أبو يعرب المرزوقي الأسماء والبيان
تسارعت الاحداث فحالت دوني ومواصلة الكلام في امهات القضايا ذات الأعماقالنظرية .أعود فصاعدا للكلام على معوقات النهوض البنيوية بصنفي ممثليها .والصنفان مضاعفان: -التأصيلي -والتحديثي ينقسم إلى مدرستين: -1مدرسة إحياء التراث بمنطقه الذي تنتسب إليه -2ومدرسة نقده بمنطق المدرسة المقابلة. فكلتا المدرستين يتقاسمهما ميلان: -دفاعي عن تراث مدرستها -وهجومي على تراث المدرسة المقابلة. وإذن ،فهما تشتركان في فقدان الأصل المشترك لحقيقته.وسأبدأ بتعريف التراث أيا كان نسبه الحضاري ،إسلاميا كان أو غير إسلامي ،قديما أو حديثا ،لأن كونها تراثا ،يجعلها تشترك في كونها تراثا وله حقيقة ما.فالتراث في كل حضارة ،هو ثمرة عملها المادي والرمزي ،وعبارتها عنه في عودته عليه، وعيا به موجوده ومفقوده ،باعتباره تعين في أنشطتها الفعلي والرمزي.وإذن ،فهو بالجوهر تاريخي مرتين :بوصفه أحداثا فعلية ،وبوصفه أحاديث فعلية حول تلك الأحداث الفعلية ،حتى لو كانت تخيلية ،لأن بعضها يتعلق بالخيال.فيكون جوهر التراث هو عين أبعاد التاريخ الخمسة ،التي تختلف عن أبعاد الزمان الثلاثة .ذلك أن الزمان التاريخي بخلاف التاريخ الطبيعي ،مخمس الأبعاد. 61
فقلبه هو الحاضر الذي يعسر ان نميز فيه بين الحدث والحديث ،بعدي فعل الإنسان عندما يكون معاصرا لذاته ،وقبله أحداث غابت وأحاديث حولها بقيت حاضرة.وبعده أحاديث تجري حول أحداث متوقعة ،لم تحدث بعد ،وهي من الممكن الذي قد يحدث وقد لا يحدث ،لكنها إمكانها مؤثر ،والتردد بين الحصول وعدمه مؤثر أيضا.والحديث حول أحداث الماضي التي حصلت ،والتي كان يمكن أن تحصل ،وحول أحداثالمستقبل المتوقعة حصولا وعدم حصول ،هو التراكم التراثي بشكله الرمزي .وغالبا مايكون معالم ،إما نصية أو عمرانية ذات قدرة على العبارة الرمزية عن وعي الجماعة بذاتها وبأفعالها وتفاعلاتها ،فيما بينها ثم مع العالم.\"مع العالم\" شديد التعقيد ،فهو يعني مع العالم الإنساني ،أي الجماعات والحضارات الأخرى ومع العالم الطبيعي ،ثم خاصة مع ما وراء ذلك كله رؤية له. ذلك هو التراث.إنه مفهوم شديد التعقيد ،ومجرد عرض مقوماته ،يجعلنا ندرك مباشرة سذاجة مادحيه وناقديه بمنطقه أو بغيره بمنظور ديكة صدام لا حضارات. لا يكفي أن نميز بين التراث المادي والتراث الرمزي.فالثاني قائم بذاته ،وقائم بكونه تأويل الأول .والأول قائم بذاته ،وقائم بكونه ثمرة تطبيق الثاني.العلة :كيان الإنسان مؤلف من بعدين ،هما كيانه القائم بذاته ،وعودته عليه وعيا به، يبدو لاحقا لكنه كذلك سابق على الأقل فيما يعود إليه في ذاته.عضويا ،الإنسان كيانه متقدم على وعيه بكيانه .وخلقيا ،وعيه بكيانه متقدم على كيانه ،وخاصة في كل ما أضافته الثقافة إلى الطبيعة في ذاته المتفاعلة.وهذه الخاصية ،يتصف بها كل تراث ،فهو \"ذات حضارة\" ،من لم يغص إليها لا يدركه. لذلك فجل كلام أدعياء إحياء التراث أو \"قتلته\" من نخبنا ،يرمون في عماية.ولا أحد يمكن أن يدعي في غوصه فيها ،أن فهمه لها مطابق لحقيقتها ،لأن التراث أشد عسرا من الطبيعة التي صرنا ندرك أن دعوى مطابقة المعرفة لها وهم. 62
وسأضرب مثالا استعملته مرة ضد من يدعي أن القرآن الكريم مجرد انتحالات من الكتب السابقة ،لما في بعضه من أوجه شبه معها ،وهو شديد الوضوح .فلأورده.سألت أحد كبار الكتاب في التراث -رغم أنه أفضل ناقديه ،لأنه من المعتزين به .وأفضل عدم ذكر اسمه :-هل زرت جامع عقبة ابن نافع في القيروان؟ عجب مني .فأكملت كلامي :هل رأيت اساطينه واعمدته ،وحتى حجارته؟ قال :ما بها؟ قلت :هل يمكن أن تحدد ما يوجد منها في \"جامعية\" الجامع الإسلامي وهي رومانية؟ألم يبن الرسول الأكرم مسجده بالطوب ويغطيه بسعف النخل؟ هل لها دور في مسجدية المسجد؟ الغاية هي أن \"ذات التراث\" لا علاقة لها بمادة تعينه.فلو عدنا لما في القرآن من الكتب المتقدمة عليه ،لعلمت أن ما يزعمه متهموه بالانتحال، دليل غبائهم مرتين :ففضلا عن مثالنا ،القرآن يعمل ذلك بقصد. أليس هو يقول بوحدة الديني في الأديان؟ ثم أليس يراجع الكتب بـ\"التصديق والهيمنة\"؟ ألا يتناقض لو خلا منها ،وهو ينقد تحريفها ليبقي على سليمها؟وهذا كاف لفهم القصد بأن من لم يغص في التراث بوصفه \"ذات الحضارة\" ،لا يمكن ان يفهم شروط دراسة التراث ،فيتحول درسه لها من عوائق الفهم والإبداع.فهو كمن يتصور التراث من جنس الأهرام في مصر أو الآثار الرومانية في الشام والمغرب. هذا تراث لم يعد ذاتا لأمة ،بل هو ميت مثل من كان ذاتهم.التراث هو الحي الموضوعي من ذات الامة ،وليس الموضوعي الميت .فما بين التراث الإسلامي والشعوب الإسلامية ،هو الذات الإسلامية متعينة فيه وفيهم.والولوج إلى اي تراث حي ،يكون بهذه الذات .وأي تراث ميت ،يكون الولوج لذاته بعملية قيس ذات أصحاب التراث المقروء على ذات اصحاب تراث القارئ. 63
والوسيط ،هو الواحد المشترك بين البشر ،وقيس ذات التراث الموضوع المدروس على ذات التراث الذات الدارسة :فعل الاستشراق بتراثنا ،وفعلنا بتراثه.والوضعية في درس التراث الإسلامي ،أكثر فوضى من الوضعية السياسية والاقتصاديةوالذوقية والوجودية .ومعنى ذلك أن النخب الخمس تعاني من نفس الداء .فدراسةالتراث ،مهمة نخبة المعرفة .ولعلها أكثر فوضى وكاريكاتورية من نخبة الإرادة والقدرة والحياة والوجود :الخلل العام لفساد معاني الإنسانية.فالفوضى التي عمت مجالات النشاط ،التي تتألف تألف الصفات التي ميزنا بفضلها بين النخب ،هي العامل الأساسي فيما أصاب التراث.فممثلو الإرادة والمعرفة والقدرة والحياة والوجود ،يعاني نشاطهم مما طغى على مجالات أنشطتهم ،أعني السياسة والعلم والاقتصاد والفنون والرؤى.والتراث هو \"ذات الامة\" أو هويتها ووعيها بها ،فإن كيان الأمة نفسها هي التي تعاني من الفوضى الروحية والخلقية ،ومن مظاهرهما الفوضى المادية.ولعل المثال الابرز الذي حاول ابن خلدون علاجه بنظرية \"عدم التأثيم\" ،هو مثال الفتنة الكبرى التي تمثل حاليا مع الفتنة الصغرى ،علتي الفوضى.فإحياء كل ما ترتب على الفتنة الكبرى بالطائفية والقومية ،هو أهم أسلحة إيران. واستنبات الفتنة الصغرى وما يترتب عليها ،هو أهم أسلحة إسرائيل.مفهوم الفتنة الكبرى معلوم .لكن إذا وصلنا المفهوم بصلته بطبيعة الحكم (سنة -شيعة)، كانت نفس الإشكالية اليوم متعلقة بطبيعة الحكم (علمانية -إسلام).وبين أن السلاح الأول مستمد من الحديث عن حدث الماضي ،والسلاح الثاني مستمد من الحديث عن حدث المستقبل :إيران توظف الماضي ،وإسرائيل المستقبل.كلتاهما أدركت بدهاء وحذق طبيعة التأثير الذي يستمد من البعد الرمزي من التراث، أو عن حديث الأحداث الماضية والمقبلة في كيان الأمم وفاعليتها.وسأبدأ بحل ابن خلدون لغلق ملف الفتنة الكبرى .وسأقيس عليه لغلق ملف الفتنة الصغرى ،سبيلين للتحرر من فوضى \"الواقع\" أو مجالات نشاط النخب الخمس. 64
ولأورد نص بن خلدون ،الذي اعتبره أول تأسيس للتعددية السياسية فلسفيا ودينيا(المقدمة الباب 3فصل { :)30والامر الثالث شأن الحروب الواقعة في الإسلام بين الصحابةوالتابعين .فاعلم أن اختلافهم إنما يقع في الأمور الدينية وينشأ عن الاجتهاد في الأدلة الصحيحة والمدارك المعتبرة .والمجتهدون إذا اختلفوا:-1فإن قلنا إن الحق في المسائل الاجتهادية واحد من الطرفين ولم يصادفه فهو مخطئفإن جهته لا تتعين بإجماع فيبقى الكل على احتمال الإصابة ولا يتعين المخطئ منها. والتأثيم مدفوع إجماعا.-2وإن قلنا الكل على حق وإن كل مجتهد مصيب فأحرى أن ينفى الخطأ والتأثيم .وغايةالخلاف الذي بين الصحابة والتابعين أنه خلاف اجتهادي في مسائل دينية ظنية وهذا حكمه}.وقد سميت حل ابن خلدون بحل عدم التأثيم .وهو مبني على مبدئين فلسفيين يقرهما الإسلام: -1انتساب السياسي إلى ما هو ظني -2والاجتهاد العملي وأهمه السياسي والخلقي. وعلل صحة الحل بفرضيتين.لكن إحدى الفرضيتين فيها تجاوز ثوري لمبدأ عدم التناقض :فالمعلوم أن مبدأ عدم التناقض يحول دون أن يكون المتناقضان صادقين معا .الاجتهاد يسمح.والفرضية الثانية أكثر ثورية :فالسياسي فيها خارج الإطار الذي يعمل به النظر :لا يعمل بالمقابلة حقيقة -باطل ،بل بذرائع الحلول المفيدة والضارة.فابن خلدون ،حتى وإن لم يصرح بذلك ،يعتبر الفعل السياسي ليس فعلا معرفيا يطابق موضوعا متقدم الوجود عليه ،بل هو صانعه :العبرة بفاعليته العلاجية.وحتى يفهم القارئ القصد :فمن يصنع سيارة مثلا ،لا نعير فعله بالصدق والكذب أو بالحق والباطل ،بل بتحقيق السيارة الغاية التي صنعت لتحقيقها. 65
الاجتهاد السياسي خطة استراتيجية لا تعير بالمطابقة مع موضوع سابق عليها ،بل هي فعل يصنع حلا لمعضلة سياسية ،فيعير بمعايير خلقية وذرائعية.والمعايير الخلقية أوردها ابن خلدون عندما اعتبر الاجتهاد السياسي ذا صلة بالدين،حتى وإن كان متعلقا بالظني منه :وصلته بالدين هي النية والقصد .وفيه احتراز لئلايتحول الاجتهاد الذي يصنع الحل ،إلى القول بالغاية تبرر الوسيلة :فالصحابة اجتهدوا بأخلاق إسلامية لصالح الأمة رغم الاختلاف.والدليل ،أن قصد ابن خلدون غلق ملف الحروب الأهلية بعد الفتنة الكبرى ،بتنزيه كل الأطراف لقلب الصفحة .وعكسه هو مصدر موقف الشيعة الذي يحيي الفتنة.عدم التأثيم الخلدوني ليس حلا موضعيا ،يقتصر على قلب صفحة الحرب الأهلية المترتبة على الفتنة الكبرى ،بل هو ثورة تؤسس التعددية السياسية السلمية.وسأقيس عليها ،لعلاج مسألة الفتنة الصغرى .فيكفي أن يعلم الإسلامي والعلماني أن الأحكام السياسية ليست علمية ومطلقة ،بل هي اجتهادية ونسبية.فالإسلام لم يفرض الطابع الديني للسلطة السياسية ،واكتفى بفرض الطابع المقدس لصفات الشرائع :فالتشريعات الإنسانية مشروطة بالشرعية والعدل ،لا غير.وشرعية الحاكم في القرآن ،هي تستمد من تمثيل إرادة الأمة الحرة .ومثله الحكم، شرعيته أن يكون صادرا عن سلطة شرعية .لكن ذلك لا يكفي .لا بد من عدلها.وفي ذلك لا يختلف الإسلامي والعلماني .الاختلاف مصدره أساس هذين المعنيين :الأول يعتقدها إيمانا بدين ،والثاني إيمانا بعقل .وهذا لا يبرر الاقتتال.وبهذا الحل الخلدوني ،نتحرر من سلاح إيران المستمد من إحياء حديث الماضي .وقياسا عليه ،نتحرر من سلاح إسرائيل المستمد من استنبات حديث المستقبل. 66
02 01 01 02تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي :محمد مراس المرزوقي
Search
Read the Text Version
- 1 - 12
Pages: