Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore سلسلة ثورة الاسلام وادعياء الحداثة الكاريكاتورية - ابو يعرب المرزوقي

سلسلة ثورة الاسلام وادعياء الحداثة الكاريكاتورية - ابو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2017-05-06 12:05:37

Description: سلسلة ثورة الاسلام وادعياء الحداثة الكاريكاتورية - ابو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫ثورة الإسلام‬‫وادعياء الحداثة الكاريكاتورية‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫وأدعياء الحداثة الكاريكاتورية‬



‫المحتويات‬ ‫‪1‬‬ ‫‪9‬‬‫‪15‬‬‫‪20‬‬‫‪28‬‬

‫أبدأ الآن محاولة متممة للمحاولة التي فرغت منها للتو‪ :‬كيف نفهم فكر من يدعون الحداثة‬ ‫من بين النخب العربية اليوم؟‬ ‫سأقسمهم إلى قسمين فاشيين‪.‬‬ ‫القسم الأول‪ ،‬هو الذي اعتمد فكر فاشية أوروبا الرأسمالية ما بين الحربين‪،‬‬ ‫والقسم الثاني‪ ،‬اعتمد فكر فاشية أوروبا الشيوعية‪ :‬فاشيتي القومية والشيوعية‪.‬‬‫وكل الانقلابات العسكرية في بلاد العرب‪ ،‬صدرت عنهما‪ ،‬وهي في النهاية جمعت النخب التي‬ ‫خدمت الفاشيتين باسم القومية والاشتراكية‪ :‬انحطاط الحداثة‪.‬‬‫وقد تحالفت الأنظمة العسكرية‪ ،‬والنخب التي تخدمها وتدعي الحداثة‪ ،‬مع قطب السوفيات‬ ‫ضد تحالف الأنظمة القبلية والنخب التي تخدمها مع قطب الأمريكان‪.‬‬‫ولما سقط الاتحاد السوفياتي‪ ،‬لم يعد القطب الأمريكي بحاجة لحلفائه من العرب‪ ،‬رغم أن‬ ‫يتامى القطب الأول‪ ،‬أنظمة ونخبا‪ ،‬أصبحوا تحت جناح الثاني‪.‬‬‫والانضمام الفعلي‪ ،‬أخفاه العداء القولي‪ ،‬كما فيما يسمى بقطب المقاومة‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬فالحرب‬ ‫الكلامية بين نوعي الانظمة والنخب‪ ،‬ظل قائما قبل ثورة الشباب‪.‬‬‫بعد ثورة الشباب‪ ،‬واختيار الشعب أحزاب الإسلام السياسي ديموقراطيا للحكم‪ ،‬أصبح‬ ‫بالوسع تحديد المشترك بين نخبتي الكاريكاتور التأصيلي والتحديثي‪.‬‬ ‫كلاهما يستعمل نفس التهم‪.‬‬‫لكن نخبة الكاريكاتور التأصيلي توجهها لما تسميه بالإسلام السياسي‪ ،‬أو الأخونة‪،‬‬ ‫والكاريكاتور التحديثي ضد الإسلام نفسه‪.‬‬‫ولما كان الكاريكاتور التحديثي‪ ،‬أصبحت نظمه العسكرية مفلسفة‪ ،‬فإن نخبه صارت مليشيات‬ ‫قلم يوظفها الكاريكاتور التأصيلي لما لدى النظم القبلية من مال‪.‬‬ ‫‪33 1‬‬

‫هذه الظاهرة‪ ،‬هي ما أريد فهمه ودراسة علاقته بما يجري في الإقليم والعالم‪ ،‬منذ شروع‬ ‫الأمة في مقاومة الاستعمار‪ ،‬والوعي بعلله النابعة من انحطاطنا‪.‬‬‫ولن يتعلق كلامي بالأشخاص‪ ،‬بل بالصفات المشتركة بينهم‪ ،‬وأهمها مدى معرفتهم بالحداثة‬ ‫التي يحتكمون إليها‪ ،‬وبالحضارة الإسلامية التي يحاكمونها بها‪.‬‬‫وهذه المعرفة التي أريد تقويمها‪ ،‬لا تتعلق بالحضارتين الحديثة والإسلامية لذاتهما‪ ،‬بل‬ ‫بما فيهما من شروط التلاؤم مع ما يقتضيه تحقيق الإنساني عامة‪.‬‬‫وهذا يعني أن بحثي سيتعلق بفلسفة الوجود وفلسفة التاريخ‪ ،‬وعلاقتهما بالإنساني في‬ ‫منظور أدعياء الحداثة‪ ،‬بفكر لم يتجاوز روبافيكيا الفكر الغربي‪.‬‬‫فلن أقتصر على الفكر السياسي‪ ،‬بل سأغوص إلى اسانيده الأعمق‪ ،‬حديثة كانت‪ ،‬ما بعد‬ ‫حديثة‪ ،‬ووسيطة أو قديمة‪ :‬فنجوم الحداثيين العرب‪ ،‬أميون في ذلك كله‪.‬‬‫ولأعد إلى ما قد يبدو مجرد دعوى‪ :‬هل النخب التي تدعي الحداثة في بلاد العرب تعتمد‬ ‫الفكر الفاشي اليميني واليساري الغرب؟ أم هذه دعوى غير أمينة؟‬‫لن أطيل الكلام‪ :‬تكفي مصر الفتاة وحزب البعث لنعلم ذلك من حيث الفاشية اليمينية‪،‬‬ ‫حتى وإن انضمت الأنظمة ونخبها لاحقا إلى فاشية ستالين الشيوعية‪.‬‬‫وحتى لا أظلم أحدا‪ ،‬فينبغي أن أعترف بأنه كان يمكن أن ينحاز خيرة الحداثيين الصادقين‬ ‫للثورة والهوية‪ ،‬لو لم يكن في الجانب الثاني إفراط غباء عجيب‪.‬‬ ‫وهذا الإفراط مضاعف‪:‬‬ ‫‪-1‬وهم الوصاية على الإسلام وفهمه‬‫‪ -2‬دعوى الطهورية الخلقية بشعار \"مخافة الله\" التي يشتم منها النفاق في صفوف‬ ‫الإسلاميين‪.‬‬‫والوهم الأول لا معنى له‪ ،‬لأن مفهوم الحرية الروحية يلغي الوسطاء والأوصياء كما بينا‪.‬‬ ‫والثاني مناف لسياسة الإسلام‪ ،‬وخاصة في اللحظات الحرجة‪.‬‬‫فجذب أفاضل النخب الحديثة وأرقاهم تكوينا‪ ،‬ينبغي أن يراعي ما تربوا عليه من \"دلال\"‬ ‫مع الأنظمة السابقة‪ ،‬وحرمانهم من شروط العيش المعتاد لديهم‪.‬‬ ‫‪33 2‬‬

‫فأغلب الصحافيين البارزين والنخب المفيدة للوطن والثورة‪ ،‬كان يمكن ضمهم إلى صف‬ ‫الثورة والعهد الجديد‪ ،‬بمراعاة ظروفهم بمنظور سياسي قرآني مرن‪.‬‬‫كلنا يعلم أن للكثير منهم التزامات مادية ‪-‬قروض وأوضاع خاصة‪-‬يعسر تغييرها بين عشية‬ ‫وضحاها‪ ،‬ومراعاتها بـ \"تأليف قلوبهم\" لو حصل‪ ،‬لخدموا الثورة‪.‬‬‫وقد لمحت إلى أن مفهوم تأليف القلوب من الحكمة السياسية‪ ،‬وليس من الفساد‪ ،‬لأنه يقلل‬ ‫كلفة تقوية الصف وتوحيده‪ ،‬وخاصة في مرحلة بناء العهد الأولى‪.‬‬‫فات الذي فات‪ ،‬وخسرت الثورة الجولة الأولى ولنتجنب الغباء السياسي بدعوى الطهورية‪،‬‬ ‫فأصحابها ليسوا أدرى بقيم الإسلام ممن وضع مبدأ تأليف القلوب‪.‬‬‫ولا أعتقد أن الكثير من الصحافيين التونسيين الأكفاء‪ ،‬لم يكن على الأقل في ضمائرهم ما‬ ‫يسعدهم لو أن الانحياز لصف الثورة توفر لهم بكلفة مقبولة‪.‬‬ ‫ومثلهم الكثير من المثقفين الأكفاء‪ ،‬وهم موجودون‪.‬‬‫لذلك فكلامي لا ينبغي أن يعمم‪ ،‬بل هو مقصور على المنحازين عقديا ضد الثورة والهوية‪،‬‬ ‫وهم العملاء‪.‬‬‫وغالبا ما يمثل هؤلاء أرذل الحداثيين خلقا وأدناهم علما ومعرفة بالحداثة والإسلام‪ .‬وهم‬‫في الغالب حثالة المثقفين من العاطلين ومثرثري الحانات‪ ،‬وأغلبهم من طبالي الأنظمة‬‫ومخبري الاستعلامات وما يسمى بالمجتمع المدني‪ ،‬الذي تموله المنظمات غير مجهولة‬ ‫الاجندات‪ ،‬وهم من يتامى الحرب الباردة‪.‬‬‫وطبعا فمنهم من صاروا نجوما‪ ،‬وخاصة ممن يدعون فلسفة في نقد التراث والإسلام‪ ،‬وهم‬ ‫من معاتيه الحداثة‪ ،‬بل هم سلفية الحداثة الأكثر تحجرا من السلفية‪.‬‬‫وهؤلاء مثلهم مثل سلفية التقليد‪ ،‬هم مليشيات القلم الذين استعملتهم الثورة المضادة‬ ‫وأعداء الثورة والإسلام في الفضائيات والصحافة لتشويههما‪.‬‬‫ولنبحث في المسائل التي طلبنا اختبار معرفة ادعياء الحداثة بها‪ ،‬معرفة يمكن أن تفهمنا‬‫مواقفهم من الحضارة الحديثة والحضارة الإسلامية وعلاقتهما‪ .‬ونحن سنحتكم في ذلك إلى‬ ‫‪33 3‬‬

‫منتوجهم الفكري‪ ،‬سواء كان المعرفي الأكاديمي‪ ،‬أو الإبداعي الأدبي‪ ،‬وخاصة في مجالات‬ ‫التعبير عن الوجدان في صلته بالحضارات‪.‬‬ ‫وكلا المنتوجين لهما وجهان‪:‬‬ ‫‪-‬إما في مجال التعريف بالإنتاجين الغربي والإسلامي‪ ،‬بترجمة الاول وتحليل الثاني‪،‬‬ ‫‪-‬أو في مجال الإنتاج الذاتي المبتكر‪.‬‬‫وأقصد المنتوج الذاتي المبتكر‪ ،‬خاصة ما يسمى بالمشروعات التي عرف بها بعض النجوم‬ ‫العرب في القرن الماضي‪ ،‬من أدعياء الحداثة والتفلسف الابتكاري‪.‬‬‫ولست غافلا عن أن العامل المعرفي ليس هو المهم في المواقف‪ ،‬لأنها ليست نتائج لمقدمات بقدر‬ ‫ما هي مواقف لمعتقدات‪ ،‬يغلب عليها شروط الترشح للنجومية‪.‬‬‫فالنجومية في بلاد العرب‪ ،‬منذ أكثر من قرنين‪ ،‬هي مظاهر الخواجة والسعي لرضا‬ ‫المتخوجين‪ ،‬ممرا واجبا للانتساب للمحظوظين وذوي الجاه في أنظمة تابعة‪.‬‬‫ومن علامات تأثير ثقافة الخواجة الفرنسية في المغرب العربي‪ ،‬كان يمر بنخب الشرق‪ ،‬مصر‬‫والشام‪ ،‬مع ما يتسم به فهم الحداثة من سطحية وقشورية عجيبة‪ ،‬ويصاحب ذلك ما يعبر‬‫عن عقد نقص التبعية‪ ،‬بالبحث عن الذات في كل مبدعات الغير‪ ،‬لتعزية الذات عن تخلفها‬ ‫بسبق عربي‪ ،‬لا يتجاوز القشور والأعراض‪.‬‬‫ومن هنا المبالغة في دور الأندلس وتأثيرها في ثقافة الغرب الحديث‪ ،‬أو البحث عن أوجه‬ ‫الشبه بين أجناس أدبية حديثة وما يقرب منها في التراث‪.‬‬‫وهذه الظاهرة تجدها اليوم عند كل من يريد أن يتعالم في التراث الإسلامي الفلسفي أو‬ ‫الديني‪ ،‬فلا يراه إلا بغربال التراث الغربي الحديث‪.‬‬‫وكان ذلك يكون مقبولا لو كان متعلقا بأعماق الأمور وليس بسطحها‪ ،‬الذي يحول دون فهم‬ ‫التراثين والواحد‪ ،‬في الإبداع الإنساني بمعزل عن التأثير والتأثر‪.‬‬‫ومن آثار البحث عن التشابه السطحي الوخيمة‪ ،‬أنه يؤدي عادة إلى عدم الغوص إلى‬ ‫الواحد الكوني‪ ،‬فينتهي إلى الخلط بين حقائق الأشياء وتافه المظاهر‪.‬‬ ‫‪33 4‬‬

‫والقضية لا تتعلق بالمعرفة‪ ،‬بل بالعمل‪ :‬فهذا الموقف يؤدي إلى محاكاة التحديث التي‬ ‫تقتصر على ما فهم من الحداثة أي قشورها‪ :‬علة فشل التحديث العربي‪.‬‬‫وإذن فالأمر ليس قصورا معرفيا فحسب‪ ،‬بل هو كذلك سوء علاج عملي‪ ،‬والعلة هي عدم‬ ‫فهم الحداثة بدليل الاكتفاء بوجوه الشبه السطحية‪ ،‬والذهول عن العمق‪.‬‬‫ولعل ما أعيبه على جل المشروعات‪ ،‬التي عرف بها نجوم القرن الماضي من مفكرينا‬ ‫الحداثيين‪ ،‬هو كونها ليست إلا نتيجة الخلط بين لب الحداثة وقشرها‪.‬‬‫ولما كان نقد التراث مبنيا على هذا الفهم الرديء للحداثة‪ ،‬منطلقهم‪ ،‬فإن ذلك يؤكد عدم‬ ‫فهم التراث الإسلامي‪ ،‬وعدم فهم نظرية نيتشة في مفهوم التاريخ‪.‬‬‫ففي \"تأملات غير مناسبة للعصر\" حدد نيتشة ثلاثة معاني لمفهوم التاريخ‪ :‬المتحفي‪،‬‬‫والمعلمي‪ ،‬والنقدي‪ .‬وهذا النص كان أول ما ترجمت مع نص التنوير لكنط‪ ،‬والنص لا يمكن‬‫استعماله من دون أن أضيف معنيين يكملان نظرية نيتشة‪ ،‬أو يحددان دلالتها العميقة‪:‬‬ ‫فالنقد عام‪ ،‬وله وجهان يتعلقان بالمتحفي والمعملي‪.‬‬‫فالنقد العام دون هدف محدد‪ ،‬يمكن اعتباره موضة من جنس ما نجده في نقد التراث عند‬ ‫نجوم المشروعات العربية‪ .‬لكن النقد فلسفيا‪ ،‬عمل حي في مسار الأمم‪.‬‬‫عندما يغلب على أمة المتحفي من التاريخ‪ ،‬يكون النقد‪ ،‬إن وجد‪ ،‬فعلا إحيائيا ينقل التراث‪،‬‬ ‫الذي يكاد يكون قد مات‪ ،‬إلى الحياة في الأمة التي استيقظت‪.‬‬‫ونستطيع أن نقول إن أجيال عصر الانحطاط الأخيرة‪ ،‬قد \"متحفت\" تراث الأمة الذي صار‬ ‫آثارا شبه ميتة‪ ،‬بسبب عموم الأمية التي نتجت عن الانحطاط‪.‬‬‫بداية الاستيقاظ من الانحطاط بحيوية ذاتية‪ ،‬أو بسبب الصدمة بالغرب‪ ،‬نفضت نقديا‬ ‫الغبار عن متاحف‪ ،‬أعدها جيل جمع التراث وكتابة الموسعات للإحياء‪.‬‬‫لكن النقد عندما يتوجه إلى المعالم‪ ،‬فهو يصبح أشد صرامة ويتحول إلى ثورة الإبداع‬ ‫المتجاوز للتراث عامة‪ ،‬ولمعالمه خاصة‪ ،‬فيكون بداية الاستئناف‪.‬‬‫ما يسمى بالمشروعات الفكرية لم يكن هذا ولا ذاك‪ .‬والنقد الإحيائي حققه المقاومون‬ ‫لمحاولة الاستعمار‪ ،‬وعملائه قتلوا اللغة العربية وتاريخ الإسلام‪.‬‬ ‫‪33 5‬‬

‫وهذا العمل‪ ،‬بخلاف ما يشاع‪ ،‬لم يقم به ادعياء الحداثة‪ ،‬بل المدارس التقليدية التي تتهم‬ ‫بالرجعية‪ ،‬والتي نفضت الغبار عن المتحف‪ :‬النقد الإحيائي‪.‬‬‫والآن‪ ،‬وخاصة منذ الثورة‪ ،‬بدأ النقد الثوري الذي لا يعيد النظر في المعلمي‪ ،‬قيسا بمعايير‬ ‫الغير‪ ،‬بل يبدع ترجمة مناسبة للعصر من المعلمي الأصيل‪.‬‬‫وهذا هو المنظور الذي سأنطلق منه للكلام على بعض النماذج‪ ،‬من المشروعات التي توخاها‬ ‫بعض النخب‪ ،‬مدعية الحداثة‪ ،‬والتي ليس لها من النقدين شيء يذكر‪.‬‬‫وقبل الكلام على كاريكاتور التراثين‪ ،‬الحديث وما بعده‪ ،‬والإسلامي وما قبله في مشروعات‬ ‫نجوم نخبنا‪ ،‬لا بد من كلمة سريعة حول كونية ثورة الإسلام‪.‬‬‫فمصدرها له نظير متقدم على الإسلام‪ ،‬جعل مشكل الرسول الخاتم‪ ،‬ليس إثبات الوحي أو‬ ‫النبوة‪ ،‬بل عقدة الكاريكاتوريين‪ :‬توثين الأعيان‪ ،‬ونسيان المثل‪.‬‬‫فنخب الجاهلية‪ ،‬الذين رفضوا الرسالة‪ ،‬لم يكن جدلهم معه في الوحي والنبوة من حيث‬ ‫المبدأ‪ ،‬بل كان رفضهم كونيتهما‪ ،‬وقابلية غير وجودها لغير محتكريها‪.‬‬‫والعلاقة بين هذا الموقف‪ ،‬وموقف أصحاب المشروعات من نجوم مفكرينا‪ ،‬لا تبرز للعيان‪،‬‬ ‫لأن أساسها ظل خفيا‪ ،‬وهو ما أريد أن أوضحه بصورة لا جدال فيها‪.‬‬‫فما كان يمكن للجاهلي ألا يشكك في وجود الوعي ووجود الأنبياء‪ ،‬ثم يحصرهما فيمن صاروا‬ ‫محتكرين لها‪ ،‬من دون وثنية تخلط بين تعين المثال والمثال‪.‬‬‫صار الجاهلي يعتقد أن الوحي هو ما تعين منه في اليهودية والمسيحية‪ ،‬وأن النبوة حكر على‬ ‫اليهود دون سواهم‪ ،‬خلطا بين واقع تاريخي ومثال يتجاوزه‪.‬‬‫موقف الحداثي من أصحاب المشروعات الفكرية لا يختلف عن موقف الجاهلي‪ :‬الفرق‬ ‫الوحيد‪ ،‬هو أن الموضوع توسع‪ ،‬فضم إلى الإبداع الديني‪ ،‬الإبداع العقلي‪.‬‬‫صار الحداثي الكاريكاتوري يعتقد‪ ،‬مثل الجاهلي‪ ،‬باحتكار الوحي والنبوة‪ ،‬واضاف إليه‬ ‫احتكار الحضاري والعقلي‪ ،‬فيمن صار يعير الحضاري بحضارته حكرا عليه‪.‬‬ ‫‪33 6‬‬

‫ثورة الإسلام‪-‬أو ثورة محمد صلى الله عليه وسلم‪ ،‬إن خاطبنا العلماني العربي الذي لا‬‫يجرؤ على غير الإسلام من الاديان‪-‬تمثلت في تحرير البشرية من هذين الاحتكارين‪،‬‬ ‫فالإسلام يقول أولا‪ ،‬إن لكل أمة رسالة بلسانها‪ ،‬والرسالة الخاتمة‪ ،‬لكل البشر‪.‬‬ ‫إنها كونية توزيعية‪ ،‬تنزل كل الشعوب نفس المنزلة‪ ،‬والواحد فيها الإسلام‪.‬‬‫وقياسا عليها‪ ،‬ينبغي أن نستنتج أن كل الشعوب لها تجاربها الحضارية‪ ،‬متساوية المنزلة‬ ‫والحضارة‪ ،‬التي تعترف بمثالها الأعلى الواحد‪ ،‬هي حضارة الإسلام‪.‬‬‫إنها الأفق الكوني الذي احتضن كل الحضارات القديمة‪ ،‬وما قبلها‪ ،‬ولها قابلية احتضان كل‬ ‫الحضارات الحديثة‪ ،‬وما بعدها‪ ،‬لقولها بالنساء ‪ 1‬والحجرات ‪.13‬‬‫فمن يؤمن بالأخوة البشرية (النساء ‪ ،)1‬وبحصر المفاضلة في التقوى (الحجرات ‪ ،)13‬لا‬ ‫يسعى لمحو أي حضارة‪ ،‬أو لغة‪ ،‬تمييزا بينها بالعرقية أو بالطبقية‪.‬‬‫لكن الحمقى من ادعياء التحديث ‪-‬ربما بدافع رد الفعل على الحمقى من أدعياء التأصيل‪-‬‬ ‫وثنوا عينا من مثالهم الحديث‪ ،‬كما وثن هؤلاء علينا من إسلامهم‪.‬‬‫فكاريكاتور الحداثة‪ ،‬هو اعتبار تعين قيم الحداثة في فهمهم لها‪ ،‬هي مثالها‪ ،‬وكاريكاتور‬‫الأصالة‪ ،‬هو اعتبار تعين قيم الإسلام في فهمهم له‪ ،‬هي مثاله‪ ،‬فصارت قيم الحداثة الكونية‪،‬‬‫هي عينها الغربية‪ ،‬وصارت قيم الإسلام الكونية‪ ،‬هي عينها في تاريخ المسلمين الرسميين‪،‬‬ ‫فغاب فيهما الكلي المثالي الواحد‪.‬‬‫ولما كتبت \"وحدة الفكرين\"‪ ،‬كان قصدي بيان هذا الكلي المثالي الواحد‪ ،‬الذي ينبغي‬ ‫اعتماده‪ ،‬ليس في تعيير الحضارات‪ ،‬بل في بيان مدى سعيها للاقتراب منه‪.‬‬‫بهذا المنطق‪ ،‬سأستعرض التجربة الحضارية الإسلامية في مثالها وفي واقعها التاريخي‪ ،‬ثم‬ ‫التجربة الحضارية الغربية بنفس المنطق‪ ،‬في ضوء كونية لقائهما‪.‬‬‫ولا شك أن التاريخ الإنساني ليس مقصورا على لقاء هاتين الحضارتين‪ .‬لكن ما نسميه‬ ‫حداثة‪ ،‬وحتى ما نتوقعه ما بعدها‪ ،‬هو ثمرة هذا اللقاء المتواصل‪.‬‬‫ذلك أن التجربة الحضارية الإسلامية ليست مقصورة على ذاتها‪ ،‬بل كانت خزينة ما بقي‬ ‫حيا مما تقدم عليها‪ ،‬لكونها احتضنت أممه والحي من تراثهم‪.‬‬ ‫‪33 7‬‬

‫وما اختزنته‪ ،‬يجمع بين الديني والروحي أولا‪ ،‬وبين الفلسفي والعلمي ثانيا‪ ،‬ومن ثم‪،‬‬ ‫فيمكن القول إن الحي من ماضي الإنسانية تآلف في تجربة حضارتنا‪.‬‬‫وما قلناه عن التجربة الحضارية الإسلامية‪ ،‬يمكن قوله عن التجربة الحضارية الغربية‪،‬‬‫رغم أن إيديولوجيا المركزية الغربية يصح عليها ما يصح على تجربتنا‪ ،‬لكن صحته نسبية‪،‬‬‫لأن إيديولوجيا المركزية الغربية‪ ،‬بخلاف ما يناظرها في المركزية الإسلامية‪ ،‬كانت‬ ‫عدوانية‪ ،‬أي إنها تعتمد منطق الانتخاب الطبيعي‪.‬‬‫وقصدي أنها لم تكن حضنا للحضارات الأخرى طوعا‪ ،‬بل كرها‪ ،‬أي إنها لم تبق إلا على ما‬‫لم تستطع حذفه‪ .‬فمن حضارتنا‪ ،‬ابقت على الثورتين والتراث العلمي‪ ،‬لكنها لا تؤمن‬‫بالتعدد الديني والحضاري‪ ،‬بل فلسفتها الدينية والحضارية تعتمد على منطق التاريخ‬ ‫الطبيعي‪ ،‬اي إن البقاء للأقوى الذي يعتبر الاصلح‪.‬‬‫ولهذه العلة‪ ،‬فحتى المذاهب المسيحية القديمة الغوها ولم يبق لها وجود‪ ،‬إلا في دار‬ ‫الإسلام‪ ،‬والإسلام لما حل في أوروبا‪ ،‬أزاحوه بحرب الاسترداد‪.‬‬‫ولا يزال موقفهم هو هو رغم أنهم يدعون العلمانية والحرية الدينية‪ .‬فهم الآن يحاربون‬ ‫وجود الإسلام في اوروبا بمنطق الاحتكار المسيحي اليهودي‪.‬‬‫لذلك تجد كاريكاتور الحداثة‪ ،‬الذي يحاكي دون وعي ولا عقل هذا الموقف‪ ،‬لا يتجرأ إلا‬ ‫على الإسلام‪ ،‬وهم لا يفتحون أفواههم ذما لغيره من الأديان‪.‬‬ ‫‪33 8‬‬

‫رأينا في خاتمة الفصل الاول أن موقف نخبة التحديث الكاريكاتوري‪ ،‬من استئناف الرسالة‬‫دورها الكوني‪ ،‬يناظر موقف عرب الجاهلية من الرسالة في نشأتها‪ ،‬وأرجعنا وحدة الموقفين‪،‬‬‫إلى مبدأ واحد‪ ،‬هو توثين المثال بحصره في تعينه في لحظة الاستئناف وفي لحظة النشأة‬ ‫الأولى‪ :‬حصر المثال في إحدى تعيناته‪.‬‬‫رفض عرب الجاهلية الرسالة الإسلامية ليس لأنهم لا يؤمنون بوجود الرسالات‪ ،‬ولا‬ ‫بوجود الرسل‪ ،‬بل لأن الرسالة والرسول لهما صورة مغايرة لعين من الكلي‪.‬‬‫ولما كان الكاريكاتور هو تشويه للمثال في فن الرسم‪ ،‬فهذا الموقف يستحق اعتبارنا إياه‬ ‫كاريكاتوريا بالمعنى الحقيقي‪ ،‬وليس بالمعنى المجازي فحسب‪.‬‬‫وأذكر أمرا أدهشني‪ :‬فقد جاء في امتحان أكاديمي فرنسي (للفيلسوف والرياضي‬‫باسكال)‪ ،‬أن محمدا لا يمكن أن يكون نبيا صادقا بحق‪ ،‬بدليل أنه ليس يهوديا‪ ،‬وهذه الحجة‬‫هي عينها ما كان أكبر عائق أمام الرسول الخاتم‪ :‬لم يكن العرب ينفون الوحي‪ ،‬ولا الدين‪،‬‬‫ولا حتى الوحدانية‪ ،‬بل يعتبرونها حكرا على اليهود‪ ،‬واستشهاد القرآن بأهل الذكر‪ ،‬هدفه‬ ‫الرد على هذا المعتقد الذي كان أكبر عوائق الرسالة الخاتمة‪.‬‬ ‫وموقف الحداثيين المزعومين اليوم هو من هذا الجنس‪.‬‬‫لا يصدقون أن قيم العقل مثالها غير عينها‪ ،‬التي تحققت في الغرب‪ ،‬وأنه يمكن أن يكون‬ ‫لها عدة تعينات متفاضلة‪ ،‬بدرجة القرب من المثال وبالسعي إليه‪.‬‬‫والمذهل ‪-‬من لم يلحظ ذلك‪-‬أن ادعياء التحديث لا يكاد اعتراضهم على الإسلام يتجاوز‬ ‫الموقف الجاهلي‪ :‬فحجتهم الأساسية‪ :‬القرآن منتحل من الكتب السابقة‪.‬‬‫ولولا أنهم صم عمي بكم لا يعقلون‪ ،‬لما فاتهم أن القرآن لا يخفي أن الرسالة ذات مضمون‬ ‫واحد‪ ،‬وأن ما تختلف به الكتب عرضي‪ ،‬وينتج عن تحريف الديني فيها‪.‬‬ ‫‪33 9‬‬

‫ولولا أنهم صم بكم عمي‪ ،‬لزاروا مسجد القيروان‪ :‬فجل المواد التي بني بها رومانية‪.‬‬ ‫ولو كانوا يفهمون حقيقة المسجدية‪ ،‬لفهموا عرضية مواد البناء فيها‪.‬‬‫ولو كان لهم عقل يفهم‪ ،‬لأدركوا أن المتكلمين بأي لسان‪ ،‬في أي فن‪ ،‬يشتركون في الأدوات‬ ‫التعبيرية‪ ،‬لكن الفرق فيما يعبرون عنه‪ ،‬وليس فيما يعبرون به‪.‬‬‫وأخيرا‪ ،‬لو كانوا يتجاوزون في قراءاتهم السطح‪ ،‬لرأوا أن نفس المواد تختلف دلالتها‬ ‫بأسلوب استعمالها‪ ،‬كالألفاظ‪ :‬فبنفسها يصاغ الإبداع والاتباع‪.‬‬‫فليقارنوا قصة يوسف في القرآن بها في التوراة‪ :‬فالأولى تليق بالأنبياء‪ ،‬والثانية لا تليق‬ ‫إلا بالدجالين‪ ،‬نصحاء السوء‪ .‬القصة واحدة للأغبياء فقط‪.‬‬‫القرآن يقول إن مضمون الرسالات واحد‪ ،‬وأنها تختلف بالشرائع لا بالعقائد‪ ،‬وأن‬ ‫الاختلاف في العقائد‪ ،‬وحتى في جوهري الشرائع‪ ،‬ليس منها‪ ،‬بل من التحريف‪.‬‬‫ومع ذلك‪ ،‬يبقى التحديث الكاريكاتوري على مذهب \"معيز ولو طارت\" يستدلون بما لا‬ ‫دلالة له‪ :‬المشترك المادي غير المشترك المعنوي الذي هو طلب المثال‪.‬‬‫بعد هذه المقدمة‪ ،‬فلنحاول تحديد طبيعة الثورة‪ ،‬التي يمثلها الإسلام في تاريخ الإنسانية‬ ‫الروحي‪ :‬وسأبدأ بقول شيء لا يصدقه من لم يتدبر القرآن بحق‪.‬‬‫القرآن الكريم‪ ،‬قبل كل شيء‪ ،‬وبعد كل شيء‪ :‬فلسفة دين‪ ،‬بمعنى دراسة التطور‬ ‫الروحي في الأديان‪ ،‬من خلال ما يشبه علم مقارنة الأديان‪ ،‬لتحديد الديني فيها‪.‬‬‫وفي الحقيقة‪ ،‬لست أول من اعتقد ذلك‪ :‬فبذرات مقارنة الأديان لم تأت من فراغ‪ ،‬بل‬ ‫هي محاولة لتطبيق ما وضعه القرآن من تصور لتطور الإنسانية الروحي‪.‬‬‫فمن يقرأ البيروني في كلامه على أديان الهند‪ ،‬ومن يقرأ ملل الشهرستاني وما يماثلهما‬ ‫من محاولات تصنيف الأديان‪ ،‬وحتى الفلسفات‪ ،‬هو من هذا القبيل‪.‬‬‫وطبيعي أن يكون القرآن كذلك‪ ،‬ففي الرسالة الخاتمة‪ ،‬الديني في الأديان فطرة فطر‬ ‫الإنسان عليها‪ ،‬وهو يذكر بها ولا يأتي بها من خارج كيان الإنسان‪.‬‬ ‫ولذلك‪ ،‬فللإسلام معنيان‪:‬‬ ‫‪33 10‬‬

‫‪ -‬الكوني‪ ،‬او فطرة الله التي فطر عليها الإنسان وعهده مع أبناء آدم‪ ،‬عند أخذهم من‬ ‫ظهور آبائهم‪.‬‬ ‫‪ -‬والإسلام التاريخي المذكر به‪.‬‬‫ولكل منهما صورة مثالية وتعين تاريخي‪ :‬فالإسلام الكوني‪ ،‬تعينه التاريخ‪ ،‬هو تاريخ‬ ‫التطور الروحي للإنسانية‪ ،‬والإسلام المذكر به‪ ،‬هو تاريخ إسلامنا‪.‬‬‫لذلك‪ ،‬فلا غرابة أن نرى القرآن يصف كل الأمم التي لم تحرف رسالتها بأنهم مسلمون‪،‬‬ ‫بمعنى أنهم يمثلون إحدى مراحل تطور الإنسانية الروحي‪ ،‬تحققا للفطرة‪.‬‬‫ولا غرابة أن يقول القرآن إن لكل أمة رسالة بلسانها‪ .‬فالوحي ليس حكرا على شعب‪،‬‬ ‫رسولا ومخاطبين‪ ،‬بخلاف الاحتكار اليهودي التام والمسيحي النسبي‪.‬‬‫والاحتكار اليهودي والمسيحي كلاهما جزء من التحريف بمنظور القرآن‪ ،‬وهو تحريف‬ ‫ينزه عنه الأنبياء‪ ،‬فيعتبر موسى وعيسى مسلمين قائلين بالديني الكوني‪.‬‬‫والتحريف الذي أدى إلى الاحتكار المطلق‪ ،‬هو تحريف دين موسى الذي آل إلى دين‬ ‫العجل الذهبي‪ :‬فالنبوة حكر عليهم‪ ،‬والمخاطبون شعب الله المختار دون سواه‪.‬‬‫والمسيحية حرفت نفس التحريف في البداية‪ ،‬إذ جعلوا المسيح يقول في أحد الأناجيل إنما‬‫بعثت للنعاج الضالة من بني إسرائيل‪ ،‬لكن \"بولس\" عدلها في رسائله‪ ،‬فلم يبق إلا على‬‫التحريف الخاص باحتكار الأنبياء‪ :‬لا يكون نبيا إلا من كان يهوديا‪ .‬لكن المخاطبين هم كل‬ ‫من يقبل الإنجيل كما صوره في رسائله‪.‬‬‫لكن القرآن يعتبر ذلك تحريفا‪ ،‬ويؤكد أن كل الأمم تتلقى الوحي عن طريق نبي منها‪،‬‬ ‫وبلسانها‪ ،‬إلى أن جاءت الرسالة الخاتمة رسالة الديني في كل دين‪.‬‬‫وهذا الديني في كل دين‪ ،‬هو الأخلاق والقانون‪ ،‬أو التربية والحكم‪ ،‬ويجمعهما مفهوم‬ ‫الدولة التي تعد الإنسان ليكون مستعمرا في الأرض بقيم الاستخلاف‪.‬‬‫وهذا يعني‪ ،‬أن الديني في كل دين‪ ،‬هو مقوما السيادة التي تجعل المقام الدنيوي مطية‬ ‫للمآل الأخروي‪ ،‬بمعنى تحقيق مقومي الإنسان المكلف لأنه حر ومكرم‪.‬‬ ‫‪33 11‬‬

‫ومقوما الإنسان‪ ،‬يتحددان بمنزلته في المعادلة الوجودية كما تحددها الآية ‪ 53‬من سورة‬ ‫فصلت‪ :‬الآفاق والأنفس آيات يريها الله للإنسان‪ ،‬فيعلم ويعمل كمسؤول‪.‬‬‫وهذه المعادلة أذكر بها مرة أخرى‪ :‬قطبان‪ ،‬الله والإنسان‪ ،‬ووسيطان‪ ،‬الطبيعة‬ ‫والتاريخ‪ ،‬وعلاقة القطبين المباشرة تمكن من العلم والعمل في الوسيطين‪.‬‬‫والعلم والعمل في الوسطين‪ ،‬هما ما به يرتقي الإنسان روحيا‪ ،‬طلبا للتجاوز بالعلاقة‬ ‫المباشرة بين القطبين الله والإنسان‪ :‬الديني هو القوانين والأخلاق‪.‬‬‫والقوانين والأخلاق أو الديني في الأديان = جوهر الرسالة الخاتمة‪ ،‬المذكر بالرسالة‬ ‫الفاتحة أو بما فطر عليه البشر وتعهدوا به وهم في ظهور آبائهم‪.‬‬‫تلك هي الرسالة الخاتمة كما يعرفها دستورها القرآني‪ ،‬والتحريف فصل بين الاستعمار‬ ‫والاستخلاف في الأرض‪.‬‬ ‫‪ - 1‬وحده نفي للتعالي‪.‬‬ ‫‪ - 2‬وحده تعال كاذب‪.‬‬‫وهذه حال العالم اليوم‪ :‬الحداثة أهملت الثاني‪ ،‬والمسلمون أهملوا الأول‪ ،‬وإذن فكلاهما‬ ‫حرف الرسالة الخاتمة‪ ،‬رغم كونهما نبعا من ثورتيها كما نبين‪.‬‬‫سيغضب مني علماء الإسلام‪ ،‬لأني قد اعتبرت الاقتصار على الاستخلاف وحده تعاليا‬ ‫كاذبا‪ .‬وسيفرحهم قولي إن الاقتصار على الاستعمار في الأرض تحريف‪.‬‬‫كلاهما تحريف إذا كنا أمناء لنص القرآن‪ :‬فالإنسان لا يمكن أن يكون خليفة إذا كان‬ ‫تابعا لغير الله‪ .‬ومن فشل في الاستعمار في الأرض‪ ،‬تابع لمن نجح‪.‬‬‫لذلك فالمسلمون اليوم توابع‪ ،‬وبلادهم محميات‪ ،‬ولا يمكن للتابع والمحمي أن يكون مسلما‬ ‫بحق إذا كان خاضعا لغير الله‪ ،‬كحال التابع في الحماية والرعاية‪.‬‬‫ولا بد هنا من العودة إلى ما سميناه قلب دلالة الآية ‪ 53‬من سورة فصلت وما جره على‬ ‫علوم الملة من مآل وخيم‪ ،‬حال دون الامة وتحقيق شروط الاستعمار في الارض‪.‬‬‫فالفاشل في تعمير الأرض‪ ،‬تابع‪ ،‬والتابع يعبد متبوعه‪ ،‬فلا يكون أهلا للاستخلاف فضلا‬ ‫عن أن يقول‪ :‬جئنا لنحرركم من عبادة العباد لعبادة رب العباد‪.‬‬ ‫‪33 12‬‬

‫وبذلك فقلب فصلت ‪ 53‬هو علة العجز في الأنفال ‪ ،50‬لأن الاستعداد الرادع مبني على‬ ‫القوة عامة‪ ،‬والقوة العسكرية خاصة‪ ،‬وكلتاهما بالعمل والعمل على علم‪.‬‬‫والعلم والعمل على علم‪ ،‬يعني إبداع الثروة والقوة‪ ،‬وهما علامة تعمير الارض‬ ‫وشرطان في أهلية الاستخلاف‪ ،‬أي عبادة الواحد الاحد بدل التبعية لغيره‪.‬‬‫والغفلة عن هذه العلاقات‪ ،‬ليس لها من علة غير قلب علماء الملة مدلول فصلت ‪ :53‬بدلا‬ ‫من فهم الشروط بعلم ما يرينها الله فيه‪ ،‬عكسوا للرجم بالغيب‪.‬‬‫ولما حصل ذلك‪ ،‬انقلبت العلاقة بين الحضارتين‪ ،‬اللتين تعاصرتا في القرون الوسطى في‬‫تبادل سلمي وحربي‪ ،‬حول شروط الاستعمار في الأرض والاستخلاف فيها‪ ،‬فأصبح المسلمون‪،‬‬‫بالتدريج‪ ،‬يزعمون أن الاستخلاف غني عن شروط تعمير الأرض‪ ،‬وكثرت الدروشة‬ ‫والرجم بالغيب والعلوم الزائفة التي دحض بعضها ابن خلدون‪.‬‬‫وأصبح الغرب المسيحي بالتدريج هو الذي يعمل بفصلت ‪ 53‬ويحقق شروط الاستعمار في‬ ‫الأرض‪ ،‬أي العلوم والأعمال‪ ،‬على علم في علاقته بالطبيعة وبالتاريخ‪.‬‬‫وبذلك‪ ،‬استعمر الغرب الأرض بتعميرها‪ ،‬واستعمر من عليها باستعبادهم‪ ،‬فصرنا نتوهم‬ ‫أننا بقينا خلفاء في الأرض لكننا بقينا عبيدا لمستعمرنا إلى الآن‪.‬‬‫ولأني لا أخشى في الحق لومة لائم‪ ،‬فالغرب هو الذي يعمل بالأنفال ‪ ،60‬وهو الذي‬ ‫يستطيع أن يقول \"جئت لأحرركم من عبادة العباد لعبادة حق العباد\"‪.‬‬‫انحطت قيم الحداثة في الغرب‪ ،‬فجعلتها مافيته إيديولوجيا لتبرير الاستعمار‪ ،‬وانحطت‬ ‫قيم الإسلام لدينا‪ ،‬فجعلتها مافيتنا إيديولوجيا الاستبداد والفساد‪.‬‬ ‫هذه حال العالم الآن‪.‬‬‫والوجهان متضامنان‪ :‬فمافية الغرب هي التي تحمي مافية العرب‪ .‬والاستضعاف‬ ‫والاستتباع يسندان الاستبداد والفساد‪.‬‬‫ثورتنا كونية‪ ،‬وبهذا المعنى‪ ،‬فهي تقبل التعريف بكونها استئناف دور الإسلام في التاريخ‬ ‫العالمي‪ ،‬رغم أن الشباب لم يتجاوز بعد المطالب المباشرة إلى الوعي بشروطها‪.‬‬ ‫‪33 13‬‬

‫ورغم أن الانتقال من المطالب إلى شروطها ليس مهمة سهلة‪ ،‬فإن ما أحاوله لن يتوقف‬ ‫حتى ينتج عن الغزو المباشر للقلوب‪ ،‬تحريكا للعقل والإرادة نحو الشروط‪.‬‬‫وبخلاف المثل السائر بأن البدايات هي الصعبة‪ ،‬يمكنني القول إن الاستئناف أصعب من‬ ‫البداية في النشأة الأولى‪ ،‬خاصة وقد كانت رسالة سماوية لا تتكرر‪.‬‬‫وكم من بين المسلمين من ينتظر معجزة سماوية‪ ،‬بدلا من السعي بما حدده القرآن من‬‫مبادئ لجعل الإسلام عزة دائمة‪ ،‬أي فصلت ‪ 53‬والأنفال ‪ 60‬كما ذكرت‪ ،‬وهذا يقتضي ثورة‬‫تغير نظام التربية العلمية والعملية (فصلت ‪ ،)53‬ونظام الحماية والرعاية (الأنفال ‪،)60‬‬ ‫حتى يصبح هدف الاستئناف تأهيلا للاستخلاف‪.‬‬‫والتأهيل للاستخلاف مشروط بما يوجبه العصر من أدوات‪ ،‬تحقق شرطه الأول‪ ،‬أي‬ ‫النجاح في الاستعمار في الأرض بثورة علمية (الآفاق) وعملية (التاريخ)‪.‬‬‫فالسيادة على الطبيعة بعلم قوانينها‪ ،‬هي مصدر الحماية والرعاية والسيادة على‬ ‫التاريخ‪ ،‬بعلم قوانينه‪ ،‬وقيمه الخلقية هو مصدر تنظيمهما الحر والكريم‪.‬‬‫ذلك هو الإسلام الذي لا يستطيع أصحاب كاريكاتور التحديث وأصحاب كاريكاتور‬ ‫التأصيل فهمه‪ ،‬لفهم علاقته بالحداثة والأصالة المبدعتين‪.‬‬ ‫‪33 14‬‬

‫بقيت ثلاثة فصول‪:‬‬ ‫‪-‬الثالث لتعريف الحداثة‪.‬‬ ‫‪-‬والرابع والخامس للكاريكاتورين‪.‬‬ ‫والكلام على كاريكاتور التأصيل نورده لتضايفه مع كاريكاتور التحديث‪.‬‬‫ذلك أن هدف البحث ليس الكلام على الكاريكاتور التأصيلي‪ ،‬بل على الإسلام ورؤاه التي‬ ‫صدرت عن كاريكاتور التحديث‪ ،‬والكاريكاتور الثاني فهو رد فعل عليه‪.‬‬ ‫وسآخذ مثالين من كلا الكاريكاتورين‪.‬‬ ‫‪-‬فمن التأصيلي‪ ،‬سآخذ مثالي تشويه رؤية الدين للاجتهاد والجهاد‪.‬‬ ‫‪-‬ومن التحديثي‪ ،‬تشويه رؤية الفلسفة للنظر والعمل‪.‬‬‫وبذلك أكون قد مثلت للابتعاد عن حقيقة الإسلام‪ ،‬كما حاولت تحليل مقوماتها والابتعاد‬ ‫عن حقيقة الحداثة‪ ،‬كما سأحاول تحليلها‪ ،‬وبذلك أختم المحاولة‪.‬‬‫وضعت مفهوم الديني في كل الأديان لتعريف الإسلام‪ ،‬وأجدني مضطرا لوضع مفهوم‬ ‫الفلسفي في كل الفلسفات لتعريف الحداثة‪ :‬حيلتان أو نظريتان للحل‪.‬‬‫وبينت أن الديني في كل الأديان يعود إلى الخلقي والقانوني‪ ،‬سر بعدي الإنسان‪ ،‬وسأبين‬ ‫أن الفلسفي في كل الفلسفات يعود إلى النظري والعملي‪ ،‬لنفس السر‪.‬‬‫والقرآن صريح في تعريف ذاته‪ ،‬بكونه خطاب الديني في كل الأديان‪ ،‬الذي هو موضوع‬ ‫الرسالة الخاتمة وأسسه على عهد بين الله وأبناء آدم‪ ،‬وعيا بالفطرة‪.‬‬‫ففي الآيتين ‪ 172‬و‪ 173‬من الأعراف‪ ،‬صاغ القرآن ذلك رمزيا‪ ،‬فاعتبر الفطرة موضوع‬ ‫عهد يحرر من عقبتين‪ ،‬قد يتحولان إلى حجتي اعتذار وتفص‪ :‬الغفلة والتربية‪.‬‬‫لكن القرآن لا يقف عند هذا الحد‪ ،‬بل صاغ‪ ،‬وإن بأقل صراحة‪ ،‬في تحديد الفلسفي في كل‬ ‫الفلسفات‪ ،‬ما يناظر الأخلاق والقانون في الديني في الأديان‪.‬‬ ‫‪33 15‬‬

‫وبذلك أبدأ‪ ،‬فكلامي على الفلسفي في كل الفلسفات‪ ،‬لتحديد الحداثة التي سأورد‪ ،‬مفارقة‬‫ما كنت لأقولها لو كنت ممن يتبعون الموضة ويطلبون النجومية‪ ،‬فمتتبع الموضة وطالب‬‫النجومية يعرّف الحداثة إيجابا‪ ،‬بكونها عصر العقل المطلق‪ ،‬وسلبا بكونها عصر اللادين‬ ‫المطلق‪.‬‬ ‫لكني أراها العكس تماما كما أبين‪.‬‬‫فالحداثة بدأت مع الفلسفي في كل الفلسفات‪ ،‬كما بما بدأ به الديني في كل الأديان‪ :‬أي‬ ‫وعي العقل بحدوده في النظر والعمل‪ ،‬أو الاعتراف بالغيب‪.‬‬‫فالفلسفي في كل الفلسفات‪ ،‬هو وعي العقل بحدود النظر والعمل‪ ،‬المبنيين على العقل‬ ‫المدرك لحدوده‪ ،‬نظير الأخلاق والقانون في الديني في كل الأديان‪.‬‬‫لذا اعتبرت حداثة النظر والعمل‪ ،‬أو الفلسفي في الفلسفات قد بدأت بتجاوز مدرستنا‬ ‫الفلسفة اليونانية قبل الغرب بقرنين‪ :‬الغزالي وابن تيمية وابن خلدون‪.‬‬‫لن أكتفي بأدلة تاريخ الفكر التي تقبل عدة تأويلات‪ ،‬بل سأعتمد على نظرية التعبير عن‬ ‫الذوق الوجداني والوجودي‪ ،‬ونظرية العلم‪ ،‬وقد عالجتهما سابقا‪.‬‬‫رأينا أن التعبير عن الوجدان يحاول تجاوز استحالة قول ما لا يقال من ذوق الوجدان‬ ‫والوجود‪ ،‬فيكون مصدر الإبداع الجمالي والجلالي في كل الحضارات‪.‬‬‫كما رأينا أن علم النظر في الوجود‪ ،‬والعمل في التاريخ‪ ،‬كلاهما يعترضه ما فيهما مما لا‬ ‫يقبل العلم‪ ،‬وهو دينيا غيب الوجود‪ ،‬وفلسفيا الموجود اللامعلوم‪.‬‬‫فيكون الإبداع الذوقي‪ ،‬المعبر عن الوجدان والوجود‪ ،‬هو موضوع الأكسيولوجيا‪ ،‬والابداع‬ ‫العلمي‪ ،‬المعبر عن النظري والعملي‪ ،‬هو موضوع الأبستمولوجيا‪.‬‬ ‫والاكسيولوجيا‪ ،‬هي أصل كل دين‪ ،‬والأبستمولوجيا‪ ،‬هي أصل كل فلسفة‪.‬‬ ‫إنهما أصل ثورة الدين والفلسفة في آن‪ .‬والإسلام بهذا المعنى‪ ،‬ثورة دينية وفلسفية‪.‬‬‫فتكون الحداثة الدينية قطيعة الإسلام مع الأديان القديمة‪ ،‬بتحديد الديني في الأديان‪:‬‬ ‫فالقرآن نقد ديني‪ ،‬لدينين منزلين‪ ،‬ولدينين طبيعيين‪.‬‬ ‫‪33 16‬‬

‫وتكون الحداثة الفلسفية قطيعة الفلسفة النقدية العربية مع الفلسفات القديمة‪ ،‬بتحديد‬ ‫الفلسفي في الفلسفات‪ ،‬بتأثير قطيعة القرآن مع الأديان القديمة‪.‬‬ ‫تلك هي النظرية التي تبدو مفارقة لما اعتدنا عليه من فهم للحداثة‪.‬‬ ‫فأنا لن أهتم بالدليل التاريخي‪ ،‬بل ببنية الثورات الإبداعية في تطور الحضارة‪.‬‬ ‫فلابد في كل قفزة نوعية حضارية من ثورة في أصناف الإبداع الأربعة‪:‬‬ ‫المتعلقة بذوق الوجدان والوجود الأكسيولوجيين‪ ،‬وعلم النظر والعمل الابستمولوجيين‪.‬‬‫ولست بحاجة بعد هذا المعيار‪ ،‬بأن أقوم بمقارنة علاقة التحول الحضاري‪ ،‬الذي حدث عندنا‬‫بفضل الإسلام‪ ،‬والتحول الذي حدث في الغرب ويسمى حداثة‪ ،‬ففيهما كليهما حدثت ثورة‬‫إبداعية أكسيولوجية بالتعبير الوجداني والوجودي (الآداب والتصوف)‪ ،‬وابستمولوجية‬ ‫بالتعبير النظري والعملي (النظر والعمل)‪.‬‬‫وطبعا‪ ،‬فكالعادة‪ ،‬سيحتج من يريد الزبدة دون مخاض‪ ،‬أو من يريد النتيجة دون المقدمة‪،‬‬ ‫فيعتبر كل هذا التأسيس النظري لفا ودورانا يمكن الاستغناء عنه‪.‬‬ ‫ومرة أخرى‪ ،‬آن لنا أن نعتبر المعرفة من جنس العمران‪.‬‬‫يمكن أن تبقى حياتك كلها في الخيام‪ ،‬فلا تحتاج إلى أوتاد تغور في الأعماق‪ ،‬فلا تحتاج‬ ‫للفكر‪.‬‬‫والأبداع الأكسيولوجي والأبستمولوجي في كل ثورة روحية‪ ،‬يتضمن ثورة في الآداب‬ ‫والأديان والعلوم والفلسفات‪ .‬ما بين الاولين من جنس ما بين الثانيين‪.‬‬‫وإذن فحضارتنا مثل الحضارة الغربية‪-‬والقانون عام‪ ،‬يشمل مما أدى دورا مثيلا‪-‬استوعبت‬ ‫ما تقدم عليها وتجاوزته بثورة ادبية ودينية وعلمية وفلسفية‪.‬‬‫وانطلاقا من هذه النظرية‪ ،‬التي هي ككل نظرية‪ ،‬حيلة عقلية لصوغ المضمون المعرفي لما‬ ‫نريد البحث فيه‪ ،‬بمفهومات قابلة للتحديد الدقيق‪ ،‬نعرف الحداثة‪.‬‬‫ما أظن أحدا يجادل في صحة القول بأن كل تحول حضاري كيفي في تاريخ الإنسانية لا بد‬ ‫له من أفق ومناخ روحي‪ ،‬يتفرع إلى ما ذكرنا من الإبداعات الأربعة‪.‬‬ ‫‪33 17‬‬

‫ونحن نعلم أن أوروبا مرت بثورة أدبية وفنية في القرن الرابع عشر المعاصر لابن تيمية‬‫وابن خلدون‪ ،‬وأنها مرت في نفس الحين بثورة علمية (لاحظها ابن خلدون)‪ ،‬وأنها مباشرة‪،‬‬‫وخاصة بالتصاحب مع تحول المسلمين إلى الموقف الدفاعي في المغرب الإسلامي‪ ،‬وشرعت في‬‫موقف هجومي عسكري في البلقان وأوروبا الوسطى‪ ،‬وأن رجحان كفة الخلافة العثمانية لم‬‫يكن مبنيا على سر القوة التي بدأ المسلمون يفقدونها والغرب يتمكن منها‪ :‬العمل على علم‬ ‫مع الطبيعة والتاريخ‪.‬‬‫وما إن أطل القرن السادس عشر‪ ،‬حتى بلغت الثورة ذروتها‪ :‬الثورة الدينية والفلسفية‪،‬‬ ‫فبلغ اللقاء التخاصبي بين الحضارتين ذروته الدينية والفلسفية‪.‬‬‫ذلك أن الثورة الأدبية غيرت نمط العيش‪ ،‬كما رمز إليه جوته‪ ،‬في إيلاء أهمية للدنيا‪،‬‬ ‫منافية للفكر المسيحي وقريبة من الإسلام بتأويل الفيلسوف هاينه‪.‬‬‫ونفس الأمر يقوله مؤرخو العلم‪ ،‬وخاصة الرؤية الابستمولوجية المختلفة عن الرؤية‬‫اليونانية‪ ،‬التي تنسب إلى تأثير الحضارة الإسلامية ودور التجربة‪ ،‬فكان لبلوغ الوعي‬‫الذوقي والعلمي‪ ،‬مرحلة تقتضي ثورة في الوعي الديني والفلسفي‪ ،‬وهو ما حدث في بدايات‬ ‫القرنين السادس عشر والسابع عشر‪ .‬فحصل التعريف الصريح للحداثة‪.‬‬‫والتعريف‪ ،‬هو ما يطابق المفارقة التي أقدمت عليها‪ ،‬والتي تناقض تمام المناقضة لرؤية‬ ‫الكاريكاتور الحداثي‪ :‬تم تجاوز إطلاق العقل والاعتراف بحدوده‪.‬‬‫فلا ديكارت‪ ،‬ولا لايبنتس‪ ،‬ولا لوك‪ ،‬ولا أحد ممن يعتد به من مفكري القرن السابع عشر‬ ‫وما بعده‪ ،‬لم يعد يؤمن بأن العقل يستمد فاعليته من وعيه بحدوده‪.‬‬‫توقفت سخافات رد المنقول للمعقول‪ ،‬والعقلانية الساذجة التي ينسبها الجابري لابن رشد‬‫ويتوهم أنها هي التي أخرجت الغرب من التخلف العلمي والفلسفي‪ ،‬وبلغت هذه‬‫الأبستمولوجيا النافية للمطابقة بين العلم والوجود (ثورة ابن تيمية وابن خلدون)‪ ،‬عند‬ ‫كنط‪ :‬النقد هو بالأساس علم حدود قدرات العقل‪.‬‬‫عندئذ تحدد الفلسفي في كل الفلسفات‪ :‬النظر والعمل في حدود العقل‪ ،‬الذي يدرك‬ ‫حدوده‪ ،‬بمعنى أنه لا يتوهم حصر الوجود في الإدراك بلغة ابن خلدون‪.‬‬ ‫‪33 18‬‬

‫فالثورة في التعبير الوجداني والوجودي(الأكسيولوجيا)‪ ،‬اكتملت في الإصلاح الديني‪،‬‬ ‫والثورة في النظر والعمل (الابستمولوجيا)‪ ،‬اكتملت في الإصلاح الفلسفي‪.‬‬‫وعن الإصلاح الديني (الحرية الروحية أو انهاء دور الوساطة الكنسية) نتج الإصلاح‬ ‫السياسي (الحرية السياسية أو انهاء دور الحق الإلهي في الحكم)‪.‬‬‫وعن الإصلاح الفلسفي (حرية العقل وإنهاء وهم المطابقة) نتج الإصلاح الاجتماعي‬ ‫(الحرية المدنية أو مبدأ المساواة والأخوة البشرية الكونية)‪.‬‬‫فالديني في كل دين يساوي الحرية الروحية (الأخلاق)‪ ،‬والحرية السياسية (القانون)‬ ‫والفلسفي في كل فلسفة يساوي الحرية العقلية (النظر)والحرية المدنية (العمل)‪.‬‬‫وما أظنني بعد هذا الاستنتاج المنطقي‪ ،‬بحاجة للمزيد بخصوص علاقة الحضارتين‬ ‫المتنافستين منذ بداية تاريخ المسلمين‪ ،‬رغم خسراننا التسابق مؤقتا‪.‬‬‫ومن السخف قراءة التاريخ بمنطق اصحاب التأصيل وأصحاب التحديث الكاريكاتورين‪،‬‬ ‫اللذين يتحدان في فلسفة للتاريخ‪ ،‬تخضعه لمنطق التنافي بين الحضارتين‪.‬‬‫فأولئك يشترطون للاستئناف‪ ،‬الحرب على الحضارة الغربية وقيمها‪ ،‬وهؤلاء‪ ،‬الحرب على‬ ‫الحضارة الإسلامية وقيمها‪ .‬وكلاهما مجرد كاريكاتور مما يدعي تمثيله‪.‬‬‫ذلك ما أنوي بيانه في الفصلين الموالين بعد أن قدمت تعريف ثورة الحضارتين المتنافستين‬ ‫واشتراكهما في الديني في كل دين وفي الفلسفي في كل فلسفة‪.‬‬ ‫‪33 19‬‬

‫ما القصد بكاريكاتور التأصيل وكاريكاتور التحديث؟‬ ‫بينا معنى الكاريكاتور بنسبته التشويهية في فن الرسم‪ ،‬فماذا يرسم كلاهما؟‬ ‫وما التشويه المشترك؟‬‫في الحقيقة كلاهما تأصيلي وتحديثي‪ :‬يدعيان تمثيل الأصل من الإسلام والأصل من‬ ‫الحداثة‪ ،‬بعودة تحققه من جديد‪ ،‬ومن ثم‪ ،‬فلهما كلاهما أصل يعودان إليه‪.‬‬‫ومن ثم‪ ،‬فالتشويه مضاعف‪ :‬تحديد الأصل ما هو‪ ،‬سواء كان الإسلام أو الحداثة‪ ،‬وتصور‬ ‫العودة إليه كيف تكون‪.‬‬ ‫وبهذا سأبدأ دراسة كاريكاتور التأصيل‪.‬‬‫وأول سؤال هو‪ :‬هل يعلم صاحب كاريكاتور التحديث‪ ،‬أن القرآن يعرف الإسلام بكونه‬ ‫الديني في كل الأديان‪ ،‬بمعنى الخلقي والقانوني؟ أم جعله أحد الأديان؟‬‫ألم يجعله مجرد محاكات‪ ،‬ولو بالضد‪ ،‬لخاصيات الأديان التي نقد الإسلام تحريفها‪ ،‬بحيث‬ ‫غابت صفته الجوهرية المتمثلة في كونه دولة الأخلاق والقانون؟‬‫وبذلك‪ ،‬فهو لم يبق منه إلا الممارسات التوثينية‪ ،‬التي تحاكي لحظة من تعين الأخلاق‬ ‫والقانون‪ ،‬وكأن لها ثبات العبادات‪ ،‬فقدس الأعيان بدل المثال؟‬‫ولأنه لم يجد في الإسلام أهم صفتين تتميز بها الأديان‪ ،‬التي يعتبرها القرآن محرفة‪ ،‬فقد‬ ‫استعارها منها‪ :‬وهي اسرائيليات ونصرانيات وحتى جاهليات‪.‬‬‫ومن هنا جاءت كل الأساطير التي تتعلق بمعجزات‪ ،‬القرآن ينفي صراحة أن النبي يمكن‬‫أن يقدم منها شيئا‪ ،‬بل ويعتبرها للتخويف ولا علاقة لها بالديني‪ ،‬ومن ثم اعادة الكنسية‪،‬‬‫أو الوساطة الروحية‪ ،‬في شكل مؤسسة الإفتاء‪ ،‬وخاصة في شكل الأولياء والكرامات وكل ما‬ ‫يلغي القانون والأخلاق‪ ،‬أي دور الحريتين‪.‬‬ ‫‪33 20‬‬

‫وفي الجملة‪ ،‬فإن كاريكاتور التأصيل‪ ،‬بوصفه عودة إلى هذا الفهم‪ ،‬لا يعود إلى الإسلام‬‫والقرآن‪ ،‬بل إلى أوثان جعلت الإسلام مثل الأديان التي ينقدها‪ ،‬فهيمنت استعادة المظاهر‬‫أكثر من الحقائق التي يمثلها الإسلام‪ ،‬بوصفه ثورة روحية وسياسية‪ ،‬تحرر من وساطة‬ ‫روحية والحق الإلهي أو الطبيعي في الحكم‪.‬‬‫وهذا الفهم‪ ،‬حرف كل علوم الملة بقلب ما حددته الآية ‪ 53‬من سورة فصلت‪ ،‬ما جعل النظر‬ ‫والعمل يصبحان عقيمين‪ ،‬والأخلاق والقانون يفقدان سلطانهما لصالح قشور التدين‪.‬‬‫ومؤسسة الإفتاء ليست استشارة علمية‪ ،‬بل هي من جنس المرشدية العامة‪ ،‬أو من جنس‬ ‫المرجعية الشيعية‪ ،‬وهي كنسية دون اسمها‪ ،‬وصرحت في المشيخة الصوفية‪.‬‬‫ذلك أن من يستفتي لا يريد معرفة‪ ،‬بل يريد التخلص من ثقل المسؤولية في أخذ قرار‬ ‫متعلق بخصومة مع ذاته‪ ،‬وغالبا ما يكون الداعي الهروب من البينات‪.‬‬‫وأقصد بالهروب من البينات‪ ،‬عدم اتباع ما لا يحتاج إلى علم كبير للقرار فيه إلا بمعنى‬‫البحث عن مهرب وحيلة‪ ،‬تحلل ما ليس حلالا أو تحرم ما ليس حراما‪ ،‬وخاصة إذا كان طالب‬‫الفتوى ذا سلطان أو جاه‪ .‬وبهذا المعنى فالحاجة إلى الإفتاء ‪-‬باستثناء ما لم يكن ذا رهان‬ ‫مهم منه‪-‬هي الحاجة للوساطة الروحية‪.‬‬‫لن أطيل في هذا الوجه من كاريكاتور التحديث‪ ،‬لأن ما يعنيني هو ما ينتج عنه من اعاقة‬ ‫لمسعى تحقيق شروط الاستعمار في الارض بدعوى الاستخلاف المباشر‪.‬‬‫وقد بينت أن الاستخلاف المباشر مستحيل أولا‪ ،‬وأنه مناف للعلاقة الجوهرية بين الدين‬ ‫والحياة‪ :‬تصور الاستخلاف ممكنا‪ ،‬دون تعمير الأرض‪ ،‬مناقض للإسلام‪.‬‬‫وقد بينت أن جوهر التعبد‪ ،‬أي الفروض الخمسة‪ ،‬جعلها الإسلام مشروطة بعلامة تعمير‬ ‫الأرض‪ ،‬أي سد الحاجات الممتنع من دون تنمية مادية كافية لحياة كريمة‪.‬‬ ‫ففي الزكاة والحج الأمر بين‪.‬‬‫وفي الصوم والصلاة أبين رغم خفائه‪ :‬فلا يمكن أن يصوم من لا يتوفر له شروط الصحة‪،‬‬ ‫ولا يمكن أن يصلي من دون شروط النظافة‪.‬‬ ‫‪33 21‬‬

‫وإذن‪ ،‬فأربعة من الفروض الخمسة مشروطة صراحة بالنجاح في تعمير الأرض‪ ،‬والشهادة‬ ‫هي الحد الأدنى من فروض العبادة‪ ،‬مدخلا للعبادات بشروطها التعميرية‪.‬‬‫وإذن‪ ،‬فالتعمير صار جزءا من العبادات‪ ،‬وليس مقصورا على المعاملات‪ ،‬وشرطهما الأخلاق‬ ‫والقانون‪ ،‬والأولى وازع ذاتي‪ ،‬والثاني وازع أجنبي (ابن خلدون)‪.‬‬‫والتعمير لم يعد مجرد ضرب في الأرض للاسترزاق‪ ،‬بل هو ما نتج عن الديني في كل دين‪،‬‬ ‫الملازم للفلسفي في كل فلسفة‪ :‬الإبداعات الاربعة التي حددت‪.‬‬‫فلا بد لتعمير الأرض شرطا في الاستخلاف من الإبداع التاريخي‪ ،‬أصلا لأربعة فروع هي‪:‬‬ ‫الإبداع الذوقي‪:‬‬ ‫‪ -‬الوجداني‬ ‫‪ -‬والوجودي أصل الوعي الديني‪.‬‬ ‫ولا بد من الإبداع‪:‬‬ ‫‪ -‬النظري‬ ‫‪ -‬والعملي أصل الوعي الفلسفي‪.‬‬‫فيكون الوعي الديني أصلا للوعي الفلسفي‪ ،‬إذا كان الدين خاتما بوصفه الديني في كل‬ ‫دين‪.‬‬‫وإذن‪ ،‬فالإسلام الدين الخاتم‪ ،‬هو هذه الرؤية التي تعتبر الديني في كل دين‪ ،‬والفلسفي‬ ‫في كل فلسفة‪ ،‬أو الابداع التاريخي متقوما بالإبداعات الأربعة‪.‬‬‫واقتضى ذلك أن يكون كتابه إعادة النظر الثورية في مفهوم الوحي‪ ،‬وفي مفهوم العقل‪،‬‬ ‫بصورة تحرر الاول مما علق به من خرافة‪ ،‬والثاني مما علق به من وهم‪.‬‬‫والخرافة هي ما تحرر منه الإسلام الدين‪ ،‬لقوله بانتظام العادات وليس بخرقها‪ ،‬والوهم‬ ‫هو ما حرر منه الإسلام العقل لقوله بأن للعلم حدا‪ ،‬هو الغيب‪.‬‬‫وذلك هو مفهوم الرشد الإسلامي في الوحي والعقل‪ :‬الاول من جنس التعبير الوجداني‬ ‫والوجودي‪ ،‬والثاني من جنس العلم النظري والعملي‪.‬‬ ‫وكلاهما محدود‪.‬‬ ‫‪33 22‬‬

‫فلا النبي يعلم الغيب (الخرافة)‪ ،‬ولا الفيلسوف يعلم المطلق (الوهم)‪ :‬أسلوبان متكاملان‬ ‫لقيام الإنسان بالمعادلة الوجودية في الدنيا وما بعدها‪.‬‬‫والآن سأصدع بأعظم معجزة‪ ،‬هي جوهر الإسلام‪ :‬معجزة القرآن التي حررت الوحي من‬ ‫خرافة خرق العادات بانتظامها‪ ،‬والعقل من خرافة العلم المطلق بالغيب‪.‬‬‫أساس الحريتين‪ :‬الحرية الروحية تغني عن الوسطاء بين الله والإنسان بوجدانه‪ ،‬والحرية‬ ‫السياسية تغني عن الوسطاء بين المؤمن والشأن العام بعقله‪.‬‬‫والوجدان في الخلقي والقانوني وحي كوني‪-‬الفطرة الخلقية‪-‬والعقل في النظري والعملي‬ ‫إدراك كوني ‪-‬الفطرة العقلية‪ :‬الإسلام يساوي الديني والفلسفي الخاتمين‪.‬‬‫والسؤال الآن هو‪ :‬ما الذي حال دون علماء الملة وفهم هذه الحقائق‪ ،‬التي ينضح بها القرآن‬ ‫والسنة‪ ،‬ولا يمكن أن يغفل عنها عاقل ينظر بهدي الاسلام؟‬‫وعودة للمفارقة الكبرى ‪-‬البارادوكس الأعظم‪ -‬وهو أن المعجزة المحمدية‪ ،‬دينيا‪ ،‬هي نفي‬‫خرافة خرق العادات ببيان انتظامها في الطبيعة والتاريخ‪ ،‬وهي فلسفيا نفي وهم العلم‬‫المطلق بنظرية الغيب المحجوب حتى على الأنبياء‪ ،‬ومن ثم فجواب سؤالي هو غفلة علماء‬ ‫الملة عن وجهي الاعجاز المحمدي‪.‬‬‫والعجب من الغفلة عنهما‪ :‬فالرسول لم يعتمد في تحقيق شروط الرسالة على المعجزات‪ ،‬بل‬ ‫كان عمله السياسي والعسكري اجتهادا وجهادا عملا بالأسباب‪.‬‬‫وهنا لا بد من الإشارة إلى ضرورة التمييز بين قص القرآن للرسالات‪ ،‬ومعجزات الأنبياء‬ ‫قبله‪ ،‬وبين نظرية الإسلام في عمل الرسول الاجتهادي والجهادي‪.‬‬ ‫فالقرآن نقد التطور الروحي للبشرية‪ ،‬نوعين من النقد‪:‬‬ ‫‪ -‬نصي‪.‬‬ ‫‪ -‬وفعلي‪.‬‬‫والنصي تعلق بالتحريف العقيدة (مضمون المعادلة الوجودية)‪ ،‬والفعلي بما أقره منه‪ ،‬وهو‬‫لم يقر خرافة خرق العادات ولا وهم العلم المطلق‪ .‬ومن ثم‪ ،‬فالإسلام نفسه من حيث هو‬ ‫هيمنة وتصديق‪ ،‬يفهمنا الفرق بين قص المعجزات وعدم اعتمادها‪.‬‬ ‫‪33 23‬‬

‫وهذا لا يعني أني أكذب بالمعجزات‪ .‬فالقرآن لم يكذب بها‪ ،‬إذ أوردها كما هي في معتقدات‬ ‫أصحابها‪ ،‬لكنه لم يعتمدها في الإسلام‪ ،‬اي في الديني في كل دين‪.‬‬ ‫وهي إذن من عرضيات الدين‪ ،‬وليس من الديني فيه‪.‬‬‫ولما كان الإسلام هو الديني في كل دين‪ ،‬فهو يحرر الرسالة الخاتمة مما ليس جوهريا في دينية‬ ‫الدين‪.‬‬‫لكن الخرافة عادت لدى المتصوفة خاصة‪ ،‬لكأنهم ظنوا عدم وجود خرق العادات في الإسلام‬ ‫نقصا‪ ،‬فلم يفهموا طبيعة الأعجاز القرآني‪ :‬النظام بدل خرقه‪.‬‬‫لكن الأخطر من ذلك كله هو قلب دلالة الآية ‪ 53‬من سورة فصلت‪ ،‬وبالكلام في هذا يتبين‬ ‫أصل كل العلوم الزائفة‪ ،‬التي قضت على ثورتي الإسلام طيلة عصر الانحطاط‪.‬‬‫وكان يمكن أن أسكت عن ذلك بعد شروعنا في الخروج منه لو لم يكن كاريكاتور التحديث‬ ‫يريد العودة إلى هذه العلوم الزائفة‪ ،‬متصورا أنها بعث لعزتنا‪.‬‬‫ولعل ذلك هو السر في اعجابي بابن خلدون غاية‪ ،‬وبابن تيمية وسطا‪ ،‬وبالغزالي بداية‪،‬‬‫باعتبارهم قد أدركوا خطر الأوهام التي حصلت عن هذا القلب العجيب‪ ،‬وهم ثلاثتهم‬‫أدركوا أن العلة كامنة في التأثر بالكلام والفلسفة‪ ،‬السائدين في المجال الحضاري الذي‬ ‫أصبح أرض الإسلام دون أن يبدع فكرا يلائم رؤاه‪.‬‬‫صحيح أن السلف كانوا بمنأى عن التأثر بهذا التراث السابق على الإسلام‪ ،‬وصحيح أنهم‬ ‫حاولوا مقاومة التأثر‪ ،‬لكنهم لم يكونوا مجهزين فكريا للتصدي‪.‬‬‫فمجرد الرفض والتحريم لا يحول دون التأثير‪ ،‬بل لعله يضاعفه‪ ،‬والتصدي بالتجهيز‬ ‫الفكري المناسب لم يبدأ حقا إلّا مع الغزال‪ ،‬ي واكتمل مع ابن خلدون‪.‬‬‫لذلك فعودتي المستمرة للغزالي وابن تيمية وابن خلدون‪ ،‬ليس عودة إلى الماضي‪ ،‬بل عودة‬ ‫إلى ما في الماضي من سبل لتجاوز ما أعاق استكمال ثورة الإسلام‪.‬‬‫فكون الغزالي نقد الفلسفة النظرية (التهافت)‪ ،‬والفلسفة العملية (الفضائح)‪ ،‬يمثل‬ ‫عندي أكبر ثورة فكرية عرفتها البشرية‪ ،‬وهي صوغ صريح لثورة الإسلام‪.‬‬ ‫‪33 24‬‬

‫ثم عمق ابن تيمية هذا النقد‪ ،‬فأعاد النظر في أسس النظر‪ ،‬ولم يقتصر على ما بعد‬ ‫الطبيعة‪ ،‬بل أنهى الأبستمولوجيا القديمة بنقد نوعي التحليلات الارسطية‪.‬‬‫ثم تجاوز ابن خلدون الغزالي والفضائح‪ ،‬ونقد الفلسفة العملية اليونانية‪ ،‬واسس لفلسفة‬ ‫التاريخ الكوني وشروط الاستعمار في الأرض بقيم الخلافة‪.‬‬‫تلك هي المدرسة النقدية التي استثنيها من كلامي على فشل علوم الملة‪ ،‬الذي سأحاول وصفه‬ ‫الآن‪ ،‬والذي هو مصدر عقم الإبداع المحقق للتعمير والاستخلاف‪.‬‬‫فما العلوم الزائفة التي قتلت الإبداع بأصنافه الأربعة (الجمالي‪ ،‬والجلالي‪ ،‬والنظري‪،‬‬ ‫والعملي) لأنها قلبت فصلت ‪ 53‬وجعلت الغيب موضوعها بدل الشاهد؟‬‫ويمكن صوغ السؤال بصورة أوضح‪ :‬ما العلوم الزائفة التي حالت دون فهم الديني في‬ ‫الأديان‪ ،‬والفلسفي في الفلسفات‪ ،‬بوصفهما ثمرة الثورة الإسلامية؟‬‫إنها العلوم الزائفة التي افسدت علاقة الأخلاق بالقانون‪ ،‬والإيمان بالعلم‪ ،‬أو افسدت حل‬ ‫القرآن لمشكل الوجدان والوجود دينيا‪ ،‬والنظر والعمل فلسفيا‪.‬‬‫ففصلت ‪ 53‬تقول إن حقيقة القرآن يرينها الله في آيات الآفاق والأنفس‪ ،‬لافي ذات الله‬ ‫وصفاته‪ ،‬أو في اسرار البعث‪ ،‬أو الأرواح‪ ،‬وكلها من الغيب المحجوب‪.‬‬‫ولما كان القرآن يعرف ذاته بكونه الحق الذي أنزله الحق بالحق‪ ،‬فهو بذلك قد اعتبر ذاته‬ ‫الدستور الذي يحدد شروط الاستعمار في الارض بقيم الاستخلاف‪.‬‬‫ولا يكون القرآن كذلك إلا إذا كان القصد بآيات الآفاق والأنفس ما يتجلى فيها من قوانين‪،‬‬ ‫تمكن من تحقيق شروط الاستعمار في الأرض بقيم الاستخلاف‪.‬‬‫وذلك هو مضمون الرسالة التي تصل قطبي المعادلة نزولا‪ ،‬ويقابلها مضمون الرد عليها بعلم‬ ‫قوانين الآفاق والأنفس لتحقيق أعمال الإنسان المكلف بهما‪.‬‬‫فيكون الديني في الأديان هو الخلقي والإيماني‪ ،‬ويكون الفلسفي في الفلسفات هو القانوني‬ ‫والعلمي‪.‬‬ ‫وهذه الأبعاد الأربعة هي شروط التعمير الاستخلافي‪.‬‬ ‫‪33 25‬‬

‫أما العلوم الزائفة‪ ،‬فهي التي تجعل الأخلاق في صراع مع القانون‪ ،‬والإيمان مع العلم‪،‬‬ ‫فتفسد الديني والفلسفي الخاتمين‪ ،‬وبذلك انحطت ثورة الإسلام‪.‬‬‫وهي بالذات‪ ،‬العلوم التي الغت الفرق بين الوجدان والوجود‪ ،‬والتعبير عنهما‪ ،‬والفرق بين‬ ‫النظر والعمل والعلم بهما‪ ،‬فأزالت الابداعات الأربعة من أصلها‪.‬‬‫فلا يمكن تحقيق التلاؤم بين الاخلاق والقانون من دون التمييز بين الوجدان والتعبير عنه‪،‬‬ ‫فالأول لامتناهي ولا يقال كله‪ ،‬والثاني متناه وينبغي قوله‪.‬‬‫والنسبة بينهما هي النسبة بين المثال والعين منه‪ ،‬التي هي في تطور دائم‪ ،‬سعيا إلى‬‫الاقتراب منه دون لمسه مثل منحنى \"اسمبتوت\" المقطوع المخروطي‪ ،‬ونفس هذه النسبة‬‫توجد بين الإيمان والعلم‪ ،‬فلا يمكن للعلم المتناهي بالطبع أن يطابق الإيمان اللامتناهي‬ ‫بالطبع‪ ،‬بنفس علاقة منحنى الاسمبتوت‪.‬‬‫والعلاقة بين المتناهي واللامتناهي في الابداعين الجمالي والجلالي أولا‪ ،‬وفي الإبداعين‬‫النظري والعملي‪ ،‬هي سر الثورتين الإسلاميتين أو الحريتين‪ ،‬فالإنسان المكلف والمكرم حر‬‫روحيا (علاقة مباشرة بالله‪ :‬رزقه الروحي)‪ ،‬وحر سياسيا (علاقة مباشرة بالشأن العام)‪،‬‬ ‫وهو أحد قطبي المعادلة الوجودية‪.‬‬ ‫والمعادلة الوجودية صيغت بها هذه العلاقة فهي مساوية لمضمون فصلت ‪:53‬‬ ‫‪-‬القطبان‪ :‬الله يري الإنسان‪،‬‬ ‫‪ -‬والوسطيان (الآفاق والانفس)‬ ‫‪ -‬والوصل هو رؤية ما يرينا الله‪.‬‬‫ورؤية ما يرينا الله هي علم حقيقة القرآن والعمل بها‪ :‬فيكون الوجدان والعلم مقصورين‬ ‫على الشاهد‪ ،‬ومحجوبين عن الغيب‪.‬‬ ‫لكن علوم الملة عكست فانحطت‪.‬‬‫وهذه العلوم التي عكست‪ ،‬هي علم الكلام والفلسفة بمعناهما الذي يلغي الغيب‪ ،‬متوهما‬‫أن العلم يمكن أن يكون مطلقا‪ ،‬يقاس به بعدا الروح‪ ،‬الوجدان والعقل‪ ،‬وهي الفقه‬ ‫‪33 26‬‬

‫والتصوف في العمل والشرائع‪ ،‬كالكلام والفلسفة في النظر والعقائد اللذين انتهيا إلى صراع‬ ‫الأخلاق والقانون‪ ،‬بنفس الوهم الكلامي والفلسفي‪.‬‬‫وتلك موضوعات الجدل العقيم الذي أنهى كل ابداع‪ ،‬ولم ينتج عنه إلا ما اشارت إليه‬ ‫الآية السابعة من آل عمران‪ :‬زيغ القلوب وابتغاء الفتنة الدائمين‪.‬‬‫فكانت النتيجة الجامعة‪ ،‬العقم الإبداعي الحائل دون تعمير الأرض بوهم الاستخلاف‬ ‫التعبدي‪ ،‬الذي كما بينا‪ ،‬يكون وهميا من دون تحقيق ما ُكلف به الإنسان‪.‬‬ ‫‪33 27‬‬

‫وهكذا نصل إلى نهاية هذه السلسلة‪ ،‬فصلها الخامس حول كاريكاتور التحديث عند النخب‬ ‫المناظرة لكاريكاتور التأصيل‪ :‬وجودهما متضايف رد فعل متبادل بينهما‪.‬‬‫فلتحريف الاجتهاد داعشاه‪ ،‬يدعيان التأسيس الفكري التأصيلي‪ ،‬أو التحديث كتحريف‬‫الجهاد‪ :‬لدينا أمراء حرب الأقوال‪ ،‬وحرب أمراء الأفعال‪ ،‬وكلاهما للتهديم‪ ،‬كلاهما يشوه‬‫الماضي‪ ،‬وكلاهما يسد آفاق المستقبل‪ ،‬إما بكاريكاتور ماضينا‪ ،‬أو بكاريكاتور ماضي الغرب‪،‬‬ ‫دون فهم للماضيين ولشروط الاستئناف الحقيقي‪.‬‬‫وقبل التقدم في العلاج‪ ،‬فلنحسم قضية تتكرر دائما مع القراء‪ :‬فالكثير منهم يعتبر مثل‬ ‫هذه المحاولات من نوع \"ويني وذنك\"‪ ،‬لعادة التلقين بدل التحليل‪.‬‬‫لكن الفكر هو بالذات إدراك العلاقات الخفية‪ ،‬التي تمثل العلل العميقة للظاهرات‪ ،‬وخاصة‬ ‫إذا كان الأمر متعلقا بالكشف عن العقبات والأدواء المعيقة‪.‬‬‫فليس أسهل على طالبي النجومية من أخذ موقف الآمر الناهي بالكلام‪ ،‬على ما ينبغي وما‬ ‫لا ينبغي فعله‪ ،‬بنفس موقف التلقين بدل العلاج بالطريقة السقراطية‪.‬‬ ‫ما فائدة عرض النتائج التي توصلت إليها من دون قابلية الاختبار؟‪:‬‬ ‫‪-1‬بعرض الطريق الموصلة إليها معها‪،‬‬ ‫‪ -2‬أن يتمكن القارئ من التثبت منها بنفسه‪.‬‬‫وهذه الطريقة لا تعسر‪ ،‬بل تيسر‪ ،‬لأنها تحترم القارئ وتريده ألا يسلم بما لا يقبل‬ ‫المراجعة التي يمكنه القيام بها‪ ،‬بمناقشة الفرضيات وما بني عليها‪.‬‬‫ولا ننسى أن المطلوب هو اعتماد ما نحاول اثباته‪ ،‬فلا نستعمل طريقة الأوصياء التلقينية‬ ‫خلال كلامنا على الحريتين وإلغاء الوساطتين روحيا وسياسيا‪.‬‬‫ولا معنى لمعرفة لا تخضع لامتحان متلقيها‪ ،‬بعقد يجعلهم امتحانهم الذاتي لها‪ ،‬مبدعين‬ ‫وليس مجرد متلقين من سلط‪ ،‬تدعي المعرفة اللدنية أو العبقرية‪.‬‬ ‫‪33 28‬‬

‫وما لا أقبله من أي كان‪ ،‬أن يلقنني ما يمكن أن أصل إليه بعقلي معه‪ ،‬أو من دونه‪ ،‬لا يمكن‬ ‫أن أقبل فرضه على غيري‪ ،‬لذلك فلا أقدم شيئا إلا بمنطق اكتشافه‪.‬‬‫أقول هذا لأني لاحظت أن كاريكاتور التحديث أكثر تلقينية حتى من كاريكاتور التأصيل‪:‬‬ ‫فأسلوبهم يجعلهم دعاة أكثر مما هم باحثون يطلبون المعرفة‪.‬‬‫نحن في هذه المحاولات نعتمد طريقة الفرض والاستنتاج‪ ،‬ثم التطبيق على الموضع‬ ‫المدروس‪.‬‬ ‫وقد سميت هذه الطريقة بالحيل العقلية أو النظرية العلمية‪.‬‬‫فمنذ اليونان كانت النظرية تسمى \"ما ينقذ المظاهر\"‪ ،‬يعني ما يمكن من جعل مظاهر‬‫الموضوع‪ ،‬أو ما ندركه منه‪ ،‬قابلا للرد إلى بنية رياضية نظرية تفسرها‪ ،‬وموضوعنا الذي‬‫نريد انقاذ مظاهره‪ ،‬بمعنى اكتشاف البنية التي تفسرها‪ ،‬هو تعريف القرآن للإسلام‪،‬‬ ‫وتعريف الحداثيين للحداثة‪ ،‬وفهم الكاريكاتورين لهما‪.‬‬‫لا نطلب ذلك مجانا أو تطفلا على ما لا يعنينا في علاج إشكاليتنا الكبرى‪ ،‬أعنى شروط‬ ‫الاستئناف وعوائقه في المواقف من التراثين الإسلامي والغربي‪.‬‬‫وبهذا المعنى‪ ،‬فالأمر يمكن أن يزداد تعقيدا‪ ،‬لأن أي محاولة بفصولها ليست مفصولة عن‬‫المحاولات الأخرى‪ ،‬بل مدارها كلها شروط استئناف الأمة دورها‪ ،‬ولا يعني ذلك أن الأمر‬‫مقصور على الأمة الإسلامية‪ ،‬فيكون قائلا بالخصوصيات‪ ،‬بل هو يشمل كل استئناف‪ ،‬لأن‬‫شروطه كونية شرط استئناف الدور في كل حضارة وذلك عملا بمنطق ابن خلدون‪ :‬فهو‬‫يدرس \"العمران البشري والاجتماع الإنساني\" عامة‪ ،‬حتى وإن كان مجال التطبيق هو‬ ‫العمران والاجتماع الإسلاميين‪.‬‬‫النظرية عامة‪ ،‬والعينة بالضرورة خاصة‪ ،‬لكن ما يدرس فيها ليس خصوصيتها‪ ،‬بل الكلي‬ ‫فيها من حيث هي عينة من البشري والإنساني عامة‪ :‬السنن كونية حتما‪.‬‬‫وعدت بتقديم مثالين من نوعي الكاريكاتور‪ ،‬لكني تجنبت التشخيص فاكتفيت بوصف مجالي‬ ‫التمثيل وتركت للقارئ تطبيق الوصف على نجوم النوعين المعروفين‪.‬‬ ‫‪33 29‬‬

‫ما المشترك بين كاريكاتور الحداثة من النخب العربية‪ ،‬التي ازدادت جرأتها على التراث‬ ‫الإسلامي بمقدار اقتراب الانظمة التي يخدمونها من الإفلاس؟‬‫ولعل التهاب حناجرهم في الفضائيات قد بلغ الذروة بعد ثورة الشباب‪ ،‬وخاصة في مصر‬ ‫وتونس وبلاد ممثلي ميلشيات القلم‪ ،‬ضد الثورة والإسلام السياسي‪.‬‬‫المشترك هو حصر الفكر الحديث فيما تلا نكوص الفلسفي في الفلسفة‪ ،‬وتحوله إلى‬ ‫إيديولوجيا الحداثة التي لا تميز بين قيم الحداثة وقيم الاستعمار‪.‬‬‫وأيديولوجيا الحداثة التي تبرر الاستعمار ومركزية الغرب هي ما تلا هيجل وماركس من‬‫تخل عن نقدية كنط‪ ،‬ورد التاريخ الحضاري إلى التاريخ الطبيعي‪ ،‬فسواء قلنا مثل هيجل‬‫بأرواح الشعوب والمثالية‪ ،‬أو مثل ماركس بالطبقات والمادية‪ ،‬فإن جدل الصراع بين البشر‬ ‫والحضارات يخضع لقانون التاريخ الطبيعي‪.‬‬‫وبهذا المنطق‪ ،‬فالحضارة الإسلامية تعتبر حضارة تجاوزها التاريخ‪ ،‬وهذا هو المشترك بين‬ ‫النخب التي تبنت وتتبنى كاريكاتور الحداثة حلا لمستقبل البشرية‪.‬‬‫والحداثة المبدعة ذوقيا (الجمالي والجلالي)‪ ،‬وعلميا (النظر والعمل)‪ ،‬بمراحل الثورة‬ ‫الأدبية والعملية بداية‪ ،‬والثورة الدينية والفلسفية مغفول عنها‪.‬‬‫والمغفول عنه منها خاصة‪ ،‬هو كونية قيمها‪ ،‬التي هي عين ما بينا في كلامنا على ثورة الإسلام‪:‬‬ ‫ثورة أكسيولوجية روحية دينية‪ ،‬وثورة وابستيمولوجية عقلية‪.‬‬‫وبفضل هذين الثورتين‪ ،‬أصبحت الأخلاق‪ ،‬والقانون‪ ،‬والنظر‪ ،‬والعمل‪ ،‬كلها ظاهرات‬‫إنسانية كونية تشمل كل الحضارات بما يقرب من منطق النساء ‪ 1‬والحجرات ‪ ،13‬فالحداثة‬‫قبل تحولها إلى إيديولوجيا تقول بقانون التاريخ الطبيعي (هيجل وماركس في التاريخ‬ ‫الحضاري كداروين في التاريخ الطبيعي)‪ ،‬آمنت بالثورتين‪.‬‬‫ثارت على وساطة الكنسية روحيا‪ ،‬وثارت على الحق الإلهي في الحكم سياسيا‪ ،‬وأصبحت أقرب‬ ‫ما يكون من الديني في الأديان‪ ،‬والفلسفي في الفلسفة كونيا‪.‬‬‫بدأت تدرك‪ ،‬كالفارابي مثلا في نظرية الجماعات‪ ،‬عندما أضاف إلى الثالوث الأرسطي‬ ‫(الأسرة والقرية والمدينة بمعنى الدولة) المعمورة بتأثير الإسلام‪.‬‬ ‫‪33 30‬‬

‫وبدأت قبل النكوص‪ ،‬تعرف كتابات من جنس مقدمة ابن خلدون في التاريخ الحضاري‪،‬‬ ‫ببعديه استعمارا في الأرض واستخلافا‪ ،‬دون حصرهما في جماعة دون أخرى‪.‬‬‫ما يؤثر في كاريكاتور التحديث العربي هو ما جاء بعد النكوص‪ ،‬مصحوبا بما جاء في مواقف‬ ‫الكنيسة قبل الحداثة من الإسلام ومن الرسول ومن المسلمين‪.‬‬ ‫ولذلك‪ ،‬فهم ينقسمون إلى نوعين‪:‬‬ ‫‪ -‬من يغلب عليهم تأثير الكنسية قبل نشأة الحداثة‬ ‫‪ -‬ومن يغلب عليهم الإيديولوجيا الهيجلية أو الماركسية بعد نكوصها‬‫ويطابق الصنفان تماما‪ ،‬مذهبي الاستشراق غير العلمي‪ ،‬أعني الموظف دينيا وسياسيا في‬ ‫الصراع بين الحضارتين العربية الإسلامية واليهودية المسيحية‪.‬‬‫ورغم أن اصحاب الكاريكاتور الحداثي يكثرون من الكلام على التنوير‪ ،‬فإنهم أبعد الناس‬ ‫عنه‪ ،‬فهم ضده مرتين‪ :‬تبعية للأنظمة الفاشية التابعة للاستعمار‪.‬‬‫فالتنوير ر ّشد الروحي والعقلي‪ ،‬أي مطابقان للديني في كل دين‪ ،‬والفلسفي في كل فلسفة‪،‬‬ ‫وهو ضد الوصاية‪ :‬يتصرفون كأوصياء على الشعب‪ ،‬رغم تبعيهم المضاعفة‪.‬‬‫وتوجد علامة أكيدة على أنهم كاريكاتور الحداثة‪ ،‬وليس لهم منها شيء‪ ،‬أنهم من أدعياء‬‫الإبداع الأدبي والعلمي والديني والفلسفي من دون إبداع يذكر‪ ،‬فلم نسمع عن أحد منهم‬‫أنه حاز فعلا رتبة محترمة في الإبداع الأدبي او العلمي‪ ،‬فضلا عن الإبداع الديني‬ ‫والفلسفي‪ :‬فمجرد التقليد فيها ليس إبداعا‪.‬‬‫وطبيعي أن يكون الامر كذلك‪ :‬فكل الذين يكتبون في فلسفة الدين وفلسفة الحضارة‪ ،‬لا‬ ‫علاقة لهم بالفلسفة‪ ،‬ولا بالدين‪ ،‬ولا بالحضارة‪ ،‬وكتاباتهم صحافية‪.‬‬‫أعلامهم خريجو الآداب‪ ،‬وليس بينهم فلاسفة في أي مجال من مجالات الفلسفة‪ ،‬ولا علماء‬ ‫في أي مجال من العلوم الطبيعية أو الإنسانية‪ ،‬أو علوم أدواتهما‪.‬‬‫وعلوم الأدوات‪ ،‬كما سبق أن بينت‪ ،‬هي المنطق والرياضيات والتاريخ واللسانيات‪ ،‬ويجمعها‬ ‫كلها علم الوسميات أو ما بين السيميوتكس والفينومينولوجيا‪.‬‬ ‫‪33 31‬‬

‫وهم يجهلون أو يتجاهلون أن نقد الكتب المقدسة‪-‬التوراة والإنجيل‪ -‬في الفكر الغربي‪،‬‬ ‫منهجية بذراتها استعملها علماء القرآن والحديث قبل ذلك بكثير‪.‬‬‫والفكر الغربي النقدي لا يهدف إلى التشكيك في \"الدينية\"‪ ،‬لأن بحثه يتعلق بأصول‬‫مدوناتها‪ ،‬لا غير‪ ،‬فالعلماء يعلمون أن حقيقة الدين إيمانية‪ ،‬لا علمية‪ .‬وهذا الخلط‬‫بمجرده‪ ،‬كاف للدلالة على أن نقاد الدين من كاريكاتور التحديث‪ ،‬لا يميزون بين غرض‬ ‫المعرفة العلمية‪ ،‬وقضية الإيمان بالمعتقد الديني عامة‪.‬‬‫ومن أسخف ما أسمع بعضهم يتفوه به‪ ،‬هو ما يتهم به القرآن من أخذ عن المدونات الدينية‬ ‫المتقدمة عليه‪ .‬وقد شرحت هذه الغباوة بمثال مسجد القيروان‪.‬‬‫ذلك أن القرآن لا ينفي أنه ينتسب إلى الاسرة الكتابية‪ ،‬وأنه يتعامل مع الكتابين المتقدمين‬ ‫عليه بمنطق التصديق والهيمنة‪ ،‬أي إنه لا ينفي المشترك‪.‬‬‫ولا أخفي حقا أني أحيانا استحي مكان أصحاب هذه المحاولات الساذجة‪ ،‬المبنية على فرضية‬‫أن الأديان متماثلة وأن الإسلام مجرد دين كغيره من الأديان‪ ،‬فمن قرأ القرآن مهما غفل‪،‬‬‫يدرك أنه عرض نقدي للتجربة الروحية الدينية المنزلة (اليهودية والمسيحية) والطبيعية‬‫(الصابئية والمجوسية) وحتى الشرك‪ ،‬ويدرك أنه لا يعتبر التعدد الديني ظاهرة غير‬‫طبيعية‪ ،‬بل هو يعتبرها مثل كل أنواع التعدد‪ ،‬من الآيات الدالة على الحكمة‪ :‬شرط‬ ‫التسابق في الخيرات‪.‬‬‫ومجرد قوله بمعيار \"التصديق والهيمنة\"‪ ،‬يفيد بأنه يؤمن بأن الحقيقة كونية‪ ،‬وأنه لا‬‫يوجد دين خال من بعضها‪ ،‬وأن الديني في الأديان واحد‪ ،‬وهو ما يطلبه‪ ،‬واعتبار القرآن‬‫سلسلة الرسالات التي يقصها معبرة عن الإنسانية أمة واحدة‪ ،‬دليل قاطع على أن الإسلام‬ ‫ليس دينا من بين الأديان‪ ،‬بل فلسفة دين كونية‪.‬‬‫كل ذلك يتجاهله هؤلاء السذج ولا يتجرؤون إلا عليه‪ ،‬ويجبنون أمام أكبر تحريف للدين‪،‬‬ ‫أعني اليهودية والمسيحية‪ ،‬لأنهم توابع مرتين‪ :‬يتبعون أنظمة تابعة‪.‬‬ ‫اعتقد أنه يجب أن أقف عند هذا الحد‪.‬‬ ‫‪33 32‬‬

‫فقد تبين أن كاريكاتور الحداثة لا يقل تخلفا عن كاريكاتور الأصالة‪ ،‬وأنهما غير راشدين‬ ‫فكريا وروحيا‪.‬‬ ‫انتهى‪.‬‬ ‫‪33 33‬‬



‫‪02 01‬‬ ‫‪01‬‬ ‫‪02‬‬‫تصميم الأسماء والبيان – المدير التنفيذي‪ :‬محمد مراس المرزوقي‬