Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore الكذب المضاعف في القول بالمطابقتين المعرفية والقيمية- أبو يعرب المرزوقي

الكذب المضاعف في القول بالمطابقتين المعرفية والقيمية- أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2019-10-24 10:34:11

Description: الكذب المضاعف في القول بالمطابقتين المعرفية والقيمية- أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪re nils frahm‬‬ ‫الكذب المضاعف‬ ‫في القول بالمطابقتين‬ ‫المعرفية والقيمية‬ ‫الأسماء والبيان‬



‫المحتويات ‪1‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪5 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪9 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪13 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪16 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل السادس ‪20 -‬‬

‫‪--‬‬ ‫بينت في الكلام على مخمس الرؤى التي تمثل الواحد الديني والفلسفي أنها جميعا تتفرع‬ ‫عن أصل واحد هو ما يترتب على علاقة الإنسان بما سميته المعادلة الوجودية التي تتألف‬ ‫من قلب يلتقي في الإنسان بربه مثبتا أو منفيا ثم حوله الطبيعة وما بعدها والتاريخ وما‬ ‫بعده ومنها يستمد الإنسان في هذه العلاقة كل رؤاه التي تترتب على رد ربه إليه أو رد‬ ‫ذاته إلى ربه سواء كان الرب مثبتا (عند المؤمن) أو منفيا (عند الملحد)‪ .‬ومن ثم فالرؤى‬ ‫عند الجميع هي تلك التي أحصيتها ولا يوجد غيرها‪.‬‬ ‫ولما حاولت تعريفها وجدتها ترد إلى القول بالضرورة الشرطية في الطبيعة أو بنفيها وإلى‬ ‫القول بالحرية الشرطية في التاريخ أو بنفيها وفي حالة القول بهما أو في حالة نفيهما يكون‬ ‫الإنسان أمام سؤال طبيعة ما يتجاوزهما في حالة الإثبات فيقيسه عليهما خارجهما أو بالعكس‬ ‫في حالة النفي فيقيس نفسه على ما يفترضه ما وراءهما‪ .‬وإلى هذه المعادلة يعود القول‬ ‫بالأديان والفلسفات أو بنفيهما والاستسلام إلى السيلان الأبدي للطبيعة والتاريخ‪ .‬ولما كان‬ ‫ذلك يجعل الحياة مستحيلة فالمرء ينتهي إما إلى الغرق في مجرى الأحداث تاركا كل حياته‬ ‫للصدف إن كان نافيا بإطلاق أو إلى \"القضاء والقدر\" إن كان مؤمنا بإطلاق‪ .‬وكل تخريف‬ ‫الوجوديين يعود إلى هذه القصة‪ .‬فالوجودية المخلدة تعيش جحيم المسؤولية المزعومة التي‬ ‫تشبه قول المعتزلة بالحرية المطلقة لكأن النظام الطبيعي من صنع الإنسان الذي يتأله بزعم‬ ‫نفسه خالقا لأفعاله والوجودية المؤمنة تعيش سعادة الاستسلام المزعوم للأقدار وتشبه قول‬ ‫الجبرية بالجبر المطلق لكأن الإنسان عديم الاختيار والله هو الذي يفعل بدلا منه وهو‬ ‫متفرج على ما يجري‪ .‬لكن الاول في الحقيقة مستسلم للصدف مع وهم السيطرة عليها وهو‬ ‫لا يسيطر على شيء والثاني مستسلم للصدف مع وهم الإيمان بأن غيره يدبر أمره فيصبح‬ ‫مثل الاول مستسلما للصدف لكنه بالقياس إلى الأول يمثل الغبي السعيد تمثيل الأول الغبي‬ ‫الحزين‪ .‬ذلك أن التمييز بين الضرورة الشرطية واللاشرطية والحرية الشرطية‬ ‫واللاشرطية ليس اختياريا بل هو من جوهر كيان الإنسان‪ .‬ففي الوجود الطبيعي ما لا نعلم‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫نظامه بل ونظامه لا نعلم علله وفي الوجود التاريخي ما لا نعلم سننه بل وسننه لا نعلم‬ ‫عللها‪ .‬وما نعلمه في الحالتين قليل بالقياس إلى ما لا نعلمه‪ .‬ومن ثم فكل الرؤى تتعلق بهذه‬ ‫العلاقة بين ما نعلمه وما لا نعلمه في المعرفة وبين ما نعلم قيمته وما لا نعلم قيمته في‬ ‫الأخلاق‪ .‬ولهذه العلة فلو بقينا عند هذا الحد لما تجاوز كلامنا أحوال نفوسنا ولما استطعنا‬ ‫أن نتجاوز الشكوى من شرطيتنا العضوية والروحية التي هي ما يلازم الاولى من وعي بها‬ ‫بما حولها‪.‬‬ ‫والآن نصل إلى إشكالية الكذب المضاعف في القول بالمطابقتين‪:‬‬ ‫‪ .1‬الكذب المضاعف في القول بالمطابة المعرفية يتمثل في وهم المطابقة مع حقيقة موضوع‬ ‫المعرفة ووهم المطابقة مع ما تعلمه الذات‪ .‬وفي الحالة الأولى السؤال هو حول المسافة‬ ‫الفاصلة بين علمنا وموضوعه‪ .‬وفي الحالة الثانية السؤال هو حول المسافة الفاصلة بين وعينا‬ ‫ولاوعينا في علاقتنا بعلمنا بموضوعنا‪ .‬ولذلك تجد الوجودي الملحد (سارتر مثلا) لا يمكن‬ ‫أن يقول بوجود اللاوعي لأنه إذا شك في المطابقة الثانية مع الذات لا يمكن أن يواصل‬ ‫القول بالمطابقة الاولى مع الموضوع‪ .‬وهو إذن ينبني كل رؤيته على شفافية مضاعفة ليس‬ ‫عليها دليل‪ :‬شفافية الوجود للمعرفة وشفافية المعرفة لذاتها‪.‬‬ ‫‪ .2‬الكذب المضاعف في القول بالمطابقة القيمية يتمثل في وهم المطابقة مع قيمة الأشياء‬ ‫والأفعال ووهم المطابقة مع تقييمنا للأشياء وللأفعال‪ .‬ونفس السؤالين يتكرران بخصوص‬ ‫التقييم في علاقته بموضوعه وفي علاقته بذاته والمشكل هو الشفافية المزعومة لقيم الأشياء‬ ‫والأفعال والشفافية المزعومة للتقييم لذاته‪ .‬فيكون هنا التشكيك في وجود عدم مطابقة‬ ‫مضاعفة مع القيمة الموضوعية إن صح التعبير ومع التقييم الواعي بذاته بمعنى الصادر‬ ‫عن وعي أو عن لا وعي من صاحبه‪.‬‬ ‫والحصيلة هي أن القول بالمطابقة المعرفية والقيمية حكما فكر الفلسفة القديمة والوسيطة‬ ‫وحكما فكر الدين القديم والوسيط وهو أمر يسير الاثبات من خلال فلسفتي أفلاطون‬ ‫وأرسطو اللتين لا تتميزان من حيث الرؤى إلا بما لا يمس القول بالمطابقة لأن مفارقة المثال‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫للممثول أو محايثته لا يغير من الأمر شيئا إذ كلا الموقفين يجعلان المثال والصورة كلاهما‬ ‫مطابق في مستوى المعرفة وفي مستوى القيمة‪ .‬والمطابقة في الحالتين تكون مع الموضوع ومع‬ ‫الذات بمعنى أن العلم والتقييم صادقان بالمعيارين إذا قورنا بالموضوع وقورنا بما في ذهن‬ ‫العالم والمقيم أي إنه صادق في ما يقول وليس منافقا مثلا‪ .‬ولا يعني ذلك أن كل عالم ولك‬ ‫مقيم صادق بالقياس إلى الموضوع وإلى ذاته فقد يكون كاذبا مع ذاته ومع الموضوع لكنه‬ ‫عندئذ لا يعتبر فيلسوفا أو متدينا‪ .‬ولذلك فالفلسفي والديني كلاهما منبن على معيارين‬ ‫معرفي وقيمي‪ .‬ولم يكن واردا في هذه الرؤية الكلام على كذب لا واع في القيمي مؤد إلى‬ ‫كذب لا واع في المعرفي مثلا بل كان الاول يعتبر نفاقا أو كذبا واعيا والثاني خداعا أي‬ ‫تزييفا لعلم فعلي بقصد الخداع‪.‬‬ ‫لكن هذا الوجه الثاني من الكذب في المستويين القيمي والمعرفي صار موجودا بالفعل في‬ ‫النكوص إلى القول بالمطابقة وذلك لتفسير عدمها ليس بكونه بالذات مستحيلا بل باعتباره‬ ‫ناتجا عن قصد واع أو غير واع ومثاله ما يسميه هيجل بمكر التاريخ وهو نوع من القصد‬ ‫اللاواعي في تطور الروح التاريخي وما يسميه ماركس بالإيديولوجيا وهو نوع من القصد‬ ‫اللاواعي لتزييف الحقيقة بسبب تزييف القيمة‪.‬‬ ‫ولذلك فما قبل الحداثة وما بعدها إن صح التعبير‪-‬وأسمي ما بعدها كل ما جاء بداية من‬ ‫هيجل وماركس ‪-‬يتماثلان في القول بالمطابقتين المعرفية والقيمية لكنهما يختلفان في امرين‪:‬‬ ‫‪ .1‬الأول انتقلنا من قياس المبدأ المتعالي إثباتا أو نفيا سواء كان إلها فلسفيا أو إلها دينيا‬ ‫على الإنسان إلى قياس الإنسان عليه‪.‬‬ ‫‪ .2‬الثاني انقلنا من تعليل الفرق بين الموضوع وعلمه أو تقييمه وبين الذات ووعيها بعلمها‬ ‫أو بتقييمها إلى خطأ معرفي وخلقي غير مقصود إلى خطأ معرفي وخلقي مقصود حتى وإن لم‬ ‫يكن واعيا‪.‬‬ ‫وفي النقلة الأولى يقع الخلط بين خلق الإنسان لصورة الله على مقاسه إلى خلق الله نفسه‬ ‫بمعنى إلى القول إن الله ليس هو إلا صورته الإنسانية فيكون الإنسان هو الذي خلق الله‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫على صورته وليس الله هو الذي خلق الإنسان على صورته في الرواية القديمة التي دحضها‬ ‫ابن تيمية حتى بالاقتصار على الحجة اللسانية التي تقول إن الضمير يحيل إلى أقرب‬ ‫الاسماء التي وردت قبله‪ :‬أي إن الله خلق الإنسان على صورة الإنسان وليس على صورة‬ ‫الله‪ .‬وهذا الكلام يصح على عكسها لأن القول إن الإنسان خلق الله على صورته تعني أنه‬ ‫خلقه على صورة الله وليس على صورة الإنسان‪.‬‬ ‫وطبعا فهذا الكلام كله استعارات لأن القصد هو أن العلاقة بين قطبي المعادلة الوجودية‬ ‫‪-‬الله والإنسان‪-‬لا يمكن تغييرها في تلازمية ما أن تنفي أحدهما ينتفي الثاني وما أن تثبت‬ ‫أحدهما يثبت الثاني‪ .‬ومن ثم فما هو على صورة الإنسان هو ما يكون على صورة الحرية‬ ‫الشرطية مع تحريرها من الشرطية‪ .‬وعلى صورة الضرورة الطبيعة مع تحريرها من‬ ‫الشرطية‪ .‬والتحرير من الشرطية في الحالتين يجعلنا أمام حريتين وطبيعتين‪ :‬كل واحدة‬ ‫منهما مؤلفة من جزء يقاس على ما نعلمه منهما ونقيمه فيكون دائما شرطيا وجزء لا يقاس‬ ‫على ما نعلمه فيكون دائما لا شرطيا‪ .‬فنصبح بهذا المعنى أمام حرية مطلقة وضرورة مطلقة‬ ‫وهما شيء واحد ولذلك فمفهوم الله سواء اثبتناه أو نفيناه فنحن لا نستطيع فهم الضرورة‬ ‫الشرطية والحرية الشرطية أي العالمين التاريخي والطبيعي من دون اللاشرطيتين‪ .‬ومثلما‬ ‫حاولت الفلسفة القديمة والوسيطة (أفلاطون وأرسطو) استنتاج سنن الحرية الشرطية‬ ‫والتاريخ من الضرورة الشرطية والطبيعة عكست الفلسفة مابعد الحديثة وما تردت إليه‬ ‫في ما يسمى ما بعد الحداثة أو التعبير عن أحوال نفس الفشلة من الشعراء المقلدين لنيتشة‬ ‫(هيجل وماركس) فاستنجت من الحرية الشرطية والتاريخ الضرورة الشرطية والطبيعة‪.‬‬ ‫وسنرى أنه بمجرد أن نرفع الحكم في ما يتعلق بالمطابقتين المعرفية والقيمية نتخلص من‬ ‫الكذب المضاعف لأننا نكتشف علله فيصبح بالوسع الكلام على عدم المطابقة مع الموضوع‬ ‫معرفة وتقييما وعدم المطابقة مع المعرفة والتقييم معرفة وتقييما بمعنى أننا لسنا متأكدين‬ ‫من المطابقة حتى مع ذواتنا وسنرى علل ذلك في الفصول الموالية عند الكلام على ما يترتب‬ ‫على مخمس الرؤى في حالة التحرر من القول بالمطابقتين‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولنبدأ بالكلام على الفرق بين المعرفي والقيمي والتراتب بينهما‪ .‬فغالبا ما تكون المقابلة‬ ‫بينهما مقابلة بين ما يمكن فيه تحديد معايير للموضوعية وما لا يمكن‪ .‬وحجة المقابلة يدعي‬ ‫اصحابها أن الأول فيه ما يمكن اعتباره مشتركا بين الأشياء (الكلي في موضوعات المعرفة)‬ ‫وبين الذاوات (ما تجمع عليه الذوات العارفة)‪ .‬وضمن هذا الاحتجاج تقع الغفلة عن‬ ‫مطابقة ضمنية هي مصدر كل الاخطاء التي تحول دون فهم إشكالية الرؤى‪.‬‬ ‫وتتمثل هذه الغفلة في توهم المشترك بين الذوات العارفة مطابقا لما يعتبر كليا في‬ ‫موضوعات المعرفة بمعنى الكلي المقوم بلغة أفلاطون وأرسطو في القديم والوسيط وبلغة‬ ‫هيجل وماركس في ما بعد الحديث وما بعد الحداثة (وقد ميزت بين ما بعد الحديث وما بعد‬ ‫الحداثة بكون الثانية هي تردي الأولى بإلغاء المشكل من اصله وادعاء الاقتصار على‬ ‫ربوبية إنسانية منطوية على نفسها لا تخرج من شبكاتها كالعنكبوت) وليس بمعنى لا تناظر‬ ‫بين الرمز والمرموز عند المتواصلين حول عالم مجهول الطبيعة لما فيه من الغيب بلغة ابن‬ ‫تيمية وابن خلدون علة لعدم رد الوجود إلى الإدراك‪.‬‬ ‫وهذه المقابلة هي مقابلة بين العقل والإرادة‪ .‬وهي مقابلة اهتم بها ديكارت مثلا فبين‬ ‫أن الثانية لامتناهية والاول متناه وأن مشكل المعرفة هي في كيفية سيطرة العقل على‬ ‫الإرادة في أحكامه‪ .‬وسبق الغزالي إلى الإشكالية ولكن ليس بالمقابلة بين العقل والإرادة‬ ‫بل بين العقل والخيال‪ .‬واعتبر مشكل العقل متمثلا في السلطان على الخيال‪ .‬ولكن‬ ‫العلاجين الديكارتي (عقل إرادة) والغزالي (عقل خيال) يمكن أن نعمقه أكثر فندرك‬ ‫أنه متعلق بالجهات الوجودية‪ :‬علاقة الحصول الوجودي الذي يبقى دائما محاطا بالإمكان‬ ‫سواء كان موضوع معرفة أو موضوع تقييم‪ .‬ومن ثم نتجاوز المقابلة بين المعرفي والقيمي إلى‬ ‫مقابلة تشقهما كليهما إلى الحاصل من الممكن وبقائه ممكنا وعدم الحاصل منه وبقائه ممكن‬ ‫الحصول وكيف نميزهما عما نعتبره واجب الحصول وممتنع الحصول‪ .‬ذلك أن الإمكان له‬ ‫معنيان محدود ولا محدود‪ :‬فاللامحدود يقابل بين الممكن والممتنع فيكون الواجب جزءا منه‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والمحدود ينحصر بين الواجب والممتنع‪ .‬وهذا هو الذي يجعل مقابلة ديكارت بين العقل‬ ‫والإرادة ومقابلة الغزالي بين العقل والخيال قاصرة على علاقة هذه المقابلة بالرؤى‬ ‫الوجودية التي نريد البحث فيها‪.‬‬ ‫فلو لم يكن ديكارت والغزالي يعتقدان في المطابقة المعرفية والقيمية لأدركا أن مقابلتهما‬ ‫تعتبر العقل والإرادة أو العقل والخيال ما يوجد فيهما من صورة عن حقيقة الموضوع أو‬ ‫عن صورته يكفي فيه المنهج العلمي الذي يختاره الباحث حتى تحصل المطابقة فيكون المشكل‬ ‫مقصورا على تحرير المعرفة من هوى الإرادة أو من هيجان الخيال حتى تكون المعرفة‬ ‫والقيمة مطابقتين للموضوع ولقيمته‪.‬‬ ‫عندما ندرك أن العقل حتى لو تحرر من هوى الإرادة فإنه لن يكون حديدا بحد يجعله‬ ‫ينفذ إلى حقيقة الوجود الذي ليس شفافا كما يتوهم من يظن علة عدم المطابقة بين ما في‬ ‫الأذهان وما في الاعيان هي عيب في العقل نتج عن هوى الإرادة أو حتى بالمعنى الديكارتي‬ ‫عما للإرادة من لا تناه‪ .‬كما أن عدم المطابقة ليست علته الخيال كما يعتقد الغزالي بل إن‬ ‫العلم بذاته ليس محيطا بالوجود وما يتجاوزه به الوجود ليست علته الخيال ولو كان الخيال‬ ‫لكان الخيال في هذه الحالة أصدق من العقل لأنه بما يتجاوزه به يبين له حدوده فجعله‬ ‫يتحرر من وهم المطابقة المعرفية‪ .‬ونفس ما قلناه عن المطابقة والمعرفية واستحالتها الفعلية‬ ‫نقوله عن المطابقة القيمية واستحالتها الفعلية وهي أبين‪.‬‬ ‫والإشكال الآن بعد الاعتراف بعدم المطابقة وبكون ما يتجاوز به الوجود العقل ويتجلى‬ ‫بعضه في الإرادة (ديكارت) أو‪-‬و في الخيال (الغزالي) يجعل نظرية القيمة أوسع من‬ ‫نظرية المعرفة لأنها متعلقة بالإرادة والخيال اللذين يتجاوزان ما يتعلق به العقل في‬ ‫النظرية القائلة بالمطابقة الإشكال بعد ذلك هو في منزلة نظرية المعرفة بالقياس الوجود‬ ‫العيني ونظرية القيمة بالقياس إلى الوجود الذهني ما يعني أن التعلق بالوجود الذهني‬ ‫يرد المعرفة إلى القيمة باعتبارها تنتسب إلى أصل كل تقييم أعني الحرية الشرطية التي‬ ‫يناظرها في الوجود نظرية الجهات الوجودية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فلو لم يكن الإنسان له القدرة على التمييز بين الممكن والممتنع والواجب لاستحال أن‬ ‫يقيم شيئا تقييما معرفيا فيميز بين الحقيقة والكذب وتقييما جماليا فيميز بين الحسن‬ ‫والقبح وتقييما خلقيا فيميز بين الخير والشر وتقييما فيميز بين شارطا لها ثلاثتها فيقيم‬ ‫بين الحر والمضطر وكل ذلك يرد إلى اساس هذه الأصناف الأربعة من القيم بوصفها فروعا‬ ‫منه أعني العلاقة بين الإنسان وما يتعالى عليه إثباتا أو نفيا لفهم ما يصله به من حيث‬ ‫علاقته بالطبيعة ومن حيث علاقته بالتاريخ وكلاهما من محددات كيانه العضوي‬ ‫والروحي‪ .‬فيكون أصل كل القيم كيان الإنسان نفسه وهو معنى كونه خليفة بمعنى أن‬ ‫حضوره فيه ما يمثل الرموز التي ترمز إلى كل مبادئ الوجود والمنشود في المعرفة والقيمة‪.‬‬ ‫وحتى أوضح ذلك وضعت نظرية المعادلة الوجودية المؤلفة من العناصر التالية وهي تتسع‬ ‫وتضيق بحسب الإثبات أو النفي للعلاقة بين الإنسان وما يتعالى عليه في العلاقة المباشرة‬ ‫أو في العلاقة غير المباشرة‪:‬‬ ‫• ففي القلب من المعادلة نجد العلاقة المباشرة بين الإنسان وما يتعلى عليه إثباتا أو نفيا‬ ‫• وحوله على يمينه نحد العلاقة بالطبيعة وبما وراءها سواء اعتبر مفارقا أو محايثا‬ ‫• وحوله على يسارة نجد العلاقة بالتاريخ وبما ورائه سواء اعتبر مفارقا أو محايثا‬ ‫• ويلتقي الماوراءان فنعود إلى ما يشبه القلب ولكن بشكل غير مباشر أي بتوسط الطبيعة‬ ‫والتاريخ‬ ‫وحينها يمكن أن تضمر العلاقة إذ يمكن أن نعتبر ما وراء الطبيعة محايثا فيها وليس‬ ‫مفارقا وأن نعتبر ما وراء التاريخ محايثا فيه وليس مفارقا‪.‬‬ ‫وهذه هي الرؤى التي عرفتها الإنسانية في الفكرين الفلسفي والديني وهي الرؤى‬ ‫المشتركة بينهما وقد حصلت مرتين لا تختلفان إلا بالترتيب‪ .‬ففي الاولى أي القديمة‬ ‫والوسيطة (فلسفة افلاطون وأرسطو) كانت الطبيعة وما وراءها اصلا للتاريخ وما ورائه‬ ‫ثم انعكس الأمر في ما بعد الحديثة وما بعد الحداثة (فلسفة هيجل وماركس)‪ .‬وفي الحالة‬ ‫الأولى كانت أفعال ما يشغل محل الله أو عدمه مقيسة على العقل الإنساني أو عدمه ثم‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫عكست في الحالة الثانية فصارت أفعال الإنسان مقيسة على \"العقل\" الإلهي بمعنى أن‬ ‫الإنسان أو عدمه صار يشغل المحل الذي كان يشغله الله أو عدمه‪ .‬وبذلك تجتمع الرؤى‬ ‫الأربعة الفرعية أي الضرورة الشرطية والحرية الشرطية والضرورة للاشرطية والحرية‬ ‫اللاشرطة وأصلها جميعا أي كيان الإنسان بما فيه من عقل وإرادة أو من عقل وخيال‪ .‬لكن‬ ‫ذلك كله علته القول بالمطابقتين المعرفية والقيمية‪ .‬ومعنى ذلك أن الرؤى تحصيل حاصل‬ ‫لأنها من البداية تزعم للإنسان ما ليس ثم تقيس ما يتعالى عليه ثم تعكس فتجعله هو‬ ‫المتعالي على ما عداه فيكون الإنسان بهذا التردد بين صورتيه عن ذاته منطويا على ذاته‬ ‫ولا يريد أن يخرج منها إما لأنه يعتبر عقال العقل مطلقا فلا يعترف بالإرادة والخيال فيرد‬ ‫الوجود إلى الإدراك‪ .‬لكن المشكل هو أن الذين يعترفون بالإرادة والخيال ‪-‬اي المتصوفة‬ ‫عامة‪ -‬ينتهون إلى نفس الموقف لأنهم يطلقونهما فيعتبران ما يصلان إليه هو بدوره مطابقا‬ ‫في المعرفة(الكشف) والقيمة (الحلول أو الوحدة)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫تبين أن الرؤى كلها تعود إلى أصل واحد هو الإنسان من حيث علاقته بما يتعالى عليه وما‬ ‫يتدانى عنه مباشرة في وعيه بذاته وفي وعيه بما بينه وبينهما من وسائط طبيعية أو‬ ‫تاريخية‪ .‬وهو يعيش ذلك في كيانه وفي علاقات كيانه بما يشبهه مما يحيط به مما سيسميه‬ ‫طبيعة وتاريخا ومما سيبحث له فيهما عن تعليل كما يعيش ذلك في كيانه العضوي وما يدركه‬ ‫من تعبيراته التي يكون فيها متلقيا تلقيه للعالم المحيط به ثم بالتدريج يشعر بأن ما يتلقاه‬ ‫له في علاقته به هامش من تأجيل الاستجابة لما يبدو منه أوامر أو أخبارا عما يتطلبه قيامه‬ ‫العضوي أو قيامه الروحي الذي له علاقة بما يدركه من قيامه العضوي في علاقته بهذا‬ ‫السلطان الذي له على التعامل معه بما يمكن من فهم الفرق بين ما في كيانه من‪:‬‬ ‫• الضرورة الشرطية فيعتبره شبيها بالطبيعي في الأعيان المستقلة عن كيانه الذاتي‪.‬‬ ‫• والحرية الشرطية فيعتبره شبيها بالتاريخي في الأذهان قبل أن يصبح في الأعيان من‬ ‫كيانه الذاتي‪.‬‬ ‫ثم هو يعمم ذلك لينتج مفهوم الطبيعة ذات القيام المستقل عن كيانه ومفهوم التاريخ ذي‬ ‫القيام المستقل عن كيانه‪.‬‬ ‫فكيف يتكون المفهومان وكيف يبرز الفرق بين الضرورة الشرطية في الطبيعية وفي التاريخ‬ ‫والحرية الشرطية في التاريخ وفي الطبيعة أو كيف تتكون صورة الإنسان عن نفسه من حيث‬ ‫ما فيه من طبيعي وما فيه من تاريخي وعن عالمه الطبيعي والتاريخي المناظرين للمرسوم في‬ ‫كيانه من حيث هو ذو كيان عضوي مصحوب بوعي يتلقى منه أولا ومن عالمه بواسطته ثانيا‬ ‫ما يجعله ذا بعدين‪:‬‬ ‫• طبيعي ليس له سلطان على الكثير من أفعاله‪.‬‬ ‫• ووعي بهذا البعد الأول له على الكثير منه سلطان لأنه بعضه يأتمر بأمره في حدود‬ ‫معلومة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وعندما يميز بين ما له عليه سلطان وما لا سلطان له عليه يكتشف أن سلطانه علته ما‬ ‫يترتب على الوعي بمجراه وما يتراكم حصيلة هذا الوعي حول علاقة ما له عليه سلطان‬ ‫بما يدرك شروطه فيبدأ في التمييز بين الضرورة الشرطية بمجرد أن يعلم شروطها فيصبح‬ ‫ذا سلطان عليها لسلطانه على شروطها مثل إسكات الجوع بالأكل والظمأ بالشرب إلخ‪...‬‬ ‫ويكون أول معرفة بالعلاقة السببية قلبا للعلاقة بين العلة والمعلول‪ .‬فالعطش علة للوعي‬ ‫بالظمأ‪ .‬لكن الوعي بالظمأ يعكس فيجعل علة العطش ما به يوقفه العلم بشرطه الناتج‬ ‫عن الوعي به الذي يتحول إلى وعي بالعلاقة بين سبب ومسبب خارج إرادته من حيث هو‬ ‫قانون لكنه قابل لأن يدخل في إرادته بما يحصل له من علم بتأثر العلة في المعلول فيكون‬ ‫تحت سلطانه بفضل ترجمة هذا الوعي بالعطش إلى فعل يوقفه بعمله على السبب وهي‬ ‫علاقة بين الأشياء وليست في الوعي بالعلاقة الذي هو الوعي بالحاجة إلى البحث عن‬ ‫العلاقة المؤثرة‪ :‬وإذن فالحرية الشرطية هي تتعالى على الضرورة الشرطية بالوعي‬ ‫بالعلاقة الشرطية التي هي قانون مجرد علمه يمكن تغيير مضمونه مع المحافظة على‬ ‫القانون فيكون تغيير مضمون العلة لتغيير مضمون المعلول‪.‬‬ ‫تراكم هذه الأوعاء هو الذي يضاعف كيان الإنسان‪ :‬الكيان العضوي ترجمان لذاته ولما‬ ‫حوله في علاقة بذاته وتراكم ترجماته هو التراث الجماع للخبرة والتجربة التي تصاغ في‬ ‫نظام تواصل معين في جماعة معينة قابل أن يستمد الخبرة من انظمة التواصل في الجماعات‬ ‫الأخرى وأن يمدها بخبرته وهو المعنى العادي للترجمة‪ .‬فيكون وجود الإنسان ذات ارثين‪:‬‬ ‫عضوي وفيه كل الإنسانية من حيث كيانها العضوي لأن كل فرد هو حصيلة متوالية‬ ‫هندسية فهو ابن شخصين كل منهما ابن شخصين وتتوالى المتوالية الهندسية في ماضي‬ ‫الإنسانية‪.‬‬ ‫روحي وفيه كل الإنسان من حيث كيانها الحاصل من الأوعاء المتراكمة لأن كل وعي من‬ ‫حيث هو قدرة عضوية يتبع الأول ومن حيث مضمونه يتبع التراكم التراثي أو الإرث‬ ‫الإنساني الثاني والذي هو أيضا يجمع تراثات البشرية كلها لأن كل جماعة تكون في تواصل‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫سلمي او حربي مع من حولها سواء كان مساوقا لها في الوجود أو متقدما عليها ومن ثم فهي‬ ‫تأخذ من الجميع وتعطي للجميع حصيلة خبرتها أو تراكمات وعيها بوجودها وشروطه وهي‬ ‫في الحقيقة واحدة من حيث شروطها الكونية ومتعددة من حيث تعيناتها (مثلا الغذاء واحد‬ ‫كليا لكنه يتعين بحسب الجغرافيا والمناخ قبل أن يصبح قابلا للنقل والتصبير)‪.‬‬ ‫ولأن الأمر كذلك وضعت نظرية التاريخ ذي الابعاد الخمسة وليس الثلاثة‪ :‬فهو تاريخ‬ ‫الأحداث سواء كانت طبيعية أو تاريخية وتاريخ الأحاديث التي تدور حولها أو الأوعاء‬ ‫المتراكمة والمتعلقة بها وبالتعامل معها وتحديد دلالاتها ومعانيها‪ .‬وهذا هما بعدا الماضي‪.‬‬ ‫لكن المستقبل يماثل الماضي ولكن بترتيب معكوس‪ :‬فالأحاديث المتعلقة به متقدمة على‬ ‫الأحداث الجارية فيه‪ .‬وبذلك نجد مفهومي التأويل بمعنى نقل الحدث إلى الحديث هو‬ ‫ترجمة من الفعل إلى الرمز والتأويل بمعنى نقل الحديث إلى الحدث هو ترجمة من الرمز‬ ‫إلى الفعل‪ .‬وكل ذلك يجري في الحاضر الذي ليس كما يظن لحظة حالية بل هو ما يحيط‬ ‫بالماضي ببعديه وبالمستقبل ببعديه أي إن الحاضر بخلاف ما يظن ليس لحظة ذرية بين‬ ‫الماضي والمستقبل بل هو محيط بهما أي إن الماضي ببعديه والمستقبل ببعديه حاضران في‬ ‫الحاضر وهما يتفاعلان فيه وتفاعلهما فيه هم الحاضر الحي‪ .‬فيكون هو الأصل والاربعة‬ ‫فروعه‪.‬‬ ‫وبذلك نكتشف أن ما يجري في المسارين الوراثيين العضوي أو الفعلي والروحي أو الرمزي‬ ‫في كيان الإنسان وفي ما حوله من الطبيعية والتاريخ رغم كونهما من \"طبائع\" مختلفة لأنهما‬ ‫متواصلان‪ .‬لكننا لان ندري حقيقة \"الطبائع\" ولا حقيقة التواصل بالمعنيين أي الفعلي‬ ‫والرمزي بين الفعليين وبين الرمزيين وبين الفعلي والرمزي منهما ومع ذلك فالأمور‬ ‫\"ماشية\"‪ .‬وهو ما يعني أن رؤية ابن تيمية حول المعاني الكلية بوصفها ليست مقومة للأشياء‬ ‫بل هي رامزة لها أقرب إلى وصف الامر أكثر من الزعم بأنها مقومة للأشياء‪ .‬ذلك أنها‬ ‫تعود إلى فعلي التأويل الأول الذي ينقل الأحداث إلى الأحاديث في علاقة بالماضي‬ ‫التاريخي وبالطبيعة وهو ترجمة من الفعلي إلى الرمزي والثاني الذي ينقل الأحاديث إلى‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الأحداث في علاقة بالمستقبل التاريخي والطبيعي وهو ترجمة من الرمزي إلى الفعلي‪.‬‬ ‫والنقل الاول هو الذي ينتج النظر أي العلمي والأدبي أو الفلسفي والديني والنقل الثاني‬ ‫هو الذي ينتج العمل أو هو التقني في الطبيعة والتاريخ وهو الخلقي فيهما‪.‬‬ ‫والفرق بين الفكرين الفلسفي والديني المتأثر به القديمين والوسيطين (أفلاطون‬ ‫وارسطو) ‪-‬باستثناء الإسلام والمدرسة النقدية كما سأبين‪-‬يعتبران الترجمة الأصلية هي‬ ‫الاولى أي التي تؤول الأحاديث إلى أحاديث نظرية سواء كانت فلسفية أو دينية والترجمة‬ ‫الثانية التي تنقل الأحاديث إلى احداث هي الثانية وهي تابعة للأولى بمعنى أن التقنية‬ ‫والأخلاق تابعان للنظر الفلسفي والديني‪ .‬لكن الفكرين ما بعد الحديث وما بعد الحداثي‬ ‫(هيجل وماركس) يعكسان فيجعلان الترجمة الاصلية هي التي تنقل الأحاديث إلى‬ ‫الأحداث بمعنى أن التقنية والأخلاق هما اللذان يستتبعان النظر الفلسفي والديني بمعن‬ ‫أن العمل والممارسة هي الأصل وليس النظر إلا من أدواتهما‪.‬‬ ‫لكن ذلك لو كان كذلك لاستحال أن نفهم حاجة الطبيعيات إلى الرياضيات أو ما سماه ابن‬ ‫تيمية بالمقدرات الذهنية النظرية وحاجة التاريخيات إلى ما قسته عليها وسميته‬ ‫بالأخلاقيات أو ما سميته بالأخلاقيات لأن دور هذه في التاريخيات من جنس دور تلك في‬ ‫الطبيعيات‪ :‬كلتاهما بحاجة إلى نماذج تكون فيها المعرفة للطبيعيات والتاريخيات والقيمة‬ ‫لهما \"أولية وكلية ومحضة وبرهانية\" كما وصف ابن تيمية الأولى وهو وصف يصح على‬ ‫الثانية‪ .‬وقد يظن الكثير أن العلوم النظرية في غنى عن الاخلاقيات وأن العلوم العملية‬ ‫في غنى عن الرياضيات‪ .‬وهذا هو الخطأ الجسيم الذي ينتج عن وهم المطابقتين في المعرفة‬ ‫وفي القيمة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ما حاولت وصفه من علاقة بين الحرية الشرطية والضرورة الشرطية هو الذي يسميه‬ ‫ابن خلدون التسخير أو الاستخلاف\" وأما الأفعال الحيوانية لغير البشر فليس فيها انتظام‬ ‫لعدم الفكر الذي يعثر به الفاعل على الترتيب فيما يفعل إذ الحيوانات إنما تدرك‬ ‫بالحواس ومدركاتها متفرقة خلية من الربط لأنه لا يكون إلا بالفكر ولما كانت الحواس‬ ‫المعتبرة في عالم الكائنات هي المنتظمة وغير المنتظمة إنما هي تبع لها اندرجت حينئذ أفعال‬ ‫الحيوانات فيها فكانت مسخرة للبشر‪ .‬واستولت أفعال البشر على عالم الحوادث بما فيه‬ ‫(عالم الافعال الصادرة عن الحيوانات والواقعة بمقصودها ومتعلقة بالقدرة التي جعل الله‬ ‫لها عليها‪ :‬ويقسمها إلى نوعين منتظمة لأنها ثمرة فكر وغير منتظمة لأنها ليست ثمرة فكر)‬ ‫فكان كله في طاعته وتسخره وهو معنى الاستخلاف المشار إليه في قوله تعالى \"إني جاعل في‬ ‫الأرض خليفة\"‪ .‬فهذا الفكر هو الخاصة البشرية التي تميز بها البشر عن غيره من‬ ‫الحيوان‪ .‬وعلى قدر حصول الأسباب والمسببات في الفكر مرتبة تكون إنسانيته‪ .‬فمن الناس‬ ‫من تتوالى له السببية في مرتبتين أو ثلاث ومنهم من لا يتجاوزها ومنهم من ينتهي إلى خمس‬ ‫أو ست فتكون إنسانيته أعلى واعتبر ذلك بلاعب الشطرنج فإن في اللاعبين من يتصور‬ ‫الثلاث حركات والخمس التي ترتيبها وضعي ومن يقصر عن ذلك لقصور ذهنه\" (المقدمة‬ ‫الباب السادس الفصل ‪ :11‬في أن عالم الحواد الفعلية إنما يتم بالفكر)‪.‬‬ ‫ما يستحق التعليق في النص خمسة عناصر ذات صلة بمبحثنا الذي أرجع الرؤى إلى ما في‬ ‫كيان الإنسان من علاقة بين بمسألة الضرورة الشرطية والحرية الشرطية‪:‬‬ ‫‪ .1‬عدم الكلام على العقل بل على الفكر والذهن‪.‬‬ ‫‪ .2‬اعتبار الفكر والذهن خاصية الترتيب في الافعال‪.‬‬ ‫‪ .3‬اعتبار ذلك متصلا بالسببية‬ ‫‪ .4‬اعتبار ذلك هو حقيقة الإنسان وبه تقاس درجة إنسانيته‬ ‫‪ .5‬وصل ذلك بنظرية الاستخلاف والتسخير‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ومن العنصر الأول أستنتج عدم حصر فاعلية الفكر في العقل بل هي أعم لأنها تكلمت‬ ‫على فعل الوصل بين العلة والمعلول والترتيب القصدي الذي قد لا يكون بالضرورة فعلا‬ ‫عقليا إلا إذا فهما بالعقل الفعل الإنساني المرتب وليس جوهرا يتجاوز الإنسان بالمعنى‬ ‫اليوناني للكلمة فينطبق على النظام عامة سواء كان ثمرة فكر ووعي أو حرية شرطية أو‬ ‫ثمرة ضرورة شرطية‪ .‬ذلك أن ما يتجاوز نظام الافعال القصدية ينسبه إبن خلدون في هذا‬ ‫النص إلى تعلق بالقدرة الإلهية وهي أيضا لم ينسبها إلى عقل إلهي كما في الفلسفة‬ ‫اليونانية السابقة عليه‪ .‬كما أن فعل الفكر الإنساني المرتب للأفعال بنظام الترتيب السببي‬ ‫يسميه ابن خلدون \"متعلقة بالقدرة التي جعل الله لها عليها\"‪ .‬وهذه رؤية مختلفة تماما عن‬ ‫الرؤية اليونانية‪ .‬وإذا ربطناها بما ورد في الفصل السابق من المقدمة المتعلق بعلم الكلام‬ ‫تبين أن هذه النسبة إلى الله لا تعني شيئا آخر غير الاعتراف بجهل أمرين‪:‬‬ ‫‪ .1‬قانون السببية من كيث طابع التسلسل فيه هل هو متناه أو لامتناه‬ ‫‪ .2‬طبيعة أثر السبب في المسبب ومن ثم التسليم بأن ذلك من المسلم به شرطا في‬ ‫الحرية الشرطية‪.‬‬ ‫ومن العنصر الثاني استنتج أن الرجل أستنتج أن ما يسميه الفكر والذهن هو إدراك‬ ‫الترتيب والتنظيم القصدي للأفعال التي للإنسان القدرة عليها وحصرها في الافعال لكن‬ ‫ترتيب الأفعال بقي مفتوحا ما يعني الافعال في كل شيء بما في ذلك الضرورة الشرطية‬ ‫وهو ما يفهمنا الوصل مع التسخير يعني تسخير الطبيعة والاستخلاف يعني السلطان على‬ ‫العالم وسمى ذلك \"استولت أفعال البشر على عالم الحوادث\" مستثنيا من العلم البسائط أو‬ ‫ما سماه \"بالذوات المحضة كالعناصر وآثارها والمكونات الثلاثة عنها التي هي المعدن والنبات‬ ‫والحيوان\"‪ .‬وطبعا هذا الاستثناء كان صالحا في عصره لكنه لم يبق صالحا لأن تعلقها‬ ‫بالقدرة الإلهية ليس حجة كافية لاستثنائها من القدرة التي أعطاها الله للإنسان على الأقل‬ ‫في التحويل وليس في الخلق والامر‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ما يصل الحرية الشرطية والضرورة الشرطية هو إدراك علاقة السببية وهو إذن ما‬ ‫يجعل الحرية الشرطية فوق الضرورة الشرطية لأن السببية هي قانون الضرورة الشرطية‬ ‫والوعي بها أو إدراكها هو شرط الحرية فيكون شرط الحرية العمل بشرط الضرورة‪.‬‬ ‫والعنصر الرابع هو الثوري حقا وهو تعريف الإنسان وتحديد درجات الإنسانية بالوعي‬ ‫بالعلاقة السببية من حيث هو سلطان على الوجود بالسلطان على قانون النظام فيها ما يعني‬ ‫أن الإنسان لا يعرف بالإدراك بل بثمرته التي هي هذه الفاعلية أي إن الإدراك ملازم‬ ‫للفعل الهادف إلى السلطان على موضوعه ليس بعلمه فحسب بل بالعمل فيه استنادا إلى‬ ‫قصد‪ :‬فيكون القصد معبرا عن إرادة الغاية ويكون العلم أداة الوصول إلى الغاية وهنا‬ ‫نجد العلاقة بين الإرادة والعقل التي انطلقنا منها في كلامنا على ديكارت والعلاقة بين‬ ‫الخيال والعقل في كلامنا على الغزالي‪ .‬وإذن فالمقدم هنا هو الإرادة والخيال وهما ما أبحث‬ ‫عنه لتأسيس التقدير الذهني الذي لا يكتفي بإدراك الاسباب في موجود سابق على إرادة‬ ‫إيجاده أو تخيله‪ .‬فيكون للإنسان إرادة وخيال مقدرين ذهنيا شرطين في علم الطبيعة وفي‬ ‫علم التاريخ سواء كانا في الأعيان الخارجية أوفي كيان الإنسان نفسه‪.‬‬ ‫والعنصر الاخير لا يحتاج لمزيد التعليق يكفي أن أذكر بتعريف ابن خلدون للإنسان‪:‬‬ ‫\"رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"‪ .‬فرئيس بطبعه تحديد لخاصية كيانه‬ ‫العضوي الذي جعله ذا قدرة سلطانية وبمقتضى الاستخلاف الذي خلق له يعلل هذه‬ ‫الخاصية باعتبارها أداة لغاية هي حقيقة الإنسان كما وضعها القرآن‪ .‬وهذا هو الواحد بين‬ ‫الفلسفي والديني‪ :‬العلاقة بين النظر والعقد أداة وبين العمل والشرع غاية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ذكرت ما في نص ابن خلدون من علامات قد تقرأ قراءة أرسطية خاصة وهي تتعلق بما بين‬ ‫العمل والنظر ومن علاقات ووجوه شبه تكلم عليها أرسطو في أخلاق نيقوماخوس وفي ما بعد‬ ‫الطبيعة والتي محصلتها أن غاية الفكرة بداية العمل والترتيب السببي في الأفعال‪ .‬لكني‬ ‫حاولت بيان العلامات الضديدة التي تدل على قطيعة فعلية مع المشائية لأن أساس كل هذا‬ ‫الشبه معها علته عدم التفطن إلى استناد الرؤية المشائية على المطابقتين واستناد الرؤية‬ ‫الخلدونية على نفيها الوارد في الفصل السابق على هذا الفصل أي الفصل العاشر من الباب‬ ‫السادس من المقدمة فصل علم الكلام‪ .‬وفيه نحد فكرتين خاصة‪:‬‬ ‫‪ .1‬أن السببية لا تعلم لا كما أي إنه من التسلسل اللامتناهي والتفرع اللامتناهي بمعنى‬ ‫أن كل شيء يفعل وينفعل مع كل شيء ومن ثم فاختيار التعليل فيه الكثير من التحكم‪.‬‬ ‫والسببية لا تعلم كيفا أي إننا لا نستطيع أن نحدد طبيعة التأثير السببي وكل ما نلاحظه‬ ‫هو التصاحب بين أمرين نعتبر أحدهما علة والثاني معلولا دون أن نحدد بدقة طبعة التعليل‬ ‫وخاصة إذا تعلق الأمر بالحرية الشرطية لأن ما يتعلق بالضرورة الشرطية يبدو أكثر قربا‬ ‫للفهم لكون التصاحب مستقرا وفيه نوع من الانتظام الذي قد يجعلنا نعتقد أنه ليس‬ ‫بالصدفة‪.‬‬ ‫‪ .2‬أن الاسس التي ننطلق منها في عملية الفكر المرتب للأفعال والممكن من السلطان على‬ ‫الأشياء والافعال هو بالأحرى من جنس الإيمان وليس من جنس العلم وهو إذن سلطان‬ ‫إيماني يؤسس لسلطان معرفي‪ .‬والسلطان الإيماني ينتسب إلى التقييم وليس إلى المعرفة‬ ‫بمعنى أننا نرجح حكما على أساس عقدي وليس على أساس معرفي حقيقي‪ .‬فيكون فعل‬ ‫الترجيح مقدما على فعل المعرفة بل هو شرطه‪ .‬وهذه القدرة الترجيحية تنتسب إلى‬ ‫الإرادة والخيال وليس إلى العقل‪.‬‬ ‫ولهذه العلة فإن استعمال الفكر والذهن بدلا من العقل ليس بالصدفة بل هو كما حدث‬ ‫في النقلة النوعية التي حصلت في الفكر الحديث فيه قصد استبدال مفهوم العقل (ريزون)‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بمعناه اليوناني بمفهوم أوسع هو الفكر (بونسي) كما يستعملها ديكارت في دليله على وجوده‬ ‫وهو مفهوم يشمل كل أفعال الوعي مثل أفعال الفكر التي يستعملها القرآن حيث يقتصر‬ ‫مفهوم العقل (مصدرا لعقل وليس جوهرا) بمعنى فهم اللسان خاصة ولكن فهم عامة وهو‬ ‫بالأحرى انفعال وليس فعلا‪.‬‬ ‫وما كنت لأطيل الكلام في هذه المسألة لولا علاقتها بالمطابقتين الكاذبتين مرتين في المعرفة‬ ‫وفي القيمة‪ .‬فالمطابقة كاذبة إذ تدعي المطابقة بين المعرفة والقيمة وموضوعهما وكاذبة إذ‬ ‫تدعي أن صاحب المعرفة والتقييم مطابق لما يدعي معرفته وتقييمه وهو ما يعني درجة‬ ‫أولى من مفهوم اللاوعي في كل وعي أي إن وعيي بمعرفتي وبتقييمي ليس مطابقا لمعرفتي‬ ‫وتقييمي‪ .‬وعدم المطابقة في الحالتين يمكن أن يكون قصديا وهو الكذب بالمعنى الخلقي‬ ‫فيكون الثاني نفاقا والأول خداعا أو بغير غير قصد فيكون الأول قصورا إما عرضيا أو‬ ‫جوهريا ويكون الثاني من جنسه أي عرضيا أو جوهريا‪ .‬والعرضي يتعلق بما يقبل العلم‬ ‫أو التقييم وقصر العالم أو المقيم في فعله والجوهري هو ما لا يقبل العلم والتقييم‬ ‫المحيطين‪ .‬وأكاد أقول إن العلم والتقييم المحيطين غير ممكنين في أي شيء‪.‬‬ ‫وفكر الفكر أو التفكر لا يقتصر على العقل بمعنى الفهم لأمر وكأنه بذاته ذو نظام‬ ‫وترتيب يتلقاه بل هو فعل للإرادة والخيال فيه الدور الأول بوصفهما أساسي الترجيح‬ ‫لاختيار العناصر ذات الاعتبار في موضوع المعرفة أو في موضوع التقييم وهذا يعني أن‬ ‫مضمون القضايا المعرفية أو القيمية هو بدوره حصيلة المواقف القضوية التي تؤسس‬ ‫لانتخاب العناصر التي تؤخذ بعين الاعتبار ليس لأنها مقومة ‪-‬الله وحده يعلم ما المقوم‪-‬بل‬ ‫أنها الابرز في اظهار الوجه المناسب للعلاج‪.‬‬ ‫ولهذه العلة وصلت بين النظر والعقد لأن الترجيح حصيلة موقف قضوي من المضمون‬ ‫القضوي الذي ينتخب ليكون ممثلا لموضوع المعرفة أو القيمة‪.‬‬ ‫ولما كان النظر والعقد يتعلقان بسلطان على موضوع العلم أو موضوع التقييم فإن الغاية‬ ‫هي العمل والشرع محققي السلطان الفعلي على موضوع العلم الذي تم اختياره وترجيحه‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫في النظر بمقتضى الموقف القضوي في العقد من أجل تحقيق الغاية من العمل بشرع معين‪.‬‬ ‫والشرع هنا ليس القصد منه الشرع الإلهي بل ما يسميه الغزالي الانتقال من البراءة‬ ‫الأصلية أو النفي الأصلي إلى الوصف القيمي في التحسين والتقبيح اللذين ليسا عقليين‬ ‫عنده بل هما من جنس التوارد أو حساب المنافع والمضار إذا لم يكن من أصل عقدي ديني‬ ‫(راجع المستصفى)‪ .‬والحصيلة التي ينتهي إليها ابن خلدون هو أن هذا السلطان أو‬ ‫الاستيلاء على الأشياء بالمعرفة والقيمة هما الاستخلاف أو حقيقة الإنسان الذي يعرفه‬ ‫بكونه \"رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\"‪( .‬المقدمة الباب الأول فصل ‪ 24‬في‬ ‫أن الأمة إذا غلبت وصارت في ملك غيرها أسرع إليها الفناء)‪\" :‬وفيه (في علة فناء المغلوب)‬ ‫والله أعلم سر آخر وهو أن الإنسان رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له‬ ‫والرئيس إذا غلب على رئاسته وكبح عن غاية عزه تكاسل حتى عن شبع بطنه وري كبده‬ ‫وهو موجود في أخلاق الأناسي‪ .‬ولقد يقال مثله في الحيوانات المفترسة وإنها لا تسافد إذا‬ ‫كانت في ملكة الآدميين‪ .‬فلا يزال هذا القبيل المملوك عليه أمره في تناقص واضمحلال إلى‬ ‫أن يأخذهم الفناء\"‪.‬‬ ‫وطبعا ابن خلدون لا يقصد فناء كيانهم العضوي بل يقصد فناء كيانهم الروحي أي فقدان‬ ‫الاستقلال والقيام الذاتي والذوبان في هوية روحية أخرى‪ .‬ولولا هذا الدافع لما كان لبحثي‬ ‫في المسألة معنى‪ :‬ذلك أن الأمة مهددة بما يشبه هذا الأمر وهو أنها ‪-‬لو عم ما في أذهان‬ ‫نخبها المنفعلة بقشور الحداثة‪-‬لانتهت روحيا حتى وإن تكاثرت عضويا‪ .‬والتكاثر العضوي‬ ‫مع الفناء الروحي قوة للغير وليس للأمة‪ .‬فيمكن أن يصبح كل أهل المغرب الكبير جزءا‬ ‫من الثقافة الفرنسية إذا تواصل هذا الذوبان في الروحي في ثقافة فرنسا رغم أنها دون‬ ‫الثقافة العربية منزلة حتى في المقومات التي بني عليها التاريخ الحديث فضلا عن الوسيط‬ ‫وعلاقته بالقديم‪.‬‬ ‫والنظر والعقد للعلم والعمل والشرع للقيمة كلاهما تجهيز فيه الفطري وفيه المكتسب‬ ‫وللفطري والاكتسابي مصدرا وراثة الأول هو الوراثة العضوية والثاني هو الوراثة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الثقافية أو الرمزية‪ .‬وقد حاول ابن خلدون أن يؤسس الكل على أثر العلاقة بين العضوي‬ ‫والطبيعي في العالم بمعنى أن العضوي الوراثي له علاقة بالغذاء والمناخ مثلا وحاول أن‬ ‫يرد الروحي أو الثقافي إلى هذه العلاقة‪ .‬وقد وصل ذلك بمفهوم \"نحلة\" العيش وجعل‬ ‫الكل تاريخيا دون أن يزعم أن الحرية الشرطية قابلة للرد إلى الضرورة الشرطية ودون‬ ‫أن يزعم الإحاطة بل هو اجتهاد مبني على الترجيح من خلال ملاحظة الموجود وتوقع قابلية‬ ‫طرده في توقع مآل التطور فيه وخاصة دور تغير \"نحلة\" العيش وقد حدد مراحلها وخاصة‬ ‫البداية والغاية‪ :‬والبداية هي الخصاصة وسلطان الطبيعة والنهاية هي الترف وسلطان‬ ‫الثقافة لكن المحدد يبقى الاقتصادي والاجتماعي ومن ثم نعود إلى نوعي التقدير الذهني‬ ‫الرياضي للأول والخلقي للثاني‪ .‬وقد خصصت عدة محاولات لدرس الظاهرة في علاقة بما‬ ‫سميته المائدة والسرير وفنيهما من حيث الشرط العضوي للغذاء والجنس والروحي لفن‬ ‫المائدة وفن السرير‪.‬‬ ‫والحصيلة التي ستكون مادة الخاتمة بعد هذا الفصل الاخير تتعلق بشرط الخروج من‬ ‫المطابقتين الكاذبتين‪ :‬ما يفعل في الفكر الإنساني وما به تتحدد الرؤى الوجودية ليس‬ ‫العقل بل هو علاقة العناصر القيمية الخمسة التي تظن مقومات لكيان الإنسان أي الإرادة‬ ‫وهي أساس كل سياسة والعلم وهو أساس كل تقنية والقدرة هي أساس كل إبداع اقتصادي‬ ‫وثقافي والحياة وهي أساس كل ذوق والوجود وهو أساس الرؤى الدينية والفلسفية وما‬ ‫نسميه عالما دنيويا هو حصيلة فعلها من حيث هي بنية واحدة ولا نستطيع تحديد دور أي‬ ‫منها بمعزل عن البقية‪ .‬وهو ما يعني أنها كلها استراتيجيا سياسية لتحقيق إرادة على علم‬ ‫بقدرة تبدع شروط البقاء العضوي والروحي على ذوق وبرؤية‪ .‬انتهى الفصل الخامس‬ ‫والاخير وتليه الخاتمة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهكذا فقد تبين ان الأمر كله استراتيجيا حيوية بمعنى أن المعرفة والقيمة كلتاهما من‬ ‫شروط حياة الإنسان من حيث هو مستعمر في الارض ومستخلف فيها في الرؤية القرآنية‪.‬‬ ‫والقول بالمطابقتين المعرفية والقيمية يمثل مرحلة أولى من الوعي الإنساني بمنزلته في‬ ‫الكون ومن ثم بذاته في إنجازها فردا وجماعة لشروط بقائها مترددة بين النظر والعقد‬ ‫اساسين للمعرفة والعمل والشرع أساسين للقيمة‪ .‬والأولان من أدوات الاستراتيجيا‬ ‫والثانيان من غاياتها‪ .‬ولما كانت الاستراتيجيا لا تكون بحق ناجحة إلا بشرط ألا تدعي‬ ‫الإحاطة حتى تبقى على الحذر الضروري لحصول اللامتوقع فإن الضرورة الشرطية‬ ‫والحرية الشرطية لا تكفيان بل لا بد من تصور ضرورة غير شرطية وحرية غير شرطية‬ ‫إما معا أو باختيار إحداهما‪ .‬فتكون الرؤى من ثم اثنتين للضرورة والحرية الشرطيتين‬ ‫واثنتين للضرورة والحرية غير الشرطية‪:‬‬ ‫‪ .1‬رؤية طبعانية شرطية‪ :‬أرسطو‬ ‫‪ .2‬رؤية تاريخانية شرطية‪ :‬ابن خلدون‬ ‫‪ .3‬رؤية طبعانية لاشرطية‪ :‬وهي مضاعفة الإيمان بالعناية الإلهية أو بالصدفة‬ ‫‪ .4‬رؤية تاريخانية لا شرطية وهي مضاعفة بالعناية الإلهية أو بالصدفة‪.‬‬ ‫‪ .5‬رؤية الرؤى وهي اللاأردية في ما يتجاوز الاولى والثانية وهي الموقف الأسلم وفيها‬ ‫يكون الإيمان بالقضاء والقدر لا يختلف عن الإيمان بالصدفة والاعتراف بأن المعرفة‬ ‫والقيمة كلتاهما أداتين استراتيجيتين إنسانيتين ليس لهما أي إمكانية لتجاوز هذه النسبية‬ ‫إلى الإنسان وصورته عن نفسه وعما يتعالى عليها أو يتدانى دونها‪.‬‬ ‫لست غافلا عن الاعتراض بالقول كيف عرفت عدم المطابقة؟ ومن قال لك إن معرفتك‬ ‫بها مطابقة حتى تكون حقيقة‪ .‬وعدم غفلتي عن هذا الاعتراض علتها أني أنا نفسي سبق‬ ‫أن اعترضت على مقابلة كنط بين الظاهرات والأشياء في ذاتها‪ .‬لكن اعتراضي على مقابلة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫كنط وجيه والاعتراض على المقابلة بين المطابق وعدم المطابق غير وجيه‪ .‬فالمقابلة بين‬ ‫الظاهرات والحقائق في ذاتها يفترض المطابقة رغم أنها تبدو منافية لها بحصر المطابقة مع‬ ‫الظاهرات ونفيها عن الحقائق‪ .‬لكني ليست واثقا من أنه توجد ظاهرات واحدة ولا حقائق‬ ‫واحدة إذ يمكن أن توجد مستويات من الحقائق مختلفة بحسب مدركها فيكون ما ظنه كنط‬ ‫ظاهرات وقابله بالحقائق علته أنه يعتقد أن الحقائق واحدة ومن ثم فهي غير ما يظهر منها‬ ‫للإنسان‪ .‬لكن ماذا لو كانت الحقائق بعدة المدركين لها‪.‬‬ ‫وهذا هو معنى عدم المطابقة الذي أتكلم عليه‪ .‬فما يدركه الإنسان ليس مطابقا لحقيقة‬ ‫مدركها يكون محيطا بكل ما يمكن أن تكون عليه الحقائق بالنسبة إلى كل الموجودات التي‬ ‫في العوالم الممكنة وهو معنى الله‪ :‬فالله في المقابلة بينه وبين الإنسان هو صاحب الإرادة‬ ‫المطلقة والعلم المحيط والقادر على كل شيء ومطلق الحياة ومطلق الوجود‪ .‬ولا يعني ذلك‬ ‫أن افرضه على من لا يؤمن به لأني اعتقد أن من لا يؤمن به في نفس الموقف الذي عليه‬ ‫المؤمن به والفرق بينهما أن الأول يثبته والثاني ينفيه‪ .‬ومعنى ذلك أن الملحد يوجد في‬ ‫هذه المسألة في نفس الوضعية التي عليها المؤمن والفرق الوحيد هو الأول ينسب ما يجهله‬ ‫للعلم المحيط والعناية الربانية والثاني ينسبه إلى الصدف ونفي العناية الربانية‪ .‬فيكون‬ ‫بذلك قد أثبت ما يعترض عليه وهو أنه لا يمكن أن يدعي أنه يعلم كل شيء أو أن يدعي‬ ‫أنه لا يوجد إلى ما يعلمه بل مجرد كونه يؤمن بالصدف يعني أنه يؤمن بأنه يوجد ما لا‬ ‫يعلمه ويميز بين ما يعلمه وما لا يعلمه‪.‬‬ ‫الاعتراض على المقابلة مطابق غير مطابق تثبت نفسها لأنها سواء اعتبرت مطابقة أو غير‬ ‫مطابقة فهي تثبت عدم المطابقة‪ .‬وهذا هو المطلوب أعني أن المطلوب هو بيان أن الإنسان‬ ‫يعلم أن علمه غير مطابق فيفترض العلم المطابق لغيره وعندما يزعمه لنفسه فهو يتأله‬ ‫إما بالاستبداد السياسي ومثاله فرعون أو بالاستبداد المعرفي ومثاله القول بالكشف الصوفي‬ ‫أو بالعلم العقلي الذي كانت الفلسفة القديمة والوسطية تقول به عندما تدعي أن‬ ‫الراسخين في العلم عليهم أن يؤولوا ما يسمونه نقلا إلى ما يعلمه العقل لأن الحقيقة حسب‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫زعمهم واحدة‪ .‬وينسون أن القرآن لا يعتبرها واحدة وهو يحصر العلم المحيط في الله‬ ‫وحده سواء آمنا به أو كفرنا به كما بينت‪ .‬وحتى أولئك الذين يزعمون أن القرآن فيه‬ ‫علم بالغيب يكذبون أولا لأن الرسول يعترف بأنه لا يعلم الغيب وهو الرسول المكلف بتعليمه‬ ‫فيكون قد كلف بتعليم ما يجهل وثانيا لأن القرآن رسالة للإنسان من حيث هو مكلف بتعمير‬ ‫الارض والاستخلاف فيها فيكون قد كلف بما لا يمكن أن يعلمه لأن القرآن يقول إن الغيب‬ ‫لا يعلمه إلا الله‪ .‬وأخيرا فالرسالة تفقد معنى الرسالة إذا كانت غير قابلة للفهم من المرسل‬ ‫إليه‪ .‬ولذلك فما في القرآن كله قابل للعلم في ما يقبل العلم وما فيه من غيب هو ما في كل‬ ‫الموجودات من غيب مثل حقيقة فعلي الخلق والأمر بكن‪ .‬وكل محاولة للتأويل تدعي فهم‬ ‫كلام القرآن على الذات الإلهية بقيسه على الإنسان متنافية مع القرآن الذي يقول ليس‬ ‫كمثله شيء‪ .‬والإنسان لا يعلم أي شيء من حيث هو شيء منفصل عن غيره من الأشياء بل‬ ‫هو يعلم ما بين الأشياء من علاقات لها صلة بشروط قيامه العضوي أو الروحي فردا‬ ‫وجماعة وعلما وتقييما نسبيين وليس مطابقا لا غير‪ .‬ولهذه العلة فهو لا يعمل حقيقة ذاته‬ ‫فضلا عن حقيقة ولا قيمة ذاته فضلا عن قيمة أي شيء آخر كل ما يعلمه ويقيمه هو‬ ‫اجتهاد حكمه النهائي يوم الدين عند من يعلم السرائر إن كان مؤمنا به أو القول بأنهما‬ ‫غير معلومين على الاقل في ما لا يستطيع الإنسان اثبات المطابقة فيه‪ .‬واثباتها مستحيل‬ ‫لأن كل ما نعلمه اليوم قد يتبين غدا أنه كان جهلا أو ظنا وليس علما‪.‬‬ ‫انتهت الخاتمة والمحاولة‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬