Important Announcement
PubHTML5 Scheduled Server Maintenance on (GMT) Sunday, June 26th, 2:00 am - 8:00 am.
PubHTML5 site will be inoperative during the times indicated!

Home Explore ما دلالة {مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}– أبو يعرب المرزوقي

ما دلالة {مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}– أبو يعرب المرزوقي

Published by أبو يعرب المرزوقي, 2018-06-26 07:46:35

Description: ما دلالة {مَا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ}– أبو يعرب المرزوقي

Search

Read the Text Version

‫أبو يعرب المرزوقي‬‫ما دلالة { َما فَ َّر ْطنَا يِف ال يكتَا يب يم ْن َ ْش ٍء}؟‬ ‫الأسماء والبيان‬





‫المحتويات ‪2‬‬‫‪ -‬الفصل الأول ‪1 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثاني ‪6 -‬‬‫‪ -‬الفصل الثالث ‪11 -‬‬‫‪ -‬الفصل الرابع ‪16 -‬‬‫‪ -‬الفصل الخامس ‪21 -‬‬

‫‪--‬‬‫تكلمت على الانقلاب على الدستور السياسي القرآني في بعد الحكم وفلسفة العمل بما‬‫يكفي واشعر أن الانقلاب على الدستور القرآني السياسي في بعد التربية وفلسفة النظر لم‬‫ينل حظه من العلاج الفلسفي خاصة والجمع بين الديني والفلسفي في محاولاتي قد يظن‬ ‫مفسدا لكلى المنظورين‪.‬‬‫لابد من العودة إلى المسألة بتدقيق أكبر وأعمق‪ .‬فمثلما أن ثورتي الإسلام تبدوان غير‬‫قابلتين للتصديق عند أدعياء الحداثة‪-‬الحرية الروحية أو التخلص من الوساطة الروحية‬‫لنظام التربية الكنسي والحرية السياسية او التخلص من الوصاية المادية لنظام الحكم بالحق‬ ‫الإلهي‪-‬فذلك في فلسفة النظر والعمل‪.‬‬‫وستكون هذه العودة فلسفية خالصة وتتعلق بالمسألة الابستيمولوجية‪ :‬فعندي أن كل‬‫المسألة صادرة عن الرؤية الابستيمولوجية التقليدية التي تجاوزتها الفلسفة الحديثة‬‫والتحقت بما سبقها إليه الدين عامة والدين الإسلامي خاصة‪ .‬وأقصد بالابستيمولوجيا‬ ‫التقليدية القول بنظرية المعرفة المطابقة‪.‬‬‫ما أظن احدا له اطلاع على الابستمولوجيا الحديثة يسلم بأن علم الإنسان له القدرة‬‫على النفاذ المطلق الذي يحقق التطابق بين ما في علمنا وما في الوجود في ذاته بصرف النظر‬‫عن المنظور الذي ينطلق منه العلم بوصفه نافذة إلى ما يتجلى منه للإنسان بتدريج لا‬ ‫يتناهى دون ضمان المطابقة المطلقة‪.‬‬‫مجرد تطور المعرفة دليل قاطع على أن هذا المطابقة غاية لا تدرك فعلا أو على الأقل‬‫توقعا كتال عما يفيده التطور الدائب لمعرفتنا التي أحيانا تنتهي إلى انقلاب تام على ما‬‫كان سائدا مما نظنه علما نهائيا‪ .‬وفي ذلك غنم كبير لأن التواضع الناتج عن نسبية علمنا‬ ‫هي شرط التقدم والتعاون بين العلماء‪.‬‬‫والحصيلة هي أن الفلسفة الحديثة وخاصة بعد النقد الكنطي انتهت إلى ان نظرية‬‫المعرفة المطابقة لم يعد أحد يقول بها وأصبحت نسبية إلى تطور مدارك الإنسان حتى لو‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪1‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫لم نقل بما يقول به كنط من حصر المعرفة في مظاهر الوجود دون نفاذ إلى ما يسميه الوجود‬ ‫المعقول (النومان) للشيء في ذاته‪.‬‬‫والمشكل الذي يعنيني لا يتأتى من هذين النوعين من نظرية المعرفة‪-‬المطابقة أو الزعم‬‫بعلم الشيء على ما هو عليه في ذاته ونفي هذه المطابقة واعتبار المعرفة نسبية إلى الذات‬‫العارفة‪-‬بل من كون الفكر الإسلامي في علوم الملة الخمسة صار محاصرا بينهما ويخبط خبط‬ ‫عشواء‪.‬‬‫وسأبدأ أولا بالمرحلة الأولى التي كانت نظرية المعرفة المطابقة مسيطرة على الفكر‬‫الفلسفي الموروث وعمت بالتدريج على الفكر الديني في علوم الملة الخمسة أي الفقه‬‫وتأصيله والتصوف وتأصيله والكلام وتأصيله والفلسفة وتأصيلها وأصلها جميعا تفسير‬ ‫القرآن والوجود وتأصيلهما‪ :‬الجرأة على آل عمران ‪.7‬‬‫بدأت المسألة مع ارسطو‪ :‬ففي مقالة اللام من ما بعد الطبيعة وصف أرسطو علم الله بكونه‬‫مقصورا على علم ذاته لا يتعداها‪ .‬فلا علم لله بالعالم كليه وجزئيه لأن العلم التام مطابق‬‫للموضوع التام وهذا لا ينطبق إلا على الله علما موضوعا للعلم‪ :‬العقل يعقل ذاته ولا شيء‬ ‫سواها للتطابق بين التمامين‪.‬‬‫وكل ما عدى الله فالعلم والمعلوم كلاهما ناقص بما في ذلك السماوات التي ما فوق القمر‬‫رغم كونها أتم ما في الطبيعة‪ .‬والإنسان له القدرة على علمها المطابق للتطابق بين عقله‬‫ومعقوله حصرا في الكليات والذاتيات مع استثناء الاعراض غير الذاتية لكونها لا تنحصر‪.‬‬‫ثم حصل تقدم عند ابن سينا الذي نسب إلى الله العلم بالكليات التي توجد في العالم ولم‬‫يعد عند علمه مقصورا على ذاته‪ .‬لكنه استثنى معرفة الجزئي من علم الله‪ .‬وحتى نفهم‬‫ذلك فالكلي مفهوم متعين في الأعيان التي تنتسب إلى ما صدقه‪ .‬وإذن فالله رغم إطلاق‬ ‫علمه لا يتجاوز علمه النوع إلى العدد‪.‬‬‫وواضح أن ابن سينا تجاوز أرسطو بقوله إن الله يعلم كليات الموجودات العالمية ولا يقتصر‬‫علمه على ذاته دون سواها لكنه بقي أرسطيا في القول إن العلم لا ينزل دون الكلي وشكله‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪2‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الاخير أي النوع بعد الجنس ولا يصل إلى العدد الذي هو العيني من الكلي‪ :‬عناصر ماصدق‬ ‫المفهوم بأعيانها‪.‬‬‫مثال ذلك أنه يعلم الإنسان كنوع ‪-‬جنسه الحيوان وفرقه النوعي الناطق‪-‬ولا يعلم زيدا‬‫أو عمروا إلا بما يشترك فيه مع جميع البشر أي الحيوانية والناطقية لأن بعد ذلك نجد‬‫الأعيان التي لا يحصرها حد ومن ثم فالعلم يكون بالماهيات وليس بالإنيات التي تدرك‬ ‫بالحواس لأن العدد يشار إليه ولا العلم‪.‬‬‫لذلك كان أهم إشكالية في ابستيمولوجية أرسطو هي التالية‪ :‬لا علم إلا بالكلي ولا وجود‬‫إلا للعيني‪ .‬وكان حله أن الكلي حال في العيني وبذلك اختلفت ابستمولوجيته عن‬‫ابستيمولوجية أفلاطون الذي يعتبر الكلي نفسه ذا وجود فعلي وعيني في عالم المثل وما‬ ‫يوجد في عالمنا نسخ منه انحطت بالتمدد‪.‬‬‫وبنحو ما يمكن القول إن الابستمولوجيا القديمة والوسيطة لا تقول بالمطابقة حقا بل هي‬‫تقول بأن المعلوم في الوجود هو جوهره وما عداه ليس من جوهره هي أعراض غير الذاتية‪:‬‬‫نفي حقيقة الاعراض غير الذاتية ‪ Accidents non essentiels‬لموضوعها بل هي ذاتية‬ ‫بالمعنى الحديث ‪.Impressions subjectives‬‬ ‫حصل تدرج إذن في نظرية المطابقة‪:‬‬ ‫‪ .1‬علم الله لذاته دون سواها للتطابق بين تمامين في العلم وفي المعلوم (ارسطو)‬‫‪ .2‬علم الإنسان للكليات الماهوية والعرضية الذاتية دون ما به يتعين العدد بعد النوع‬ ‫(أرسطو)‬ ‫‪ .3‬علم الله للكليات الماهوية والعرضية الذاتية دون ما به يتعين العدد (ابن سينا)‪.‬‬‫وبذلك فابن سينا أوجد علاقة بين النوعين من العلم‪ :‬علم الله المطابق بإطلاق لتمام علمه‬‫وذاته وعلم الإنسان المطلق المطابق لموضوعه كذلك لأن علمه به يمر بالكليات والذاتيات‬‫التي يعلمها الله كذلك فيكون علم الموجود العالمي وسطيا بين العلمين علم الله وعلم‬ ‫الإنسان‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪3‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ولما كانت فلسفة ابن سينا هي التي سيطرت على الكلام وما عداه من علوم الملة فإن ما كان‬‫مجرد ممارسة أساسها الضمني هو هذا الحل السينوي أصبح ممارسة صريحة وبات القول‬‫بالمطابقة ذا دلالتين‪ :‬مع الموجود ومع علم الله له أو وحدة العلمين بالموجود في الطبيعة وفي‬ ‫العناية (مصطلح سينوي)‪.‬‬‫وهذه الابستمولوجيا سيطرت على القرون الوسطى كلها اسلامية كانت أو مسيحية لتجانس‬‫الرؤية المعرفية الموروثة عن الفلسفة في صوغ ابن سينا والغزالي (المتأخر بعد تخليه عن‬‫نزعته النقدية وتبنيه السينوية) وهو الصوغ الذي رفضته المدرسة النقدية الإسلامية‪:‬‬ ‫الغزالي الاول وابن تيمية وابن خلدون‪.‬‬‫ولهذه العلة اعتبرت هذه المدرسة قد أعادت النظر في نظرية العلم ونظرية العمل‪ :‬فقالت‬‫بأن المطابقة مستحيلة وقالت من ثم بأن العمل قابل للعلم مثل النظر وأن علم الشرائع‬‫(العمل) رغم أنه أكثر تعقيدا من علم الطبائع فإنه ممكن كذلك وإن بقدر أدنى منه‪ .‬وما‬ ‫كان مستحيلا بات ممكنا‪ :‬علم التاريخ‪.‬‬‫فمن يتوهم أن ابن خلدون يمزح عندما قال إن سر ثورته في تأسيس علم العمران البشري‬‫والاجتماع الإنسان هو ما جله ينقل التاريخ من فن الأدب (بمعناه العربي القديم‪ :‬ايام‬‫العرب) إلى فن الحكمة أو الفلسفة‪ .‬وذلك أمر كان مستحيلا في الأبستمولوجيا اليونانية‬ ‫والسينوية لما سأبين من العلل‪.‬‬‫صحيح أن لليونان مؤرخين كبار‪ .‬لكن الابستمولوجيا اليونانية عامة والأرسطية خاصة‬‫ومعها ابستمولوجيا فلاسفتنا التقليديين من الكندي إلى ابن رشد كانت تنفي كل إمكانية‬‫لجعل التاريخ علما‪ :‬فهو عند أرسطو دون الشعر قابلية للانتساب الى العلم‪ :‬فليس موضوعه‬ ‫الكلي المضطر ولا الكلي الممكن‪.‬‬‫فهو كلام في العيني العرضي أو اللقاء الاتفاقي بين أحداث عينية لا تقبل الحصر ولا ترد‬‫إلى الطبائع وآخرها الكلي النوعي وما دونه عددي وليس نوعيا ولا جنسا ولا حتى تناسبا‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪4‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫في علاقات التناسب الوجودي بتناظر النسب بين الظاهرات‪ .‬فما لا يقبل الرد إلى الطبائع‬ ‫حكمة عملية لا ترقى إلى النظرية‪.‬‬‫وسر الدور الذي أنسبه إلى المدرسة النقدية العربية (انظر ضميمة المثالية الالمانية‬‫الشبكة بيروت) هو تحرير النظر من إطلاق المطابقة وتحرير العمل من دعوى العرضية‬‫غير القابلة للحصر ما جعل الحد من إطلاق علم الطبائع والرفع من مستوى علم الشرائع‬ ‫يلتقيان في ابستمولوجيا الفلسفة الحديثة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪5‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الانقلاب على الدستور القرآني في التربية والمعرفة رمزه سوء فهم \"ما فرطنا في الكتاب‬‫من شيء\"‪ :‬فهذا النص هو الذي أسس عليه الانقلابيون على فصلت ‪ 53‬وآل عمران ‪7‬‬‫النكوص إلى نظرية المعرفة المطابقة القائلة بأن ذلك يعني ان الكتاب يحتوي على علم كل‬ ‫شيء والرسوخ في العلم له دلالة المطابقتين‪.‬‬‫والمطابقتان هما مطابقة الوجود ومطابقة علم الله‪ .‬وقد اخترت علاج هذه القضية‬‫بمناسبة بداية الثورة على الانقلاب الدستوري في الحكم والعمل وهي ثورة لا تتم إلا‬‫بالثورة على الانقلاب الدستوري في التربية والمعرفة‪ .‬فهذا الانقلاب الثاني مثل الاول‬ ‫اصاب الأمة بشلل الابداعين النظري والعملي‪.‬‬‫نسوا أن دلالة هذه العبارة القرآنية \"ما فرطنا في الكتاب من شيء\" محكومة بطبيعة ما في‬‫الكتاب وبطبيعة علم المخاطب به‪ .‬فالكتاب رسالة هدفها أن تذكر الإنسان بما فطر عليه‬‫وتنذره في ما يخالف ذلك‪ .‬فإذا قرأنا العبارة وفي ذهننا تذكر هذين الضميرين كان الفهم‬ ‫هو فصلت ‪ 53‬وآل عمران ‪.7‬‬‫والضمير الاول يعني أن الكتاب الذي يذكر الإنسان وينذره ويعلمه بما يحتويه حول‬‫الأشياء التي يرينها الله آيات في الآفاق والأنفس ويطلب منها النظر فيها والعمل بما‬‫نكتشفه من قوانين الطبيعة (الآفاق) وسنن التاريخ حتى نتبين ما يريد الكتاب كرسالة‬ ‫تذكيرنا باعتباره وتنبيهنا لعواقب تجاهله‪.‬‬‫وإذن فالعبارة تعني \"ما فرطنا في الكتاب (كرسالة تذكير وتحذير) من شيء علينا تذكير‬‫المكلف بما يجب علمه وتحذيره مما يجب تجنبه حتى يحقق ما كلف به أي الاستعمار في الارض‬‫بقيم الاستخلاف امتحانا لأهليته لهذه المهمة التي تحملها وخشيت الجبال من تحملها‪ :‬الخلافة‬ ‫في الارض بشرع الله‪.‬‬‫وهذا ينفي الفهمين العقيمين اللذين اعتمدا على نظرية المعرفة المطابقة والظن بأن‬‫العلوم والاعمال كلها موجودة في نص القرآن‪ :‬نص القرآن رسالة تذكر بما ينبغي على‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪6‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الإنسان عمله حتى يحقق ما به تعرف الإنسانية من تكليف ومسؤولية شرطهما الحرية‬ ‫الروحية (لا وساطة) والحرية السياسية (لا وصاية)‪.‬‬‫صحيح أن القرآن كرسالة تذكير وتحذير ذكر لنا طبيعة الآيات التي علينا البحث عنها في‬‫الطبيعة وفي التاريخ فحدد طبيعة قوانين الطبيعة (رياضية تجريبية‪ :‬كل شيء خلقناه‬‫بقدر) وطبيعة سنن ا لتاريخ (سنة الله التي لن تجد لها تبديلا ولا تحويلا) ولم يعين‬ ‫القوانين والسنن بل طلبنا بالبحث عنها فيهما‪.‬‬‫لذلك فكل تخريف يطلبها من شرح ألفاظ القرآن خزعبلات صبيانية تؤدي إلى مناكفات‬‫تأويلية يتوهم أصحابها أن معجم العربية كنز كل العلوم الذي لا يفنى بحسب أهواء‬‫الدجالين من المؤولين لألفاظ القرآن كخرافة دحاها بمعنى بسطها ثم كورها ثم إلخ‪ ...‬من‬ ‫تخريف الأعجاز العلمي‪.‬‬‫القرآن الكريم سبابة مشيرة وليست المشار إليه‪ .‬علماؤنا لم يروا إلا السبابة وغفلوا عن‬‫المشار إليه بها‪ :‬والسبابة تذكر وتنذر لكنها لا تفعل بدلا من الإنسان المكلف ما تذكره به‬‫وتنذره منه‪ .‬والغفلة عن هذا هو سر الانقلاب الذي حصل في التربية والمعرفة‪ :‬الحصيلة‬ ‫الجهل بالعلاقتين شرط القيام‪.‬‬‫فعلم العلاقة العمودية بين الجماعة الطبيعة والعمل به هو شرط سد الحاجات الرعائية‬‫والحمائية‪ .‬والجهل بها وعدم العمل بها هو علة العجز في الرعاية والحماية‪ .‬ومن فقد‬‫هذين الأمرين أصبح عالة على غيره لتوهمه أن الكلام عمل والتخريف في شرح النصوص‬ ‫علم‪.‬‬‫ولو فهم ملايين الشباب من الجنسين هذه الحقيقة لما بقي أحد عاطلا ولكان سر العمل هو‬‫الاجتهاد في إبداع الحلول والجهاد في تحقيقها فتكون الأمة خلية نحل كل يعلم ويعمل حتى‬‫يحقق ما عليه كمكلف بتعمير الارض بقيم الاستخلاف ولما أصبح الجميع عالة على التسول‬ ‫لسد حاجة الرعاية والحماية‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪7‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وهذه الرؤية هي الثورة بحق‪ .‬أما مواصلة الافكار التي بها سيطر على الأمة طاغوت‬‫التربية وطاغوت الحكم المبني على \"فساد معاني الإنسانية\" الذي جعل الجماعة تتبادل‬‫الغش والغدر والاستغلال المتبادل فلن يتغير عائق الحرية الروحية والحرية السياسية‪:‬‬ ‫يبقى الانقلابان سائدين وإن تغير المستفيد منهما‪.‬‬‫الكل يلوم الكل ولا أحد يلوم نفسه على فساد التربية والحكم رغم أن ما يحكم الجميع هو‬‫هذا الفساد الحائل دون حل مشكلات العلاقة العمودية‪ .‬فالعلاقة العمودية بين الإنسان‬‫والطبيعة عقيمة والنتيجة تحول العلاقة الافقية بين البشر إلى صراع دائم على تقاسم‬ ‫الفقر والجهل وعدم العمل على علم‪.‬‬‫فكلما قل العلم والعمل على علم لسد حاجات الرعاية والحماية بالعلاقة العمودية بين‬‫الجماعة ومحيطها الطبيعي زاد الصراع في محيطها التاريخي على قلة ما يسدها بالعلاقة‬‫الافقية ولا يبقى إلى الصراع على الندرة في مجتمع صار قانونه قانون الانتخاب الطبيعي‬ ‫والبقاء للأقوى وليس للأنفع‪.‬‬‫وحصيلة الانقلابين وعلتهما في آن هما عدم تجذر التربية والحكم الإسلاميين في الشعوب‬‫التي أسلمت لقصر المدة التي عاشتها الامة بمقتضاهما في العصر النبوي والراشدي‪ :‬لم يعود‬‫الناس على الحرية الروحية في التربية والنظر والحرية السياسية والعمل ومن ثم فسرعان‬ ‫ما نكصوا إلى نقيضيهما السابقين‪.‬‬‫عاد طاغوت الوساطة الكنسية ووصاية الحكم بالحق الإلهي صراحة عند الشيعة وبصورة‬‫مخاتلة عند السنة لأنها ظلت محافظة على مثال الثورتين الاعلى في الاقوال أما الأعمال‬‫فلا تختلف عن الشيعة إلا بأساس الطاغوتين‪ :‬دعوى الرسوخ في العلم والضرورة التي‬ ‫تشرعن للمتغلب والشوكة‪.‬‬‫فصار مفهوم \"أولياء الامر\" اي العلماء بما هم وسطاء والامراء بما هم اوصياء لا يدل على‬‫فاعلية تمكن من حل قضايا العلاقة العمودية بين البشر والطبيعة ومن حل قضايا العلاقة‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪8‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الافقية بين البشر بل هم اولياء الاحتكار العنيف للنظر والعمل الزائفين تأثيره الوحيد‬ ‫التزايد المطرد الاستبداد والفساد‪.‬‬‫ومن الاوهام تصور ما يدعى من تطور في نظام التعليم ونظام الحكم في بلادنا قد انتهى‬‫إلى نتائج محررة من هذين السلطانين العنيفين ومكونا لأجيال مبدعة قادرة على علاج‬‫العلاقة العمودية أو الافقية بصورة تحقق شروط القيام المستقل بل هي مجرد محو للأمية‬ ‫تخرج المقلدين والعاطلين والإيديولوجيين‪.‬‬‫لم يبق في نظام التربية والنظر وفي نظام الحكم والعمل إلا صراع الإيديولوجيات لأن‬‫قضايا العلاقة العمودية والعلاقة الأفقية تعتبر محلولة إذ يكفي فيها الاستيراد‪ :‬استيراد‬‫ما يسد الحاجات في الرعاية والحماية ومن ثم فإنه لا حاجة للاجتهاد النظري والجهاد‬ ‫العملي فغيرنا يتكفل بسد حاجاتنا‪.‬‬‫وما يخرجني عن طوري حقا هو الكلام على \"العلماء\"‪ .‬فهؤلاء لا علم لهم بالطبيعة ولا‬‫بالتاريخ إذا ما استثنينا المحفوظات التي تتكلم على علم شبع موتا أو على علم وهمي‬‫اختلقوه حتى يكون لهم دور‪ :‬فما عدى العبادات كل ما يقولونه تخريف‪ .‬والعبادات غنية‬ ‫عن النظر الممارسة تكفي في أفعال الجوارح‪.‬‬‫وأفعال القلوب لا تكون وجدانا صادقا إذا صارت معلموها وسطان يعتبرون التعليم تلقينا‬‫خارجيا وليس إيقاظا لقدرات ذاتية للمتعلم‪ .‬لذلك فقد يخرجون حفظة لتراث لفظي لا‬‫سلطان له على شروط الاستخلاف وتعمير الارض‪ .‬فلا يبقى إلا منطق الدعاء والدعوة‬ ‫والادعاء لأوهام تزيد الامة تبعية لمستعمريها‪.‬‬‫العبادات غنية عن النظر بل هي عمل مباشر يتعلم بمحاكاة الأطفال لآبائهم إذ من جنس‬‫آداب العيش كالأكل والكلام والعناية بالبدن والنفس‪ .‬قد تحتاج إلى التوجيه لكنه ليس‬‫علما بل آداب عيش‪ .‬تعقيده وتحويله كلام يقتل العفوية التي تلازم الصدق وتحوله إلى‬ ‫تكلف يلازم النفاق‪ :‬صدق النية جوهر العبادة‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪9‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وما عدا العبادات لا يكفي فيه حفظ شروح النصوص‪ :‬العلوم كلها بحث في آيات الله التي‬‫تتجلى في الآفاق والانفس وهذه الآيات هي قوانينها في الطبيعة وسننها في التاريخ ولا‬‫يحصل علم في هذين المجالين بشرح النصوص بل لا بد من دراسة الظاهرات نفسها لمعرفة‬ ‫نظمها الحاكمة فيها‪.‬‬‫وهذه البحوث العلمية ليست في متناول من نسميهم \"علماء\" هم ربهم حفظة للنصوص‬‫ومؤولون زائفون وبعيدون لما فيها بشروح متكلفة تجعل النصوص حسب رأيهم محتوية على‬‫علم كل شيء في حين أن القرآن لم يقل إن القرآن يحتوي على علم كل شيء لأنه رسالة‬ ‫إلى مكلف تذكره بما كلف به وبما عليه تجنبه لينجح‪.‬‬‫عندما أنصح ابني بما عليه القيام به للنجاح في دراسته لم أعلمه ما سيستعمله خلال‬‫الدراسة‪ .‬من يعلمه هو نشاطه النظري والعملي في مجال الدراسة والتعامل مع الموضوع‬‫بنفسه تعاملا فعليا لا يقتصر على التلقي الكلامي‪ :‬لا يتعلم الفيزياء بقراءة كتاب بل لا بد‬ ‫من ممارسة مخبرية مع تمكن من الرياضيات‪.‬‬‫ولما نكصت الأمة لم تعد تنقب في الارض ولا تحدق في السماء لمعرفة قوانين الآفاق الطبيعة‬‫والتاريخية بل تكتفي بحظ كلام لا معنى له حول ما لا يقبل العلم بمقتضى آل عمران ‪7‬‬‫والعلة هي توهم الرسوخ في العلم قدرة علة معرفة ما يعترف النبي نفسه أنه يجهله‪ :‬العلم‬ ‫بالغيب‪.‬‬‫لكن المأساة تكررت في العصر الحديث‪ .‬فالعودة إلى نفس هذا الانقلاب على الدستور‬‫المعرفي والتربوي والإيهام بالإحياء الاصيل رغم مخالفة أصحابها لما أمر به القرآن (فصلت‬‫‪ )53‬ولما نهى عنه (آل عمران ‪ )7‬جعل أدعياء التحديث كاريكاتورا مقابلا يحارب الإسلام‬ ‫خلطا بينه وبين تحريف التأصيل‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪10‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫ما أظنني بحاجة للاعتذار للقراء بخصوص المصطلحات الفلسفية القديمة‪-‬في كلامي على‬‫أرسطو وابن سينا مثلا‪-‬فهي من زاد اي متابع عربي ومسلم لأحد علوم الملة الخمسة (الفقه‬‫وتأصيله والتصوف وتأصيله والكلام وتأصيله والفلسفة وتأصيلها وأصلها جميعا في تفسير‬ ‫القرآن وعلم الوجود في حضارتنا)‪.‬‬‫ولا أنفي أن جل الشباب غير متابع لهذه العلوم إذا ما استثنينا خريجي المدارس الدينية‪.‬‬‫والمشكل مع هؤلاء يتعلق بمصطلح الفلسفة الحديثة‪ .‬وهو نفس المأزق بل هو أخطر لأن‬‫محاولات البعض منهم الاعتماد على التعلم الصحفي من أسرار ما أجده في الغالب لديهم‬ ‫من تعالم زائف خال من مقومات التعلم السوي‪.‬‬‫ورغم كل محاولات التبسيط فإن هذين النوعين من المعرفة من علوم الآلة في كل كلام‬‫على المسائل التي تصل بين الديني والفلسفي في كل حضارة تجاوزت المقابلة السطحية بين‬‫العقلي والنقلي‪ :‬فكل علم مؤلف منهما لأن المضمون نقلي والشكل عقلي في كل معرفة‬ ‫إنسانية لموضوع خارجي‪.‬‬‫والفرق بين المضمونين الديني والفلسفي ليس من حيث كونه مضمونا متلقى من خارج بل‬‫كونه مضمونا متلقى عن طريق الحواس الخارجية أو متلقى عن طريق الحوادس أو الحواس‬‫الباطنية للمعاني التي لا تتعين في محسوس بل في مفهوم منتسب إلى ما وراء المحسوس من‬ ‫أصول قانونية وسننية تنسب إلى ما يسمو عليه‪.‬‬‫والشكلان كذلك واحد من حيث الشكلية لكنه مختلف من حيث العلاقة بالمضمون‪:‬‬‫فالعلاقة في العلوم الوضعية علاقة تقدم الشكل على المضمون بل تعتبر المضمون نفسه من‬‫صنع الشكل العلمي نفسه في حين أن العلوم الدينية بسبب تقديسها للمضمون تعكس فتعتبر‬ ‫المضمون ليس من صنع الشكل بل هو ذو مصدر إلهي‪.‬‬‫وكان يمكن أن نردهما إلى أمر واحد لو كانت كل الاديان من جنس الإسلام‪ :‬فالإسلام لا‬‫يعتبر علاقة المضمون الديني بالشكل العلمي مختلفة عن علاقة المضمون الطبيعي بالشكل‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪11‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫العلمي‪ :‬فكلاهما يحتكم إلى ما في الآفاق والأنفس من تجليات القوانين والسنن التي هي في‬ ‫الحالتين آيات إلهية دالة على النظام‪.‬‬‫لذلك فالقرآن لا يستدل على ما يقدمه من تذكير وتحذير على وجود الله ووحدانيته‬‫بالمعجزات بل بالنظام‪ :‬معجزته الوحيدة هي نفي أي اعجاز غير مستمد من النظام‬‫القانوني في الطبائع والسنني في الشرائع‪ .‬وهذا لا يعني أنه ينفي معجزات الأنبياء‬ ‫السابقين بل هو يقصها ولا يقيس الرسالة الخاتمة عليها‪.‬‬‫والدليل رده على كل المعاجزين‪ :‬فهو يقول إن المعجزات كانت للتخويف ولم تكن للإقناع‪.‬‬‫والإسلام يكتفي بالحجاج للإقناع وعماده بيان النظام الذي هو جوهر معجزاته في الطبيعة‬‫وفي التاريخ‪ .‬ولذلك جعلت فصلت ‪ 53‬جوهر نظرية المعرفة القرآنية وجعلت آل عمران ‪7‬‬ ‫الحد الذي لا يمكن لعلمنا تجاوزه‪.‬‬‫على الآن شرح \"ما فرطنا في الكتاب من شيء\" بهذا المعنى الذي يجعل القرآن سبابة تشير‬‫إلى مشار إليه يوجد خارجه ما ينتظر من رسالة تعرف نفسها بكونها تذكيرا وتحذيرا‬‫للإنسان المكلف بواجباته ومحظوراته من حيث هو كائن حر روحيا (لا يخضع لوسيط)‬ ‫وسياسيا (لا يخضع لوصي) تختبر أهليته للاستخلاف‪.‬‬‫فأما الضمير الاول فهو كونها في رسالة تذكير وتحذير‪ .‬وأما الضمير الثاني فهي موجهة‬‫إلى الإنسانية بوصفها أمة كل الكائنات الحية التي ذكرتها الآية لها ما تتميز به وهو معلوم‪:‬‬‫امة مكلفة (حرة ومسؤولة) ومستخلفة في الارض (تكليف برعاية الأرض وحمايتها اصلا‬ ‫لقيامه) يختبر صلاحه وفساده بسلوكه‪.‬‬‫والضمير الاول يعني أن ما يذكر به الإنسان معلوم لديه قبل التذكير ما يعني أن بين‬‫العلم السابق والتذكير اللاحق نسيان‪ .‬وكذلك بالنسبة إلى التحذير‪ .‬والضمير الثاني‬‫يعني أن التكليف تذكير بما يوليه للإنسان من منزلة (الاستخلاف) وما يترتب عليها من‬ ‫حساب المستخ ِلف للمستخ َلف‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪12‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫والجمع بين التذكيرين وما يترتب عليهما (أربع مسائل) تتأصل في دلالة الرسالة‪ :‬هي‬‫شبه تدعيم للتكليف ومساعدة للمكلف لكأنها رسالة نابعة عن تحذير أكثر من نبعها عن‬‫تذكير ما يعني ان الرسالة تشبه ما يفعله أي صاحب أمر لمن نوبه فيه بعد ملاحظة سوء‬ ‫تصرف منه‪.‬‬‫لذلك فالرسالة تلخصها أفضل تلخيص سورة العصر‪ :‬فهي تبدأ ببيان الداعي للرسالة‬‫(الإنسان في خسر كما يتبين من سلوكه) وتأتي التوصيات لبيان شروط خروجه منه مضمون‬‫الرسالة التذكيرية والتحذيرية‪ :‬فتكون فروعها الاربعة التي تتأصل في التوعية بالخسر وما‬ ‫يترتب عليه من شروط الخروج منه‪.‬‬ ‫وإذن فالرسالة مضمونها خمسة عناصر‪:‬‬ ‫‪ .1‬أصل هو الوعي بالخسر والداعي للخروج منه‬ ‫‪ .2‬الإيمان‬ ‫‪ .3‬العمل الصالح‬ ‫‪ .4‬التواصي بالحق‬ ‫‪ .5‬التواصي بالصبر‪.‬‬‫وبهذا فالرسالة لم تفرط في شيء يخص شروط خروج الإنسان من الخسر الذي تردى‬ ‫إليه فاحتاج إلى تذكيره وتحذيره‪.‬‬‫والدليل أن الآية ‪ 44‬من الأنعام التي منها هذه العبارة تؤيدها الآية ‪ 44‬منها\" فلما‬‫َنسُوا مَا ُذ ّكِ ُروا بِ ِه َف َتحْنَا َع َليْ ِه ْم أَ ْب َوا َب ُك ِّل شَيْءٍ َح ِتَّ ٰى ِإذَا فَ ِرحُوا ِبمَا أُو ُتوا أَ َخ ْذ َنا ُهم َبغْ َتةً‬ ‫َف ِإذَا هُم ُِّم ْب ِلسُو َن\"‪ :‬فالرسالة تذكير وشبه توبيخ لسلوك الناسين‪.‬‬‫وحتى أحصر معنى \"كل شيء\" في الآية لا بد من نسبة الشيء الذي تحتويه الآية إلى‬‫المخاطب بالرسالة وعلاقته بالمرسل إليه (مستخلف يراسل خليفة) وموضوع الخطاب المتعلق‬‫ما كلف به الثاني من الاول وبشروط انجازه الغائية والأداتية والجزاء المتعلق بإنجاز المهمة‬ ‫جزاء موجبا أو سالبا‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪13‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫\"كل شيء\" ليست مهملة فتكون محتوية على التخريف الذي بنيت عليه علوم الملة وكأن‬‫المعرفة الإنسانية تقتصر على شرح آيات القرآن حتى لو أضفنا إليها السنة‪ .‬كل شيء في‬‫الآية واضح‪ :‬هو كل شيء يتعلق بتذكير الخليفة بما كلف به وتحذيره من عدم الإيفاء بما‬ ‫التزم به عندما قبل الامانة‪.‬‬‫لذلك فمحاولة استخراج علوم الملة من نص القرآن ينافي ما أمر به القرآن (فصلت ‪)53‬‬‫وما نهى عنه (آل عمران ‪ )7‬أي إن المحاولة انقلاب على الدستور القرآني في مجال التربية‬‫والمعرفة اللتين تمكنان الإنسان من تحقيق ما ذكر به من مأمور به ومنهي عنه‪ .‬والتربية‬ ‫التي ذكر بها مدارها المعادلة الوجودية‪.‬‬‫والمعادلة الوجودية من حيث هي موضوع معرفة تنقسم إلى ما هو إيماني وإلى ما هو‬‫علمي‪ .‬فالإيماني يتعلق بمقوماتها والعلمي يتعلق بما يمكن اكتشافه بالبحث العلمي في هذه‬‫المقومات أو بصورة أدق في ما هو شاهد منها‪ :‬الله والإنسان وبينهما الرسالة علاقة مباشرة‬ ‫والطبيعة والتاريخ علاقة غير مباشرة‪.‬‬‫والدستور القرآني المتعلق بالتربية والمعرفة يقول إن تبين حقيقة الرسالة (القرآن) لا‬‫يوجد في نصها بل في الآفاق والانفس (فصلت ‪ )53‬ومن ثم فهي لا تعلم من شرح النص بل‬‫من البحث العلمي في آيات الله في الآفاق أي في قوانين الطبائع وآياته في الأنفس أي سنن‬ ‫التاريخ‪.‬‬‫اما حقيقة الله وحقيقة التكليف أو الاستخلاف فهما قضيتان إيمانيتان لا يمكن أن ندعي‬‫علما فيهما يتجاوز الإيمان للمسلم بهما أو عدم الإيمان لنكرهما‪ .‬فتصبح المعادلة تطبيعا‬‫للإنسان وللإله وضم الفاعلية القصدية أو التي يتقدم عليها إرادة وعلم إلى الضرورة‬ ‫الطبيعية ونفي الحرية والتكليف‪.‬‬‫وذانك هما الموقفان الممكنان معرفيا‪ :‬فإما الاعتماد على الإيمان المتجاوز للطبيعة‬‫والتاريخ بذاتين حريتين هما الله والإنسان الأولى مستخلفة والثانية خليفة أو نفي الفاعل‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪14‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫الحر في الحالتين ورد الكل إلى الآلية الطبيعية فيكون الإنسان مثله مثل أي كائن طبيعي‬ ‫خالص خاضعا للحتمية الطبيعية‪.‬‬‫ولا يمكن لمن ينفي الفاعلية الحرة وراء الطبيعة أن يدعي وجود فاعلية حرة بعدها في‬‫التاريخ‪ .‬من ينفي وجود الله كفاعل حر للطبيعة لا يمكن أن يثبت الإنسان كفاعل حر‬‫للتاريخ‪ .‬المفهومان متلازمان حتما‪ .‬فالإنسان لا يمكن أن يكون فاعلا حرا للتاريخ إذا كان‬ ‫منفعلا مضطرا للطبيعة‪.‬‬‫من يزعم حرية للإنسان ليجعله خالق نفسه (التاريخ من صنع الإنسان) يفترض أن‬‫الإنسان مستثنى من الضرورة الطبيعية‪ .‬وليس يمكن القول بالاستثناء الإنساني من‬‫الضرورة الطبيعية لتفسير التاريخ من دون التسليم بأن الطبيعة أولى بالحاجة إلى خالق‬ ‫حر‪ .‬فالخاضع للضرورة العمياء لا يخلق الحر‪.‬‬‫وهذا ليس استدلالا يقيس الغائب على الشاهد فضلا عن قيس الغيب عن الشهادة‪ :‬فما‬‫يجعلنا نعتبر الإنسان فاعلا حرا ليس مجرد الشعور بالحرية بل كذلك ما في فعله من غائية‬‫متقدمة على الانجاز وأدواته‪ .‬هو يتصور وينظم الفعل باختيار بين ممكنات متعددة‬ ‫فيفاضل بينها‪ :‬تلك هي الحرية‪.‬‬‫وكل من له دراية بعلوم الطبيعة يعلم أن ما فيها من حلول ليس مضطرا بل هو نتيجة‬‫خيارات ومفاضلة بين عدة إمكانات وذلك فهو الفرق بين الضرورة المنطقية في الرياضيات‬‫والغائية التي فيها \"ديزاين\" في الطبيعيات يفاضل بين الحلول الرياضية المتعددة ليختار‬ ‫أفضلها تحقيقا للغاية‪.‬‬‫وكان أرسطو يسمى هذا الفرق بين طبيعة النظام المنطقي في المقدرات الذهنية وطبيعة‬‫النظام الوجودي في الطبيعيات بـ\"الضرورة الشرطية\" أي إنها تتضمن اختيار مشروط‬‫بتحقيق الغاية من الكيان الذي يؤدي الوظائف وخاصة في الكائنات الحية‪ .‬ولايبنتز مال‬ ‫إلى نفس الرؤية‪ .‬وكل عاقل يرى العلاقة بالحرية‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪15‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وفي هذه الخاصية تكمن عبقرية هيجل في كلامه على ادلة وجود الله‪ .‬فما أضافه ليس‬‫علاقتها بالمستدل عليه بل علاقتها بالمستدل‪ .‬فالمستدل عليه هو الله‪ .‬والمستدل هو الإنسان‪.‬‬‫والسؤال هو ما الذي يجعل الإنسان لا يكتفي بالوجود الطبيعي ويبحث عن وجود ما بعد‬ ‫طبيعي يعلله به؟‬ ‫ما الذي يشعر الإنسان بأمرين عجيبين‪:‬‬‫‪ .1‬أن العالم الطبيعي لا يكتفي بنفسه بل يشعر الإنسان بأنه ممكن وليس ضروريا‬ ‫أي إنه يعجب من كونه ومن كونه على ماهو عليه‪.‬‬‫‪ .2‬وأن وراء العالم الطبيعي وجود مكتف بنفسه غني عما يعلل وجوده لأنه واجب‬ ‫الوجود وليس ممكنه فحسب‪.‬‬‫وطبعا فلا يمكن لله أن يكون واجب الوجود إذا لم يكن ممكنه لذلك اعتبر كنط واجب‬ ‫الوجود هو ما يوجد لمجرد إمكانه‪ .‬ومن ثم فالإمكان معنيان‪:‬‬ ‫‪ .1‬الممكن مقابل الممتنع وحينها يكون الواجب ممكنا أو غير ممتنع‪.‬‬‫‪ .2‬والإمكان الغير الواجب هو المشروط بما يعلل انتقاله من إمكان العدم عليه إلى‬ ‫الحصول الوجودي‬‫بعبارة أوجز‪ :‬ما الذي يجعل الإنسان قادرا على التوجيه الوجودي (الجهات بالمعنى‬‫المنطقي‪ )Modalities‬أين يقوم الإنسان عندما يوجه الوجود إلى ممكن وواجب‬‫وممتنع؟ هذه القدرة هي التي تعني هيجل‪ :‬وهي قدرة لا يمكن تخيل وجودها من دون‬ ‫الحرية التي تمكن من الاقلاع والتعالي على مجرى الضرورة‪.‬‬‫وإذن فأدلة وجود الله قد لا تكفي للدلالة العلمية على وجوده لأن الدلالة العلمية‬‫تفترض التحقق من الوجود بعد افتراضه النظري في الاستدلال‪ .‬وهذا مستحيل في الكلام‬‫على الغيب وذات الله ووجوده وصفاته كلها من مسائل الغيب المحجوب وهي إيمانية وليست‬ ‫علمية‪ .‬لكنها تكفي دليلا لقدرة التوجيه‪ :‬الحرية‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪16‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫وقدرة التوجيه أو الحرية عند الإنسان أمر قابل للتحقق منه إذ هي من عالم الشهادة‬‫وليست من عالم الغيب‪ .‬كلنا يوجه فيحكم لأمر بإمكانه أو امتناعه أو وجوبه ويستطيع‬‫التحقق من الجهات في عالم الشهادة إذ ينتقل من الفرض العلمي في النظرية إلى التحقق‬ ‫العلمي في التجربة‪ .‬وكل إنسان له هذه القدرة‪.‬‬‫فتكون أدلة وجود الله أدلة على حرية الإنسان وحاجة الإنسان الحر إلى علاقة برب حر‬‫يخلق كائنات حرة لتكون له بها صلة هي علاقة حريتين متحاورتين مباشرة بالرسالة وبصورة‬‫غير مباشرة بما في الطبيعة والتاريخ من آيات مبينة لدلالة هذه العلاقة بقوانين الطبيعة‬ ‫وسنن التاريخ‪.‬‬‫فعندما ينفذ الإنسان إلى أسرار الطبيعة فيتجاوز \"فوضاها\" الظاهرة إلى نظامها الباطن‬‫(القوانين) وإلى أسرار التاريخ فتجاوز \"فوضاه\" الظاهرة إلى نظامه الباطن (السنن)‬‫يكون الإنسان قد تجاوزهما إلى ما بعدهما من حرية مبدعة لهما تتجلي في العلاقة بين‬ ‫المستخلف والخليفة قرآنيا‪.‬‬‫وذلك هو مجال التكليف‪ :‬فلما أجاب الله بأن آدم يملك ما لا يعمله الملائكة عندما نفوا‬‫أهليته للاستخلاف في المشهد المشهور وعين ذلك في ما علمه من أسماء حدد شرط تعاليه على‬‫الأشياء إلى رموزها التي تمثلها الأسماء‪ .‬والرموز او عالم الأسماء أوسع من عالم المسميات‬ ‫لأنها من بالإمكان المطلق‪.‬‬‫وإذن فالإنسان يوجه بفضل مقامه في عالمه الرمزي المؤلف من الأسماء والنظر منه إلى‬‫عالمه الفعلي المؤلف من الأشياء فيرى من هذه ما هو حاصل ليس بوصفه ضروري الوجود‬‫بل ممكنه لأن \"قيم\" المفهوم هي كل عناصر الماصدق والاسم مفهوم كلي وليس علما فيكون‬ ‫كل عنصر من ماصدقه قيمة ممكنة له‪.‬‬‫فاسم الإنسان مفهوم أو اسم عام يصدق على كل فرد إنساني وكل واحد منهم \"قيمة\"‬‫معينة ممكنة لمتغير متعدد القيم وكل منها يقبل أن يملأ المتغير بوصفه خانة خالية مجوعة‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪17‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫اعيان ماصدقها قيم ممكنة لها‪ .‬وتلك هي بداية التحرر من التعين الذي يصبح أحد جهات‬ ‫الوجود وهو الممكن الحاصل‪.‬‬‫القدرة على التسمية العامة قدرة على التجريد وهو أصل التوجيه وما كان ليكون ممكنا‬‫لو لم يكن الإنسان قادرا على التعالي على المحايثة في سيلان الوجود الأبدي وكأنه يقف‬‫على قمة جبل ليرى سيلانه دون أن يجرفه ويقيمه وجوديا بجهات الإمكان والوجوب‬ ‫والامتناع أمورا واقعة يدركها‪.‬‬‫لكن هذا العالم الرمزي الذي يحرر الإنسان من سيلان عالم الاشياء لا يصبح علما لهذا‬‫العالم بالاقتصار على الأسماء بل لا بد من الانتقال منها إلى عالم المسميات أو دلالات‬‫الاسماء كما تتعين خارج عالم الأسماء‪ .‬لذلك اعتبر القرآن تبين دلالاته يقع في ما يرينه‬ ‫من آيات خارج نصه‪ :‬عالم الأشياء‪.‬‬‫من هنا جاء في الآية ‪ 38‬من الانعام الإشارة إلى \"ما فرطنا في الكتاب من شيء\"‪\" :‬وَمَا‬‫مِن َدا ِّبَةٍ ِفي الْأَرْ ِض َو َلا طَا ِئ ٍر يَ ِطي ُر بِجَنَاحَ ْي ِه ِإ َّلِا أُ َممٌ أَمْ َثالُ ُكم ۚ َمِّا فَ َِرّطْنَا ِفي الْ ِك َتابِ مِن‬ ‫َشيْ ٍء ۚ ثُ ّمَِ إِلَ ٰى رَ ِّبهِمْ يُحْ َش ُرو َن\"(‪ )38‬يختص به الأحياء‪.‬‬‫والشيء مصدر شاء أو مفعول المشيئة‪ .‬وهو إذن دليل على فاعلية الخلق المناسب للمخلوق‬‫المخاطب‪ .‬وهو هنا تذكير للمخاطب بما يترتب على مخلوقيته المشفوعة بالأمر‪ .‬فالتذكير‬‫والتحذير في الرسالة بهذا المعنى تذكير بما فطر الإنسان عليه خليفة مكلفا بالعلم والعمل‬ ‫على علم للقيام بما كلف به بقيمه‪.‬‬‫وخلقة الإنسان وأمره منصوص عليهما في آيات القران الواردة في نصه لكن القرآن يقول‬‫إن حقيقة هذه الخلقة وأمرها كلاهما مثل كل شيء غيرهما وردافي الخطاب لا يتبينهما‬‫الإنسان من آيات الخطاب ذاتها بل من تجليهما في الآفاق والأنفس ومن ثم فالأنثروبولوجيا‬ ‫هي الملجأ الوحيد لعلم قوانينهما وسننهما‪.‬‬‫وقد حاولت في الجلي في التفسير أن اعتبر القرآن من الظاهرات الخارجية مثله مثل‬‫الطبيعة والتاريخ حتى وإن كان نصا أي نظاما رمزيا معينا وأن انطلق مما يغلب على ظاهره‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪18‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫من فوضى قل نظيرها بسب ما يبدو تكرارا لفنس القصص ولنفس المفهومات ولنفس‬ ‫الإشارات العينية لأحداث بعضها تاريخي وبعضها أمثال‪.‬‬‫فهو حينها عنصر من عناصر الآفاق والانفس ليس المطلوب استخراج علوم منه بل البحث‬‫فيه موضوع علم ككل الظاهرات القائمة خارج ذهني لعلي أنفذ إلى نظامه او ما يجعله ما‬‫هو بوصفه نصا تاما له بداية ونهاية وتسلسل غير متفق عليه وليس ذلك ضروريا لبحثي‪.‬‬‫وما دمت قد اعتبرته أحد عناصر الآفاق والانفس فدراسته العلمية ينبغي أن تكون‬‫فرضية استنتاجية مثلها مثل أي معرفة للظاهرات الموجودة والقائمة بذاتها أي التي ليست‬‫من صنعي بل هي موضوع تام الاستقلال عني وعلي أن أتعامل معه بصورة قابلة للإثبات‬ ‫والدحض أو للتصديق والتكذيب (علمي به لا هو)‪.‬‬‫فإذا كذب علمي بشيء فإن ذلك لا يؤثر على الشيء بل على علمي به‪ .‬ولذلك فهو علم‬‫فرضي مؤقت دائما إلى أن يتم دحضه بما يكون أقرب إلى حقيقته من علمي به‪ .‬وقد لا‬‫نصل إلى غاية هذا التقدم نحو حقيقته تماما كما هو الشأن في علم أي موضوع خارجي‪.‬‬ ‫تكذيب ما تقدم من \"علوم\" قرآنية لا يمس القرآن في شيء‪.‬‬‫لكن القرآن ليس أي شيء ولا أقصد بذلك قدسيته‪ .‬فهذه ليست موضوع البحث موضوعه‬‫هو ما الذي يميزه عن الموضوعات الاخرى رغم كونه موضوعا للبحث مثلها لمعرفة طبيعته‬‫وليس لاستخراج علوم منه‪ .‬ولنبدأ بالمميزات السلبية‪ :‬فهو ليس ظاهرة طبيعية وليس‬ ‫ظاهرة تاريخية حتى وإن كانت مادته وصورته منهما‪.‬‬‫فمادته طبيعية لأنه جملة من المفردات التي لها وجود صوتي وكتابي ينتسبان إلى لغة‬‫معينة وكل ذلك مادة معينة لها دلالات معنية في جماعة معينة‪ .‬وشكله تاريخي لأن صيغ في‬‫عصر معين في جماعة معينة واستعمل استعمالا معينا في هذه الجماعة‪ .‬وهو لا يقدم نفسه‬ ‫منتج الجماعة بل كخطاب منزل للبشرية كلها‪.‬‬‫وهو يعرف نفسه بكونه رسالة تذكير وتحذير شواهد تذكيرها وتحذيرها كلها مستمدة‬‫من تاريخ البشرية في علاقتها بالطبيعة والتاريخ وخاصة بعلاقتهما في صلة بالرسالات‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪19‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫السابقة باعتبارها نماذج من عمل الإنسان المناسب وغير المناسب لما يقتضيه ما فطر عليه‬ ‫وكلف به لتحقيقه كعقد بينه وبين مستخلفه‪.‬‬‫وبهذا المعنى فهو ليس مقصورا على التذكير بمقومات الإنسان ومهمته والتحذير من‬‫الإخلال بهما وهذا هو المستوى الأول منه بل هو كذلك خطة لتفادي ما حدث في المستقبل‬‫معتبرا ذلك رسالة أخيرة موجهة إلى الإنسانية كلها التي عليها بعد هذا التذكير والتحذير‬ ‫النهائيين ألا تنتظر رسالة أخرى بعدها‪.‬‬‫وهذا المعنى هو الذي سميته استراتيجية توحيد للإنسانية ذات دستورين للمعرفة‬‫والحكم مع وتذكير بوحدتها العضوية والنفسية‪ .‬فيكون النسيان متعلقا بعدم التطابق بين‬‫حقيقتها العضوية والنفسية وحقيقتها الروحية والخلقية‪ :‬وهذه الاستراتيجية سياسية‬ ‫تربية وحكم أساسها الحريتان الروحية والسياسية‪.‬‬‫ومن هذا التعريف كفرضية عمل في التفسير الفلسفي للقرآن أمكنني استنتاج مفهوم‬‫الزمان القرآني في رسالته إلى الإنسانية‪ :‬فالزمان المطلق حاضر من الأزل وإلى الابد أي‬‫إنه سرمدي‪ .‬لكنه مؤلف من أربع فروع لذا الزمان الحاضر أصلها‪ .‬فقبله حدث وحديث أو‬ ‫ماض مضاعف‪ .‬وبعده حديث وحدث أي مستقبل مضاعف‪.‬‬‫وأربعتها يحيط بها الحاضر السرمدي الذي منه على أساسه تعبر الرسالة على مضمون‬‫الخطاب الموجه إلى الإنسانية‪ :‬فهي تحكي أحداثا ماضية تقييما بحديث تقييما ونقدا وهي‬‫تستهدف أحداثا مقبلة اعدادا بحديث لأحداثها في التاريخ الفعلي والماضي ببعديه لبيان‬ ‫التقصير خاصة والمستقبل ببعديه للتدارك الممكن‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪20‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬ ‫ما الذي تتضمنه الرسالة ويجعلها فعلا لا تفرط في شيء مما تتعلق به؟‬‫طريقتان لحصر الأمور التي تتضمنها الرسالة بوصفها كما حددناها استراتيجية خاتمة‬‫للتدارك الروحي والسياسي بتوجيه الرسالة الخاتمة إلى ما يجبنها الفساد في الارض وسفك‬ ‫الدماء بالأخوة (النساء ‪ )1‬والمساوة (الحجرات ‪.)13‬‬‫الأولى هي خاصيات التراسل والثانية هي حقيقة المهمة التي حددتها الرسالة للإنسان‬‫وتذكره بالتعاقد الذي بمقتضاه التزم بالخضوع لاختبار الاهلية في مجالي تعمير الارض‬‫بقيم الاستخلاف وممارسة حريتيه الروحية (لا وساطة) والسياسية (لا وصاية) وتجنب‬ ‫ترديهما كما يحصل دائما بالانقلابين‪.‬‬‫فأما خاصيات التراسل فقد بينا ان القرآن نفسه يحددها بكونها رسالة تذكير بما هو‬‫مرسوم في ما فطر عليه الإنسان وتحذير من عواقب النكوث وعدم احترام بنود عقد‬‫الاستخلاف‪ .‬والاستخلاف لا يجعل الحياة الدنيا عقابا بل هي مجال ممارسة الإنسان‬ ‫لحرياته وأثبات جدارته بالاستخلاف بعد أن تاب آدم واجتبى‪.‬‬‫والمعلوم أن مشهد الاستخلاف سابق على عصيان آدم وحواء وهو ليس خطيئة موروثة‬‫بالمعنى المسيحي الذي يصلها بالجنس (سخافة لأن خلق الزوجين يستثنيها لان اعتبار العلاقة‬‫الجنسية آثمة مناف لخلقهما) بل لعلها رمز لشجرة مخدرة إذ وعد الشيطان فيه دال على‬ ‫مفعول جنون العظمة (الخلود)‪.‬‬‫طبعا المشهد كله رمزي وليس أحداثا فعلية لأن الله لا يستشير أحدا ولا يحتاج لرأي أحد‬‫في خلق ما يريد إن آمنا بوجود خالق مطلق الإرادة والعلم والقدرة والحياة والوجود‪ .‬ولا‬‫أريد الخوض في الغيب‪ .‬فما يعنيني هو ما جعل فهم هذه الرموز مؤثرا في رؤى المسلمين‬ ‫للعالم ودور الانقلابين في تاريخهم‪.‬‬‫ولا يمكن لأحد أن ينكر أن التذكير والتحذير الواردين في الرسالة لم يتركا شاردة ولا‬‫ورادة لم يشيرا إلى مظان البحث عن علاجها بأسلوب فصلت ‪ 53‬وآل عمران ‪ .7‬فكانت‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪21‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫التذكير والتحذير متعلقا بما في الانفس مما يتعلق بما يشبه العلاج في المستويين الفردي‬ ‫والجمعي لتحقيق الأخوة البشرية والمساواة‪.‬‬‫وهذا مقصور على تحديد الغايات التي يبقى علاجها معلقا بالأدوات والأساليب وهي‬‫مجال الاجتهاد والجهاد أو مجال الإيمان والعمل الصالح والتواصي بالحق والتواصي بالصبر‬‫بين الأحرار روحيا وسياسيا أعني الواعين بكونهم مكلفين وفي وضع اختبار لأهليتهم لهذا‬ ‫التكليف‪ :‬تذكير وتحذير بخصوص التكليف‪.‬‬‫لكن الاهم من ذلك هو حقيقة المهمة التي رسمت في ما فطر عليه الإنسان وتعاقد عليه‬‫ليكون خليفة ورمزه قبول الأمانة التي رفضتها المخلوقات الاخرى‪ .‬فهذه المهمة اختيار حر‬‫لآدم وهو رمز دال على ان جوهر المهمة التي كلف بها آدم هو الحرية الروحية في النظر‬ ‫والعقد والحرية السياسية في العمل والشرع‪.‬‬‫ومثلما أسلفت فهذا الوصف للمهمة صريح في القرآن وهو سبابة إشارة لما لا يعلم سر‬‫تعيناته بفحص آي القرآن في النص بل بعلم تجلياتها في الآفاق والانفس تحقيقا بشروط‬‫الاستخلاف أو بعدم شروطها وهما نوعا تعين الوجود الإنساني فعلا وانفعالا في تاريخ‬ ‫الإنسانية‪ :‬إشارة القرآن لفلسفة التاريخ الفعلي‪.‬‬‫وهنا لا بد من التذكير بقول شديد العمق لابن خلدون‪\" :‬قل أن يخالف الأمر الشرعي‬‫الأمر الوجودي\" فزاد عليه صاحب بدائع السلك \"بل لا يخالفه أبدا\"‪ .‬وهما يقصدان أن‬‫علم الأمر الشرعي لا يعلم بشرح النصوص بل برؤية آيات الله في الآفاق والأنفس أي في‬ ‫الوجود‪ :‬سر اكتشاف ابن خلدون دور القوة في السياسة‪.‬‬‫وطبعا فالأمر لا يتعلق بالقوة العمياء بل بما يسميه ابن خلدون بالوازع الأجنبي الذي‬‫يتدارك ما لا يكفي فيه الوازع الذاتي مع تقديم لهذا على ذاك عندما لا يقع الانقلاب‬‫على الدستور السياسي‪ .‬وكذلك في النظر والعقد‪ :‬فقل أن يكون ما يشير إليه القرآن من‬ ‫سنن مخالفا لقوانين للطبيعة والتاريخ‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪22‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫والجمع المصيب بين الطبيعي والتاريخي أو بين الطبائع والشرائع يتحقق بفضل علمهما‬‫أو رؤية آيات الله فيهما بوصفهما آفقا وأنفسا نتبين فيهما حقيقة القرآن أو بصورة أدق‬‫إشاراته إلى ما علينا علمه لنعمل على علم فيكون الجهاد العملي مبنيا على الاجتهاد النظري‬ ‫للتعمير والاستخلاف بالحريتين‪.‬‬‫لا أشك لحظة واحدة أن سؤالا بديهيا يرتسم على شفاه الكثير من القراء‪ :‬ماذا أبقيت‬ ‫من الديني في الإسلام؟‬‫أليس هذا موقف قريبا جدا من رؤية تلغي دور المرجعية الدينية في النظر (العلم‬ ‫والعقد) وفي العمل (السياسة والشرع)؟‬ ‫كيف تعتبر من انطلق من المرجعية ليستخرج منها العلوم منقلبا على القرآن؟‬‫أفهم التساؤل لكن الجواب لم أفرضه أنا بل هو صريح في القرآن‪ :‬حقيقة القرآن تتبين‬‫مما يرينه الله من آياته في الآفاق والأنفس وليس من آيات النص القرآني بمعنى ما فيه‬‫من إشارات هي ما اصطلحت عليه بالسبابة المشيرة إلى مشار إليه في الوجود الذي يختبر‬ ‫الإنسان في تعامله معه نظريا وعمليا‪.‬‬‫بل القرآن نفسه لا يحتج إلى بذلك‪ .‬صحيح ان المعاجزة كانت بالقرآن لكنها لم تكن‬‫معجزة بمعنى ما يقابل نظام العالم وقوانينه ونظام التاريخ وسننه بل إن كل حجج القرآن‬‫مستمدة منهما بدلالة ما فيهما من نظام ليس ما فيهما من خرق للنظام‪ .‬ومن ينفي هذه‬ ‫الحقيقة لا بد وأنه قرأ القرآن في غيبوبة‪.‬‬‫وحذاري من الظن أن هذا معناه قيس ما في القرآن من غيب على الشاهد‪ .‬فكلامنا يفيد‬‫العكس تماما‪ :‬الشاهد يقاس على الغيب أو على المثال الأعلى الذي يذكره القرآن ولكنه‬‫على سبيل التمثيل أو ضرب الامثال دون أن يعين دلالته ‪-‬وهو معنى التأويل‪-‬لأن ذلك‬ ‫مرجأ إلى يوم الدين يوم يصبح البصر حديدا‪.‬‬‫وأمثلة هذا الإرجاء إلى يوم الدين كثير الورود في القرآن كلما تلعق الأمر بالخلافات‬‫العقدية بين البشر‪ .‬وينتج عن ذلك أن التعدد الديني في القرآن ليس مستنكرا بل هو‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪23‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫مطلوب لأن شرط التسابق في الخيرات (المائدة ‪ )48‬وهو تعدد في العقائد وفي الشرائع‪:‬‬ ‫وبفضله تبرز دلالة الرسالة الخاتمة وعمقها‪.‬‬ ‫سيعجب القراء‪ :‬نفهم أن يقاس الغائب على الشاهد‪.‬‬ ‫لكن كيف يمكن أن نقيس المعلوم على المجهول؟‬ ‫كيف نقيس الشاهد على الغائب فضلا عن قيسه عن الغيب؟‬‫خذ مثالا علوم الطبيعة‪ :‬لو لم يقس العلماء شاهد الطبيعة على غائبها الذي يوضع فرضا‬ ‫يهدي البحث لاستحال اكتشاف أي سر من أسرار الطبيعة‪.‬‬‫وطبعا الغيب مجهول بإطلاق‪ .‬ومع ذلك فالمعلوم منه أنه رمز الكمال والجمال والجلال‬‫والمتعال في كل ما نريد معرفته من العالمين الطبيعي والتاريخي‪ .‬لأن ما نقيس عليه ليس‬‫حقيقة الغيب بل ما تمثله من قيم يشرئب إليها الوجدان الإنساني في تصوره لخلق الله‬ ‫(العلوم النظرية) وأمره (العلوم العلمية)‪.‬‬‫فأغلب المبدعين في العلوم والفنون هم من يشرئب إلى هذه المثل العليا ويفترض أن خلق‬‫الله (الطبيعة والعقيدة) وأمره (التاريخ والشريعة) لا يمكن ألا يكون لهما نظام بديع‬‫(بديع السماوات) وأن تخيل ما يقرب من هذا النظام البديع هو جوهر العلوم النظرية‬ ‫والعملية في كل فلسفات الطبيعة والتاريخ‪.‬‬‫وهذه المثل العليا في تصوراتنا هي التي تبدع \"المقدرات الذهنية\" بلغة ابن تيمية وهي‬‫التي تعطينا معايير المطلوب في درس الطبيعة والتاريخ لوضع قوانين الاولى الرياضية مع‬‫التجريبية وسننن الثاني السياسية مع التجربة والقرآن دلنا على \"رأس الخيط\"‪ :‬الخلق‬ ‫بمقدار والامر بسنن كلاهما ثابت‪.‬‬‫لكن الانقلابين أفقدا علماءنا البصيرة ولم يبق لهم إلا البصر فصاروا يعتبرون واقعا‬‫ظواهر الطبيعة وعوارض التاريخ ولم يذهبوا إلى ما طلب القرآن الذهاب اليه‪ :‬آيات الله‬‫في الآفاق والأنفس رياضية تجريبية في الطبائع وسياسية تجريبية في الشرائع وكلاهم مجل‬ ‫بحث علمي عويص لا يعمل بشرح الالفاظ‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪24‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫من اليوم فصاعدا ينبغي الا نسمي علماء شراح الألفاظ وحفاظ المدونات‪ .‬فهذه المهمة‬‫الثانية أغنت عنها التكنولوجيا ووجودها ضروري لأن العلم بحصيلة العلم وإن لم يكن علم‬‫دراية فهو علم رواية والزاد المحفوظ ضروري في كل معرفة لكنه غير كاف‪ :‬العلم بصيرة‬ ‫وإبداع وليس ذاكرة واتباع‪.‬‬‫وعندما ننتقل إلى هذا المعنى من العلم فلن تجد اميين يفتون في توافه الامور وجلائلها‬‫ولن يتصدر باسم الإسلام دعاة تجار يستخدمون الدين ولا يخدمونه ويبيعون آخرتهم من‬‫أجل دنياهم‪ :‬ذلك أن العلم بهذا المعنى الذي حدده القرآن في فصلت ‪ 53‬امرا وفي آل عمرا‬ ‫‪ 7‬نهيا يتطلب الزهد الحقيقي‪ :‬حب الحق‪.‬‬‫ومثلما أن دستور المعرفة والتربية أساسه حب الحق النظري فإن دستور العمل والحكم‬‫أساسه حب الحق العملي‪ :‬والاول مستحيل بدون حرية روحية والثاني مستحيل بدون حرية‬‫سياسية‪ .‬لذلك كان التكليف الديني في الإسلام مبينا عليهما أصلين وغايتين وعلى التربية‬ ‫والحكم في الدستورين التربوي والحكمي‪.‬‬‫ذلك ما اردت بيانه حتى نحرر القرآن الكريم من استعمالاته الدنية‪ :‬فصار أساس‬‫للدجالين في الطب والسحر والتنجيم والتخريف السياسي والعلمي حتى ابتذل وأصبح شبه‬‫كتاب حكم شعبية وليس أسمى كتاب عرقته البشرية لأنه فعلا تواصل دائم بين الإنسان‬ ‫الحر روحيا وسياسيا وبين الله الذي لا يعبد سواه‪.‬‬‫وهذا الفهم إذا تحقق في وجدان الشباب بجنسيه سأكون سعيدا وسأموت راضيا عن نفسي‬‫لأن أوان الاستئناف قد حان ولا يمكن الاستئناف الفعلي والمبدع لشروط الحماية والرعاية‬‫مقومي السيادة لأمة العز والكرامة أمة محمد الذي علم \"على مكث\" بالحق منهجا والحق‬ ‫ومضمونا بما نزل عليه لينزله على التاريخ‪.‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪25‬‬ ‫الأسماء والبيان‬

‫‪--‬‬‫أبو يعرب المرزوقي‬ ‫‪26‬‬ ‫الأسماء والبيان‬