أبو يعرب المرزوقي re nils frahm الثورة كيف تصبح مهامها مستحيلة؟ الأسماء والبيان
المحتويات 1 -الفصل الأول 1 - -الفصل الثاني 12 - -الفصل الثالث 19 - -الفصل الرابع 27 - -الفصل الخامس 36 -
-- لو كان ما يجري في الوجود قابلا للرد إلى ما يجري في الوعي به لكانت الأقوال كافية بديلا من الأفعال .وعدم فهم استحالة هذه الكفاية هو الذي يحيل فهم الموقف من الثورات في التاريخ. فشتان بين ثورة يقول صاحبها \"إنما أتيت لأتمم مكارم الأخلاق\" وبين ثورة يقول أصحابها بضرورة محو ما تقدم لأنه كله شر ولا يؤمنون بأن أفضل طرق التغيير الإصلاح وليس تهديم الماضي الموصوف بكونه كله شر بدعوة بناء المستقبل الذي سيكون كله خير في تجاهل تام لما عليه طبائع الأشياء وأخلاق البشر. انطلاقا من هذه الرؤية كان موقفي لما دعيت للمشاركة في العمل السياسي المباشر بعد الثورة إلى ضرورة تحقيق المصالحة في الجماعة قبل المحاسبة لعلتين: -1أولا لأني كنت اعتقد أن وضع تونس يعسر أن ننسب ما آل إليه إلى البعض دون البعض حتى وإن كانت مقادير المسؤولية عنه متفاوتة وكان لا بد من اعتبار الثورة حدثا علينا أن نضع مبدأ جب ما قبلها والشروع من جديد على ألا يشعر الناس بالخوف منها فيصبح الكثير عدوا لها وبدلا من التغيير نسقط في الحرب الاهلية بين ثورة وثورة مضادة وتنسى الغاية من الثورة التي تنقلب إلى تصفية متبادلة. -2وثانيا لأني كنت أعتقد أن تحديد مقادير المسؤوليات ليس الهدف منه الانتقام من ذوي المسؤولية الأكبر بل السعي لجعلهم يتنصلون من الماضي والشروع في مشاركة إيجابية في المستقبل ربما بإخلاص يكفر عما سلف فيصبح صف الثورة أقوى مما كان سيكون لو أن منطق الانتقام منهم يحولهم إلى عوائق كأداء قد يلغي كل إمكانية للإصلاح. وطبعا ليست غايتي اليوم الكلام على فشلي في الاقناع بهذا المنطق ولا حتى بعلل خروجي من المعركة ليس طلبا للراحة بل من اجل البحث في علل هذا لسلوك الإنساني. أبو يعرب المرزوقي 1 الأسماء والبيان
-- وكانت النتيجة التي توصلت إليها هي أن طرفي النزاع كلاهما صار يؤمن بالمنطق الجدلي وانبنائه على مفهوم صراع النقيضين في الواحد المؤدي إلى الحصيلة المؤلفة لواحد يعتبر أسمى من الواحد الأول الذي تم الانطلاق من وجهيه المتناقضين والمتصارعين سواء فهم ذلك بالمعنى الهيجلي أو بالمعنى الماركسي عند من يتصورون أنفسهم حداثيين أو ترجمة هذه الفلسفة عند الإسلاميين بمفهوم \"التدافع\" مدعين أن هذا المفهوم قرآني خلطا بين دفع الله للناس بعضهم ببعض والتدافع الذي هو مشاركة من الدفع بينهم لا دخل لله فيها. ولا أنوي كذلك الكلام في الجدل وشروط التحرر منه بنوعيه الهيجلي والماركسي ولا عن رد الإسلاميين على العلمانيين بنفس المنطق الذي لا يختلف عنه إلا بالتسمية المعربة بالتدافع في الوقائع الذي هو عين التناقض في التصورات عند كلا الفريقين لأني كتبت في ذلك ما أعتبره مغنيا عن مواصلة الكلام فيه. ما اريد البحث فيه اليوم أمور خمسة هي: -1ما مهام الثورة وكيف تغير الثورات تطور الأشياء؟ هل يكون ذلك بما تحدثه من قطائع كما يتوهم الكثير أم هي لا تخرج عن قوانين الطبيعة وسنن التاريخ التي تتمثل في علاج ما يحدث لكيان الجماعة من خلل في أداء وظيفة أو عدة وظائف من شروط العيش السلمي المشترك الذي هو معنى حياة الجماعة والذي عرفه ابن خلدون وجعله عنوان المقدمة أي التعاون لسد الحاجات (العمران البشري) من اجل ألأنس بالعشير (الاجتماع الإنساني)؟ -2أليس من الواجب التمييز بين الثورة السياسية التي ينبغي أن تكون شاملة لكل ما تمتد إليه السياسة من مجالات هي موضوع الفعل السياسي الشامل لكل الشأن الإنساني شمول القوامة عليه التي هي مستوى ثان من نشاط الجماعة من حيث هي مستعمرة في الأرض أبو يعرب المرزوقي 2 الأسماء والبيان
-- ومستخلفة فيها وليس شمول ما يصبح دور الدولة بديلا من أفعال الجماعة التي ترعى ذاتها وتحميها فرض عين لا فرض كفاية بخلاف ما عليه الأمر في رؤية الدولة الحاضنة التي تصبح بديلا من الجماعة فتكون من ثم أصل الاستبداد والفساد؟ -3وكيف تصبح مهام الثورة مستحيلة بمنطق التدافع عند الإسلاميين أو التأصيليين وبمنطق التناقض الجدلي عند العلمانيين أو التحديثيين في ما يمكن القيام به في تونس حاليا؟ فالصراع بين هذين الطرفين على قيادة المهام فيه دعوى مفاضلة كل فريق يدعي أنه أولى بها لأنها بالاستبداد والفساد في الدولة الحاضنة تجعلهم مسيطرين على الرزقين المادي والروحي للإنسان وهو سر الانحطاط. ومن ثم فكلا الطرفين لا يرضى بالجماعة حكما في اختيار الأولى بالقوامة لفترة محددة بل هو يريد أن يفرض نفسه قيما أبد الدهر ويستأصل غيره ولا يكون التغيير إلا بحرب أهلية. -4فمنطق التدافع أو التناقض الجدلي يتنافى تماما مع منطق الديموقراطية التي تعني أن التفاضل نسبي ولا يمكن أن يكون الطرفان فيه خصمين وحكمين في آن إلا إذا أصبح الحكم هو العنف الذي يفيد للسعي لإلغاء الطرفين أحدهما للآخر. ولذلك فهذا الصراع بين القائلين به يؤدي حتما إلى رؤيتين كلتاهما تصدر عن عقيدة الدولة الحاضنة التي تلغي دور الجماعة لانها تنوبها في جميع أدوارها بدلا من الاقتصار على دور القوامة التي تمثل حكم الجماعة لنفسها في جميع أنشطتها التي تقتضي القوامة من التي تقتصر على دور الحكم بمنطق الأمانة والعدل (النساء .)58 أبو يعرب المرزوقي 3 الأسماء والبيان
-- -5والمؤتمن عليه هو القانون الذي يضبطه العقد الذي يوحد الجماعة والعدل هو تطبيقه بصورة تحمي الحقوق والواجبات بصورة ليس فيها سيطرة للقوي على الضعيف حتى يتساوى الناس فلا يتفاضلون إلا بالتقوى أي باحترام القانون (الحجرات )13وذلك لأن البشر اخوة (النساء .)1 وبذلك يتبين أن مشكل الثورات هو ما يعوقها في المستويات الخمسة الأربعة الأولى منها فروع عن الخامس الذي هو أصلها جميعا أعني نظرية الدولة وخيار الدولة القيمة التي يتمثل جوهرها في المعنى الخامس ورفض الدولة الحاضنة التي لا يتفاضل الناس فيها باحترام القانون بل بالدوس عليه. وقد خصصت للدولة الحاضنة عدة بحوث وبينت أنها لا يمكن أن تكون إلا دولة مافية الاستبداد والفساد .وميزتها عن الدولة العادلة التي تكون دولة الجماعة والتي تمثل قوامتها الذاتية لأنشطتها. وهذه القوامة الذاتية نشاط من مستوى ثان يكون ذا دور وقائي هو معنى الاستراتيجية السياسية القبلية ودور حمائي هو معنى الإصلاح الدائم للعمل السياسي الذي هو فرض كفاية يكلف به من يختاره الشعب لمدة حتى يكون قيما على وظائف الدولة بوصفها كما عرفها ابن خلدون \"صورة العمران\" بالحكم والتربية ومادته التي هي التنمية الاقتصادية والتنمية الثقافية وقاية وعلاجا يشبهان ما يترتب على عودة الوعي عند الفرد على نفسه من حيث الكفاءة والخلق لمراقبة ذاته في سلوكه قبليا وبعديا حتى يكون الإنسان أقرب ما يكون للمبادئ التي يؤمن بها. وبعد أن أحصيت القضايا فلأبدأ بعلاجها الواحدة تلو الأخرى. أبو يعرب المرزوقي 4 الأسماء والبيان
-- المسألة الأولى ما مهام الثورة؟ وكيف تغير الثورات تطور الأشياء؟ هل يكون ذلك بما تحدثه من قطائع كما يتوهم الكثير؟ أم هي لا تخرج عن قوانين الطبيعة وسنن التاريخ التي تتمثل في علاج ما يحدث لكيان الجماعة من خلل في أداء وظيفة أو عدة وظائف من شروط العيش السلمي المشترك الذي هو معنى حياة الجماعة والذي عرفه ابن خلدون وجعله عنوان المقدمة أي التعاون لسد الحاجات (العمران البشري) من اجل الأنس بالعشير (الاجتماع الإنساني)؟ والجواب ينفي ان تكون الثورات قطائع سواء تعلقت بميدان محدود أو بأكثر من ميدان وخاصة إذا تعلقت بالميدان الشامل لكل الميادين التي يهتم بها الإنسان من حيث هو مريد للتغيير في حياته عامة. وشرط الإمكان هذا مضاعف: -1لا بد من انسداد فعلي في المجال الذي يمثل الإشكال فيه علة ضرورية لبداية التفكير الجدي في التغيير وهو ما يعني أن الوضعية \"الموضوعية\" التي تمثل الانسداد هي العامل الأول بمعنى أن ما في الأعيان هو الدافع إلى ما ينبغي أن يمر بمراحل في الأذهان حتى يعود إلى الأعيان ليتحول إلى عمل. -2وبذلك يقع تحول في النفوس -حتى يغيروا ما بأنفسهم -وتلك هي بداية الانتقال من الشرط الضروري إلى الشرط الكافي. أبو يعرب المرزوقي 5 الأسماء والبيان
-- وهو الانتقال من مرحلة الرفض بالقلب إلى مرحلة الرفض باللسان إلى مرحلة الرفض باليد أي بالافعال بدلا بعد الشعور واللسان. وميكانيسم الانتقال من الشعور إلى القول إلى الفعل هو الذي أسميه الشرط الضروري والكافي. وهذا الميكانيسم شديد التعقيد وهو ما أخصص له هذا الفصل وبه تتبين الحقيقة القرآنية التي تقول إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وتغيير ما بالانفس هو الشرط الكافي لتحقيق التغيير ما بهم وكلاهما له إيقاع لا يمكن تغييره لأنه متناسب مع طبيعة الشرط الضروري أو الوضعية في الأعيان المحركة للأذهان. وطبيعة الشرط الكافي أو الوضعية في الأذهان هي المحركة للأعيان. وإذن فنحن أمام نقلتين من الشعور إلى القول ومن القول إلى الفعل. فالنقلة من الشعور (الموقف من الوضعية المنطلق من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فطرة عند الإنسان من حيث هو إنسان حتى لو كان هو فاعل المنكر -دور القلب) إلى القول لا يحصل دفعة واحدة بل هو يمر أولا بالعبارة البدنية المصاحبة للشعور .وهي أول خطوة للانتقال من الباطن إلى الظاهر في السلوك. وبذلك يحصل التواصل بالإشارة دون العبارة بين الشاعرين بنفس الشعور أو بالشعور المماثل من الشيء الذي ولد الشعور القلبي الناكر للمنكر خاصة أو المستحسن للمعروف. ولولا ذلك لاستحال أن تنطلق الألسن المعبرة عن الإنكار أو الاستحسان. فيكون ما حصل في هذه النقلة أمران: العبارة القلبية صارت ذات حضور في الأعيان فانتقلنا من الذاتي إلى المشترك الإشاري بين الذوات من خلال العبارة البدنية التي تصحب الشعور الباطني في القلب. تتكون بالتدريج الجماعة التي تشرع في التصدي للمنكر بالأقوال التي هي مرحلة التواصل العلني بينهم بعد أن يكونوا قد اطمأنوا لوحدة الموقف منه من خلال التعبير عن الاستنكار او الاستحسان. أبو يعرب المرزوقي 6 الأسماء والبيان
-- بمعنى أن الاقوال يكون دورها مضاعفا: تقييم أفعال وتصنيف أصحاب المواقف أو إن شئنا الاصطفاف إلى خمسة صفوف: -1من مع المستنكر عليهم فعلهم الذي يعتبر علة الوضعية. -2من مع المستحسن منهم فعلهم الذي قد يكون من المصلحين لها. -3المتردد مع ميل إلى الصف الأول لاستمرار ترجيح المصلحة الخاصة على المصلحة العامة. -4المتردد مع ميل إلى الصف الثاني للشروع في ترجيح المصلحة العامة على المصلحة الخاصة. -5اللامبالي بغير الاستفادة من الوضعية ولا يهمه من أين تأتي مصلحته فيها. لكن ذلك لا يكفي إذ لا بد من النقلة الثانية من جماعة التصدي بالقلب والأقوال إلى جماعة التصدي بالأقوال والأفعال. وإذا كان الوصل بين الذاتي والمشترك بين الذوات هو العبارة البدنية المصاحبة للشعور القلبي فإن الوصل بين الأقوال في الجماعة ينبغي أن يمر كذلك من الذاتي الفردي إلى ما بين الذاوات الجمعي. وإذا كانت العبارة البدنية التي تصحب ما في القلوب تحتاج إلى ما يمكن أن نسميه الاقدر على التعبير البدني أو إن صح التعبير الممثل الصامت فإن العبارة القولية لن تصبح مؤثرة إلا بما يشبه الحالة السابقة أي المعبر البليغ. والبلاغة بالنسبة إلى في ما العبارة شبيهة إلى الإشارة بالنسبة إلى ما في القلوب. وإذن فهناك احتجنا إلى الممثل الصامت وهنا نحتاج إلى المتكلم الممثل أو الخطيب. أبو يعرب المرزوقي 7 الأسماء والبيان
-- فالخطيب هو الذي يجعل النقلة من الأقوال إلى الأفعال بتكون الجماعة الفاعلة هو الجسر الواصل بين الاقوال والافعال مثله مثل الممثل الصامت الذي هو الجسر الواصل بين القلبي في الأذهان والقلبي في الأبدان. ومثلما أن الامر كله يدور بين الأذهان والأبدان في التعبير عن المواقف فإن دوافع المواقف في الوضعيات الموضوعية التي تحددها هي بدروها إما متعلقة بالابدان وبالاعيان بتقديم وتأخير أعني أنها إما وضعيات اقتصادية وثقافية تمس الأبدان أو وضعيات ثقافية واقتصادية تمس الأذهان والأبدان. وما يتعلق بالأبدان والأذهان مباشرة هو المائدة والسرير وما يتعلق بهما بصورة غير مباشرة هو فن المائدة وفن السرير. لذلك فالمسافة المرنة أو مسافة المسامحة \"التوليرانس\" للوضعيات هي هذه المسافة بين المائدة والسرير وبين فنيهما. فقد يصبر الإنسان على المس بالفنين وخاصة عامة الشعب لكن المس بالمائدة والسرير لا يكاد يقبل المس بهما بصورة تصل إلى حد الحرمان من شروط العيش المطمئن. ولذلك فالاقتصادي متقدم على الثقافي في التحرك الثوري عند الطبقات الدنيا والعكس عند الطبقات العليا رغم أن توظيف الدين قد يعكس فيجعل المس بالقيم الدينية مقدما على القيم الاقتصادية إلا إذا وصل الامر إلى الحرمان المطلق والمجاعة الغذائية والجنسية. ولهذه العلة فالثورات لا ينبغي أن ترد الى الدوافع المادية باستثناء الروحية أو الروحية باستثناء المادية بل هي ترد إلى نسبة ما بين العاملين ومن يريد أن يعير الدورين فلا بد أن يدرس تراث الجماعة في المائدة والسرير وفنيهما لأن ذلك هو المحدد النهائي في كل الثورات إذا كانت عامة أي سياسية. أبو يعرب المرزوقي 8 الأسماء والبيان
-- وكل ثورة في مجال معين تعتمد على ما في ذلك الميدان من حدود لدوافع التغيير بنفس تلك المستويات أي من القلب إلى اللسان إلى اليد أو من الشعور إلى القول إلى الفعل. ولعل أفضل مثال هو الثورات العلمية وتطبيقاتها. فمن حيث وجودها في الأذهان هي ثورة في المفهومات .ومن حيث هي في الأعيان هي في تأثير المفهومات في الموجودات بوصفها علما للموجودات في تطبيق المفهومات العلمية على شروط المائدة والسرير خاصة بالنسبة إلى الطبقات الدنيا في الجماعة وعلى شروط فن المائدة وفن السرير بالنسبة إلى الطبقات العليا في الجماعة. لكنه لا يتحول إلى أفعال حقيقية إلا إذا تجلى أثره في الثورة العامة أي في الثورة السياسية. وهو ما يعني أن الثورة السياسية مشروطة بثورة في الثقافة العملية والقيمية الروحية (الثقافة او شروط الفنين التابعين للمائدة والسرير) وفي الثقافة الاجتماعية والقيم المادية (الاقتصاد أو شروط المائدة والسرير). وطبعا فشروط كرامة الإنسان تابعة للثورة في الثقافة وتطبيقاتها التقنية في ثقافة الجماعة وشروط الحرية تابعة للثورة في العلم وتطبيقاته التقنية في اقتصاد الجماعة. وإذا كانت هذه قوانين التغيير وسننه فإن الثورة لا تمثل قطيعة في تاريخ الأمم إلا لغياب العلم بها ومن ثم فكل لجوء إلى العنف للتسريع في التغيير يؤخره ولا يقدمه لأن كل مرحلة من مراحل أي تاريخ تعتمد على أبعاده الخمسة التي لا يمكن من دون فهم دورها أن نفهم منطق التغيير الذي لا يكون إلا إصلاحيا حتى لما يجري في مناخ ثورة عارمة يغلب عليها العنف والحرب الاهلية. فالتاريخ الإنساني بخلاف التاريخ الطبيعي مخمس الأبعاد وهو أمر اثبته منذ أكثر من عقدين في الكتاب المشترك بين المرحوم طيب التيزيني وبيني حول الفلسفة العربية .فقد أبو يعرب المرزوقي 9 الأسماء والبيان
-- بينت أن الماضي مضاعف لأنه أحداث سابقة وحديث لاحق وأن المستقبل مضاعف لأنه أحاديث سابقة وأحداث لاحقة .والحاضر لا يوجد بين الماضي والمستقبل بل هو قبل الماضي وبعد المستقبل لأنه محيط بهما فهو قبل الحدث الماضي بوصفه حديثه وبعد حدث المستقبل لأنه حديثه .فيكون الحاضر مجال الحديث المحيط بالأحداث ماضيها ومستقبلها وهو من ثم المرحلة الوسطى بين ما في الأذهان وما في الأعيان دائما أو هو النوعين من الآليات التي تكلمنا علينا والتي تنقل من المشاعر إلى الأقوال ومن الأقوال إلى الأفعال في كل الحضارات وليس عندنا فحسب. وكل هذه المعطيات هي التي جعلتني أحاول اقناع من عملت معهم في تجربتي الأولى لتحمل مسؤولية سياسية مباشرة بأن أفضل طريقة لتيسير نجاح الثورة وجعلها سلمية وتجنب العنف إلا ما كان منه ضروريا وبالعنف الشرعي إما للدفاع عن القانون أو عن الذات هي طريقة الرسول الخاتم :قلب الصفحة بمنطق العفو عند المقدرة. لذلك اقترحت تقديم المصالحة على المحاسبة. فالمحاسبة إذا تقدمت تكثر من الأعداء لأن الجميع يشعر أنه متهم خاصة وأن الرؤوس التي هي متهمة فعلا تخوفهم بأن البداية هي بهم لكنها ستمتد للجميع. أما المصالحة فهي ستفرز المذنبين في حق الوطن والمواطن فتطمئن الناس ويصبح من هو مع الثورة أو على الأقل ليس معاديا ممثلا للأغلبية. ولما تبين لي أن ذلك ليس في متناول العقول التي سيطرت عليها الإيديولوجيا في الصفين المتنافيين بمنطق الصراع الجدلي أو بمنطق التدافع فإنها من جنس ما نسمعه الآن من ذهاب الأولين حتى لمحاسبة الرسول بنقد متخلف لا يعبر عن علم بل عن بلادة ذهنية وذهاب الثانين إلى فتح معركة مع الاموات مثل نقد بورقيبة وتجريمه وهو حمق سياسي لأن ذلك كان ولا يزال أنجع طريقة لإحيائه وجعله قائدا لصف فقد الشرعية فاضفى عليهم البلداء شرعية لا أحد يمكن أن ينكرها على بورقيبة على الأقل في عيون معاصريه. أبو يعرب المرزوقي 10 الأسماء والبيان
-- وهذا الحمقان قد يعيدان تونس إلى -أو على يحولان دونها و -تجاوز صراعات الماضي الثقافية السياسية الصراعات التي حولت النخبة السياسية والثقافية إلى مجرد دونكيشوات يحاربون نواعير الماضي الذاتي أو الماضي الأجنبي للتغطية على جرائم المافيات التي تمول حزيباتهم التي يغلب عليها طابع العسكر المكسيكي حيث إنها مؤلفة من جنرالات دون جنود. وكلما التفت إلى شعورهم وكلامهم وأفعالهم لم يبرز منهم إلى منطق الديكة التي تتلذذ بعناد المراهقين الذين لا يصلحون حتى لإدارة اسرهم ناهيك على الوطن. أبو يعرب المرزوقي 11 الأسماء والبيان
-- نمر الآن إلى المشكل الثاني في الكلام على مهام الثورة وشروط تحقيقها وعلل الفشل في تحقيقها وهي علل قد تصل إلى جعلها مستحيلة التحقيق .وسيكون كلامنا نوعا من البحث في تكوينية الحوائل دون التعامل مع السياسة تعاملا يجعلها اجتهادية لا تقول بالمطابقة المعرفية ولا بالمطابقة القيمية اللتين تؤديان إلى المواقف المتعصبة الحائلة دون التواصل السوي بين القوى السياسية. ما يعنينا هو فهم الرؤية التي تكتفي بما هو ممكن للاجتهاد الإنساني من الاقتراب من الحقيقة المعرفية والقيمية دون رد الموجود إلى الإدراك المعرفي ورد المنشود إلى الإدراك القيمي للتحرر مما سماه ابن خلدون حب التأله عند الإنسان .وهو يعتبره سر الاستبداد والطغيان وما يصحبهما من فساد وظلم للعباد يلغي معاني الإنسانية وقد يقضي على الأمم إذا سيطر على بعدي السياسة أي التربية والحكم: -1أليس من الواجب التمييز بين الثورة السياسية التي ينبغي أن تكون شاملة مع النسبية المعرفية والقيمية لكل ما تمتد إليه السياسة من مجالات هي موضوع الفعل السياسي الشامل لكل الشأن الإنساني؟ -2وما طبيعة هذا الشمول الذي يمكن أن نسميه شمول القوامة على أمر الجماعة وليس القيام به بدلا منها وهي إذن مستوى ثان من نشاط جماعة الأحرار التي تعود على نفسها وقائيا وعلاجيا لتجويد رؤيتها وتحقيقها لما يترتب عليها في العناية برعاية ذاتها وحمايتها؟ -3وهل يمكن رد هذا النشاط إلى ما ينتج عن مرجعية الجماعة الفلسفية والدينية وما يترتب على كون الجماعة مؤلفة من الأفراد الذين عرفهم القرآن بوصفهم مستعمرين في الأرض ومستخلفين فيها باعتبارهم مكلفين ومسؤولين عن أفعالهم بشرطيها المعرفي والقيمي؟ أبو يعرب المرزوقي 12 الأسماء والبيان
-- -4و هل دور الدولة بديل من دور الجماعة أم إن الجماعة هي التي عليها أن ترعى ذاتها وتحميها فرض عين لا فرض كفاية دون أن يتنافى الأمران لأن مستوى الأول هو الأصل والثاني هو الفرع بتوسط الإنابة المشروطة؟ -5أم هل ما عليه الأمر حاليا في رؤية الدولة الحاضنة التي تسيطر على الجماعة والفرد هو حقيقة دورها والمعنى الفلسفي والديني للسياسي فتصبح الثورة ساعية لتثبيت أصل الاستبداد والفساد؟ ولما كان الرهان في الثورة هو طلب التحرر من الاستبداد والفساد والسعي لتحقيق شروط الحرية والكرامة التي هي مجال العمل السياسي شرطها السياسي والرؤية التي تؤسسه فإن الإشكالية كلها تصبح خيارا بين علاجين نصوغهما في سؤالين حول تعريف بعدي السياسي أي الحكم الذي يتعلق بالوازع الأجنبي بلغة ابن خلدون أي حكم القانون في الجماعة والتربية التي تتعلق بالوازع الذاتي بنفس اللغة أي حكم الأخلاق في الجماعة. و ننطلق من التسليم -في شكل فرضية العمل -بأن رؤية ابن خلدون آخر ترجمة فلسفية للرؤية الإسلامية كما يقرأها باعتباره فيلسوف اجتماعي وتاريخي ذا رؤية \"أشعرية-سلفية\" يقول بها : -1هل المربي وسيط بين الإنسان وربه روحيا فيكون عبدا للوسيط الذي يمثل سلطة روحية كنسية بالمعنى الديني أو سلطة مادية حزبية بالمعنى العلماني سواء كانت الرؤية فاشية يسارية (الماركسية) أو فاشية يمينية (القومية) أم \"إنما هو مذكر \" (الغاشية )21؟ -2وهل الحاكم وصي بين الإنسان وشأنه سياسيا فتكون الجماعة عبيدا للحاكم روحيا وسياسيا الذي لا يستمد شرعيته من إرادتها؟ أم هو مجرد قيم بالإنابة الحرة في إدارة أبو يعرب المرزوقي 13 الأسماء والبيان
-- الرعاية والحماية اللتين هما مهمتا الفرد وجماعة المؤمنين بالقيم التي تعتبر مرجعيتهم الروحية المؤسسة لنظامهم السياسي \"ليس عليهم بمسيطر\" (الغاشية )22؟ غالب هذه الأسئلة عالجتها في محاولات سابقة باعتبارها قضايا تجمع بين البحث النظري في محددات فلسفة التاريخ والسياسة التي يتطابق فيها الفلسفي والديني بمنظور القرآن الذي يتضمن الوجهين لكونه ديوان الرسالة الخاتمة التي هي كونية وهي رسالة كونية ذات بعدين: -1هي مراجعة بمنهج التصديق والهيمنة للمسار التاريخي للرسالات الدينية في علاقتها بمسار السياسات الإنسانية التي هي تطبيق للمرجعيات الدينية بوصفها مرجعيات تتأسس عليها السياسة أي التربية والحكم بعدي السياسي من حيث هو سياسة عالم الشهادة المقيسة على سياسة عالم الغيب الشامل لعالم الشهادة في نسبة الممثول للمثال. -2وهي تشخيص للأدواء التي جعلت \"التحريف الروحي -فعل من بيدهم سلطة الدين -والجاهلية المادية -فعل من بيدهم سلطة الدولة \"-تحولان دون نجاح الرسالات السابقة في تحقيق ما هدفت اليه باعتبارها قيسا لسياسة الإنسان لعالم الشهادة على سياسة الله لعالم الغيب بلغة تمكن من القياس دون المطابقة في الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود لأن هذه الصفات لأفعال الله مطلقة ليس كمثلها شيء ونظائرها لأفعال الإنسان نسبية. والمنظور الذي أعمل به يفترض أن الديني والفلسفي إذا ادعيا الكونية فهما متطابقان في المعاني الكلية المشتركة معرفيا وقيما وهو ما حاولت بيانه في ما أطلقت عليه اسم المعادلة الوجودية التي هي بنية القرآن وبنية كيان الإنسان في آن: -1فالإنسان في القرآن له علاقة مباشرة مع ربه (سواء اعتقد ذلك صراحة أوضمنا حتى في حالة الإلحاد) .وهي علاقة بين سياستين: أبو يعرب المرزوقي 14 الأسماء والبيان
-- * الأولى هي سياسة المستخلف لعالم الخلق والأمر الذي يشمل عالم الغيب لأن صفات أفعاله مطلقة إرادة وقدرة وحياة ووجودا وعالم الشهادة. *والثانية هي سياسة الخليفة التي تقتصر على سياسة عالم الشهادة في حدود ما يدركه من قوانين الوجه الطبيعي وسنن الوجه التاريخي منه بقدر الاستطاعة لأن صفات أفعاله محدودة إرادة وعلما وقدرة وحياة ووجودا. -2وهذه العلاقة تتعين أولا في علاقته بمحيطه الطبيعي الذي يستمد منه شروط قيامه العضوي خاصة وذلك بفضل ما جهز به من تلك الصفات التي تجعله قادرا على استمداد شروط بقائه منها. -3وذلك يجعله يرى العلاقة بينها وبين من ينسب إليه خلقها أي موجدها وواضع قوانينها وقوانين علاقة الإنسان بها – حتى لو كان ملحدا ويعتد أن ذلك كله من صدف الطبيعة والتاريخ -علاقة عليه البحث عنها بعقله وبحواسه .والقرآن يعتبرها قد خلقت بقدر (رياضيات معرفة عقلية) لكن وجودها في الأعيان (تجريبيات معرفة حسية) تظهر فيه مقادير المعاني الرياضية التي تحكمها (التجربة الطبيعية) .وتلك هي علاقته غير المباشرة بربه بتوسط الطبيعة التي يستمد منها رزقه العضوي. -4لكن هذه العلاقة بعالم الطبيعة هي بدورها مشروطة بوجود الجماعة التي تتعاون على علاجها .فاستمداد شروط الحياة العضوية لا بد فيه من تحقيق شرطين لا يمكن للفرد أن يحققها بمفرده: *الرعاية وهو فيها بحاجة على الأقل للأسرة الخلوية. * -والحماية وهو يحتاج فيها على الأقل للأسرة الموسعة. كما أن التعامل مع الطبيعة على علم يقتضي أن تتراكم التجربة والخبرة على الأقل للتمييز بين المفيد والضار من الغذاء والماء والهواء إلخ ...والرعاية تعني أن العلاقة بالطبيعة هي مصدر الثروة والعلاقة بالتاريخ هي مصدر التراث وكلاهما شرط قيام الإنسان وبقائه .وكلاهما ثمرة التراكم في حصيلة العمل والنظر .والحماية تقتضي التمييز أبو يعرب المرزوقي 15 الأسماء والبيان
-- بين الأصدقاء والأعداء وهي كذلك من شروط البقاء في العالم بقاء الثروة والتراث وبقاء الإنسان نفسه .وهذا هو مجال السياسة الشارط للمجال الأول ولذاته وهو شارط للانتاج المادي أو الاقتصاد وللمجال الثاني الذي هو الإنتاج الرمزي أو الثقافة. -5وحينها يدرك أن للتاريخ كذلك ما وراء آخر متعلقا بالأمر بعد الخلق وهو عالم السنن التاريخية التي لا تتبدل ولا تتغير .لكنها تختلف عن القوانين لأنها هي مجال الحرية التي يمكن للإنسان أن: * يحترمها فيعمل بها. *-أو الا يحترمها فيعمل بنقيضها. وهذا هو معنى حر كإنسان مسؤول ومأمور كخليفة مكلف. فهو مأمور باحترامها ويجازى عليه إيجابا .وهو منهي عن عدم احترامها ويجازى عليه سلبا. وهذا هو معنى أنه خليفة حر أي إنه محكوم بهذه السنن دون أن يكون مضطرا .فتكون هي الأمانة لأنه مستأمن ككل خليفة على ما استخلف فيه :علاقة بين سلطتين سياسيتين. فالاستخلاف حتى من حيث هو علاقة بين الإنسان وربه منزلة وجودية لكنها كذلك منزلة ذات طبيعة سياسية. عندما كتبت في باريس سنة 1972البحث المكمل للإجازة التي حصلت عليها من الجامعة التونسية ودار المعلمين العليا سنة 1969حول \"مفهوم السببية عند الغزالي\" بينت أن الرؤية القرآنية بخلاف الرؤية التي ورثها فلاسفة الإسلام من الفلسفة اليونانية تقدم الإرادة على العقل لأن العلاقة بين الإنسان وربه علاقة بين إرادتين حرتين رغم أن واحدة منهما مستخلفة للثانية والثانية خليفة للأولى .وهي إذن منزلة سياسية ذات بعد وجودي ولذلك فهي بالجوهر علاقة خلقية بين حريتين وليس بين ضرورتين. أبو يعرب المرزوقي 16 الأسماء والبيان
-- لذلك رفض الغزالي للضرورة السببية غايته بيان هذه العلاقة بين الحرية الإلهية التي هي خلق حر وليست فعلا طبيعيا مضطرا بخلاف ما يمكن وصف المفعول به وبين الحرية الإنسانية التي هي ليست فعلا طبيعيا مضطرا بخلاف ما يمكن وصف المفعول به. فالفعلان حران رغم ما نراه من المفعولين من انتظام قد يجعلنا نظنهما مضطرين بنظام ثابت لا يتغير .ولا يمكن أن نوفق بين الرؤتين للفعل وللمفعول من دون اعتبار حكما في الثاني ناتجا عن عاداتنا المعرفية والقيمية والتخلي عن إطلاقه باعتباره شرطا في الفعلين ولا حتى في المفعولين. وهذا هو الموقف الذي رفضه ابن رشد في تهافت التهافت .وهو رفض يبين أمرين كلاهما يدل على السذاجة الفلسفية والعلمية فضلا عن التناقض مع أهم مفهوم ديني ذي صلة بالمسألة أعني مفهوم الغيب الذي هو غير الغائب .فالغيب لا يقبل القيس مع الشهادة بخلاف الغائب لأنه هذا من المعلوم الممكن حتى لو لم يكن حاصلا وذاك من المحجوب باطلاق ولا يعلمه حتى الرسل لأن شرطه الأحاطة وهي لله وحده. ولما كان هذا القيس هو مصدر علم الكلام الفلسفي في الإلهيات فإن كل المشكل عند الغزالي هو بيان استحالة أن يكون الكلام الفلسفي في الإلهيات علميا وأنه رجم بالغيب. ولذلك فهو قد بدأ التهافت بالتمييز بين الميتافيزيقا التي ينفي عنها العلمية معتبرا أشباه الفلاسفة هم من يتصورها علمية مثل الرياضيات والمنطق .واعتبر الطبيعيات بينهما معتبرا بناءها على الميتافيزيقا ليس ضروريا إذ يكفي فيها الرياضيات والتجربة لأن الضرورة المنطقية في العبارة العلمية لا تعني بالضرورة أن الضرورة الوجودية في موضوعها أمرا حاصلا بل يكفي افتراضها دون إطلاق. أبو يعرب المرزوقي 17 الأسماء والبيان
-- ومن ثم فلا حل إلا بالتخلي عن القول: -1المطابقة بين علمنا والوجود لنسبية الأول وإطلاق الثاني. -2وبالمطابقة بين تقييمنا وقيم الوجود لنفس العلة. وعدم المطابقة في نظرية المعرفة وفي نظرية القيمة فلسفيا شرط لفهم الرؤية القرآنية للمعرفة وللقيمة وهما شرط في سياسة الإنسان لعالم الشهادة سياسة اجتهادية في النظر وجهادية في العمل ولا يمكن أن تدعي العلم المطلق أو العمل المطلق. أبو يعرب المرزوقي 18 الأسماء والبيان
-- المسالة الثالثة: كيف تصبح مهام الثورة مستحيلة بمنطق التناقض الجدلي عند العلمانيين أو التحديثيين وبمنطق التدافع عند الإسلاميين أو التأصيليين؟ وكيف نفهم ما يحدث في تونس في كامل تاريخها منذ الاستقلال وخاصة بعد الثورة وماذا يمكن القيام به لإخراج تونس من مآزقها؟ فالصراع بين هذين الطرفين على قيادة المهام فيه دعوى مفاضلة كل فريق يدعي أنه أولى بها لأنها بالاستبداد والفساد في الدولة الحاضنة تجعلهم مسيطرين على الرزقين المادي والروحي للإنسان وهو سر الانحطاط. ومن ثم فكلا الطرفين لا يرضى بالجماعة حكما في اختيار الأولى بالقوامة لفترة محددة بل هو يريد أن يفرض نفسه قيما أبد الدهر ويستأصل غيره ولا يكون التغيير إلا بحرب أهلية. سأنطلق من الموقف الخلدوني الذي عاد إلى أشعرية المدرسة الأولى التي يمثلها هو والتي تجمع بين قطع الأشعرية مع الإعتزال في القيم والحنبلية قبل ذلك معها في العلم .لذلك فهو قد رفض أشعرية المدرسة الأخيرة التي يمثلها الرازي -والمعلوم أن أول ما كتب ابن خلدون وهو شاب كان تلخيصا لفكر الرازي في المحصل -وأثبت فيه عبقرية فريدة بحيث إن رفضه له في المقدمة دليل على فهم القضية الفلسفية التي ردها كلها: -1في الفلسفة النظرية إلى الوهم الذي أنتج إشكالية نظرية المعرفة لدى الفلاسفة وسماه وهم رد الوجود إلى الإدراك. أبو يعرب المرزوقي 19 الأسماء والبيان
-- -2وفي الفلسفة العملية إلى الوهم الذي أنتج إشكالية نظرية القيمة لديهم وسماه اعتبار السياسة خاضعة لمبدأ عدم التناقض والثالث المرفوع بدلا من الاجتهاد الذي يؤدي إلى التعدد وعدم التأثيم. وبذلك فهو يقابل بين رؤيتين للسياسة: *السنية التي تقول بالاختيار وبعدم اعتبار الاجتهاد السياسي والحكم من العقائد بل هي من اجتهاد الجماعة لرعاية المصالح العامة .وهو يرى رأي الغزالي وابن تيمية في ذلك. *الشيعية والفلسفية -راي ابن سينا -التي تقول بالوصية وباعتبار السياسة علما مطلقا والحكم جزء من العقيدة سواء كان من الأديان المنزلة أو من الملة الفلسفية بلغة الفارابي. ولا يزال الأمر على ما كان عليه عند الثيوقراطي عامة والشيعي خاصة وعند الانثروبوقراطي سواء كان ماركسيا أو ثيوقراطيا لاعتقاد الماركسيين والثيوقراطيين أن علمهم بالحقيقة علم مطلق وأن ورؤيتهم للسياسة رؤية علمية وليست اجتهادات شديدة النسبية. ومن ثم فهما قابلان للاشتراك في تصور الدولة ذات سلطة وسيطة بين الإنسان والمرجعية وذات سلطة وصية على الجماعة بينها وبين شأنها الفكري والسياسي. إنهما المصدر الديني والعلماني للاستبداد والفساد في التربية وفي الحكم المفروضين على العباد بسبب رؤية في نظرية المعرفة وفي نظرية القيمة تقول بالمطابقة التي تقتضي أن يكون الوجود مطلق الشفافية والإدراك المعرفي والقيمي مطلق النفاذ سواء كان بما يسمى العرفاني عند الاول أو العقلاني عند الثاني. أبو يعرب المرزوقي 20 الأسماء والبيان
-- ولا أعجب إذا تحالف الماركسي والشيعي حديثا والشيعي والقرمطي وسيطا. فالثيوقراطي يؤمن بالوساطة الروحية في التربية الكنسية والانثروبوقراطي يؤمن بالوساطة المادية في التربية الحزبية. والأول يؤمن بالوصاية في الحكم باسم الله في التشيع المؤمن بعصمة الإمام ومن ينوبه في الطائفة والدولة والثاني يؤمن بالوصاية في الحكم باسم الإنسان في الماركسية المؤمنة بعصمة ماركس ومن ينوبه في الحزب والدولة. والوساطة في التربية والوصاية في الحكم سواء كانتا مؤمنتين أو ملحدتين هما أصل العنف اللطيف في التربية والعنف الخشن في الحكم وكلاهما يعتبرهما ابن خلدون علة فساد معاني الإنسانية. وقد يقال إن ابن خلدون لا يمكن أن يكون داريا بالمقابلة بين الإيماني والإلحادي أو بين الديني والعلماني. وهو كلام مصيب إذا اقتصرنا على الأسماء والمصطلحات. لكن إذا عوضناهما بما كان يؤدي نفس الوظائف أي بالديني واللاديني يعني وعي الإلهيات الفلسفية عنده (انظر نص إبطال الفلسفة) صح ما قلناه بدليل ما رد به على ابن سينا في إشاراته الصوفية القائل في بضرورة العصمة في المعرفة و في القيم لتأسيس الدول والتشريع. فكيف حصل ذلك؟ وما الموقف الذي يمكن أن نعتبره ممثلا للرؤية القرآنية والتي كان دستور الرسول محاولة أولى للتعبير عنها في حالة تاريخية قابلة للتقييم بالمنظور الذي حاول ابن خلدون التعبير أبو يعرب المرزوقي 21 الأسماء والبيان
-- عنه بنظرية عدم التأثيم في الاجتهاد السياسي لقلب صفحة الفتنة الكبرى التي تتكرر الآن ومعها الفتنة الصغرى وهي محاولة خلدونية عرضناها سابقا وردت في فصل ولاية العهد من الباب الثالث من المقدمة؟ إذا علمنا أن محاولة ابن خلدون التي قدمنا بها لهذا الفصل الثالث كانت غاية تطور علم الكلام الأشعري فإنه علينا أن ندرك أن فهم القضية الثانية في مأزق نظرية القيمة ليس كافيا ولا بد من فهم القضية الأولى في مأزق نظرية المعرفة التي بقيت مؤجلة إلى أن حسمها ابن تيمية وابن خلدون. فالاشعري فهم القضية الثانية المتعلقة بالقيم من خلال موقفه من التحسين والتقبيح لكنه لم يتمكن من فهم القضية الأولى المتعلقة بالمعرفة في خلق القرآن لأن حل الكلام النفسي غير كاف. والمعلوم أن هذه القضية تقدم عليه فيها علم الكلام الحنبلي بما هو موقف فقير من حيث الصوغ النظري لكنه كان حاسما من حيث الحسم العملي. والأشعري رفض نظرية التحسين والتقبيح ونظرية الأصلح الإعتزالية التي تقول بالمطابقة الموروثة عن اليونان. وقطيعته مع الاعتزال علتها رفض هذه المطابقة لأنه لو صحت لاعتبرت القيم صفات ذاتية للأشياء. وكان ينبغي أن نفترض أن موقفه في المسألة القيمية مشروط بقضية المسألة المعرفية لأن القول بالمطابقة يعني أن ما يعلمه الإنسان من صفات الأشياء ليست نسبية إلى علمه المحدود بل يعني أنها مطلقة لتوهم العلم مطلقا. أبو يعرب المرزوقي 22 الأسماء والبيان
-- وفي ذلك قول بالسوفسطائية دون احترازها الذي تعني بمقتضاه أن الإنسان مقياس كل شيء موجوده ومعدومه دون إطلاق هذا الحكم وراء ما يقدر الإنسان على علمه لأن ما يتعداه إلى المطابقة مع الوجود في ذاته خارج النسبي إلى الإنسان لا شيء يثبت إمكانه لعلم الإنسان ليكون مقياسا فيه. وإذن فموقف الفلاسفة القائلين بالمطابقة المعرفية والقيمية كان أسوأ من موقف السوفسطائية فيهما لأنه يخصم منه هذا الاحتراز عند كبار السوفسطائيين .فالمشكل الفلسفي في مستوى نظرية المعرفة وفي مستوى نظرية القيمة أصبح عند المدرستين الحنبلية (الذي لم يتضح إلا عند ابن تيمية) والأشعرية (الأولى وليس الثانية) بحثا في شروط التفاعل بين ارادتين وليس بين عقلين. والعقل يصبح حينها أداة معرفة وتقييم في خدمة غايات الإرادة وليس هو المقدم كما في الرؤية الفلسفية اليونانية التي تنطلق من نظرية بارمينيدس الذي يوحد بين الوجود والعقل. والمعلوم أن الحكمة هي استعمال الأداة العقلية بمقتضى الغاية الإرادية وهي ليست تحكمية بل هي تتجاوز العقل من حيث هو حسبان للربح والخسارة في الكلفة المادية إلى الحسبان والخسارة في الكلفة الروحية. وفي ذلك يتعين سلم القيم تقديما لما لا يقبل البيع والشراء لتعلقه بالحرية والكرامة على ما يقبل البيع والشراء لتعلقه بشروط القيام المادي الفاقد لهما. ولذلك فابن خلدون انطلاقا من هذه الرؤية عرف الإنسان بكونه \"رئيسا بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له\" ولم يعرفه بالعقل والنطق اللذين هما أداة تحقيق هذا المعنى حتى إنه قال إن من يفقد الرئاسة بالطبع وبمتقضى الاستخلاف الذي خلق له ينقرض: أبو يعرب المرزوقي 23 الأسماء والبيان
-- \"وفيه (في انقراض الأمم) والله أعلم سر آخر وهو أن الإنسان رئيس بطبعه بمقتضى الاستخلاف الذي خلق له والرئيس إذا غلب على رئاسته وكبح عن غايته تكاسل حتى عن شبع بطنه وري كبده وهذا موجود في أخلاق الأناسي ولقد يقال مثله في الحيوانات المفترسة وإنها لا تسافد إذا كانت في مكلة الآدميين .فلايزال هذا القبيل المملوك عليه أمره في تناقص واضمحلال إلى أن يأخذهم الفناء( \".المقدمة .)23.3 فلننظر الآن كيف تطورت فكرة الانتقال من الرؤية اليونانية لنظرية المعرفة ولنظرية القيمة القائلتين بالمطابقة حتى ندرك دلالة هذا التحول من وهم رد الوجود إلى الإدراك المعرفي والقيمي إلى التمييز بينهما وبين الوجود. لا بد من الانطلاق من محاولة فهم الموقف اليوناني الذي تبناه فلاسفة الإسلام مع الغفلة عن عدم التمييز بين \"النوس\" من حيث هو \"حكمة الله المطابقة للوجود\" عند بارمينيدس وعقل الإنسان \"اللوغوس\" من حيث هو أداة لفهم هذه الحكمة في حدود مستطاعه وهو ما لا يمكن أن يطابق الوجود وإلا لكان لا فرق بين النوس الإلهي المطلق واللوجوس الإنساني النسبي. وإذن فموقف الأشعري من التحسين والتقبيح يعني أنه يرفض أن يكون الإنسان خالقا لأفعاله ومعيرا لقيمها -وهو معنى وضعه لنظرية الفعل الكسبي الذي عرفته سابقا بكونه معنى الحرية الشرطية في مقابل الفعل الطبيعي الذي هو معنى الضرورة الشرطية -وأنه من ثم لا بد من اكتشاف حل لعلاقة بين إرادتين آمرة ومأمورة وليس بين عقلين متطابقين إيهاما بأن اللوغوس الإنساني مطابق للنوس الإلهي. أبو يعرب المرزوقي 24 الأسماء والبيان
-- فعاد الأشعري من ثم إلى الحل الحنبلي الذي يجعل القرآن قديما ليس من حيث هو حصيلة الكلام الإلهي ثمرة للحكمة بل من حيث هو فعل الكلام الإلهي ترجمانا للحكمة الخالقة والآمرة. فللقرآن الذي هو كلام الله ومن حيث هو تذكير للإنسان بالحكمة الإلهية لا يرد إلى ثمرة الحكمة التي يخبر الإنسان بما هو منها ضروري وكاف لقيامه من حيث هو مستعمر في الارض ومستخلف فيه. وله إذن دلالتان: -1فهو فعل القول الإلهي ولا يمكن أن يكون مخلوقا لأنه هو ما به يخلق ورمزه كلمة \"كن\" التي هي أمر خلق الموجودات وأمر سياستها. -2وهو حصيلة الفعل الخالق والآمر أو ثمرة فعل القول الذي له هذان الوظيفتان .وتلك الثمرة هي المخلوقات وسياستها وهما طبعا من المخلوقات. ويمكن أن يكون القرآن في المصحف وفي القلوب بهذا المعنى الثاني :التذكير بالمعنى الأول المرسوم في الفطرة. ولما كان التذكير حكاية للمذكر به فهو الذكر القديم الذي يتخلق دائما كما تم التذكر حتى وإن حصل في زمن حادث. وفي الحقيقة فهذه المقابلة بين الفعل وثمرته في كلامنا على الخلق والـأمر الإلهيين تصح على كل المخلوقات. ذلك أن فعل الخلق وفعل الأمر يعرفهما القرآن بكونها \"كن\" الخالقة و\"كن\" الأمرة وهما عين الفعل الإلهي الذي لا يمكن أن يكون مخلوقا إلا إذا قلنا بان الله هو \"الكاوزا سوي\" أو علة ذاته فيكون هو بدوره مخلوقا ما يعني أنه لا بد أن يكون موجودا قبل أن يوجد ليخلق نفسه. أبو يعرب المرزوقي 25 الأسماء والبيان
-- وهذا المعنى ينطبق على المؤمن والملحد. ذلك أن القائلين بوحدة الوجود لا ينفون التمييز بين الفاعلية المفعولية في الخلق وفي الأمر بمعنى في الوجود ونظامه فلسفيا وفي القضاء والقدر دينيا (والـأول خلق للإنية أي لعين الموجود والثاني تشريع للماهية أي لكيفه المحدد لمقاديره). من ذلك المقابلة المعلومة في وحدة الوجود السبينوزية بين الطبيعة الطابعة والطبيعة المطبوعة أو المقابلة الابنعربية المعلومة بين الله وعين الله (أي العالم أو الأعيان التي انتقلت من العدم إلى الوجود والتي هي من جنس ما في المادة الأولى من الموجودات بالقوة مع ما في عالم ما فوق القمر) أو للمقابلة الهيجلية بين وجهي وحدة الوجود التي تجعل الجوهر متذوتا. وكل ذلك بسبب وهمي المطابقة المعرفية والمطابقة القيمية اللتين يرفضهما ابن خلدون ويرفض خاصة ما يترتب عليهما عندما يتأله الإنسان فينسب إلى نفسه ما يشبههما كما يحصل عند المستبدين والطغاة سواء في مستوى المعرفة والتربية أو في مستوى القيم والحكم. أبو يعرب المرزوقي 26 الأسماء والبيان
-- المسألة الرابعة: إن السعي لمنع الأمة من التحول إلى عالة فتتحرر من فساد معاني الإنسانية لم يبدأ مع محاولاتي بل هو جوهر الثورة التي بدأت مع نزول القرآن إذ بفضله تحرر الإقليم من الاستعمارين الفارسي والبيزنطي في التاريخ الأفعال في الأعيان. وشرع الفكر الفلسفي الإسلامي في التحرر من فكرهما في تاريخ الافعال في الأذهان. وذلك هو الدور الذي أنسبه إلى المدرسة النقدية التي صاغت بصورة واعية ونسقية شروط تحرير المسلمين من علتيها: -1التحرر من أحكام الأديان المحرفة فيهما ومن تطبيقهما في التربية والحكم وما ترتب عليهما في فلسفة التاريخ وفلسفة الدين. -2التحرر من أحكام الفلسفة اليونانية المسبقة المحرفة لنظرية المعرفة ونظرية القيمة ومن تطبيقاتهما في فلسفة السياسة والتاريخ. ومن هنا أنطلق في علاج المسألة الرابعة مواصلة للمسائل الثلاث التي تقدمت. فمنطق التناقض الجدلي الذي صار عند الإسلاميين منطق التدافع يتنافى تماما مع منطق الشورى 38قرآنيا ومنطق الديموقراطية فلسفيا. وكلاهما يعني أن تفاضل المواقف السياسية نسبي لنسبية المعرفة والقيمة ليس في ذاتهما بل كما يظهران للإنسان. ولذلك فالقرآن وكذلك العقل كلاهما يميز بين نوعين من الصدق: أبو يعرب المرزوقي 27 الأسماء والبيان
-- -1صدق الشهود بمعنى أن الفكر شهود صادق إذا تطابق مع ما يشهده من الموضوع في حدود نفاذ فكره إلى تجلياته .ولا معنى للمطابقة معه لأن علم الإنسان ليس علما محيطا ولأن الموجود في ذاته لا يرد إلى إدراكه الإنساني. -2والفكر شهادة صادقة إذا طابق عرض صاحبه لشهادته شهوده كما هو في ضميره .ولا معنى للمطابقة مع ضميره لأن الإنسان يحكم بالظاهر حتى في حكمه على ما في ضميره ولا يعلم سريرته. وهذا المعنى يجمع بين بعدين في المعرفة والتقييم يمكن أن نسمي الثاني بالوجه اللاواعي من إدراك ما في الوعي والأول بالوجه الواعي من إدراك ما في الوجود كما يظهر له. والوجه الأول علاقة بإدراكه لما شهده والوجه الثاني علاقة بين العلن والسر مما في ضميره أو بما في ظاهره وبما في باطنه من الشهادة. والشهود مسألة معرفية والشهادة مسألة خلقية. والصدق فيهما اجتهادي دائما بمعنى أنه لا يمكن أن يكون الشهود مطابقا للموضوع لأن المعرفة والتقييم ليسا محيطين. وشهادة الظاهر لا يمكن أن تكون مطابقة لما في السرائر لأن معرفتها وقيمتها في ذاتها تفترضان الإحاطة وهي مستحيلة على الإنسان. وعلى هذين المعنيين هما ما عليه يؤسس ابن خلدون حل عدم التأثيم والقول بالتعدد في السياسة حلا يمكن من طي صفحة الفتنة الكبرى والحرب الأهلية التي ترتبت عليها. أبو يعرب المرزوقي 28 الأسماء والبيان
-- لكن المواقف التي يقول أصحابها بالمطابقتين المعرفية والقيمية تجعلهما في آن خصمين وحكمين. فيصبح الحكم بينهما بذلك عنف التغالب عليه بدل لطف التداول فيه .وهو ما يفيد السعي لإلغاء الطرفين أحدهما للآخر فتكون الجماعة في حرب دائمة. ويصبح التداول هو التداول العضوي الذي من جنس توالي الاجيال بالموت أو بالقتل. ومن عجائب القرآن الكريم أنه جعل الفصل حتى بين الأديان مسألة تابعة للآخرة وليست مما يحسم في الدنيا بل هو يعتبر تعددها ضروري في الدنيا لأمرين: -1عدم الإكراه في الدين نتيجة للحرية العقدية المشروطة بتبين الرشد من الغي والمفاضلة الشخصية (البقرة .)256 -2التسابق في الخيرات أي في اختيار ما يعتقد باجتهاده أنه الدين الحق ما يعني أن التعدد مطلوب (المائدة .)48 ولذلك فهذا الصراع بين القائلين به يؤدي حتما إلى رؤيتين كلتاهما تصدر عن عقيدة الدولة الحاضنة التي تلغي دور الجماعة في أمرها وإدارته بشوراها -كما تحدد ذلك الشورى - 38لتبرر الاستبداد بالأمر والفساد في إدارته وتوظيفه لمصلحة الحكام ومن يواليهم من الناخب الفاسدة دينية كانت أو علمانية. وبذلك تستحوذ الدولة على الأمر وتصبح أداة مافية مسيطرة على كل شيء وتعزل الجماعة من جميع أدوارها المشروعة. وبدلا من أن تكون النخب المكلفة بالحكم في الدولة ذا قوامة نيابية تمثل حكم الجماعة لنفسها في جميع أنشطتها التي تقتضي القوامة والتي تقتصر على دور الحكم بمنطق الأمانة والعدل (النساء .)58 أبو يعرب المرزوقي 29 الأسماء والبيان
-- تصبح مسيطرة على كل شيء دون استناد إلى إنابة شرعية من الجماعة. ما الحصيلة في رؤية الاجتهاد الإنساني بعد التجارب التاريخية التي تبينها محاولات الإنسان حسم قضية التربية والحكم اللذين هما بعدا السياسة في كل جماعة أولا؟ ثم في رؤية الرسالة الخاتمة؟ وما تضمنته من فلسفة دين وفلسفة تاريخ بوصفهما بعدي الفعل السياسي؟ ولنبدأ بالرؤية الإسلامية. فهي تتألف من نقد التجارب السابقة أولا. وقد لخص القرآن الكريم هذا النقد العارض لتطور علاج قضايا الحكم الإنساني في سورة هود -وهي التي قال فيها الرسول إنها شيبته. والمعلوم أن الغاية من النقد هي التشخيص الهادف إلى الإصلاح لجعل سياسة الإنسان لعالم الشهادة بوصفه مستعمرا في الأرض ومستخلفا فيها. والإصلاح يجري في ضوء مقياس مثالي هو سياسة الله لعالم الغيب الذي يتضمن عالم الشهادة وخاصة مبادئه الخفية التي لا نعلم منها إلى ما هو مناسب للاستعمار في الارض والاستخلاف فيها. وقد شرحت هذا التلخيص الذي يتمثل في ثورتين وما يترتب عليهما: -1الأولى بشر بها نوح وفشلت وهي تحرير الإنسان من استبداد الطبيعة والرمز هو تجاوز الطوفان بالثورة التقنية (بناء السفينة) والزراعية (أخذ الزوجين الاثنين من كل شيء وإعادة انتاجهما بفعل الإنسان). -2والثانية بشر بها موسى وفشلت وهي تحرير الإنسان من استبداد الدولة بالخروج عليها والتحرر من تأليه الحكام. أبو يعرب المرزوقي 30 الأسماء والبيان
-- ثم قدم القرآن البديل الذي هو الدين الكوني الجامع بين الثورتين وشروط إنجاحهما. وتلك هي مهمة الإسلام باعتباره الدين الأخير والذي هو دين التذكير ودون وساطة في التربية ودون وصاية في الحكم (الغاشية .)22-21 والبديل الكوني يعكس الترتيب بين الثورتين على استبداد الطبيعة واستبداد الدولة: -1فالتحرير من الطبيعة لا يتقدم على التحرير من الدولة لأنه ليس صحيحا أن التقدم في السلطان على الطبيعة له حد إذا بلغه تصح نبوءة أرسطو وهو القائل إن العبودية تزول عندما تصبح المغازل تتحرك بذاتها. ذلك أن حركة المغازل زادت العبودية تعميما فشملت كل البشر الذين صاروا هم بدورهم عبيد النظام الرأسمالي وخاصة في العولمة حتى وإن ادعى تحرير الإنسان. -2وإذن فالتحرير من الدولة هو الذي يحرر من العبودية السياسية فينقل التحرر من الطبيعة من استعباد البعض للبعض إلى التعاون على سد الحاجات المتحرر من الجشع الذي لا يقوف العبودية بل يعممها. وبين نوح وموسى نجد مشكل توزيع الثروة أو مشكل توزيع الثروة الذي ينتج طبقة مسيطرة على بقية الجماعة (هود) ثم مشكل توزيع الماء شرط الحياة الأول (صالح) ثم مشكل تنظيم الجنس شرط الحياة الثاني (لوط) ثم مشكل شروط التبادل الذي يترتب عليه التعاوض العادل (شعيب). وكل ذلك مشروط بالوحدانية التي تجعل العبودية لله وحده والتي تجعل الناس سواسية (إبراهيم). وذلك هو الحل الذي اختاره محمد أبو يعرب المرزوقي 31 الأسماء والبيان
-- وتلك هي علة العودة إلى الإبراهيمية أصلا للتوحيد ولكن بمعنى محمدي أو بمعنى إبراهيمية محدثة تضفي على معنى الوحدانية دلالاتها التحريرية من العبودية مشروعا سياسيا هدفه توحيد البشرية. فكان الحل في سورة الشورى: \"والذين استجابوا لربهم وأقاموا الصلاة وأمرهم شورى بينهم ومما رزقناهم ينفقون\". وهذا الحل هو ما سأخصص له الفصل الخامس والأخير من هذه المحاولة مع المقارنة بما انتهى إليه الحل الفلسفي وما ينقصه ليكون في مستوى الحل القرآني الذي هو المشترك الكوني بين الديني الخاتم والفلسفي الخاتم من حيث نظرية المعرفة ونظرية القيمة. والختم هنا هو تجاوز وهمي المطابقة بين المعرفة وموضوعها (الموجود) وبين القيمة وموضوعها (المنشود) والانتقال إلى تنسبهما بوجود الغيب فينتقل الإنسان من وهم رد الوجود والمنشود إلى إدراكه إلى التسليم بأن معرفته اجتهادية وقيمه جهادية بمعنى أنهما نسبيان لا يؤديان إلى منطقي الصراع الجدلي أو التدافع. وتلك هي الحصيلة التي اثرت في الرؤية الفلسفية التي قطعت مع القول بالمطابقة في المعرفة بين الوجود وإدراكه وفي القيمة بين المنشود وإدراكه .وقد تطورت تبعا لذلك رؤية الفلسفة السياسية في النقد الفلسفي للتجربة الطبيعية وتطبيقاتها السياسية في التاريخ الإنساني والمفاضلة بين الحلول. فكيف تم نقد التجارب السابقة فلسفيا؟ أبو يعرب المرزوقي 32 الأسماء والبيان
-- سأكتفي بالبداية أو الموقف من الديموقراطية عند أفلاطون وأرسطو وبالغاية او الموقف من الديموقراطية عند هيجل وماركس مع الإشارة السريعة إلى علل هذه المفارقات التي ترد إلى تحولات ثقافية للإسلام فيها الدور الرئيس. فالحضارة اللاتينية المسيحية في القرون الوسطى التي اخذت المشعل التطويري للفكر الإنساني وتطبيقاته انتهت بفضل الصدام مع الحضارة العربية الإسلامية إلى تبني نسخة من الثورتين اللتين أشرت إليهما في كلامي على الإسلام. وقد غيرت اولاهما كل الحضارة الإنسانية تغييرا جذريا فنقلتها من العصور الوسطى إلى العصور الحديثة وأدخلت على مؤسساتها وفكرها ما كانت الحضارة العربية الإسلامية تتميز به عنها اعني: -1التحرر من سلطة الوساطة الروحية في ما يسمى الإصلاح البروتستنتي في الثلث الأول من القرن السادس عشر في ألمانيا (الكنسية). -2التحرر من سلطة الوصاية السياسية في ما يسمى بالإصلاح السياسي في بداية القرن السابع عشر في انجلترا (الحكم بالحق الإلهي). ومع ما حصل من تقدم علمي وفلسفي بفضل التراثين الإسلامي واليوناني وانتشار الكتاب بفضل ثورة الطباعة أصبحت الشعوب ذات دور مباشر في المجالين الروحي والسياسي فصارت الاعتراضات الافلاطونية على الديموقراطية غير ذات معنى لأن الشعوب تجاوزت ما كان يقصر العقل على نخبة قليلة بل صار كما يقول ديكارت أكثر الأشياء عدلا في التوزيع بين البشر (حتى وإن قالها بشيء من السخرية). أبو يعرب المرزوقي 33 الأسماء والبيان
-- وبذلك فالحل الفلسفي الكوني يمكن اعتباره قد اقترب من حل القرآن الكوني في نظرية الدولة والجماعة وخاصة في أداتيهما أي التربية والحكم وهو ما سأخصص له الفصل الخامس والأخير أعني: -1التحرر من سلطة روحية وسيطة هي مجلس أفلاطون الليلي وهذا هو النظير الفلسفي للكنسية الدينية. -2ومن سلطة سياسية وصية هي سلطة الفلاسفة الذي لا يختلف عن الحكم بالحق الإلهي باعتبار الانتخاب الطبيعي بين البشر (العقل والغضب والشهوة) .وهذا هو النظير الفلسفي لنظرية الاصطفاء الدينية في الأديان التي تؤمن بالحق الإلهي في الحكم سواء كانت قائلة بالشعب المختار أو بالأسرة المختارة. سأكتفي بملاحظة مفارقة غريبة أعود إليها في الفصل الخامس والأخير. إنها مفارقة التعاكس بين البداية والغاية في العلاج الفلسفي لتكوينية الحلول التي تأسست عليها فلسفة السياسة إلى أن وصلت إلى تبني الديموقراطية رغم رفض الدين والفلسفة القديمين في الحضارة اللاتينية المسيحية لها لما تقتضيه من مراجعة جذرية للتربية والحكم. وقد تجلت هذه المراجعة وما يترتب عليها من مآزق مآل الفكر السياسي والاجتماعي الناتج عن تأثير الماركسية والهيجيلية في الغرب ولكن خاصة في البلاد التابعة لها والتي ما تزال نخبها متخلفة رغم ادعاءها التقدمية والتنوير. فماركس أفلاطوني في صوغه الحل بمعنى القول بالمطابقة والإطلاق الجدلي وأرسطي في صوغه المشكل بمعنى القول بالمادية والتاريخ الطبيعي في صوغه الحل. أبو يعرب المرزوقي 34 الأسماء والبيان
-- وهيجل أرسطي في صوغه الحل بمعنى أنه يقول بما يشبه التاريخ الطبيعي وهو ما يجهله الماركسيون تصديقا لخرافتهم القائلة إن ماركس قلب الهيجلية فنقلها من المثالية إلى المادية لكأن مثالية هيجل كانت في قطيعة مع المادية إذا علمنا بأنه نفي بصورة قاطعة وجود عالم آخر وراء الدنيا وأفلاطوني في صيغة المشكل لأن قوله بالجدل في المفهومات ليس مختلفا عما يقول به أفلاطون. لكن ما يجهله سكارى الزبيبة من حداثيي عقاب الزمان هو أن رؤية الفلسفة السياسية إشكالا وحلا في العصر الحديث تدين للنقد القرآني للتجربتين الدينية والسياسية ووقائعهما في التاريخ الإنساني وأنها قد تغيرت بفضل ما حصل بين الحضارتين العربية الإسلامية واللاتينية المسيحية من تفاعلات من يجهلها أو يتجاهلها لا يختلف عمن يجعل أو يتجاهل ما حدث بينهما في مجال المعرفة الفلسفة والعلمية في ما نسميه بالحداثة الحضارية الحالية. أبو يعرب المرزوقي 35 الأسماء والبيان
-- المسألة الخامسة والأخيرة: نشرع الآن في الكلام على غاية هذه المحاولة فنعرف نظام الحكم وأسلوبه في الدولة الإسلامية بوصفها دولة كونية تشمل الإنسانية كلها سياسيا -أي تربية دون وساطة وحكما دون وصاية -شمول الرسالة الخاتمة لها دينيا بمعنى التذكير الكوني بمنزلة الإنسان الوجودية باعتباره مستعمرا في الأرض ومستخلفا فيها. وهو مجهز بما يمكنه من تحقيق هذه المهمة التي تقتضي علاقة عمودية بالعالم الطبيعي بجهاز النظر والعقد -أو شرطي المعرفة -وعلاقة أفقية بالعالم التاريخي بجهاز العمل والشرع -أي شرطي القيمة -من حيث سياسته للشاهد منهما بالقياس إلى ما تذكره به الرسالة من مثل عليا مرسومة في ما فطر عليه. وهي التي يساس بها الخلق (قوانين الطبيعة) والأمر (سنن الامر) بخيارات من عالم الغيب ليس لنا العلم المحيط بها وهو عالم يشمل العالم الشاهد بوصفه هو ما وراءه الذي جعله يكون على ما هو عليه. وتحديد هذه العناصر يقبل الرد إلى الآيات التالية الهادفة إلى اثبات أن فلسفة السياسة القرآنية هي التي تعتبر الإنسان -من حيث هو مستعمر في الأرض ومستخلف فيها -هو سائس عالم الشهادة سياسة المجهز لهما تبعا لتكليفه بهما. والتي تؤمن بمثال أعلى هو الله الذي هو سائس عالم الغيب الشامل لعالم الشهادة بما حدده من قوانين للطبيعة وسنن للتاريخ خارج الإنسان ولما هو طبيعي وتاريخي في كيانه. وذلك هو معنى الأمانة والتكليف الذي ينطبق حتى لو كان ملحدا وغير مؤمن بالغيب وبوجود الله. ذلك أنه لا يمكن أن يبقى يوما واحدا من دون أن يرى آيات الله في الآفاق وفي الانفس: أبو يعرب المرزوقي 36 الأسماء والبيان
-- -1فلا يمكن أن يبقى من دون سد حاجاته العضوية وتلك هي علاقته بالطبيعة لأن ما يسدها به مستمد منها -2ولا يمكن أن يبقى من دون سد حاجاته الروحية وتلك هي علاقته بالتاريخ لأن ما يسدها به مستمد منه. -3وكيانه العضوي جزء من الطبيعة حتى وإن بدا منفصلا عنها لكنه خاضع لقوانينها التي لا سلطان له عليها حتى وإن جهز لكي يكون قادرا على التدخل فيها بالسياسة أي بالتربية والحكم ورعايتها وحمايتها مما يعتدي عليها. -4وكيانه الروحي جزء من التاريخ حتى وإن بدا منفصلا عنه لكنه خاضع لسننه التي لا سلطان له عليها حتى وإن جهز لكي يكون قادرا على التدخل فيها بالسياسة أي بالتربية والحكم ورعايته وحمايته مما يعتدي عليه. -5وذلك هو معنى كونه رهن العلاقة بين الضرورة الشرطية (قوانين الطبيعة) والحرية الشرطية (سنن التاريخ) بفضل ما جهز به من إرادة وعلم وقدرة وحياة ووجود وهي صفات لأفعاله تجعله خليفة لمستخلف لأفعاله هذه الصفات لكنها مطلقة بخلاف ما له منه. ويمكن أن أرد هذه الرؤية لفلسفة السياسة بمستواها الإنساني الذي هو معنى كون الإنسان مستعمرا في الأرض ومستخلفا فيها وبمستواها الإلهي الذي هو معنى كون الله مكلفا للإنسان بهذين المهمتين وهما ما يعلمنا به القرآن معتبرا كيف هذا السياسة مجهولا لأنه من الغيب لكنه وظيفة المثال الأعلى المنسوب إليها معلوم لنا بل ومفطور في كياننا لكن نسيانه هو الطاغي بسبب الغرق في هموم الدنيا أبو يعرب المرزوقي 37 الأسماء والبيان
-- ووظيفة الرسالة الخاتمة تحرير الإنسانية من هذا النسيان دون وساطة روحية ولا وصاية سياسية. والاستراتيجيا التي تحقق هذه الرؤية هي الإسلام من حيث هو فلسفة تاريخ روحي وسياسي للإنسانية ككل على النحو التالي بالإحالة إلى الآيات التي تحدد منطقها بوصفها مشروع الدولة الإسلامية الكونية: المبدأ الأول: تحدد الآية 58من النساء معنى الحَكم وال ُحكم َحكم في الداخل باسم مرجعية الجماعة في الحماية مما يحصل في التعاون والتواصل بمناسبة الرعاية التي هي ثمرة تقسيم العمل في الجماعة وذلك بتفويض منها لقوامة أمر الجماعة وتحت رقابتها المضاعفة أي بمن اختارهم ليكونوا ممثلين للمعارضة وبذاته بوصفه الرأي العام الذي يتابع والذي يقيم ويحاسب إما بين الدورة والدورة أو إن لزم خلالها عند الضرورة إذا حصل خلل في القوامة. والمؤتمن عليه هو القانون الذي يضبطه العقد الذي يوحد الجماعة والعدل هو تطبيقه بصورة تحمي الحقوق والواجبات بصورة ليس فيها سيطرة للقوي على الضعيف. المبدأ الثاني: والآية 13من الحجرات أو مبدأ المساواة بين الناس. فحتى يتساوى الناس ينبغي ألأ يتفاضلوا إلا بالتقوى أي باحترام القانون (الحجرات .)13 وفي ذلك تعريف للإنسان: أبو يعرب المرزوقي 38 الأسماء والبيان
-- -1بايولوجيا (من ذكر وأنثى) -2ثم انثروبولوجيا (شعوبا وقبائل) -3ترد التفاضل الوحيد بينهم إلى علاقة بالمثال الأعلى الذي هو الله 4 -4المحدد لهذه المنازل بمثال سياسته لعالم الخلق والأمر -5وهذه العلاقة هي عين الخلافة أي احترام ما وضعه من قوانين طبيعية وسنن تاريخية في كيانه وفي العالم الطبيعي والعالم التاريخي. المبدأ الثالث: وذلك لأن البشر اخوة (النساء .)1 وهذه الأخوة لها مستويان يتطابقان إذا تطابق معنى الألوهية مع معنى الربوبية فيتطابق معنى الرحم الجزئي مع معنى الرحم الكلي. فالآية تتكلم على الربوبية التي هي علاقة كونية لا خيار فيها للإنسان بل هي هو مربوب حتما بخلاف الألوهية التي هي خيار بعد تبين الرشد من الغي. وهما متطابقان في الإسلام بمعنى أن الله فيه ليس مختلفا عن الرب بل هو هو. ومن ثم الرحم المقدم في الإسلام هو الرحم الكوني أي الأخوة الإنسانية وليس الرحم الجزئي الذي يناسب الألوهية القومية. فالدين نوعان. الدين الذي كان لكل أمة بلسانها. ثم الديني فيها جميعا وهو الدين الذي جاءت به الرسالة الخاتمة أي ما يحدده القرآن في عملية تصحيح التحريفات وعرض الصورة الفاتحة والخاتمة للديني الذي فطر الإنسان عليه وذلك هو مضمون القرآن الكريم. والقرآن يتكلم بلسانين: أبو يعرب المرزوقي 39 الأسماء والبيان
-- العربية لغة واصفة للسان كوني هو العبارة المشهدية التي تشبه المشاهد المسرحية التي نراها بوصفها أفعالا تواصلية وتبادلية بين الرب والمربوب عامة والمستخلف والخليفة خاصة فتكون العربية من جنس السيناريو الذي يصف المشاهد وليس هو المقصود بل المقصود هو ما يجري في المشاهد. المبدأ الرابع: وشرط ذلك ألا يكون في الدين إكراه لأن شرطه الوصول إلى هذا التطابق بفضل تبين الرشد من الغي (البقرة )256المشروط هو بدوره بالتعدد للتسابق في الخيرات (المائدة .)48 فما فطر عليه الإنسان غني عن أكراهه فيه. يكفي تذكيره بما نسيه ولا حاجة حينئذ أن يكون المذكر مسيطرا. فلا حاجة للعنف في التربية لأنها تذكير بمعلوم نساه صاحبه وليست إخبارا بمجهول يفرض عليه. والاستغناء عن الوساطة يؤسس للاستغناء عن الوصاية في الامر بمعنى أن الإنسان عندما يذكر ما نساه يصبح قادرا على القيام بدوره أعني تعمير الأرض بقيم الاستخلاف. فلا يكون الحاكم عنيفا بل يكون رفيقا به في قوامة نيابية وخدمة للجماعة تتنافى مع الاستبداد والفساد. المبدأ الخامس: وبذلك يكون الإنسان محكوما بهذا التبين من الرشد الذي يؤدي إلى اختيار الدين الحق أي الإسلام وهو يرد إلى ما حددته سورة العصر ليكون النظام السياسي الذي يحقق ذلك هو ما تحدده الآية 38من الشورى. أبو يعرب المرزوقي 40 الأسماء والبيان
-- وبذلك يتبين أن مشكل الثورات هو ما يعوقها في المستويات الخمسة الأربعة الأولى منها فروع عن الخامس الذي هو أصلها جميعا أعني: -1أولا نظرية الدولة التي لا بد فيها من مرجعية قيمية هي عين كيان الإنسان الذي وصفنا من حيث هو مكلف بالتعمير والاستخلاف من دون وساطة بينه وبين ربه ولا وصاية بينه وبين أمره أو شأنه الفردي والجمعي خلقيا وسياسيا. -2وحينئذ لا يمكن للدول ألا تكون بمعنى القوامة على أمر الجماعة بتكليف منها فيكون القصد بالخلافة خلافة الجماعة في إدارة شأنها نيابة عنها بتكليف منها وليس بمعنى البديل منها. وذلك هو معنى القوى السياسية في الجماعة. وهو ما يقتضي رفض الدولة الحاضنة التي لا يتفاضل الناس فيها باحترام القانون بل بالدوس عليه. ويقتضي ذلك أن تتوافق القوى السياسية على وضع دستور يحدد طبيعة النظام السياسي للحكم المناسب لهذه الوظائف أسلوبه الذي يطبقه النظام السياسي لتكون هذه الوظائف على أحسن الوجوه بحيث لا تفسد معاني الإنسانية وتجعل الجماعة غير تابعة في الرعاية وفي الحماية. وقد خصصت للدولة الحاضنة عدة بحوث وبينت أنها لا يمكن أن تكون إلا دولة مافية الاستبداد والفساد. وميزتها عن الدولة العادلة التي تكون دولة الجماعة والتي تمثل قوامتها الذاتية لأنشطتها. وهذه القوامة الذاتية نشاط من مستوى ثان يكون ذا دورين: أبو يعرب المرزوقي 41 الأسماء والبيان
-- -1دور وقائي هو معنى الاستراتيجية السياسية القبلية التي تعمل بمنطق سياسة عالم الشهادة بنموذج يبين علاقته بعالم الغيب الذي يحدد المثال الأعلى لسياسته الإلهية تحديدا يناسب ما جهز الإنسان لإدراكه بمعنى حددته فصلت 53عندما تكلمت على الآيات التي يرينها الله في الآفاق وفي الأنفس لنتبين أن ما يخبرنا به القرآن حول هذه العلاقة هو الحق. -2ودور حمائي هو معنى الإصلاح الدائم للعمل السياسي الذي هو فرض كفاية يكلف به من يختاره الشعب لمدة حتى يكون قيما على وظائف الدولة بوصفها كما عرفها ابن خلدون باعتبارها \"صورة العمران\" بالحكم والتربية و\"مادته\" التي هي التنمية الاقتصادية والتنمية الثقافية. وهما وقاية وعلاجا يشبهان ما يترتب على عودة الوعي عند الفرد على نفسه من حيث الكفاءة والخلق لمراقبة ذاته في سلوكه قبليا وبعديا حتى يكون الإنسان أقرب ما يكون للمبادئ التي يؤمن بها. وبمقتضى هذا الدستور تتكون السلطة الحاكمة والمشرعة ولها وجهان واحد للحكم بالفعل والثاني للحكم بالقوة ووظيفته المراقبة والنقد لممارسة الحكم والتفكير في الحلول البديلة لما يفشل من الحلول لأن المعارضة تمثل الخطة \"ب\" عند فشل الخطة \"أ\" في خيارا الشعب لمن ينوبه في قوامة الأمر بتعيين حر منه خلال الانتخابات ومواصلة المراقبة لأنه قد يتدخل عند الضرورة إذا بلغ الحكم العجز عن علاج ما انخب لأجله فيقيم انتخابات سابقة لأوانها. ومدار الحكم القوامة على الوظائف العشر التي تقوم بها الدولة أبو يعرب المرزوقي 42 الأسماء والبيان
-- وهي خمسة للرعاية وخمسة للحماية والحكم بوجهيه له قوامة هذه الوظائف نيابة عن الجماعة. وظائف الرعاية الخمس: -2للتكوين وهما التربية النظامية والتربية الاجتماعية -2للتموين وهما التموين العضوي أو الاقتصاد والتموين الروحي أو الثقافة. والخامسة هي البحث والاعلام العلميان مطبقان على الطبيعة والتاريخ وعلاقة الجماعة بهما لسد حاجاتها ولحماية ذاتها شرطا في كل ما تقدم أدوات ومناهج. وظائف الحماية الخمس: -2اثنتان للحماية الداخلية أي القضاء والأمن -2اثنتان للحماية الخارجية أي الدبلوماسية والدفاع. الخامسة للاستعلام والاعلام السياسيين وهي شرط العمل على علم بحال الجماعة في الداخل وفي الخارج. وهي البحث العلمي مطبق على الجماعة وعلاقتها بمن حولها. والحكم ببعديه الذي بالفعل والذي بالقوة هو المشرف على هذه الوظائف باسم الجماعة التي اختارته لهذه المهمة لأن الحكم فرض كفاية كإدارة لكنه فرض عين كسلطة ديموقراطية تعود إلى الشعب. والسلطة نوعان :تنفيذية وتشريعية. ما يسمى بالسلطة القضائية ليست سلطة سياسية بل هي من وظائف الدولة مثل الامن والدفاع والدبلوماسية والاستعلام والاعلام. أبو يعرب المرزوقي 43 الأسماء والبيان
-- وإذا سيس القضاء فسد. والآية 38من الشورى تحسم الأمر فتحدد: -1المرجعية وهي الاستجابة إلى الرب. -2والعلامة الصلاة ولا يقصد بها نوعا معينا لأن الامر بتعلق بالربوبية وليس بالالوهية وهي تعني هنا العلاقة بين السياستين سياسة الرب للخلق والامر في عالم الغيب وسياسة الإنسان في عالم الشهادة. -3طبيعة النظام وهي \"أمر الجماعة\" أي ' ' res publicaأو النظام الجمهوري. -4أسلوب الحكم وهو \"شورى بينهم\" أي ' ' δημοκρατίαالأسلوب الديموقراطي. -5الرهان السياسي الأساسي هو علاج القضية الاقتصادية الاجتماعية \"ومما رزقناهم ينفقون\" لأنه هو الذي يحقق العدل والمساواة بين البشر فلا يكون لهم معبود غير الله. ذلك أن التفاوت المشط في الرزق هو سر العبودية لغير الله. أبو يعرب المرزوقي 44 الأسماء والبيان
-- أبو يعرب المرزوقي 45 الأسماء والبيان
Search
Read the Text Version
- 1 - 48
Pages: