-- فهل التداول حول سد الحاجات والقيمتين الاقتصاديتين مثل التداول حول سد الحاجات الروحية حول القيمتين اللااقتصاديتين وخاصة في مناخ فيه فرق بين هذين الجنسين من القيم المضاعفين بحسب الحاجات وبين ما يكتفي بالجنس الاول ولا يعترف بالجنس الثاني؟ وأيهما أيسر تواصلا والعلاقة بالمرجع وبالمعنى. وليكن المقياس مقدار سوء التفاهم في الأولى ومقداره في الثانية أو مقدار الخلافات بين المتداولين في الأول والمتداولين في الثاني .فالملاحظ عامة أن الجنس الأول بمستوييه الاستعمال والتبادلي هو مجال التفاوض الذي يمكن القول إن سوء التفاهم فيه نادر وغالبا ما يكون للتحيل في المعاملات. لكن سوء التفاهم في الجنس الثاني غالبا ما ينتهي إلى صراعات قاتلة وكلما أدت الأولى إليها كانت بسبب ادخال الثانية فيها .ومن هنا نميز بين المعاملات الاقتصادية والمعاملات الثقافية بين الشعوب: .1فالأولى لا تتوقف حتى في أقصى حالات الحروب. .2والثانية هي أصل كل القطائع وهي سر صدام الحضارات. والفصل بين التداولين يرد إلى الفصل بين جنسي القيم اللذين لا يخلو منهما مجتمع او حضارة وبهما تتمايز الحضارات وخاصة بما لدور الثقافي في الاقتصادي أو لدور القيم غير الاقتصادية في القيم الاقتصادية وبهذه العلاقة تتحدد سلالم القيم في الحضارات وفي حقب نفس الحضارة التي تختلف كذلك دون أن يؤدي ذلك إلى خصوصيات تلغي الكلي في النوعين: .1القيم الاقتصادية بصنفيها (الاستعمالية والتبادلية) ذات مراجع محددة وهي محددة مرتين بما يعرض في السوق من بضائع وخدمات وبما يستدعيه سد الحاجات .والأول تظهر فيه العلاقة بين العرض والطلب .والثاني تظهر دوافع الطلب بجعلها دوافع العرض. أبو يعرب المرزوقي 48 الأسماء والبيان
-- .2القيم المتعالية على الاقتصادية (قيمة الحب وقيمة المقدسات) وتقبل التعريف عادة بكونها لا تقبل التبادل ولا الاستعمال رغم أنها يمكن أن تصبح اقتصادية في المضاربات بسبب كونها ذات علاقة بالقيم التبادلية في الاقتصاد. وهذه القيم ليس لها ذات مراجع محددة .فهي لا تحيل إلى دلالات بل إلى معان مطلقة الاختلاف بين الافراد فضلا عن الحضارات بل وحتى عند نفس الفرد بحسب أحواله النفسية .ولذلك فوراء النوعين عالم أعمق يصل بين المادي والروحي في كيان الإنسان ذاته .وهو عالم يمكن اعتباره جهرا واصلا بين هذين العالمين الاقتصادي والروحي. وقد درست العالم الأوسط عندما تكلمت على ذوق المائدة وذوق السرير مباشرة أو بتدخل فنيهما (قيم الذوق الغذائي والذوق الجنسي وما يترتب عليهما من فنون) في عالمنا الفعلي ذي المرجعيات الحقيقية في العالم الطبيعي والتاريخي وفي عالمنا الرمزي الذي له معان وليس له مرجعيات محددة. وغالبا ما يكون ذلك كله بما فيه العالم الاقتصادي عند من ليس له منه نصيب في نسبة عالم الأحلام والخيال إلى عالم العلم و\"الواقع» .وحتى نفهم العلاقة بين هذين العالمين وأهمية دور كل منهما فلنذكر بنية ما جرى في سورة يوسف :فكل ما جرى فيها جرى في عالمين عالم الأحلام أولا ثم عالم التاريخ ثانيا والأحداث التي جرت في الأحلام كمعان وليس كمراجع بدليل الحاجة للتأويل جرت في التاريخ كمراجع بها أولت تلك المعاني. فالأحلام تعلقت بالحب وبالاقتصاد وبتأويل الأحلام توقعا لترجمة معانيها إلى دلالاتها وبالحكم وبرؤية برهان الرب أي بالحب والاقتصاد والعلم والسياسة والدين (رأى برهان ربه) وكلها ترد في الأحلام معان بلا مراجع محددة ثم تترجم بالتأويل لتصبح دلالات ذات مراجع معينة .ونحن إذن أمام نوعين من التداول بين الناس. لن أتكلم على ما يسمى بالعالم الافتراضي إذ لا حاجة إليه لأن الإنسان يعيش دائما في عوالم افتراضية حتى قبل أن يوجد ما صرنا نسميه بالخصوص عالما افتراضيا .فلنفرض أبو يعرب المرزوقي 49 الأسماء والبيان
-- مثلا لقاء بين جماعة من ثقافات مختلفة كلهم يفهم لغات الحاضرين بدلالاتها الاصطلاحية في اختصاصه كما يحدث في لقاء العلماء. ولنفرض أنه في وقت الراحة بين محاضرتين خلال شرب القهوة بدأوا يتكلمون في أمور يغلب على الكلام فيها ما يعبر عن أخص خصوصيات الدلالات في لغاتهم -العبارات الأيديومية التي يعسر ترجتها أو حتى أسماء الأشياء التي لا يخلو منها مجتمع كأسماء المأكولات المميزة فإن التفاهم سيتوقف لعدم المراجع. وليكن أبسط مثال مع افتراض ألا أحد منهم عاش في بلد غير بلده فإن أكثر الاشياء ضرورة في حياة البشر-كالخبز مثلا-سيصبح أسماؤه بالنسبة إليهم جميعا غير محيلة لنفس الشيء المعين مثل الباقات في فرنسا والعيش في مصر والخبز في تونس والخبز في البادية التونسية يحيل إلى عدة أشياء مثل الكسرة والملاوي والجردقة أو خبزة الطابونة. وما تتميز به هذه الأعيان معان لا يمكن قولها لأنها من المشار إليه الفردي بإطلاق ولا يفاد إلا في اللغة التي تستعمله بحيث إن الكلام بين الاساتذة في ذلك اللقاء ينتقل من كلام ذي مرجعية معينة إلى كلام يكتفى فيه بمعنى عام ليس له مرجعية معينة أو لنقل إن كل واحد منهم سيفهمه بمرجعيته في لغته. وهذا يعني أن المعنى أوسع أو أرحب من الدلالة لأنه في الحقيقة لا دلالة محددة له بل هو معنى كلي لا يوحد بينه إلى وهمنا بأن هذه المعاني كلها واحدة لأننا نفترض لها دلالة مرجعية واحدة .وعندما نفترض لها دلالة مرجعية واحدة نلغي المعنى لصالح الدلالة بحيلة وحدة مجال الدلالة أو الترادف. وقد حاول أفلاطون أن يوحد هذا العالم الافتراضي الدائم فأوجد عالما يوحد بين ما يسميه النسخ بنظرية المشاركة في المثال .وتوهم أرسطو أن ما يشبه هذا المثال محايث في الأشياء ومن ثم فما به تتمايز الأعيان المشار إليها والتي هي الجوهر المؤلف ليس إلا من الأعراض التي لا تقبل العلم .فيكون ما يتفرد به الفرد ليس مقوما ومع ذلك فهو يعتبر الفرد هو الجوهر الأولى والمشتركات المقومة هي الجواهر الثواني. أبو يعرب المرزوقي 50 الأسماء والبيان
-- فإذا اعتبرنا كل الأعيان الفردية ممثلة للخصوصي المطلق وكان تفرده هو جمعه لما لا يتناهى من الخصائص التي كل واحدة منها مشتركة لكن اجتماعها في الفرد يجعله متميزا عن كل فرد آخر كان ذلك يعني أن ما يميز الفرد العين هو لا تناهي صفاته لما بين المفهوم والماصدق من تعاكس في \"المقدار\" الدلالي. فلو اردت أن اعرف نفسي لقلت حيوان ناطق .لكن هذا يصح على كل إنسان .فإذا أضفت حيوان ناطق بالعربية .فهذا يصح على كل عربي زدت خاصية للمفهوم فأنقصت عدد المنتسبين إلى مجموعة الماصدق فإذا أضفت تونسي فهذا يصح على كل تونسي لكني بهذه الزيادة في المفهوم أنقصت مجموعة الماصدق. هل أصل للفرد؟ وفي الحقيقة فما يحصل ليس ضم الفرد إلى مجموعة أو العيني إلى الكلي بل ضم كلي أدنى إلى كلي أعلى منه ولذلك فلا وجود لكلام على خصوصية فردية ولا ندري ما هي الخصوصية الجماعية التي تختلف عن الكلي الطبيعي بمعنى كلية ثقافية أو حضارية يشترك فيها الأفراد مثل اللغة إذ قد يتكلمها غير أهلها. ويبدو مستحيلا أن أصل إلى الفرد لأن تحديده سيكون بمفهوم لا متناه يضيف كل مرة مقوما مفهوميا ويحد من مجموعة الماصدق إلى غير نهاية وهو أمر مستحيل .وإذن فالخصوص المطلق نعتقد في وجوده وإلا لما امتاز الفرد عن غيره من الأفراد لكنه لا ينقال لأن شرط قوله مستحيل :عدد لامتناهي من التصورات. وبذلك فكلنا نعيش في عالمين عالم الكليات وهو الوحيد الذي ينقال وعالم الخصوصيات وهو لا ينقال إلا إذا اعتبرنا المشتركين في ثقافة معينة يشتركون في غير كليات معنوية لا تحيل إلى عينيات مرجعية من جنس الكليات المرجعية في علم الحياة مثلا عندما نصف قوانين الوراثة أو آليات عمل الأجهزة العضوية. وفي هذه الحالة فالخصوصيات الثقافية تكون متعلقة بما يماثل هذه الآليات العضوية في اللغة أو في العادات أو في المؤسسات التي أنشأتها تلك الجماعة .لكن حتى في هذه الحالة أبو يعرب المرزوقي 51 الأسماء والبيان
-- فإن المميز لها سيكون من باب الأعراض التي لا تصل إلى كلي خصوصي من طبيعة ثقافية فما به خصوصيته ليس له أثر في وظائفها. وليكن مثالنا أخص ما يمكن أن تختص بها جماعة أعني لغتها .فإذا أزحنا البعد الصوتي (الفونيتيك) الذي هو فردي دائما واعتبرنا الخصوصية متعينة في الحروف الدالة (أي الفنونيماتيك) فإنها حينئذ ليست خصوصية بل هي كليات تدل بنسقها وليس بأعيانها ما يجعلني أسمع شيئا وأفهم شيئا آخر مختلفا عنه. الطفل واسمع الأثلغ وأسمع المصري والتونسي والجزائري والخليجي وكلها أصوات مختلفة وأفهم بردها جميعا إلى \"كلي\" صوتي هو الفونام (الحرف المجرد وليس الملفوظ) وليس الفون (الحرف الملفوظ) .وما أفهمه كما سبق هو دلالة ما ليست بالضرورة واحدة وهو إذن معنى أوسع من الدلالات العينية وهو تصور لا يفهم ما لم أرجعه إلى آليات الإفادة بالنظام. وآليات الإفادة واحدة في كل الألسن رغم اختلاف أنظمة النحو لأن النحو هو نفسه لا يفيد بذاته ولا بالدلالة المباشرة المحيلة على أعيان الموضوعات التي تمثل مراجع الكلام بل بآليات أعمق منه هي آليات الأشكال البلاغية من استعارة وكناية وهي كونية ناهيك عن المنطق المرتب لأنظمة السياقات فضلا عن كون كل كلمة تفيد بالتناظر بين منزلتها في معجم اللغة كله ومنزلة ما تتكلم عليه في نظام المشار إليها به في تلك اللغة. فتكون اللغات كلها تفيد بنفس الطريقة حتى وإن اختلفت عوالمها لأن المفيد ليس التناظر بين الكلام وموضوعه بين بين النظامين نظام الكلام نظام الموضوع .ولو كان لكل لغة ما يميزها عن غيرها تمييزا ذا فائدة تحدد الخصوصية المقومة وليس الخصوصية العرضية لاستحال أن يوجد علم اللسانيات كما يستحيل عمل الظاهرات الحية لو اعتبرنا خصوصيات بعضها مقومة لها فتميز بينها من حيث هي ظاهرات حية متحدة في كليات مقوماتها وليست خصوصية عرضية. أبو يعرب المرزوقي 52 الأسماء والبيان
-- والحصيلة هي أننا نوجد دائما في عالمين أحدهما يمكن أن نعلمه ويبدو وكأنه عالم من \"أجساد\" أو فانتومات لا توجد إلا في أذهاننا والثاني لا يمكن أن نعلمه رغم أننا نعيشه وكأنه عالم محسوس مباشرة لكنه لا يقبل الانقيال وهو الخصوص المطلق الذي يمكن أن نعتبره ما يقصده ابن خلدون بالوجدانيات. لكن هذا العيني المطلق والوجداني في سيلان أبدي لا يقر له قرار وهو أعراض متوالية بلا توقف وكأنه سيل من المدارك الحسية التي تتناهبنا من كل حدب وصوب بعدد الحواس فنكون وكأننا هدف رماية لما يأتينا من خارجنا ومن داخلنا وهي رماية لا نسيطر عليها إلا بتلك الفنتومات الكلية التي ندركها. فنكون بذلك نعيش الموجود ولا نعلمه ونعلم المعدوم ولا نعيشه .فإذا وصفنا الاول بالموجود كان الثاني معدوما .وإذا عكسنا فاعتبرنا الثاني هو الموجود لأنه هو المستقر في ما ندركه أو الباقي في حين ان الأول هو الفاني صرنا في عالمين باق نعلمه وفان نعيشه وقيامنا هو الوصل بين الباقي والفاني. لكننا بهذا الوصل بين الفاني والباقي في عالم الطبيعي والتاريخي هذا -الدنيا-نشعر بأنه يوجد عالم آخر تنعكس فيه العلاقة فيصبح ما كنا نتصوره فانيا باقيا وما كنا نتصوره باقيا فانيا لأن هذا العالم هو الذي يصدق عليه أن الإنسان يأتي ربه فردا .فيصبح ما كان يتفرد به من علم وعمل هو فرديته. وإذا كان الفرد لا يتحدد إلا بما يعلمه ويعمله أي بنظرة وعقده وبعمله وشرعه في عالم البقاء بخلاف عالم الفناء وإذن فاللامتناهي الذي رأيناه في استحالة تعريفه يعني أن المقابلة بين المقوم والعرضي حكم ظاهر لمن يحكم بالظاهر وهي لا معنى لها عند من يعلم السرائر بإحاطة تشمل اللامتناهي. وحينئذ يتعين الفرد الذي اثبت جدارته بالاستخلاف والفرد الذي فشل في ذلك .وتلك هي ذروة السعادة وذروة الشقاوة لأن البصر يصبح حديدا فيعلم الإنسان ما كان غيبا أبو يعرب المرزوقي 53 الأسماء والبيان
-- ويتحرر من النسيان والغرق في عالم الخسر أو في مجرى الطبيعة والتاريخ ليصبح فعلا عين ما يشرئب إليه في ضيق دنياه إلى فسيح أخراه. أبو يعرب المرزوقي 54 الأسماء والبيان
-- كنت سأختم الكلام بالفصل الثامن .لكن بقي في النفس شيء من حتى .كان لا بد أن أشرح لماذا جمعت بين النظر والعقد وبين العمل والشرع جهازين في الإنسان ليحقق وظيفتيه الأولى لتعمير الأرض والثانية لجعل هذا التعمير يكون بقيم الاستحلاف ثم اعتبرت هذين الجمعين يقتضيان وحدة الديني والفلسفي؟ والأهم ما علاقة هذه العملية التي تحسم الصراع العملي بين الفقه والتصوف حول علاقة القانون خاصة والسياسة عامة بالأخلاق وتحسم الصراع بين المتكلم والفيلسوف حول علاقة الإيمان بالعلم خاصة وعلم علاقة الدنيا بالآخرة خاصة ومن ثم دور القيمي (الأكسيولوجي) في المعرفي (الابستمولوجي). ذلك أني إذا لم أجب عن هذه الأسئلة أكون قد قلت في علوم الملة وفي علوم الحداثيين ما لا يتجاوز مجرد الدعوى عديمة الدليل فتتساوى دعوايا مع دعوى أصحاب هذه العلوم ويكون الترجيع إلى جانبهم بحكم راي الواحد لا يمكن أن يعتد به أمام رأي الأغلبية الساحقة فضلا عن ثقل التاريخ ودعمه للسائد. لا بد إذن من فصلين آخرين أحدهما لتعليل الجمع والتوحيد بين النظر والعقد في الأبستمولوجي والعمل والشرع في الاكسيولوجي والجمع والتوحيد بين الديني في الأديان والفلسفي في الفلسفات تعريفا للقرآن الكريم من حيث هو عرض نقدي للأديان والفلسفات بمنطق التصديق والهيمنة ببديل هو ثورتي الإسلام. وثورتا الإسلام هما تحرير الإنسان من الوساطة الروحية في التربية والوصاية السياسية في الحكم مع بيان المسار التاريخي الذي حققت به الأديان هذين الثورتين بثورتي هذه التحرير كما تعرضهما سورة هود تحريرا من عبودية الإنسان للطبيعة (نوح)وعبوديته للدولة(موسى) واستراتيجية تحقيقهما الإسلامية. ولست أنكر أن ما أحاول بيانه ليس من اليسر قبوله لأنه نسف مطلق للكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي خاصة وقد بينته على قراءة فلسفية للقرآن واعتبار دوره النقدي أبو يعرب المرزوقي 55 الأسماء والبيان
-- للأديان لتخليصها من التحريف نموذجا للعلاج النقدي للفلسفيات لتخليصها من التحريف مما أنتج التطابق بين الديني والفلسفي بمسار متعاكس الاتجاه بمعنى أن بداية أحدهما هي غاية الثاني. وليس في تعاكس المسار تضاد ولا خاصة تناقض :فالديني ينطلق من الأكسيولوجي لينتهي إلى الإبستمولوجي بمعنى تقديم العمل والشرع على النظر والعقد والفلسفي يعكس فيقدم الإبستمولوجي على الأكسيولوجي بمعنى تقديم النظر والعقد على العمل والشرع. لكن الثمرة واحدة في التربية والحكم وتأسيسهما المتعالي .مسألتان إذن: .1الجمع الموحد. .2وحسم الصراع. وسأبدأ بالجمع الموحد .كيف لابد للنظر من العقد؟ أول عائق هو خرافة المقابلة بين العقلي والنقلي .فهذه المقابلة تحصر الفلسفي في العقلي وتحصر الديني في النقلي .ما يعني أن الفلسفي لا نقل فيه والديني لا عقل فيه :كذبتان إما ساذجتان أو خبيثتان. ولأجب كاريكاتور التأصيل :من يصدق هذين الكذبتين ينبغي أن يلغي القرآن كله .فهو من بدايته إلى نهايته استدلال عقلي بأكثر مناهج الاستدلال العقلي صرامة صورية (يستعمل كل أشكال المنطق) ومادية (يستعمل كل التجارب الإنسانية في مضمون القصص) .لا نقلـي في القرآن إلا ما يشارك فيه العقل أعني المضمون الذي يشكله ليجعله معلوما .والدين والفلسفة كلاهما يستثني الغيب لأنه غير معلوم أي لنقل حتى نفهم الجمع بين الديني والفلسفي لأن العقل يعلم أن علمه محدود وليس محيطا. كلام القرآن على الغيب-وهو النقلي الوحيد الذي يظن غير عقلي-هو قمة العقلي لأنه لا يعطينا مضمون الغيب بل يعلمنا بأنه حد لعلمنا بمعنى أنه يؤسس للإبستمولوجيا البديل التي تحرر الإنسان من وهم القول بنظرية المعرفة المطابقة التي ترد الوجود إلى الإدراك (ابن خلدون) .فيرشد العقل إذ يعلم أن له حدودا وليس محيطا. أبو يعرب المرزوقي 56 الأسماء والبيان
-- لو كان القرآن قد قال إن الغيب معلوم للرسول مثلا لكان في ذلك نقلا بلا عقل .لكنه لم يستثن الوحي من نفي العلم بالغيب .ما يوحى به الله للرسول تذكير بما نساه الإنسان وليس إعلاما بمضمون الغيب .هو يذكر الإنسان بكون علمه محدودا أي إن في الوجود ما لا يمكن للعقل الإنساني عامة أن يعمله. ولو فرضنا أن الرسول علم الغيب بتوسط الوحي لكان في ذلك تشكيكا في تمام البلاغ وفي أمانته لأنه لم يعلمنا به فيكون قد أخفى عنا بعض ما علم .وهذه كذبة اشتهرت بمعنى \"علموا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب رسول الله\" .وهي عبارة غبية ودليل حمق لأنها تتضمن وصف النبي بالكذب علينا وبعدم الأمانة .إذ القصد أن رسول الله قد علم شيئا أخفاه عن المؤمنين وهي جريمة في حقه. وبذلك يمكنني أن اعرف الوحي تعريفا جامعا مانعا :الرسول لا يعلم الغيب والوحي لا يعلمه به بل هو من ذكره الوحي بما أمر بتذكير الإنسانية به وبما هو مفطور فيها فيكون تذكيرها به كافيا لكي تفهم ما جاء به الوحي أي التذكير لا غير .ولو لم يكن ذلك كذلك لاستحال أن تكون الرسالة رسالة لمرسل إليه .القرآن رسالة لمرسل إليه تذكره بما يعلمه بالفطرة لتخرجه من النسيان أو الخسر ولا شيء من ذلك ينتسب إلى علم الغيب لأن الكلام في القرآن على الغيب يتضمن معنيين ينافيان ذلك: .1إعلام بوجود الغيب أي بوجود ما هو محجوب على الإنسان عامة بمن فيهم النبي .2ونهي القرآن عن تأويل المتشابه الذي يعبر عنه دون استثناء لعدم الإحاطة به. ولأمر الآن إلى كاريكاتور التحديث .هل يوجد عقل بلا نقل في الفلسفة والعلوم؟ من يصدق ذلك لا يفهم معنى فلسفة وعلم لأنه يتخيل الفلاسفة والعلماء أدباء يكتبون روايات من نسج الخيال وليسوا قوما يضعون فرضيات لا يسمونها معرفة علمية إلا في حدود تأييد التجربة العلمية لها بمعطيات تجريبية. صحيح أن العقل هو الذي ينتخب المعطيات ذات الدلالة لكنه لا ينتجها من الخيال بل هو يستمدها من مضمون في الطبيعة نفسها وهو من ثم نقل عن الطبيعة .فينتج من ثم أن كل أبو يعرب المرزوقي 57 الأسماء والبيان
-- علم حقيقي شكله عقلي ومضمونه نقلي دائما سواء كان ذلك في الدين أو في الفلسفة. والمستثنى هو الغيب لكنه مستثنى حتى في الدين .والمسؤول عن هذه الكذبة هو الكاريكاتوران: الأول لظنه أن علم الغيب موجود خلطا بين الإعلام بوجود الغيب حدا لعالم الشهادة وعلمه وبين العلم بمضمون الغيب الذي هو محجوب على الجميع ولم يأت منه شيء في الوحي الذي هو التذكير المباشر لمن يرسل لتذكير الآخرين .ولا يمكن أن يقول القرآن إن الغيب محجوب ثم يبعث علمه لمن لا يستطيع أن يعقله. والثاني لتأسيسه أبستمولوجيا تقول بالمطابقة تدعي أن العلم مطابق للوجود توهما أن ما ندركه هو الحقيقة المطلقة وأن الوجود مطلق الشفافية والعقل الإنسان مطلق الإحاطة به فيرد الوجود إلى الإدراك وذلك هو وهم الفلاسفة والمتكلمين والمتصوفة حسب ابن خلدون. وهذه فرصة لأجيب مرة أخرى سؤال محير :كيف تكون الإنسانية بحاجة إلى الرسل للتذكير ثم لا يعلمه الوحي بالغيب ويختم في لحظة من لحظات تاريخ الإنسانية؟ فـما يحيرني حقا ليس وجود الوحي بهذا المعنى لأن كل ما يدركه الإنسان من جنسه إذ هو يتلقى أمورا لا هو خالقها ولا هو محدد معناها فضلا عن كون الوحي في القرآن ليس خاصا بالإنسان إذ حتى النحل والنمل وكل الموجودات تتلقى ما يسميه القرآن وحيا وربما بما لها من لغات تخصها. ما يحيرني هو ختمه إذ ما الذي حصل حتى صار الإنسان غنيا عن الوحي في معناه المقصور على تلقي الرسالات الدينية التذكيرية .ما الذي يجعل القرآن الرسالة الخاتمة .ذلك هو مشكلي .لا أقبل حل اقبال بنظرية بلوغ الإنسانية للرشد واستغنائها عن تواصل الوحي. فالإنسانية لم تبلغ الرشد إلى الآن ناهيك عنها لما نزل القرآن بل إني اعتقد أنها لن تبلغه أبدا .وحل اقبال هو عندي من أكاذيب التصوف المتفلسف. أبو يعرب المرزوقي 58 الأسماء والبيان
-- لو كان الوحي محتويا على الغيب لا ستحال أن يختم .والتصوف المتفلسف يمكن أن يعتبره ممكنا لأن الختم عنده ليس نهاية الوحي من حيث هو علم بالغيب بل انتقاله إلى ورثة النبي بما يسمونه العلم اللدني .وهي أيضا من خدع التلاعب بدلالة \"من لدنه\" .فكل شيء من لدن الله ولا معنى لجعله مميزا لعلمهم إذ حتى العلم العقلي فهو من عند الله بدليل أن الناس ليسوا جمعيا مبدعين فيه وليسوا كلهم ذوي بصيرة. ما ختمه القرآن ليس الحاجة إلى علم الغيب الذي يكون قد انتهى لأن الإنسانية صارت راشدة وضمنا لأن البعض صار بوسعهم القيام مقام عالميه -نظرية العلم اللدني-بل وهم العلم بالغيب واعتبار الرسل يبعثون لأنهم يعلمون الغيب .القرآن نفى ذلك بإطلاق .فما هو دور الختم الذي هو في آن عين الفتح؟ والبداية تكون بتعريف الختم لنفهم الفتح .واللغز هو في الكلمات التي تلقاها آدم فعفا الله عنه واجتباه .فمضمون كل الرسالات التي توسطت بين هذه الكلمات والقرآن كانت تذكيرا بمضمونها ولم يصلنا منها إلا تحريفاتها التي عرضها القرآن على منهج التصديق والهيمنة مع حفظ أساليب تبليغها. والملاحظ أنها كلها استعملت أسلوب التبليغ بحجج مستمدة من الإعجاز الخارق لنظام الطبيعة والتاريخ .لكن القرآن الذي يعرضها ويقصها مع المحافظة على أساليبها لم يستعمل ولا مرة هذا الأسلوب لأن كل أدلته مستمدة من النظام الطبيعي والتاريخي وليس من خرقه مثلها .ورد الرسول على المعاجزين معلوم والقرآن هو المعجزة. وكون القرآن معجزة ليس شيئا آخر غير كونه أولا يكتفي بالخاصة المحددة لطبيعة المخاطب به (النطق والعقل) وثانيا عرض الاستدلال بنظام الطبيعة والتاريخ وتحديد طبيعتهما وطبيعة الوصول إلى نظامهما .وذلك هو معنى فصلت 53وما يمكن أن يعوق علم نظامهما والعمل به أي آل عمران .7وكل ما ينسب إلى الرسول من المعجزات غير هذين من الكذب عليه. أبو يعرب المرزوقي 59 الأسماء والبيان
-- وإذا كان ذلك كذلك فالقرآن ليس شيئا آخر غير تفسير الكلمات التي تلقاها آدم فاتمهن فعفا عنه ربه .فالختم يشرح الفتح :الإسلام هو الغاية لكونه هو البداية في تأسيس علاقة الإنسان بالله هي حقيقة الاستخلاف .فالكلمات التي تلقاها آدم وحواء فأتماها وعفا الله عنهما هما مضمون القرآن الكريم بوصفه الرسالة الخاتمة التي تلقاها محمد لتذكر بمضمون الرسالة الفاتحة التي تلقياها وهي شهادة أبناء آدم في ظهور آبائهم التي صاغها القرآن (الأعراف .)173-172والجديد هو تحريرها من علتي التحريف .فيكون الختم هو تحرير هذه الرسالة من علتي تحريفها واستعراض كل التحريفات التي حصلت والتي عيرت بمعيار التصديق والهيمنة في القرآن الكريم: .1وعلة التحريف الأولى هي الوساطة الروحية فكان كلام الله للرسول ناهيك عمن يدعي وراثته \"إنما أنت مذكر\" أي لست وسيطا بين المؤمنين وبيني. .2وعلته الثانية هي الوصاية السياسية فكان كلامه \"لست عليهم بمسيطر\" ناهيك عمن يدعون الحكم باسم الله. وليست هذه الأجوبة من عندي .فهي مضمون سورة آل عمران التي تبين أن علة التحريف هي التحالف بين رجال الدين ورجال السياسة لاستعباد الإنسان بتحريف الأديان .وغاية هذا التواطؤ هو تأليه عيسى عليه السلام (آل عمرا )79تحريفا كان هدفه تأسيس الكنسية الدينية والحكم بالحق الإلهي في الدين ولهما ما يناظرهما في الفلسفة الكنسية الفلسفية والحكم بالحق الطبيعي(أفلاطون). أبو يعرب المرزوقي 60 الأسماء والبيان
-- كيف نحسم الصراعين؟ أولهما صراع بين الفقهاء والمتصوفة حول علاقة القانون بالأخلاق وثانيهما بين المتكلمين والفلاسفة حول علاقة العلم بالإيمان .وهما صراعان ينتجان عن وهم قابلية الفصل بين الفقه والأخلاق في العمل والشرع وبين العلم والإيمان في النظر والعقد بسبب الفصل بين الديني والفلسفي. ونبدأ بالصراع بين الفقهاء والمتصوفة باسم تعارض بين القانون والأخلاق .فالمتصوفة يدعون تمثيل الحقيقة ويتهمون الفقهاء بتمثيل الرسوم .وهذه الدعوى تتضمن أمرين سبق أن تكلمنا في أصلهما التحريفي .فالمتصوف المتفلسف يدعي علما محيطا بالحقيقة على ما هي عليه وهو ما يعني أحد التكذيبين للقرآن. فلا يقبل من المتصوف قول ذلك من دون افتراض أحد أمرين :إما نفي الغيب أو الزعم بعلمه .وكلاهما تكذيب للقرآن بل هما كفر بنصه .فنفي الغيب كفر صريح لأن الإيمان به من بنود العقيدة وهو كفر ضمنني لان ادعاء الاطلاع عليه تكذيب لحجبه القرآني حتى على الرسل .وإذن فالمتصوف يحرف مفهوم للأخلاق. الأخلاق لا تتعلق بباطن منفصل على الظاهر بل هي تتجلى في ظهورها وما لا يتجلى في الظهور هو من السرائر التي لا يعلمها إلا الله .وهنا يأتي دور الفقهاء .فعبارة \"نحن نحكم بالظاهر والله يتولى السرائر\" لا تعني الحكم بأي ظاهر بل بما يتجلى بظهوره للبحث العلمي وليس الظاهر الساذج والغفل. وهذه مناسبة لحسم قضية الانتقال من معاني القرآن إلى دلالاته .فمعاني القرآن لا يعلمها إلا الله ولذلك نهى عن تأويل متشابهه .وكل معانيه متشابهة إذا لم يحدد لها دلالات معينة خارجه .وبهذا المعنى فالقرآن لم يقل إن تبين حقيقته يقع بشرح ألفاظه (آياته النصية) بل بما حددته فصلت 53مجال المحكم. أبو يعرب المرزوقي 61 الأسماء والبيان
-- محكم القرآن هو الآيات التي تحيل إلى مرجعيات تنقلنا من المعاني المرسلة إلى الدلالات المحددة بتحديد مرجعياتها في الوجود التي على الإنسان التعامل معها لتحقيق مهمتيه: الاستعمار في الارض والاستخلاف فيها .لذلك نهت آل عمران 7على تأويل المتشابه وأمرت فصلت 53بما نتبين به حقيقة القرآن. ولآخذ الآن أمثلة من أصول الفقه .فقد ظن مؤصلوه أن آيات الأحكام محكمة بمعنى أنها ذات مرجعية محددة في النص وليست معان إذا قرئت نصا كانت متشابهة .ذلك أن ما جعلهم يتوهمون أنها محكمة هو أنهم خلطوا بين الحكم وتقدير العقوبة فيه .فالسرقة حكمها أنها جريمة .وقطع اليد مقدار العقوبة وليس الحكم. والمثال الثاني هو الحرابة .فالحكم هو أنها جريمتان: .1سرقة. .2مسلحة. وتقدير العقوبة قطع اليد مثل السرقة وقطع الساق لأن المحارب قاطع طريق على المسافرين عادة .وهو عقاب متعلق برمز السفر أي الرجل مثل قطع اليد العقاب المتعلق برمز السرقة .ولما يقع الخلط بين الحكم ومقدار العقوبة ونوعها يظن الحكم ليس معنى بل دلالة ويخلط بالعقاب الذي له دلالة محددة هي قطع اليد وقطع الرجل. والتمييز بين الحكم والعقاب عامة ومقداره خاصة واضح .فعندما يعطل الفاروق تطبيق الحد على السارق فهو لم يلغ الحكم لأن السرقة تبقى جريمة ولا تتغير طبيعتها .لكنه حد من العقاب بل وأوقفه لكأن الجريمة شبهت بالقوة القاهرة وهي المجاعة .وتلك وظيفة القضاء بحسب الظروف. والدليل القاطع والأقوى من دليل ما قام به الفاروق هو آية الحرابة ذاتها .ففيها يوجد أمر قرآني بتعطيل العقاب ومقداره إذا استسلم المحارب قبل أن تقدر عليه السلطة الحاكمة .ولا يعني ذلك أن الحرابة السابقة لم تكن جريمة بل هي تبقى جريمة .لكن عقابها ومقداره يتغير على الأقل من حيث تقدير المقدار لأن الآية حددت القدر الأعلى أبو يعرب المرزوقي 62 الأسماء والبيان
-- منه بمقتضى ظرف بناء دولة في جماعة لم تتعود على النظام واحترام الملكية بل كانت يغلب عليها السلب والنهب وقطع الطرق. وينبغي أن أشير إلى قصور آخر في التأصيل .فالحكم لم يتعلق بالسرقة في ذاتها بل بالسارق والسارقة .واسم الفاعل في هذه الحالة لم يطلق على الفاعل لحظة الفعل فحسب بل شبه طبيعة ثانية وليس وصفا مقصورا على المتهم بالسرقة لحظة قيامه بالسرقة .فعندما اتكلم على الإنسان بوصفه مائتا مثلا لا يكون القصد أنه مائت لما يموت بل أعني اتصافه بالمائتية عامة. فإذا تعلق الحكم بالسارق والسارقة فالمعنى أن ما صارت له السرقة شبه طبيعة ثانية أي بحصول صفة ثابتة صارت طبيعة ثانية مثل مائت طبيعة أولى .ولذلك فالعقاب جاء في أقصى ما يمكن أن يكون عليه فقطع اليد رمز لأداة السرقة التي صارت لها هذه الطبيعة فيكون العقاب هو بدوره صفة ثابتة مثل الصفة التي تنسب إليها الجريمة. وأخيرا فنظام القانون الجنائي لا يفيد بفصوله فصلا فصلا بل بالسلم الذي يرتب الجنايات .فمن لم ينتبه إلى أن القرآن الكريم يولي مسألة حماية الملكية منزلة أعلى حتى من حماية النفس لم يفهم سر هذا النظام .ذلك أن تحرير الجماعة من الثأر كان يقتضي المحافظة على القصاص مع الحد منه بالدعوة إلى العفو .لكن الملكية لم يرد فيها كلام على العفو لأن غالب الجرائم والخصومات في الجماعات البشرية متعلق بها ولذلك فالتشدد في ردعها ضرورة وخاصة في مجتمعات لم تتعود إلى وجود دولة ونظام قانوني وخلقي مؤسس على شرطي الاخوة الكونية (النساء )1والمساواة بين البشر (الحجرات .)13 وحتى يسهل الأصوليون على أنفسهم هذه القفزة من المعنى إلى الدلالة للإيهام بأن لهم مرجعية تمكن من حصر المعنى في دلالة معينة جعلوا الحكم الذي هو معنى عين مقدار العقوبة المقدرة التي لها دلالة مرجعية مثل قطع اليد وقطعها والرجل على خلاف .وهذا القفز أفسد كل التشريع الإسلامي مرتين. أبو يعرب المرزوقي 63 الأسماء والبيان
-- الأولى بالإيهام بأن القرآن يشرع للنوازل وليس للتشريع فاعتبر تشريعا للنوازل التي يعالجها التشريع فصار تشريعا مباشرا ويقاس عليه تشريع مثله .وذلك غير صحيح ولا يحل مشكل التشريع .لذلك احتاج الأصولي للتحيل بالقياس ثم بالاستصحاب إلى أن وصل إلى المقاصد لكأن مقاصد الله يعلمها غيره. وهذه الحيل جميعا هي مصدر الفساد الثاني وهي ترد إلى حيلة مضاعفة قضت على روح التشريع الإلهي للتشريع للنوازل وليس للنوازل مباشرة :فالقياس يوسع يلغي تشريع التشريع ويبدع تشريعا يوسع ويضيق تشريع التشريع إما بالقياس التوسيعي أو بالقياس التضييقي أو ما يسمى سد الذرائع. وحتى يحصل ذلك بمنطق اعتبار النصوص تشريعا مباشرا ومقدار العقوبة هي الحكم انتهى الاصوليون إلى فرض ترادف في الأحكام فصارت الأمر بالشيء يعتبر دليل وجوب والنهي عنه دليل تحريم لكأن الله كان يعجزه أن يطبق كلمتي فرض وكلمة حرام حيث اضطر المؤصل إلى تأويل الامر بالوجوب والنهي بالتحريم .وحتى يحصل ذلك بمنطق اعتبار النصوص تشريعا مباشرا ومقدار العقوبة هي الحكم انتهى الاصوليون إلى فرض ترادف في الأحكام فصارت الأمر بالشيء يعتبر دليل وجوب والنهي عنه دليل تحريم لكأن الله كان يعجزه أن يطبق كلمتي فرض وكلمة حرام حيث اضطر المؤصل إلى تأويل الامر بالوجوب والنهي بالتحريم. ثم وضعوا جملة من القواعد التي يكفي تعميمها لبيان سخفها بل وحمق أصحابها .فمثلا لو صحت قاعدة ما كثيره حرام فقليله حرام وقياسا عليه ما كثيره ضار فقليله ضار لاستحال أن يغتذي المرء من أي شيء .فكثير الغذاء قاتل وقليله ضروري للحياة .ولذلك فكل أسباب سد الذرائع من الغباء الذي لا حد له. فما حرمه الله حرمه دون تمييز بين كثيره وقليله بل حرمه بصورة حاسمة ولم يستثنه من التحريم إلا في حالة الضرورة القصوى التي تبيح المحظور وأشهرها ثلاثة وهي مطلقة أبو يعرب المرزوقي 64 الأسماء والبيان
-- التخريب لحياة الإنسان :بعض الأغذية (كالخنزير للفرد) وبعض الألعاب (كالميسر للثروة) وبعض العلاقات الجنسية (كالمحارم للنوع). ولا شيء من الحديث باعتباره اجتهاد الرسول التعليمي (الإسراء )106يمكن أن يكون فوق القرآن وكل ما خالفه موضوع إذا لم يكن فيه تأويل يقبله العقل ليتفق مع القرآن إما في نصوص محددة أو في المبادئ العامة التي يقتضيها تناسق النظام القرآني من حيث هو رسالة تذكير بشروط تحقيق مهمتي الإنسان: .1تعمير الأرض. .2بقيم الاستخلاف. وكل ما يتعلق بتفصيل العبادات لا خلاف فيه لأنه شرح لما هو بين من القرآن من حيث الأصل المبدئي .وكل الخلافات حول التشريع النبوي يزول بمجرد التمييز بين ما يقبل الرد إلى القرآن وما لا يقبله .فالأول صحيح والثاني موضوع .وهذا مبدأ ليست أنا الذي اضعه بل هو ما بنى عليه ابن القيم رؤيته وما لا يمكن لعاقل أن يجادل فيه. والنهي ليس تحريما والأمر ليس إيجابا لأنهما متروكان لامتحان أهلية الإنسان للاستخلاف في مجال الجهاد العملي (مجاهدة النفس ومدى قدرتها على تطبيق الأمر والنهي) ولو فرضناها من جنس التحريم لكان التشريع متنافيا مع علته أي الحرية التي تقدر بالمسؤولية في هذا الجهاد الخلقي للمكلف. وحتى أيسر فهم هذا التمييز فلأقل إن التحريم والإيجاب تشريع مباشر لتعلقه بشروط البقاء العضوي فردا وجماعة وبشروط البقاء الاقتصادي والاجتماعي عامة أي بشروط ما يترك تشريعه للإنسان حتى يقدر علمه وعمله بوصفهما ما كلف به ليكون أهلا أو غير أهل للتعمير بقيم الاستخلاف وهو التكليف. فكل ما لم يرد فيه صراحة كلمة التحريم والإيجاب فهو من المندوب والمكروه ما لم يصل إلى ما يجعله حراما أو واجبا عندما يلحق بمفعوله ما يقبل القيس على ما جاء فيه النص أبو يعرب المرزوقي 65 الأسماء والبيان
-- محرما أو موجبا صراحة .فإذا لم نقل بذلك فإننا نخرج البعد الخلقي من المسؤولية التي بها وبها وحدها يكون القانون خلقيا. وبهذا يستعبد القانون بعده الخلقي فتزول حجج المتصوفة السخيفة حول تمثيلهم للأخلاق واعتبار القانون من الرسوم أو من القشور لكأن الله اعتبر الدنيا شيئا تافها يمكن اهماله ولم يعتبرها مطية الآخرة بحيث إن الإنسان سيقيم كيانه ومنزلته الوجودية بأقواله وأفعاله فيها إذ يوزنان يوم الدين. لم يبق الكثير في هذا الفصل الأخير .فلأمر إلى صراع المتكلمين والفلاسفة حول علاقة الإيمان بالعلم يتعلق بالنظر والعقد تعلق صراع الفقهاء والمتصوفة حول العمل والشرع. وهذان الصراعان حالا دون تحقيق الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف ودون تحقيق المشروع وقيمه. وهذا الصراع بين المتكلمين والفلاسفة حول العلم والإيمان أسخف من ذاك الصراع بين الفقهاء والمتصوفة حول القانون والأخلاق .فالعالم لو لم يكن يؤمن بأن للأشياء قوانين وأن للإنسان قدرة على علمها لأن الأول يلغي حتى مجرد التفكير في طلبها والثاني يجعله يعتقد استحالة طلبها اعترافا بعجزه دون علمها. ولهذه العلة جمعت بين النظر والعقد .فالنظر يستند إلى عقدين .يبدأ بعقد في وجود النظام في العالم وفي قدرة الإنسان على معرفته وينتهي بعقد في أن ما توصل إليه بحثه دليل على وجود النظام وعلى قدرة الإنسان على علمه .ومن ثم فلا نظر من دون هذين العقدين وهما جوهر الإيمان فلسفيا كان أو دينيا. وجمعت بين العمل والشرع .فالعمل يستند إلى شرعين .يبدأ بشرع ينظم العمل في مستواه الأول من حيث هو مشروع وينتهي بشرع يقيم العمل في مستواه الثاني كإنجاز. وكلاهما يتواصل خلال العمل الناقل للمشروع إلى الإنجاز لأن المشروع يتغير في ضوء الإنجاز والانجاز يتغير في ضوء المشروع. أبو يعرب المرزوقي 66 الأسماء والبيان
-- والمشروع الكوني للإنسانية يستند إلى النظر والعقد في علاقة الإنسان بالطبيعة وإلى العمل والشرع في علاقة الإنسان بالتاريخ وهو يسعى بهما إلى تحقيق التعمير والاستخلاف من أجل تحقيق الأخوة البشرية (النساء )1بمعيار المساواة بينهم دون تمييز عرقي أو جنسي او حتى ديني أعني بمعيار التفاضل عند الله بالتقوى (الحجرات .)13 ولنعكس الآن :فما الإيمان في الإسلام؟ هل هو شيء آخر غير ما تذكر به الرسالة؟ وهل يوجد طريق توصل إليه غير الطريق التي سلكتها الراسلة في التذكير؟ والآن هل الرسول قال صدقوني بدليل أني أمشي على الماء؟ أو عندي عصا موسى؟ أو أخلق من الطين طيرا أو ..أو إلخ ...من المعجزات؟ صحيح انه يقص علينا ذلك ويعتبر تصديق الرسال والإيمان بالكتاب السماوية شرطا في الإيمان .لكن أليس صحيحا كذلك أن رده ع على المعاجزين الذين طلبوا مثلها كان أن يطلبونه من معجزات هي للتخويف وليست للإقناع؟ ألا يعني ذلك أن طريق التبليغ والتذكير الخاتمة تحرص على احترام معتقدات الآخرين لكنها تستعمل الطريقة التي لا تعتمد إلا على النظر والعقد للوصول إلى الحقيقة الدينية وعلى العمل والشرع لتحقيقها؟ لم تكن حججه من هذا الجنس بل كانت من جنسين لا ثالث لهما أحدهما بالأقوال وهو مضاعف والثاني بالأفعال وهو مضاعف .فبالأقوال كان حجاج القرآن الإحالة إلى نظام الطبيعة ونظام التاريخ إما بالاستدلال المنطقي أو بالدراما القصصية للاعتبار .أما بالأفعال فهو تاريخ الرسالة في حياته هو نفسه اجتهادا وجهادا. ما حققه الرسول الاكرم خلال حياته الرسولية ( 23سنة) كان في مستوى تربية جيل أنجز ما طلب منه التذكير بشروطه وفي مستوى انجازه البذرة الاولى لتحقيق عينة من مشروع القرآن من الأخوة البشرية (النساء )1بمعيار المساواة بين البشر وعدم التفاضل بغير التقوى (الحجرات )13بالاجتهاد والجهاد. ولهذا العلة كانت حيرة الفكر الغربي الحديث بخلاف ثورة الغرب الوسيط ضد الإسلام عامة ورسوله خاصة .فهؤلاء اعتبروا الإسلام ليس دينا لعلتين-1:لقوله إن الله يرسل لكل أبو يعرب المرزوقي 67 الأسماء والبيان
-- أمة رسولا بلسانها ولم يعتبر الدين حكرا على شعب مختار و-2لأنه لم يحقق ما حققه بمعجزات تخرق النظام بل بالاجتهاد والجهاد. وموقف الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي يشبه موقفهم موقف الغرب الوسيط: الأولون يكذبون فيصنعون للرسول معجزات غير ما في القرآن ردا عليه .والثانون لا يعتبرونه دينا مثل الغرب الوسيط بدليل أنهم يجادلون فيه ولا ينبسون ببنت شفة في اليهودية ولا في المسيحية إما خوفا منهم أو طمعا فيهم. لكن الغرب الحديث وخاصة فلاسفة التنوير كانوا شديدي الإعجاب بالرسالة الإسلامية وبالقرآن وبمحمد .فهم يعتبرون الإسلام دين العقل والعقلانية والتنوير -روسو ولسنج وجوته وحتى كنط الذي يتهمه هيجل بكونه أقرب إلى الإسلام منه إلى المسيحية-وذلك لأن القرآن لا يحتج بغير النظامين الطبيعي والتاريخي ويعتبر نظامه جامعا بين النظامين ليس من حيث هو نص فحسب بل وكذلك من حيث طبيعته التي تعتبر آياته التي تبين حقيقته ينبغي طلبها لتحقيق مهمتي الإنسان من آيات الله التي تتجلى في الآفاق وفي الأنفس وليس في الشرح اللفظي لآياته التي يمثلها نصه المذكر بالمهمتين وبشروط تحقيقهما في علميهما والعمل به (ما فصلت .)53 وختاما لهذه المحاولة التي كنت أتمنى ألا تطول إلى هذا الحد أقول إن استئناف دور الإسلام الذي بدأ منذ قرنين وإن ظل استئنافا متعثرا لا يبرح مكانه قد آن أوان تأسيسه فلسفيا .لكن تأسيسه الفلسفي ليس في قطيعة مع أمرين: ما في الاستئناف مثل النشأة الاولى من وحدة الديني والفلسفي. وما في المدرسة النقدية (الغزالي وابن تيمية وابن خلدون) من التلمس لهذا المعنى. أبو يعرب المرزوقي 68 الأسماء والبيان
-- أبو يعرب المرزوقي 69 الأسماء والبيان
Search