحديد خصائص نخبتنا السياسية‪ .‬فهو يقسم أنظمة الحكم بعدد من‬ ‫بيده السلطة السياسية وأخلاقه‪:‬‬ ‫‪-1‬واحد‪.‬‬ ‫أو‬ ‫‪ -2‬قلة‪.‬‬ ‫أو‬ ‫‪-3‬كثرة‪.‬‬ ‫وكل واحد منهم يكون صاحب فضيلة أو صاحب رذيلة‪ .‬فتكون ستة‪.‬‬‫وبين أن لا أحد يمكن أن يدعي أن الكثرة هي التي تحكم‪ ،‬ويصعب ان يحكم الواحد‬ ‫حتى وإن بدا أن للعرب ملوكا وزعماء‪ ،‬يبدون وكأنهم أصحاب الامر والنهي‪.‬‬ ‫لم يبق إلا صنف واحد هو حكم القلة‪.‬‬ ‫هذا من حيث الكم‪.‬‬‫من حيث الخلق‪ :‬يصعب أن نقول إنهم من ذوي الفضيلة‪ ،‬على الاقل بالنسبة لغالبيتهم‬ ‫الساحقة‪.‬‬‫فتكون الحصيلة نخبة الإرادة أو النخبة السياسية العربية قلة بمعيار العدد‪ ،‬واصحاب‬ ‫رذيلة بمعيارالأخلاق‪ .‬إنه ما يسمى \"اوليغارشية\"‪ .‬وهو عندنا مافيا‪.‬‬ ‫لماذا سميت الأوليغارشية العربية مافية؟‬ ‫‪26 7‬‬

‫لأن الأوليغارشية هي حكم الأغنياء إذا كانوا سادة أنفسهم‪ ،‬أما العربية فيه تابعة‬ ‫لأوليغارشية تحميهم‪.‬‬ ‫والحصيلة‪:‬‬‫لا يمكن لنخبة تدعي أنها ممثلة لإرادتها ولإرادة الأمة‪ ،‬أن تكون محمية‪ ،‬ومن ثم فهي‬ ‫عديمة الإرادة ومنتحلة صفة تخالف حقيقتها الفعلية‪.‬‬‫كلهم طراطير‪ ،‬ولا سلطان لهم إلا ما يسمح له به أو يؤمرون بعمله بالاستبداد والفساد‪،‬‬ ‫لاضطهاد شعوبهم ورهن بلدانهم لخطط قد لا يعون أهدافها البعيدة‪.‬‬ ‫دليلان‪:‬‬‫‪ -‬فكلهم ‪-‬بلا استثناء إذا تجاوزنا الخطاب الموجه للاستهلاك المحلي‪ -‬لهم حماة يأتمرون‬ ‫بأوامرهم ودليله دور السفارات وبنوك التغريق الدولي‪.‬‬‫‪ -‬والدليل الثاني دور القواعد والمستشارين الأجانب أو من يمثلهم في لوبيات ما يسمى‬ ‫بالدولة العميقة وفي الإعلام والسياسة في المؤسسات الدولية‪.‬‬‫ولعل الرمز الجامع‪ ،‬التصويت في المؤسسات الأممية‪ ،‬حيث تبرز التبعية بوضوح‪ ،‬ويقابلها‬ ‫مستويات التغطية على جرائمهم إزاء شعوبهم في المحافل الدولية‪.‬‬‫ولأنظر في نخبة القدرة متجاوزا نخبة المعرفة التي سأعود إليها لدرسها مع الأخيرة‪ ،‬أي‬ ‫نخبة الوجود أصحاب الرؤى‪ ،‬لصلة أصحاب القدرة بأصحاب الإرادة‪.‬‬‫قلنا إن النخب الحاكمة اوليغارشيا مافيوزية لعلاقتها بالمال والاقتصاد‪ .‬وهم مافية المال‬ ‫والاقتصاد مباشرة‪ ،‬أو موظفون لديها داخليا أو‪/‬وخارجيا‪.‬‬‫ولست بحاجة لكثير كلام أو استدلال‪ :‬فالدليل هو بنوك الغرب‪ ،‬وحتى بعض البنوك‬ ‫العربية التي تمثل جناب تبييض المال والسرقات من خبز الشعوب الفقيرة‪.‬‬ ‫ومثال العراق والجزائر كاف‪.‬‬‫وهو يصح حتى على أفقر بلاد العرب‪ ،‬ناهيك عن أغنيائها‪ :‬فطالح اليمن سرق أربع مرات‬ ‫ميزانية تونس‪ ،‬ومثله طوالحنا الكثر‪.‬‬ ‫‪26 8‬‬

‫وفي الحقيقة‪ ،‬فالسياسة في بلاد العرب هي الطريق السيارة والأسرع للإثراء‪ ،‬ومن دون‬ ‫ذلك يعسر أن تفهم التكالب‪ ،‬بدليل عدد الأحزاب لما فتح المجال‪.‬‬ ‫لا أصدق أن تونس فيها ما يملأ مائتان واربعين حزبا من المخلصين للشأن العام‪.‬‬‫الحقيقة هي أن الأحزاب صارت حوانيت تجارة ودعارة‪ ،‬والتردد من سفارة إلى سفارة‪.‬‬‫لذلك فأصحاب القدرة لا قدرة لديهم عدا السمسرة وتمثيل مافيات محلية أو دولية‪-‬‬ ‫ودون تعميم مخل‪ -‬فأكثر من تسع وتسعين في المائة لا يكبرون إلا بهذه الطريقة‪.‬‬‫لذلك‪ ،‬فهم لا ينتجون ثروة‪ ،‬بل يبددون ثروات البلاد الطبيعية بما فيها المناخ والطبيعة‬ ‫بخدمات سياحية‪ ،‬وهي في الحقيقة خضوع لشركاتها المافياوية‪.‬‬‫في العالم كله‪ ،‬رجال الأعمال هم رمز الطموح والغزو الاقتصادي للعالم‪ ،‬إلا عندنا‪ ،‬فهم‬ ‫بلا طموح ولا يغزون العالم‪ ،‬بل هم وسطاء يساعدون العالم لغزونا‪.‬‬ ‫أوروبا الحديثة صنعها الطموح البرجوازي لرجال الأعمال‪.‬‬‫بلاد العرب خربها عدم الطموح \"الخواجي\" الذي يقتصر على رهن البلاد للعيش مثل‬ ‫الغرب‪.‬‬ ‫بورجوازية الغرب طورت الاقتصاد والعلوم ثم أخذت السلطة‪.‬‬‫من أخذ السلطة أهماج العسكر والقبائل فاستبدوا بالثروة وأعاقوا الثورة العلمية‬ ‫والصناعية‪.‬‬‫فقد جمع هذان الصنفان فقدان الإرادة سياسيا والقدرة اقتصاديا‪ ،‬فأصبحوا طفيليات‬ ‫تمتص دم الشعوب وتحول دونها والتقدم السياسي والعلمي والاقتصادي‪.‬‬‫وحتى نفهم حقيقة هذه الظاهرة‪ ،‬فلنقارن تركيا قبل وصول نخبة إرادة وقدرة صالحتين‪،‬‬ ‫ثم بعدها‪ .‬فقد تعافت تركيا بعد وضع مفلس مثل جل بلاد العرب‪.‬‬‫وتلك هي علة حرب الأنظمة العربية والغربية عليها‪ :‬لا يريدون أن يحكم بلادنا أصحاب‬ ‫الإرادة وممثليها والقدرة وممثليها‪ ،‬بل طراطير وسماسرة مافياوية‪.‬‬‫وعندما يكون السياسيون والاقتصاديون كما وصفنا‪ ،‬هل تظنهم سيهتمون بشرط كل تقدم‬ ‫وقوة؟‬ ‫‪26 9‬‬

‫ستكون التربية والبحث العلمي آخر همومهم‪ :‬تكفيهم الإيديولوجيا‪.‬‬‫لذلك فهم حريصون على نظام تربية لمحو الأمية وبث كاريكاتور الحداثة والأصالة في آن‬ ‫وتخريج نخب غبية تخلط بين التحديث المبدع والتقليد المدقع‪.‬‬‫لذلك فلا يعجبن أحد من الحالة المزرية التي عليها جامعاتنا التي هي محاضن‬ ‫الإيديولوجيا لتخريج العاطلين الذين همهم الأوحد الحرب على الذات‪.‬‬‫ذلك أن الحرب على الذات في النخب التي تدعي المعرفة‪ ،‬من جنس الحرب عليها لدى‬ ‫الساسة والاقتصادين‪ :‬هي ما يجعلهم نجوما لدى الحامي سيدهم ومعبودهم‪.‬‬‫فكما أن أسرع طرق للإثراء هو السياسة والسمسرة الاقتصادية‪ ،‬فكذلك أسرع طريق‬ ‫للنجومية بين النخب دعوى الليبرالية والخواجية والحرب على الإسلام‪.‬‬‫والنخبتان الأخيرتان علاقتهما مناظرة لعلاقة نخبة الإرادة والقدرة‪ :‬نخبة الوجود‬ ‫(للرؤى) ونخبة الحياة (للذوق)‪ .‬تخدمان الأوليين إلا من رحم ربي‪.‬‬‫فنخبة الرؤى تبرر فلسفيا أو دينيا‪ ،‬ونخبة الذوق تفسده ليكون من جنس ما تحتاجه‬ ‫أخلاق المستبدين والفاسدين‪ ،‬أعني أخلاق الخواجة مستعمرنا كأنديجان‪.‬‬‫تلك هي حال النخب الخمسة التي توجد في كل الجماعات‪ ،‬والتي هي ما به يقاس طموح‬ ‫الجماعة عندما تعبر عنها‪ .‬لكنها في حالتنا في حرب دائمة عليها‪.‬‬‫أطلت البحث‪ ،‬لذلك فلن اضيف إلا جملتين قصيرتين حول العلة التي وعدت بتحديدها‬ ‫في غاية الكلام‪ :‬فرضيتي هي التعليل بالانحطاطين الموروثين‪.‬‬ ‫الانحطاطان‪:‬‬ ‫‪-1‬نكبة حضارتنا في التربية والحكم (ابن خلدون‪ :‬فساد معاني الإنسانية)‪.‬‬ ‫‪ -2‬نكبة الحداثة عندما تحولت إلى إيديولوجيا استعمارية‪.‬‬‫والنكبتان ولدتا الانحطاطين اللذين أنتجا الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي‪ .‬وهما‬ ‫سر أخلاق النخب التي انتحلت الصفات الخمس‪ :‬فسدت كل وظائف الدولة‪.‬‬‫فنحن عالة على الحامي في كل شيء‪ ،‬لأن منتحلي الصفة في الإرادة والمعرفة والقدرة‬ ‫والحياة والوجود‪ ،‬فتقضي بذلك على من بقي له شيء من معاني الإنسانية‪.‬‬ ‫‪26 10‬‬

26 11

‫عرّفت الإرهاب بكونه وجهي حرب أهلية تعيشها الأمة ويستخدمها أعداؤها للسيطرة‬ ‫على كل فعالياتها بالاستبداد والفساد في مرحلة الميتاستاز‪ :‬سرطان عام‪.‬‬‫ويتجلى السرطان العام في جسد الأمة في سلوك لا نافذ من النخب الخمس‪ ،‬أي نخبة‬ ‫السياسة ونخبة المعرفة ونخبة الاقتصاد ونخبة الفنون ونخبة الرؤى‪.‬‬ ‫لكن هذا التجلي يمكن أن يرد إلى آليتين بينتين‪،‬‬ ‫‪ -‬إحداهما تحدد علاقات النخب فيما بينها‪.‬‬ ‫‪ -‬والثانية تحدد علاقاتها بمن يحميها فيجعلها أداة لأجندته‪.‬‬‫وقبل تحليل هاتين الآليتين وكيفية عملهما لتحقيق وضع يشبه ما تعيشه الأمة‪ ،‬لا بد من‬ ‫شرح دور الأحياز الخمسة في تحديد علاقات البشر بعضهم بالبعض‪.‬‬‫فهذا الدور واحد في الجماعة الواحدة‪ ،‬أو بين الجماعات‪ .‬بل وحتى في الفرد الواحد‬ ‫فما فوق‪ ،‬أي الأسرة والقبيلة والقطر والوطن وكل دار الإسلام والعالم‪.‬‬‫ذلك أن البشر بوصفهم مستعمرين في الأرض ومستخلفين فيها‪ ،‬يتنافسون على ما به‬ ‫يتحقق الاستعمار في الارض والاستخلاف‪:‬‬ ‫‪-1‬أدوات الأول‪.‬‬ ‫‪-2‬غايات الثاني‪.‬‬ ‫وهذه الأدوات والغايات تتعين في الأحياز‪:‬‬ ‫‪ .1‬المكان‬ ‫‪ .2‬والزمان‬ ‫‪ .3‬وأثر الأول في الثاني‬ ‫‪ .4‬وأثر الثاني في الأول‬ ‫‪26 12‬‬

‫‪ .5‬ثم أصل صورة دورها في تحديد شروط التنافس‬‫فالبشر من الفرد إلى كل البشرية‪ ،‬مشكل حياته الحصة من المكان ومن الزمان‪ ،‬ومن‬ ‫ثمرة تفاعلهما في الاتجاهين‪ ،‬ثم الصورة التي تحدد الدلالة بالمنزلة‪.‬‬‫فالاشتراك في المكان وفي الزمان يعني كذلك الاشتراك في ثمرة تفاعلهما في الاتجاهين‪،‬‬ ‫والصورة التي تحدد أصل ذلك كله بالمنزلة‪ ،‬هي شروط الاشتراك‪.‬‬‫الاشتراك في المكان يؤدي إلى التزام‪ ،‬والتمانع ومثله الاشتراك في الزمان‪ .‬والداعي‬ ‫إلى التزاحم والتمانع‪ ،‬هو مقدار الحصة منهما وخاصة من ثمرتهما‪.‬‬‫وهذا بين لمن يتدبر طبيعة التساكن بين الناس من حيث التزاحم على المكان‪ ،‬والتوالي‬ ‫بين الأجيال من حيث التزاحم على الزمان‪.‬‬ ‫وعنهما يتولد التمانع‪.‬‬‫والتمانع ليس بسبب الحصة من الامتداد(المكان) والمدة(الزمان) فحسب‪ ،‬بل لأن الحصة‬ ‫من المكان ثروة‪ ،‬والحصة من الزمان تراث‪ ،‬وبهما تتحدد منزلة الإنسان‪.‬‬‫لا أنكر أن هذا التعليل عسير الفهم خاصة‪ ،‬وهو تعليل كوني يعم الفرد (مكانه بدنه‪،‬‬ ‫وزمانه حياته) والجماعة الواحدة والجماعات والإنسانية‪ ،‬بل هو أشمل‪.‬‬‫فكل الموجودات تتحيز في المكان وفي الزمان‪ ،‬ونصيبها منهما كميا للأول‪ ،‬وكيفيا للثاني‪،‬‬ ‫يجعلها فيما يشبه وضعية التزاحم والتمانع مقدمين على التكامل‪.‬‬‫في العمق‪ ،‬المقدم هو التكامل لأنه عين اشتراكها في معين وجودها‪ ،‬لكن الظاهر منه يبدو‬‫وكأنه صراع دائم‪ ،‬فجعل الفلسفة تتصور الوجود خاضعا لمنطق الجدل‪ .‬لكننا بينا خطأ‬‫منطق الجدل لأنه جعل الخاصيات العارضة تخفي الأصل الحقيقي‪ :‬فالمشاركة في الأحياز‬ ‫مكانا وزمانا‪ ،‬وثمرتين ثم أصلها جميعا‪ ،‬هي الحقيقة‪.‬‬‫إذا جعلنا الصراع مبدأ لتحديد الحظ من المكان والزمان والثمرتين‪ ،‬أفسدنا الأصل‬‫فقدمنا العرضي على الجوهري‪ :‬استثمار الأحياز شرطه التعاون والتعاوض‪ .‬لذلك كان‬‫التزاحم والتمانع عرضين لفساد شروط التعاون‪ ،‬أي ظلم التعاوض الذي هو نكوص‬ ‫بالعلاقات البشرية إلى القانون الطبيعي بدل القانون الخلقي‪.‬‬ ‫‪26 13‬‬

‫فما يجعل الأمة في هذا الوضع‪ ،‬هو شروط تعاوض تفسد التعاون‪ ،‬وتستعيض عنه‬ ‫بالاستضعاف والاستتباع داخليا وخارجيا‪ ،‬المفسدين لمعاني الإنسانية في العالم‪.‬‬‫وبيان هذه الحقيقة هو الغرض الأول والأهم من الرسالة الخاتمة‪ :‬كيف يكون البشر‬ ‫أخوة (النساء ‪ )1‬لا تفاضل بينهم إلا بتقوى القانون (الحجرات ‪.)13‬‬‫والتكامل بين القانونين الطبيعي والخلقي‪ ،‬شرط الحياة الطبيعية والروحية للإنسان‬ ‫فردا وجماعة في تقاسم الأحياز واستثمارها بالتعويض العادل = الدين‪.‬‬‫لذلك لا يمكن تصور الدين القيم من دون سياسة ودولة‪ :‬فلا بد من تربية وازع الإنسان‬ ‫الذاتي على التعاون والتعاوض العادل‪ ،‬ثم الحكم وازعا أجنبيا‪.‬‬‫حاجة البشر لتقاسم المكان والزمان وثمرتيهما بمبدأ يحقق التوافق بين الضرورة‬ ‫الطبيعية والحرية الخلقية‪ ،‬يجعلهم سياسيين بالطبع بحاجة للوازعين‪.‬‬‫الإرهاب أو جهاد حربنا الأهلية علته في الغاية سرطان عام اصاب الوازعين‪ :‬الذاتي‬ ‫والأجنبي‪ ،‬وهو يعني فساد التربية والحكم واستبدادهما محليا ودوليا‪.‬‬ ‫ولهذه العلة كان القرآن في الجوهر‪:‬‬‫‪-1‬عرضا نقديا لتاريخ التربية والحكم أو التجربة الخلقية والسياسية للإنسانية ‪،‬‬ ‫بمفهومي التحريف والجاهلية‪.‬‬ ‫مشفوعا بـ‪:‬‬‫‪-2‬استراتيجية خاتمة بمنطق التصديق والهيمنة لبناء الإنسانية بناء لا ينكر ما حصل في‬ ‫الماضي‪ ،‬بل يستدرك لتحرير البشرية من التحريف والجاهلية‪.‬‬‫ولهذه العلة سميت محاولة الفهم الفلسفي للقرآن \"استراتيجية التوحيد القرآنية ومنطق‬‫السياسة المحمدية\"‪ .‬القرآن استراتيجية‪ ،‬والسنة عينة تطبيقية‪ .‬وكلاهما يتعلق بالتربية‬‫والسياسة لبناء الإنسان الذي لا ينكرما فيه من طبيعي‪ ،‬ولا يخلد إليه‪ ،‬بل يتعالى عليه‬ ‫ليكون أهلا للاستخلاف‪ :‬منزلة وجودية‪.‬‬‫ومن ثم فالسؤال المضاعف الذي وضعناه‪ ،‬جوابه الخاص بنا يتعلق بـ‪ :‬كيف فسدت التربية‬ ‫والحكم بآلية علاقة النخب؟‬ ‫‪26 14‬‬

‫وجوابه العام‪ :‬كيف صار الفساد داء كونيا‪.‬‬‫الجواب الخاص بنا وبمنطق علاقة النخب بعضها بالبعض في بلادنا‪ .‬تكلمت سابقا على‬‫التخلي عن الدستور وفرض حالة الطوارئ منذ الفتنة الكبرى إلى اليوم‪ .‬فبعد شرعية‬‫البيعة‪ ،‬وعلوية الشريعة التي كانت قانون الدولة‪ ،‬والفصل بين السلطات (القضاء مستقل‬ ‫عن التنفيذ) صار كل شيء بيد المتغلب في الحرب الأهلية‪.‬‬‫والتشريع كان مستقلا عن القضاء وعن التنفيذ لأنه ينسب إما لله (أحكام القرآن) أو‬ ‫للرسول (السنة)‪ .‬لكن المتغلب صار يشرع بما يبقي على سلطانه‪.‬‬‫وما إن أفتى الفقهاء بشرعية المتغلب‪ ،‬تنازلوا نهائيا على علوية الشريعة إلا بمدلول‬ ‫تبريري مبني على فقهاء السلطة واضطهاد كل مخالف أو اهمال رأيه‪.‬‬‫انتهى عهد كان فيه أي مواطن يستطيع أن يقول للحاكم الشرعي \"والله لو رأينا فيك‬ ‫اعوجاجا لق ّومانه بحد السيف\" وأصبح سلطان بعض الفقهاء شذوذا يحفظ‪.‬‬‫وشرعية المتغلب التي ظنوها حلا لتجنب الفوضى‪ -‬ضرورة تبيح المحظور‪ -‬جعلت التغلب‬ ‫قاعدة‪ ،‬أي إنها جعلت الطريقة الوحيدة لتغير الحكام تكون بالتغلب‪.‬‬‫فبات الذي يحكم يعمل كل ما يستطيع لقطف الرؤوس قبل أن تينع‪ ،‬وصار كل معارض‬ ‫يعمل ما يستطيع ليصل إلى الحكم بالقوة‪ :‬حالة الطوارئ = حرب أهلية دائمة‪.‬‬‫ويخطئ من يتصورها مقصورة على الحكم في مستواه السياسي فحسب‪ .‬فهؤلاء بحاجة إلى‬‫أعوان لا يمكن أن يضمنوا ولاءهم من دون إطلاق أيديهم في الرعية‪ ،‬وهم مرتزقة لإضفاء‬‫الشرعية وللحماية وللقضاء الفاسد والأمن الفاسد والدبلوماسية الفاسدة والدفاع الفاسد‬ ‫واستعلامات الاستبداد والفساد للاضطهاد‪.‬‬‫وهذه هي العلة الأولى التي يفسر بها ابن خلدون \"فساد معاني الإنسانية\" في الجماعة‬‫التي تصبح عالة على الحامية وعبيدا للحكام‪ .‬وكلهم من المرتزقة‪ .‬فيصبح سلطان الظلم‬‫بديلا من سلطان العدل‪ .‬وهو علة علل خراب العمران بلغة ابن خلدون‪ .‬وخراب العمران‬ ‫ليس مباشرا‪ ،‬بل بتوسط الوظيفة الثانية للدولة‪.‬‬ ‫‪26 15‬‬

‫فمرتزقة الشرعية (فقهاء السلطان)‪ ،‬ومرتزقة القضاء والأمن والدبلوماسية والدفاع‬ ‫والاستعلامات‪ ،‬لا يمكن ألا يفسدوا الرعاية بعد الحماية‪ .‬فيفسد تكوين الأجيال‪:‬‬ ‫‪ -‬التربية النظامية (التعليم)‬ ‫‪ -‬والتربية العامة (المجتمع)‬ ‫‪ -‬والتموين الرمزي (المعرفة)‬ ‫‪ -‬والتموين المادي (الاقتصاد)‬ ‫‪ -‬وينعدم البحث العلمي‪.‬‬‫فتتحول النخب كلها إلى كائنات متطفلة تمتص القدر الضئيل الذي تنتجه جماعة في‬‫المستويات البدائية من الرعي والفلح والتجارة والصناعة الأولية‪ .‬فيجمد كل شيء‪،‬‬‫وتصبح مرتزقة الحكم والمعرفة والاقتصاد والذوق والرؤى مافيات تتصارع على شروط‬ ‫العيش البدائية‪ ،‬لاقتسام المكان والزمان وثمرتيهما‪.‬‬‫طوارئ قانونية أي حرب أهلية‪ ،‬أي نكوص للجاهلية‪ ،‬أي حياة بدائية‪ :‬صراع القبائل على‬ ‫رزق ضيق لا يكاد يتجاوز انتاج الطبيعة‪ ،‬لعدم وجود العمل المنتج على علم‪.‬‬‫وهذا هو ما سميته الانحطاط الذاتي الذي انضاف إليه الانحطاط الذي أنهى به‬ ‫الاستعمار حتى هذا المستوى من العمران‪ ،‬وعوضه بتحويل الجميع إلى عبيد‪.‬‬‫ولما غادر‪ ،‬ترك الأمر بيد من اختاره خليفة يحقق ما عجز عنه‪ :‬فهو استعمر الأرض‪،‬‬ ‫واستعبد الناس في أعيان وجودهم‪ ،‬لكن أذهانهم ظلت متمسكة بالدستور‪.‬‬‫وبهذا التعلق به‪ ،‬لما قامت حروب الاستقلال والمقاومة التي كانت كلها إسلامية المرجعية‪.‬‬ ‫وقد صاحبتها حركة اصلاح سياسي واجتماعي تعي علل الانحطاط‪.‬‬‫وأعداء الإسلام في الداخل والخارج يسمون أحفادها والمواصلين لمسعاها الإصلاحي‬ ‫\"الإسلام السياسي\" خاصة بعد أن اختارها الشعب لحكمه بحرية وشفافية‪.‬‬‫والإرهاب بوجهيه ليس لهؤلاء الأحفاد فيه دور‪ ،‬بل إن أنظمة الحكم والمعارضة ممثلي‬‫الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي هم الذين يتحاربون ويحاربونهم‪ .‬فنوعا الأنظمة‬‫وإيديولوجييهم يحاولون ضمهم واقحامهم في الحرب الأهلية‪ ،‬بضمهم إلى كاريكاتور تأصيل‬ ‫‪26 16‬‬

‫يصنعونهم بمعية حماتهم لإضفاء الشرعية على حربهم‪ ،‬فتبرز العلاقة بين ارهاب‬‫الاستبداد والفساد الداخلي‪ ،‬والاستضعاف والاستتباع الخارجي‪ .‬فأصحاب الثانيين يحمون‬ ‫اصحاب الأولين في حربهم على الإسلام‪.‬‬‫ذلك أن التزاحم والتمانع الداخلي على المكان والزمان وثمرتيهما‪ ،‬يستغله من يتزاحم‬ ‫ويتمانع من قوى الاستعمار على ما في جغرافية الإسلام وتاريخه‪.‬‬‫ولما كان العرب والمسلمون في حرب أهلية بسبب التزاحم والتمانع على المكان والزمان‬ ‫وثرواتهما داخليا‪ ،‬فإن الأعداء يكتفون بتغذية أطراف الصراع‪.‬‬‫والذين يستفيدون من الحرب الأهلية هم الذراعان (إيران وإسرائيل) ومستعملوهما‬‫(روسيا وأمريكا)‪ ،‬أما اوروبا فهي ما تزال مترددة‪ ،‬وإن أدركت الخطر‪ .‬وأولى علامات‬‫إدراك أوروبا الخطر‪ ،‬تمثل في ازمة الهجرة المعلومة للجميع‪ .‬والثانية هي ما حصل مؤخرا‬ ‫بينها وبين ترامب بدليل تصريح المستشارة ميركل‪.‬‬ ‫لا انتظر أن يستفيد أحد من تحليلاتي‪ ،‬فقيادات العرب لا تعنى بالمصير‪.‬‬ ‫همهم حكم محميات بلا سيادة والتآمر المتبادل‪ .‬تماما كما في حربهم على قطر وتركيا‪.‬‬ ‫‪26 17‬‬

‫وصلنا الآن إلى زبدة المعركة التي يمكن أن تمثل فرصة تجاوز الصراع التاريخي بين‬ ‫الحضارتين المتجاورتين‪ ،‬العربية الإسلامية واللاتينية المسيحية‪.‬‬‫صحيح أن الحضارة اللاتينية المسيحية استأنفت دورها بشكل حديث بعد الحرب العالمية‬‫الثانية بفضل مسعى الدول الوطنية إلى تجاوزها نحو وحدة أوروبية‪ ،‬وهذه الوحدة‬‫الأوروبية كما هو معلوم‪ ،‬عرفت نفسها بكونها حضارة يهودية مسيحية واستثنت من وحدتها‬ ‫العنصر الإسلامي كما يتبين من تعطيل انضمام تركيا‪.‬‬‫وصحيح أن الحضارة العربية الإسلامية توجد فيما يشبه وضع أوروبا التي كانت‬‫متصارعة على أساس الدولة القومية الحديثة إلى نهاية الحرب الثانية‪ .‬فالحرب الأهلية‬‫الأوروبية بخلاف العربية‪ ،‬انتهت ولم تكن بينية في أوروبا بعد حروب نابليون‪ ،‬بل في‬ ‫مستعمراتها لتقاسمنا‪ ،‬والعالم إلى الحرب الثانية‪.‬‬‫الحرب الأهلية الأوروبية كانت حرب دول ذات طموح كوني‪ ،‬بخلاف الحرب الأهلية بين‬ ‫محميات العرب التي هي من جنس حرب قبائل الجاهلية بين عصبيات غبية‪.‬‬ ‫الأولى ذات طموح في غزو العالم وحتى السماوات‪.‬‬‫والثانية همها الوحيد الإطاحة بجارها العربي تنافسا بين أنفس حقيرة بين فاقدي الغيرة‬ ‫على الديرة‪.‬‬‫لكن الربيع العربي غير الاحوال لأنه على الأقل فرض على الثورة المضادة أن تحقق‬‫وحدة سلبية هدامة‪ ،‬تتجاوز الجار المباشر وتشمل الوطن العربي كله‪ .‬وما كانت لتفعل لو‬‫لم تشعر هي ومن يحميها أن الثورة تخطت الحدود وبدأت تحرك كل شعوب الإقليم في أول‬ ‫زلزال فعلي يمكن ان يحقق شروط الاستئناف‪.‬‬ ‫‪26 18‬‬

‫وقبل أن أواصل العلاج‪ ،‬فلأقدم ملاحظتين ابستيمولوجيتين‪ :‬تحليل الأوضاع التاريخية‬‫وتوقع مستقبل مجراها‪ ،‬يغلب عليه تأويل الدلالات بدل تحليل العلل‪ .‬فهو يجمع بين‬ ‫معطيات طبيعية تحددها الجغرافيا‪ ،‬ومعطيات تاريخية تحددها حال الحضارة‪.‬‬ ‫جغرافيا‪ ،‬يمتنع فصل أوروبا عن إقليمنا‪ .‬لكن فصلها ممكن تاريخيا‪.‬‬‫وإذن‪ ،‬فكل المشكل متعلق بهذه المفارقة بين التواصل الجغرافي‪ ،‬والتفاصل التاريخي بين‬ ‫الحضارتين الجارتين‪ :‬ما دورها في تحديد المستقبل‪ ،‬مضطره وحره؟‬ ‫فمضطره لا يخلو من أحد أمرين‪،‬‬ ‫‪ -‬إما مواصلة التفاصل الذي ساد منذ نزول القرآن‪.‬‬ ‫‪ -‬أو تجاوزه إلى ضرورة التواصل‪.‬‬ ‫وهنا يأتي حره‪ :‬كيف نغلب هذا على ذاك؟‬‫وهنا يكمن دور التأويل والاستراتيجيا التي تحقق شروط حرية الصفين‪ ،‬بإرادة حرة‬ ‫ندية تفهم الوضعية بوصفها خطرا على الجميع وقابلة للعلاج بالتواصل‪.‬‬ ‫لن أكرر ما قلته في تعليقي على تصريحات المستشارة الألمانية ميركل‪.‬‬ ‫فرضيتي هي أن أوروبا إذا واصلت خط التبعية للقطبين وذراعيهما‪ ،‬فستعاني مثلنا‪.‬‬‫وكما جاء في ملاحظتي الابستمولوجية‪ ،‬فكلامي من جنس الفكشن أو العلم الخيالي الذي‬ ‫قد يصبح خيالا علميا إذا عملنا بجد لتجاوز ماضي علاقاتنا الأليم‪.‬‬‫والمعلوم أن التاريخ سواء تعلق بالماضي أو بالمستقبل‪ ،‬يكون حديثا حول أحداث لا معنى‬ ‫لها إلا بتأويلات الماضي وتحقيقات المستقبل‪ ،‬وهو إذن فكشن‪.‬‬‫الرواية الحقيقية طابعها الأبدوعي (الفكشن) عديم المرجعية الواقعية إلا عند ضعاف‬ ‫الأدباء أصحاب الأدب الواقعي الذي هو حكاية تاريخية تافهة‪.‬‬‫الماضي الحي‪ ،‬تأويل لأحداثه بأحاديثه عن ذاته بما يقتضيه الحاضر المبدع لأحاديث‬ ‫المستقبل التي هي استراتيجية تحقيقه‪ :‬وهو ما فيه من فعل أبدوعي‪.‬‬‫وعدم الفعل الأبدوعي عند نخبنا‪-‬حتى في أدبهم‪ -‬هو سر ما هم عليه من موت للطموح‬ ‫التاريخي وعدم وعي بطبيعة المعركة‪ :‬ذراعان بطموح إمبراطوري في ارضهم‪.‬‬ ‫‪26 19‬‬

‫والدليل القاطع‪ ،‬هو حربهم الأهلية التي تلهيهم عن أعدائهم الحقيقيين‪ ،‬فلا يرون‬ ‫عداوة إلا للأخوة من الأقرب إلى الأبعد‪ ،‬أي من الخليج إلى المحيط‪.‬‬‫وقد يعجب الكثير مما سأقول‪ :‬فأنا أشكر لإيران وإسرائيل ما يفعلانه‪ .‬لأني اعتبرهما‬‫مهمازا للجواد السني سيفز إذ يستفز‪ ،‬وفزته ستغير تاريخ العالم‪ .‬وهما يعلمان ذلك‪ .‬لأن‬‫الشباب على قلة الحيلة‪ ،‬استطاع أن يجبرهما على اللجوء للاحتماء بالعملاقين لتحقيق بعض‬ ‫ما يسعيان إليه‪ ،‬وهو كله قابل للرجع‪.‬‬‫فالأمر لا يتعلق بقوة ذاتية لإيران وإسرائيل‪ ،‬بل لضعف مؤقت للأمة بسبب حربها‬ ‫الأهلية التي كانت تحت الرماد ثم أعلنت بعد الربيع‪ ،‬وسينتصر الشباب‪.‬‬‫فلنعرض المعطى الطبيعي‪ ،‬أو ما تفرضه الجغرافيا على أوروبا‪ .‬ولا بد من البدء بالتمييز‬ ‫الذي أبني عليه الفصل بين شرق وغرب أدنيين‪ ،‬وشرق وغرب أقصيين‪.‬‬‫الجغرافيا الطبيعية تفرض الجوار والتماس‪ ،‬والجغرافيا السياسية هي التي تضفي‬ ‫عليهما الدلالة المفيدة في التحليل الاستراتيجي‪ ،‬وهي علة هذا التمييز‪.‬‬‫لم يبق العالم كما كان قبل سقوط السوفيات وقبل تعافي اوروبا وشعور الغرب الأقصى‬ ‫(أمريكا) بضرورة التصدي لبديل السوفيات الصيني أي الشرق الأقصى‪.‬‬‫وهذه هي الجغرافيا السياسية التي تحدد الجغرافيا الاستراتيجية التي سأعتمدها في‬ ‫\"الفكشن\" أو الابدوعة الفرضية‪ ،‬التي أأول بمقتضاها مجرى المستقبل‪.‬‬‫صحيح أن أوروبا تعافت بالقياس إلى حالها بعيد الحرب الثانية‪ ،‬لكنها لا تستطيع مع‬ ‫ذلك استرداد مستعمراتها وهي من دونها مخنوقة بخصوص شروط قوتها‪.‬‬ ‫والسؤال هو‪ :‬هل ستقبل أوروبا محاولات تمزيقها؟‬‫وفي حالة بقائها متحدة‪ ،‬هل ستقبل الخضوع لذراعي روسيا وأمريكا في الإقليم وحاميهما‬ ‫في العالم؟‬‫أوروبا مثلنا بين الشرق والغرب الأقصيين‪ ،‬وهي قد تصبح ممزقة مثلنا‪ .‬وحتى لو بقيت‬ ‫واحدة‪ ،‬فهي بحاجة للطاقة ولما حولها من حزام أمني في عالم مضطرب‪.‬‬ ‫‪26 20‬‬

‫يصعب أن تدعي أوروبا أنها دول مستقلة وليست محميات مثلنا إذا أصبحت تحت رحمة‬ ‫روسيا وإيران طاقيا‪ ،‬وتحت إسرائيل وأمريكا أمنيا‪ .‬ستصبح مستعمرات‪.‬‬ ‫لذلك فأي عاقل في أوروبا‪ ،‬سيجد نفسه أمام إحدى خليتين لا ثالث لهما‪:‬‬ ‫‪-1‬يبحث عن حليف قريب من وضعه جيوستراتيجيا‪.‬‬ ‫‪ -2‬فيواصل معاداته ليصبح مستعمرا‪.‬‬‫واليمين الأوروبي يمكن أن يفضل الحل الثاني لما ربي عليه من حقد على الإسلام‬ ‫والمسلمين‪.‬‬ ‫وعقلاء أوروبا سيحالفون من يقويهم ولا يهددهم‪ ،‬أي نحن‪.‬‬‫وحينئذ‪ ،‬يكون المشكل لدينا وليس لديهم‪ :‬ففرقتنا وكاريكاتور التأصيل‪ ،‬يجعل من‬ ‫سيحول دون ذلك منا شبيها بمن يحول دونه منهم‪ :‬كل الملتفتين للماضي‪.‬‬‫الإقليم سيتسع ليجمع الشرق الأدنى(نحن) والغرب الأدنى (أوروبا)‪ ،‬والأتراك‬ ‫والبلقان جسر بيننا مثل المغرب العربي واسبانيا‪ ،‬هو المستقبل المتوقع بحق‪.‬‬ ‫وهو مستقبل سيقضي على خمسة حروب أهلية‪:‬‬ ‫‪ .1‬حربنا الأهلية‬ ‫‪ .2‬وحرب أوروبا الأهلية‬ ‫‪ .3‬وحرب الصفين الأهلية‬ ‫‪ .4‬وحرب الذراعين‬ ‫‪ .5‬وحرب حامييهما على المستقبل‬‫تلك هي الأبدوعة هي التي أتوقعها مستقبلا لملتقى القارات الثلاث‪ :‬إفريقيا وآسيا‬ ‫وأوروبا قلبا للعالم وأصلا لحضارته الحديثة ومستقبل نظامه العادل‪.‬‬‫والتكامل في ملتقى القارات الثلاث وسيطا بين الشرق الأقصى والغرب الأقصى‪ ،‬هو المعين‬ ‫الذي جمع بين التراثين الديني والفلسفي‪ ،‬فأنتج الحداثة‪.‬‬‫وهو الذي سيحفظها ويحفظ قيمها التي تهددها ثقافة الشرق الأقصى والغرب الأقصى‪:‬‬ ‫فكلاهما في قطيعة مع متعاليات الروح والعقل‪ ،‬بالغرق في المحايثات‪.‬‬ ‫‪26 21‬‬

26 22

‫التمييز بين شرق وغرب أقصيين‪ ،‬وشرق وغرب أدنيين‪ ،‬شرط لفهم دور الأحياز في تحديد‬ ‫أهم محركات التاريخ السياسي والاقتصادي لتحديد نظام العالم الجديد‪.‬‬‫وهو شرط جامع بين المضطر والحر في تاريخ الإنسان‪ ،‬بوصفه كائنا طبيعيا وخلقيا لا تفهم‬ ‫أفعاله من دون هذه العلاقة بين المحايث والمتعالي في كيانه‪.‬‬‫رد التاريخ إلى فاعلية الإنسان المادية (كائن طبيعي) أو إلى فاعليته المثالية (كائن ما‬ ‫بعد طبيعي) هو أصل أدلجة هيجل وماركس لفلسفة التاريخ‪.‬‬‫وقد وضعت نظرية الأحياز ودورها في تحديد مجريات التاريخ الإنسان أحداثه‬ ‫(للتحليل)‪ ،‬وأحاديثه(للتأويل)‪ ،‬لتجاوز منطق الجدل إلى منطق التبادل والتواصل‪.‬‬‫والتبادل والتواصل مشروطان بالتعدد الذي تحيط به وحدة‪ ،‬لعل أفضل مثال منهما هو‬ ‫الظاهرة الحية التي هي كيان متعدد تحيط به وحدة رمزها الزوجية‪.‬‬‫والزوجية أهم تعدد بعد الوحدة‪ ،‬بل هي أهم علامة على منطق وحدة المتعدد بالتكامل‬ ‫الوظيفي‪ ،‬الذي أبرز رمزيه في التاريخ الإنساني التبادل والتواصل‪.‬‬‫والتبادل هو جوهر ما في الإنسان من طبيعي‪ ،‬والتواصل هو جوهر ما في الإنسان من‬ ‫خلقي‪ ،‬وكلاهما مشروط بالثاني‪:‬‬ ‫‪ -‬الأول شرط وجود‪.‬‬ ‫‪ -‬والثاني شرط كمال‪.‬‬‫وليكن مثال زوجية الإنسان‪ :‬فمن دون تبادل بين الذكر والأنثى لا وجود للإنسان‪ ،‬ومن‬ ‫دون تواصل بينهما لا وجود لكماله‪ .‬ودورهما في الجماعة مثيل له‪.‬‬‫وهما ليسا تبادلا وتواصلا عضويا بين الذكر والأنثى‪ ،‬بل هو تبادل وتواصل ذو بعدين‬ ‫متعامدين‪ :‬بين الافراد والجماعات‪ ،‬ثم بينهم وبين مصدر حياتهم أو العالم‪.‬‬ ‫‪26 23‬‬

‫والتبادل والتواصل يفترضان التعاون والتعاوض‪ ،‬وقد يتخللهما التزاحم والتمانع في‬ ‫الأحياز‪ ،‬فيوحي بمنطق الجدل‪ ،‬ويسميه الإسلامي بسطحية بالتمانع‪.‬‬‫والقرآن لا يقول بالتدافع بين صفين‪ ،‬بل بدفع الله لمن يتعالى عليهما بغير الجدل‬ ‫ليستعيد التعاون بالتعاوض العادل‪ ،‬فيتمكن من تجاوز التزاحم والتمانع‪.‬‬‫وبذلك نكون أمام أربعة صفوف‪ ،‬وعامل تحرير من رد منطق الوجود إلى الجدل‪،‬‬ ‫لإرجاعه إلى منطق التعاون والتعاوض العادل‪ ،‬الذي يمكن من التبادل والتواصل‪.‬‬‫ومن فلسفة التاريخ هذه‪ ،‬استنتج الجواب عن سؤال ختمت به الفصل الرابع‪ :‬كيف نحقق‬ ‫وحدة الإقليم المؤلف من الشرق والغرب الأدنيين؟ وبأي استراتيجية؟‬‫فالأحياز الخمسة بفضل التاريخين الطبيعي والثقافي للإنسانية‪ ،‬لم يعد تقاسمها معتمدا‬‫على التزاحم والتمانع بفضل تشابك التبادل والتواصل الكونيين‪ .‬فالإنسانية وصلت مرحلة‬‫تبين لها فيها أن التزاحم والتمانع (كل واحد يستثني الآخر) لم يعد هو المحدد للعلاقات‬ ‫إلا بسبب الجهل والأحكام المسبقة‪.‬‬ ‫حصل ذلك مرتين‪:‬‬‫‪ -‬فلسفة الإسلام الكونية (النساء ‪ 1‬والحجرات ‪ 13‬في نظرية الأخوة البشرية والتفاضل‬ ‫بالتقوى لا غير)‪.‬‬ ‫‪ -‬وعولمة التشابك تبادلا وتواصلا‪.‬‬‫حصل ما يشبه التحيز في كل المكان وكل الزمان وفي كل التراث وكل الثورة ونفس‬ ‫المرجعية المتعلقة بمصير الإنسانية الواحدة‪ ،‬مع حاجة حفظ العالم‪.‬‬‫ومعنى ذلك‪ ،‬أن كل فرد يمكن أن يكون في كل المعمورة بتواصله وتبادله دون أن يشترط‬‫ذلك تزاحما أو تمانعا بين الأفراد والجماعات فتتبادل وتتواصل‪ .‬فالتطور الحضاري أوصل‬‫البشرية إلى حقيقة لا ينفيها إلا جاهل‪ :‬التزاحم والتمانع بمنطق الجدل يقدم الحرب على‬ ‫السلم‪ ،‬فينتهي إلى الانتحار الجماعي‪.‬‬‫تبينت الإنسانية الرشد من الغي‪ ،‬ففهمت الأخوة البشرية والتفاضل بالتقوى‪ .‬السلم ‪-‬‬ ‫الإسلام‪-‬هو الحل الوحيد للتخلص من تزاحم وتمانع يهددان المعمورة‪.‬‬ ‫‪26 24‬‬

‫وهذا هو مضمون الرسالة التي بها يستأنف الإسلام تاريخه لتحقيق الشرط‪ :‬شرط نظام‬ ‫العالم الجديد هو وحدة صفي الإقليم اللذين أنتجا التاريخ الحديث‪.‬‬‫فهو سيمكن من كسر الهوة بين الشرق والغرب الأقصيين‪ ،‬إنه قطب معدل‪ ،‬قطب قلب‬ ‫العالم ورمز حضارتي الجمع بين المصدرين الديني والفلسفي الحديثين‪.‬‬ ‫فكيف نحقق ذلك؟‬‫كيف نخرج فرعي هذا القطب من الصدام بينهما حول الأحياز (المكان والزمان وتفاعلهما‬ ‫في الاتجاهين والمرجعية الدينية والفلسفية)؟‬ ‫لقد خرجا منه سلبا وإيجابا‪:‬‬‫‪ -‬فسلبا كلاهما لم يعد قادرا على الهيمنة على الآخر بل يخاف من هيمنة الأقصيين عليه‪.‬‬ ‫‪ -‬وإيجابا ما حصل بينهما من تمازج‪.‬‬‫ولهذا أشرت إلى الجسرين‪ :‬تركيا والبلقان شرقا‪ ،‬والمغرب والأندلس غربا‪ .‬ذلك رمز‬ ‫تمازج حصل خلال المدين منا إليهم ومنهم إلينا في الوسيط والحديث‪.‬‬‫والتمازج ليس مقصورا على الجسرين‪ ،‬بل هو غاص في العمقين‪ :‬فالاختلاط الديموغرافي‬ ‫والثقافي بين شعوب الصفين حقيقة لا ينكرها إلا هذيان العميان‪.‬‬‫وكل مسار تطوري تتحدد حقيقته بغايته‪ :‬ليس منطق الجدل هو الذي يتحكم في حركة‬ ‫التاريخ‪ ،‬بل منطق التبادل والتواصل‪ ،‬بالتعاوض العادل في الغاية‪.‬‬‫فمنذ خرافة أفلاطون عن صراع يوناني مصري قديم إلى نهاية الاستعمار‪ ،‬يبدو المحرك‬ ‫هو التزاحم والتمانع‪ .‬لكن الحقيقة بينتها غاية التاريخ الحالي‪.‬‬‫فصراع قرطاج وروما قديما‪ ،‬ثم المسلمين والمسيحيين وسيطا ثم حديثا‪ ،‬كل ذلك انتهى في‬ ‫الغاية إلى ما وصفت‪ :‬الجسرين والتمازج الديموغرافي والثقافي‪.‬‬‫ولم يبق إلا فهم هذه الحقيقة والعمل بمقتضاها‪ :‬التخلص من الصراع الذي هو من‬ ‫اعراض العلاقات البشرية‪ ،‬بالتزاحم والتمانع على مصادر الرزق المشتركة‪.‬‬‫والمسار الذي يوصل إلى الغاية من طبيعتها‪ :‬إذا كانت الغاية الوحدة‪ ،‬لذلك فجوهر‬ ‫محرك التاريخ الإنساني هو التعاون والتعاوض العادل‪ ،‬والصراع عرض‪.‬‬ ‫‪26 25‬‬

‫وتلك هي عقيدة الدين الخاتم والفلسفة الخاتمة‪ .‬والحمد لله أن الإنسانية وصلت إلى‬ ‫مرحلة إن لم تفهمها وتعمل بها‪ ،‬فهي ستقضي على المعمورة وتنتحر‪.‬‬‫ذلك أن الإنسانية وصلت إلى حد جعل أقصى قوتها أنها اكتشفت ضعفها‪ ،‬وهو معنى‬ ‫الاستخلاف‪ :‬من دون التحرر من الفساد في الأرض وسفك الدماء‪ ،‬تنتحر‪.‬‬‫بعبارة وجيزة‪ ،‬الإنسانية صارت إسلامية بالفعل حتى وإن بقيت بالقوة غير واعية بذلك‪:‬‬ ‫فلكأنها بدأت تدرك دلالة مشهد الاستخلاف‪ ،‬حكم الملائكة في آدم‪.‬‬‫الآن تفهم معنى الشرط الذي جعل آدم جديرا بالاستخلاف‪ :‬التسمية شرط التواصل‬ ‫وحفظ مصدر عيشه بالكلمات التي أتمها آدم‪ ،‬شرط التبادل والتعاوض العادل‪.‬‬ ‫‪26 26‬‬



‫‪02 01‬‬ ‫‪01‬‬ ‫‪02‬‬‫تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي‪ :‬محمد مراس المرزوقي‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook