-- ابن خلدون استمدادا من القرآن \"رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" (المقدمة الباب الثاني والفصل )24؟ فما الشروط القطاعية التي تجتمع فيها العلاقة بين الطبيعة والتاريخ أو بين الضرورة الطبيعية والضرورة السياسية التي ينبغي علاجها للانتقال إلى التحرر من الضرورتين؟ إنها أربعة شروط أخرى متفرعة عن هذين الأصلين أعني التحرر من سلطة الطبيعة المستبدة بكيان الإنسان العضوي والتحرر من سلطة الدولة المستبدة بكيان الإنسان الروحي. وهي شروط وردت في الرسالات المذكورة نصا ومعها شرطان آخران وردا في من ذكروا ضمنا من الرسل (آدم وعيسى وأميهما) وشرط أخير ورد مناصفة بين الضمني والصريح في السورة (إبراهيم ومحمد). وسأبدأ بالأربعة الصريحة في السورة. ثم أمر للشرطين الضمنين واختم بالشرط الذي نصفه ضمني ونصفه صريح. نأخذ هودا وشعيب: .3فلنقارن الآن الرسالة الثانية من البداية بالرسالة الثانية من الغاية أي رسالة هود ورسالة شعيب. فما المشكل فيهما؟ ف ي رسالة هود الكلام على محتكري الثروة الاقتصادية أي اغنياء قوم هود. وفي رسالة شعيب الكلام على فساد شروط التبادل العادل بفساد الموازين والمكاييل هي وسائل التطفيف خاصة . ابو يعرب المرزوقي 47 الأسماء والبيان
-- والوصل بين الأمرين هو أن احتكار الثروة -التي لا يمكن إنتاجها إلا بالتعاون بتقسيم العمل المنتج للثروة وتبادل البضائع والخدمات -يترتب عنه وينتج عن فساد شروط التعاوض العادل بين المتبادلين .وإذن فالمشكل هو توزيع الثروة وشروط التوزيع والتعاوض العادلين. فالاقتصاد بطبعه مهما كان مستوى التطور الإنساني لا يكون إلا عملا جماعيا يكون فيه فرض الكفاية طريقة لسد حاجات فرض العين بين المتعاونين .كل يسهم بقسط في إنتاج الثروة يمد به غيره ليسد حاجاته ويستمد من غيره ما يسد به حاجاته .ولا يمكن تحرير الإنسان من العبودية السياسية من دون حل مشكل دون شرط الحياة توزيعا للثروة والتعاوض العادل. ولنأخذ الآن صالحا ولوط: .4ولنقارن الآن الرسالة الثالثة من البداية بالرسالة الثالثة من الغاية أي رسالة صالح إلى قومه ثمود ورسالة لوط إلى قومه. فما المشكل فيهما؟ في رسالة صالح الكلام على مسألة توزيع الماء. وفي رسالة لوط الكلام على مسألة الجنس وفيها أيضا توزيعه المختل لغلبة المثلية. فما المشترك بينهما؟ إنه شرطا الحياة وبقاء النوع. فعلاج توزيع الماء وعلاج المثلية الجنسية شرطان لبقاء الإنسان. ولا يمكن تحرير الإنسان من العبودية الطبيعية من دون شرطي الحياة ماء وجنسا. ابو يعرب المرزوقي 48 الأسماء والبيان
-- إذا عدنا إلى البداية أي نوح بوصفه محررا لقومه من استبداد الطبيعة (الطوفان) بصنع السفينة وتأسيس الزراعة (من كل زوجين اثنين) وموسى بوصفه محررا لقومه من استبداد الدولة (استبداد فرعون) ورأينا ما بينهما من تحريرات جزئية اقتصادية (الثورة والتبادل) وحيوية (الماء والجنس) مع اعتبار الامر رسالة من عالم الغيب لعلاج مسائل من عالم الشهادة حينها يمكننا أن نقول إنه لم يبق أي مشكل آخر يمكن أن يكون خارج هذه الإشكالات التي بجمعها نحصل على مضمون الرسالة الخاتمة بوصفها مضمون الرسالة الفاتحة المرسومة في ما فطر عليه الإنسان من حيث هو إنسان :وذلك هو المطلوب من محمد تحقيقه وليس تبليغ النذير به فحسب. من يمكن أن يفهم ذلك ولا يشيب رأسه؟ ما شيب رأس الرسول هو فهمه المطلوب منه :ليس تبليغ الرسالة فحسب بل معرفة السر في فشل الرسالات الست التي حللنا في تحقيق المطلوب؟ وهنا يصبح المشكل ليس مشكل فلسفة الدين وحدها بل هو أيضا مشكل فلسفة التاريخ. وتلك هي العلاقة بين عالم الغيب وعالم الشهادة وبين النظر والعقد في المعرفة ومنطقها من حيث هي أداة التحرير من استبداد الطبيعة والعمل والشرع في القيمة ومنطقها من حيث هي أداة التحرير من استبداد الدولة. وهنا نجد ابراهيم الذي يوجد في الوسط بين الرسل الثلاثة الاول -نوح وهود وصالح- والثلاثة الأواخر -لوط وشعيب وموسى .وتوسطه في القائمة رغم عدم ذكر رسالته ابو يعرب المرزوقي 49 الأسماء والبيان
-- واقتصار دوره على اعلام الملائكة له بما سيحل بقوم لوط وتبشيره بابن جديد الأمر الذي اضحك زوجته التي تجاوزت سن اليأس كل ذلك فيه إشارة إلى أمرين: .1الأول هو الإشارة إلى ما يرمز إليه ابراهيم وهو تأسيس الوحدانية التي تحرر من عبادة الظاهرات الطبيعية في أرقى أشكالها أي الفلك والرمز هو آيات الأفول .فهو الرسول الذي يمكن القول إنه ممثل الوعي بعالم الغيب من خلال اكتشاف فناء عالم الشهادة إذا لم يعتمد على علاقته به كما يفيد ذلك رمز الأفول. .2الثاني هو الإشارة إلى ما ترمز إليه البشرى التي لا تتعلق بإسحق ولا طبعا بإسماعيل بل بمحمد الذي هو الابن الروحي الذي سيحقق ما لم يشرع فيه ابراهيم لأن رسالته لم تتجاوز اسرته التي صدر عنها وأسرته التي صدرت عنه. ولأمر الآن إلى الرسولين المضمرين .ذلك أنه الخطاب الذي يتلقاه الرسول الخاتم لا يمكن أن يكون كاملا إذا لم يكن قد تضمن المعجزتين المتعلقين برمزي البداية والنهاية من تحديد طبيعة العلاقة بين العالمين عالم الشهادة وعالم الغيب. فآدم يعتبر رمز البداية وعيسى رمز الغاية في معجزة الخلق .والقرآن هو الذي عرف الثاني بوجه الشبه مع الأول. والقرآن هو الذي عفا عن الأول فحرر الإنسانية من خرافة الخطيئة الموروثة التي هي علة الحاجة إلى شفيع يغني عنه العفو الوارد في القرآن .وهو الذي برا الثاني من توظيفه وتأليهيه في الآية 79من آل عمران{ \"مَا َكانَ لِ َبشَ ٍر أَن ُي ْؤتِيَهُ ٱل َّلهُ ٱ ْلكِ َٰتبَ َوٱلْحُكْ َم وَٱل ُنّ ُب َّوةَ ُثمَّ يَ ُقولَ لِل َّنا ِس ُكونُواْ عِ َبادًا لِّى ِمن ُدو ِن ٱللَّ ِه َو ٰلَ ِكن كُو ُنواْ َر ٰبَّ ِن ِّيۦ َن بِ َما ُكنتُمْ تُ َع ِّل ُمو َن ٱلْ ِك َٰتبَ َوبِ َما ُكنتُ ْم تَدْرُ ُسو َن}. ابو يعرب المرزوقي 50 الأسماء والبيان
-- فتكون الغاية من إيرادنا هذين الرسولين واعتبارهما مذكورين ضمنيا في ما شاب منه الرسول لنفهم علة الإشابة. فلا يمكن أن تكون الصورة كاملة إذا كان الرسول الخاتم قد فهم من هود وأخواتها المهمة التي كلف بها ومن ثم فهو قد فهم أنه لا يمكن أن يحقق ذلك إذا لم يكن قد تحرر هو بدوره مما كان سائدا من تحريف في أقرب دين إليه زمانيا أعني دين عيسى. فيكف يكون أن يكون المسيح في الرسالة الخاتمة غاية ما يمكن للإنسان أن يبلغه مع تحريره من وهم التأليه وخاصة من استعماله لتأسيس ما سيكون الإسلام أهم ثورة عليه لأنه حلف بين سلطتين روحية وزمانية يعتبرها القرآن في آل عمران أصل الاستبدادين الروحي والسياسي وسر التحريف الذي يفسد العالمين عالم الغيب وعالم الشهادة بتوظيف الدين في التربية والحكم في دور مناف لحقيقة دوره الذي هو بالذات العلاقة بين العالمين: .1علة فساد التربية الإنسانية بتأسيسها على حاجة ا لإنسان إلى وساطة بينه وبين ربه أعني المنظومة الكنسية التي هي سلطة روحية مستبدة باسم الله. .2علة فساد الحكم الإنساني بتأسيسه على حاجة الإنسان إلى وصاية بينه وبين شأنه أعني المنطومة التي تحكم بالحق الإلهي والتي هي سلطة سياسية مستبدة باسم الله. وأختم البحث بالكلام في اخوات سورة هود: فالواقعة كلنا يعلم أنها متعلقة بالآخرة التي هي كلها من عالم الغيب. والمرسلات كلنا يعلم أنها متعلقة بالتكذيب بيوم الدين والمكذبون هم الطغاة إما بالحكم أو بالثروة أو بالعلم المزيف. ابو يعرب المرزوقي 51 الأسماء والبيان
-- والنبأ الاسم وحده كاف للدلالة على ما بين الدنيا والآخرة من علاقة وما ترتب على النبأ من هلع عند المكذبين بيوم الدين. والتكوير كما هو بين للجميع متعلقة بعلامات النشور والبعث .ولا يمكن لمن يفهم ذلك ألا يشيب .والله ورسوله أعلم وأحكم. ابو يعرب المرزوقي 52 الأسماء والبيان
-- خصصت خمسة فصول للبحث في علاقة عالم الشهادة بعالم الغيب -بعنوان التما ثل السطحي بين عالم الشهادة وعالم الغيب-من منظورين :منظور نظرية المعرفة والنظر ومنظور نظرية القيم والعمل .فهذان المنظوران يمكن أن يكونا قائلين بالمطابقتين اللتين تعاني منهما الإنسانية لأنهما علة \"حب\" التأله بالمعنى الخلدوني. ويمكن أن يكونا قائلين بنفيهما المحرر منه. فالقول الأول يعتبر العلم محيطا بالوجود والإرادة مستوفية للمنشود. والقول الثاني ينقل المعرفة من وهم الإحاطة إلى الاجتهاد المعرفي وينقل القيمة من وهم التمام إلى الجهاد الخلقي. وكان هدفي وصل الإشكالية بنظرية المقدرات الذهنية النظرية التي وضعها ابن تيمية وبنظرية المقدرات الذهنية العملية التي قستها عليها وأضفتها لجعل الكلام في نظرية القيمة في العمل والشرع (في علوم علاقة الإنسان بالحضارة) قابلة للعلاج الذي تقبله نظرية المعرفة في النظر والعقد (في علوم علاقة الإنسان بالطبيعة). وكل الإشكال هو ما بين العلاقتين من تفاعل في الاتجاهين أعني أثر علاقة الإنسان بالحضارة في علاقته بالطبيعة وعلاقة الإنسان بالطبيعة في علاقته بالحضارة ووحدة هذه العناصر الأربعة التي هي أصلها وغايتها والتي بنى عليها ابن خلدون كل علمه في العمران البشري والاجتماع الإنساني .وتلك هي ثورته التي تجاوزت كل الفلسفة القديمة. وحتى أفهم هذه الثورة التي بدأت بنقد الميتافيزيقا عند الغزالي وتقدمت إلى نقد نظرية النظر والعقد القائلة بالمطابقة عند ابن تيمية وختمت بنقد نظرية العمل والشرع ابو يعرب المرزوقي 53 الأسماء والبيان
-- القائلة بالمطابقة عند ابن خلدون .وقد بينت في محاولات سابقة أن هذين النقدين لا يقبلان التعليل من دون الاعتماد على طبيعة المقدرات الذهنية التي ما تزال مجهولة بنوعيها الذي وضعه ابن تيمية والذي قسته عليه. ذلك أن رفض المطابقتين لا يمكن فهمه من دون التمييز بين علم المقدرات الذهنية وعلم ما لا يعلم من الموجود والمنشود إلا بها علما يبقى بحاجة إلى التجربة بخلاف علمها هي الغني عن التجربة. لذلك ملت إلى تأويل المقدرات الذهنية ميل سقراط وديكارت ولايبنتس فلسفيا والقرآن دينيا إلى أنها تعود إلى الفطري في القدرات الإنسانية ومن ثم فهي مقصورة على ما فطر الله الإنسان عليه من تجهيز مشروط في تحقيقه لمهمتيه أي الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها .ولما كان الإنسان متطورا منذ كونه جنينا في بطن أمه إلى أن يأخذ الله أمانته فإن هذين القدرتين والتعبير عنهما يتطوران بتطوره لأنهما هما شرط تعامله مع محيطيه الطبيعي والتاريخي. لكن كونها فطرية لا يعني أنها ثابتة وليست متغيرة لأن الإنسان نفسه متطور ومن ثم فهي مثله متطورة لأنها في علاقة مباشرة مع تطوره من حيث هو متكيف مع ظروف حياته أي علاقته بالطبيعة خارجه وفيه وعلاقته بالحضارة خارجه وفيه. ثم اعتبرتهما استنادا إلى التعريف القرآني لأهلية آدم للاستخلاف ذاتي صلة بقصة تعليمه الأسماء كلها .فالرد على تعجب الملائكة من استخلاف من عرف عنه الفساد في الارض وسفك الدماء قدحا في اهليته بتعليمه الأسماء يمكن اعتباره شهادة على أن علم الأسماء هو القدرة على ابداع لغتي العلاقة بالطبيعة والعلاقة بالتاريخ. ابو يعرب المرزوقي 54 الأسماء والبيان
-- أعني شرطي قيامه في عالم الشهادة دون انقطاع عن عالم الغيب بعد أن اعتبرته الملائكة غير أهل بسبب فساده في الأرض وسفك الدماء ورفض ابليس السجود له لنفس العلة مع حجة الفرق بين المادتين مادته من نار ومادة آدم من تراب. وطبعا فالقسمة رمزية وهدفها تحديد منزلة الإنسان الوجودية. ولا شيء يفرض على الجميع أخذ هذه القصة القرآنية الرمزية مأخذ الحقيقة العقدية. إذ يمكن للبعض أن يرفضها فيعتبرها من أساطير الأولين كما يرفض القائلون بالتجريبية القول بالأفكار الفطرية ويعتبرون كل شيء مكتسبا خلطا بين القدرة والمقدور عليه بها. وليس موضوعي الدفاع عن الإيمان بها أو عن عدمه فلست أكتب في العقائد بل في عرض القرآن لدراما الوجود الإنساني في علاقته بربه وبغيره من جنسه ومن غير جنسه وبالطبيعة وبالتاريخ ويفترضه مما يعتبره ما ورائهما. فذلك يساعد على فهمهما كما وردت في التعبير القرآني بأساليب فنيه اخترت اليوم فن الرواية باعتبار القرآن يستعمله بشكل مشهدي يشبه العرض المسرحي الذي تحضر فيه الشخوص في مشاهد ركحية وهو جمع بين الرواية بالمعنى الحديث والشعر بالمعنى اليوناني. لكن النظر إليها من حيث هي إبداع فني لا يقتضي الكفر بها كما يتوهم سطحيو الحداثيين حتى وإن بدا ذلك دالا عليه لغلبة المقابلة بين العالمين عند من يقول بالمطابقتين فيتصور علمه محيطا وعمله تاما. لذلك فليس عندي مشكل في موقف الملحدين خاصة وتفسيره ناتج عن القول بالمطابقتين كما سأبين وهما من أوهام: ابو يعرب المرزوقي 55 الأسماء والبيان
-- .1 .2 الفلسفة القديمة (أفلاطون نسبيا وأرسطو بصورة مطلقة). وما بعد الحديثة (هيجل نسبيا وماركس بصورة مطلقة). واعتباري هيجل وماركس بداية ما بعد الحداثة لأنهما أعادا الفلسفة إلى الميثولوجيا بأن مثلجوا التاريخ أحدهما بتأويله انجيليا والثاني بتأويليه توراتيا وحصره في عالم الشهادة ونفي غالم الغيب مع إطلاق الإرادة والعلم والقدرة والذوق والرؤية الإنسانية وذلك هو القصد بالتأله الخلدوني الذي يعتبره مرض الإنسانية عندما تطلق سلطانها السياسي والمعرفي. وهي أوهام لا يمكن أن يكون القائل بهما جديا إذ لا يمكن أن يدعي عاقل أن علمه محيطه وأن عمله تام ولذلك فلا بد من التخلي عنها بعد أن علمت أن أسرار الوجود لا يحيط بها علم مهما تقدم بل هو كلما تقدم اكتشف أن نسبته إلى ما يجعل تكاد تكون قريبة من الصفر بالقياس على لامتناهي المجهول من الوجود. ثم إن الإيمان هو في النهاية هداية من الله وعدمه لا يدل على عدمها إلا في حالة موت الإنسان دون أن يهديه الله فيكون إضلالا من الله كذلك .والإيمان ليس دائما من ظاهر الإنسان فعلام الغيوب وعالم السرائر قد يكون لديه ما يخفى عنا فيكون من نعتبره غير مؤمن أشد إيمانا ممن نظنه مؤمنا. ولذلك فإني سأعلق الحكم في مسألة الأيمان وأحاول النظر في القرآن بوصفه محتويا على النوعين من المقدرات الذهنية واتعامل معه بهذه الصفة تاركا معلقا الوصف المعرفي والقيمي لنص القرآن :سأعتبره رواية بالمعنى الأدبي للكلمة لكنها من النوع الذي يجمع بين نوعي ابو يعرب المرزوقي 56 الأسماء والبيان
-- المقدرات الذهنية فيكون جنسا أدبيا من نوع خاص يجمع في آن الابداعين الأدبي والرياضي: .1والانطلاق يكون من مفهوم الخلق فيه مبني على العنصر المقوم للأدب أي الكلمة: الخلق بكلمة كن .كما أن فعل الخلق وفعل الامر اللذين ينسبهما الله فيه إلى نفسه يكون وصفه بكونه قضاء وقدرا .والأول حكم خالق وهو بكن والثاني مقدار حكم مكمم وهو أيضا بكن. فيكون البعد الأدبي مقدم على البعد الرياضي لكن البعد الرياضي مفروض فيه لأن فعل الخلق وفعل الأمر لا يمكن أن يكون حاصلا ما لم يكن بقدر. .2والمخلوق طبيعيا كان أو تاريخيا يعتبره القرآن بقدر أي إنه كيانه من طبيعة رياضية حتى وإن كان هذا الكيان الرياضي لا يعلم إلى بالمدارك الحسية التي تعطيها ما هو منقول عما يوجد في المخلوق كما يدركه الإنسان على الأقل بالنسبة إلى المدارك الإنسانية. ومثله المأمور في الطبيعي والتاريخي سواء كانا خارج الإنسان أو في كيانه لأنه مؤلف من كيانه البدني وهو طبيعي ومن كيانه الروحي وهو تاريخي. فيكون المخلوق والمأمور هو بدوره من المقدرات الذهنية .والدليل أنه لا تجد تجربة تستنفد الإحاطة بكيان أي موجود طبيعي أو تاريخي بل يبقى فيه دائما ما يجعله عصيا على مطابقة ما نعلمه منه لحقيقته. وسأنطلق من عملين أقصيين يتعلقان بالوجود الإنساني ويحيطان بعملين أقصيين ثانيين يتعلقان بالوجود عامة :المحاسبي ونيتشة ولايبنتس وسبينوزا. ابو يعرب المرزوقي 57 الأسماء والبيان
-- فأحد الأولين حصل في ثقافتنا فعليا والثاني حصل الوعد به أو السعي إليه .ويمكن أن تكون الحصيلة هي العمل الخامس ويمثله هيجل وماركس .وقد زاوجت في هذه الحالات لأنها بالوجهين تمثل وجهي فهم القرآن فهما حرفيا وقاصرا إذا اعتبر \"قصة الوجود\" عند القول بالمطابقتين. وصدقنا أن تأويلنا للقرآن مطابق للغيب الذي يعتبر عالم الشهادة مجرد رمز إليه كما تبين فصلت 53يبين أنه الحق ليس بمعنى المطابقتين بل بمعنى عدمهما :فما يتبين للإنسان عند رؤية آيات الله في الآفاق وفي الأنفس هو ما يريده الإنسان وما يعلمه وما يقدر عليه وما يذوقه وما يراه كلها أمور شديدة النسبية وان الإنسان لا يقدر الله حق قدره. وسأبدأ بالأول هو عمل المحاسبي كتاب التوهم وما يصبح ممكنا للإنسان المخلد في الجنة ويمكن توقع جزءا ثانيا لم يكتبه المحاسبي كما لم يكتب أرسطو جزءا ثانيا للشعر في الهجاء. فيتكلم على ما يحرم منه الإنسان المخلد في جهنم .ثم أمر إلى الثاني وهو أحلام نيتشه بالإنسان الأسمى الذي يكون إبداعه الفني هو الخالق والمقدر للعالم بعد رده إلى مجرد إبداع فني للإنسان الأسمى. ونيتشة ألف في الوجه الثاني نظيرهما وهو نقده للعالم الذي نعيش فيه وتصوراتنا له. وإذن فكلاهما ينسب الأمر إلى الإنسان وليس إلى الله في الوجهين الموجب والسالب. والفرق أن محاسبي ينسبه إلى الإنسان في الآخرة ولا ينفي وجود الله واكتفى بالوجه الموجب .في حين أن نيتشة يرفض المقابلة بين العالمين من أصلها ولا نستطيع حتى القول إنه يتكلم على الإنسان في الدنيا للتضايف بين المفهومين دينا وآخرة. وكتب في الوجهين الموجب الذي يحلم به والسالب الذي يريد التخلص منه ليستبدله بحلمه. ابو يعرب المرزوقي 58 الأسماء والبيان
-- لكن العملين الآخرين أي عمل لايبنتس وسبينوزا فلا يتعلقان بالإنسان وما يقدر عليه في الآخرة ولا في الدنيا بل بالوجود من حيث هو وجود .وهيجل وماركس يعودان بعدهما إلى الجمع بين الوجود والإنسان ليعدا إلى ما يقدمه نيتشة في حلمه برده إما إلى الموجود في عالم الشهادة في شبه دفاع مستميت لتصوره المسيحي وتلك هي علة ردي فلسفته كلها إلى دروسه في فلسفة الدين التي بدأ بها وختم بها كل أعماله الفلسفية ما يجعله قد عاد إلى لايبنتس. ولكن من دون لاهوت وحدة الوجود في\"المونادة\" الايبنتسية (هيجل) أو إلى المنشود ولكن في التاريخ الفعلي للطبيعة ما يجعله قد عاد إلى سبينوزا من دون لاهوت وحدة الوجود في \"الأخلاق\" (ماركس). ولما كانت هذه المحاولات كلها قراءات لقصة الوجود في القرآن -الوجود عامة وصورة الله وصورة الإنسان-من منطلق المطابقتين فإن كل مدارس التصوف المتفلسف التي عرفتها حضارتنا وكل الحضارات السابقة واللاحقة لا يختلف عنها إلى بالعبارة أي بلغة علاقتها بنوعي المقدرات الذهنية أقل وضوحا مما هي عليه عند هؤلاء الفلاسفة. لكني أستطيع القول إنها أقرب إلى المقدرات الذهنية العملية والأدب في حين أن لغة الفلاسفة أقرب إلى المقدرات الذهنية النظرية والرياضيات .لكن النوعين نكوص إلى الميثولوجيا بسبب القول بالمطابقتين وهو أمر لا يمكن أن ينطبق على القرآن :فهو كما بينت يفيد بما جاء في فصلت 53أن ما يتبينه الإنسان من رؤية آيات الآفاق والأنفس هو حقيقة ما يقوله القرآن أي إن ارادة الإنسان وعلمه وقدرته وذوقه ورؤية قاصرة على تأويل الغيب وأن عالم الشهادة رامز له دون أن يكون مماثلا له. ابو يعرب المرزوقي 59 الأسماء والبيان
-- وما جعلني أميل إلى أن نوعي المقدرات الذهنية اللذين عند الإنسان هما أبرز علامة على معنى الاستخلاف الذي يجعل الإنسان له شيء مما ليس له مثيل في عالم الشهادة يدركه دون أن يكون ذا وجود عيني إلا في ما يدركه بذهنه بل ويبدعه بإدراكه الذهني هو أن الإنسان ليس له أدنى سلطان على الوجود الشاهد من دون هذين النوعين من التقدير الذهني. فالرياضيات ضرورية للتعامل النظري والتقني المادي مع الطبيعة بالتجربة لصوغ قوانين تمكن من التعامل معها والقيميات ضرورية للتعامل مع العملي والتقني الروحي مع التاريخ والتجربة لصوغ سنن تمكن من التعامل معه. فمن دون التعامل الأول لا يمكن للإنسان أن يعمر الأرض شرط بقائه ومن دون التعامل الثاني لا يمكن للإنسان أن ينظم التعمير شرط تعاونه الذي هو شرط الرعاية والحماية. وإيماني بالقرآن لا يجعلني أنفي أن كل هذه القراءات ممكنة ووجيهة. ذلك أننا إذا سلمنا بأنه لا شيء مما في عالم الشهادة يطابق ما في عالم الغيب بات كل تصور للإنسان وللوجود ولله يخطر على بال الإنسان ليس مستبعدا لأن ما يجعلني أفضل فهما على فهم هو التجربة في العلم والمصلحة في التاريخ. وكلتاهما إضافية إلى الإنسان من حيث هو جزء من عالم الشهادة. والمشكل هو أن عالم الشهادة متضايف مع عالم الغيب .وهذا التضايف يجعل المرء مخيرا بين أحد التأويلين إما برد هذا إلى ذاك أو ذاك إلى هذا .أو برفض الردين والإبقاء عليهما معها إثباتا أو نفيا. ابو يعرب المرزوقي 60 الأسماء والبيان
-- ولما كنت أومن بأن أقرب حل هو الموقف الذي وصل إليه آخر علمين من المدرسة النقدية في تراثنا أعني ابن تيمية في نظرية النظر والعقد (الفلسفة النظرية ونظرية المعرفة) وابن خلدون في نظرية العمل والشرع (الفلسفة العملية ونظرية القيمة) فإني اعتبر عملي هذا جامعا بين الخيارين لأن كونه موقفا نقديا يقتضي ما يقتضيه القرآن نفسه من ضرورة عرض الموقف المنقود ضمن العرض القصصي الذي يقص العلاقة بين الموقفين: .1موقف المتخلصين من المطابقتين القائلين بوجود عالمين عالم الشهادة وعالم الغيب وما بينهما من تفاعل في الاتجاهين ووحدتهما هي العرض القرآني من جهة أولى وكل إشكالية الإيمان مصدرها الوعي بهذا القصور في إرادة الإنسان وعلمه وقدرته وذوقه ورؤيته. .2وموقف الغارقين في المطابقتين القائلين بوحدة الوجود والعالم ووهم الإنسان بتمام إرادة وعلمه وقدرته وذوقه ورؤية وملخص ذلك جاء في قول هيجل :موت الله وعدم وجود \"ما هناك وراء ما هنا\" واعتبار التاريخ هو الحكم النهائي ما يعني الاقتصار على عالم الشهادة ونفي عالم الغيب. وحينها يتساوى الاثبات والنفي مسلكي الموقف الإنساني الدالين على اعتبار الإنسان مطلق الحرية في اختيار مصيره. وذلك هو سر كل الدراما الإنسانية في القرآن أعني أساس مغامرة الإيمان والكفران. ولما كنا لا ندري في عالم الشهادة من هو المؤمن بحق ومن هو الكافر إذ كما بين القرآن في ما يختلف فيه الناس في المسائل الدينية مؤجل إلى يوم الدين رغم التوكيد على أن الإسلام هو دين الله الحق صار المشكل هو في ما يقوله القرآن من أن المعيارين -التجربة في العلم والمصلحة في العمل-شديدا النسبية ولا يمكن الاكتفاء بهما للحسم حتى في هذه. ابو يعرب المرزوقي 61 الأسماء والبيان
-- ومن هنا يبقى الإيمان خاضعا لمبدأ -البقرة -256تبين الرشد من الغي وهو تبين روحي يخص كل فرد ولا يوجد فيه طريق واحدة يشترك فيها فردان للوصول إلى هذا التبين. وبهذا المعنى فالقرآن قد حدد في فصلت 53وفي آل عمران 7تحديدا صريحا مأساتي الإنسان اللتين يمثلهما الموقفان وبيان وجود الإنسان البرزخي الناتج عن هذه الدراما التي تترتب على العلاقة بين العالمين عالم الشهادة عالم الغيب ومن ثم التمييز القرآني الواضح بين المحكم والمتشابه النسبيين إلى ما جهز به الإنسان من قدرة على النظر والعقد في المعرفة وعلى العمل والشرع في القيمة: .1موقف من التأويل الممكن للإنسان والذي فيه التجربة والمصلحة أعني تأويل آيات عالم الشهادة ممثلا بالآفاق (الطبيعة والتاريخ) والأنفس (كيان الإنسان العضوي وكيانه الروحي ويناظران بعدي الآفاق لأن الأول طبيعي بالأساس والثاني روحي بالأساس. .2موقف من التأويل المستحيل للإنسان والذي فيه استحالة تحديد معنى للتجربة والمصلحة ومن ثم حصول الزيغ والفتنة أعني تأويل آيات عالم الغبي ممثلا بالذات والصفات والخلق والأمر أي كل ما وراء عالم الشهادة ببعدي الآفاق وببعدي الأنفس. لكني أعتقد أن ذلك كله يأتي من عدم العمل بما ينصح به القرآن من ضرورة التحرر من الوهمين المتعلقين بالمطابقتين. فهوم مطابقة العلم للموجود ومطابقة العمل للمنشود علتهما حب التأله عند الإنسان أعني ما يفسر آراء النماذج التي ذكرتها في هذه الضميمة: ابو يعرب المرزوقي 62 الأسماء والبيان
-- .1فالمحاسبي يقيس الإنسان في الجنة على الله إذ ينسب إليه ما ينسبه القرآن إلى فعل كن الخالق والآمر .وكان من المفروض أن ينفيها عنه في جهنم فيكون الثواب والعقاب هو هذان القدرتان الموجبة والسالبة للإنسان. .2ونيتشة يقيس الإنسان في الفن على الله إذ ينسب إليه ما ينسبه القرآن إلى فعل كن الخالق والآمر .وهو ينفيها عنه في الدنيا التي يسميها الناس عادة الواقع التاريخي فيكون تحقق الإنسان في رأيه هو ما يحصل في الفن ونفيه ما يحصل في التاريخ. .3ولايبنتز يقيس الوجود كله على الإنسان باعتبار كل فرد مرآة كونية ينعكس عليها كلى ما عداها ويقاس عليها كل ما عداها فتكون كل الموجودات مرايا عاكسة كل واحدة منها عاكسة للوجود كله وهو ما يشبه التعدد والوحدة في آن ويشبه ما يسميه ابن خلدون بالوحدة المطلقة وقد شبهها التلمساني بأمواج البحر. .4وسبينوزا يقيس الوجود على الإنسان لكنه يميز بين صفتي الوجود اللتين حددهما ديكارت -الفكر والامتداد-منظورين يجعلهما مقابلين للصفات اللامتناهية لكنه مع ذلك يتكلم على وحدة الوجود بمفهومين لا يتجاوزان ما يدركه الإنسان أعني الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة وهما مفهومان لا يتجاوزان ما يدركه الإنسان من الوجود .فيكون بهذه الطريقة قد نزل دون ما يبدو ديكارت قد اقتصر عليه أعني الامتداد دون الفكر الذي يمكن تجاوز الصفتين إلى اللامتناهي منها. .5وهيجل عاد إلى ما هو أقرب إلى لايبنتس فصار الإنسان هو التعين الفعلي لمرآة الوجود مع تأليهه بخلاف لايبنتس .وما نسبه سبينوزا للطبيعة الطابعة والمطبوعة ذوته ابو يعرب المرزوقي 63 الأسماء والبيان
-- فصار منسوبا إلى الحضارة الروحية المروحنة والمروحنة بعامل التذويت وصراع الأرواح الذي يعوض صدام القوى في الطبيعة بمفهوم الديناميك الكلاسيكي عند سيبنوزا. .6وأخيرا فماركس عاد إلى سبينوزا ولكن بالمفهوم المذوت الهيجلي لأن الدينامية هي دينامة التطور التاريخي مع نفي الحاجة إلى الروحة الهيجلية رغم الحاجة إلى الصراع الجدلي بين الطبقات التي تقتضي وجود الأوعاء وهو بنحو ما روحنة لأن الغاية من الثورة مثالة وخلقية بالأساس. وهو نوع من الأنسنة المؤلهة أو التي تقول بنظرية موت الله الهيجلية ونفي ما وراء عالم الشهادة الذي يكون الحكم ا لنهائي فيه هو التاريخ. .7وهنا نعود إلى الموقفين الحدين موقف المحاسبي ونيتشة وعلاقتهما بفهم القرآن من حيث تحديده للعلاقة بين عالم الشهادة وعالم الغيب .ومن ثم فقراءته يمكن أن تكون إما بالمقدرات الذهنية الأدبية كما في حالة هذين الحدين الأقصيين الاول والأخير أو بضم ثمرة العلوم فتستعمل المقدرات الذهنية الرياضية كما في حالة لايبنتس وسبينوزا الاول بعلم رياضي كان فيه من المبدعين والثاني بشكل رياضي اقليدي في صياغة كتابه في الاخلاق وهو أمر سبق لديكارت أن سخر ممن طلب منه ما يماثله في الردود على اعتراضات بعض علماء عصره على التأملات. لذلك سأحاول قراءة القرآن وكأنه عمل \"ابداعي\" كما فعلت في كتاب الشعر المطلق والإعجاز القرآني فاعتبره \"رواية\" بالمعنى الادبي -دون كلام على الاعتقاد وعدمه-وأبين أن القرآن نوع فريد من الإبداع الروائي يعرض إشكالية العلاقة بين الإنسان والله والوجود عامة والوجود التاريخي الإنساني. ابو يعرب المرزوقي 64 الأسماء والبيان
-- فالرسل فيه يمثلون الناطقين باسم عالم الغيب وبقية المذكورين في القرآن ممن يدخلون في صراع معهم يمثلون الناطقين باسم عالم الشهادة لأدرس فيه معنى فصلت 53وآل عمران 7وكل ما يمر به التاريخ الإنسان من قلب تام للعلاقة بين ما يكان يسمى ميثولوجيا في الحضارات القديمة إذ صار التاريخ الإنساني هو نموذج الميثولوجيا بدلا من العكس. والقرآن يستعمل نوعي المقدرات الذهنية للكلام على عالم الشهادة وعالم الغيب ويجمع بين فلسفة التاريخ وفلسفة الدين جمعا لم يعد فيه ما كان سائدا في الفكر القديم حيث يكون الميثولوجي هو المنظور الذي يقرأ به التاريخ والطبيعة بل هو يعكس فيجعل التاريخ هو الذي يقرأ به الميثولوجي أو ما بعد التاريخ والطبيعة .وهذا القلب له علاقة بإشكالية الاستعمار في الارض شرطا في الاستخلاف :فلا يمكن تحقيق ما يطلبه عالم الغيب من دون تحقيق ما يقتضيه عالم الشهادة .ويكن أن أستثني من هذا الفهم موقفين: .1الموقف الصوفي :فهو موقف يجعل التأويل الميثولوجي للقرآن هو الأصل في ما يدعيه من كشف ينفي القرآن إمكانه لأن من شرطه نفي الغيب وقيس عالم الغيب على عالم الشهادة. .2الموقف الشيعي :فهو الموقف الذي نكص إلى جعل الميثولوجي بالمعنى القديم نموذج التاريخي بالمعنى القرآني بحيث إن كل فكرهم \"ابداع\" لخرافات حول معجزات الأيمة التي تتنافى مع القرآن. والمحاولة هي طبعا من جنس محاولة الشعر المطلق والأعجاز القرآني .ويمكن أن أسميها بالرواية المطلقة والأعجاز القرآني. ابو يعرب المرزوقي 65 الأسماء والبيان
-- وما يبدو غريبا في العنوانين أنهما يأتيان مني الذي كنت دائما ضد القول بالإعجاز العلمي في القرآن. وقد بينت علل نفي الاعجاز بسبب نفي المطابقتين في نظرية المعرفة وفي نظرية القيمة. ومن ثم فالإعجاز في كلامي على الشعر المطلق والرواية المطلقة يعني الحد الذي لا يمكن للشعر والرواية البلوغ إليه فيكون الإعجاز هو ما كان يسمى امتناع البلوغ مبلغ القرآن في الفنين. فالشعر والرواية لهما حد لا يصلان إليه لكنه يبقى القوة الجاذبة وهي الأعجاز القرآني .ما يعني أني بخلاف المعتاد اعتبر القرآن نموذجا ومثالا أعلى علينا محاكاته مع العلم باستحالة البلوغ مبلغه مثلما أن الإرادة والعلم والقدرة والذوق والرؤية الإنسانية كلها دون الإرادة والعلم والقدرة والذوق والرؤية التي نعتبرها مطلقة عند الله وربما كما يقول القرآن نفسه بأن البصر يصبح حديدا يصبح الإنسان في عالم الغيب الذي يصبح عالم شهادة بعد البعث في متناوله ما فكر فيه المحاسبي في كتاب التوهم. وإذن فمثلما أفسر القرآن تفسيرا فلسفيا يمكن أن أشرح النموذجين الشعري والروائي الواردين في القرآن مع نفس الاحتراز وهو أني لا أدعي التأويل أو العلم المطلق بتفسير معاني القرآن أو بغاية فن الشعر وبغاية فني الرواية في القرآن. والفنان لا يجريان في عالم الشهادة الطبيعي والتاريخي بل في عالم المقدرات الذهنية النظرية (الرياضيات مثلا) وفي عالم المقدرات الذهنية العملية (الأخلاقيات مثلا). وهما عالمان ندركهما ذهنيا ولا يمكن تصورهما حاصلين في ما يسمى الواقع القابل للإدراك الحسي وحتى العقلي إذا اعتبرناهما حاصلين في الأعيان .ذلك أن من طبيعة المقدرات ابو يعرب المرزوقي 66 الأسماء والبيان
-- الذهنية النظرية والعملية أنهما مما لا يمكن أن يكون موجودا في اعيان عالم الشهادة لأنهما لا يمكن ان يتعينا في مادة بسبب ما للمادة من أبعاد تخلو منها المعاني الرياضية والمعاني الخلقية مثلا. وقد أخصص لاحقا محاولة مفصلة للكلام على عقدة هذه الدراما الإنسانية المتعددة وعلى شخوصها وقراءتها من حيث هي نوع من الرواية الانطولوجية والوجودية. واستعمل كلمتين يونانية وعربية لإفادة الفرق بين الوجودي المتعلق بما له علاقة بهويات الأشياء والوجودي بمعنى طبيعة الوعي الوجداني بالوجود عند الإنسان وهو في الغالب وعي بالطابع الدرامي لحياة الإنسان من خلال الموقفين القائل بالعالمين والوجودين والمقصور على وحدة العالم والوجود. والمقابلة بين \"انطولوجيك\" و\"اكزيستنسيال\" مقابلة معلومة لكن العربية بدت وكأنها لا تتضمن الفرق بين المعنيين عندما نستعمل كلمة وجود لعدم وجود كلمة \"دا-زاين\" مقابل \"زاين\" في الألمانية مثلا. لكن لو عدنا إلى استعمال هيجل لكلمة \"دا-زاين\" ولم نكتف باستعمال هيدجر لها لسهل علينا فهم الفرق بين الوجود المتعين بالتحيز المكاني والإشاري والوجود العام اللامتعين واللامتحيز ككل الماهيات التي هي معان ذهنية لسنا ندري طبيعتها ما هي لكننا ندركها كما بين هوسرل في كلامه على حدس الماهيات. فتكون المقابلة العربية دون حاجة للتحيز المكاني أو الإشاري التي تفيدها إشارة \"دا\" أعني أن المقابلة هي بين العين الموجودة والوجود اللامتعين بالتحيز القابل للإشارة إليه ابو يعرب المرزوقي 67 الأسماء والبيان
-- بمحل في المكان .وكان يمكن أن نعتمد على مصطلح وضعه الكندي للكلام على الوجود وعدم الوجود أي الأيس والليس للدلالة على الدازاين ونبقي كلمة الوجود للدلالة على الزاين. لكن ذلك يكون مواضعة اصطلاحية وليس دلالة تفيدها بينة الكلمتين كما في دازاين وزاين. والعلة هي أن اللغة العربية ليست نحتية بل اشتقاقية رغم أن لـ\"ـيس\" يمكن اعتبارها \" لا أيس بدغام الألفين الوصلية والقطعية\" .وإذا كانت العين عينا إنسانية فإنها تتضمن الوعي بالوجود المتعين للذات الإنسانية فننتقل من ثم من الدلالة الهيجلية العامة للعين في دازاين إلى الدلالة الهيدجرية للعين الواعية فيها. والعين من دون الوعي ليس لها البعد الاسكزيستنسيالي ومن ثم فلا يمكن أن يوجد فيها البعد الدرامي الذي هو ليس شيئا آخر غير الوعي بالفعل وما يصحبه من شعور قيمي موجب أو سالب. والهدف من المحاولة هو مواصلة الفكرة الأولى التي دونتها في كتابي حول فلسفة الدين الذي كانت مناسبة كتابته حوار دار بيني وبين الصديق عبد الحبار الرفاعي (شيعي معتدل من العراق) في مكة المكرمة خلال لقائنا الثاني فيها بمناسبة الحج وطلبت منه أن يرسل أسئلته بعد الحج -لأن الوقت لم يكن كافيا لمتابعة الحوار-وأجبته عليها في الكتاب. وفيه بينت أن القرآن فيه نوع من ترجمة ذاتية للرب في علاقته بالإنسان وكذلك ترجمة ذاتية للرسول في علاقته بالقرآن وبالتاريخ الذي أسهم فيه بما قام به لتحقيق وظيفتيه السياسيتين أعني التربية والحكم بوصفه رسولا خاتما ومصلحا لتحريف الديني في الأديان السابقة. ابو يعرب المرزوقي 68 الأسماء والبيان
-- ولا أعتقد أنه يمكن أن يوجد حرج في الكلام على المعاني الفنية في القرآن إذ حتى أكبر منظر إسلامي حديث-السيد قطب -لم ير في ذلك ما يناقض الإيمان بالرسالة. ابو يعرب المرزوقي 69 الأسماء والبيان
-- ابو يعرب المرزوقي 70 الأسماء والبيان
Search