Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore تردي النخب المتنفذة دلالاته وعلله وعلاجه لاستعادة الدور الكوني_ابو يعرب المرزوقي

تردي النخب المتنفذة دلالاته وعلله وعلاجه لاستعادة الدور الكوني_ابو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2019-04-20 19:08:16

Description: تردي النخب المتنفذة دلالاته وعلله وعلاجه لاستعادة الدور الكوني_ابو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫‪--‬‬ ‫فهل التداول حول سد الحاجات والقيمتين الاقتصاديتين مثل التداول حول سد الحاجات‬ ‫الروحية حول القيمتين اللااقتصاديتين وخاصة في مناخ فيه فرق بين هذين الجنسين من‬ ‫القيم المضاعفين بحسب الحاجات وبين ما يكتفي بالجنس الاول ولا يعترف بالجنس الثاني؟‬ ‫وأيهما أيسر تواصلا والعلاقة بالمرجع وبالمعنى‪.‬‬ ‫وليكن المقياس مقدار سوء التفاهم في الأولى ومقداره في الثانية أو مقدار الخلافات بين‬ ‫المتداولين في الأول والمتداولين في الثاني‪ .‬فالملاحظ عامة أن الجنس الأول بمستوييه‬ ‫الاستعمال والتبادلي هو مجال التفاوض الذي يمكن القول إن سوء التفاهم فيه نادر وغالبا‬ ‫ما يكون للتحيل في المعاملات‪.‬‬ ‫لكن سوء التفاهم في الجنس الثاني غالبا ما ينتهي إلى صراعات قاتلة وكلما أدت الأولى‬ ‫إليها كانت بسبب ادخال الثانية فيها‪ .‬ومن هنا نميز بين المعاملات الاقتصادية والمعاملات‬ ‫الثقافية بين الشعوب‪:‬‬ ‫‪ .1‬فالأولى لا تتوقف حتى في أقصى حالات الحروب‪.‬‬ ‫‪ .2‬والثانية هي أصل كل القطائع وهي سر صدام الحضارات‪.‬‬ ‫والفصل بين التداولين يرد إلى الفصل بين جنسي القيم اللذين لا يخلو منهما مجتمع او‬ ‫حضارة وبهما تتمايز الحضارات وخاصة بما لدور الثقافي في الاقتصادي أو لدور القيم غير‬ ‫الاقتصادية في القيم الاقتصادية وبهذه العلاقة تتحدد سلالم القيم في الحضارات وفي حقب‬ ‫نفس الحضارة التي تختلف كذلك دون أن يؤدي ذلك إلى خصوصيات تلغي الكلي في‬ ‫النوعين‪:‬‬ ‫‪ .1‬القيم الاقتصادية بصنفيها (الاستعمالية والتبادلية) ذات مراجع محددة وهي‬ ‫محددة مرتين بما يعرض في السوق من بضائع وخدمات وبما يستدعيه سد الحاجات‪ .‬والأول‬ ‫تظهر فيه العلاقة بين العرض والطلب‪ .‬والثاني تظهر دوافع الطلب بجعلها دوافع‬ ‫العرض‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪48‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫‪ .2‬القيم المتعالية على الاقتصادية (قيمة الحب وقيمة المقدسات) وتقبل التعريف‬ ‫عادة بكونها لا تقبل التبادل ولا الاستعمال رغم أنها يمكن أن تصبح اقتصادية في المضاربات‬ ‫بسبب كونها ذات علاقة بالقيم التبادلية في الاقتصاد‪.‬‬ ‫وهذه القيم ليس لها ذات مراجع محددة‪ .‬فهي لا تحيل إلى دلالات بل إلى معان مطلقة‬ ‫الاختلاف بين الافراد فضلا عن الحضارات بل وحتى عند نفس الفرد بحسب أحواله‬ ‫النفسية‪ .‬ولذلك فوراء النوعين عالم أعمق يصل بين المادي والروحي في كيان الإنسان‬ ‫ذاته‪ .‬وهو عالم يمكن اعتباره جهرا واصلا بين هذين العالمين الاقتصادي والروحي‪.‬‬ ‫وقد درست العالم الأوسط عندما تكلمت على ذوق المائدة وذوق السرير مباشرة أو‬ ‫بتدخل فنيهما (قيم الذوق الغذائي والذوق الجنسي وما يترتب عليهما من فنون) في عالمنا‬ ‫الفعلي ذي المرجعيات الحقيقية في العالم الطبيعي والتاريخي وفي عالمنا الرمزي الذي له‬ ‫معان وليس له مرجعيات محددة‪.‬‬ ‫وغالبا ما يكون ذلك كله بما فيه العالم الاقتصادي عند من ليس له منه نصيب في نسبة‬ ‫عالم الأحلام والخيال إلى عالم العلم و\"الواقع»‪ .‬وحتى نفهم العلاقة بين هذين العالمين‬ ‫وأهمية دور كل منهما فلنذكر بنية ما جرى في سورة يوسف‪ :‬فكل ما جرى فيها جرى في عالمين‬ ‫عالم الأحلام أولا ثم عالم التاريخ ثانيا والأحداث التي جرت في الأحلام كمعان وليس‬ ‫كمراجع بدليل الحاجة للتأويل جرت في التاريخ كمراجع بها أولت تلك المعاني‪.‬‬ ‫فالأحلام تعلقت بالحب وبالاقتصاد وبتأويل الأحلام توقعا لترجمة معانيها إلى دلالاتها‬ ‫وبالحكم وبرؤية برهان الرب أي بالحب والاقتصاد والعلم والسياسة والدين (رأى برهان‬ ‫ربه) وكلها ترد في الأحلام معان بلا مراجع محددة ثم تترجم بالتأويل لتصبح دلالات ذات‬ ‫مراجع معينة‪ .‬ونحن إذن أمام نوعين من التداول بين الناس‪.‬‬ ‫لن أتكلم على ما يسمى بالعالم الافتراضي إذ لا حاجة إليه لأن الإنسان يعيش دائما في‬ ‫عوالم افتراضية حتى قبل أن يوجد ما صرنا نسميه بالخصوص عالما افتراضيا‪ .‬فلنفرض‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪49‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫مثلا لقاء بين جماعة من ثقافات مختلفة كلهم يفهم لغات الحاضرين بدلالاتها الاصطلاحية‬ ‫في اختصاصه كما يحدث في لقاء العلماء‪.‬‬ ‫ولنفرض أنه في وقت الراحة بين محاضرتين خلال شرب القهوة بدأوا يتكلمون في أمور‬ ‫يغلب على الكلام فيها ما يعبر عن أخص خصوصيات الدلالات في لغاتهم ‪-‬العبارات‬ ‫الأيديومية التي يعسر ترجتها أو حتى أسماء الأشياء التي لا يخلو منها مجتمع كأسماء‬ ‫المأكولات المميزة فإن التفاهم سيتوقف لعدم المراجع‪.‬‬ ‫وليكن أبسط مثال مع افتراض ألا أحد منهم عاش في بلد غير بلده فإن أكثر الاشياء‬ ‫ضرورة في حياة البشر‪-‬كالخبز مثلا‪-‬سيصبح أسماؤه بالنسبة إليهم جميعا غير محيلة لنفس‬ ‫الشيء المعين مثل الباقات في فرنسا والعيش في مصر والخبز في تونس والخبز في البادية‬ ‫التونسية يحيل إلى عدة أشياء مثل الكسرة والملاوي والجردقة أو خبزة الطابونة‪.‬‬ ‫وما تتميز به هذه الأعيان معان لا يمكن قولها لأنها من المشار إليه الفردي بإطلاق ولا‬ ‫يفاد إلا في اللغة التي تستعمله بحيث إن الكلام بين الاساتذة في ذلك اللقاء ينتقل من كلام‬ ‫ذي مرجعية معينة إلى كلام يكتفى فيه بمعنى عام ليس له مرجعية معينة أو لنقل إن كل‬ ‫واحد منهم سيفهمه بمرجعيته في لغته‪.‬‬ ‫وهذا يعني أن المعنى أوسع أو أرحب من الدلالة لأنه في الحقيقة لا دلالة محددة له بل‬ ‫هو معنى كلي لا يوحد بينه إلى وهمنا بأن هذه المعاني كلها واحدة لأننا نفترض لها دلالة‬ ‫مرجعية واحدة‪ .‬وعندما نفترض لها دلالة مرجعية واحدة نلغي المعنى لصالح الدلالة‬ ‫بحيلة وحدة مجال الدلالة أو الترادف‪.‬‬ ‫وقد حاول أفلاطون أن يوحد هذا العالم الافتراضي الدائم فأوجد عالما يوحد بين ما‬ ‫يسميه النسخ بنظرية المشاركة في المثال‪ .‬وتوهم أرسطو أن ما يشبه هذا المثال محايث في‬ ‫الأشياء ومن ثم فما به تتمايز الأعيان المشار إليها والتي هي الجوهر المؤلف ليس إلا من‬ ‫الأعراض التي لا تقبل العلم‪ .‬فيكون ما يتفرد به الفرد ليس مقوما ومع ذلك فهو يعتبر‬ ‫الفرد هو الجوهر الأولى والمشتركات المقومة هي الجواهر الثواني‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪50‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فإذا اعتبرنا كل الأعيان الفردية ممثلة للخصوصي المطلق وكان تفرده هو جمعه لما لا‬ ‫يتناهى من الخصائص التي كل واحدة منها مشتركة لكن اجتماعها في الفرد يجعله متميزا‬ ‫عن كل فرد آخر كان ذلك يعني أن ما يميز الفرد العين هو لا تناهي صفاته لما بين المفهوم‬ ‫والماصدق من تعاكس في \"المقدار\" الدلالي‪.‬‬ ‫فلو اردت أن اعرف نفسي لقلت حيوان ناطق‪ .‬لكن هذا يصح على كل إنسان‪ .‬فإذا أضفت‬ ‫حيوان ناطق بالعربية‪ .‬فهذا يصح على كل عربي زدت خاصية للمفهوم فأنقصت عدد‬ ‫المنتسبين إلى مجموعة الماصدق فإذا أضفت تونسي فهذا يصح على كل تونسي لكني بهذه‬ ‫الزيادة في المفهوم أنقصت مجموعة الماصدق‪.‬‬ ‫هل أصل للفرد؟‬ ‫وفي الحقيقة فما يحصل ليس ضم الفرد إلى مجموعة أو العيني إلى الكلي بل ضم كلي‬ ‫أدنى إلى كلي أعلى منه ولذلك فلا وجود لكلام على خصوصية فردية ولا ندري ما هي‬ ‫الخصوصية الجماعية التي تختلف عن الكلي الطبيعي بمعنى كلية ثقافية أو حضارية‬ ‫يشترك فيها الأفراد مثل اللغة إذ قد يتكلمها غير أهلها‪.‬‬ ‫ويبدو مستحيلا أن أصل إلى الفرد لأن تحديده سيكون بمفهوم لا متناه يضيف كل مرة‬ ‫مقوما مفهوميا ويحد من مجموعة الماصدق إلى غير نهاية وهو أمر مستحيل‪ .‬وإذن‬ ‫فالخصوص المطلق نعتقد في وجوده وإلا لما امتاز الفرد عن غيره من الأفراد لكنه لا ينقال‬ ‫لأن شرط قوله مستحيل‪ :‬عدد لامتناهي من التصورات‪.‬‬ ‫وبذلك فكلنا نعيش في عالمين عالم الكليات وهو الوحيد الذي ينقال وعالم الخصوصيات‬ ‫وهو لا ينقال إلا إذا اعتبرنا المشتركين في ثقافة معينة يشتركون في غير كليات معنوية لا‬ ‫تحيل إلى عينيات مرجعية من جنس الكليات المرجعية في علم الحياة مثلا عندما نصف قوانين‬ ‫الوراثة أو آليات عمل الأجهزة العضوية‪.‬‬ ‫وفي هذه الحالة فالخصوصيات الثقافية تكون متعلقة بما يماثل هذه الآليات العضوية في‬ ‫اللغة أو في العادات أو في المؤسسات التي أنشأتها تلك الجماعة‪ .‬لكن حتى في هذه الحالة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪51‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫فإن المميز لها سيكون من باب الأعراض التي لا تصل إلى كلي خصوصي من طبيعة ثقافية‬ ‫فما به خصوصيته ليس له أثر في وظائفها‪.‬‬ ‫وليكن مثالنا أخص ما يمكن أن تختص بها جماعة أعني لغتها‪ .‬فإذا أزحنا البعد الصوتي‬ ‫(الفونيتيك) الذي هو فردي دائما واعتبرنا الخصوصية متعينة في الحروف الدالة (أي‬ ‫الفنونيماتيك) فإنها حينئذ ليست خصوصية بل هي كليات تدل بنسقها وليس بأعيانها ما‬ ‫يجعلني أسمع شيئا وأفهم شيئا آخر مختلفا عنه‪.‬‬ ‫الطفل واسمع الأثلغ وأسمع المصري والتونسي والجزائري والخليجي وكلها أصوات‬ ‫مختلفة وأفهم بردها جميعا إلى \"كلي\" صوتي هو الفونام (الحرف المجرد وليس الملفوظ)‬ ‫وليس الفون (الحرف الملفوظ)‪ .‬وما أفهمه كما سبق هو دلالة ما ليست بالضرورة واحدة‬ ‫وهو إذن معنى أوسع من الدلالات العينية وهو تصور لا يفهم ما لم أرجعه إلى آليات الإفادة‬ ‫بالنظام‪.‬‬ ‫وآليات الإفادة واحدة في كل الألسن رغم اختلاف أنظمة النحو لأن النحو هو نفسه لا‬ ‫يفيد بذاته ولا بالدلالة المباشرة المحيلة على أعيان الموضوعات التي تمثل مراجع الكلام‬ ‫بل بآليات أعمق منه هي آليات الأشكال البلاغية من استعارة وكناية وهي كونية ناهيك عن‬ ‫المنطق المرتب لأنظمة السياقات فضلا عن كون كل كلمة تفيد بالتناظر بين منزلتها في معجم‬ ‫اللغة كله ومنزلة ما تتكلم عليه في نظام المشار إليها به في تلك اللغة‪.‬‬ ‫فتكون اللغات كلها تفيد بنفس الطريقة حتى وإن اختلفت عوالمها لأن المفيد ليس التناظر‬ ‫بين الكلام وموضوعه بين بين النظامين نظام الكلام نظام الموضوع‪ .‬ولو كان لكل لغة ما‬ ‫يميزها عن غيرها تمييزا ذا فائدة تحدد الخصوصية المقومة وليس الخصوصية العرضية‬ ‫لاستحال أن يوجد علم اللسانيات كما يستحيل عمل الظاهرات الحية لو اعتبرنا خصوصيات‬ ‫بعضها مقومة لها فتميز بينها من حيث هي ظاهرات حية متحدة في كليات مقوماتها وليست‬ ‫خصوصية عرضية‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪52‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والحصيلة هي أننا نوجد دائما في عالمين أحدهما يمكن أن نعلمه ويبدو وكأنه عالم من‬ ‫\"أجساد\" أو فانتومات لا توجد إلا في أذهاننا والثاني لا يمكن أن نعلمه رغم أننا نعيشه‬ ‫وكأنه عالم محسوس مباشرة لكنه لا يقبل الانقيال وهو الخصوص المطلق الذي يمكن أن‬ ‫نعتبره ما يقصده ابن خلدون بالوجدانيات‪.‬‬ ‫لكن هذا العيني المطلق والوجداني في سيلان أبدي لا يقر له قرار وهو أعراض متوالية‬ ‫بلا توقف وكأنه سيل من المدارك الحسية التي تتناهبنا من كل حدب وصوب بعدد الحواس‬ ‫فنكون وكأننا هدف رماية لما يأتينا من خارجنا ومن داخلنا وهي رماية لا نسيطر عليها إلا‬ ‫بتلك الفنتومات الكلية التي ندركها‪.‬‬ ‫فنكون بذلك نعيش الموجود ولا نعلمه ونعلم المعدوم ولا نعيشه‪ .‬فإذا وصفنا الاول‬ ‫بالموجود كان الثاني معدوما‪ .‬وإذا عكسنا فاعتبرنا الثاني هو الموجود لأنه هو المستقر في ما‬ ‫ندركه أو الباقي في حين ان الأول هو الفاني صرنا في عالمين باق نعلمه وفان نعيشه وقيامنا‬ ‫هو الوصل بين الباقي والفاني‪.‬‬ ‫لكننا بهذا الوصل بين الفاني والباقي في عالم الطبيعي والتاريخي هذا ‪-‬الدنيا‪-‬نشعر‬ ‫بأنه يوجد عالم آخر تنعكس فيه العلاقة فيصبح ما كنا نتصوره فانيا باقيا وما كنا نتصوره‬ ‫باقيا فانيا لأن هذا العالم هو الذي يصدق عليه أن الإنسان يأتي ربه فردا‪ .‬فيصبح ما كان‬ ‫يتفرد به من علم وعمل هو فرديته‪.‬‬ ‫وإذا كان الفرد لا يتحدد إلا بما يعلمه ويعمله أي بنظرة وعقده وبعمله وشرعه في عالم‬ ‫البقاء بخلاف عالم الفناء وإذن فاللامتناهي الذي رأيناه في استحالة تعريفه يعني أن‬ ‫المقابلة بين المقوم والعرضي حكم ظاهر لمن يحكم بالظاهر وهي لا معنى لها عند من يعلم‬ ‫السرائر بإحاطة تشمل اللامتناهي‪.‬‬ ‫وحينئذ يتعين الفرد الذي اثبت جدارته بالاستخلاف والفرد الذي فشل في ذلك‪ .‬وتلك‬ ‫هي ذروة السعادة وذروة الشقاوة لأن البصر يصبح حديدا فيعلم الإنسان ما كان غيبا‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪53‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ويتحرر من النسيان والغرق في عالم الخسر أو في مجرى الطبيعة والتاريخ ليصبح فعلا عين‬ ‫ما يشرئب إليه في ضيق دنياه إلى فسيح أخراه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪54‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫كنت سأختم الكلام بالفصل الثامن‪ .‬لكن بقي في النفس شيء من حتى‪ .‬كان لا بد أن‬ ‫أشرح لماذا جمعت بين النظر والعقد وبين العمل والشرع جهازين في الإنسان ليحقق‬ ‫وظيفتيه الأولى لتعمير الأرض والثانية لجعل هذا التعمير يكون بقيم الاستحلاف ثم‬ ‫اعتبرت هذين الجمعين يقتضيان وحدة الديني والفلسفي؟‬ ‫والأهم ما علاقة هذه العملية التي تحسم الصراع العملي بين الفقه والتصوف حول علاقة‬ ‫القانون خاصة والسياسة عامة بالأخلاق وتحسم الصراع بين المتكلم والفيلسوف حول علاقة‬ ‫الإيمان بالعلم خاصة وعلم علاقة الدنيا بالآخرة خاصة ومن ثم دور القيمي‬ ‫(الأكسيولوجي) في المعرفي (الابستمولوجي)‪.‬‬ ‫ذلك أني إذا لم أجب عن هذه الأسئلة أكون قد قلت في علوم الملة وفي علوم الحداثيين ما‬ ‫لا يتجاوز مجرد الدعوى عديمة الدليل فتتساوى دعوايا مع دعوى أصحاب هذه العلوم‬ ‫ويكون الترجيع إلى جانبهم بحكم راي الواحد لا يمكن أن يعتد به أمام رأي الأغلبية‬ ‫الساحقة فضلا عن ثقل التاريخ ودعمه للسائد‪.‬‬ ‫لا بد إذن من فصلين آخرين أحدهما لتعليل الجمع والتوحيد بين النظر والعقد في‬ ‫الأبستمولوجي والعمل والشرع في الاكسيولوجي والجمع والتوحيد بين الديني في الأديان‬ ‫والفلسفي في الفلسفات تعريفا للقرآن الكريم من حيث هو عرض نقدي للأديان والفلسفات‬ ‫بمنطق التصديق والهيمنة ببديل هو ثورتي الإسلام‪.‬‬ ‫وثورتا الإسلام هما تحرير الإنسان من الوساطة الروحية في التربية والوصاية السياسية‬ ‫في الحكم مع بيان المسار التاريخي الذي حققت به الأديان هذين الثورتين بثورتي هذه‬ ‫التحرير كما تعرضهما سورة هود تحريرا من عبودية الإنسان للطبيعة (نوح)وعبوديته‬ ‫للدولة(موسى) واستراتيجية تحقيقهما الإسلامية‪.‬‬ ‫ولست أنكر أن ما أحاول بيانه ليس من اليسر قبوله لأنه نسف مطلق للكاريكاتورين‬ ‫التأصيلي والتحديثي خاصة وقد بينته على قراءة فلسفية للقرآن واعتبار دوره النقدي‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪55‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫للأديان لتخليصها من التحريف نموذجا للعلاج النقدي للفلسفيات لتخليصها من التحريف‬ ‫مما أنتج التطابق بين الديني والفلسفي بمسار متعاكس الاتجاه بمعنى أن بداية أحدهما‬ ‫هي غاية الثاني‪.‬‬ ‫وليس في تعاكس المسار تضاد ولا خاصة تناقض‪ :‬فالديني ينطلق من الأكسيولوجي لينتهي‬ ‫إلى الإبستمولوجي بمعنى تقديم العمل والشرع على النظر والعقد والفلسفي يعكس‬ ‫فيقدم الإبستمولوجي على الأكسيولوجي بمعنى تقديم النظر والعقد على العمل والشرع‪.‬‬ ‫لكن الثمرة واحدة في التربية والحكم وتأسيسهما المتعالي‪ .‬مسألتان إذن‪:‬‬ ‫‪ .1‬الجمع الموحد‪.‬‬ ‫‪ .2‬وحسم الصراع‪.‬‬ ‫وسأبدأ بالجمع الموحد‪ .‬كيف لابد للنظر من العقد؟ أول عائق هو خرافة المقابلة بين‬ ‫العقلي والنقلي‪ .‬فهذه المقابلة تحصر الفلسفي في العقلي وتحصر الديني في النقلي‪ .‬ما يعني‬ ‫أن الفلسفي لا نقل فيه والديني لا عقل فيه‪ :‬كذبتان إما ساذجتان أو خبيثتان‪.‬‬ ‫ولأجب كاريكاتور التأصيل‪ :‬من يصدق هذين الكذبتين ينبغي أن يلغي القرآن كله‪ .‬فهو‬ ‫من بدايته إلى نهايته استدلال عقلي بأكثر مناهج الاستدلال العقلي صرامة صورية‬ ‫(يستعمل كل أشكال المنطق) ومادية (يستعمل كل التجارب الإنسانية في مضمون‬ ‫القصص)‪ .‬لا نقلـي في القرآن إلا ما يشارك فيه العقل أعني المضمون الذي يشكله ليجعله‬ ‫معلوما‪ .‬والدين والفلسفة كلاهما يستثني الغيب لأنه غير معلوم أي لنقل حتى نفهم الجمع‬ ‫بين الديني والفلسفي لأن العقل يعلم أن علمه محدود وليس محيطا‪.‬‬ ‫كلام القرآن على الغيب‪-‬وهو النقلي الوحيد الذي يظن غير عقلي‪-‬هو قمة العقلي لأنه‬ ‫لا يعطينا مضمون الغيب بل يعلمنا بأنه حد لعلمنا بمعنى أنه يؤسس للإبستمولوجيا البديل‬ ‫التي تحرر الإنسان من وهم القول بنظرية المعرفة المطابقة التي ترد الوجود إلى الإدراك‬ ‫(ابن خلدون)‪ .‬فيرشد العقل إذ يعلم أن له حدودا وليس محيطا‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪56‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لو كان القرآن قد قال إن الغيب معلوم للرسول مثلا لكان في ذلك نقلا بلا عقل‪ .‬لكنه لم‬ ‫يستثن الوحي من نفي العلم بالغيب‪ .‬ما يوحى به الله للرسول تذكير بما نساه الإنسان‬ ‫وليس إعلاما بمضمون الغيب‪ .‬هو يذكر الإنسان بكون علمه محدودا أي إن في الوجود ما‬ ‫لا يمكن للعقل الإنساني عامة أن يعمله‪.‬‬ ‫ولو فرضنا أن الرسول علم الغيب بتوسط الوحي لكان في ذلك تشكيكا في تمام البلاغ وفي‬ ‫أمانته لأنه لم يعلمنا به فيكون قد أخفى عنا بعض ما علم‪ .‬وهذه كذبة اشتهرت بمعنى‬ ‫\"علموا الناس بما يفهمون أتريدون أن يكذب رسول الله\"‪ .‬وهي عبارة غبية ودليل حمق‬ ‫لأنها تتضمن وصف النبي بالكذب علينا وبعدم الأمانة‪ .‬إذ القصد أن رسول الله قد علم‬ ‫شيئا أخفاه عن المؤمنين وهي جريمة في حقه‪.‬‬ ‫وبذلك يمكنني أن اعرف الوحي تعريفا جامعا مانعا‪ :‬الرسول لا يعلم الغيب والوحي لا‬ ‫يعلمه به بل هو من ذكره الوحي بما أمر بتذكير الإنسانية به وبما هو مفطور فيها فيكون‬ ‫تذكيرها به كافيا لكي تفهم ما جاء به الوحي أي التذكير لا غير‪ .‬ولو لم يكن ذلك كذلك‬ ‫لاستحال أن تكون الرسالة رسالة لمرسل إليه‪ .‬القرآن رسالة لمرسل إليه تذكره بما يعلمه‬ ‫بالفطرة لتخرجه من النسيان أو الخسر ولا شيء من ذلك ينتسب إلى علم الغيب لأن الكلام‬ ‫في القرآن على الغيب يتضمن معنيين ينافيان ذلك‪:‬‬ ‫‪ .1‬إعلام بوجود الغيب أي بوجود ما هو محجوب على الإنسان عامة بمن فيهم النبي‬ ‫‪ .2‬ونهي القرآن عن تأويل المتشابه الذي يعبر عنه دون استثناء لعدم الإحاطة به‪.‬‬ ‫ولأمر الآن إلى كاريكاتور التحديث‪ .‬هل يوجد عقل بلا نقل في الفلسفة والعلوم؟ من‬ ‫يصدق ذلك لا يفهم معنى فلسفة وعلم لأنه يتخيل الفلاسفة والعلماء أدباء يكتبون روايات‬ ‫من نسج الخيال وليسوا قوما يضعون فرضيات لا يسمونها معرفة علمية إلا في حدود تأييد‬ ‫التجربة العلمية لها بمعطيات تجريبية‪.‬‬ ‫صحيح أن العقل هو الذي ينتخب المعطيات ذات الدلالة لكنه لا ينتجها من الخيال بل هو‬ ‫يستمدها من مضمون في الطبيعة نفسها وهو من ثم نقل عن الطبيعة‪ .‬فينتج من ثم أن كل‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪57‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫علم حقيقي شكله عقلي ومضمونه نقلي دائما سواء كان ذلك في الدين أو في الفلسفة‪.‬‬ ‫والمستثنى هو الغيب لكنه مستثنى حتى في الدين‪ .‬والمسؤول عن هذه الكذبة هو‬ ‫الكاريكاتوران‪:‬‬ ‫الأول لظنه أن علم الغيب موجود خلطا بين الإعلام بوجود الغيب حدا لعالم الشهادة‬ ‫وعلمه وبين العلم بمضمون الغيب الذي هو محجوب على الجميع ولم يأت منه شيء في الوحي‬ ‫الذي هو التذكير المباشر لمن يرسل لتذكير الآخرين‪ .‬ولا يمكن أن يقول القرآن إن الغيب‬ ‫محجوب ثم يبعث علمه لمن لا يستطيع أن يعقله‪.‬‬ ‫والثاني لتأسيسه أبستمولوجيا تقول بالمطابقة تدعي أن العلم مطابق للوجود توهما أن‬ ‫ما ندركه هو الحقيقة المطلقة وأن الوجود مطلق الشفافية والعقل الإنسان مطلق الإحاطة‬ ‫به فيرد الوجود إلى الإدراك وذلك هو وهم الفلاسفة والمتكلمين والمتصوفة حسب ابن‬ ‫خلدون‪.‬‬ ‫وهذه فرصة لأجيب مرة أخرى سؤال محير‪ :‬كيف تكون الإنسانية بحاجة إلى الرسل‬ ‫للتذكير ثم لا يعلمه الوحي بالغيب ويختم في لحظة من لحظات تاريخ الإنسانية؟ فـما‬ ‫يحيرني حقا ليس وجود الوحي بهذا المعنى لأن كل ما يدركه الإنسان من جنسه إذ هو‬ ‫يتلقى أمورا لا هو خالقها ولا هو محدد معناها فضلا عن كون الوحي في القرآن ليس خاصا‬ ‫بالإنسان إذ حتى النحل والنمل وكل الموجودات تتلقى ما يسميه القرآن وحيا وربما بما لها‬ ‫من لغات تخصها‪.‬‬ ‫ما يحيرني هو ختمه إذ ما الذي حصل حتى صار الإنسان غنيا عن الوحي في معناه المقصور‬ ‫على تلقي الرسالات الدينية التذكيرية‪ .‬ما الذي يجعل القرآن الرسالة الخاتمة‪ .‬ذلك هو‬ ‫مشكلي‪ .‬لا أقبل حل اقبال بنظرية بلوغ الإنسانية للرشد واستغنائها عن تواصل الوحي‪.‬‬ ‫فالإنسانية لم تبلغ الرشد إلى الآن ناهيك عنها لما نزل القرآن بل إني اعتقد أنها لن تبلغه‬ ‫أبدا‪ .‬وحل اقبال هو عندي من أكاذيب التصوف المتفلسف‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪58‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫لو كان الوحي محتويا على الغيب لا ستحال أن يختم‪ .‬والتصوف المتفلسف يمكن أن يعتبره‬ ‫ممكنا لأن الختم عنده ليس نهاية الوحي من حيث هو علم بالغيب بل انتقاله إلى ورثة‬ ‫النبي بما يسمونه العلم اللدني‪ .‬وهي أيضا من خدع التلاعب بدلالة \"من لدنه\"‪ .‬فكل شيء‬ ‫من لدن الله ولا معنى لجعله مميزا لعلمهم إذ حتى العلم العقلي فهو من عند الله بدليل أن‬ ‫الناس ليسوا جمعيا مبدعين فيه وليسوا كلهم ذوي بصيرة‪.‬‬ ‫ما ختمه القرآن ليس الحاجة إلى علم الغيب الذي يكون قد انتهى لأن الإنسانية صارت‬ ‫راشدة وضمنا لأن البعض صار بوسعهم القيام مقام عالميه ‪-‬نظرية العلم اللدني‪-‬بل وهم‬ ‫العلم بالغيب واعتبار الرسل يبعثون لأنهم يعلمون الغيب‪ .‬القرآن نفى ذلك بإطلاق‪ .‬فما‬ ‫هو دور الختم الذي هو في آن عين الفتح؟‬ ‫والبداية تكون بتعريف الختم لنفهم الفتح‪ .‬واللغز هو في الكلمات التي تلقاها آدم فعفا‬ ‫الله عنه واجتباه‪ .‬فمضمون كل الرسالات التي توسطت بين هذه الكلمات والقرآن كانت‬ ‫تذكيرا بمضمونها ولم يصلنا منها إلا تحريفاتها التي عرضها القرآن على منهج التصديق‬ ‫والهيمنة مع حفظ أساليب تبليغها‪.‬‬ ‫والملاحظ أنها كلها استعملت أسلوب التبليغ بحجج مستمدة من الإعجاز الخارق لنظام‬ ‫الطبيعة والتاريخ‪ .‬لكن القرآن الذي يعرضها ويقصها مع المحافظة على أساليبها لم يستعمل‬ ‫ولا مرة هذا الأسلوب لأن كل أدلته مستمدة من النظام الطبيعي والتاريخي وليس من خرقه‬ ‫مثلها‪ .‬ورد الرسول على المعاجزين معلوم والقرآن هو المعجزة‪.‬‬ ‫وكون القرآن معجزة ليس شيئا آخر غير كونه أولا يكتفي بالخاصة المحددة لطبيعة‬ ‫المخاطب به (النطق والعقل) وثانيا عرض الاستدلال بنظام الطبيعة والتاريخ وتحديد‬ ‫طبيعتهما وطبيعة الوصول إلى نظامهما‪ .‬وذلك هو معنى فصلت ‪ 53‬وما يمكن أن يعوق علم‬ ‫نظامهما والعمل به أي آل عمران ‪ .7‬وكل ما ينسب إلى الرسول من المعجزات غير هذين‬ ‫من الكذب عليه‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪59‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫وإذا كان ذلك كذلك فالقرآن ليس شيئا آخر غير تفسير الكلمات التي تلقاها آدم فاتمهن‬ ‫فعفا عنه ربه‪ .‬فالختم يشرح الفتح‪ :‬الإسلام هو الغاية لكونه هو البداية في تأسيس علاقة‬ ‫الإنسان بالله هي حقيقة الاستخلاف‪ .‬فالكلمات التي تلقاها آدم وحواء فأتماها وعفا الله‬ ‫عنهما هما مضمون القرآن الكريم بوصفه الرسالة الخاتمة التي تلقاها محمد لتذكر بمضمون‬ ‫الرسالة الفاتحة التي تلقياها وهي شهادة أبناء آدم في ظهور آبائهم التي صاغها القرآن‬ ‫(الأعراف ‪ .)173-172‬والجديد هو تحريرها من علتي التحريف‪ .‬فيكون الختم هو تحرير‬ ‫هذه الرسالة من علتي تحريفها واستعراض كل التحريفات التي حصلت والتي عيرت بمعيار‬ ‫التصديق والهيمنة في القرآن الكريم‪:‬‬ ‫‪ .1‬وعلة التحريف الأولى هي الوساطة الروحية فكان كلام الله للرسول ناهيك عمن‬ ‫يدعي وراثته \"إنما أنت مذكر\" أي لست وسيطا بين المؤمنين وبيني‪.‬‬ ‫‪ .2‬وعلته الثانية هي الوصاية السياسية فكان كلامه \"لست عليهم بمسيطر\" ناهيك‬ ‫عمن يدعون الحكم باسم الله‪.‬‬ ‫وليست هذه الأجوبة من عندي‪ .‬فهي مضمون سورة آل عمران التي تبين أن علة‬ ‫التحريف هي التحالف بين رجال الدين ورجال السياسة لاستعباد الإنسان بتحريف‬ ‫الأديان‪ .‬وغاية هذا التواطؤ هو تأليه عيسى عليه السلام (آل عمرا ‪ )79‬تحريفا كان‬ ‫هدفه تأسيس الكنسية الدينية والحكم بالحق الإلهي في الدين ولهما ما يناظرهما في‬ ‫الفلسفة الكنسية الفلسفية والحكم بالحق الطبيعي(أفلاطون)‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪60‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫كيف نحسم الصراعين؟‬ ‫أولهما صراع بين الفقهاء والمتصوفة حول علاقة القانون بالأخلاق وثانيهما بين المتكلمين‬ ‫والفلاسفة حول علاقة العلم بالإيمان‪ .‬وهما صراعان ينتجان عن وهم قابلية الفصل بين‬ ‫الفقه والأخلاق في العمل والشرع وبين العلم والإيمان في النظر والعقد بسبب الفصل بين‬ ‫الديني والفلسفي‪.‬‬ ‫ونبدأ بالصراع بين الفقهاء والمتصوفة باسم تعارض بين القانون والأخلاق‪ .‬فالمتصوفة‬ ‫يدعون تمثيل الحقيقة ويتهمون الفقهاء بتمثيل الرسوم‪ .‬وهذه الدعوى تتضمن أمرين‬ ‫سبق أن تكلمنا في أصلهما التحريفي‪ .‬فالمتصوف المتفلسف يدعي علما محيطا بالحقيقة على‬ ‫ما هي عليه وهو ما يعني أحد التكذيبين للقرآن‪.‬‬ ‫فلا يقبل من المتصوف قول ذلك من دون افتراض أحد أمرين‪ :‬إما نفي الغيب أو الزعم‬ ‫بعلمه‪ .‬وكلاهما تكذيب للقرآن بل هما كفر بنصه‪ .‬فنفي الغيب كفر صريح لأن الإيمان به‬ ‫من بنود العقيدة وهو كفر ضمنني لان ادعاء الاطلاع عليه تكذيب لحجبه القرآني حتى‬ ‫على الرسل‪ .‬وإذن فالمتصوف يحرف مفهوم للأخلاق‪.‬‬ ‫الأخلاق لا تتعلق بباطن منفصل على الظاهر بل هي تتجلى في ظهورها وما لا يتجلى في‬ ‫الظهور هو من السرائر التي لا يعلمها إلا الله‪ .‬وهنا يأتي دور الفقهاء‪ .‬فعبارة \"نحن نحكم‬ ‫بالظاهر والله يتولى السرائر\" لا تعني الحكم بأي ظاهر بل بما يتجلى بظهوره للبحث العلمي‬ ‫وليس الظاهر الساذج والغفل‪.‬‬ ‫وهذه مناسبة لحسم قضية الانتقال من معاني القرآن إلى دلالاته‪ .‬فمعاني القرآن لا‬ ‫يعلمها إلا الله ولذلك نهى عن تأويل متشابهه‪ .‬وكل معانيه متشابهة إذا لم يحدد لها‬ ‫دلالات معينة خارجه‪ .‬وبهذا المعنى فالقرآن لم يقل إن تبين حقيقته يقع بشرح ألفاظه‬ ‫(آياته النصية) بل بما حددته فصلت ‪ 53‬مجال المحكم‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪61‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫محكم القرآن هو الآيات التي تحيل إلى مرجعيات تنقلنا من المعاني المرسلة إلى الدلالات‬ ‫المحددة بتحديد مرجعياتها في الوجود التي على الإنسان التعامل معها لتحقيق مهمتيه‪:‬‬ ‫الاستعمار في الارض والاستخلاف فيها‪ .‬لذلك نهت آل عمران ‪ 7‬على تأويل المتشابه وأمرت‬ ‫فصلت ‪ 53‬بما نتبين به حقيقة القرآن‪.‬‬ ‫ولآخذ الآن أمثلة من أصول الفقه‪ .‬فقد ظن مؤصلوه أن آيات الأحكام محكمة بمعنى أنها‬ ‫ذات مرجعية محددة في النص وليست معان إذا قرئت نصا كانت متشابهة‪ .‬ذلك أن ما جعلهم‬ ‫يتوهمون أنها محكمة هو أنهم خلطوا بين الحكم وتقدير العقوبة فيه‪ .‬فالسرقة حكمها أنها‬ ‫جريمة‪ .‬وقطع اليد مقدار العقوبة وليس الحكم‪.‬‬ ‫والمثال الثاني هو الحرابة‪ .‬فالحكم هو أنها جريمتان‪:‬‬ ‫‪ .1‬سرقة‪.‬‬ ‫‪ .2‬مسلحة‪.‬‬ ‫وتقدير العقوبة قطع اليد مثل السرقة وقطع الساق لأن المحارب قاطع طريق على‬ ‫المسافرين عادة‪ .‬وهو عقاب متعلق برمز السفر أي الرجل مثل قطع اليد العقاب المتعلق‬ ‫برمز السرقة‪ .‬ولما يقع الخلط بين الحكم ومقدار العقوبة ونوعها يظن الحكم ليس معنى‬ ‫بل دلالة ويخلط بالعقاب الذي له دلالة محددة هي قطع اليد وقطع الرجل‪.‬‬ ‫والتمييز بين الحكم والعقاب عامة ومقداره خاصة واضح‪ .‬فعندما يعطل الفاروق تطبيق‬ ‫الحد على السارق فهو لم يلغ الحكم لأن السرقة تبقى جريمة ولا تتغير طبيعتها‪ .‬لكنه حد‬ ‫من العقاب بل وأوقفه لكأن الجريمة شبهت بالقوة القاهرة وهي المجاعة‪ .‬وتلك وظيفة‬ ‫القضاء بحسب الظروف‪.‬‬ ‫والدليل القاطع والأقوى من دليل ما قام به الفاروق هو آية الحرابة ذاتها‪ .‬ففيها يوجد‬ ‫أمر قرآني بتعطيل العقاب ومقداره إذا استسلم المحارب قبل أن تقدر عليه السلطة‬ ‫الحاكمة‪ .‬ولا يعني ذلك أن الحرابة السابقة لم تكن جريمة بل هي تبقى جريمة‪ .‬لكن‬ ‫عقابها ومقداره يتغير على الأقل من حيث تقدير المقدار لأن الآية حددت القدر الأعلى‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪62‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫منه بمقتضى ظرف بناء دولة في جماعة لم تتعود على النظام واحترام الملكية بل كانت يغلب‬ ‫عليها السلب والنهب وقطع الطرق‪.‬‬ ‫وينبغي أن أشير إلى قصور آخر في التأصيل‪ .‬فالحكم لم يتعلق بالسرقة في ذاتها بل‬ ‫بالسارق والسارقة‪ .‬واسم الفاعل في هذه الحالة لم يطلق على الفاعل لحظة الفعل فحسب‬ ‫بل شبه طبيعة ثانية وليس وصفا مقصورا على المتهم بالسرقة لحظة قيامه بالسرقة‪ .‬فعندما‬ ‫اتكلم على الإنسان بوصفه مائتا مثلا لا يكون القصد أنه مائت لما يموت بل أعني اتصافه‬ ‫بالمائتية عامة‪.‬‬ ‫فإذا تعلق الحكم بالسارق والسارقة فالمعنى أن ما صارت له السرقة شبه طبيعة ثانية أي‬ ‫بحصول صفة ثابتة صارت طبيعة ثانية مثل مائت طبيعة أولى‪ .‬ولذلك فالعقاب جاء في‬ ‫أقصى ما يمكن أن يكون عليه فقطع اليد رمز لأداة السرقة التي صارت لها هذه الطبيعة‬ ‫فيكون العقاب هو بدوره صفة ثابتة مثل الصفة التي تنسب إليها الجريمة‪.‬‬ ‫وأخيرا فنظام القانون الجنائي لا يفيد بفصوله فصلا فصلا بل بالسلم الذي يرتب‬ ‫الجنايات‪ .‬فمن لم ينتبه إلى أن القرآن الكريم يولي مسألة حماية الملكية منزلة أعلى حتى‬ ‫من حماية النفس لم يفهم سر هذا النظام‪ .‬ذلك أن تحرير الجماعة من الثأر كان يقتضي‬ ‫المحافظة على القصاص مع الحد منه بالدعوة إلى العفو‪ .‬لكن الملكية لم يرد فيها كلام على‬ ‫العفو لأن غالب الجرائم والخصومات في الجماعات البشرية متعلق بها ولذلك فالتشدد في‬ ‫ردعها ضرورة وخاصة في مجتمعات لم تتعود إلى وجود دولة ونظام قانوني وخلقي مؤسس‬ ‫على شرطي الاخوة الكونية (النساء ‪ )1‬والمساواة بين البشر (الحجرات ‪.)13‬‬ ‫وحتى يسهل الأصوليون على أنفسهم هذه القفزة من المعنى إلى الدلالة للإيهام بأن لهم‬ ‫مرجعية تمكن من حصر المعنى في دلالة معينة جعلوا الحكم الذي هو معنى عين مقدار‬ ‫العقوبة المقدرة التي لها دلالة مرجعية مثل قطع اليد وقطعها والرجل على خلاف‪ .‬وهذا‬ ‫القفز أفسد كل التشريع الإسلامي مرتين‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪63‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫الأولى بالإيهام بأن القرآن يشرع للنوازل وليس للتشريع فاعتبر تشريعا للنوازل التي‬ ‫يعالجها التشريع فصار تشريعا مباشرا ويقاس عليه تشريع مثله‪ .‬وذلك غير صحيح ولا‬ ‫يحل مشكل التشريع‪ .‬لذلك احتاج الأصولي للتحيل بالقياس ثم بالاستصحاب إلى أن وصل‬ ‫إلى المقاصد لكأن مقاصد الله يعلمها غيره‪.‬‬ ‫وهذه الحيل جميعا هي مصدر الفساد الثاني وهي ترد إلى حيلة مضاعفة قضت على روح‬ ‫التشريع الإلهي للتشريع للنوازل وليس للنوازل مباشرة‪ :‬فالقياس يوسع يلغي تشريع‬ ‫التشريع ويبدع تشريعا يوسع ويضيق تشريع التشريع إما بالقياس التوسيعي أو بالقياس‬ ‫التضييقي أو ما يسمى سد الذرائع‪.‬‬ ‫وحتى يحصل ذلك بمنطق اعتبار النصوص تشريعا مباشرا ومقدار العقوبة هي الحكم‬ ‫انتهى الاصوليون إلى فرض ترادف في الأحكام فصارت الأمر بالشيء يعتبر دليل وجوب‬ ‫والنهي عنه دليل تحريم لكأن الله كان يعجزه أن يطبق كلمتي فرض وكلمة حرام حيث‬ ‫اضطر المؤصل إلى تأويل الامر بالوجوب والنهي بالتحريم‪ .‬وحتى يحصل ذلك بمنطق‬ ‫اعتبار النصوص تشريعا مباشرا ومقدار العقوبة هي الحكم انتهى الاصوليون إلى فرض‬ ‫ترادف في الأحكام فصارت الأمر بالشيء يعتبر دليل وجوب والنهي عنه دليل تحريم لكأن‬ ‫الله كان يعجزه أن يطبق كلمتي فرض وكلمة حرام حيث اضطر المؤصل إلى تأويل الامر‬ ‫بالوجوب والنهي بالتحريم‪.‬‬ ‫ثم وضعوا جملة من القواعد التي يكفي تعميمها لبيان سخفها بل وحمق أصحابها‪ .‬فمثلا‬ ‫لو صحت قاعدة ما كثيره حرام فقليله حرام وقياسا عليه ما كثيره ضار فقليله ضار لاستحال‬ ‫أن يغتذي المرء من أي شيء‪ .‬فكثير الغذاء قاتل وقليله ضروري للحياة‪ .‬ولذلك فكل‬ ‫أسباب سد الذرائع من الغباء الذي لا حد له‪.‬‬ ‫فما حرمه الله حرمه دون تمييز بين كثيره وقليله بل حرمه بصورة حاسمة ولم يستثنه‬ ‫من التحريم إلا في حالة الضرورة القصوى التي تبيح المحظور وأشهرها ثلاثة وهي مطلقة‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪64‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫التخريب لحياة الإنسان‪ :‬بعض الأغذية (كالخنزير للفرد) وبعض الألعاب (كالميسر‬ ‫للثروة) وبعض العلاقات الجنسية (كالمحارم للنوع)‪.‬‬ ‫ولا شيء من الحديث باعتباره اجتهاد الرسول التعليمي (الإسراء ‪ )106‬يمكن أن يكون‬ ‫فوق القرآن وكل ما خالفه موضوع إذا لم يكن فيه تأويل يقبله العقل ليتفق مع القرآن إما‬ ‫في نصوص محددة أو في المبادئ العامة التي يقتضيها تناسق النظام القرآني من حيث هو‬ ‫رسالة تذكير بشروط تحقيق مهمتي الإنسان‪:‬‬ ‫‪ .1‬تعمير الأرض‪.‬‬ ‫‪ .2‬بقيم الاستخلاف‪.‬‬ ‫وكل ما يتعلق بتفصيل العبادات لا خلاف فيه لأنه شرح لما هو بين من القرآن من حيث‬ ‫الأصل المبدئي‪ .‬وكل الخلافات حول التشريع النبوي يزول بمجرد التمييز بين ما يقبل الرد‬ ‫إلى القرآن وما لا يقبله‪ .‬فالأول صحيح والثاني موضوع‪ .‬وهذا مبدأ ليست أنا الذي اضعه‬ ‫بل هو ما بنى عليه ابن القيم رؤيته وما لا يمكن لعاقل أن يجادل فيه‪.‬‬ ‫والنهي ليس تحريما والأمر ليس إيجابا لأنهما متروكان لامتحان أهلية الإنسان للاستخلاف‬ ‫في مجال الجهاد العملي (مجاهدة النفس ومدى قدرتها على تطبيق الأمر والنهي) ولو‬ ‫فرضناها من جنس التحريم لكان التشريع متنافيا مع علته أي الحرية التي تقدر بالمسؤولية‬ ‫في هذا الجهاد الخلقي للمكلف‪.‬‬ ‫وحتى أيسر فهم هذا التمييز فلأقل إن التحريم والإيجاب تشريع مباشر لتعلقه بشروط‬ ‫البقاء العضوي فردا وجماعة وبشروط البقاء الاقتصادي والاجتماعي عامة أي بشروط ما‬ ‫يترك تشريعه للإنسان حتى يقدر علمه وعمله بوصفهما ما كلف به ليكون أهلا أو غير أهل‬ ‫للتعمير بقيم الاستخلاف وهو التكليف‪.‬‬ ‫فكل ما لم يرد فيه صراحة كلمة التحريم والإيجاب فهو من المندوب والمكروه ما لم يصل‬ ‫إلى ما يجعله حراما أو واجبا عندما يلحق بمفعوله ما يقبل القيس على ما جاء فيه النص‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪65‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫محرما أو موجبا صراحة‪ .‬فإذا لم نقل بذلك فإننا نخرج البعد الخلقي من المسؤولية التي‬ ‫بها وبها وحدها يكون القانون خلقيا‪.‬‬ ‫وبهذا يستعبد القانون بعده الخلقي فتزول حجج المتصوفة السخيفة حول تمثيلهم‬ ‫للأخلاق واعتبار القانون من الرسوم أو من القشور لكأن الله اعتبر الدنيا شيئا تافها يمكن‬ ‫اهماله ولم يعتبرها مطية الآخرة بحيث إن الإنسان سيقيم كيانه ومنزلته الوجودية‬ ‫بأقواله وأفعاله فيها إذ يوزنان يوم الدين‪.‬‬ ‫لم يبق الكثير في هذا الفصل الأخير‪ .‬فلأمر إلى صراع المتكلمين والفلاسفة حول علاقة‬ ‫الإيمان بالعلم يتعلق بالنظر والعقد تعلق صراع الفقهاء والمتصوفة حول العمل والشرع‪.‬‬ ‫وهذان الصراعان حالا دون تحقيق الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف ودون تحقيق‬ ‫المشروع وقيمه‪.‬‬ ‫وهذا الصراع بين المتكلمين والفلاسفة حول العلم والإيمان أسخف من ذاك الصراع بين‬ ‫الفقهاء والمتصوفة حول القانون والأخلاق‪ .‬فالعالم لو لم يكن يؤمن بأن للأشياء قوانين‬ ‫وأن للإنسان قدرة على علمها لأن الأول يلغي حتى مجرد التفكير في طلبها والثاني يجعله‬ ‫يعتقد استحالة طلبها اعترافا بعجزه دون علمها‪.‬‬ ‫ولهذه العلة جمعت بين النظر والعقد‪ .‬فالنظر يستند إلى عقدين‪ .‬يبدأ بعقد في وجود‬ ‫النظام في العالم وفي قدرة الإنسان على معرفته وينتهي بعقد في أن ما توصل إليه بحثه‬ ‫دليل على وجود النظام وعلى قدرة الإنسان على علمه‪ .‬ومن ثم فلا نظر من دون هذين‬ ‫العقدين وهما جوهر الإيمان فلسفيا كان أو دينيا‪.‬‬ ‫وجمعت بين العمل والشرع‪ .‬فالعمل يستند إلى شرعين‪ .‬يبدأ بشرع ينظم العمل في‬ ‫مستواه الأول من حيث هو مشروع وينتهي بشرع يقيم العمل في مستواه الثاني كإنجاز‪.‬‬ ‫وكلاهما يتواصل خلال العمل الناقل للمشروع إلى الإنجاز لأن المشروع يتغير في ضوء‬ ‫الإنجاز والانجاز يتغير في ضوء المشروع‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪66‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫والمشروع الكوني للإنسانية يستند إلى النظر والعقد في علاقة الإنسان بالطبيعة وإلى‬ ‫العمل والشرع في علاقة الإنسان بالتاريخ وهو يسعى بهما إلى تحقيق التعمير والاستخلاف‬ ‫من أجل تحقيق الأخوة البشرية (النساء ‪ )1‬بمعيار المساواة بينهم دون تمييز عرقي أو‬ ‫جنسي او حتى ديني أعني بمعيار التفاضل عند الله بالتقوى (الحجرات ‪.)13‬‬ ‫ولنعكس الآن‪ :‬فما الإيمان في الإسلام؟ هل هو شيء آخر غير ما تذكر به الرسالة؟ وهل‬ ‫يوجد طريق توصل إليه غير الطريق التي سلكتها الراسلة في التذكير؟ والآن هل الرسول‬ ‫قال صدقوني بدليل أني أمشي على الماء؟ أو عندي عصا موسى؟ أو أخلق من الطين طيرا‬ ‫أو‪ ..‬أو إلخ‪ ...‬من المعجزات؟‬ ‫صحيح انه يقص علينا ذلك ويعتبر تصديق الرسال والإيمان بالكتاب السماوية شرطا في‬ ‫الإيمان‪ .‬لكن أليس صحيحا كذلك أن رده ع على المعاجزين الذين طلبوا مثلها كان أن‬ ‫يطلبونه من معجزات هي للتخويف وليست للإقناع؟ ألا يعني ذلك أن طريق التبليغ‬ ‫والتذكير الخاتمة تحرص على احترام معتقدات الآخرين لكنها تستعمل الطريقة التي لا‬ ‫تعتمد إلا على النظر والعقد للوصول إلى الحقيقة الدينية وعلى العمل والشرع لتحقيقها؟‬ ‫لم تكن حججه من هذا الجنس بل كانت من جنسين لا ثالث لهما أحدهما بالأقوال وهو‬ ‫مضاعف والثاني بالأفعال وهو مضاعف‪ .‬فبالأقوال كان حجاج القرآن الإحالة إلى نظام‬ ‫الطبيعة ونظام التاريخ إما بالاستدلال المنطقي أو بالدراما القصصية للاعتبار‪ .‬أما‬ ‫بالأفعال فهو تاريخ الرسالة في حياته هو نفسه اجتهادا وجهادا‪.‬‬ ‫ما حققه الرسول الاكرم خلال حياته الرسولية (‪ 23‬سنة) كان في مستوى تربية جيل أنجز‬ ‫ما طلب منه التذكير بشروطه وفي مستوى انجازه البذرة الاولى لتحقيق عينة من مشروع‬ ‫القرآن من الأخوة البشرية (النساء ‪ )1‬بمعيار المساواة بين البشر وعدم التفاضل بغير‬ ‫التقوى (الحجرات ‪ )13‬بالاجتهاد والجهاد‪.‬‬ ‫ولهذا العلة كانت حيرة الفكر الغربي الحديث بخلاف ثورة الغرب الوسيط ضد الإسلام‬ ‫عامة ورسوله خاصة‪ .‬فهؤلاء اعتبروا الإسلام ليس دينا لعلتين‪-1:‬لقوله إن الله يرسل لكل‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪67‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أمة رسولا بلسانها ولم يعتبر الدين حكرا على شعب مختار و‪-2‬لأنه لم يحقق ما حققه‬ ‫بمعجزات تخرق النظام بل بالاجتهاد والجهاد‪.‬‬ ‫وموقف الكاريكاتورين التأصيلي والتحديثي يشبه موقفهم موقف الغرب الوسيط‪:‬‬ ‫الأولون يكذبون فيصنعون للرسول معجزات غير ما في القرآن ردا عليه‪ .‬والثانون لا‬ ‫يعتبرونه دينا مثل الغرب الوسيط بدليل أنهم يجادلون فيه ولا ينبسون ببنت شفة في‬ ‫اليهودية ولا في المسيحية إما خوفا منهم أو طمعا فيهم‪.‬‬ ‫لكن الغرب الحديث وخاصة فلاسفة التنوير كانوا شديدي الإعجاب بالرسالة الإسلامية‬ ‫وبالقرآن وبمحمد‪ .‬فهم يعتبرون الإسلام دين العقل والعقلانية والتنوير ‪-‬روسو ولسنج‬ ‫وجوته وحتى كنط الذي يتهمه هيجل بكونه أقرب إلى الإسلام منه إلى المسيحية‪-‬وذلك‬ ‫لأن القرآن لا يحتج بغير النظامين الطبيعي والتاريخي ويعتبر نظامه جامعا بين النظامين‬ ‫ليس من حيث هو نص فحسب بل وكذلك من حيث طبيعته التي تعتبر آياته التي تبين‬ ‫حقيقته ينبغي طلبها لتحقيق مهمتي الإنسان من آيات الله التي تتجلى في الآفاق وفي الأنفس‬ ‫وليس في الشرح اللفظي لآياته التي يمثلها نصه المذكر بالمهمتين وبشروط تحقيقهما في‬ ‫علميهما والعمل به (ما فصلت ‪.)53‬‬ ‫وختاما لهذه المحاولة التي كنت أتمنى ألا تطول إلى هذا الحد أقول إن استئناف دور‬ ‫الإسلام الذي بدأ منذ قرنين وإن ظل استئنافا متعثرا لا يبرح مكانه قد آن أوان تأسيسه‬ ‫فلسفيا‪ .‬لكن تأسيسه الفلسفي ليس في قطيعة مع أمرين‪:‬‬ ‫ما في الاستئناف مثل النشأة الاولى من وحدة الديني والفلسفي‪.‬‬ ‫وما في المدرسة النقدية (الغزالي وابن تيمية وابن خلدون) من التلمس لهذا المعنى‪.‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪68‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪69‬‬ ‫الأسماء والبيان‬