Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore الثورة كيف تصبح مهامها مستحيلة؟ - ابو يعرب المرزوقي

الثورة كيف تصبح مهامها مستحيلة؟ - ابو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2019-11-17 13:54:47

Description: الثورة كيف تصبح مهامها مستحيلة؟ - ابو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪re nils frahm‬‬ ‫الثورة‬ ‫كيف تصبح مهامها مستحيلة؟‬ ‫الأسماء والبيان‬



‫المحتويات ‪1‬‬ ‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثاني ‪12 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الثالث ‪19 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الرابع ‪27 -‬‬ ‫‪ -‬الفصل الخامس ‪36 -‬‬

‫‪--‬‬ ‫لو كان ما يجري في الوجود قابلا للرد إلى ما يجري في الوعي به لكانت الأقوال كافية بديلا‬ ‫من الأفعال‪ .‬وعدم فهم استحالة هذه الكفاية هو الذي يحيل فهم الموقف من الثورات في‬ ‫التاريخ‪.‬‬ ‫فشتان بين ثورة يقول صاحبها \"إنما أتيت لأتمم مكارم الأخلاق\" وبين ثورة يقول أصحابها‬ ‫بضرورة محو ما تقدم لأنه كله شر ولا يؤمنون بأن أفضل طرق التغيير الإصلاح وليس‬ ‫تهديم الماضي الموصوف بكونه كله شر بدعوة بناء المستقبل الذي سيكون كله خير في تجاهل‬ ‫تام لما عليه طبائع الأشياء وأخلاق البشر‪.‬‬ ‫انطلاقا من هذه الرؤية كان موقفي لما دعيت للمشاركة في العمل السياسي المباشر بعد‬ ‫الثورة إلى ضرورة تحقيق المصالحة في الجماعة قبل المحاسبة لعلتين‪:‬‬ ‫‪-1‬أولا لأني كنت اعتقد أن وضع تونس يعسر أن ننسب ما آل إليه إلى البعض دون‬ ‫البعض حتى وإن كانت مقادير المسؤولية عنه متفاوتة وكان لا بد من اعتبار الثورة حدثا‬ ‫علينا أن نضع مبدأ جب ما قبلها والشروع من جديد على ألا يشعر الناس بالخوف منها‬ ‫فيصبح الكثير عدوا لها وبدلا من التغيير نسقط في الحرب الاهلية بين ثورة وثورة مضادة‬ ‫وتنسى الغاية من الثورة التي تنقلب إلى تصفية متبادلة‪.‬‬ ‫‪-2‬وثانيا لأني كنت أعتقد أن تحديد مقادير المسؤوليات ليس الهدف منه الانتقام من ذوي‬ ‫المسؤولية الأكبر بل السعي لجعلهم يتنصلون من الماضي والشروع في مشاركة إيجابية في‬ ‫المستقبل ربما بإخلاص يكفر عما سلف فيصبح صف الثورة أقوى مما كان سيكون لو أن منطق‬ ‫الانتقام منهم يحولهم إلى عوائق كأداء قد يلغي كل إمكانية للإصلاح‪.‬‬ ‫وطبعا ليست غايتي اليوم الكلام على فشلي في الاقناع بهذا المنطق ولا حتى بعلل خروجي‬ ‫من المعركة ليس طلبا للراحة بل من اجل البحث في علل هذا لسلوك الإنساني‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وكانت النتيجة التي توصلت إليها هي أن طرفي النزاع كلاهما صار يؤمن بالمنطق الجدلي‬ ‫وانبنائه على مفهوم صراع النقيضين في الواحد المؤدي إلى الحصيلة المؤلفة لواحد يعتبر‬ ‫أسمى من الواحد الأول الذي تم الانطلاق من وجهيه المتناقضين والمتصارعين سواء فهم‬ ‫ذلك بالمعنى الهيجلي أو بالمعنى الماركسي عند من يتصورون أنفسهم حداثيين أو ترجمة‬ ‫هذه الفلسفة عند الإسلاميين بمفهوم \"التدافع\" مدعين أن هذا المفهوم قرآني خلطا بين دفع‬ ‫الله للناس بعضهم ببعض والتدافع الذي هو مشاركة من الدفع بينهم لا دخل لله فيها‪.‬‬ ‫ولا أنوي كذلك الكلام في الجدل وشروط التحرر منه بنوعيه الهيجلي والماركسي ولا عن‬ ‫رد الإسلاميين على العلمانيين بنفس المنطق الذي لا يختلف عنه إلا بالتسمية المعربة‬ ‫بالتدافع في الوقائع الذي هو عين التناقض في التصورات عند كلا الفريقين لأني كتبت في‬ ‫ذلك ما أعتبره مغنيا عن مواصلة الكلام فيه‪.‬‬ ‫ما اريد البحث فيه اليوم أمور خمسة هي‪:‬‬ ‫‪ -1‬ما مهام الثورة وكيف تغير الثورات تطور الأشياء؟ هل يكون ذلك بما تحدثه من قطائع‬ ‫كما يتوهم الكثير أم هي لا تخرج عن قوانين الطبيعة وسنن التاريخ التي تتمثل في علاج‬ ‫ما يحدث لكيان الجماعة من خلل في أداء وظيفة أو عدة وظائف من شروط العيش السلمي‬ ‫المشترك الذي هو معنى حياة الجماعة والذي عرفه ابن خلدون وجعله عنوان المقدمة أي‬ ‫التعاون لسد الحاجات (العمران البشري) من اجل ألأنس بالعشير (الاجتماع الإنساني)؟‬ ‫‪ -2‬أليس من الواجب التمييز بين الثورة السياسية التي ينبغي أن تكون شاملة لكل ما تمتد‬ ‫إليه السياسة من مجالات هي موضوع الفعل السياسي الشامل لكل الشأن الإنساني شمول‬ ‫القوامة عليه التي هي مستوى ثان من نشاط الجماعة من حيث هي مستعمرة في الأرض‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ومستخلفة فيها وليس شمول ما يصبح دور الدولة بديلا من أفعال الجماعة التي ترعى‬ ‫ذاتها وتحميها فرض عين لا فرض كفاية بخلاف ما عليه الأمر في رؤية الدولة الحاضنة‬ ‫التي تصبح بديلا من الجماعة فتكون من ثم أصل الاستبداد والفساد؟‬ ‫‪ -3‬وكيف تصبح مهام الثورة مستحيلة بمنطق التدافع عند الإسلاميين أو التأصيليين‬ ‫وبمنطق التناقض الجدلي عند العلمانيين أو التحديثيين في ما يمكن القيام به في تونس‬ ‫حاليا؟‬ ‫فالصراع بين هذين الطرفين على قيادة المهام فيه دعوى مفاضلة كل فريق يدعي أنه‬ ‫أولى بها لأنها بالاستبداد والفساد في الدولة الحاضنة تجعلهم مسيطرين على الرزقين المادي‬ ‫والروحي للإنسان وهو سر الانحطاط‪.‬‬ ‫ومن ثم فكلا الطرفين لا يرضى بالجماعة حكما في اختيار الأولى بالقوامة لفترة محددة‬ ‫بل هو يريد أن يفرض نفسه قيما أبد الدهر ويستأصل غيره ولا يكون التغيير إلا بحرب‬ ‫أهلية‪.‬‬ ‫‪ -4‬فمنطق التدافع أو التناقض الجدلي يتنافى تماما مع منطق الديموقراطية التي تعني‬ ‫أن التفاضل نسبي ولا يمكن أن يكون الطرفان فيه خصمين وحكمين في آن إلا إذا أصبح‬ ‫الحكم هو العنف الذي يفيد للسعي لإلغاء الطرفين أحدهما للآخر‪.‬‬ ‫ولذلك فهذا الصراع بين القائلين به يؤدي حتما إلى رؤيتين كلتاهما تصدر عن عقيدة‬ ‫الدولة الحاضنة التي تلغي دور الجماعة لانها تنوبها في جميع أدوارها بدلا من الاقتصار‬ ‫على دور القوامة التي تمثل حكم الجماعة لنفسها في جميع أنشطتها التي تقتضي القوامة‬ ‫من التي تقتصر على دور الحكم بمنطق الأمانة والعدل (النساء ‪.)58‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ -5‬والمؤتمن عليه هو القانون الذي يضبطه العقد الذي يوحد الجماعة والعدل هو‬ ‫تطبيقه بصورة تحمي الحقوق والواجبات بصورة ليس فيها سيطرة للقوي على الضعيف حتى‬ ‫يتساوى الناس فلا يتفاضلون إلا بالتقوى أي باحترام القانون (الحجرات ‪ )13‬وذلك لأن‬ ‫البشر اخوة (النساء ‪.)1‬‬ ‫وبذلك يتبين أن مشكل الثورات هو ما يعوقها في المستويات الخمسة الأربعة الأولى منها‬ ‫فروع عن الخامس الذي هو أصلها جميعا أعني‬ ‫نظرية الدولة‬ ‫وخيار الدولة القيمة التي يتمثل جوهرها في المعنى الخامس‬ ‫ورفض الدولة الحاضنة التي لا يتفاضل الناس فيها باحترام القانون بل بالدوس عليه‪.‬‬ ‫وقد خصصت للدولة الحاضنة عدة بحوث وبينت أنها لا يمكن أن تكون إلا دولة مافية‬ ‫الاستبداد والفساد‪ .‬وميزتها عن الدولة العادلة التي تكون دولة الجماعة والتي تمثل‬ ‫قوامتها الذاتية لأنشطتها‪.‬‬ ‫وهذه القوامة الذاتية نشاط من مستوى ثان يكون ذا‬ ‫دور وقائي هو معنى الاستراتيجية السياسية القبلية‬ ‫ودور حمائي هو معنى الإصلاح الدائم للعمل السياسي الذي هو فرض كفاية يكلف به من‬ ‫يختاره الشعب لمدة حتى يكون قيما على وظائف الدولة بوصفها كما عرفها ابن خلدون‬ ‫\"صورة العمران\" بالحكم والتربية‬ ‫ومادته التي هي التنمية الاقتصادية والتنمية الثقافية‬ ‫وقاية وعلاجا يشبهان ما يترتب على عودة الوعي عند الفرد على نفسه من حيث الكفاءة‬ ‫والخلق لمراقبة ذاته في سلوكه قبليا وبعديا حتى يكون الإنسان أقرب ما يكون للمبادئ التي‬ ‫يؤمن بها‪.‬‬ ‫وبعد أن أحصيت القضايا فلأبدأ بعلاجها الواحدة تلو الأخرى‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫المسألة الأولى‬ ‫ما مهام الثورة؟‬ ‫وكيف تغير الثورات تطور الأشياء؟‬ ‫هل يكون ذلك بما تحدثه من قطائع كما يتوهم الكثير؟‬ ‫أم هي لا تخرج عن قوانين الطبيعة وسنن التاريخ التي تتمثل في علاج ما يحدث لكيان‬ ‫الجماعة من خلل في أداء وظيفة أو عدة وظائف من شروط العيش السلمي المشترك الذي‬ ‫هو معنى حياة الجماعة والذي عرفه ابن خلدون وجعله عنوان المقدمة أي التعاون لسد‬ ‫الحاجات (العمران البشري) من اجل الأنس بالعشير (الاجتماع الإنساني)؟‬ ‫والجواب ينفي ان تكون الثورات قطائع سواء تعلقت بميدان محدود أو بأكثر من ميدان‬ ‫وخاصة إذا تعلقت بالميدان الشامل لكل الميادين التي يهتم بها الإنسان من حيث هو مريد‬ ‫للتغيير في حياته عامة‪.‬‬ ‫وشرط الإمكان هذا مضاعف‪:‬‬ ‫‪-1‬لا بد من انسداد فعلي في المجال الذي يمثل الإشكال فيه علة ضرورية لبداية التفكير‬ ‫الجدي في التغيير وهو ما يعني أن الوضعية \"الموضوعية\" التي تمثل الانسداد هي العامل‬ ‫الأول بمعنى أن ما في الأعيان هو الدافع إلى ما ينبغي أن يمر بمراحل في الأذهان حتى‬ ‫يعود إلى الأعيان ليتحول إلى عمل‪.‬‬ ‫‪-2‬وبذلك يقع تحول في النفوس ‪ -‬حتى يغيروا ما بأنفسهم ‪ -‬وتلك هي بداية الانتقال من‬ ‫الشرط الضروري إلى الشرط الكافي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهو الانتقال من مرحلة الرفض بالقلب إلى مرحلة الرفض باللسان إلى مرحلة الرفض‬ ‫باليد أي بالافعال بدلا بعد الشعور واللسان‪.‬‬ ‫وميكانيسم الانتقال من الشعور إلى القول إلى الفعل هو الذي أسميه الشرط الضروري‬ ‫والكافي‪.‬‬ ‫وهذا الميكانيسم شديد التعقيد وهو ما أخصص له هذا الفصل وبه تتبين الحقيقة القرآنية‬ ‫التي تقول إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم‪.‬‬ ‫وتغيير ما بالانفس هو الشرط الكافي لتحقيق التغيير ما بهم وكلاهما له إيقاع لا يمكن‬ ‫تغييره لأنه متناسب مع طبيعة الشرط الضروري أو الوضعية في الأعيان المحركة للأذهان‪.‬‬ ‫وطبيعة الشرط الكافي أو الوضعية في الأذهان هي المحركة للأعيان‪.‬‬ ‫وإذن فنحن أمام نقلتين من الشعور إلى القول ومن القول إلى الفعل‪.‬‬ ‫فالنقلة من الشعور (الموقف من الوضعية المنطلق من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر‬ ‫الذي هو فطرة عند الإنسان من حيث هو إنسان حتى لو كان هو فاعل المنكر ‪ -‬دور القلب)‬ ‫إلى القول لا يحصل دفعة واحدة بل هو يمر أولا بالعبارة البدنية المصاحبة للشعور‪ .‬وهي‬ ‫أول خطوة للانتقال من الباطن إلى الظاهر في السلوك‪.‬‬ ‫وبذلك يحصل التواصل بالإشارة دون العبارة بين الشاعرين بنفس الشعور أو بالشعور‬ ‫المماثل من الشيء الذي ولد الشعور القلبي الناكر للمنكر خاصة أو المستحسن للمعروف‪.‬‬ ‫ولولا ذلك لاستحال أن تنطلق الألسن المعبرة عن الإنكار أو الاستحسان‪.‬‬ ‫فيكون ما حصل في هذه النقلة أمران‪:‬‬ ‫العبارة القلبية صارت ذات حضور في الأعيان فانتقلنا من الذاتي إلى المشترك الإشاري‬ ‫بين الذوات من خلال العبارة البدنية التي تصحب الشعور الباطني في القلب‪.‬‬ ‫تتكون بالتدريج الجماعة التي تشرع في التصدي للمنكر بالأقوال التي هي مرحلة التواصل‬ ‫العلني بينهم بعد أن يكونوا قد اطمأنوا لوحدة الموقف منه من خلال التعبير عن الاستنكار‬ ‫او الاستحسان‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بمعنى أن الاقوال يكون دورها مضاعفا‪:‬‬ ‫تقييم أفعال‬ ‫وتصنيف أصحاب المواقف‬ ‫أو إن شئنا الاصطفاف إلى خمسة صفوف‪:‬‬ ‫‪-1‬من مع المستنكر عليهم فعلهم الذي يعتبر علة الوضعية‪.‬‬ ‫‪-2‬من مع المستحسن منهم فعلهم الذي قد يكون من المصلحين لها‪.‬‬ ‫‪-3‬المتردد مع ميل إلى الصف الأول لاستمرار ترجيح المصلحة الخاصة على المصلحة العامة‪.‬‬ ‫‪-4‬المتردد مع ميل إلى الصف الثاني للشروع في ترجيح المصلحة العامة على المصلحة‬ ‫الخاصة‪.‬‬ ‫‪-5‬اللامبالي بغير الاستفادة من الوضعية ولا يهمه من أين تأتي مصلحته فيها‪.‬‬ ‫لكن ذلك لا يكفي إذ لا بد من النقلة الثانية من جماعة التصدي بالقلب والأقوال إلى‬ ‫جماعة التصدي بالأقوال والأفعال‪.‬‬ ‫وإذا كان الوصل بين الذاتي والمشترك بين الذوات هو العبارة البدنية المصاحبة للشعور‬ ‫القلبي فإن الوصل بين الأقوال في الجماعة ينبغي أن يمر كذلك من الذاتي الفردي إلى ما‬ ‫بين الذاوات الجمعي‪.‬‬ ‫وإذا كانت العبارة البدنية التي تصحب ما في القلوب تحتاج إلى ما يمكن أن نسميه الاقدر‬ ‫على التعبير البدني أو إن صح التعبير الممثل الصامت فإن العبارة القولية لن تصبح مؤثرة‬ ‫إلا بما يشبه الحالة السابقة أي المعبر البليغ‪.‬‬ ‫والبلاغة بالنسبة إلى في ما العبارة شبيهة إلى الإشارة بالنسبة إلى ما في القلوب‪.‬‬ ‫وإذن فهناك احتجنا إلى الممثل الصامت وهنا نحتاج إلى المتكلم الممثل أو الخطيب‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فالخطيب هو الذي يجعل النقلة من الأقوال إلى الأفعال بتكون الجماعة الفاعلة هو الجسر‬ ‫الواصل بين الاقوال والافعال مثله مثل الممثل الصامت الذي هو الجسر الواصل بين القلبي‬ ‫في الأذهان والقلبي في الأبدان‪.‬‬ ‫ومثلما أن الامر كله يدور بين الأذهان والأبدان في التعبير عن المواقف فإن دوافع المواقف‬ ‫في الوضعيات الموضوعية التي تحددها هي بدروها إما متعلقة بالابدان وبالاعيان بتقديم‬ ‫وتأخير أعني أنها‬ ‫إما وضعيات اقتصادية وثقافية تمس الأبدان‬ ‫أو وضعيات ثقافية واقتصادية تمس الأذهان والأبدان‪.‬‬ ‫وما يتعلق بالأبدان والأذهان مباشرة هو المائدة والسرير‬ ‫وما يتعلق بهما بصورة غير مباشرة هو فن المائدة وفن السرير‪.‬‬ ‫لذلك فالمسافة المرنة أو مسافة المسامحة \"التوليرانس\" للوضعيات هي هذه المسافة بين‬ ‫المائدة والسرير وبين فنيهما‪.‬‬ ‫فقد يصبر الإنسان على المس بالفنين وخاصة عامة الشعب لكن المس بالمائدة والسرير لا‬ ‫يكاد يقبل المس بهما بصورة تصل إلى حد الحرمان من شروط العيش المطمئن‪.‬‬ ‫ولذلك فالاقتصادي متقدم على الثقافي في التحرك الثوري عند الطبقات الدنيا والعكس‬ ‫عند الطبقات العليا رغم أن توظيف الدين قد يعكس فيجعل المس بالقيم الدينية مقدما‬ ‫على القيم الاقتصادية إلا إذا وصل الامر إلى الحرمان المطلق والمجاعة الغذائية والجنسية‪.‬‬ ‫ولهذه العلة فالثورات لا ينبغي أن ترد الى الدوافع المادية باستثناء الروحية أو الروحية‬ ‫باستثناء المادية بل هي ترد إلى نسبة ما بين العاملين ومن يريد أن يعير الدورين فلا بد‬ ‫أن يدرس تراث الجماعة في المائدة والسرير وفنيهما لأن ذلك هو المحدد النهائي في كل‬ ‫الثورات إذا كانت عامة أي سياسية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وكل ثورة في مجال معين تعتمد على ما في ذلك الميدان من حدود لدوافع التغيير بنفس‬ ‫تلك المستويات أي من القلب إلى اللسان إلى اليد أو من الشعور إلى القول إلى الفعل‪.‬‬ ‫ولعل أفضل مثال هو الثورات العلمية وتطبيقاتها‪.‬‬ ‫فمن حيث وجودها في الأذهان هي ثورة في المفهومات‪ .‬ومن حيث هي في الأعيان هي في‬ ‫تأثير المفهومات في الموجودات بوصفها علما للموجودات في تطبيق المفهومات العلمية على‬ ‫شروط المائدة والسرير خاصة بالنسبة إلى الطبقات الدنيا في الجماعة وعلى شروط فن‬ ‫المائدة وفن السرير بالنسبة إلى الطبقات العليا في الجماعة‪.‬‬ ‫لكنه لا يتحول إلى أفعال حقيقية إلا إذا تجلى أثره في الثورة العامة أي في الثورة‬ ‫السياسية‪.‬‬ ‫وهو ما يعني أن الثورة السياسية مشروطة بثورة في الثقافة العملية والقيمية الروحية‬ ‫(الثقافة او شروط الفنين التابعين للمائدة والسرير) وفي الثقافة الاجتماعية والقيم‬ ‫المادية (الاقتصاد أو شروط المائدة والسرير)‪.‬‬ ‫وطبعا فشروط كرامة الإنسان تابعة للثورة في الثقافة وتطبيقاتها التقنية في ثقافة‬ ‫الجماعة وشروط الحرية تابعة للثورة في العلم وتطبيقاته التقنية في اقتصاد الجماعة‪.‬‬ ‫وإذا كانت هذه قوانين التغيير وسننه فإن الثورة لا تمثل قطيعة في تاريخ الأمم إلا لغياب‬ ‫العلم بها ومن ثم فكل لجوء إلى العنف للتسريع في التغيير يؤخره ولا يقدمه لأن كل مرحلة‬ ‫من مراحل أي تاريخ تعتمد على أبعاده الخمسة التي لا يمكن من دون فهم دورها أن نفهم‬ ‫منطق التغيير الذي لا يكون إلا إصلاحيا حتى لما يجري في مناخ ثورة عارمة يغلب عليها‬ ‫العنف والحرب الاهلية‪.‬‬ ‫فالتاريخ الإنساني بخلاف التاريخ الطبيعي مخمس الأبعاد وهو أمر اثبته منذ أكثر من‬ ‫عقدين في الكتاب المشترك بين المرحوم طيب التيزيني وبيني حول الفلسفة العربية‪ .‬فقد‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بينت أن الماضي مضاعف لأنه أحداث سابقة وحديث لاحق وأن المستقبل مضاعف لأنه‬ ‫أحاديث سابقة وأحداث لاحقة‪ .‬والحاضر لا يوجد بين الماضي والمستقبل بل هو قبل الماضي‬ ‫وبعد المستقبل لأنه محيط بهما فهو قبل الحدث الماضي بوصفه حديثه وبعد حدث المستقبل‬ ‫لأنه حديثه‪ .‬فيكون الحاضر مجال الحديث المحيط بالأحداث ماضيها ومستقبلها وهو من‬ ‫ثم المرحلة الوسطى بين ما في الأذهان وما في الأعيان دائما أو هو النوعين من الآليات التي‬ ‫تكلمنا علينا والتي تنقل من المشاعر إلى الأقوال ومن الأقوال إلى الأفعال في كل الحضارات‬ ‫وليس عندنا فحسب‪.‬‬ ‫وكل هذه المعطيات هي التي جعلتني أحاول اقناع من عملت معهم في تجربتي الأولى لتحمل‬ ‫مسؤولية سياسية مباشرة بأن أفضل طريقة لتيسير نجاح الثورة وجعلها سلمية وتجنب العنف‬ ‫إلا ما كان منه ضروريا وبالعنف الشرعي إما للدفاع عن القانون أو عن الذات هي طريقة‬ ‫الرسول الخاتم‪ :‬قلب الصفحة بمنطق العفو عند المقدرة‪.‬‬ ‫لذلك اقترحت تقديم المصالحة على المحاسبة‪.‬‬ ‫فالمحاسبة إذا تقدمت تكثر من الأعداء لأن الجميع يشعر أنه متهم خاصة وأن الرؤوس‬ ‫التي هي متهمة فعلا تخوفهم بأن البداية هي بهم لكنها ستمتد للجميع‪.‬‬ ‫أما المصالحة فهي ستفرز المذنبين في حق الوطن والمواطن فتطمئن الناس ويصبح من هو مع‬ ‫الثورة أو على الأقل ليس معاديا ممثلا للأغلبية‪.‬‬ ‫ولما تبين لي أن ذلك ليس في متناول العقول التي سيطرت عليها الإيديولوجيا في الصفين‬ ‫المتنافيين بمنطق الصراع الجدلي أو بمنطق التدافع فإنها من جنس ما نسمعه الآن من ذهاب‬ ‫الأولين حتى لمحاسبة الرسول بنقد متخلف لا يعبر عن علم بل عن بلادة ذهنية وذهاب‬ ‫الثانين إلى فتح معركة مع الاموات مثل نقد بورقيبة وتجريمه وهو حمق سياسي لأن ذلك‬ ‫كان ولا يزال أنجع طريقة لإحيائه وجعله قائدا لصف فقد الشرعية فاضفى عليهم البلداء‬ ‫شرعية لا أحد يمكن أن ينكرها على بورقيبة على الأقل في عيون معاصريه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهذا الحمقان قد يعيدان تونس‬ ‫إلى ‪ -‬أو على يحولان دونها و ‪ -‬تجاوز صراعات الماضي الثقافية السياسية الصراعات التي‬ ‫حولت النخبة السياسية والثقافية إلى مجرد دونكيشوات يحاربون نواعير الماضي الذاتي‬ ‫أو الماضي الأجنبي للتغطية على جرائم المافيات التي تمول حزيباتهم التي يغلب عليها طابع‬ ‫العسكر المكسيكي حيث إنها مؤلفة من جنرالات دون جنود‪.‬‬ ‫وكلما التفت إلى شعورهم وكلامهم وأفعالهم لم يبرز منهم إلى منطق الديكة التي تتلذذ‬ ‫بعناد المراهقين الذين لا يصلحون حتى لإدارة اسرهم ناهيك على الوطن‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫نمر الآن إلى المشكل الثاني في الكلام على مهام الثورة وشروط تحقيقها وعلل الفشل في‬ ‫تحقيقها وهي علل قد تصل إلى جعلها مستحيلة التحقيق‪ .‬وسيكون كلامنا نوعا من البحث‬ ‫في تكوينية الحوائل دون التعامل مع السياسة تعاملا يجعلها اجتهادية لا تقول بالمطابقة‬ ‫المعرفية ولا بالمطابقة القيمية اللتين تؤديان إلى المواقف المتعصبة الحائلة دون التواصل‬ ‫السوي بين القوى السياسية‪.‬‬ ‫ما يعنينا هو فهم الرؤية التي تكتفي بما هو ممكن للاجتهاد الإنساني من الاقتراب من‬ ‫الحقيقة المعرفية والقيمية دون رد الموجود إلى الإدراك المعرفي ورد المنشود إلى الإدراك‬ ‫القيمي للتحرر مما سماه ابن خلدون حب التأله عند الإنسان‪ .‬وهو يعتبره سر الاستبداد‬ ‫والطغيان وما يصحبهما من فساد وظلم للعباد يلغي معاني الإنسانية وقد يقضي على الأمم‬ ‫إذا سيطر على بعدي السياسة أي التربية والحكم‪:‬‬ ‫‪-1‬أليس من الواجب التمييز بين الثورة السياسية التي ينبغي أن تكون شاملة مع النسبية‬ ‫المعرفية والقيمية لكل ما تمتد إليه السياسة من مجالات هي موضوع الفعل السياسي الشامل‬ ‫لكل الشأن الإنساني؟‬ ‫‪-2‬وما طبيعة هذا الشمول الذي يمكن أن نسميه شمول القوامة على أمر الجماعة وليس‬ ‫القيام به بدلا منها وهي إذن مستوى ثان من نشاط جماعة الأحرار التي تعود على نفسها‬ ‫وقائيا وعلاجيا لتجويد رؤيتها وتحقيقها لما يترتب عليها في العناية برعاية ذاتها وحمايتها؟‬ ‫‪-3‬وهل يمكن رد هذا النشاط إلى ما ينتج عن مرجعية الجماعة الفلسفية والدينية وما‬ ‫يترتب على كون الجماعة مؤلفة من الأفراد الذين عرفهم القرآن بوصفهم مستعمرين في‬ ‫الأرض ومستخلفين فيها باعتبارهم مكلفين ومسؤولين عن أفعالهم بشرطيها المعرفي‬ ‫والقيمي؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪-4‬و هل دور الدولة بديل من دور الجماعة أم إن الجماعة هي التي عليها أن ترعى ذاتها‬ ‫وتحميها فرض عين لا فرض كفاية دون أن يتنافى الأمران لأن مستوى الأول هو الأصل‬ ‫والثاني هو الفرع بتوسط الإنابة المشروطة؟‬ ‫‪ -5‬أم هل ما عليه الأمر حاليا في رؤية الدولة الحاضنة التي تسيطر على الجماعة والفرد‬ ‫هو حقيقة دورها والمعنى الفلسفي والديني للسياسي فتصبح الثورة ساعية لتثبيت أصل‬ ‫الاستبداد والفساد؟‬ ‫ولما كان الرهان في الثورة هو طلب التحرر من الاستبداد والفساد والسعي لتحقيق شروط‬ ‫الحرية والكرامة التي هي مجال العمل السياسي شرطها السياسي والرؤية التي تؤسسه فإن‬ ‫الإشكالية كلها تصبح خيارا بين علاجين نصوغهما في سؤالين حول تعريف بعدي السياسي‬ ‫أي‬ ‫الحكم الذي يتعلق بالوازع الأجنبي بلغة ابن خلدون أي حكم القانون في الجماعة‬ ‫والتربية التي تتعلق بالوازع الذاتي بنفس اللغة أي حكم الأخلاق في الجماعة‪.‬‬ ‫و ننطلق من التسليم ‪ -‬في شكل فرضية العمل ‪ -‬بأن رؤية ابن خلدون آخر ترجمة فلسفية‬ ‫للرؤية الإسلامية كما يقرأها باعتباره فيلسوف اجتماعي وتاريخي ذا رؤية \"أشعرية‪-‬سلفية\"‬ ‫يقول بها ‪:‬‬ ‫‪-1‬هل المربي وسيط بين الإنسان وربه روحيا فيكون عبدا للوسيط الذي يمثل سلطة‬ ‫روحية كنسية بالمعنى الديني أو سلطة مادية حزبية بالمعنى العلماني سواء كانت الرؤية‬ ‫فاشية يسارية (الماركسية) أو فاشية يمينية (القومية) أم \"إنما هو مذكر \" (الغاشية ‪)21‬؟‬ ‫‪-2‬وهل الحاكم وصي بين الإنسان وشأنه سياسيا فتكون الجماعة عبيدا للحاكم روحيا‬ ‫وسياسيا الذي لا يستمد شرعيته من إرادتها؟ أم هو مجرد قيم بالإنابة الحرة في إدارة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الرعاية والحماية اللتين هما مهمتا الفرد وجماعة المؤمنين بالقيم التي تعتبر مرجعيتهم‬ ‫الروحية المؤسسة لنظامهم السياسي \"ليس عليهم بمسيطر\" (الغاشية ‪)22‬؟‬ ‫غالب هذه الأسئلة عالجتها في محاولات سابقة باعتبارها قضايا تجمع بين البحث النظري‬ ‫في محددات فلسفة التاريخ والسياسة التي يتطابق فيها الفلسفي والديني بمنظور القرآن‬ ‫الذي يتضمن الوجهين لكونه ديوان الرسالة الخاتمة التي هي كونية وهي رسالة كونية ذات‬ ‫بعدين‪:‬‬ ‫‪-1‬هي مراجعة بمنهج التصديق والهيمنة للمسار التاريخي للرسالات الدينية في علاقتها‬ ‫بمسار السياسات الإنسانية التي هي تطبيق للمرجعيات الدينية بوصفها مرجعيات تتأسس‬ ‫عليها السياسة أي التربية والحكم بعدي السياسي من حيث هو سياسة عالم الشهادة المقيسة‬ ‫على سياسة عالم الغيب الشامل لعالم الشهادة في نسبة الممثول للمثال‪.‬‬ ‫‪-2‬وهي تشخيص للأدواء التي جعلت \"التحريف الروحي ‪ -‬فعل من بيدهم سلطة الدين‬ ‫‪ -‬والجاهلية المادية ‪ -‬فعل من بيدهم سلطة الدولة ‪ \"-‬تحولان دون نجاح الرسالات السابقة‬ ‫في تحقيق ما هدفت اليه باعتبارها قيسا لسياسة الإنسان لعالم الشهادة على سياسة الله لعالم‬ ‫الغيب بلغة تمكن من القياس دون المطابقة في الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود لأن‬ ‫هذه الصفات لأفعال الله مطلقة ليس كمثلها شيء ونظائرها لأفعال الإنسان نسبية‪.‬‬ ‫والمنظور الذي أعمل به يفترض أن الديني والفلسفي إذا ادعيا الكونية فهما متطابقان‬ ‫في المعاني الكلية المشتركة معرفيا وقيما وهو ما حاولت بيانه في ما أطلقت عليه اسم المعادلة‬ ‫الوجودية التي هي بنية القرآن وبنية كيان الإنسان في آن‪:‬‬ ‫‪-1‬فالإنسان في القرآن له علاقة مباشرة مع ربه (سواء اعتقد ذلك صراحة أوضمنا حتى‬ ‫في حالة الإلحاد)‪ .‬وهي علاقة بين سياستين‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫* الأولى هي سياسة المستخلف لعالم الخلق والأمر الذي يشمل عالم الغيب لأن صفات‬ ‫أفعاله مطلقة إرادة وقدرة وحياة ووجودا وعالم الشهادة‪.‬‬ ‫*والثانية هي سياسة الخليفة التي تقتصر على سياسة عالم الشهادة في حدود ما يدركه‬ ‫من قوانين الوجه الطبيعي وسنن الوجه التاريخي منه بقدر الاستطاعة لأن صفات أفعاله‬ ‫محدودة إرادة وعلما وقدرة وحياة ووجودا‪.‬‬ ‫‪-2‬وهذه العلاقة تتعين أولا في علاقته بمحيطه الطبيعي الذي يستمد منه شروط قيامه‬ ‫العضوي خاصة وذلك بفضل ما جهز به من تلك الصفات التي تجعله قادرا على استمداد‬ ‫شروط بقائه منها‪.‬‬ ‫‪-3‬وذلك يجعله يرى العلاقة بينها وبين من ينسب إليه خلقها أي موجدها وواضع قوانينها‬ ‫وقوانين علاقة الإنسان بها – حتى لو كان ملحدا ويعتد أن ذلك كله من صدف الطبيعة‬ ‫والتاريخ ‪ -‬علاقة عليه البحث عنها بعقله وبحواسه‪ .‬والقرآن يعتبرها قد خلقت بقدر‬ ‫(رياضيات معرفة عقلية) لكن وجودها في الأعيان (تجريبيات معرفة حسية) تظهر فيه‬ ‫مقادير المعاني الرياضية التي تحكمها (التجربة الطبيعية)‪ .‬وتلك هي علاقته غير المباشرة‬ ‫بربه بتوسط الطبيعة التي يستمد منها رزقه العضوي‪.‬‬ ‫‪-4‬لكن هذه العلاقة بعالم الطبيعة هي بدورها مشروطة بوجود الجماعة التي تتعاون‬ ‫على علاجها‪ .‬فاستمداد شروط الحياة العضوية لا بد فيه من تحقيق شرطين لا يمكن للفرد‬ ‫أن يحققها بمفرده‪:‬‬ ‫*الرعاية وهو فيها بحاجة على الأقل للأسرة الخلوية‪.‬‬ ‫*‪ -‬والحماية وهو يحتاج فيها على الأقل للأسرة الموسعة‪.‬‬ ‫كما أن التعامل مع الطبيعة على علم يقتضي أن تتراكم التجربة والخبرة على الأقل‬ ‫للتمييز بين المفيد والضار من الغذاء والماء والهواء إلخ‪ ...‬والرعاية تعني أن العلاقة‬ ‫بالطبيعة هي مصدر الثروة والعلاقة بالتاريخ هي مصدر التراث وكلاهما شرط قيام‬ ‫الإنسان وبقائه‪ .‬وكلاهما ثمرة التراكم في حصيلة العمل والنظر‪ .‬والحماية تقتضي التمييز‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫بين الأصدقاء والأعداء وهي كذلك من شروط البقاء في العالم بقاء الثروة والتراث وبقاء‬ ‫الإنسان نفسه‪ .‬وهذا هو مجال السياسة الشارط للمجال الأول ولذاته وهو شارط للانتاج‬ ‫المادي أو الاقتصاد وللمجال الثاني الذي هو الإنتاج الرمزي أو الثقافة‪.‬‬ ‫‪-5‬وحينها يدرك أن للتاريخ كذلك ما وراء آخر متعلقا بالأمر بعد الخلق وهو عالم السنن‬ ‫التاريخية التي لا تتبدل ولا تتغير ‪ .‬لكنها تختلف عن القوانين لأنها هي مجال الحرية التي‬ ‫يمكن للإنسان أن‪:‬‬ ‫* يحترمها فيعمل بها‪.‬‬ ‫*‪-‬أو الا يحترمها فيعمل بنقيضها‪.‬‬ ‫وهذا هو معنى حر كإنسان مسؤول ومأمور كخليفة مكلف‪.‬‬ ‫فهو مأمور باحترامها ويجازى عليه إيجابا‪ .‬وهو منهي عن عدم احترامها ويجازى عليه‬ ‫سلبا‪.‬‬ ‫وهذا هو معنى أنه خليفة حر أي إنه محكوم بهذه السنن دون أن يكون مضطرا‪ .‬فتكون‬ ‫هي الأمانة لأنه مستأمن ككل خليفة على ما استخلف فيه‪ :‬علاقة بين سلطتين سياسيتين‪.‬‬ ‫فالاستخلاف حتى من حيث هو علاقة بين الإنسان وربه منزلة وجودية لكنها كذلك منزلة‬ ‫ذات طبيعة سياسية‪.‬‬ ‫عندما كتبت في باريس سنة ‪ 1972‬البحث المكمل للإجازة التي حصلت عليها من الجامعة‬ ‫التونسية ودار المعلمين العليا سنة ‪ 1969‬حول \"مفهوم السببية عند الغزالي\" بينت أن الرؤية‬ ‫القرآنية بخلاف الرؤية التي ورثها فلاسفة الإسلام من الفلسفة اليونانية تقدم الإرادة‬ ‫على العقل لأن العلاقة بين الإنسان وربه علاقة بين إرادتين حرتين رغم أن واحدة منهما‬ ‫مستخلفة للثانية والثانية خليفة للأولى‪ .‬وهي إذن منزلة سياسية ذات بعد وجودي ولذلك‬ ‫فهي بالجوهر علاقة خلقية بين حريتين وليس بين ضرورتين‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لذلك رفض الغزالي للضرورة السببية غايته بيان هذه العلاقة بين الحرية الإلهية التي‬ ‫هي خلق حر وليست فعلا طبيعيا مضطرا بخلاف ما يمكن وصف المفعول به وبين الحرية‬ ‫الإنسانية التي هي ليست فعلا طبيعيا مضطرا بخلاف ما يمكن وصف المفعول به‪.‬‬ ‫فالفعلان حران رغم ما نراه من المفعولين من انتظام قد يجعلنا نظنهما مضطرين بنظام‬ ‫ثابت لا يتغير‪ .‬ولا يمكن أن نوفق بين الرؤتين للفعل وللمفعول من دون اعتبار حكما في‬ ‫الثاني ناتجا عن عاداتنا المعرفية والقيمية والتخلي عن إطلاقه باعتباره شرطا في الفعلين‬ ‫ولا حتى في المفعولين‪.‬‬ ‫وهذا هو الموقف الذي رفضه ابن رشد في تهافت التهافت‪ .‬وهو رفض يبين أمرين كلاهما‬ ‫يدل على السذاجة الفلسفية والعلمية فضلا عن التناقض مع أهم مفهوم ديني ذي صلة‬ ‫بالمسألة أعني مفهوم الغيب الذي هو غير الغائب‪ .‬فالغيب لا يقبل القيس مع الشهادة بخلاف‬ ‫الغائب لأنه هذا من المعلوم الممكن حتى لو لم يكن حاصلا وذاك من المحجوب باطلاق ولا‬ ‫يعلمه حتى الرسل لأن شرطه الأحاطة وهي لله وحده‪.‬‬ ‫ولما كان هذا القيس هو مصدر علم الكلام الفلسفي في الإلهيات فإن كل المشكل عند‬ ‫الغزالي هو بيان استحالة أن يكون الكلام الفلسفي في الإلهيات علميا وأنه رجم بالغيب‪.‬‬ ‫ولذلك فهو قد بدأ التهافت بالتمييز بين الميتافيزيقا التي ينفي عنها العلمية معتبرا أشباه‬ ‫الفلاسفة هم من يتصورها علمية مثل الرياضيات والمنطق‪ .‬واعتبر الطبيعيات بينهما معتبرا‬ ‫بناءها على الميتافيزيقا ليس ضروريا إذ يكفي فيها الرياضيات والتجربة لأن الضرورة‬ ‫المنطقية في العبارة العلمية لا تعني بالضرورة أن الضرورة الوجودية في موضوعها أمرا‬ ‫حاصلا بل يكفي افتراضها دون إطلاق‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ومن ثم فلا حل إلا بالتخلي عن القول‪:‬‬ ‫‪-1‬المطابقة بين علمنا والوجود لنسبية الأول وإطلاق الثاني‪.‬‬ ‫‪-2‬وبالمطابقة بين تقييمنا وقيم الوجود لنفس العلة‪.‬‬ ‫وعدم المطابقة في نظرية المعرفة وفي نظرية القيمة فلسفيا شرط لفهم الرؤية القرآنية‬ ‫للمعرفة وللقيمة وهما شرط في سياسة الإنسان لعالم الشهادة سياسة اجتهادية في النظر‬ ‫وجهادية في العمل ولا يمكن أن تدعي العلم المطلق أو العمل المطلق‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫المسالة الثالثة‪:‬‬ ‫كيف تصبح مهام الثورة مستحيلة بمنطق التناقض الجدلي عند العلمانيين أو التحديثيين‬ ‫وبمنطق التدافع عند الإسلاميين أو التأصيليين؟‬ ‫وكيف نفهم ما يحدث في تونس في كامل تاريخها منذ الاستقلال وخاصة بعد الثورة وماذا‬ ‫يمكن القيام به لإخراج تونس من مآزقها؟‬ ‫فالصراع بين هذين الطرفين على قيادة المهام فيه دعوى مفاضلة كل فريق يدعي أنه‬ ‫أولى بها لأنها بالاستبداد والفساد في الدولة الحاضنة تجعلهم مسيطرين على الرزقين المادي‬ ‫والروحي للإنسان وهو سر الانحطاط‪.‬‬ ‫ومن ثم فكلا الطرفين لا يرضى بالجماعة حكما في اختيار الأولى بالقوامة لفترة محددة‬ ‫بل هو يريد أن يفرض نفسه قيما أبد الدهر ويستأصل غيره ولا يكون التغيير إلا بحرب‬ ‫أهلية‪.‬‬ ‫سأنطلق من الموقف الخلدوني الذي عاد إلى أشعرية المدرسة الأولى التي يمثلها هو والتي‬ ‫تجمع بين قطع الأشعرية مع الإعتزال في القيم والحنبلية قبل ذلك معها في العلم‪ .‬لذلك‬ ‫فهو قد رفض أشعرية المدرسة الأخيرة التي يمثلها الرازي ‪ -‬والمعلوم أن أول ما كتب ابن‬ ‫خلدون وهو شاب كان تلخيصا لفكر الرازي في المحصل ‪ -‬وأثبت فيه عبقرية فريدة بحيث‬ ‫إن رفضه له في المقدمة دليل على فهم القضية الفلسفية التي ردها كلها‪:‬‬ ‫‪-1‬في الفلسفة النظرية إلى الوهم الذي أنتج إشكالية نظرية المعرفة لدى الفلاسفة‬ ‫وسماه وهم رد الوجود إلى الإدراك‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪-2‬وفي الفلسفة العملية إلى الوهم الذي أنتج إشكالية نظرية القيمة لديهم وسماه اعتبار‬ ‫السياسة خاضعة لمبدأ عدم التناقض والثالث المرفوع بدلا من الاجتهاد الذي يؤدي إلى‬ ‫التعدد وعدم التأثيم‪.‬‬ ‫وبذلك فهو يقابل بين رؤيتين للسياسة‪:‬‬ ‫*السنية التي تقول بالاختيار وبعدم اعتبار الاجتهاد السياسي والحكم من العقائد بل‬ ‫هي من اجتهاد الجماعة لرعاية المصالح العامة‪ .‬وهو يرى رأي الغزالي وابن تيمية في ذلك‪.‬‬ ‫*الشيعية والفلسفية ‪ -‬راي ابن سينا ‪ -‬التي تقول بالوصية وباعتبار السياسة علما مطلقا‬ ‫والحكم جزء من العقيدة سواء كان من الأديان المنزلة أو من الملة الفلسفية بلغة الفارابي‪.‬‬ ‫ولا يزال الأمر على ما كان عليه عند الثيوقراطي عامة والشيعي خاصة وعند‬ ‫الانثروبوقراطي سواء كان ماركسيا أو ثيوقراطيا لاعتقاد الماركسيين والثيوقراطيين أن‬ ‫علمهم بالحقيقة علم مطلق وأن ورؤيتهم للسياسة رؤية علمية وليست اجتهادات شديدة‬ ‫النسبية‪.‬‬ ‫ومن ثم فهما قابلان للاشتراك في تصور الدولة ذات سلطة وسيطة بين الإنسان والمرجعية‬ ‫وذات سلطة وصية على الجماعة بينها وبين شأنها الفكري والسياسي‪.‬‬ ‫إنهما المصدر الديني والعلماني للاستبداد والفساد في التربية وفي الحكم المفروضين على‬ ‫العباد بسبب رؤية في نظرية المعرفة وفي نظرية القيمة تقول بالمطابقة التي تقتضي أن‬ ‫يكون الوجود مطلق الشفافية والإدراك المعرفي والقيمي مطلق النفاذ سواء كان بما يسمى‬ ‫العرفاني عند الاول أو العقلاني عند الثاني‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ولا أعجب إذا تحالف الماركسي والشيعي حديثا والشيعي والقرمطي وسيطا‪.‬‬ ‫فالثيوقراطي يؤمن بالوساطة الروحية في التربية الكنسية والانثروبوقراطي يؤمن‬ ‫بالوساطة المادية في التربية الحزبية‪.‬‬ ‫والأول يؤمن بالوصاية في الحكم باسم الله في التشيع المؤمن بعصمة الإمام ومن ينوبه في‬ ‫الطائفة والدولة‬ ‫والثاني يؤمن بالوصاية في الحكم باسم الإنسان في الماركسية المؤمنة بعصمة ماركس ومن‬ ‫ينوبه في الحزب والدولة‪.‬‬ ‫والوساطة في التربية والوصاية في الحكم سواء كانتا مؤمنتين أو ملحدتين هما أصل العنف‬ ‫اللطيف في التربية والعنف الخشن في الحكم وكلاهما يعتبرهما ابن خلدون علة فساد معاني‬ ‫الإنسانية‪.‬‬ ‫وقد يقال إن ابن خلدون لا يمكن أن يكون داريا بالمقابلة بين الإيماني والإلحادي أو بين‬ ‫الديني والعلماني‪.‬‬ ‫وهو كلام مصيب إذا اقتصرنا على الأسماء والمصطلحات‪.‬‬ ‫لكن إذا عوضناهما بما كان يؤدي نفس الوظائف أي بالديني واللاديني يعني وعي‬ ‫الإلهيات الفلسفية عنده (انظر نص إبطال الفلسفة) صح ما قلناه بدليل ما رد به على ابن‬ ‫سينا في إشاراته الصوفية القائل في بضرورة العصمة في المعرفة و في القيم لتأسيس الدول‬ ‫والتشريع‪.‬‬ ‫فكيف حصل ذلك؟‬ ‫وما الموقف الذي يمكن أن نعتبره ممثلا للرؤية القرآنية والتي كان دستور الرسول محاولة‬ ‫أولى للتعبير عنها في حالة تاريخية قابلة للتقييم بالمنظور الذي حاول ابن خلدون التعبير‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫عنه بنظرية عدم التأثيم في الاجتهاد السياسي لقلب صفحة الفتنة الكبرى التي تتكرر الآن‬ ‫ومعها الفتنة الصغرى وهي محاولة خلدونية عرضناها سابقا وردت في فصل ولاية العهد من‬ ‫الباب الثالث من المقدمة؟‬ ‫إذا علمنا أن محاولة ابن خلدون التي قدمنا بها لهذا الفصل الثالث كانت غاية تطور‬ ‫علم الكلام الأشعري فإنه علينا أن ندرك أن فهم القضية الثانية في مأزق نظرية القيمة‬ ‫ليس كافيا ولا بد من فهم القضية الأولى في مأزق نظرية المعرفة التي بقيت مؤجلة إلى أن‬ ‫حسمها ابن تيمية وابن خلدون‪.‬‬ ‫فالاشعري فهم القضية الثانية المتعلقة بالقيم من خلال موقفه من التحسين والتقبيح‬ ‫لكنه لم يتمكن من فهم القضية الأولى المتعلقة بالمعرفة في خلق القرآن لأن حل الكلام‬ ‫النفسي غير كاف‪.‬‬ ‫والمعلوم أن هذه القضية تقدم عليه فيها علم الكلام الحنبلي بما هو موقف فقير من حيث‬ ‫الصوغ النظري لكنه كان حاسما من حيث الحسم العملي‪.‬‬ ‫والأشعري رفض نظرية التحسين والتقبيح ونظرية الأصلح الإعتزالية التي تقول‬ ‫بالمطابقة الموروثة عن اليونان‪.‬‬ ‫وقطيعته مع الاعتزال علتها رفض هذه المطابقة لأنه لو صحت لاعتبرت القيم صفات‬ ‫ذاتية للأشياء‪.‬‬ ‫وكان ينبغي أن نفترض أن موقفه في المسألة القيمية مشروط بقضية المسألة المعرفية لأن‬ ‫القول بالمطابقة يعني أن ما يعلمه الإنسان من صفات الأشياء ليست نسبية إلى علمه المحدود‬ ‫بل يعني أنها مطلقة لتوهم العلم مطلقا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وفي ذلك قول بالسوفسطائية دون احترازها الذي تعني بمقتضاه أن الإنسان مقياس كل‬ ‫شيء موجوده ومعدومه دون إطلاق هذا الحكم وراء ما يقدر الإنسان على علمه لأن ما‬ ‫يتعداه إلى المطابقة مع الوجود في ذاته خارج النسبي إلى الإنسان لا شيء يثبت إمكانه‬ ‫لعلم الإنسان ليكون مقياسا فيه‪.‬‬ ‫وإذن فموقف الفلاسفة القائلين بالمطابقة المعرفية والقيمية كان أسوأ من موقف‬ ‫السوفسطائية فيهما لأنه يخصم منه هذا الاحتراز عند كبار السوفسطائيين‪ .‬فالمشكل‬ ‫الفلسفي في مستوى نظرية المعرفة وفي مستوى نظرية القيمة أصبح عند المدرستين الحنبلية‬ ‫(الذي لم يتضح إلا عند ابن تيمية) والأشعرية (الأولى وليس الثانية) بحثا في شروط‬ ‫التفاعل بين ارادتين وليس بين عقلين‪.‬‬ ‫والعقل يصبح حينها أداة معرفة وتقييم في خدمة غايات الإرادة وليس هو المقدم كما في‬ ‫الرؤية الفلسفية اليونانية التي تنطلق من نظرية بارمينيدس الذي يوحد بين الوجود‬ ‫والعقل‪.‬‬ ‫والمعلوم أن الحكمة هي استعمال الأداة العقلية بمقتضى الغاية الإرادية وهي ليست‬ ‫تحكمية بل هي تتجاوز العقل من حيث هو حسبان للربح والخسارة في الكلفة المادية إلى‬ ‫الحسبان والخسارة في الكلفة الروحية‪.‬‬ ‫وفي ذلك يتعين سلم القيم تقديما لما لا يقبل البيع والشراء لتعلقه بالحرية والكرامة على‬ ‫ما يقبل البيع والشراء لتعلقه بشروط القيام المادي الفاقد لهما‪.‬‬ ‫ولذلك فابن خلدون انطلاقا من هذه الرؤية عرف الإنسان بكونه \"رئيسا بطبعه بمقتضى‬ ‫الاستخلاف الذي خلق له\" ولم يعرفه بالعقل والنطق اللذين هما أداة تحقيق هذا المعنى‬ ‫حتى إنه قال إن من يفقد الرئاسة بالطبع وبمتقضى الاستخلاف الذي خلق له ينقرض‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫\"وفيه (في انقراض الأمم) والله أعلم سر آخر وهو أن الإنسان رئيس بطبعه بمقتضى‬ ‫الاستخلاف الذي خلق له والرئيس إذا غلب على رئاسته وكبح عن غايته تكاسل حتى عن‬ ‫شبع بطنه وري كبده وهذا موجود في أخلاق الأناسي ولقد يقال مثله في الحيوانات المفترسة‬ ‫وإنها لا تسافد إذا كانت في مكلة الآدميين‪ .‬فلايزال هذا القبيل المملوك عليه أمره في‬ ‫تناقص واضمحلال إلى أن يأخذهم الفناء‪( \".‬المقدمة ‪.)23.3‬‬ ‫فلننظر الآن كيف تطورت فكرة الانتقال من الرؤية اليونانية لنظرية المعرفة ولنظرية‬ ‫القيمة القائلتين بالمطابقة حتى ندرك دلالة هذا التحول من وهم رد الوجود إلى الإدراك‬ ‫المعرفي والقيمي إلى التمييز بينهما وبين الوجود‪.‬‬ ‫لا بد من الانطلاق من محاولة فهم الموقف اليوناني الذي تبناه فلاسفة الإسلام مع الغفلة‬ ‫عن عدم التمييز بين \"النوس\" من حيث هو \"حكمة الله المطابقة للوجود\" عند بارمينيدس‬ ‫وعقل الإنسان \"اللوغوس\" من حيث هو أداة لفهم هذه الحكمة في حدود مستطاعه وهو ما‬ ‫لا يمكن أن يطابق الوجود وإلا لكان لا فرق بين النوس الإلهي المطلق واللوجوس الإنساني‬ ‫النسبي‪.‬‬ ‫وإذن فموقف الأشعري من التحسين والتقبيح يعني أنه يرفض أن يكون الإنسان خالقا‬ ‫لأفعاله ومعيرا لقيمها ‪ -‬وهو معنى وضعه لنظرية الفعل الكسبي الذي عرفته سابقا بكونه‬ ‫معنى الحرية الشرطية في مقابل الفعل الطبيعي الذي هو معنى الضرورة الشرطية ‪ -‬وأنه‬ ‫من ثم لا بد من اكتشاف حل لعلاقة بين إرادتين آمرة ومأمورة وليس بين عقلين متطابقين‬ ‫إيهاما بأن اللوغوس الإنساني مطابق للنوس الإلهي‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فعاد الأشعري من ثم إلى الحل الحنبلي الذي يجعل القرآن قديما ليس من حيث هو‬ ‫حصيلة الكلام الإلهي ثمرة للحكمة بل من حيث هو فعل الكلام الإلهي ترجمانا للحكمة‬ ‫الخالقة والآمرة‪.‬‬ ‫فللقرآن الذي هو كلام الله ومن حيث هو تذكير للإنسان بالحكمة الإلهية لا يرد إلى‬ ‫ثمرة الحكمة التي يخبر الإنسان بما هو منها ضروري وكاف لقيامه من حيث هو مستعمر في‬ ‫الارض ومستخلف فيه‪.‬‬ ‫وله إذن دلالتان‪:‬‬ ‫‪-1‬فهو فعل القول الإلهي ولا يمكن أن يكون مخلوقا لأنه هو ما به يخلق ورمزه كلمة \"كن\"‬ ‫التي هي أمر خلق الموجودات وأمر سياستها‪.‬‬ ‫‪-2‬وهو حصيلة الفعل الخالق والآمر أو ثمرة فعل القول الذي له هذان الوظيفتان‪ .‬وتلك‬ ‫الثمرة هي المخلوقات وسياستها وهما طبعا من المخلوقات‪.‬‬ ‫ويمكن أن يكون القرآن في المصحف وفي القلوب بهذا المعنى الثاني‪ :‬التذكير بالمعنى الأول‬ ‫المرسوم في الفطرة‪.‬‬ ‫ولما كان التذكير حكاية للمذكر به فهو الذكر القديم الذي يتخلق دائما كما تم التذكر‬ ‫حتى وإن حصل في زمن حادث‪.‬‬ ‫وفي الحقيقة فهذه المقابلة بين الفعل وثمرته في كلامنا على الخلق والـأمر الإلهيين تصح‬ ‫على كل المخلوقات‪.‬‬ ‫ذلك أن فعل الخلق وفعل الأمر يعرفهما القرآن بكونها \"كن\" الخالقة و\"كن\" الأمرة وهما‬ ‫عين الفعل الإلهي الذي لا يمكن أن يكون مخلوقا إلا إذا قلنا بان الله هو \"الكاوزا سوي\" أو‬ ‫علة ذاته فيكون هو بدوره مخلوقا ما يعني أنه لا بد أن يكون موجودا قبل أن يوجد ليخلق‬ ‫نفسه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهذا المعنى ينطبق على المؤمن والملحد‪.‬‬ ‫ذلك أن القائلين بوحدة الوجود لا ينفون التمييز بين الفاعلية المفعولية في الخلق وفي‬ ‫الأمر بمعنى في الوجود ونظامه فلسفيا وفي القضاء والقدر دينيا (والـأول خلق للإنية أي‬ ‫لعين الموجود والثاني تشريع للماهية أي لكيفه المحدد لمقاديره)‪.‬‬ ‫من ذلك المقابلة المعلومة في وحدة الوجود السبينوزية بين الطبيعة الطابعة والطبيعة‬ ‫المطبوعة أو المقابلة الابنعربية المعلومة بين الله وعين الله (أي العالم أو الأعيان التي‬ ‫انتقلت من العدم إلى الوجود والتي هي من جنس ما في المادة الأولى من الموجودات بالقوة‬ ‫مع ما في عالم ما فوق القمر) أو للمقابلة الهيجلية بين وجهي وحدة الوجود التي تجعل‬ ‫الجوهر متذوتا‪.‬‬ ‫وكل ذلك بسبب وهمي المطابقة المعرفية والمطابقة القيمية اللتين يرفضهما ابن خلدون‬ ‫ويرفض خاصة ما يترتب عليهما عندما يتأله الإنسان فينسب إلى نفسه ما يشبههما كما‬ ‫يحصل عند المستبدين والطغاة سواء في مستوى المعرفة والتربية أو في مستوى القيم‬ ‫والحكم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫المسألة الرابعة‪:‬‬ ‫إن السعي لمنع الأمة من التحول إلى عالة فتتحرر من فساد معاني الإنسانية لم يبدأ مع‬ ‫محاولاتي بل هو جوهر الثورة التي بدأت مع نزول القرآن إذ بفضله تحرر الإقليم من‬ ‫الاستعمارين الفارسي والبيزنطي في التاريخ الأفعال في الأعيان‪.‬‬ ‫وشرع الفكر الفلسفي الإسلامي في التحرر من فكرهما في تاريخ الافعال في الأذهان‪.‬‬ ‫وذلك هو الدور الذي أنسبه إلى المدرسة النقدية التي صاغت بصورة واعية ونسقية‬ ‫شروط تحرير المسلمين من علتيها‪:‬‬ ‫‪-1‬التحرر من أحكام الأديان المحرفة فيهما ومن تطبيقهما في التربية والحكم وما ترتب‬ ‫عليهما في فلسفة التاريخ وفلسفة الدين‪.‬‬ ‫‪-2‬التحرر من أحكام الفلسفة اليونانية المسبقة المحرفة لنظرية المعرفة ونظرية القيمة‬ ‫ومن تطبيقاتهما في فلسفة السياسة والتاريخ‪.‬‬ ‫ومن هنا أنطلق في علاج المسألة الرابعة مواصلة للمسائل الثلاث التي تقدمت‪.‬‬ ‫فمنطق التناقض الجدلي الذي صار عند الإسلاميين منطق التدافع يتنافى تماما مع منطق‬ ‫الشورى ‪ 38‬قرآنيا ومنطق الديموقراطية فلسفيا‪.‬‬ ‫وكلاهما يعني أن تفاضل المواقف السياسية نسبي لنسبية المعرفة والقيمة ليس في ذاتهما‬ ‫بل كما يظهران للإنسان‪.‬‬ ‫ولذلك فالقرآن وكذلك العقل كلاهما يميز بين نوعين من الصدق‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪27‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪-1‬صدق الشهود بمعنى أن الفكر شهود صادق إذا تطابق مع ما يشهده من الموضوع في‬ ‫حدود نفاذ فكره إلى تجلياته‪ .‬ولا معنى للمطابقة معه لأن علم الإنسان ليس علما محيطا‬ ‫ولأن الموجود في ذاته لا يرد إلى إدراكه الإنساني‪.‬‬ ‫‪-2‬والفكر شهادة صادقة إذا طابق عرض صاحبه لشهادته شهوده كما هو في ضميره‪ .‬ولا‬ ‫معنى للمطابقة مع ضميره لأن الإنسان يحكم بالظاهر حتى في حكمه على ما في ضميره ولا‬ ‫يعلم سريرته‪.‬‬ ‫وهذا المعنى يجمع بين بعدين في المعرفة والتقييم يمكن أن نسمي الثاني بالوجه اللاواعي‬ ‫من إدراك ما في الوعي والأول بالوجه الواعي من إدراك ما في الوجود كما يظهر له‪.‬‬ ‫والوجه الأول علاقة بإدراكه لما شهده‬ ‫والوجه الثاني علاقة بين العلن والسر مما في ضميره أو بما في ظاهره وبما في باطنه من‬ ‫الشهادة‪.‬‬ ‫والشهود مسألة معرفية والشهادة مسألة خلقية‪.‬‬ ‫والصدق فيهما اجتهادي دائما بمعنى أنه لا يمكن أن يكون الشهود مطابقا للموضوع لأن‬ ‫المعرفة والتقييم ليسا محيطين‪.‬‬ ‫وشهادة الظاهر لا يمكن أن تكون مطابقة لما في السرائر لأن معرفتها وقيمتها في ذاتها‬ ‫تفترضان الإحاطة وهي مستحيلة على الإنسان‪.‬‬ ‫وعلى هذين المعنيين هما ما عليه يؤسس ابن خلدون حل عدم التأثيم والقول بالتعدد في‬ ‫السياسة حلا يمكن من طي صفحة الفتنة الكبرى والحرب الأهلية التي ترتبت عليها‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪28‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لكن المواقف التي يقول أصحابها بالمطابقتين المعرفية والقيمية تجعلهما في آن خصمين‬ ‫وحكمين‪.‬‬ ‫فيصبح الحكم بينهما بذلك عنف التغالب عليه بدل لطف التداول فيه‪ .‬وهو ما يفيد‬ ‫السعي لإلغاء الطرفين أحدهما للآخر فتكون الجماعة في حرب دائمة‪.‬‬ ‫ويصبح التداول هو التداول العضوي الذي من جنس توالي الاجيال بالموت أو بالقتل‪.‬‬ ‫ومن عجائب القرآن الكريم أنه جعل الفصل حتى بين الأديان مسألة تابعة للآخرة‬ ‫وليست مما يحسم في الدنيا بل هو يعتبر تعددها ضروري في الدنيا لأمرين‪:‬‬ ‫‪-1‬عدم الإكراه في الدين نتيجة للحرية العقدية المشروطة بتبين الرشد من الغي‬ ‫والمفاضلة الشخصية (البقرة ‪.)256‬‬ ‫‪-2‬التسابق في الخيرات أي في اختيار ما يعتقد باجتهاده أنه الدين الحق ما يعني أن‬ ‫التعدد مطلوب (المائدة ‪.)48‬‬ ‫ولذلك فهذا الصراع بين القائلين به يؤدي حتما إلى رؤيتين كلتاهما تصدر عن عقيدة‬ ‫الدولة الحاضنة التي تلغي دور الجماعة في أمرها وإدارته بشوراها ‪ -‬كما تحدد ذلك‬ ‫الشورى ‪ - 38‬لتبرر الاستبداد بالأمر والفساد في إدارته وتوظيفه لمصلحة الحكام ومن‬ ‫يواليهم من الناخب الفاسدة دينية كانت أو علمانية‪.‬‬ ‫وبذلك تستحوذ الدولة على الأمر وتصبح أداة مافية مسيطرة على كل شيء وتعزل‬ ‫الجماعة من جميع أدوارها المشروعة‪.‬‬ ‫وبدلا من أن تكون النخب المكلفة بالحكم في الدولة ذا قوامة نيابية تمثل حكم الجماعة‬ ‫لنفسها في جميع أنشطتها التي تقتضي القوامة والتي تقتصر على دور الحكم بمنطق الأمانة‬ ‫والعدل (النساء ‪.)58‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪29‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫تصبح مسيطرة على كل شيء دون استناد إلى إنابة شرعية من الجماعة‪.‬‬ ‫ما الحصيلة في رؤية الاجتهاد الإنساني بعد التجارب التاريخية التي تبينها محاولات‬ ‫الإنسان حسم قضية التربية والحكم اللذين هما بعدا السياسة في كل جماعة أولا؟‬ ‫ثم في رؤية الرسالة الخاتمة؟‬ ‫وما تضمنته من فلسفة دين وفلسفة تاريخ بوصفهما بعدي الفعل السياسي؟‬ ‫ولنبدأ بالرؤية الإسلامية‪.‬‬ ‫فهي تتألف من نقد التجارب السابقة أولا‪.‬‬ ‫وقد لخص القرآن الكريم هذا النقد العارض لتطور علاج قضايا الحكم الإنساني في سورة‬ ‫هود ‪ -‬وهي التي قال فيها الرسول إنها شيبته‪.‬‬ ‫والمعلوم أن الغاية من النقد هي التشخيص الهادف إلى الإصلاح لجعل سياسة الإنسان‬ ‫لعالم الشهادة بوصفه مستعمرا في الأرض ومستخلفا فيها‪.‬‬ ‫والإصلاح يجري في ضوء مقياس مثالي هو سياسة الله لعالم الغيب الذي يتضمن عالم‬ ‫الشهادة وخاصة مبادئه الخفية التي لا نعلم منها إلى ما هو مناسب للاستعمار في الارض‬ ‫والاستخلاف فيها‪.‬‬ ‫وقد شرحت هذا التلخيص الذي يتمثل في ثورتين وما يترتب عليهما‪:‬‬ ‫‪ -1‬الأولى بشر بها نوح وفشلت وهي تحرير الإنسان من استبداد الطبيعة والرمز هو‬ ‫تجاوز الطوفان بالثورة التقنية (بناء السفينة) والزراعية (أخذ الزوجين الاثنين من كل‬ ‫شيء وإعادة انتاجهما بفعل الإنسان)‪.‬‬ ‫‪ -2‬والثانية بشر بها موسى وفشلت وهي تحرير الإنسان من استبداد الدولة بالخروج‬ ‫عليها والتحرر من تأليه الحكام‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪30‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ثم قدم القرآن البديل الذي هو الدين الكوني الجامع بين الثورتين وشروط إنجاحهما‪.‬‬ ‫وتلك هي مهمة الإسلام باعتباره الدين الأخير والذي هو دين التذكير ودون وساطة في‬ ‫التربية ودون وصاية في الحكم (الغاشية ‪.)22-21‬‬ ‫والبديل الكوني يعكس الترتيب بين الثورتين على استبداد الطبيعة واستبداد الدولة‪:‬‬ ‫‪-1‬فالتحرير من الطبيعة لا يتقدم على التحرير من الدولة لأنه ليس صحيحا أن التقدم‬ ‫في السلطان على الطبيعة له حد إذا بلغه تصح نبوءة أرسطو وهو القائل إن العبودية تزول‬ ‫عندما تصبح المغازل تتحرك بذاتها‪.‬‬ ‫ذلك أن حركة المغازل زادت العبودية تعميما فشملت كل البشر الذين صاروا هم بدورهم‬ ‫عبيد النظام الرأسمالي وخاصة في العولمة حتى وإن ادعى تحرير الإنسان‪.‬‬ ‫‪-2‬وإذن فالتحرير من الدولة هو الذي يحرر من العبودية السياسية فينقل التحرر من‬ ‫الطبيعة من استعباد البعض للبعض إلى التعاون على سد الحاجات المتحرر من الجشع الذي‬ ‫لا يقوف العبودية بل يعممها‪.‬‬ ‫وبين نوح وموسى نجد‬ ‫مشكل توزيع الثروة أو مشكل توزيع الثروة الذي ينتج طبقة مسيطرة على بقية‬ ‫الجماعة (هود)‬ ‫ثم مشكل توزيع الماء شرط الحياة الأول (صالح)‬ ‫ثم مشكل تنظيم الجنس شرط الحياة الثاني (لوط)‬ ‫ثم مشكل شروط التبادل الذي يترتب عليه التعاوض العادل (شعيب)‪.‬‬ ‫وكل ذلك مشروط بالوحدانية التي تجعل العبودية لله وحده والتي تجعل الناس سواسية‬ ‫(إبراهيم)‪.‬‬ ‫وذلك هو الحل الذي اختاره محمد‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪31‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وتلك هي علة العودة إلى الإبراهيمية أصلا للتوحيد‬ ‫ولكن بمعنى محمدي أو بمعنى إبراهيمية محدثة تضفي على معنى الوحدانية دلالاتها‬ ‫التحريرية من العبودية مشروعا سياسيا هدفه توحيد البشرية‪.‬‬ ‫فكان الحل في سورة الشورى‪:‬‬ ‫\"والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون\"‪.‬‬ ‫وهذا الحل هو ما سأخصص له الفصل الخامس والأخير من هذه المحاولة مع المقارنة بما‬ ‫انتهى إليه الحل الفلسفي وما ينقصه ليكون في مستوى الحل القرآني الذي هو المشترك‬ ‫الكوني بين الديني الخاتم والفلسفي الخاتم من حيث نظرية المعرفة ونظرية القيمة‪.‬‬ ‫والختم هنا هو تجاوز وهمي المطابقة بين المعرفة وموضوعها (الموجود) وبين القيمة‬ ‫وموضوعها (المنشود) والانتقال إلى تنسبهما بوجود الغيب فينتقل الإنسان من وهم رد‬ ‫الوجود والمنشود إلى إدراكه إلى التسليم بأن معرفته اجتهادية وقيمه جهادية بمعنى أنهما‬ ‫نسبيان لا يؤديان إلى منطقي الصراع الجدلي أو التدافع‪.‬‬ ‫وتلك هي الحصيلة التي اثرت في الرؤية الفلسفية التي قطعت مع القول بالمطابقة في‬ ‫المعرفة بين الوجود وإدراكه وفي القيمة بين المنشود وإدراكه‪ .‬وقد تطورت تبعا لذلك رؤية‬ ‫الفلسفة السياسية في النقد الفلسفي للتجربة الطبيعية وتطبيقاتها السياسية في التاريخ‬ ‫الإنساني والمفاضلة بين الحلول‪.‬‬ ‫فكيف تم نقد التجارب السابقة فلسفيا؟‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪32‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫سأكتفي بالبداية أو الموقف من الديموقراطية عند أفلاطون وأرسطو وبالغاية او الموقف‬ ‫من الديموقراطية عند هيجل وماركس مع الإشارة السريعة إلى علل هذه المفارقات التي‬ ‫ترد إلى تحولات ثقافية للإسلام فيها الدور الرئيس‪.‬‬ ‫فالحضارة اللاتينية المسيحية في القرون الوسطى التي اخذت المشعل التطويري للفكر‬ ‫الإنساني وتطبيقاته انتهت بفضل الصدام مع الحضارة العربية الإسلامية إلى تبني نسخة‬ ‫من الثورتين اللتين أشرت إليهما في كلامي على الإسلام‪.‬‬ ‫وقد غيرت اولاهما كل الحضارة الإنسانية تغييرا جذريا فنقلتها من العصور الوسطى‬ ‫إلى العصور الحديثة وأدخلت على مؤسساتها وفكرها ما كانت الحضارة العربية الإسلامية‬ ‫تتميز به عنها اعني‪:‬‬ ‫‪-1‬التحرر من سلطة الوساطة الروحية في ما يسمى الإصلاح البروتستنتي في الثلث الأول‬ ‫من القرن السادس عشر في ألمانيا (الكنسية)‪.‬‬ ‫‪-2‬التحرر من سلطة الوصاية السياسية في ما يسمى بالإصلاح السياسي في بداية القرن‬ ‫السابع عشر في انجلترا (الحكم بالحق الإلهي)‪.‬‬ ‫ومع ما حصل من تقدم علمي وفلسفي بفضل التراثين الإسلامي واليوناني وانتشار‬ ‫الكتاب بفضل ثورة الطباعة أصبحت الشعوب ذات دور مباشر في المجالين الروحي والسياسي‬ ‫فصارت الاعتراضات الافلاطونية على الديموقراطية غير ذات معنى لأن الشعوب تجاوزت‬ ‫ما كان يقصر العقل على نخبة قليلة بل صار كما يقول ديكارت أكثر الأشياء عدلا في التوزيع‬ ‫بين البشر (حتى وإن قالها بشيء من السخرية)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪33‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وبذلك فالحل الفلسفي الكوني يمكن اعتباره قد اقترب من حل القرآن الكوني في نظرية‬ ‫الدولة والجماعة وخاصة في أداتيهما أي التربية والحكم وهو ما سأخصص له الفصل الخامس‬ ‫والأخير أعني‪:‬‬ ‫‪ -1‬التحرر من سلطة روحية وسيطة هي مجلس أفلاطون الليلي وهذا هو النظير الفلسفي‬ ‫للكنسية الدينية‪.‬‬ ‫‪ -2‬ومن سلطة سياسية وصية هي سلطة الفلاسفة الذي لا يختلف عن الحكم بالحق الإلهي‬ ‫باعتبار الانتخاب الطبيعي بين البشر (العقل والغضب والشهوة)‪ .‬وهذا هو النظير‬ ‫الفلسفي لنظرية الاصطفاء الدينية في الأديان التي تؤمن بالحق الإلهي في الحكم سواء‬ ‫كانت قائلة بالشعب المختار أو بالأسرة المختارة‪.‬‬ ‫سأكتفي بملاحظة مفارقة غريبة أعود إليها في الفصل الخامس والأخير‪.‬‬ ‫إنها مفارقة التعاكس بين البداية والغاية في العلاج الفلسفي لتكوينية الحلول التي‬ ‫تأسست عليها فلسفة السياسة إلى أن وصلت إلى تبني الديموقراطية رغم رفض الدين‬ ‫والفلسفة القديمين في الحضارة اللاتينية المسيحية لها لما تقتضيه من مراجعة جذرية‬ ‫للتربية والحكم‪.‬‬ ‫وقد تجلت هذه المراجعة وما يترتب عليها من مآزق مآل الفكر السياسي والاجتماعي‬ ‫الناتج عن تأثير الماركسية والهيجيلية في الغرب ولكن خاصة في البلاد التابعة لها والتي ما‬ ‫تزال نخبها متخلفة رغم ادعاءها التقدمية والتنوير‪.‬‬ ‫فماركس أفلاطوني في صوغه الحل بمعنى القول بالمطابقة والإطلاق الجدلي وأرسطي في‬ ‫صوغه المشكل بمعنى القول بالمادية والتاريخ الطبيعي في صوغه الحل‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪34‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهيجل أرسطي في صوغه الحل بمعنى أنه يقول بما يشبه التاريخ الطبيعي وهو ما يجهله‬ ‫الماركسيون تصديقا لخرافتهم القائلة إن ماركس قلب الهيجلية فنقلها من المثالية إلى المادية‬ ‫لكأن مثالية هيجل كانت في قطيعة مع المادية إذا علمنا بأنه نفي بصورة قاطعة وجود عالم‬ ‫آخر وراء الدنيا وأفلاطوني في صيغة المشكل لأن قوله بالجدل في المفهومات ليس مختلفا عما‬ ‫يقول به أفلاطون‪.‬‬ ‫لكن ما يجهله سكارى الزبيبة من حداثيي عقاب الزمان هو أن رؤية الفلسفة السياسية‬ ‫إشكالا وحلا في العصر الحديث تدين للنقد القرآني للتجربتين الدينية والسياسية‬ ‫ووقائعهما في التاريخ الإنساني وأنها قد تغيرت بفضل ما حصل بين الحضارتين العربية‬ ‫الإسلامية واللاتينية المسيحية من تفاعلات من يجهلها أو يتجاهلها لا يختلف عمن يجعل أو‬ ‫يتجاهل ما حدث بينهما في مجال المعرفة الفلسفة والعلمية في ما نسميه بالحداثة الحضارية‬ ‫الحالية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪35‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫المسألة الخامسة والأخيرة‪:‬‬ ‫نشرع الآن في الكلام على غاية هذه المحاولة فنعرف نظام الحكم وأسلوبه في الدولة‬ ‫الإسلامية بوصفها دولة كونية تشمل الإنسانية كلها سياسيا ‪ -‬أي تربية دون وساطة وحكما‬ ‫دون وصاية ‪ -‬شمول الرسالة الخاتمة لها دينيا بمعنى التذكير الكوني بمنزلة الإنسان‬ ‫الوجودية باعتباره مستعمرا في الأرض ومستخلفا فيها‪.‬‬ ‫وهو مجهز بما يمكنه من تحقيق هذه المهمة التي تقتضي علاقة عمودية بالعالم الطبيعي‬ ‫بجهاز النظر والعقد ‪ -‬أو شرطي المعرفة ‪ -‬وعلاقة أفقية بالعالم التاريخي بجهاز العمل‬ ‫والشرع ‪ -‬أي شرطي القيمة ‪ -‬من حيث سياسته للشاهد منهما بالقياس إلى ما تذكره به‬ ‫الرسالة من مثل عليا مرسومة في ما فطر عليه‪.‬‬ ‫وهي التي يساس بها الخلق (قوانين الطبيعة) والأمر (سنن الامر) بخيارات من عالم‬ ‫الغيب ليس لنا العلم المحيط بها وهو عالم يشمل العالم الشاهد بوصفه هو ما وراءه الذي‬ ‫جعله يكون على ما هو عليه‪.‬‬ ‫وتحديد هذه العناصر يقبل الرد إلى الآيات التالية الهادفة إلى اثبات أن فلسفة السياسة‬ ‫القرآنية هي التي تعتبر الإنسان ‪ -‬من حيث هو مستعمر في الأرض ومستخلف فيها ‪ -‬هو‬ ‫سائس عالم الشهادة سياسة المجهز لهما تبعا لتكليفه بهما‪.‬‬ ‫والتي تؤمن بمثال أعلى هو الله الذي هو سائس عالم الغيب الشامل لعالم الشهادة بما‬ ‫حدده من قوانين للطبيعة وسنن للتاريخ خارج الإنسان ولما هو طبيعي وتاريخي في كيانه‪.‬‬ ‫وذلك هو معنى الأمانة والتكليف الذي ينطبق حتى لو كان ملحدا وغير مؤمن بالغيب‬ ‫وبوجود الله‪.‬‬ ‫ذلك أنه لا يمكن أن يبقى يوما واحدا من دون أن يرى آيات الله في الآفاق وفي الانفس‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪36‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪-1‬فلا يمكن أن يبقى من دون سد حاجاته العضوية‬ ‫وتلك هي علاقته بالطبيعة لأن ما يسدها به مستمد منها‬ ‫‪-2‬ولا يمكن أن يبقى من دون سد حاجاته الروحية‬ ‫وتلك هي علاقته بالتاريخ لأن ما يسدها به مستمد منه‪.‬‬ ‫‪-3‬وكيانه العضوي جزء من الطبيعة حتى وإن بدا منفصلا عنها‬ ‫لكنه خاضع لقوانينها التي لا سلطان له عليها حتى وإن جهز لكي يكون قادرا على التدخل‬ ‫فيها بالسياسة أي بالتربية والحكم ورعايتها وحمايتها مما يعتدي عليها‪.‬‬ ‫‪-4‬وكيانه الروحي جزء من التاريخ حتى وإن بدا منفصلا عنه‬ ‫لكنه خاضع لسننه التي لا سلطان له عليها حتى وإن جهز لكي يكون قادرا على التدخل‬ ‫فيها بالسياسة أي بالتربية والحكم ورعايته وحمايته مما يعتدي عليه‪.‬‬ ‫‪-5‬وذلك هو معنى كونه رهن العلاقة بين‬ ‫الضرورة الشرطية (قوانين الطبيعة)‬ ‫والحرية الشرطية (سنن التاريخ)‬ ‫بفضل ما جهز به من إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود‬ ‫وهي صفات لأفعاله تجعله خليفة لمستخلف لأفعاله هذه الصفات لكنها مطلقة بخلاف ما له‬ ‫منه‪.‬‬ ‫ويمكن أن أرد هذه الرؤية لفلسفة السياسة‬ ‫بمستواها الإنساني الذي هو معنى كون الإنسان مستعمرا في الأرض ومستخلفا فيها‬ ‫وبمستواها الإلهي الذي هو معنى كون الله مكلفا للإنسان بهذين المهمتين‬ ‫وهما ما يعلمنا به القرآن معتبرا كيف هذا السياسة مجهولا لأنه من الغيب‬ ‫لكنه وظيفة المثال الأعلى المنسوب إليها معلوم لنا بل ومفطور في كياننا‬ ‫لكن نسيانه هو الطاغي بسبب الغرق في هموم الدنيا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪37‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ووظيفة الرسالة الخاتمة تحرير الإنسانية من هذا النسيان دون وساطة روحية ولا وصاية‬ ‫سياسية‪.‬‬ ‫والاستراتيجيا التي تحقق هذه الرؤية هي الإسلام من حيث هو فلسفة تاريخ روحي‬ ‫وسياسي للإنسانية ككل على النحو التالي بالإحالة إلى الآيات التي تحدد منطقها بوصفها‬ ‫مشروع الدولة الإسلامية الكونية‪:‬‬ ‫المبدأ الأول‪:‬‬ ‫تحدد الآية ‪ 58‬من النساء معنى الحَكم‬ ‫وال ُحكم َحكم في الداخل باسم مرجعية الجماعة في الحماية مما يحصل في التعاون والتواصل‬ ‫بمناسبة الرعاية التي هي ثمرة تقسيم العمل في الجماعة‬ ‫وذلك بتفويض منها لقوامة أمر الجماعة وتحت رقابتها المضاعفة أي بمن اختارهم ليكونوا‬ ‫ممثلين للمعارضة وبذاته بوصفه الرأي العام الذي يتابع والذي يقيم ويحاسب إما بين‬ ‫الدورة والدورة أو إن لزم خلالها عند الضرورة إذا حصل خلل في القوامة‪.‬‬ ‫والمؤتمن عليه هو القانون الذي يضبطه العقد الذي يوحد الجماعة‬ ‫والعدل هو تطبيقه بصورة تحمي الحقوق والواجبات بصورة ليس فيها سيطرة للقوي على‬ ‫الضعيف‪.‬‬ ‫المبدأ الثاني‪:‬‬ ‫والآية ‪ 13‬من الحجرات أو مبدأ المساواة بين الناس‪.‬‬ ‫فحتى يتساوى الناس ينبغي ألأ يتفاضلوا إلا بالتقوى أي باحترام القانون (الحجرات‬ ‫‪.)13‬‬ ‫وفي ذلك تعريف للإنسان‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪38‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ -1‬بايولوجيا (من ذكر وأنثى)‬ ‫‪ -2‬ثم انثروبولوجيا (شعوبا وقبائل)‬ ‫‪ -3‬ترد التفاضل الوحيد بينهم إلى علاقة بالمثال الأعلى الذي هو الله ‪4‬‬ ‫‪ -4‬المحدد لهذه المنازل بمثال سياسته لعالم الخلق والأمر‬ ‫‪ -5‬وهذه العلاقة هي عين الخلافة أي احترام ما وضعه من قوانين طبيعية وسنن تاريخية‬ ‫في كيانه وفي العالم الطبيعي والعالم التاريخي‪.‬‬ ‫المبدأ الثالث‪:‬‬ ‫وذلك لأن البشر اخوة (النساء ‪.)1‬‬ ‫وهذه الأخوة لها مستويان يتطابقان إذا تطابق معنى الألوهية مع معنى الربوبية فيتطابق‬ ‫معنى الرحم الجزئي مع معنى الرحم الكلي‪.‬‬ ‫فالآية تتكلم‬ ‫على الربوبية التي هي علاقة كونية لا خيار فيها للإنسان بل هي هو مربوب حتما‬ ‫بخلاف الألوهية التي هي خيار بعد تبين الرشد من الغي‪.‬‬ ‫وهما متطابقان في الإسلام بمعنى أن الله فيه ليس مختلفا عن الرب بل هو هو‪.‬‬ ‫ومن ثم الرحم المقدم في الإسلام هو الرحم الكوني أي الأخوة الإنسانية وليس الرحم‬ ‫الجزئي الذي يناسب الألوهية القومية‪.‬‬ ‫فالدين نوعان‪.‬‬ ‫الدين الذي كان لكل أمة بلسانها‪.‬‬ ‫ثم الديني فيها جميعا وهو الدين الذي جاءت به الرسالة الخاتمة أي ما يحدده القرآن في‬ ‫عملية تصحيح التحريفات وعرض الصورة الفاتحة والخاتمة للديني الذي فطر الإنسان‬ ‫عليه وذلك هو مضمون القرآن الكريم‪.‬‬ ‫والقرآن يتكلم بلسانين‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪39‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫العربية لغة واصفة للسان كوني هو العبارة المشهدية التي تشبه المشاهد المسرحية التي‬ ‫نراها بوصفها أفعالا تواصلية وتبادلية بين الرب والمربوب عامة والمستخلف والخليفة خاصة‬ ‫فتكون العربية من جنس السيناريو الذي يصف المشاهد وليس هو المقصود بل المقصود هو‬ ‫ما يجري في المشاهد‪.‬‬ ‫المبدأ الرابع‪:‬‬ ‫وشرط ذلك ألا يكون في الدين إكراه لأن شرطه الوصول إلى هذا التطابق بفضل تبين‬ ‫الرشد من الغي (البقرة ‪ )256‬المشروط هو بدوره بالتعدد للتسابق في الخيرات (المائدة‬ ‫‪.)48‬‬ ‫فما فطر عليه الإنسان غني عن أكراهه فيه‪.‬‬ ‫يكفي تذكيره بما نسيه ولا حاجة حينئذ أن يكون المذكر مسيطرا‪.‬‬ ‫فلا حاجة للعنف في التربية لأنها تذكير بمعلوم نساه صاحبه وليست إخبارا بمجهول يفرض‬ ‫عليه‪.‬‬ ‫والاستغناء عن الوساطة يؤسس للاستغناء عن الوصاية في الامر بمعنى أن الإنسان عندما‬ ‫يذكر ما نساه يصبح قادرا على القيام بدوره أعني تعمير الأرض بقيم الاستخلاف‪.‬‬ ‫فلا يكون الحاكم عنيفا بل يكون رفيقا به في قوامة نيابية وخدمة للجماعة تتنافى مع‬ ‫الاستبداد والفساد‪.‬‬ ‫المبدأ الخامس‪:‬‬ ‫وبذلك يكون الإنسان محكوما بهذا التبين من الرشد الذي يؤدي إلى اختيار الدين الحق‬ ‫أي الإسلام وهو يرد إلى ما حددته سورة العصر ليكون النظام السياسي الذي يحقق ذلك‬ ‫هو ما تحدده الآية ‪ 38‬من الشورى‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪40‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وبذلك يتبين أن مشكل الثورات هو ما يعوقها في المستويات الخمسة‬ ‫الأربعة الأولى منها فروع عن‬ ‫الخامس الذي هو أصلها جميعا‬ ‫أعني‪:‬‬ ‫‪-1‬أولا نظرية الدولة التي لا بد فيها من مرجعية قيمية هي عين كيان الإنسان الذي‬ ‫وصفنا من حيث هو مكلف بالتعمير والاستخلاف من دون وساطة بينه وبين ربه ولا وصاية‬ ‫بينه وبين أمره أو شأنه الفردي والجمعي خلقيا وسياسيا‪.‬‬ ‫‪-2‬وحينئذ لا يمكن للدول ألا تكون بمعنى القوامة على أمر الجماعة بتكليف منها فيكون‬ ‫القصد بالخلافة خلافة الجماعة في إدارة شأنها نيابة عنها بتكليف منها وليس بمعنى البديل‬ ‫منها‪.‬‬ ‫وذلك هو معنى القوى السياسية في الجماعة‪.‬‬ ‫وهو ما يقتضي رفض الدولة الحاضنة التي لا يتفاضل الناس فيها باحترام القانون بل‬ ‫بالدوس عليه‪.‬‬ ‫ويقتضي ذلك أن تتوافق القوى السياسية على وضع دستور يحدد طبيعة النظام السياسي‬ ‫للحكم المناسب لهذه الوظائف‬ ‫أسلوبه الذي يطبقه النظام السياسي لتكون هذه الوظائف على أحسن الوجوه بحيث لا‬ ‫تفسد معاني الإنسانية وتجعل الجماعة غير تابعة في الرعاية وفي الحماية‪.‬‬ ‫وقد خصصت للدولة الحاضنة عدة بحوث وبينت أنها لا يمكن أن تكون إلا دولة مافية‬ ‫الاستبداد والفساد‪.‬‬ ‫وميزتها عن الدولة العادلة التي تكون دولة الجماعة والتي تمثل قوامتها الذاتية‬ ‫لأنشطتها‪.‬‬ ‫وهذه القوامة الذاتية نشاط من مستوى ثان يكون ذا دورين‪:‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪41‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ -1‬دور وقائي هو معنى الاستراتيجية السياسية القبلية التي تعمل بمنطق سياسة عالم‬ ‫الشهادة بنموذج يبين علاقته بعالم الغيب الذي يحدد المثال الأعلى لسياسته الإلهية‬ ‫تحديدا يناسب ما جهز الإنسان لإدراكه بمعنى حددته فصلت ‪ 53‬عندما تكلمت على الآيات‬ ‫التي يرينها الله في الآفاق وفي الأنفس لنتبين أن ما يخبرنا به القرآن حول هذه العلاقة هو‬ ‫الحق‪.‬‬ ‫‪-2‬ودور حمائي هو معنى الإصلاح الدائم للعمل السياسي الذي هو فرض كفاية يكلف به‬ ‫من يختاره الشعب لمدة حتى يكون قيما على وظائف الدولة بوصفها كما عرفها ابن خلدون‬ ‫باعتبارها \"صورة العمران\" بالحكم والتربية و\"مادته\" التي هي التنمية الاقتصادية والتنمية‬ ‫الثقافية‪.‬‬ ‫وهما وقاية وعلاجا يشبهان ما يترتب على عودة الوعي عند الفرد على نفسه من حيث‬ ‫الكفاءة والخلق لمراقبة ذاته في سلوكه قبليا وبعديا حتى يكون الإنسان أقرب ما يكون‬ ‫للمبادئ التي يؤمن بها‪.‬‬ ‫وبمقتضى هذا الدستور تتكون السلطة الحاكمة‬ ‫والمشرعة ولها وجهان‬ ‫واحد للحكم بالفعل‬ ‫والثاني للحكم بالقوة ووظيفته المراقبة والنقد لممارسة الحكم والتفكير في الحلول البديلة‬ ‫لما يفشل من الحلول‬ ‫لأن المعارضة تمثل الخطة \"ب\" عند فشل الخطة \"أ\" في خيارا الشعب لمن ينوبه في قوامة‬ ‫الأمر بتعيين حر منه خلال الانتخابات ومواصلة المراقبة لأنه قد يتدخل عند الضرورة إذا‬ ‫بلغ الحكم العجز عن علاج ما انخب لأجله فيقيم انتخابات سابقة لأوانها‪.‬‬ ‫ومدار الحكم القوامة على الوظائف العشر التي تقوم بها الدولة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪42‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وهي خمسة للرعاية‬ ‫وخمسة للحماية‬ ‫والحكم بوجهيه له قوامة هذه الوظائف نيابة عن الجماعة‪.‬‬ ‫وظائف الرعاية الخمس‪:‬‬ ‫‪-2‬للتكوين وهما التربية النظامية والتربية الاجتماعية‬ ‫‪-2‬للتموين وهما التموين العضوي أو الاقتصاد والتموين الروحي أو الثقافة‪.‬‬ ‫والخامسة هي البحث والاعلام العلميان مطبقان على الطبيعة والتاريخ وعلاقة الجماعة‬ ‫بهما لسد حاجاتها ولحماية ذاتها شرطا في كل ما تقدم أدوات ومناهج‪.‬‬ ‫وظائف الحماية الخمس‪:‬‬ ‫‪-2‬اثنتان للحماية الداخلية أي القضاء والأمن‬ ‫‪-2‬اثنتان للحماية الخارجية أي الدبلوماسية والدفاع‪.‬‬ ‫الخامسة للاستعلام والاعلام السياسيين وهي شرط العمل على علم بحال الجماعة في‬ ‫الداخل وفي الخارج‪.‬‬ ‫وهي البحث العلمي مطبق على الجماعة وعلاقتها بمن حولها‪.‬‬ ‫والحكم ببعديه الذي بالفعل والذي بالقوة هو المشرف على هذه الوظائف باسم الجماعة‬ ‫التي اختارته لهذه المهمة لأن الحكم فرض كفاية كإدارة لكنه فرض عين كسلطة‬ ‫ديموقراطية تعود إلى الشعب‪.‬‬ ‫والسلطة نوعان‪ :‬تنفيذية وتشريعية‪.‬‬ ‫ما يسمى بالسلطة القضائية ليست سلطة سياسية بل هي من وظائف الدولة مثل الامن‬ ‫والدفاع والدبلوماسية والاستعلام والاعلام‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪43‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وإذا سيس القضاء فسد‪.‬‬ ‫والآية ‪ 38‬من الشورى تحسم الأمر فتحدد‪:‬‬ ‫‪-1‬المرجعية وهي الاستجابة إلى الرب‪.‬‬ ‫‪-2‬والعلامة الصلاة ولا يقصد بها نوعا معينا لأن الامر بتعلق بالربوبية وليس بالالوهية‬ ‫وهي تعني هنا العلاقة بين السياستين سياسة الرب للخلق والامر في عالم الغيب وسياسة‬ ‫الإنسان في عالم الشهادة‪.‬‬ ‫‪-3‬طبيعة النظام وهي \"أمر الجماعة\" أي ' ‪ ' res publica‬أو النظام الجمهوري‪.‬‬ ‫‪-4‬أسلوب الحكم وهو \"شورى بينهم\" أي ' ‪ ' δημοκρατία‬الأسلوب‬ ‫الديموقراطي‪.‬‬ ‫‪-5‬الرهان السياسي الأساسي هو علاج القضية الاقتصادية الاجتماعية \"ومما رزقناهم‬ ‫ينفقون\" لأنه هو الذي يحقق العدل والمساواة بين البشر فلا يكون لهم معبود غير الله‪.‬‬ ‫ذلك أن التفاوت المشط في الرزق هو سر العبودية لغير الله‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪44‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪45‬‬ ‫الأسماء والبيان‬


Like this book? You can publish your book online for free in a few minutes!
Create your own flipbook